حمل صاحبنا - إذن - قلم «الأديب» ليصور ثورة نفسه على ما كان قد خبره في وطنه من روح التسلط والتعالي والظلم والخنوع والنفاق، وغير ذلك من الصفات التي يختفي منها كثير إذا ما نشأ المواطنون نشأة تبث فيهم الشعور بكرامة الإنسان من حيث هو إنسان، بغض النظر عن فقره وغناه، وضعفه وقوته، وما شئت من أوضاع اجتماعية تتبع ضروب العمل المختلفة، وأعجب العجب أن تسري في مجتمعنا هذه الأخلاق ولا يراها الناس، أو هم يتصرفون إزاءها وكأنهم لا يرونها، فلا المتسلط يرى في تسلطه شذوذا عن السواء، ولا الخانع أمام المتسلط يشعر بأنه قد أهدر آدميته بخنوعه وخضوعه لإنسان من البشر، نعم، أخذ صاحبنا ينشئ مقالاته «الأدبية» في غربته، ويرسلها إلى القاهرة؛ فتنشر وتحدث الصدى، فلكي يصور استعلاء بعضنا على بعض، بحيث إذا ظفر أحد منا على مقدار ذرة من قوة أو ثراء أو نسب أو ما شئت، تفنن في ابتكار الوسائل التي يتعالى بها على من دونه حتى ليطمس له حقوقه المشروعة من حيث هو إنسان ذو حقوق لا يضيعها حرمانه من أسباب القوة والسلطان، ومع ذلك فالشعب يلقن في الصباح وفي المساء بأنه قد بلغ من إنسانية الإنسان ما لم يبلغه شعب آخر ممن أعمتهم المادة والفساد! أقول إن صاحبنا لكي يصور تلك المفارقات، كتب ذات مرة يقول: «وأما جنتي فهي أحلام نسجتها على مر الأعوام عريشة ظليلة، تهب علينا النسائم عليلة بليلة، فإذا خطوت عنها خطوة إلى يمين أو شمال، أو إلى أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها، الكاوية، عدت إلى جنتي، أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم، تغفو عيناه فيتوهم أن بغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو، لينعم في غفوته بحلاوة غفلته ...» ثم يأخذ صاحبنا في تصوير نماذج من تعامل الناس أعلاهم مع أسفلهم، وفي صورة تقطر مرارة، أجرى مقارنة ساخرة بين قيمة الإنسان في مجتمعنا، وقيمته في مجتمع الغرباء الذي وجده في الغربة، كتب يقول: «... وجدت الناس هنا (أي في مجتمع الغرباء) لا يؤمنون بأن الليل لا ينبغي له أن يسبق النهار، ولا الشمس أن تدرك القمر، وأن كلا في فلك يسبحون، فهم يريدون لأجرام السماء كلها أن تسبح في فلك واحد، ثم تختلف بعد ذلك أوضاعها وأشكالها ما شاءت أن تختلف، وذلك الفلك الواحد عندهم هو صفة «الإنسانية» التي تجعل الإنسان شيئا غير الكلب والحمار، فكن عندهم فقيرا ما شئت، أو كن عندهم غنيا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم ضعيفا ما شئت، أو كن عندهم قويا ما شئت، لكنك «إنسان»، كن عندهم زارعا، أو صانعا، فأنت «إنسان»، كن عندهم خادما أو مخدوما، وأنت في كلتا الحالتين «إنسان»، كأنهم جماعة من النمل، لا تختلف فيها نملة عن نملة، وأقارن فوضاهم هذه بالنظام في جنتي، فأحمد الله على سلامتي، أرادت زوجتي في جنتي، أن تستخدم خادمة فسألتها: اسمك ماذا؟» - بثينة يا سيدي.
لكن زوجتي كانت بثينة كذلك، فأبى عليها حب النظام إلا أن تفرق بين الأسماء؛ حتى لا يختلط خادم بمخدوم، وقالت في نبرة كلها مرارة، ونظرة تشع منها الحرارة: ستكونين منذ اليوم زينب، أتفهمين؟ - حاضر، سيدتي.
