إذن أين يكمن الفرق فيما تتأثر به حياتنا وحياتهم؟ الفرق هو أن تصورنا نحن ليس نسبيا يختلف باختلاف الظروف، بل هو مطلق لا يتغير مهما تغيرت الظروف، فمن الناحية النظرية يستطيع أبناء الغرب أن يغيروا من السلوك المقبول إذا ثبت لهم أن السلوك الذي كان قائما وسائدا لم يعد يؤدي بصاحبه إلى نجاح في تحقيق أغراضه، في حين أننا نحن من الوجهة النظرية كذلك لا نغير من الصورة السلوكية المأمور بها، حتى لو لم يثبت نجاحها في ظروف استحدثت؛ لأننا في هذه الحالة نمد أبصارنا إلى الجزاء الحق فيما هو وراء هذا الواقع، حيث حياة الخلد وثوابها أو عقابها، وبهذا يصبح مرد الاختلاف بيننا وبينهم في هذا المجال هو علاقة المخلوق بخالقه، فبينما العربي لا يتردد لحظة في أن يجعلها علاقة آمر بمؤتمر ولا مجال للخلط بينهما؛ فالسماء سماء والأرض أرض، نرى هذه العلاقة عندهم مبهمة المعالم بعض الشيء، فكما كان الآلهة عند اليونان القدماء يعتلون قمم الأولمب، والناس تسعى هناك أسفل الجبل على السهول وفي الوديان، إلا أن ساكن القمة وساكن السهول والوديان قد يتلاقيان في حالات من الود أو من الغضب والعصيان، فإن ظلا خفيفا من هذا اللقاء بين الطرفين ما زال قائما في تصور المحدثين، مما يساعد على بعض التساهل في العلاقة بين الآمر والمطيع.
ذلك فيما يخص الموقف الأخلاقي عند العربي وما يتميز به، فالحق حق مطلق ولا نسبية فيه، والباطل باطل مطلق ولا خلاف عليه، وأما فيما يخص القيم الجمالية - أو قل معايير الجودة في الفن والأدب - فالموقف العربي هنا أيضا له ما يميزه مما له علاقة بالمطلق والنسبي أيضا، فبينما معيار الغرب هو الفردي الجزئي الذي من طبيعته أن يظهر ليختفي بعد ظهوره اختفاء بغير عودة، وتكون مهمة الفن هي الإمساك بذلك الإنسان، وذلك التثبيت لما هو زائل وعابر إنما يتحقق بتخليده في صورة من صور الفن والأدب، أقول: إنه بينما الموقف عند الغربي في إبداعه الفني والأدبي هو عشقه للفردي الجزئي في حيويته وحركته عشقا يدعوه إلى تخليده، نرى الأمر في موقف الفنان أو الأديب العربي ذا شأن آخر، ونحن هنا نتحدث عن تقاليد الفن والأدب كما دامت عبر العصور غير متجاهلين ما طرأ عليها من تغيرات في عصرنا، فالعربي ينشد الثبات والدوام والخلود، ويرى أن نقطة البدء في إبداع الفن والأدب ليست هي الفردي الجزئي في سرعة زواله وعبوره، بل هي «الفكرة» المجردة، ولذلك يجعل هدفه تصوير هذه «الفكرة» فنا وأدبا، ففي الرسم هو أميل إلى تصوير التخطيط الهندسي لما يرسمه، أي إنه يستخلص من الأشياء عناصر دوامها، وقد يقال - بل قيل بالفعل - إن الفن العربي تنقصه الحيوية والحركة، والرد على ذلك هو أن التخلص من الحيوية والحركة هدف في ذاته وصولا إلى ما وراءهما من ثبات المطلق الخالد، وهذه النزعة نفسها قد نلمسها في الإبداع الأدبي كذلك، فلم يكن تصوير الأفراد في تفصيلات حياتهم الاجتماعية غاية الأديب العربي، بل الأجدر بالعناية عنده هو أن يلتمس وراء تلك التفصيلات «مبدأ» يضعه في صورة «حكمة» نصائح في بيت من الشعر.
