صور هلدرلين تجربته الشخصية والشعرية في صورة ذلك الفيلسوف الطبيعي القديم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد في مدينة أجريجنت عاصمة جزيرة صقلية، وروى عنه أنه اختار الموت بإلقاء نفسه في فوهة بركان إتنا . وهو شخصية عجيبة اختلط فيها الواقع التاريخي بالأسطورة والخرافة. كان فيما يروى عنه شاعرا وفيلسوفا وكاهنا وسياسيا وخطيبا وطبيبا وساحرا، كما كان مصلحا دعا إلى ديانة روحانية تكون أساسا لنظام الحكم والحياة. ويذكر عنه في تاريخ الفلسفة والعلم أنه قال بقوة الحب التي تؤلف بين أجزاء العالم، والعلاقة الحميمية التي تجمع الكائنات ونوع من تقمص الأرواح. وكلها آراء شديدة القرب من روح هلدرلين الذي جذبته شخصية هذا الفيلسوف العجيب .. ويقال أيضا إنه نشأ في أسرة نبيلة في مدينة أجريجنت وشارك في سقوط النظام الأرستقراطي الذي تولى الحكم لفترة قصيرة ثم أصبح زعيم الحزب الديمقراطي المنتصر، ورفض التاج الذي قدمه له أهالي صقلية، ثم اضطره خصومه بعد ذلك إلى مغادرة وطنه.
وجد هلدرلين في شخصية أنبادوقليس الرمز الحي المعبر عن رسالته التي شعر أنه مدعو لتبليغها. فهو شاعر وفيلسوف وساحر استطاع أن يسيطر على قوى الطبيعة ويكتشف أسرارها، وهو قائد متكبر شامخ أراد أن يصلح الأحوال في مدينته ويخلص أهلها من عبودية الكهنوت والتقاليد، ويهديهم إلى الاتحاد بالروح الإلهي الماثل في كل مظاهر الكون فرفضته المدينة وطاردته نظمها المستقرة واتهمه الكهنة بالغرور، وإذاعة أسرار الآلهة والتشبه بها ...
ويبدو أن هلدرلين كان يفكر في كتابة مسرحية عن سقراط وموته الذي اختاره بإرادته عندما جذبته شخصية أنبادوقليس بغموضها وسحرها وكبريائها وتضحيتها وزهدها. ويبدو أيضا أنه شغل بهذه المسرحية أثناء كتابة روايته هيبريون التي نقرأ فيها هذه السطور «بالأمس كنت هناك فوق بركان «إتنا» وخطر الصقلي العظيم على بالي، ذلك الذي سئم عد الساعات ودفعته صلته الحميمة بروح العالم وفرحته الجسورة بالحياة إلى إلقاء نفسه في اللهب الرائع ...»
والواقع أن البطل في الرواية والمسرحية شاعر، وكلاهما تسري فيه نغمة واحدة هي نغمة الشوق إلى الحياة والفعل والموت. وكلاهما ممزق بين المثال والواقع، واللامتناهي والمتناهي في طبيعته، والإحساس بشمول الوجود وتجانسه وشعوره بأنه «يحيا مع كل حي» والضرورة التي تدفعه للضياع والتشتت بين أفعال جزئية مخيبة للآمال. ويظل البطل الشاعر يصارع هذا التمزق حتى يدفعه الشوق للاتحاد بالطبيعة إلى الموت بإرادته ليرجع إلى هذه الطبيعة التي هي الأم والمنبع والأصل. وهكذا يقدم روحه وجسده قربانا للروح الإلهي الماثل في الكون، وكأنه مسيح وثني قديم أراد أن يكفر عن ذنوب الإغريق الذين أساءوا فهمه وسخروا منه وشهروا به وطردوه من مدينتهم. لقد أدرك أنبادوقليس كما أدرك هلدرلين أنه «لا بد أن يذهب من تكلمت الروح من خلاله»، وأن «الإلهي» لا بد أن يسقط بين البشر، لأن الإلهيين وحدهم هم القادرون على الإحساس به، ولأن هذا هو قدر الشاعر والبطل الملهم على أرض فقدت نعمة السماء ووسط أناس غاب عنهم نورها. ولذلك سلم الشاعران بهذا القدر، فسقط أنبادوقليس في جحيم البركان كما تسقط الفراشة في لهيب الشمعة، وغاص هلدرلين في ليل الجنون في صمت وكبرياء وهدوء ...
