غير أن الفرحة بمعجزة الحياة والشباب والربيع توحي في نفس الوقت بأن فكرة الموت كانت تغرز شوكتها في قلبه. وقد يبدو أن عاطفة الحماس للحياة أبعد ما تكون عن عاطفة الموت. والحقيقة أن النقيضين أقرب مما نتصور. فما من قلب يهتف للحياة إلا وهو يحس بثقل الموت، وما من صوت يضحك إلا وهو منبعث من صميم المأساة، وما من فم يشدو للربيع إلا ويحس الرعشة من كآبة الشتاء!
والحق أن فكرة الموت كانت في ذلك الوقت جاثمة على صدر الحبيبين. وربما أشفقت «سوزيته» عليه من شبحها المظلم فتضرعت إليه قائلة في إحدى رسائلها في فبراير سنة 1800م: «أبق على نفسك من أجلي!» وربما أحس هلدرلين أنه كان قاسيا أكثر مما ينبغي عندما تنبأ بموت ديوتيما المحتوم في روايته هيبريون فكتب يقول لها: «اغفري لي موت ديوتيما ...» ولكن النبوءة كانت صحيحة.
فقد سارت الحبيبة على طريق القدر حتى بلغت نهايته. سارت عليه في رضا وهدوء وعلى شفتيها هذه الكلمة: «أفضل لي أن أموت ضحية الحب من أن أعيش بدونه.» وأسلمت أنفاسها الأخيرة في شهر يونيو سنة 1802م بعد أن زارها الضيف النحيل الشاحب الوجه الذي يحب الإقامة في صدور الشعراء والفنانين والعشاق .. كانت صديقتها الوحيدة «مارجريتا سومرنج» قد سبقتها إلى الموت في شهر يناير. ولا بد أنها شعرت بوحدتها الرهيبة بعد موتها، ورأت أن حياتها لم يعد لها معنى بعد أن أقفرت من الحبيبة والحبيب. لقد كتبت ذات يوم لهلدرلين: «شعرت بأن حياتي تذبل من غيرك وتموت ببطء.» وها هي ذي تذبل وتحترق بنار السل .. ويشتد عليها المرض في الأسبوعين الأخيرين من حياتها فتسلم الروح في مساء اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة 1802م.
سوزيته جونتار (1769-1802م). قناع من صنع الفنان لاندولين أوماخت.
تزوج رجل المال والأعمال بعدها مرتين. ولكنه لم يعف الشاعر المسكين من شكوكه وإشاعاته التي بلغت ذروتها عندما اتهمه بأنه تسبب في موتها ، وأنه يعرف تماما على من يقع ذنبها .. أما الشاعر نفسه فقد سار على طريق العذاب بعد فراقه الطويل لحبيبته، ولم يعزه عنه قليلا إلا قدرته على الحب والشكر، أعني قدرته على الشعر .. وبدأت الكآبة المميتة تهاجمه؛ كانت نوعا من الانتحار البطيء الذي عبر عنه على لسان الفيلسوف اليوناني إمبادوقليس في
12
القصيدة والمسرحية اللتان كتبهما عنه بين سنتي 1798م و1800م.
وإمبادوقليس فيلسوف وطبيب وكاهن يوناني ولد حوالي سنة 482 أو 490 قبل الميلاد في مدينة أجريجنت عاصمة صقلية، ومات حوالي سنة 423 أو 430 بعد أن كاد أهلها يؤلهونه ثم طردوه منها أو اضطروه للفرار! نسجت حوله الأساطير والخرافات، والتف حوله التلاميذ والأتباع، ونسبوا له قدرة على التنبؤ بالغيب وقوى سحرية خارقة لا تنسب إلا للسحرة والأنبياء وأنصاف الآلهة. والمعروف أنه قال: إن اختلاط العناصر الأربعة وتنافرها هو أصل الأشياء، وإن الحب والكره هو مبدأ الوجود. والمعروف أيضا أنه بنى أفكاره على أساس نظرية بارميندز عن الوجود الثابت الذي لا يتغير ولا يزول، ولا ينشأ من العدم ولا يفنى في العدم. كما اشتهر بقدرته على التأثير بالكلمة حتى قال عنه أرسطو إنه أبدع فن الخطابة .. ولكن القصة التي تروى عن موته هي التي خلدت اسمه وأوحت للشعراء بالكتابة عنه.
13
فيقال إنه ألقى بنفسه في فوهة بركان «إتنا» وترك حذاءه بجانبها ليكون أثرا يدل عليه .. هل كان ذلك الانتحار العجيب استجابة لنداء الأرض الأم، أم رغبة في الاتحاد بالطبيعة الإلهية، أم حيلة ماكرة يقصد منها تخليده ذكره؟
Неизвестная страница