ما أشد حيائي منك ومن نفسي، وما أشد اختلاط الأمر علي! إني لا أريد أن أستأنف الصلة بينك وبيني بعد أن انقطعت فطال انقطاعها، فلا أجد السبيل إلى ذلك ميسرة ولا ممهدة، فأتردد وأضطرب وأقدم بين يدي ويديك مقدمات ومعاذير لا تغني عن الحق شيئا، ولا تزيد على أن تصور خجلي واستخذائي من هذه الحقيقة البشعة التي أواجهها، فتنقبض لها نفسي أشد الانقباض، ويشمئز منها قلبي أعظم الاشمئزاز، وأنظر مع ذلك كارهة فأطيل النظر وأفكر فيها مع ذلك راغمة فأطيل التفكير، كأني أجد فيما أحس من الألم لذة، وفيما أشعر به من العذاب غبطة وسرورا، وهي أني خائنة غادرة أثرة عاجزة، نسيتك حين كنت سعيدة، وذكرتك حين أخذت تتراءى لي أشباح الشقاء.
ليتك أنسيت كل ما أفضيت به إليك من الأحاديث، فإني قد أنسيتها أو كدت أنساها، ولكنك قوي الذاكرة، لا تنسى شيئا، شديد الأمانة لا تضيع شيئا. ولقد نظرت فيك فرأيت صورة نفسي المضطربة التي ائتمنتك عليها منذ أعوام، والتي لجأت بها إليك ألتمس لها عندك العزاء والمعونة والتسلية. ورأيت ما قدمت إليك من العهود المؤكدة على أن أكون وفية لك مقيمة على الوفاء لما أهديت إليك من مودة، ولما بادلتك من ثقة، وإذا أنا أستخذي، وإذا أنا أضيق بنفسي حتى أزدريها أشد الازدراء.
لقد وفيت لي فأعرضت عنك أكثر من ثلاثة أعوام، لا لشيء إلا لأني كنت مشغولة عنك بهذه السعادة التي غمرتني فصرفتني عن الحياة والأحياء، وأنستني الناس والأشياء، ووقفت قلبي وعقلي وحسي وشعوري وعواطفي وأهوائي على نفسي، وعلى هذا الفتى الذي اختطفني من الحياة ذات مساء، وارتفع بي إلى جو بعيد في السماء، فعاش معي فيه تلك العيشة الراضية التي كانت خليقة أن تطهر نفسي من كل رجس وتبرئها من كل عيب، وتنقيها من كل وضر، وتسبغ عليها من الفضائل ومكارم الأخلاق ما ينزهها عن الشر والنقص تنزيها. ولكنها لم تزد على أن نمت فيها هذه الغرائز البغيضة، غرائز الأثرة والخيانة والغدر والجحود. أليس صحيحا إذن ما كان يقال من أن السعادة تطهر النفوس، ومن أن الحب يذكي القلوب؟ لقد كنت سعيدة، فلم تثر في السعادة إلا الرغبة في الاستزادة منها، ولقد كنت محبة فلم يثر في الحب إلا الرغبة في الاستئثار بمن كنت أهوى.
هون عليك أيها الدفتر العزيز، إني لم أهملك وحدك ولم أختصك بالإعراض والنسيان، ولكني أهملت معك قوما ما كنت أقدر في يوم من الأيام أني سأهملهم أو أقصر في ذاتهم أو أسوءهم بالجحود والعقوق. لقد احتفظت بمظاهر الحب والود بيني وبين أسرتي، فزرتها واستزرتها وأقمت معها الأيام والليالي، واضطربت معها في الحياة وخضت معها في ألوان الحديث. ولكن الله وحده يعلم كم آلم الآن حين أذكر ما أثرت في قلب أمي من ألم، وما بعثت في نفسها من حزن، وما أفضت على قلب أبي من هذا الشعور الواضح الكئيب، بأن الأثرة قوام الحياة، وبأن الأبناء يحيون لأنفسهم قبل أن يحيوا لآبائهم، وبأن السعادة تغري بالقسوة وتدفع إلى الأثرة وتصرف القلوب في أكثر الأحيان عن البر والرحمة والحنان.