كان من نصيب هلدرلين أن يكون شاعرا عظيما ومنسيا في وقت واحد. لقد ظل مجهولا أو شبه مجهول حتى أوائل هذا القرن، عندما اكتشفه الباحثون قبل الحرب العالمية الأولى بقليل. وظل الناس يرددون الحديث عن مرضه وجنونه واكتئابه حتى التفتوا إلى قيمة شعره، وتوالت الدراسات عن عبقريته، ورأى البعض أنه مثال الشاعر «النبي» و«العراف» ومنشد الشعب ورسوله الملهم. وتحمس له الأدباء والنقاد من مختلف المدارس والاتجاهات ابتداء من الرومانتيكيين الذين أساءوا فهمه وتصوروا أن مأساة حياته وعذابه وجنونه تجعله واحدا منهم، حتى «هيدجر» فيلسوف الوجود المعاصر الذي أسرف في حبه واستخرج من أشعاره ما يؤيد فلسفته وسماه «شاعر الشاعر» والمعبر عن ماهيته وحقيقته الخالدة ... وتأثر به المتشائمون من أمثال نيتشه وليوباردي وشوبنهور، وذهب بعض المحدثين من أبناء وطنه إلى القول إنه أعظم عبقري نطق بلغتهم، ووصفوه بأنه نبي الأمة - وضحيتها في آن واحد - ومجدد الروح ورائد شعراء المستقبل.
ومهما يكن الرأي في هذه الأحكام فليس هناك شك في أن هلدرلين واحد من أعظم الشعراء في كل اللغات والعصور، وأنه جدير بالقراءة والفهم والحب. وليس هذا الكتاب إلا محاولة متواضعة لتأكيد بعض معاني الحب والتعاطف والإجلال التي يجب أن نوقظها في أنفسنا ونحن نواجه هذا الشعر وكل شعر أو فن عظيم.
احتفل العالم في شهر مارس سنة 1970م بذكرى مرور مائتي عام على ميلاد هلدرلين، كما احتفل في نفس الوقت بذكرى هيجل وبيتهوفن اللذين ولدا في نفس العام. وقد أردت بهذا الكتاب أن يكون محاولة متواضعة للوفاء بهذه الذكرى، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه للاتصال بروح الشعر الخالص، والقرب من نبعه النقي الأصيل، والالتزام برسالته ومسئوليته .. كما أردت في نفس الوقت أن يكون محاولة لتذكير شعرائنا برسالة الشعر والشاعر بالمعنى الخالد الذي فهمه القدماء من هذه الكلمة عندما نظروا إليه نظرتهم إلى العراف الملهم والمتنبئ والمبشر والنذير ورائد القوم وموقظهم من غفلة النعاس والضلال. وأول ما نتعلمه من هذا الشاعر أن الشعر الحقيقي فوق كل طموح إلى الشهرة والمنفعة، وأنه لا يعطي شيئا إلا لمن يعطيه كل شيء.
وأردت من الكتاب أيضا أن يكون تمهيدا لقراءة هذا الشاعر العسير؛ ولذلك أكثرت من النصوص بقدر الإمكان، وتناولت حياته وتجاربه من خلال شعره في مراحل تطوره المختلفة. ومع أنني لا أميل إلى الربط بين حياة الشاعر أو المفكر وإنتاجه، وأفضل العناية بالنص والتوفر على دراسته، فقد اضطررت إلى الخروج قليلا عن هذا المنهج، لأن هلدرلين من الشعراء القلائل الذين اتحدت حياتهم وفنهم على نحو يجعل من الصعب التمييز بينهما، بل يجعل من المستحيل الحديث عنهما، كأن الحياة شيء والفن شيء آخر. وكل ما أرجوه أن يخرج القارئ من هذا الكتاب بأن هذا الكلام ليس من باب الإنشاء ولا التحمس العاطفي.
