فكان هذا هو أول الدروس التي تعلمها صاحبنا خلال ترجمته لتلك المحاورات الأربع، ومع ذلك فما لبث طويلا بعد هذا الدرس، حتى وجد في التحليلات المعاصرة ما يضيف إليه إضافات تزيده اقترابا من الدقة العلمية كما ينبغي لها أن تكون، وشرح ذلك في إيجاز، هو أن سقراط - وجميع فلاسفة اليونان مع معظم الفلاسفة قبل عصرنا هذا، الذي نراه متمثلا في القرن العشرين كله، وما قبله من أواخر عقود القرن الذي سبقه - أقول إن هؤلاء جميعا كانوا على ظن بأن المعنى الكلي الواحد، يعد حقيقة عقلية مستقلة بذاتها، ويمكن تعريفها وتحديدها، كالمعنى الكلي الذي شغل به سقراط مع الشاب الذي قابله في ساحة المحكمة يتهم أباه، وهو معنى «التقوى» ويجري مجراه كل المعاني العامة: الحرية، العدالة، المساواة، الصدق، الوفاء ... إلخ إلخ، ولم يكن أحد من هؤلاء قد أدرك حقيقة الأمر، كما كشف عنها التحليل المنطقي الرياضي في العصر القائم ألا وهي: إن أي معنى، من هذه المعاني العامة، إن هو في واقع أمره إلا تكثيف لجملة كاملة ضغطت في مفرد لغوي واحد، فإذا أردنا أن نرفع عن الفكرة تكثيفها لتظهر عناصرها المضمرة اضطررنا عندئذ أن نبحث عن «مبتدأ» للخبر الموجود في المعنى المتمثل في الوحدة اللغوية التي بين أيدينا، فبدل أن أجاز الشاب أوطفرون لنفسه أن يستخدم كلمة «تقوى» وكأنها حقيقة كاملة قائمة برأسها مكتفية بذاتها، كان لزاما عليه أن يستحضر في ذهنه الخصائص الجوهرية في سلوك الإنسان، الذي يقال عنه إنه «تقوى»، وبهذا تكتمل الفكرة مبتدأ وخبرا، إذ تصبح على هذه الصورة: كذا وكذا وكيت من العناصر السلوكية هو التقوى، وبعبارة أخرى: إنه لا يجوز لصاحب الفكر العلمي أن يستخدم اسما ما، إلا إذا سبق ذلك علمه بما يسميه ذلك الاسم، وإنه لكثيرا جدا ما يحدث لصاحب الفكر الغامض المهوش، أن يملأ شدقيه بكلمات وعبارات على حساب أنها فكر من الفكر بمعناه الصحيح، فإذا طالبته أن يصور لك تفصيلات الموقف الحي، الذي يتصور وجوده من خلال كلماته، عجز عن التصوير نتيجة لعجزه عن التصور، ومن هنا ندرك دقة الفقهاء المسلمين حين أدركوا أن «الحكم على شيء فرع عن تصوره» - كما قالوا - أي إنك لا يحق لك حكم، ما لم تكن قد كملت لك الصورة الذهنية لحقيقة من الحقائق، بتفصيلاتها الأساسية التي تتيح لك أن تتصور كيف يكون موقع الأشياء في عالم الأشياء إذا صدق ذلك التصور الذهني المزعوم.
لقد كان ذلك هو نفسه ما يتضمنه منهج الفكر الرياضي، والفكر العلمي المتصل بالعلوم الطبيعية كذلك، على ما بين الحالتين من أوجه اختلاف، ففي الفكر الرياضي لا يحل لصاحبه أن يستخدم أسماء كالنقطة والخط والسطح والمثلث إلخ، إلا إذا بين لنا ما «يفترض» وجوده من خصائص في كل اسم من هذه الأسماء، كأن يقول: إن النقطة هي ما ليس له أبعاد، والخط هو طول بغير عرض، والمثلث هو سطح مستو يحيط به ثلاثة خطوط مستقيمة وهكذا، ولعلك قد لحظت أني وضعت كلمة «افترض» بين حواصر لتلتفت إلى أن الأمر كله عند الفكر الرياضي افتراض لمعان يطلب التسليم بما تعنيه بغير بحث؛ لأنه هو الأساس الذي سوف تقام عليه النتائج الرياضية فيما بعد، وأما في العلوم الطبيعية، فالأسماء تحدد أيضا بتفصيلات مسمياتها، لا على سبيل «الافتراض» الذي يسلم بدون بحث، بل على سبيل الواقع الفعلي كما يقع، فإذا استخدم اسم «الماء» أو «الهواء» أو «الخشب» أو «القمح» أو ما شئت، كان على رجل العلم أن يحدد العناصر الداخلة في تكوين ما أراد معرفته معرفة علمية، والمقدار الذي يجيء به كل عنصر، وبغير هذه المعرفة التحليلية، يبقى الأمر بين الناس مجرد «خبرة» بالأشياء في استعمالاتها العملية، والفرق بعيد بين الحالتين.