وبثينة بالطبع لم تفهم لماذا تكون منذ اليوم زينب؛ لأنها جاهلة صغيرة، لم تفهم بعد ما الفضيلة وما الرذيلة ...
كان صاحبنا يحمل معه ذكريات كثيرة عن الحياة الاجتماعية في وطنه، وهي ذكريات كانت مزيجا مما يدعو إلى الحب والفخر، وما يدعو إلى السخط والغضب، لكن الكاتب في موقفه من حقائق الحياة كما يراها، يشبه الطبيب في موقفه من مريضه، فالمريض ليس مرضا كله، بل هو جمع بين مرض وصحة، إلا أن الطبيب إنما جاء ليستخرج مواضع العلة، لتكون هي مشغلته لعله يكون وسيلة لشفاء مريضه، وكذلك الكاتب، إذا هو ركز انتباهه على جوانب القوة من حياة قومه مرة، فهو يركزه على جوانب الضعف مرات، لعله يستطيع أن يلفت إليها الأنظار فيصيبها إصلاح، وعلى هذا الأساس كان صاحبنا، وهو في غربته، يجد الأحداث والمواقف التي تجري حوله هناك - وكانت الحرب العالمية في لهب سعيرها - أقرب إلى أن تثير في نفسه ذكريات الخلل في حياة أهله، منها إلى إثارة الذكريات الجميلة الدافئة، ومن أبرز الصور التي كانت تعاوده حينا بعد حين، صورة الرئيس المستبد الوقح، الذي ينتهز فرصة الشعور بالضعف والحاجة عند من هم في قبضته، ولم تكن «الرياسة تقتصر» عنده على رياسات الدواوين وما إليها، بل هي تجاوز ذلك لتشمل كل ذي سلطان، وكثيرا ما كان صاحبنا يذكر رأيه لأصدقائه وقرائه، بأن الإسراف في قيمة «السلطة» عند مواطنيه، هو العلة الأولى في حياتهم، ولو استطعنا أن نقلقل حب التسلط لننزل من ذروته في سلم القيم عندنا لانزاح عن صدورنا كابوس ثقيل، إذ يضيع من جهودنا في نشر الحرية، والعدالة، والديمقراطية إلخ جزء كبير، يذهب هباء ما دامت قيمة «التسلط» تتربع على عرشها بين القيم، ومن هنا وجه صاحبنا قلم الأديب الذي خصص له سويعات من وقته هناك، ليكتب ما يرسله لينشر في مصر، نحو «التسلط» يصوره في بشاعته لعله يثير شيئا من سخط قارئه، وكان ذلك الجهد الأدبي المبذول، في وسط الأربعينيات من أعوام هذا القرن، ولم يكن قد بقي على موعد الثورة سنة 1952 إلا فترة تقل عن عشر سنوات، فتجيء ترفع لواء «العدالة الاجتماعية». كان بين ما كتبه صاحبنا هناك، موضوع أسماه «تجويع النمر» يقول فيه لقرائه: إن بين أفراد الناس فئة تشبه صنوف الحيوان في تركيبها النفسي، بحيث إذا بقر بطونهم مبضع التشريح، وجد في الجوف نمر كامن، أو ثعلب، أو حمل، أو ضبع، أو كلب، وهكذا فترى صاحب هذا المكنون الجوفي يتصرف على طباع الحيوان الذي كمن فيه، ويهمنا من هؤلاء قبيلة النمور، فماذا أنت صانع بنمر بشري استبد بك في طريق حياتك لتنجو من شره؟ الحل بسيط غاية البساطة، وهو أن تلجأ إلى تجويعه ، فأنت تعلم أنه يقتات على ضعفك، فما عليك في هذه الحالة إلا حرمانه من الغذاء الذي يشبعه، فإذا رأيت بوادر التنمر قد أخذت في الظهور، اتركه ليجد أمامه هؤلاء في خلاء.