ولم أقصد أيضا أن يكون الكتاب «بحثا» في شعر هلدرلين أو ظروف حياته بالمعنى المفهوم من تلك الكلمة. ورأيي في هذا بسيط، ففي ظني أننا لم نصل بعد إلى مرحلة البحث المتخصص الدقيق في إنتاج الأدباء والمفكرين الذين لا نكاد نعرف عنهم شيئا؛ إذ ينبغي علينا قبل ذلك أن نقرأ لهم ونترجم عنهم ونحاول أن نحبهم ونتعاطف معهم ونتعرف إلى إنتاجهم بقدر ما نستطيع .. وعسى أن تنجح هذه الصفحات في التعريف بهلدرلين أو تشجيع القارئ على قراءته والتعاطف معه والتعلم منه.
وأخيرا فقد اعتمدت على طبعة أعمال هلدرلين الكاملة التي صدرت عن دار النشر «إنزل» وعني بتحقيقها وترتيبها الأستاذ فريدريش بيسنر، كما اعتمدت اعتمادا كبيرا على كتاب الأستاذ ألريش هويسرمان عن حياة هلدرلين الذي ظهر في سلسلة «روفولت» التي قامت بنشره في سلسلة الكتب التي تصدرها عن أعلام الأدب والفن والفكر من مختلف البلاد والعصور بأقلام المتخصصين، مع عدد كبير من الصور والوثائق المتصلة بحياتهم وإنتاجهم .. وأحب أن أسجل اعترافي بفضل هذا الكتاب القيم علي؛ فقد سرت على نفس الخط الذي سار عليه، واهتديت به في كل ما قرأت لهلدرلين أو قرأته عنه في المراجع الأخرى التي استطعت التوصل إليها، وهي قليلة جدا إذا قيست بالمكتبة الضخمة التي صدرت عنه. ومن هذه المراجع كتاب فيلسوف العلوم الإنسانية «فيلهلم دلتاي» عن التجربة والشعر، وبه فصل قيم عن هلدرلين، وكتاب «هلدرلين، كتاب مطالعة لعصرنا» وقد صدر عن دار الشعب في فيمار ضمن السلسلة المعروفة بهذا الاسم وأشرف على نشره والتقديم له وشرح الكلمات والاصطلاحات الكلاسيكية فيه الأستاذان تيلي بيرجر ورودلف ليونهارد، إلى جانب تاريخ الأدب الألماني للأستاذ فريتز مارتيني، وروح عصر جوته للأستاذ كورف، والروح اليونانية وعصر جوته لأستاذي المرحوم فالترريم. وأود أن أنوه بالترجمة الإنجليزية الممتازة لعدد كبير من قصائد هلدرلين في مراحل تطوره المختلفة؛ وهي الترجمة النثرية الدقيقة التي قام بها الأستاذ «ميخائيل هامبورجر» ومهد لها بمقدمة قيمة عن حياة هلدرلين وشعره وظهرت سنة 1961م في سلسلة «بنجوين» المشهورة .. وقد استفدت منها فائدة لا تقدر في فهم كثير من غوامض النص الأصلي، وبخاصة في القصائد الكبرى المتأخرة مثل خبز ونبيذ، وباطموس والوحيد، والاحتفال بالربيع، وذكرى، وغيرها من القصائد التي ستجد مقتطفات منها على صفحات الكتاب، أو تجدها مع النصوص الكاملة التي انتقيتها لك. أما عن الترجمة فقد التزمت الدقة والإخلاص لروح النص وكلماته بقدر ما استطعت. ولست أدري هل أعتذر عن بعض الأبيات التي جاءت موزونة في سياق الكتاب، ومن بينها قصيدة كاملة فرضت نفسها فرضا، أم يغتفر لي الشعراء هذا التطفل غير المقصود .. ولكني أحب أن أطمئن القارئ إلى أنني توخيت الأمانة التامة في نقلها، ووضعت بين قوسين كل كلمة اضطررت لزيادتها سواء في هذه الأبيات أو ما عداها من النصوص، توضيحا للمعنى أو مراعاة لمقتضيات الأسلوب العربي.
Неизвестная страница