كان سقراط، ومعظم الفلاسفة السابقين، إذ هم يبحثون عن دقة المعنى لأي معنى من المعاني العامة، مثل قولنا «حرية» و «عدالة»، بل وفيما يختص بالأسماء التي نشير بها إلى أنواع الكائنات مثل قولنا «شجرة» و«نهر» يفكرون على منهاج الفكر الرياضي، ففي العلوم الرياضية تنتقل الحركة العقلية من فكرة إلى فكرة دون أن يعنى الرياضي بالوقائع الفعلية التي تقع في دنيا الأشياء، إذ العملية الفكرية الرياضية تكون صحيحة على أساس سلامة الاستدلال وليس على أساس التطابق الفعلي مع واقعة معينة، كما هي الحال في العلوم الطبيعية، ومعها في ذلك العلوم الإنسانية، وهكذا كان الفلاسفة فيما مضى، يغلب عليهم الأسلوب الرياضي في التفكير، سواء أكان موضوع البحث هو فرع من فروع الرياضة حقا، أم كان موضوعا يختص بظاهرة من ظواهر الطبيعة؛ وذلك لأن الرأي عندئذ كاد يجمع على أن منهج التفكير السليم واحد مهما تغير موضوع البحث، وما هكذا الموقف المنهجي اليوم؛ لأن فروقا جوهرية بين طريقة العالم الرياضي وطريقة العالم في مجال العلوم الطبيعية تبينت تحت مجهر التحليل، مما اقتضى أن يكون لكل من مجموعتي العلوم منهاجها الخاص.
وبناء على هذه التفرقة في المنهج، تفرقة تدور مع اختلاف الموضوع المبحوث، يصبح تحديد المعاني في موضوع مثل «حرية» و«ديمقراطية» وفي موضوع مثل «شجرة» و«نهر» لا يتساوى مع الطريقة التي نحدد بها المعاني في موضوعات رياضية كالمثلث والمربع في الهندسة، والصفر والواحد في الحساب؛ ففي الحالة الأولى يجب البحث في دنيا الواقع عن العناصر الحقيقية التي إذا اجتمعت في سلوك الإنسان قيل: هذه «حرية» أو هذه ديمقراطية مما يقرب جدا من قولنا: هذا «نهر» وهذه «شجرة»، على أساس ما كنا قد جمعناه من تفصيلات أساسية منها تنسج الحرية والديمقراطية، أو النهر والشجرة، وأما في العلوم الرياضية فالأمر جد مختلف؛ لأن المعاني التي تؤديها «الرموز» لا تستمد من الواقع كما يحدث، بل هي فروض يفرضها العقل يبني عليها ما يبنيه من نتائج، وقد تنطبق بعد ذلك على الواقع أو لا تنطبق، أي إن العقل الرياضي هو الذي يفرز مادته، التي ينصب عليها الفكر، ليخرج معادلة من معادلة إخراجا صحيحا بمقدار ما روعيت فيه مبادئ الاستدلال، لكنه لا يضمن له آخر الأمر أنه هو الذي يصور حقائق الواقع، وهذا الذي نقوله يتمثل على مستوى الإبداع العلمي في أرفع درجاته، كما يتمثل شيء منه في العمليات الرياضية التي نمارسها في حياتنا الجارية، فافرض مثلا أن استوقفك في الطريق عابر سبيل، وطلب منك أن تراجع له فاتورة حساب أخذها من تاجر عن بضاعة اشتراها منه، لترى إذا كانت عمليات الحساب كالجمع أو الطرح صحيحة، فتراجع له هذه العمليات الحسابية كما هي واردة في الفاتورة، وتجدها صحيحة كلها، فها هنا تكون صحتها «رياضية»، لكنها لا تضمن للرجل أي شيء خاص بالبضاعة نفسها، هل سلمت إليه بالمقادير المذكورة في الفاتورة أم حدث اختلاف بين المكتوب وواقع الأحداث.