وعن «الظلم» الاجتماعي كتب صاحبنا صورة يصور بها غلاما في نحو العاشرة، سمع في الطريق العام بائعا متجولا يصرخ وهو في قبضة شرطي، قائلا: هذا ظلم، ولم يكن الغلام قد سمع هذه الكلمة بعد، فلما عاد إلى منزله، سأل أباه: ماذا تعني كلمة «ظلم»؟ فأجابه أبوه بأنها تعني مجاوزة فرد من الناس لحدوده المشروعة فيؤذي آخرين، كأن تجلس خادمتنا على مقعد من مقاعدنا ... فما هو إلا أن جاء الليل ونام أفراد الأسرة، ليستيقظوا في الصباح فيجدوا كلمة «ظلم» قد كتبت بالطباشير على قطع الأثاث كلها، ولم يكن عسيرا على الوالد أن يعلم بأن ولده هو الفاعل، فنهره وزجره وأمره بألا يعود إلى مثل هذا العبث، ومحيت الكلمة حيثما وجدت، لكن لم يمض إلا يوم واحد، ليجد الجيران أن مجهولا قد عبث بأبواب منازلهم ودرجات السلم وفي كل بقعة تصلح للكتابة، إذ رأوا كلمة «ظلم» قد كتبت بالفحم هنا وهناك، ودارت الشكوى، وأدرك الوالد أنه ابنه الذي اقترف الإثم، فجعل عقابه هذه المرة ضربات أوجعت الصبي، ولكنه لم ينطق بصوت، ومرة أخرى حذر الوالد ولده وأنذره وتوعده إذا هو عاد، ولكنه فوجئ بعد أيام قلائل بشرطي يدق على بابه، ممسكا بالغلام، فعلم الوالد من الشرطي أن ابنه قد ضبط في ساعة مبكرة من الصباح، يلطخ أبواب المتاجر المغلقة، وبعض النوافذ في مكاتب حكومية مجاورة، يلطخها بكلمة «ظلم» يكتبها بفرشاة كبيرة يغمسها في وعاء مليء بطلاء أسود ... وهنا لم يجد الوالد بدا من عرض ابنه على طبيب نفسي، فأوصى الطبيب بأن يأخذ الوالد ولده إلى مكان يستريح فيه ويهدأ، فسافر الوالد مع ولده إلى الإسكندرية بالقطار، وما كان أشد العجب يعجب به الوالد، حين سمع عجلات القطار تدمدم على القضبان وكأنها تقول: ظلم، ظلم، ظلم ... على هذا النحو أخذ صاحبنا يكتب مقالاته «الأدبية» خلال السنوات الوسطى من الأربعينيات، وذلك في هوامش سويعات الفراغ بعد تركيز الفكر في ساعات العمل، ولما أعلنت وثيقة «حقوق الإنسان» في اليوم العاشر من شهر ديسمبر سنة 1948م، أحس بشيء من الرضا، إذ شعر كأنما كان بشخصه جزءا في التمهيد لظهور ذلك الإعلان.
سنوات التحول «3»
لم يكن صاحبنا نفسه يستطيع أن يرد ذلك القلق المؤرق إلى منابعه الأولى، وهو قلق محوره ما قد تصوره في صورة مكبرة، عن حرمان الإنسان في وطنه من حقوقه الأولية التي لا يكون الإنسان إنسانا بغيرها، لقد جاءه هذا الانطباع في السنوات الأخيرة من الثلاثينيات، وكان قبل ذلك على عقيدة أخرى، إذ كان هنالك في حياتنا ما يبرر له ولغيره رأيا يرى تلك الحقوق وقد رسخت في وعي الكثرة الغالبة من المواطنين، فهنالك حق الحرية قد أخذت تجري به الأقلام منذ رفاعة رافع الطهطاوي فصاعدا مع كبار الرءوس جيلا بعد جيل، كما قد أخذت تعيه في معناه السياسي أفئدة العامة من جمهور الناس، كما قد تجلى في ثورات وطنية تشتعل آنا بعد آن، ثم أخذ هذا الحق في الحرية يتفرع فروعا ليشمل ميادين أخرى غير السياسة في مجابهة الاحتلال البريطاني، كميدان الاقتصاد، وميدان الأدب، وميدان التعليم، وميدان المرأة، وميدان الحياة الشخصية للأفراد أمام الرأي العام.
