ويسهر الخلق جراها ويختصم
ووضوح الفكرة عند صاحبنا قائم على وضوح المبدأ: فعملية الإبداع قناتها عند صاحبها هي قناة الإدراك الوجداني المباشر حتى تطلب الإبداع أن يقوم المبدع بجهد عقلي علمي يبذله في تحصيل ما أنتجه العلم بشتى فروعه ليستعين بها في عمليته الإبداعية، كما قد يدرس الشاعر علوم اللغة ويدرس المصور علم الضوء، لكن هذا الجانب العلمي المحصل، لن يكون هو العمل المبدع، بل هو قوة تضاف إلى موهبة المبدع لتعلو به في درجات فنه الذي يبدع في مجاله، وأما نقد الناقد لما يتجه نحوه من آثار المبدعين فشيء آخر، إذ العلاقة بين الناقد وما يهم بنقده شبيهة أقرب الشبه بالعلاقة بين العالم الطبيعي والظاهرة التي يهم بتحليلها واستخراج قوانينها، وافرض أن الأثر المنقود قصيدة من الشعر، فالذي يحدث هو أن الناقد - من حيث هو إنسان قارئ قبل أن يكون ناقدا - يقرأ القصيدة كما يقرؤها آخرون، وقد تثير فيه ما تثيره من مشاعر، وهنا ربما اختار لنفسه أن يكتفي بما قرأ وما شعر كما يفعل كثيرون غيره، وعندئذ لا يولد شيء اسمه «نقد»، ولكنه كذلك قد يهم بتسجيل ما عن له من تعليقات على القصيدة يبرر بها شعوره الذي أحسه حيالها، ثم يحزم أمره ويكتب، لتنشر كتابته على القراء، وها هنا يولد «نقد» أدبي تتفاوت درجاته بتفاوت قدرات الناقدين، وماذا تكون طبيعة تلك القدرات على وجه الدقة والتحديد؟ جواب ذلك لا ينبغي أن يكون إشارة إلى «ذوق» أو «تذوق»؛ لأن مرحلة الذوق والتذوق - على ضرورتها الحتمية - قد انتهى أمرها مع مرحلة القراءة الأولى؛ إذ أنه لولا أن القارئ عندئذ قد ذاق وتذوق لما كتب شيئا عما قرأ، إذن ماذا تكون طبيعة العملية النقدية؟ إنها يقينا عملية علمية تحليلية، تستهدف «تعليل» (وأرجوك الوقوف برهة عند كلمة «تعليل» هذه) تعليل المشاعر التي صاحبت الذوق والتذوق، و«التعليل» معناه رد هذه المشاعر الذوقية إلى مثيراتها مما ورد في القصيدة أيا كان نوعه، والتحليل وما يقام عليه من تعليل، هو جزء من صلب العملية العقلية المستخدمة في العمل العلمي على اختلاف ميادينه.
ومع ذلك فليس ثمة من حرج على من شاء - واستطاع - أن يبدع أدبا استلهاما لأدب آخر، بمعنى أن يقرأ قارئ قصيدة للبحتري - مثلا - فينشئ عنها كلاما هو في ذاته يحمل طابع الإبداع الأدبي، لكون قائله قد جسد ذاته في كتابته، حتى أصبحنا أمام أثرين من آثار الإبداع الأدبي: قصيدة البحتري أولا، وما أثارته القصيدة عند أديب آخر فكتب بدوره أدبا، وهناك بالفعل أمثلة كثيرة لمثل هذا الأدب الذي يقام على أدب، وقد جرى العرف على أن يدرج الأديب المنفعل بأدب غيره، في زمرة «نقاد» الأدب، وعندئذ يقال عن نقده إنه نقد انطباعي، أو ذوقي، وذلك كله جائز ومقبول، شريطة أن نكون بيننا وبين أنفسنا على بينة بحقيقة الموقف، وتلك الحقيقة هي أن مثل هذه الحالة أقرب إلى أن يقال عنها إنها انطباع بديع (أو مبدع) أحدثته قراءة المنطبع لما أبدعه أديب آخر، أقول إنها حالة أقرب إلى هذا التوصيف منها إلى «النقد الأدبي» بمعناه الأدق، ويكفي في هذا الصدد أن نلفت النظر إلى أن الانطباعات الأدبية التي يراد لها أن تعد «نقدا» لا تصلح بطبيعتها أن تكون موضوعا للمناقشة؛ لأنها لم تضع نفسها في مجال «الفكر» الذي هو وحده القابل لاختلاف الرأي، وإقامة الحجة أو دحضها، وماذا أنت قائل لمتيم ولهان أجرى وجيب قلبه على الورق؟ إنه عاشق كسائر العاشقين، فهل من سبيل إلى منطق يقيم حجة أو يهدم حجة مع المحبين ؟ وما كذلك الحال في نقد يحلل لكي يعلل، فها هنا ينفسح المجال العلمي للأخذ والرد بين مختلف الباحثين.
