كالسجين المغلول، لا لم أعد أحتمل هذا!
كما يثور على كل طموح أكاديمي سخيف: «يستوي عندي أن تستقر كل ألقاب الماجستير والدكتوراه وكل ما يقترن بها من توقير واحترام في خرائب المورة.»
4
ولكن السخط يتجه قبل كل شيء إلى اللاهوت وأصحابه المتزمتين الذين يسميهم حفاري القبور في توبنجن!
المعهد الديني بمدينة توبنجن (من رسم الشاعر إدوارد موريكه).
وكانت هذه القيود والسدود هي التي ألهبت في نفس الجيل الجديد شعلة التحرر والانطلاق من أسر الأنظمة الجامدة، وجعلته يتطلع إلى فجر الحرية والشباب والمعرفة الحقة، ويطالب بنظرة جديدة للتاريخ وشكل جديد للدولة والدين. واستمد هؤلاء الشباب الشجاعة والأمل من شخصية إمبراطور النمسا العظيم يوسف الثاني الذي حاول أن يحقق حلم الدولة المطلقة المستنيرة التي تكاد تشبه حلم اليوتوبيا القديم؛ مما جعل الشاعر الكبير «كلوبشتوك» يعبر عن حلمه بيوتوبيا أكاديمية سماها «جمهورية العلماء الألمان» سرعان ما تبنى الشباب فكرتها والتفوا حولها.
وتسنى لهلدرلين واثنين من رفاقه في الدير - وهما نويفر وماجيناو - أن يجتمعوا على الحب العميق، حتى قال شاعرنا المنعزل عن صديقه «نويفر»: «لقد كان أول من علمني كيف أسعد بالصداقة سعادة حقيقية أصيلة.» كما استطاع هذا الصديق أن يكون على مدى سنوات طويلة نورا يشع بالأمل لروحه المعتمة الحائرة، وأن يتحكم في أهوائه ونزواته «وكل الأرواح الشريرة التي تسومه العذاب»، ويجد عنده الاتزان والمثابرة اللذين افتقدهما في نفسه، بمثل ما وجد التواضع والسخرية والمرح عند صديقه الآخر ماجيناو.
كان من عادتهم أن يجتمعوا كل يوم على زجاجة من الجعة أو النبيذ، وكراسة يقرأ منها كل منهم ما جادت به عليه ربات الفن والشعر .. وانضم إليهم الشاعر فريدريش ماتيسون (1761-1831م) الذي لم يكد يسمع أنشودة هلدرلين «إلى روح الجسارة» حتى ألقى بنفسه بين ذراعيه وراح يضمه بعنف إلى صدره ... كانت هذه الأنشودة - مثلها مثل سائر الأناشيد التي كتبها في هذه المرحلة من شبابه - قريبة في العاطفة والفكرة من روح شيلر. وكان شيلر هو الخبز اليومي على مائدة هؤلاء الأصدقاء .. فحديثهم عنه لا ينقطع، وإعجابهم بإنسانيته ونبله ومثاليته وشجاعته وطاقته الهائلة لا يقف عند حد .. وكان لشيلر في هذه المرحلة وفيما سيأتي من مراحل العمر أثر لا يقدر على حياة هلدرلين؛ فهو الذي تعاطف معه ولمس موهبته ووجهه في رفق إلى تدارك عيوبه، وهو الذي أمده بالثقة في نفسه، وساعده على التغلب على تردده والمضي إلى إتمام رسالته، ونصحه بالتمسك بالقيم الموضوعية، واستشراف الآمال البعيدة الجسورة، والبعد عن «الذاتية العنيفة» .. وكانت قصائده في هذه الفترة التي قضاها في توبنجن تعبر عن الجهد الذي يبذله في البناء والصنعة، ولكنها تفتقر إلى ذلك الشيء الذي يجعل الفن حياة، أعني الضرورة الباطنة التي تدفع للكتابة فكأنما يستجيب الإنسان لقدر لا فكاك منه، ويضع نفسه ودمه في كل حرف تخطه ريشته. غير أنها ظلت قصائد فخمة اللغة، موغلة في التحليق، شديدة التشتت، مغتصبة التعبيرات والصور، بعيدة عن النغمة الوديعة الهامسة المنكسرة التي تميز أجمل شعره وأبقاه. انظر إلى هذه المقطوعات من قصيدته إلى روح الجسارة أو شيطانها العبقري وستلمس مدى التعب والضنى الذي تكبده الشاعر في مثل هذه القصائد التي كتبها أيام شبابه في توبنجن:
من أنت؟ كالفريسة
يتمدد اللامحدود أمامك،
Неизвестная страница