وليس في كل هذا شك، فما الذي رآه صاحبنا بعد ذلك مما أثار فيه القلق؟ ربما كمن السر في أن المقارنة مع الشعوب الأخرى التي هي في موقع الريادة من حضارة هذا العصر وثقافته، قد أيقظته ليرى الفارق الكبير بين أن تجري أقلام الرواد بحق الحرية ووجوبه لكل إنسان، وبين أن يحيا هؤلاء الرواد أنفسهم على نحو ما يكتبون، فبينما ترى الواحد منهم، وقد أوشكت حروف كلماته أن تشتعل بحرارتها دفاعا عن الحرية والمساواة والعدالة ... إلخ، تنظر إليه في ساحات التعامل الفعلي يذل للكبار بقدر ما يستبد بالصغار، وقد رأى صاحبنا بعينيه وسمع بأذنيه، كيف لا يطيق حماة الحرية الفكرية أن يروا من هم دونهم وقد استباحوا لأنفسهم ذلك الحق نفسه، حتى إذا ما سافر صاحبنا وكذلك رأى هناك بعينيه وسمع بأذنيه كيف يتساوى في تلك الحقوق الأساسية كبار وصغار، بغير توتر أو شعور بالتحدي، كأنما هي عادات مألوفة لا تستلفت الأنظار، هنالك أدرك البون الشاسع بين سهولة القول وصعوبة العمل، وإنه ليذكر ذات يوم بعد نهاية الحرب بقليل، وقد أتيح له أن يرى هناك صفا من العاملين في ديوان حكومي وقف كل منهم في مكانه من الصف، يحمل في يده طبقا وشوكة وسكينا، وأخذ الصف يتحرك قليلا قليلا نحو منضدة كبيرة وقفت عندها مناولات يناولن من جاء دوره فنجان الشاي وقطعة الكعك، لكن كم كانت دهشة صاحبنا حين لمحت عينه فيمن وقفوا في الصف وزير الوزارة التي وقع في بهو ديوانها هذا المشهد، وكان الذي وقف أمامه أحد السعاة في ديوان تلك الوزارة نفسها، وما إن رأى هذا الترتيب المقلوب، حتى ركز بصره فيها لعله يجد أثرا للقلق عند الساعي، أو أثرا من الضجر عند الوزير، فلم تقع عينه على شيء من ذلك، فعاد إلى بيته مع المساء ليكتب قبل أن يأوي إلى فراشه، تحت عنوان «الكبش الجريح» قطعة من «أدب» المقالة ليبعث بها إلى وطنه، يصور بها ما كان ليحدث لو شاءت مصادفة عمياء أن يقع هذا الترتيب في الوقوف عندنا بين وزير وساع، وجوهر المأساة هنا، أن خيالنا قد يتصور وزيرا له من سعة الثقافة ما لا يقلقه أن يجيء دوره وراء دور خادمه، لكنه لا يتصور أن يجد الساعي الذي يرضى لنفسه أن يتقدم وزيره، خالطا في ذلك بين أن يكونا مواطنين يتساويان في غير مجال العمل، ولا يتساويان في مجال العمل، فللوزير عندئذ أن يأمر وعلى الساعي أن يطيع، نعم، كتب صاحبنا ليجسد لقرائه في وطنه هذا المعنى، في كبش ذبيح تنظر إلى عينيه ودماؤه تتدفق من عنقه، فإذا هما عينان ناطقتان بالطمأنينة والرضى.