وفي إطار التحليل من أجل التعليل - الذي هو صميم العملية النقدية بمعناها الأقوم والأنفع - يمكن أن تعدد المذاهب النقدية بتعدد الأهداف التي يختارها القائمون على النقد لتكون موضوعا للتحليل أولا فالتعليل ثانيا (وأعني تعليل الشعور بالرضا أو بعدم الرضا أثناء قراءة القطعة الأدبية قراءة أولى) فهناك من يستهدف سيكولوجية المبدع كما تشف عنها آثاره المبدعة، وهناك من يبحث عن الحالة الاجتماعية التي انعكست في الآثار المبدعة، وهكذا، وفي جميع هذه الحالات يكون الهدف المستهدف من الناقد هو نفسه ميزانه في الحكم بدرجة الجودة الفنية فيما ينقده، فإذا استهدف سيكولوجية المبدع من وراء إبداعه كان معيار الجودة الفنية هو مدى قدرة القطعة المنقودة على فعل ذلك، أو استهدف الحالة الاجتماعية كيف كانت في لحظة الإبداع، كان معيار الجودة الفنية هو قدرة الأثر المنقود على أن يشف عما وراءه في هذا السبيل.
على أن بين مذاهب النقاد مذهبا يستحق أن ينفرد بوقفة قصيرة؛ لأنه - واعجباه - هو ما يطلق عليه في عصرنا هذا ب «النقد الجديد»، وهو في الوقت نفسه ما نراه سائدا عند نقاد العرب الأولين، وأعني به أن تنصب الفاعلية النقدية (ومحورها تحليل وتعليل) على النص المنقود ذاته، لا لكي تستشف منه نفسية مبدعه، ولا لنستدل منه المحيط الاجتماعي الذي أحاط بذلك المبدع، بل تنصب تلك الفاعلية على البناء اللفظي الذي بين أيدينا، لنرى كيف ركبت أجزاؤه تركيبا أدى إلى ما قد شعرنا به أثناء القراءة من حالات ذوقية، فكان موضوع الناقد على هذا المذهب هو «العمارة» اللغوية كيف أقيمت لتكون على ما هي عليه من قوة التأثير في ساكنيها، وساكنوها هم من يقرءونها فيتسللون بتلك القراءة إلى مداخلها ومخارجها وشرفاتها وأبهائها، وإذا سئل صاحبنا: وما موقفك أنت من هذه المذاهب النقدية؟ أجاب بأنها تتكامل ولا تتعارض، وأن الدارس ليزداد غوصا في حقيقة الأثر الفني كلما كثرت الزوايا التي ينظر إليه منها، إلا أنه - أي صاحبنا - يجعل لهذا المذهب الأخير - ولنطلق عليه المذهب الشكلي، أي الذي يعنى بالجانب المعماري من العمل الفني - أولوية على جميع المذاهب الأخرى؛ لأن كل واحد من هذه المذاهب الأخرى يجعل الأدب أو الفن كله بصفة عامة وسيلة لغاية وراءه أهم منه، فإذا أراد الناقد أن يستشف من الأدب نفسية المبدع، كان «علم النفس» مخدوما من حيث هو غاية، وإذا أراد الناقد أن ينفذ خلال الأدب المنقود إلى صورة الحياة الاجتماعية في لحظة الإبداع، كان «علم الاجتماع» هو في نهاية المطاف موضع الاهتمام، وأما النقد الذي ينصب على العمارة الفنية ذاتها كيف أقيمت وكيف ترابطت أجزاؤها، فالأدب ذاته هو الوسيلة وهو الغاية في آن معا.
