ولكنه وجد أعداءه يقظين، يترقبون مجيئه، ويفتشون عنه، فاختفى منهم في مكان لا يخطر ببالهم أن الكلاب تعيش فيه؛ إذ لم يكن هذا المكان سوى سرداب تجري فيه أوساخ مراحيض باريس، فكمن فيه مختبئا، يرسل على أعدائه منه سهاما من المقالات المسمومة، ويحرض عليهم، ويغوي العامة بهم. وناله من مقامه في ذلك السرداب مرض جلدي شنيع، يقذي عين الناظر، ويؤلمه أشد الألم، حتى انتهى به الحال أن يخفف وطأته عليه بأن يقعد طول نهاره في حوض ماء دافئ.
وكانت شارلوت تسمع عن مارات أنه زعيم الفئة السفاكة، وأن المقصلة لا تهدأ عن قطع الرءوس، ما دام هذا الرجل حيا، وكانت تعيش في نورماندي، حيث أكثر السكان من الجيرونديين - أي المعتدلين - «فكانت تغشى اجتماعاتهم، وتتشرب بآرائهم، حتى وقر في ذهنها، وثبت في قلبها، أنه لا نجاة لفرنسا إلا بقتل مارات.»
ففي سنة 1793 قر قرارها أن تذهب إلى باريس وتقتله، وحصلت على جواز سفرها من بلدتها كاين في نورماندي إلى باريس (ولا يزال هذا محفوظا). وقد جاء فيه ما يلي: «أجيزوا مرور ماري كورداي عمرها 24 عاما، وطولها خمسة أقدام وبوصة، ولون شعرها وحاجبيها كستني، وعيناها سنجابيتان، وجبهتها عالية، وفمها متوسط، وفي ذقنها ندبة، ووجهها بيضوي.»
ويوجد أيضا لها رسمان باقيان للآن، يتبين منهما أنها كانت جثلة الشعر، عيناها تنطقان بالإخلاص والشجاعة، وكان قوامها معتدلا، ينطوي على الجمال والرشاقة.
ولما وصلت باريس أرسلت إلى مارات ورقة تقول فيها: «أيها الوطني، لقد وصلت من كاين هذه الساعة، وليس شك في أن حبك بلادك، يرغبك في أن تعرف الحوادث التي حدثت في هذا الجزء من الجمهورية، وسأزورك بعد ساعة، فأرجو من إحسانك أن تتكرم بمحادثتي، وسأفيدك بما فيه منفعة فرنسا .»
فرفض مارات أن يتلقاها، فعاودت الطلب، وعاود الرفض. ثم جاءت مرة ثالثة، وأخذت تتكلم مع الخادم، وتلح في رؤية مارات، وسمع مارات صوتها فاستدعاها، وكان قاعدا في حوض يغمر الماء معظم جسمه، وهو يقرأ ويكتب، فلما دخلت حيته، وأخذت تصف له جماعة الجيرونديين المعتدلين في بلدتها وما ينوون فعله، فلما سمع مارات ذلك قال لها: «جميع هؤلاء الذين تذكرينهم سيقتلون قريبا في بضعة أيام.»
وكانت شارلوت قد اشترت سكينا من نوع السكاكين التي تستعمل في المطبخ، فأخرجته من صدرها، وطعنت مارات به عدة طعنات، مزقت قلبه ورئته، وصاح مستغيثا، فدخلت خادمتاه، وأوثقتا شارلوت وسرعان ما جاءت الشرطة وقادوها إلى المخفر.
والآن قد يتساءل القارئ: أين هو الغرام في هذه القصة الطويلة، وقد أدركنا خاتمتها أو كدنا؟
والحقيقة أن غرام شارلوت كورداي من أعجب ما روته كتب التواريخ؛ فإنها عندما قدمت للمحاكمة كان قد تسامع الناس عن الجناية، وأخذوا في الحديث والمبالغة في الرواية عن هيئتها وسيرتها، حتى بلغ الخيال من بعضهم أن صار يصفها كأنها غول بشع، فازدحم الناس إلى المحكمة لرؤيتها، وكان بين هؤلاء المتزاحمين شاب ألماني يدعى آدم لوكس، بعثه الاستطلاع على أن يذهب هو الآخر ليرى هذه الغولة.
ولكنه ماذا رأى؟ رأى وجه فتاة قد جلل وجهها الشعر الجميل، يزيد حسنه منديل أبيض قد ربط فوقه على عادة الفتيات النورمانديات، ورأى عينين يتجلى فيهما الوقار والجد، وتكاد أن تختفيا وراء الأهداب الطويلة السوداء، ورأى وجها ينبض بالصحة الوفيرة، وقد احتقن بفعل الشمس والهواء الطلق، هذا إلى صدر منتفخ، وذقن كأنها ذقن قيصر، كلها إرادة وعزم، تكسو جميع ذلك هالة قدسية من التضحية وبذل النفس، في مصلحة الوطن. ولم يرها آدم لوكس سوى مرة أخرى في 17 يوليو وهي تحت المقصلة، ولكنه سحر بجمالها فأخذته روعته، وافتتن بجلالة نفسها، وذهب يوم إعدامها إلى المقصلة، وسمعها بأذنه وهي تقول قبل أن تهوي على عنقها: «حسبي أني أديت واجبي ، وما عدا ذلك فباطل.»
Неизвестная страница