ويأنس أحد الأرواح
بعشرة البشر.
تبدأ القصيدة بالمتجول الوحيد الذي يجوب الدروب والآفاق، ويتعلم من زرقة السماء وصفاء السحاب كما يتعلم التلميذ من مدرسة، ويستثير ذكريات الماضي الجليل ويستشرف حكايات الأبطال الخالدين، ويتأمل قوانين الخلق الأزلية التي تغني لحن المعرفة والحنان، ويرى كيف يروض اللهب والعناصر المعربدة، فيخضع النهر للشطآن ويتجلى النور الفضي وتتطهر الأرض وتبزغ عروسا زرقاء بلون البنفسج، ويتلفت البشر لصوت الإله ومعجزة الوجود فإذا به يخفي وجهه المهيب عنهم، ويفتح لهم كتاب الطبيعة لعلهم أن يروا النور في انعكاساته ويدركوا سر الخلود من تاريخ الخالدين .. هذا المتجول الوحيد يستقر في نهاية الرحلة ويطمئن إلى نفسه ويلم أشتات طاقاته «حتى يؤثر الجمال أن يسكن على الأرض وتأنس الروح بعشرة البشر». لقد انتهت به الرحلة إذن إلى نفسه، وكأنه لم يضطرب بين معجزات الطبيعة والتاريخ ولم يشق في البحث عن السر الأكبر إلا لكي يعثر على هذه النفس الراقدة بين جنبيه! حتى إذا وجدها وجد معها الجمال على الأرض، والسعادة على وجوه الناس، وأحس أن كل شيء قد رد إليه حين استعاد الطمأنينة إلى قدرة الخلق والإبداع الكامنة في قلبه، أي استعاد حريته.
وهذه رسالة أخرى كتبها إلى نفس هذا الصديق (لانداور) تعبر عن الصراع الطويل الذي انتهى به إلى الحرية السعيدة المبدعة. فقد وقف يوما أمام جبال الألب الرائعة، وارتعش ذاهلا وهو يتأمل جلالها وهدوءها، ثم أفاق على أعياد الربيع من حوله، وشعر أن هذا الربيع قد أقام عيدا آخر في نفسه.
ولا بد من قراءة سطور قليلة من هذه الرسالة لنعرف أن هذا الربيع لم يكن كله غناء وجمالا ونورا بل امتزج فيه الغناء بالبكاء، والجمال بالعذاب، والنور بالظل: «ما زلت أقف مذهولا أمام جبال الألب التي تمتد على مسافة ساعات قليلة من حولي. الحق أنني لم أجرب مثل هذا الانطباع في حياتي. إنها أشبه بخرافة عجيبة من خرافات الشباب البطولي لأمنا الأرض - تذكرنا بالعماء القديم الذي خرج منه التكوين - على حين تطل من عل في هدوء، وفوق ثلوجها الزرقاء الصافية تسطع الشمس والنجوم ليلا ونهارا. يمكنك إذن أن تتصور حالي وأنا أنعم بكل العناصر في أوائل الربيع، وأمتع عيني بمشهد التلال والجداول والبحيرات من حولي، فهذا هو أول ربيع يأتي علي منذ ثلاث سنوات وأتذوقه بنفس حرة وأحاسيس حية منتعشة ...»
هي إذن رحلة صراع طويلة سبقت هذا الشعور الطيب بالسعادة والراحة والحرية. ولكنه شعور مهدد في كل لحظة. لأن النور فيه لا ينفصل عن الظل، والسعادة لا تخلو من الشقاء. فلا تكاد تمضي بضعة أسابيع على هذه الرسالة حتى نجد رسالة أخرى إلى نفس هذا الصديق يقول فيها: «... أحس منذ بضعة أسابيع أن رأسي يدور على نحو عجيب. آه! أنت أدرى بهذا، لأنك تطلع على نفسي حين أقول لك إن هذه المشكلة لا تنفك تلح علي كلما ثابرت على كتمانها؛ مشكلة أن لي قلبا وإن كنت لا أعرف هدفا لوجوده، وأنني لا أجد أحدا أبوح له بسري وأفضي إليه بما أجد. قل لي، أهذه الوحدة التي كتبت علي، نعمة أم نقمة؟»
ثم يواصل الشاعر حديث القلب إلى أن يقول هذه الكلمات: «اذكرني إن ذهبت إلى فرانكفورت.» ونحن نعرف لمن تهفو نفسه في فرانكفورت!
هو الصراع إذن بين نقيضين: بين ربيع الحرية التي يحس أنه يستريح على قمتها وبين محنة المتجول الوحيد الذي لا بيت له ولا وطن. ولقد باح للصديق بما يجد، ولمس حد المأساة التي ستصرعه في النهاية. ولكنه يكتب لأخيه [من أمه] فيحاول أن يكون أكثر تماسكا وتجردا، وإن لم يستطع مع ذلك أن يخفي عنه هول المأساة: «لقد تسلط علي الكفر بالحب الأبدي. وكان علي أن أستدرج إلى هذا الإيمان الخرافي المخيف بما هو في الواقع علامة على النفس والحب، فإذا أسيء فهمه أصبح علامة على موتها. صدقني أيها الحبيب! لقد كافحت حتى أصابني الإعياء المميت لكي أثبت الحياة العليا بالإيمان والرؤية. أجل! لقد كافحت وأنا أعاني من ألوان العذاب ما يفوق في النهاية كل ما تقوى إرادة الإنسان الحديدية على احتماله ...»
هكذا يفرق هلدرلين تفرقة صارمة بين سوء الفهم الذي يحيل الإيمان «بعلامة النفس والحب» إلى موت للحب الأبدي، وبين الحياة العليا في ظل الحرية التي يحققها هذا الحب الأبدي عن طريق الصراع الذي ينهك صاحبه إلى حد الموت. ولا بد أنه كان يتعذب بين هذين القطبين الأليمين عندما راح يكتب أروع قصائده وأناشيده في هذه السنوات القليلة التي كانت أنضج مراحل عمره.
ولا بد أن محنة الوجود وإرادة الخلق قد تعاونتا معا على تهيئة الشاعر لطاعة الشعر، ووضعه في خدمة روحه الملهم. ولا شك أن وجدانه الرقيق المعذب الباحث أبدا عن المطلق قد أصبح مسرحا لهذه الفورة الروحية النادرة. غير أنه لم يكد يشف وينفتح لاستقبال الحرية حتى بدأ يتفتت شيئا فشيئا تحت وطأة محنته الوجودية، ولم يكد ينضج الثمرات العذبة حتى ذبلت جذوره في الأرض العطشى إلى الحب والحنان .. كان عيد الربيع الذي تحمس له الشاعر هو عيد الكلمة. وقدم القربان في هذا العيد الخالد قبل أن يهجم عليه شتاء الصمت والمرض والجنون. وليس في مقدورنا أن نتناول في هذا المجال كل زهور هذا الربيع وفواكهه - وقد أربت على خمس مرثيات وتسع قصائد وأغنيات رائعة نشأت كلها في خلال سنتين عكف فيهما الشاعر على وحيه الملهم وانتزع من اللغة أقصى ما يمكن أن تعطيه - ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى الأبيات الأولى من قصيدة واحدة تعد قمة هذه المرحلة وتاجها البديع، وهي قصيدة باطموس
Неизвестная страница