التي أثرت على حياته كلها بعد ذلك وظلت شعاره المعبر عن حضور الإله في كل ما يتجلى لعينيه (وجدير بالذكر أنه سجلها في ألبوم هيجل الشخصي سنة 1791م)!
وإذا خرجنا من أسوار الدير الضيقة لنلقي نظرة على الحياة الفكرية والروحية في ألمانيا في ذلك الحين وجدنا هناك ثلاث قوى تطبع هذه الحياة بطابعها؛ بعث الروح الإغريقية ومحاكاة الروائع القديمة محاكاة خلاقة، وازدهار الحياة الأدبية والفلسفية في أواخر القرن الثامن عشر على يدي جوته وشيلر وكانت وهمبولت وهيردر وأدباء حركة «العصف والاندفاع»، والثورة الفرنسية التي أشرقت فجأة على القارة الأوروبية كأنها فجر الخلاص والأمل في الحرية وتقدم الإنسان، وأرسلت عليها عاصفة مدوية تنذر بالقضاء على ظلم الاستبداد. ولا شك أن شباب ذلك الجيل والأصدقاء الثلاثة قد تعلقت أبصارهم بهذه الأنوار الساطعة وهبت عليهم نسمات من هذه العاصفة الجارفة على حين كانوا يستذكرون دروس الفلسفة واللاهوت في حجراتهم البائسة.
كان شباب الجيل مؤمنين بأن الإنسانية والجمال متجسدان عند اليونان على صورة نموذجية، وكان هيجل وهلدرلين من أشدهم إيمانا بهذه الفكرة. لقد سبقهما فنكلمان؛ مؤرخ الفن القديم وباعث الروح اليونانية الجديدة ببحوثه وأفكاره وإخلاصه المثالي في الكشف عن خصائص تلك الروح
4
وآمنا مثله بأن أفلاطون هو المعبر الأصيل عن تلك النزعة الإنسانية، واشتركا في التحمس لهذه الروح وتزكية شعلتها في نفوس أقرانهما وأبناء جيلهما. وانطلق هيجل من فكرته العميقة عن القدر عند شعراء المأساة اليونانيين، ووجدها شيلنج متحققة في أساطيرهم ونظرتهم الطبيعية القائمة على وحدة الوجود. أما هلدرلين فقد سبر أغوارها ونفذ إلى صميم قلبها عندما اكتشف أنها تعتمد على صلة القرابة الحميمة بين الطبيعة والبشر والأبطال والآلهة الخالدين. كانت التجربة الإغريقية في نظره تعبيرا أصيلا عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وكان فنهم تمجيدا للجمال الذي يقوم على هذه الوحدة الحيوية، واحتراما للعواطف العظيمة والانفعالات المقدسة .. وكانت طقوسهم وعاداتهم تخليدا للصداقة والرجولة والشوق إلى حياة بطولية رائعة. ولم يتخل هلدرلين أبدا عن هذه النظرة حتى بعد أن حاصره ليل الجنون، بل لقد زاده بؤس الحياة الاجتماعية شوقا إلى ذلك العالم المنهار.
أما الحركة الفلسفية فكانت قوة أخرى هزت عقول الشباب وقلوبهم. نادى كانت وشيلر وفيلهلم فون همبولت بالحرية والمثالية والكرامة والشخصية الإنسانية المتجانسة الخلاقة، وعبر عنها الكتاب والأدباء الذين ولدوا في السبعينيات من القرن الثامن عشر. وكان لكتابات شافتسبري (1671-1713م) وأشعار شيلر ورسائله الفلسفية والجمالية أثرها في النظر إلى العالم بوصفه كلا واحدا متصل الأجزاء، وهذا الإحساس بكلية العالم - إن صح هذا التعبير - هو الذي جعل هلدرلين يبحث طوال حياته عن الرموز الشعرية الصالحة للتعبير عن العلاقة الباطنة التي تربط الإله بالطبيعة الحية .. بالإنسان أو بالأحرى بطبيعته الإلهية النبيلة ..