وفي مستطاعنا أن نرى العلاقة الوثيقة بين معايير العربي في فنه وفي أدبه من جهة وعقيدته الدينية من جهة أخرى، فهذه العقيدة التي جعلت رسالتها «التوحيد » وركنا أساسيا من بنيانها «اليوم الآخر»، من شأنها أن تميل بالمؤمن بها نحو إيثار الوحدة التي تجمع الأجزاء في كيان متصل، على التجزؤ الذي يفتت الواحد في كثرة، كما تميل به نحو إيثار الدوام على الزوال والثبات على التغير، وهي نظرة نراها تقع في صميم الهوية العربية، مما يستدعي ضرورة الحفاظ عليها وتنميتها بالتربية والتوعية والتعليم والتثقيف، مع الحرص الشديد على أن توضع الرغبة في توحيد المتفرقات، والرغبة الأخرى في إيثار الثبات على التغير، في الموضع الصحيح؛ لأن إساءة الفهم هنا قد تؤدي إلى جمود أولا فتخلف عن الركب الحضاري ثانيا، وليتذكر أن حديثنا هذا متعلق بالقيم الأخلاقية والجمالية كما تتجسد في صور حياتنا العملية وفي صور مبدعاتنا في الفن والأدب، ففي هذا المجال لا بد من التفرقة بين «الإطار» من جهة وتفصيلات «محتواه» من جهة أخرى، فإذا أردنا استمرارية تاريخية بين عربي اليوم وعربي الأمس فإنما يكون ذلك في المبدأ وليس في تفصيلات التطبيق، فالقيم الأخلاقية يجب أن تبقى اليوم على حالها بالأمس، وهي أن تكون مطلقة لا نسبية، إلا أن ذلك الإطلاق يتعلق بالصورة لا بحشوها، فالشجاعة اليوم قد لا تكون شجاعة المبارزة بالسيف بقدر ما تكون شجاعة في اقتحام الصعاب في سبيل الحق، والكرم قد لا يكون اليوم ذبحا للناقة من أجل ضيف عابر بقدر ما يكون في التكافل الاجتماعي المنظم، وكذلك قل في تعلق العربي في إبداعه الفني بالفكرة أكثر من تعلقه بمفرد واحد يجسدها، فمثل هذا الموقف يمكن الحفاظ عليه، دون أن يتحول الفن به إلى زخارف.
شيء كهذا هو ما رآه صاحبنا في حقيقة العربي الأصيل وقد تساءل: ماذا تكون الصفات المميزة لأبناء هذا العصر؟ وهل فيها ما يمنع أن يوضع فيها العربي موضعا يتناغم فيه مع سائر خلق الله دون أن يتنازل عن شيء من مقومات تاريخه وعناصر هويته ووجوده؟ لقد طرح صاحبنا هذا السؤال على نفسه وحاول أن يجيب.
نهاية الطريق «2»
لا يذكر صاحبنا متى قرأ رواية «دون كيخوته» لأول مرة، كلا ثم لا يذكر ما هو أهم من مجرد قراءتها؛ إذ لا يذكر أين ومتى ولمن من كبار النقاد، قرأ التعليقات النقدية على تلك الرواية، وإنه ليعلم أيقن العلم بأن الآيات الكبرى في عالم الأدب والفن تظل بالنسبة إلى كثير جدا من المثقفين - حتى الصفوة منهم - مزمومة الشفتين لا تنطق لتفصح عن سرها، إلى أن يتولاها كبار النقاد، وعندئذ فقط يظهر الدر الكامن في جوفها، ويسطع بالضوء ما كان معتما غامضا، فمن من جموع المثقفين على تفاوت درجاتهم، لم يسمع برواية «دون كيخوتة» لمؤلفها «سر فانتيز»؟ إن لم يكن قرأها كاملة أو مختصرة مبسطة كما تعرض أحيانا في كتب المطالعة بالمدارس؟ وهي رواية إذا نحن وقفنا عند سطحها الظاهر أضحكتنا - صغارا وكبارا على السواء - بغرابة بطلها «دون كيخوتة» ثم تقف الكثرة الغالبة من الرواية عند هذا الحد من متعة الضحك! بل ربما عجب كثيرون أن يكون وراء تلك البساطة الشديدة في شخصية «دون كيخوتة» شيء أكثر من التفكه، فهذا رجل قيل عنه إنه عاش إبان الشطر الأخير من القرون الوسطى، وقد أحب القراءة عن جماعة «الفرسان» الذين امتلأت بأخبارهم كتب التاريخ التي تروي أنباء ما كان قد مضى من قرون العصور الوسطى، حين كانت تقاليد الحياة التي تميزت بها تلك الفترة، مرعبة بكل حذافيرها، ومن أبرز معالم ذلك العهد جماعة «الفرسان»، فللفارس أعراف تميزه، منها: أن تكون له مغامرات حب عذري ومنها أن ينجد الضعيف أينما صادفه، وهكذا، ولما كان أداء هذه الواجبات التقليدية كثيرا ما يوقع صاحبها في معارك، كان من شأن الفارس أن يكون مجهزا بعدة الفروسية، من سيف ورمح وتحصينات بالدروع وتغطية الرأس بغطاء معدني وغير ذلك، وعن جماعة الفرسان هؤلاء قرأ «دون كيخوتة» حتى أشبعت نفسه بما قرأ، وحسب نفسه أحد هؤلاء الفرسان بعد أن تأخر به العهد قليلا عن عهودهم، ثم ما هو إلا أن أعد نفسه بكل ما يجعل من الفارس فارسا: الجواد المطهم بطريقة خاصة وعدة القتال، فلم ينقصه شيء من ملحقات الفروسية إلا شيئا واحدا، وهو أنه لم يكن فارسا! وبهذا الإعداد وما صاحبه من عجز انطلق «دون كيخوتة» تضلله الأوهام، فيرى أشباحا ويظنها أعداء فيهجم عليها بسيفه ورمحه، ومن أمثلة ذلك هذه الصورة التي نعرفها عنه لشيوع ذكرها، وأعني محاربته لما قد رآه في طريقه من طواحين الهواء، حاسبا أنها جماعة من الأشرار تتربص للأبرياء بالأذى.