هكذا نلحظ تحالفا وثيق الصلات، بين فاعلية العقل في خطواته المنطقية، من جهة، ونبضات الوجدان بما يستكن في ضمير الإنسان من إيمان وعقيدة، ومن شعور وعاطفة، فالجانبان مستقل أحدهما عن الآخر في طبيعته ووسيلته، ولكنهما كذلك متناصران يشتركان معا في أهم ما يهم الإنسان من أوجه النشاط الفردي والجماعي، كل بطريقته وبدوره الذي يؤديه، ولا يعني ذلك ألا تكون هناك حالات كثيرة في حياة كثير جدا من الناس فرادى ومجتمعين على سواء، يتعارض فيها الجانبان فيطغى عقل على عاطفة ليمحوها - تلك أقل الحالات حدوثا - أو تطغى فيها عاطفة على عقل فتمحوه، وذلك هو الأغلب إذا ما اختل التآلف بين الجانبين، ولقد عرضنا عليك فيما أسلفناه خيوطا فكرية ثلاثة، لازمت صاحبنا إبان الخمسينيات، قبل أن تلتقي الخيوط كلها في رقعة واحدة، وكانت الخيوط الثلاثة التي عرضناها هي علمية النظرة وأهميتها، وإقامة الفواصل الفارقة بين أوجه الحياة الثقافية الواحدة ومختلف مقوماتها، والعلاقة بين عالم الفن بما فيه الفن الأدبي ونقد الفن والأدب، وفي كل قسم من هذه الأقسام، يظهر لنا التحليل تعاونا وثيقا بين جانبي العقل والوجدان، مع استقلالية كل منهما بطبيعته وطريقته في الأداء وذلك - بالطبع - إذا ما كانت الحياة الثقافية سوية متوازنة العناصر، تؤمن عاقلة، وتعقل مؤمنة.
وننتقل بك الآن إلى خيط رابع هو موقف صاحبنا من الماضي وعلاقته بالحاضر، وذلك في مجال النشاط الثقافي إبداعا وممارسة، وحقيقة الأمر في هذا، هو أن صاحبنا كانت له وقفة أولى فيما قبل منتصف الخمسينيات، ووقفة ثانية بعد ذلك، ظاهر الأمر فيهما أنه قد صحح نفسه، ولكن باطن الأمر فيما يؤكد صاحبنا عن نفسه، أن ما قد تغير هو النبرة دون الأهداف، فالغاية التي يتغياها في الحالتين واحدة، وهي أن تنهض الأمة العربية من غيبوبة فقرها وجهلها وضعفها وتفككها، إلى صحوة فيها القوة والعلم والثراء والتوحد، ففيما قبل منتصف الخمسينيات أخذ عن عمد وإصرار، يبرز وجوب الأخذ بما أخذ به الغرب حتى ساد الدنيا بعلمه وصناعته وقوته، وأما بعد ذلك التاريخ فقد اتجه برجحان أكبر نحو إبراز الصيغة الثقافية المطلوبة إذا ما تحققت للأمة العربية نهضتها، وهي صيغة لا بد لها أن تحرص على مقومات الهوية العربية كما عرفها التاريخ والريادة للعربي، على أن تدمج في تلك المقومات صفات تقتضيها حضارة هذا العصر، إذ هي حضارة تميزت من سابقاتها بسيادة العلوم الطبيعية وتقنياتها في المقام الأول.