ولأمر ما وجد صاحبنا نفسه مشدودا إلى حق «الحرية» أكثر من سواها في قائمة حقوق الإنسان، بمعنى أنه شغل بالقراءة عنها في فراغه أكثر مما شغل بالقراءة عما عداها، وربما كان ذلك لأنه وجد فيها أصلا تتفرع منه الفروع، ولعل أهم ما يلفت النظر في الطريقة التي يغلب على صاحبنا أن ينتهجها في تفكيره، أيا ما كان موضوع التفكير، نزوعه نحو أن يرد الفروع إلى الأصول، فتسهل عليه رؤية الحقائق من مواضعها في شجرة أنسابها، ومن هنا أقول إنه ربما ارتأى صاحبنا عندئذ أن «الحرية» أصل، ومعظم حقوق الإنسان الأخرى فروعا لها، أو ربما نظر إلى التاريخ الثقافي الحديث في مصر، فوجد فكرة «الحرية» توشك أن تكون محورا أساسيا للحركة الثقافية كلها، منذ الطهطاوي فاتيا، حتى لقد كانت تتقطر من أقلام الكتاب قطرات تتوالى وتتراكم آثارها في صدور الناس خلال بضعة عقود من السنين، ثم تتفجر ثورة عاصفة، فبعد نحو أربعين سنة من نشر الطهطاوي لمؤلفاته ومترجماته، قامت ثورة أحمد عرابي، وبعد نحو أربعين سنة من ثورة عرابي اشتعلت ثورة سعد زغلول، وبعد نحو ثلاثين عاما تفجرت ثورة جمال عبد الناصر، وفيما بين الثورة والثورة التي تليها، لا تكف الأقلام عن الدعوة إلى ضروب منوعة من الحرية، وكلما تحقق منها شيء طالب الناس بمزيد.
وأيا ما كان الدافع الباطني، فقد أحس صاحبنا برغبة شديدة في أن يطيل القراءة والنظر حول فكرة «الحرية»، وهي قبل أن تكون «فكرة» يتناولها العقل بالتحليل والتدليل كانت منذ كان على الأرض إنسان، حنينا نحو أن يملك الإنسان قياد نفسه في اختيار هذا وترك ذاك، وفي إزالة ما عساه مصادفة في طريق الحياة من عوائق وعقبات، ولماذا نقصر أمر «الحرية» على الإنسان، اللهم إلا إذا أردنا بلورة طبيعتها في عبارة لغوية تصفها وتحددها؟ أما إذا كان المراد هو أن يكون في وضع الكائن الحر أن يسلك سلوكا يستحيل التنبؤ به قبل وقوعه؛ لأنه سلوك أبدعه الكائن بوحي من فطرته إبداعا غير مسبوق بأسباب معلومة، ولا بمقدمات يمكن الاستناد إليها في استدلال ما سوف يترتب عليها، فإن كل كائنات الكون، من الذرة فصاعدا إلى الشموس والنجوم، فإلى دنيا الأحياء نباتا وحيوانا وإنسانا، نعم، إن كل كائنات الكون لها أنصبة متفاوتة من الإبداع غير المسبوق بأسباب معلومة أو بمقدمات تنبئ عما يتولد عنها، فكهارب الذرة تقفز من مدار إلى مدار دون أن يكون في مستطاع العلم البشري أن يعرف عن تلك القفزات كيف تحدث، ومتى، ولماذا، وإذا أراد العلم صياغة قانون أو قوانين تحدد مساراتها، فليس أمامه سوى تقريبات إحصائية يمكن الاعتماد عليها في عمليات التنبؤ، إذن فالذرة حرة النشاط بمعنى من المعاني، وعلى هذا الأساس يمكن القول كذلك بشيء من حرية النشاط في سائر الكائنات، ما دامت كلها مؤلفة آخر الأمر من ذرات حرة الكهارب، حتى إذا ما ارتفعنا بالنظر إلى عالم الأحياء، ثم سمونا على سلم الحياة لنبلغ ذروته متمثلة في الإنسان، وجدنا تلك الحرية المحدودة قد نمت وتفرعت حتى تصبح عند الإنسان «إرادة» حرة تريد ما تريد لتفعل ما أرادت.
Неизвестная страница