إنك إذا أمسكت بقبضة قوية على الفارق الذي يميز هاتين الحالتين من صور الترابط بين أجزاء الكلام، وإذا قلنا أجزاء الكلام فقد قلنا جوانب الفكرة أو الأفكار المعروضة في ذلك الكلام، أقول: إنك إذا أمسكت بالفارق بين الصورتين فقد أمسكت حقا بمفتاح منهجي، يبين لك الاختلاف من جذوره بين تفكير ساد العصور القديمة كلها تقريبا، وهو نفسه الذي ما زال يسود تفكيرنا نحن أبناء الأمة العربية إلى حد كبير، وبين تفكير آخر، هو الذي انتقلت به أوروبا من عصورها الوسطى إلى العصر الحديث وإلى يومنا هذا، ولكي أزيدك إيضاحا بذلك الفارق أضرب لك مثلين صغيرين: فانظر - مثلا - إلى هذه العبارة: «إن تضحية المواطن لوطنه تضحية تتفاوت درجاتها من تقديم شيء قليل من ماله في سبيل الجهود الذاتية للتعمير والإصلاح.» انظر إلى العبارة مدققا، تجدها قد جعلت مبدأ «الانتماء» أساسا أوليا، تتولد عند نتيجة هي وجوب التضحية من المواطن لوطنه، وعن هذه النتيجة تتولد نتيجة فرعية هي تفاوت الصور التي تجيء عليها التضحية كما وكيفا، وهذا التسلسل الفكري مستطاع حتى لمن عاش عمره حبيس داره لم تقبس عيناه قبسا واحدا من وقائع الدنيا من حوله، ولا ينفي ذلك كونه مسلسلا فكريا صحيحا في ذاته، إلا أنه قائم كله على معرفة مفردات لغوية، وليس فيه ما يقتضي دراسة ظاهرة من ظواهر الكون كائنة ما كانت، وهو بأكمله متوقف على معنى المبدأ الذي جاء في صدر العملية الفكرية، وأعني مبدأ الانتماء، فإذا تبين - وكثيرا جدا ما يتبين - أن صاحب هذه العبارة إذا ما سئل عن تعريف «الانتماء» الذي جعل أساسا لتفكيره، عجز عن الجواب، ومن هنا يتبدى لنا جوهر الرسالة السقراطية التي أشرنا إليها في أوائل هذا الحديث، فما دام اللفظ الذي جعلناه سندا للعملية الفكرية هو بهذه الأهمية كلها وهذه الخطورة كلها فلا مناص لنا من دقة تعريفه تعريفا يتساوى في دقته مع تعريفنا للمفاهيم الرياضية كالمثلث والمربع، ولهذا يقال عن رسالة سقراط إنها كانت محاولة منه ليجعل المعاني الأخلاقية وكأنها من أسرة الفكر الرياضي، ولو استطاع الإنسان ذلك لتخلص من مشكلات تثقل حياته بهموم أثقل، من رواسي الجبال، فكل الحروب التي نشأت بين الفرق المتخاصمة إنما ترجع إلى اختلاف بينها في فهم «مبدأ» لفظي معين، استخلص منه كل من الفريقين نتائج تختلف عما استخلصه الفريق الآخر، وانظر إلى أقطار الأمة العربية كيف تجتمع كلها على مبدأ «الوحدة العربية»، لكنها تفرقت في تصورها لمعنى الوحدة؛ فتفرقت النتائج، وحدث التشقق والصراع.