ولم تكن الدعوة إلى وقفة تجمع بين ماضينا الثقافي وحاضر الدنيا في آن معا، تعني إغراق الخصوصية العربية في بحر الغرب، فالفرق واضح بين مشاركة العربي مشاركة إيجابية في بناء عصره - وفي تقويمه أيضا - وبين أن يمحو العربي عروبته، فإذا قلنا اختصارا: إن حضارة عصرنا كما هي قائمة عند بناتها في الغرب، تقوم على ركيزتين بالعلم في صورته التقنية (التكنولوجيا) من ناحية، والأخلاق الدائرة حول محور المنفعة، من ناحية ثانية، فإن العربي الجديد مدعو للأخذ بالركيزة الأولى بلا تحفظ ولا حذر، وللحفاظ - في الوقت نفسه - على موقفه الأخلاقي الأصيل، الذي هو موقف يدير الأخلاق على ما «يجب» فعله، إما التزاما بما يمليه عليه الدين إذا كان هنالك ما يمليه بالنسبة إلى الظروف المعينة التي يجد نفسه فيها، وإما التزاما بما يوجبه التكافل الاجتماعي كما يقرره أصحاب الرأي الراجح في الأمة، إذا لم يكن في شرع الدين توجيه يتصل بالمشكلة القائمة، وهذا الالتزام في حالتيه، بغض النظر عن «المنفعة» كما يريدها الغرب في نظرته، أي أن تكون منفعة تقاس بالسلع المنتجة أو بالمال المكتسب، وربما كان أقرب إلى الصواب، أن نقول: إن المطلوب من العربي الجديد في مشاركته البناءة لعصره، أن يوسع من معنى «المنفعة» التي هي ثانية الركيزتين في هيكل الحضارة القائمة، بحيث تشمل الجوانب النفسية للإنسان، من حيث هو إنسان يحيا وجدانه الديني العاطفي، مع حياته المنتجة في معامل العلم وأروقة المصانع.
وبهذا التصور للعربي الجديد، ننظر إلى ماضينا الثقافي كما هو مرسوم فيما ورثناه عن السلف، فنجد طريق السير واضحا؛ فأولا، وقبل كل شيء آخر: يجب أن يكون واضحا بأن التنكر للماضي في جملته إنما هو من تخليط المجانين، فلا تعرف الدنيا إنسانا واحدا يستطيع التنكر لماضيه حتى إذا أراد ذلك، فهو مضطر أن يتكلم لغة هبطت إليه من ذلك الماضي، ويعتقد في دين نقل إليه عن مصادره جيلا يأخذ عن جيل، ويكتب بطريقة يتعلمها ولم يكن هو صانعها، ويبني أسرته مما يسودها من علاقات داخلية بين أفرادها على أسس تكونت وتطورت قبل أن يولد، وهكذا إذن فلنصم آذاننا عما يقال عن إدارة ظهورنا للماضي على هذه الصورة الرعناء، وثانيا: تجيء نظرة مضادة يريد لنا أصحابها أن نحيط بكل ما ورثناه بهالات التقديس، وهي نظرة إن تكن أقل جنونا من سابقتها، فهي تظل مع ذلك في دائرة الجنون؛ لأن الله سبحانه وتعالى حين خلقنا في زماننا هذا لم يخلقنا عبثا، مكتفيا منا بأن نحاكي نموذج أسلافنا دون أن نضيف ما يثبت وجودنا، وثالثا: من المقدمتين السابقتين تلزم نتيجة هادية، وهي أن نأخذ من ماضينا ما يخدم حاضرنا؛ فلا هو إنكار له، ولا هو تقديس، بل الأمر أمر حياة لا بد لها من مواجهة ظروفها الراهنة، ثم لا بد لها في الوقت نفسه أن تجعل نفسها حلقة في سلسلة الحلقات التي هي تاريخها، وإلا حكمت على نفسها، بأن تكون حاضرا لقيطا مجهول الأبوين، وبهذا اللقاء بين «عاطفة» الانتماء من جهة ، و«عقلانية» المواجهة لمشكلات العصر، نشأ لصاحبنا خيط فكري رابع.
رؤية موحدة «1»
Неизвестная страница