إلى هنا وينتهي السطح البسيط من الرواية، لكن جانب العظمة الأدبية فيها، مما يكشف لك عن الغطاء كبار النقاد، هو طريقتها الرمزية في تصوير عصرها تصويرا يعمق بك حتى تصل إلى الجذور، وعصره - كما ذكرنا - هو الفترة التي لا هي لحقت بزمن القوة في القرون الوسطى، عندما كان الفرسان فرسانا، ولا هي نعمت ببواكير النهضة الأوروبية.
وفي تلك الفترة التي توسطت بين نوع من القوة مضى، ونوع آخر من القوة في سبيله إلى الظهور، عاش «دون كيخوتة» ليس له من مجد ماضيه المتمثل عنده فروسية الفرسان، إلا أشباح من أحلام واهمة، ولا عنده مما سوف تتمخض عنه النهضة الأوروبية بعد قليل بشيء من العلم، فماذا كان يملك على وجه الحقيقة إذن؟ كل ما عنده من ذلك أكداس من جمل وكلمات وحروف طالعها في الكتب التي قرأها عن فرسان العصر الذي سبقه، وهي أكداس لم تستطع - وما كان لها أن تستطيع - صناعة فارس من ركام جسمه الهزيل وعقله المريض، وذلك أهون الشرين، وأما الشر الثاني فهو أن تلك الأكداس المخزونة في حافظته من جمل وكلمات وحروف قد حجبت عنه الرؤية المستقبلية لما هو آت إلى الناس بعد قليل، إنه رجل ليس دم الحياة هو ما يجري في عروقه، بل الذي يجري فيها مداد تشربه من مخزون الجمل والكلمات والحروف التي طالعها، ثم طالعها حتى انتهى به إدمانه لمطالعتها إلى أن تحول كيانه البشري ليصبح مسخا ركب من حروف.
ولا تنحصر هذه الصورة المحزنة لحقيقة «دون كيخوتة» عليه وعلى الفترة التي جعلته الرواية رمزا لها، بل هي صورة تصدق على كل مرحلة تاريخية تتوسط بين عصرين، كل منهما له ضرب من القوة، فعجزت تلك الفترة الانتقالية عن تمثل الماضي في قوته لتصبح امتدادا له، كما عجزت عن تقبل السبل التي تمكنها من الانتقال إلى العصر الجديد.
صورة كهذه أخذت تراود صاحبنا خشية أن يكون فيها ما يصدق على طراز من المثقفين العرب في يومنا هذا، قد يعد أفراده بمئات الألوف، ولو صح هذا لجاز لنا القول بأن عبئا ثقيلا ترزح تحته حركة التقدم، فتبطئ الخطى على نحو ما نرى، فهؤلاء المئات من الألوف هم بمثابة «دون كيخوتة» ضرب وجوده في هذا العدد الضخم، ممن يحيون حياتهم بعروق أفرغت من دمائها لتمتلئ بمداد جمل وكلمات وحروف جمعوها من مطالعات تكررت ألف مرة حتى حفظت حفظا، لتعود فتتدفق كلما حانت فرصة لمقالات تنشر أو أحاديث تذاع، فلا هي جاءتنا بحيويتها التي كانت لها في شباب حياتها، ولا هي طوعت في دلالاتها لتبقى نصوصها مع ربطها بظروف الحياة الجديدة لعلها تتحول في صدور من يتلقونها من كونها «لفظية» لتصبح ذا أثر دفع الناس إلى الحركة مع تيار الحياة في جريانه.
Неизвестная страница