Зеленая лошадь умирает на асфальтовых улицах
الحصان الأخضر يموت على شوارع الأسفلت
Жанры
وتتأملها الأخرى قليلا قبل أن تتصعب على حالها بصوت عال : يا عيني عليكي انت يا حاجة ، طول النهار ماشية زي عفريت الضهرية، قادر يا اختي يشفي لك عقلك ويريحك من الدوخة دي!
وقد كان يمكن أن تمر الأمور على هذا النحو دون أن تحدث كارثة أو تخرب الدنيا بما فيها ومن فيها؛ فنحن جميعا - حتى النساء والأطفال - نكاد نقابلها كل يوم، ونكاد نتفق في الدعاء بأن يشفيها الله ويشفي مرضانا ومرضى المسلمين، ونحن حين نتحدث معها - جبرا للخاطر أو حبا في الاستطلاع أو أملا في أن يستجيب الله دعواتنا فيحضر الغائب ويظهر المستور - نكاد نشترك في العطف عليها والرثاء لها، حتى الذين يحاولون في بعض الأحيان أن يسخروا منها أو يداعبوها بلطف أو خشونة لا يختلفون في حبها، وافتقاد طلعتها والسؤال عنها إن غابت أو مرضت.
ذلك أننا كنا نعرف أن أحوالها مستورة والحمد لله، وأنها وإن كانت لا تطلب من أحد شيئا بل تسأل كل إنسان عن حاجته - حتى لقد كنا نخشى في بعض الأحيان أن تنسى وتمر على الكلاب والحمير والجاموس وتسألها السؤال نفسه؛ تجد هي مع ذلك دائما من يرعاها، بل لا نغالي إذا قلنا: إن البلد كلها ترعاها وتسأل عنها، صحيح أن أحدا لم يدخل بيتها أو على الأقل لم نسمع أن أحدا دخله؛ فهو كما سمعنا لا يزيد عن حجرة واحدة نراها تضع مفتاحا كبيرا في بابه حين تدخله وحين تخرج منه.
وصحيح أنها ترفض أن يعطيها أحد شيئا وتتعفف أن يتصدق عليها أحد بشيء؛ ولكنها من ناحية أخرى تمر على بعض بيوت جاراتها وتشاركهن في الخبيز أو العجين، أو تنقية القمح والأرز، أو عمل الكعك في الأفراح، وتحضير الصواني في المآتم؛ ولا بد أن الناس يعطونها شيئا فلا ترده، ولا بد أنها تبادر كل إنسان بسؤالها «عاوز حاجة» قبل أن يسألها إن كانت تحتاج لشيء.
ولو أن الحال استمرت على ذلك لبقي كل شيء على ما هو عليه، ولسارت الأمور على ما يرام حتى يغير الحال مغير الأحوال؛ ولكن حدث ذات يوم أن لقيت في جولتها امرأة تصرخ وتصيح، لم تكن تكتفي بالصراخ والصياح، بل كانت تعفر شعرها بالتراب، وتشد منديلا تكاد تمزقه فوق رأسها، وتلقي بنفسها على الأرض. لم يكن المشهد غريبا علينا ولا على المرأة المسكينة بالطبع، وكان يمكن أن تمر عليه صامتة، أو تدخل البيت الذي ينطلق منه الصراخ، فتعزي مع المعزيات، أو تشارك في مساعدة أهل الميت أو الميت نفسه، ولكنها - لسوء طالعها أو حسنه لا ندري - أقبلت على المرأة المفجوعة وربتت على كتفيها بحنان عظيم، وقالت في هدوء شديد: عاوزة حاجة يا حبيبتي؟ وإذا بالمرأة التي كانت تصرخ فتوقظ النائمين وتجلب التائهين، تمد يديها فجأة فتقبض على رقبتها بشدة وتهزها من صدرها وكتفيها في عنف: أيوه عاوزاه يا وش الشؤم، عاوزة راجلي وابو عيالي، عاوزة سبعي يا وش النحس، يالله امال ورينا، ليل ونهار عاوزة حاجة، عاوز حاجة، يالله امال، قولي لهم بقى يورونا!
وأسرعت النسوة من داخل البيت ليخلصنها منها، وأقبل بعض الرجال الذين كانوا يجلسون في مضيفة البيت، أو يعدون الكراسي والكنب والكلوبات أمامه، إلى انتشالها من قبضة الزوجة التي أوشكت على أن تخنقها أو تفترسها، وكان يمكن أن تمضي الحاجة في حال سبيلها وتتجه إلى مكان آخر، أو تعود إلى بيتها وتقصر الشر والسلام، ولا بد أن هذا هو ما نصحها به العاقلون والعاقلات من المعزين وأهل الميت؛ لولا أنها بقيت هادئة ثابتة كأن لم يحدث شيء، في عينيها نفس الحزن الوديع المستسلم، وعلى وجهها الصغير الشاحب نفس الطيبة والحنان والثبات. وسعت الطريق لنفسها وهي تقول: حاضر يا بنتي، حاضر، أقول لهم يا بنتي، أقول لهم يا اولادي، وسعوا يا اولادي، وسعوا يا اولاد سيبوهم يدخلوا عنده، إوعوا امال ليزعلوا منكو، يالله يا حبايبي تعالوا.
