ولما انتهى نعيه إلى أبويه كان إيذانا لهما بأن حظهما من هذه الحياة قد انقضى، وعملهما فيها قد انتهى؛ فقد كان هذا الفتى بقية آمالهما بعد أن ذهبت أخته إلى الدير ذات يوم فلم تعد منه إليهما، لسبب لم يعرفاه ولم يستطيعا أن يهتديا إليه. ومع أنهما قد جهدا في صرف الفتاة عن الدير أقصى الجهد، وبذلا فيه ما يستطيعان وما لا يستطيعان من السعي، واستعانا عليه بالأصدقاء من خاصتهما وبذوي المكانة والمنزلة من معارفهما؛ فإن الفتاة لم تستجب لهما ولم تسمع لما كانا يلقيان إليها من حديث، ولم ترق لما كانا يسفحان من دموع!
ثم تنقضي سنة المران والامتحان والاستعداد، وتدنو الساعة التي تهب الفتاة فيها نفسها لله هبة حازمة قاطعة لا رجعة فيها ولا انصراف عنها، وتعود الأسرة إلى ابنتها ضارعة مستعطفة ملحة في الضراعة والاستعطاف، فلا تزداد الفتاة إلا إباء وإصرارا.
ثم ينفذ القضاء وتعطى الكلمة الحاسمة، وتصبح الفتاة وقد انقطعت الأسباب بينها وبين ما وراء الدير، ومن وراءه من الحياة والأحياء، ثم تنقطع الصلة بين الفتاة وبين أسرتها فجأة، وتجهل الأسرة من أمر ابنتها كل شيء، قد نقلت من ديرها الذي كانت فيه إلى دير غير معروف، ثم أخذت الأدير تتقاذفها في أرض الوطن، وفي أرض الغربة في القارة الأوروبية، وفي الشرق القريب وفي الشرق البعيد، وفي تلك الجزر النائية التي تكثر فيها العلل المهلكة والأوبئة القذرة، ثم ترد الراهبة في عام من الأعوام إلى فرنسا، لتعمل فيها مثلما كانت تعمل في جميع المواطن التي تقاذفتها أعواما وأعواما، ولكن لتجد في وطنها بعض الراحة من هذا العناء الطويل الثقيل، الذي احتملته، ومن هذا الجهد العنيف المهلك الذي بذلته.
وكانت الراهبة قد استحقت هذه الراحة لأنها كانت قد أبلت فأحسنت البلاء. وحمل أنت هذه الكلمات ما تستطيع أن تحملها من المعنى، فلن تؤدي إلا بعض ما أريد أن أقول؛ لأني مضطر إلى أن أوجز، راغب عن الإطالة كل الرغبة!
عادت الراهبة إلى وطنها إذن لتعمل فيه وتستريح. وهذا مريض سيئ الحال قد أدركه السل وانتهى به إلى غايته، وهو مشرف على الموت، وهو فقير بائس، ينفق ما بقي من أيامه البائسة في بيت حقير قذر. وهذه الراهبة تمرضه وتقوم بأمره، وتعينه بما تمنحه من الرحمة والعطف والحنان والعناية المادية، على أن يخطو هذه الخطوات القليلة الضئيلة التي تلقيه بين ذراعي الموت، وتستنقذه من مخالب العلة والمرض. وقد خطا المريض أكثر هذه الخطوات، ولم يبق بينه وبين الراحة إلا سبب ضئيل، ضئيل جدا، تقطعه أيسر وطأة للمرض، فليدع القسيس إذن ليهيئ هذا المريض للقاء ربه.
وهذا القسيس يقبل، وهذه الراهبة تفتح له الباب وتلقي عليه النظرة الأولى، وإذا قلبها يخفق خفقة تكاد أن تهوي بها إلى الأرض، لولا أن تملك البائسة نفسها وتعتمد على بعض الأثاث. وقد دخل القسيس فأدى واجبه، وأبرأ المريض من آثامه وإن لم يبرئه من علته. ثم انصرف، ولكن الراهبة تستوقفه عند الباب، وتسأله في صوت خافت مرتجف: ألم تعرفني يا أبت؟ فيجيبها: كلا أيتها الأخت، من عسى أن تكوني؟ فتقول: ومع ذلك فلم أكد أراك حتى عرفتك، ولم أكد أسمع صوتك حتى انهدم له قلبي انهداما! فيسألها القسيس ملحا: من تكونين؟ تجيبه: أنا فلانة بنت فلان وأخت فلان. قال القسيس وقد اضطرب صوته اضطرابا يسيرا: «سلام عليك أيتها الأخت، وبارك الله لك في حياتك وفي عملك.» ثم انصرف مهرولا. ولما أمسى كان قد طلب إلى رئيسه أن ينقله إلى مدينة أخرى.
وعادت الراهبة إلى مريضها فأبلغته مأمنه، حتى إذا انتهت مهمتها ذهبت إلى القسيس الشيخ، الذي كان يضحك لها أو يضحك منها في أول هذا الفصل، تعترف له وتعتذر بين يديه، وتعلن إليه ندمها؛ لأنها ذكرت بعد هذه الأعوام الطوال حبا قديما استيأست من غايته، فذهبت إلى الدير وانقطعت لعبادة الله والبر بالبائسين، وخيل إليها أنها قد انصرفت عن الحب الإنساني، وتعزت عنه بهذا الحب الإلهي.
ولكنها رأت فذكرت، فعاودها الأسى، فهي نادمة وهي مشفقة من الخطيئة. وهي تلح في هذا الندم، وتغرق في هذا الإشفاق، وتطلب إلى القسيس الشيخ أن يرد إلى قلبها الأمن، وأن يستنقذ نفسها من هذا الخوف، وأن يذود عنها هذه الصور المزعجة التي يثيرها الندم أمام عينيها. والقسيس الشيخ لا يشفق عليها من ذكر هذا الحب القديم والحزن له والتأثر به، فأي شيء في هذا كله؟ إنها امرأة، إنها ابنة الإنسان، والإنسان ضعيف. إنما يشفق عليها من إطالة الندم والإغراق في التفكير، فمن يدري؟ لعل إطالة الندم على بعض الخطيئة شر من الخطيئة نفسها؛ لأنه استبقاء لها واحتفاظ بها، وحنين إليها، وادخار لهذا السبب الذي يصل بين الإنسان وبينها.
كان القسيس الشيخ رفيقا بالراهبة، ولكنها لم تفهم منه هذا الرفق، فلما انصرفت لم تفكر إلا في أن تطلب إلى رئيستها في الدير رحلة بعيدة إلى جزيرة من تلك الجزر النائية التي يكثر فيها المجذومون، ويحتاج فيها المرضى إلى عناية الراهبات.
الحب المكره
Неизвестная страница