تلك - إذن - صورة مصغرة لإحدى الحالتين من عمليات التفكير، وهي حالة - كما رأيت - تدور كلها بين جدران الألفاظ وثناياها، فتبدأ بكلمة أو كلمات، ثم تنتقل من كلام إلى كلام، وأما الحالة الثانية فهي تلك التي تبدأ من لقطات تلقطها بالحواس بادئ ذي بدء، حتى تتكون منها مشاهدات وتجارب، تتمركز حول ظاهرة معينة من ظواهر الكون، كظاهرة الضوء، أو الكهرباء، أو الجاذبية، أو تكوين الصخور في طبقات القشرة الأرضية، أو مصادر الطاقة المختلفة كالفحم والبترول والقوة النووية ... إلخ، فنقطة الأساس التي ستقام عليه العملية الفكرية، في هذه الحالة، ليست كلمة أو كلمات يفهمها كل على طريقته، بل هي وقائع شوهدت ورصدت ووصفت، ثم فسرت باستخلاص ما هو متضمن فيها من قوانين تضبط مسارها، وأظنه قد بات واضحا، مما ذكرناه، أن طريقة التفكير في الحالة الأولى رياضية الطابع ، أعني أنها تنحصر في «توليد» النتائج من مقدمات على نحو ما وضع مبدأ «الانتماء» - في المثل الذي أسلفناه - ثم استنبطت منه نتائجه، ولا فرق، من حيث الجوهر، في الطريقة الرياضية أن تكون مركبات «الرموز» التي توضع مقدمات، وما يتولد عنها رموزا كالأعداد والأشكال وأحرف الهجاء، وبين أن تكون مركبات «الرموز» المستخدمة كلمات تتألف منها جمل، فالمهم هنا هو التشابه في طريقة التوليد، وهكذا كانت صورة الفكر في العصور القديمة كلها. أما قراءة الواقع الطبيعي لاستخراج قوانينه، فلم يعرفه الإنسان معرفة تجعل له السيادة والشمول، إلا في عصر النهضة الأوروبية، وبالطبع لا ينفي هذا القول حقيقة أن يكون العالم القديم قد أقام البناء، وصنع كذا وكيت؛ لأن ثمة فرقا بين ما يقام على «خبرة» الحياة العملية، وبين ما يقام على تنظير علمي، بل ولا ينفي هذا القول أن يكون قد ظهر هنا وهناك، آنا بعد آن، عالم شغل بظاهرة طبيعية مثل ظاهرة الضوء (كابن الهيثم) أو عالم شغل بالتجارب الكيماوية (مثل جابر بن حيان) لأن السيادة المطلقة في منهج التفكير، إنما كانت للطريقة الرياضية في التفكير، ولا عجب - إذن - إن ظهر من القدماء مبدعون في العلم الرياضي يضعهم تاريخ العلم في أعلى درجات التفوق.
وبعد هذا الذي عرضناه عن بعض اللفتات المنهجية التي أضيفت إلى الوقفة السقراطية تجاه تحليل المدركات لتحديدها وتوضحيها، نعود إلى صاحبنا في الأعوام الأولى من ثلاثينيات هذا القرن، وكان قد فرغ من ترجمة أربع محاورات لأفلاطون، وكلها وثيقة العرى بحياة سقراط الحقيقية، قبل محاكمته، وفي محاكمته، وبعد محاكمته إذ حكم عليه بالموت، فخرج صاحبنا من تلك الترجمة ومصباح جديد في يده، هو المصباح الذي يتغلغل بضيائه في المدركات العقلية ذات الأهمية الخاصة في قدرة الإنسان على فهم المعاني فهما صحيحا ودقيقا في مجال الأخلاق بصفة خاصة، وأعني مجال الأحكام التي يطلقها أبناء المجتمع بعضهم على بعض فيما يتعلق بالفضيلة والرذيلة، لكن المجال يتسع ليشمل كذلك أحكام الناس في مجال السياسة والفن وغيرهما مما ينشغل به المثقفون في كل مجتمع وفي كل عصر، على أن المصباح المنهجي الذي خرج به صاحبنا من معايشته لسقراط بضعة أشهر هي الأشهر التي ترجم فيها تلك المحاورات الأربع، لم يتجاوز منهج التفكير كما عرفته العصور السابقة جميعا قبل النهضة الأوروبية، اللهم إلا استثناءات متناثرة لا تؤدي إلى حكم عام، وأعني ذلك المنهج «الرياضي» الذي يضع فروضه في أي موضوع أراد أن يجعله مجالا لبحثه، ثم يستخرج من تلك الفروض المقدمة نتائجها بطريقة التوليد، أي طريقة الاستنباط ترى الباحث على منهاجها يستنبط مادة المقدمات ليخرج ما فيها من «نبط» تماما كما نفعل اليوم على صعيد العالم المادي حين نحفر الابار استنباطا لما احتوت عليه من «نفط».