أما القوة الروحية الأخيرة التي هزت أبناء ذلك الجيل فهي الثورة الفرنسية. أحسوا أنها فتحت لهم أبواب عصر جديد وفجر جديد. وهل كان من الممكن أن ينجوا من سحر أفكارها وهم يرزحون تحت نير الطغيان الحاكم في مدينة شتوتجارت وفي مدينتهم الصغيرة توبنجن؟ وأسس الطلبة ناديا سياسيا انضم إليه الأصدقاء الثلاثة. وعندما أعلنت الثورة الفرنسية في سنة 1793 أنها خلعت المسيحية عن عرشها ليبدأ عصر العقل احتفل الطلبة في «توبنجن» بغرس شجرة الحرية في ميدان السوق، وراحوا يغنون ويهللون ويرقصون حولها، بل إنهم فوجئوا ذات يوم بالدوق الحاكم يقف أمامهم في قاعة الطعام بالمعهد الديني ويلقي عليهم خطبة مملة غاضبة تنذرهم كل كلماتها بالويل والثبور بعد أن سمع عن أغنياتهم التي كتبوها عن الحرية وأناشيدهم التي رددوا فيها المرسيلييز! ومن يدري؟ فربما بلغت مسامعه إحدى القصائد التي تغنى فيها هلدرلين بالحرية و«بيوم الحصاد حين تحرز عصبة الأبطال النصر، وتقفر كراسي الطغاة ويتعفن عبيرهم».
لقد خيل إليه هو وأصدقاؤه أن ساعة الحرية قد دقت، وأن البطولة الإغريقية بعثت حية في أبطال الثورة الفرنسية. وانتظر الشباب من الثورة الفرنسية والفلسفة الكانتية والأدب الألماني أن يرتفعوا بالوجود الإنساني والعقل الإنساني. وبدا أن المثل الأعلى الذي دعا إليه ليسنج واتخذ أشكالا مختلفة في كتابات هيردر وجوته في شبابه ثم اتخذ أشكالا أخرى أكثر عمقا في مسرحية «إفيجينيا» لجوته ومسرحية دون كارلوس لشيلر؛ بدا أن هذا المثل الأعلى قد أوشك على التحقق. وارتفعت الأصوات في كل مكان منادية بالحرية والمثالية والنهوض بالإنسان والمجتمع. والتف الشباب حول «فشته» - زعيم الفلسفة المثالية ورائد موكب الحرية والقومية - في مدينة «يينا»، وأعلن ناقد الرومانتيكية فريد ريش شليجل من برلين تأييده للفلسفة الجديدة والثورة الفرنسية بوصفهما أبرز اتجاهين في حياة العصر. وظهر لكل إنسان أن الأدب والفكر هما الروضة الوحيدة المزدهرة وسط صحراء البؤس والظلم والإقطاع والاستبداد.
عاش هلدرلين بعد تخرجه من المعهد الديني في توبنجن عشر سنوات مليئة بالحرمان والسعي الخائب من بيت إلى بيت في سبيل لقمة العيش التي كان يشقى في الحصول عليها بالدروس الخصوصية؛ إذ كانت مهنة التعليم وتربية أبناء الأسر هي المهنة الوحيدة الباقية أمام المثقفين والأدباء البائسين الذين بخل عليهم الحظ برعاية ملك أو أمير. وحاول أن يستقل بنفسه ويتفرغ لرسالته وموهبته. وتوسط له شيلر عند السيدة «شارلوته فون كالب» التي كانت على صلة بالحياة الأدبية، ليعمل مربيا لأبنائها في بيتها ببلدة «فالترزهاوزن» (الواقعة في منطقة تورنجن بالقرب من مدينة «جوتا»). وهناك بدأ يكتب روايته «هيبريون» التي نشر شيلر شذرة منها في مجلته «تاليا». وأخفق في مهمته التربوية، وتأكد له إخفاقه في الحياة العملية عندما حاول بعد ذلك أن يستقر في مدينة «يينا» - كعبة المثالية في ذلك الحين - ويعمل مدرسا للفلسفة بجامعتها. وتبين له عجزه مرة أخرى عندما سعى للاتصال بفشته وجوته وهردر، فتجاهلوه ولم يستطيعوا تقدير موهبته حق قدرها. وشعر أن مثالية فشته وكلاسيكية عملاقي فيمار
5
Неизвестная страница