لم أسئ إلى أسرتي باللفظ، ولم أسئ إليها بالعمل، وما أراها تعتد علي بظاهر من التقصير أو الإهمال، ولكني مع ذلك أسأت إليها فأسرفت وآلمتها فغلوت! انصرفت عنها إلى نفسي، وشغلت عنها بحياتي، وأظهرت لها ذلك مئات من المرات في نبرات الصوت، وفي حركات الجسم، وفي لحظات الطرف، وفي الإبطاء حين كان يحسن الإسراع، وفي الإسراع حين كان يحسن الإبطاء، وفي الفتور حين كان يجب النشاط، وفي النشاط حين كانت تستحب الأناة.
في هذه الأشياء اليسيرة التي تحس وتلحظ ولكنها لا تكاد تثبت للتصوير والتعبير. هي أيسر من ذلك وأدق، هي تنفذ من أعماق النفوس إلى أعماق النفوس، لا تكاد تمر على الألسنة ولا تكاد تستقر في العقول، ولا في مظاهر الحس والشعور، وهي من أجل ذلك مؤذية مهلكة شديدة الخطر على الحب والود، وعلى ما بين الناس من صلات. هي أشبه شيء بهذه الجراثيم التي كانت تفتك بحياة الناس، وتذيع فيهم ألوان الوباء والموت دون أن يحس لها الناس وجودا، أو يستطيعوا منها احتياطا. ولكن العلم قد كشف هذه الجراثيم وأخذ يعلم الناس كيف يعرفونها، وكيف يدرسونها وكيف يتقونها. فمتى يستكشف العلم هذه الجراثيم المعنوية التي تفسد الود، وتفتك بالحب، وتقطع أمتن ما يكون بين الناس من صلات؟
لا يشتد وجدك علي ولومك لي، أيها الصديق العزيز؛ فإني لم أختصك بالخيانة، ولم أوثرك بالغدر، وإنما أشركت معك في الخيانة والغدر قوما آخرين لهم علي أكثر مما لك علي من الحق، وهم بعد ذلك يشعرون أكثر مما تشعر، ويألمون أكثر مما تألم، ويشقون بعقوق الأبناء أكثر مما تشقى بتقصير الصديق.
لقد أحببت أبوي حبا ما كنت أعرف له حدا ولا أمدا، ثم لم يمنعني ذلك من أن أقصر في ذاتهما، ومن أن أوذيهما بالإهمال والإعراض حين أتيحت لي السعادة واستأثر بي الحب. ولقد عاهدتك على الود الدائم والوفاء المقيم، ثم لم يمنعني ذلك من أن أعرض عنك وأنساك حين أتيحت لي السعادة واستأثر بي الحب. أمن الحق إذن أن الحب يقاس بالحاجة، وأني إنما أحببت أبوي لأني كنت محتاجة إليهما، متصلة بهما مدينة لهما بكل شيء، فلما جاءتني السعادة من مصدر غير مصدرهما، ولما أحسست الحاجة إلى شخص غيرهما تحول عنهما حبي وقصر في ذاتهما قلبي؟
أفكنت محبة لك لأني كنت محتاجة إليك أبثك همي وأتخفف إليك مما كان يثقلني من الآلام والأحزان؟ فلما صرفت عني الهموم ورفعت عني الآلام والأحزان لم أحتج إليك، فلم أحفل بك ولم أفكر فيك، وتركتك في مكانك هذا الذي استقررت فيه أكثر من ثلاثة أعوام، يوشك أن يكون هذا حقا، وهو مؤلم وهو مخجل، ولكن، ما لي لا أتشجع وما لي لا أواجه الحق وما لي لا أسجل على نفسي هذا الاعتراف بالخزي؟
ما الذي حملني على أن أفكر فيك وأخرجك من عزلتك الطويلة وأشق عليك بهذا الحديث الطويل الثقيل؟ وما الذي حملني على أن أكتب إلى أبوي منذ ساعة كتابا طويلا يفيض رقة وحبا وحنانا، ويطلب إليهما إما أن يزوراني وإما أن يأذنا بزيارتي لهما؟ ما هذا الحنان المفاجئ الذي يدفع بي إلى أحضان أبوي؟ وما هذا الوفاء المفاجئ الذي يدفع بي إلى استئناف ما بينك وبيني من صلات الود؟ هو الأثرة، والأثرة وحدها.
Неизвестная страница