ومع ذلك فليس الذي خرج به صاحبنا قليل الشأن، بالرغم من أنه كان لا بد له أن ينتظر نحو عشرين عاما بعد ذلك، ليسعده الحظ بأن تقدم إليه الدراسات الحديثة ما يكمل به المنهج السقراطي، فتكتمل له الصورة «رياضة» و«طبيعة» وما يندرج تحتمها من فروع العلم والمعرفة على اختلافها، نعم، لم يكن المصباح السقراطي الذي خرج به قليل الشأن في تنويره، وحسبنا أن قد كان هو نفسه المصباح الذي اهتدى به سقراط، وكذلك كان صاحبنا تلميذا له ومغترفا منه - نظريته المعروفة في ربط «المعرفة» ب «الفضيلة» وهي نظرية ما أحوجنا نحن أبناء الأمة العربية اليوم إلى تشربها قطرة قطرة حتى نفرغ وعاءها في خلايا أدمغتنا وأنسجتها وتلافيفها، لماذا؟ لأننا في الأساس أبناء حضارات عريقة قامت قوائمها على «الأخلاق» - و«الأخلاق ركن جوهري من رسالة الدين» - إلى الحد الذي يكاد يشلنا إزاء الحضارة الجديدة في عصرنا؛ إذ وجدناها حضارة «علم»، فأخذتنا الخشية أن تكون علمية العصر صارفة له عن «الأخلاق» التي ندين بها ونجريها في دمائنا.
والنظرية السقراطية في «المعرفة» وارتباطها الوثيق ب «الأخلاق» خلاصتها أنه إذا عرف الإنسان كيف يحدد معنى اسم ما، يطلق على فضيلة معينة، كأن نقول «الوفاء» - مثلا - أو «التقوى» أو «الصدق» إلخ، أقول: إن الإنسان إذا عرف معنى الاسم الذي يشير إلى فضيلة من تلك الفضائل معرفة تحقق له التحديد الدقيق الذي عهدناه بالنسبة إلى حقائق الرياضة كمعنى، «مثلث» و«سبعة» و«نصف» وما إلى ذلك من مفردات اللغة الرياضية، فإنه يصبح محالا على ذلك الإنسان، الذي حدد لنفسه معنى الاسم الذي يشير إلى فضيلة معينة، أن يقترف ما يخالفها، أي إن مجرد «معرفة» الإنسان معرفة بالدقة الرياضية لما تعنيه «فضيلة» معينة كفيل للعارف أن يجتنب ما ينقضها، فإذا عارضت في ذلك قائلا: لكني كثيرا جدا ما أعرف معاني فضائل دون أن أستطيع التزامها في الحياة العملية، أجابك سقراط عندئذ، بأن ما قد أسميته «معرفة» لم يكن من المعرفة في شيء؛ لأن شرطها هو التجديد الواضح القاطع، وأما ما أسميته ب «معرفة» فقد كانت بغير شك مشوبة بالغموض والخلط، وإلا لكانت ألزمتك بتنفيذها في مسالك الحياة العملية، لماذا؟ لأن منها يتضح لك في جلاء أنها سبيلك إلى الخير والأمان، وهل رأيت إنسانا يكره لنفسه الخير والأمان وطمأنينة النفس؟
وهذا معناه: أن «الحق» (= المعرفة الصحيحة و«الخير» = السلوك على منهج الفضيلة وما ينتج عنه) يلتقيان في هوية واحدة، إن «الحق» و«الفضيلة» ليسا شيئين، بل هما شيء واحد، وإن يكن ذا جانبين، فإذا علمت عن معنى فضيلة ما علما دقيقا وصحيحا وكاملا، كنت بالتالي سالكا على نهجها، وإذا سلكت على نهجها، كنت بالتالي عالما بها، فلماذا - إذن - أسلفت لك قولي بأننا نحن أبناء الأمة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى هذه الرؤية التي تدمج الحق والخير في كيان واحد؟
Неизвестная страница