وهذه الفردانية المطلقة التي نزعمها «للحالة» التي يهم الأديب بنقلها، تقتضي أن يجيء التعبير عنها منفردا فردانية مطلقة كذلك، فالمثل الأعلى الذي نتوقعه، من الأثر الفني أيا كان نوعه، هو أن تجيء بلا مثيل في كل ما أنتجه بشر، فيأتي اللفظ - في الأدب - وكأنه مستخدم في صورة جديدة ، والصورة الأدبية لا بد أن تكون مبدعة غير مسبوقة عند أديب آخر، وهكذا الأمر في كل تفصيلة من تفصيلات البناء الأدبي، وهذا الإبداع لما هو جديد غير مسبوق، لا ينفي أن يقوم إلى جانبه «جديد» من نوع آخر، وهو تلك الروح التي تشمل جميع المبدعين في العصر الواحد المعين، بحيث يتميز كل عصر بما يميزه في عصور التاريخ الأدبي.
وأود أن أختم حديثي هذا عن «الأدب» وما يتميز به من ملامح وسمات، دون سائر ضروب الكتابة الأخرى، بكلمة أحدد فيها للقارئ عن «المقالة» متى تكون أدبا ومتى لا تكون، فقد لا يصعب على القارئ أن يتبين خصائص «الأدب» في الشعر، وفي المسرحية، وفي الرواية، وفي القصة لكنه كثيرا جدا ما يلتبس عليه الأمر، إذا ما كان المعروض بين يديه ذلك الضرب من الكتابة الذي يسمونه «مقالة»، فآنا ترى من يجعل كل مقالة «أدبا» مهما كان موضوعها، ومهما كانت صورتها، وآنا آخر ترى من يخرج «المقالة» من دنيا الإبداع إخراجا يباعد بينها وبين أن يكون لها بالأدب نسبة ولا صلة، وآنا ثالثا ترى من يجيز إطلاق اسم «الأدب» على «المقالة» وكأنه يفعل ذلك تصدقا وتفضلا.
وحقيقة الأمر في «المقالة» حين تعد «أدبا» وحين لا يتوافر لها ما تستحق به أن تكون «أدبا» هي حقيقة واضحة، ف «المقالة» التي يراد لها أن تكون أدبا من الأدب، لا حق لأحد أن يعفيها من شروط «الأدب» الأساسية، وهي الشروط التي أسلفنا لك بعضها؛ فأولا: يجب أن يكون موضوعها وهدفها هو بيان «الإنسان» في جانب من جوانب طبيعته، على ألا يجيء ذلك بطريقة «العلوم الإنسانية»، بل لا بد أن يجيء بطريقة الإبداع الأدبي، ما دام كاتبها قد أراد لها ذلك.
وطريقة الإبداع الأدبي - كما أسلفنا القول - تختلف أساسا عن طريقة «العلوم» في أن البحث العلمي من شأنه أن يسقط من حسابه خصائص «التفريد»، أي الخصائص التي تجعل من الموقف المعين، أو من الإنسان المعين، كائنا مفردا وفريدا، يختلف بخصائصه عن كل ما عداه أو من عداه من سائر المواقف أو من سائر الأفراد، نعم إن «العلم» من شأنه أن يطرح من حسابه كل ما هو «خاص» بحثا عما هو عام وشامل للنوع كله، في حين يتجه «الأدب» اتجاها مضادا، فيبقى بين يديه ما يخصص الموقف المعين أو الفرد المعين، مسقطا من حسابه التعميمات المجردة الشاملة؛ وعلى هذا ف «المقالة» تكون «أدبا» إذا تركت قارئها بانطباع فيه خصائص التمييز والتفريد، ولا تكون من الأدب، إذا شابهت في طريقة عرضها طريقة البحث العلمي، بمعنى أن تعرض نفسها في فقرات، كل فقرة منها بمثابة المقدمة المنطقية التي يتولد فيها ما يليها.
وربما يكون تصويرنا للفرق بين الحالتين أوضح إذا قلنا: إنه بينما المقالة غير الأدبية تكون في تتابع أجزائها، كدرجات السلم التي تصعد بالصاعد من أرض المبنى إلى سقفه، وها هنا لا بد لكل درجة من سابقتها ليتمكن الصاعد من الصعود، نرى المقالة التي هي «أدب» تلجأ إلى طريقة أخرى للوصول إلى هدفها، إذ تعرض خطوطها، وكأن كل خط وحدة قائمة بذاتها، إلا أنها تحرص على أن تتلاقى جميع تلك الخطوط المستقلة، عند نقطة واحدة، هي النقطة التي أراد كاتب المقالة الأدبية أن يوصلها إلى القارئ.