ولم يكن أحد يدري لمن تتحدث؛ ولكنهم لم يملكوا إلا إفساح الطريق لها وهم يرونها تحدث أشخاصا مجهولين، بل تمد ذراعيها إليهم كأنها تسحبهم إلى داخل البيت. سارت كأنها تعرف الطريق مقدما إلى الحجرة التي سجي فيها الميت، ولا أحد يدري كيف عرفت أن اسمه محمد؟ فراحت تخاطبه به، اقتربت من السرير النحاسي الذي مددوه عليه، ولم يستطع أحد أن يتدخل وهو يراها تزيح الملاءة البيضاء من على وجهه، وتمسح بيدها على شعره وجبينه، وتربت على صدغه، وتقول: عاوز حاجة يا محمد؟ عاوز حاجة يا حبيبي؟ قول يا ابني قول، قول لي على اللي في نفسك. أنا ها أقول لهم على كل شيء، قول وما يكونش عندك زعل، أولادك ومراتك في أمان الله إن شاء الله، حاضر يا حبيبي، حاضر يا ابني، كل اللي نفسك فيه يا عيني، أبدا أبدا يا حبيبي، كل اللي في نفسك يا ابني، حاضر، حاضر، حاضر، وقبل أن يفيق أحد إلى ما تفعل كانت قد ألقت برأسها الصغير على صدر الميت، وراحت تنشج نشيجا مفجوعا. ولم يعرف الحاضرون ماذا يفعلون إزاء بكائها المختنق وجسدها الذي يعلو ويهبط بشدة، وصيحتها المبحوحة التي لا تكاد تسمع وهي تردد: عاوز حاجة؟ عاوز حاجة؟ وبدأت النساء يربتن على ظهرها، وتحول العزاء كله إليها، وكاد الجميع ينسون الزوجة والأولاد، وراح الرجال ينصحون برش الماء على وجهها أو شدها بعيدا عن الميت، بل إن زوجة الميت قد نسيت حقدها الهائل عليها، وألقت بذراعيها حول صدرها، وراحت هي أيضا تهدئها، وتدعو الله أن يلطف بها ويرفع بلواها!
فات اليوم على خير، ولا بد أن تكون المرأة المسكينة قد بكت وعملت في نفسها ما تعمله كل مفجوعة في ميت عزيز، ولم يسأل أحد نفسه إن كانت قد فعلت ذلك مشاركة في العزاء؛ فالجميع يعلمون أنها لم تكن تعرف المرحوم، ولا دخلت بيته، ولا شربت فيه جرعة ماء! ولم يكن من الصعب أيضا أن نعلم أن ذلك أثار فيها ذكرى بعيدة لا يعرف الأطفال والشباب منا بوجه خاص أي شيء عنها؛ وإن كنا قد سمعنا من بعض عجائزنا بعد ذلك أنها تصورت ابنها «محمد» الذي مات في الغربة - ربما في أحد مستشفيات الصدر كما يؤكد البعض - من مدة طويلة، وقد يكون خيل إليها أنه مات في تلك الليلة لا قبل ذلك ، وربما يكون سؤالها الذي عرفناها به هو السؤال الذي كانت تلقيه عليه في ساعته الأخيرة، فلم يجب عليها بشيء، ولم تدر بعد ذلك كيف تتوقف عن إلقائه على كل مخلوق؟
كل هذه أشياء كنا نتكهن بها، أو نسمعها من شيوخنا ونسوتنا العجائز، أو من اجتهادنا عن غير علم، ولكننا علمنا بعد ذلك أنها قد مرضت مرضا شديدا، وأنها حين كانت تشفى قليلا منه أو يخيل إليها أنها شفيت تخرج من بيتها - إذ يسمعها الجيران وهي تغلق باب حجرتها أو يرونها أحيانا وهي تضع المفتاح الكبير فيه - فتمضي في طريقها إلى محطة السكك الحديدية في أطراف بلدتنا.
لم تعد توجه لأحد من أهل البلد سؤالها القديم، ولا عادت تكثرت بمداعبات الأطفال والبنات؛ بل ولا حتى بدعوات الفلاحين العائدين على ظهور الحمير من الحقول ومعهم نساؤهم وجاموسهم وكلابهم وأطفالهم.
Неизвестная страница