وأكاد أسأل نفسي، كلما وقعت من نفسي أحاديث مكسيم وأعماله موقع الإعجاب والحب: ما عسى أن يكون موقع هذه الأحاديث والأعمال من نفس لورنس لو أنها شهدتها أو ظهرت عليها؟ وإني لضيقة باقتحام لورنس علينا حياتنا وقيامها بين زوجي وبيني في كل لحظة، وإذا صورة أخرى تقتحم علينا هذه الحياة، وتقوم بيننا مع صورة لورنس، وهي صورة زوجها الفقيد الشهيد. فقد أخذت هذه الصورة تتراءى لي بين حين وحين، وأخذت أنكر إلمامها بي وظهورها لي، ولكنها أخذت تكثر من الزيارة وتطيل المقام، وأكبر الظن أني أنا التي دعت هذه الصورة لكثرة ما فكرت في لورنس، ولكثرة ما أعجبت بوفائها لزوجها، ولكثرة ما أعدت على نفسي كتابها الذي أنبأت فيه مكسيم بعزمها على الاغتراب.
ولكني أفيق ذات ليلة مذعورة أشد الذعر، قد ملئ قلبي روعا، واستأثر الهلع بنفسي حتى تصبب جسمي كله عرقا. وقد كان أول خاطر خطر لي حين انجلت عني سحائب هذا الذعر أنها خواطر اليقظة قد ألحت علي في النوم. وقد جعلت أرد الأمن إلى نفسي قليلا قليلا، ولكنه لا يعود إلا ليزول. فقد رأيت فيما يرى النائم صورة ذلك الزوج الفقيد تدعوني بالإشارة فأمتنع عليها، فتلح في الإشارة وألح في الامتناع، فتضيف الصوت إلى الإشارة، فأسمع زوج لورنس يدعوني بصوت هادئ ولفظ واضح صريح: إلي، إلي، فإن مكانك ليس بين هذين الآثمين، ولكنه إلى جانبي أنا المظلوم.
وأفيق مذعورة لا أدري أأيقظني الذعر أم أيقظني الصوت الذي سمعته؟ وأحاول أن أخلص من هذه الصورة، ولكنها تملأ عيني والغرفة مظلمة. وأحاول أن أخلص من هذا الصوت، ولكنه يملأ أذني والليل من حولي شديد الهدوء، فأعمد إلى النور فأذود به الصورة، ثم أنهض من سريري، وأضطرب في غرفتي، وأحدث من الحركات ما أذود به الصوت عن أذني، ولكني لا أعود إلى الظلمة إلا عادت الصورة إلى عيني، ولا أعود إلى السكون إلا عاد الصوت إلى أذني، حتى ظننت بنفسي الظنون، وأشفقت على عقلي من أعراض الخبال، ولم ينقذني من هذه الآلام المتصلة والأخطار المحدقة إلا ضوء الصبح حين أقبل بعد انتظار طويل.
قل، أيها الدفتر العزيز، ما قلته لنفسي من أن هذا عرض من أعراض المرض، ومظهر من مظاهر ضعف الأعصاب، واضطراب المزاج، ونتيجة من نتائج التفكير المتصل في حب مكسيم والإشفاق من لورنس، فقد قلت هذا كله لنفسي واستيقنته، وفكرت في أن أطب له بالرحلة إلى أبوي أو بالإبعاد في السفر. وما يمنعني أن ألم بباريس فألهو بحياتها الصاخبة المتنوعة، عن هذه الحياة الهادئة المتشابهة في الأقاليم.
ولكن ما رأيك في أني لست مريضة ولا ضعيفة الأعصاب، ولا مضطربة المزاج؟ ما رأيك في أن هذه الصورة لم تخدعني؟ وفي أن هذا الصوت لم يكذبني، وفي أن زوج لورنس قد أنبأني بالحق الذي لا شك فيه؟ فقد عادت لورنس من سفرها البعيد، وتورطت في الإثم الذي فرت منه، ولم تستطع أن تمضي في المقاومة.
عادت لورنس لا إلى هذه المدينة التي نقيم فيها، ولكن إلى مدينة أخرى ليس بيننا وبينها إلا ساعتان في القطار. عادت لورنس واتصلت بمكسيم، واتصلت الزيارات بينهما، وكان ما خفت أن يكون.
أتصدقني، أيها الدفتر العزيز؟ إني لا أصدق نفسي، وما تعودت من قبل أن أصدق أحلام الليل، ولكن لورنس قد عادت، ومكسيم قد عاد إليها. ولكن قلب زوجي لم يعد خالصا لي، ولكن الأمر بين زوجي وبيني لم يقف عند هذا الحد؛ فقد عرف الناس من إمره ما كنت أجهل، ولم أعرف حقيقة هذا الأمر إلا بعد أن عرفه الناس، وقد عرضني ما ظهر من أمره إلى أكثر من ألم المرأة التي يخونها زوجها. عرضني لطمع الطامعين، وأغرى بي الذين ينتهزون الفرص من الأصدقاء الأوفياء. عرضني لألم المرأة التي تهان في حبها، ولخزي المرأة التي تهان في كرامتها. أأصدق أحلام الليل أم أكذبها؟ أأستجيب لهذه الدعوة التي وجهها إلي زوج لورنس أم أمتنع عليها؟
19
ما أشد شوقي أيتها الصديق العزيزة لورنس، وددت لو استطعت أن أطير إليك لأضمك بين ذراعي، ولأقبلك قبلات تنقل إلى قلبك بعض ما في قلبي من حب ووفاء، ومن إكبار وإجلال، ومن شكر للصنيعة واعتراف بالجميل، ولأذرف على كتفك دموعا تصور الحزن لفراقك، والفرح بلقائك، والإكبار لتضحيتك، والشكر لبعض فضلك، والأسى لما احتملت من حرمان، والإعجاب بما أظهرت من شجاعة وحسن احتمال. وكنت خليقة أن أفعل هذا كله لو أن نبأ عودتك إلى الوطن قد ألقى إلي ساذجا يسيرا كما تلقى الأنباء، فقد كنت مدينة لك بحبي، وكنت مدينة لك بسعادتي، وكنت مدينة لك بحياتي. وما أدري أفهمتني كما أنا أم لم تفهميني، ولكن المحقق أني بعد أن أحببت مكسيم وبلوت السعادة بحبه لا أتصور الحياة بدون هذا الحب، ولا أطيق لها احتمالا.
ألعلك عرفت هذا كله وقدرته حين هاجرت من أرض الوطن، وضحيت بلذاتك وآمالك، وبعواطفك وشعورك؛ ضنا بي على اليأس، وحرصا على أن أتجنب آثاره الوبيلة وعواقبه المهلكة؟ أم لعلك إنما هاجرت من أرض الوطن ضنا بنفسك على الإثم، وارتفاعا بها عن النقيصة، وفرارا من الخيانة للأحياء والأموات؛ هذه الخيانة التي لا تليق بالنفس الكريمة، ولا تلائم القلب الذكي النقي؟
Неизвестная страница