ذلك - إذن - هو شرط من شروط «المقالة» حين تكون «أدبا»، وأما الشرط الثاني، فهو أنها - شأنها في ذلك شان كل صورة أدبية أخرى - يجب أن تنصب في «شكل» يدبره لها كاتبها، أعني أنها يجب أن يقام لها «فورم» ينظم على أساسه تتابع تلك الخطوط المستقلة التي ذكرناها، فليس في عالم الفن كله - أدبا وغير أدب من موسيقى وتصوير ونحت وعمارة - فن واحد لا يتوافر فيه «الشكل» أو «الفورم» أو خطة الترابط الذي يربط الأجزاء بعضها ببعض، وفيما يختص ب «المقالة» فإنها حين لا يراد لها أن تكون أدبا، لا يتقيد فيها تتابع الأجزاء إلا بالرابطة المنطقية وحدها التي تجعل السابق مقدمة تستلزم التالي، وأما حين يراد «للمقالة» أن تكون قطعة من أدب، فيلزم اللجوء إلى «شكل» يوصل المضمون إلى المتلقي بطريق غير مباشر، حتى لكأن ذلك المضمون أقرب إلى «حالة» منه إلى «فكرة»، وإذا نجح الكاتب في بث «حالة» نفسية معينة في قلب المتلقي، نجح كذلك في أن يودع فيه حوافز العمل نحو التغيير.
وغني عن البيان أن تجيء «المقالة» الأدبية - كأي أدب آخر - حاملة في سطورها شخصية كاتبها، حتى ليقرأ له القارئ فيحس كأنه يراه أمامه متحدثا، فبينما «العلم» يستهدف موضوعية عارية مجردة تخفي قسمات الباحث العلمي، فلا يعرف القارئ أجاء من بلاد الغرب أم جاء من بلاد الشرق يستهدف الأدب «ذاتية» متميزة السمات، فإذا قرأت قلت هذا فلان.
إنها صلات وفواصل تتقارب بها نواتج الفكر والفن وتتباعد، وأولى درجات «الوضوح» أن نكون على بينة بما يصل وما يفصل، وبقدر ما استطعناه من هذا التمييز تكون الهداية في تسديد الخطى نحو الأهداف.
المطبوعة الزرقاء «3»
قال لي صاحبي: كنت في العشرين من سنوات عمري، عندما علمت مصادفة، بأن هنالك في حي عابدين بالقاهرة، معرضا أقامته وزارة الصحة، عرضت فيه ضروبا مختلفة من التصوير والتجسيد، تبين للناس كيف ركب جسم الإنسان، وكيف تتسلل إليه جراثيم المرض، وكيف تكون الوقاية، فذهبت لأرى، وهناك وجدت عند المدخل صفا من أنابيب زجاجية، كانت هي أول ما يراه الزائر، وهي أنابيب تتدرج ارتفاعا وحجما، وتبدأ بأنبوبة ضخمة، لا تناسب بينها وبين ما يليها في صف الأنابيب، امتلأت ماء، ثم جاءت جارتها الصغيرات، لتحتوي كل منها على قطع صغيرة من مادة ما، فواحدة فيها قطع من حديد، وثانية فيها قطع من الفحم، وثالثة فيها قطع من كلسيوم، وهكذا، وعلقت فوق صف الأنابيب ورقة كتب عليها عبارة كهذه: «بهذه المواد، وبهذه النسب بينها، يتركب الإنسان.» وإني لأذكر جيدا، كيف أطلت الوقوف لأشهد وأتأمل، مع ابتسامة ساخرة على الشفتين، أوشكت أن تنفجر في ضحك مسموع، كأنما أردت أن أقول: أهذا - إذن - هو الإنسان المغرور؟ فعظمه ماء، وأضيف الماء إلى هذه الأحجام من مواد، إذا جمعت كلها بيعت في السوق بنصف قرش، هذا إذا وجدت لها بائعا أو شاريا؟ لكن أذكر جيدا كذلك، أني لم ألبث إلا لحظة طائرة، حتى أفقت إلى نفسي أصيح: لا، لا ، ليس هذا هو الإنسان، إن هذه المواد الرخيصة لن تكون ما عرفه الكون من كائنات، فالخطأ هنا، أفحش الخطأ، أن يسوى بين العناصر فرادى ومجتمعة، إن قصيدة الشعر ليست هي كومة الألفاظ التي ركبت منها، ولوحة الفنان ليست هي كومة الألوان والخطوط التي فيها، إن «الواحد» هنا ليس متكثرا في أجزائه، بل تبدأ حقيقته وهو «واحد»، وهذه الواحدية لا تتحقق إلا وهو في كيانه المتكامل، وعندئذ فقط يكون الإنسان إنسانا، حتى وهو جنين لم يولد بعد.
Неизвестная страница