Геродот: Очень короткое введение
هيرودوت: مقدمة قصيرة جدا
Жанры
ترعرع هيرودوت في عالم من القصص، وكانت كبراها، تلك التي تأهلت في زمانه لتكون «أعظم قصة رويت على الإطلاق»، هي قصة «حرب طروادة» وما تلاها، والتي حكتها لنا الإلياذة والأوديسة فضلا عن قصائد أخرى لم تبق لتصل إلينا. لكن حتى الملحمتان الهوميريتان كانتا مؤلفتين من وحدات كوصف درع أخيل في الإلياذة أو واقعة الصقلوب في الأوديسة. وقد أخذ هيرودوت على عاتقه مهمة أن يحكي لنا «ثاني أعظم قصة رويت على الإطلاق»، وكانت هي أيضا مكونة من وحدات أصغر حجما، أو حكايات قائمة بذاتها كان لها ذات يوم كيانها الخاص، لكن ليس بالضرورة على الهيئة التي تظهر عليها ما إن طوعها هيرودوت لتخدم هدفه وتناسب سياقه، وبعض هذه القصص هو في الواقع استطرادات؛ إذ يقول هيرودوت إن سرده سعى دائما إلى مادة تكميلية. ويكتب مايكل أونداتجي، معلقا على هذه العبارة في «المريض الإنجليزي»، قائلا إن ما نجده في عمل هيرودوت هو «أزقة مسدودة في خضم التاريخ». لكن معظمها، بشكل أو بآخر ، عوالم مصغرة من «تاريخ هيرودوت» ككل، ويقدم معالم ترشدنا إلى كيفية قراءة النص الأكبر. فهذه الحكايات، التي تبطئ وتيرة رحلتنا، تمكننا من التوقف والتركيز على أحد أركان عالم هيرودوت قبل استئناف مسيرتنا إلى الأمام بفهم أوضح للصورة الكبيرة، والكيفية التي نتعامل بها مع سرد هيرودوت إياها.
يبذل هيرودوت جهدا لاستخدام حكاياته الكثيرة لتوضيح الموضوعات العديدة التي يعدها مهمة، في الأحداث الإنسانية وفي تمحيصها على السواء؛ لأنه لا يطرح نظرية شاملة للتاريخ؛ فوجود العجائب في العالم - ذلك الوجود المثير للرهبة لكن المشتمل على تحديات - وصعوبة الحصول على معرفة معينة ونشرها، واستخدام الأدلة المادية في إعادة تشكيل الماضي، والعلاقة المحورية المتمثلة في التوازن والتبادلية والانتقام، وانقلاب الحظ، هي فقط بعض الموضوعات التي تظهر في الحكايات الهيرودوتية.
إن قصة أريون، التي تظهر في موضع مبكر في النص، لم تكن ضرورية بأية حال بالنسبة لما يمكن أن نسميها «حبكة» كتاب هيرودوت، وينبغي أن ينظر إليها بالأحرى كتصوير للكيفية التي يمكن بها قراءة نص هيرودوت؛ فبعد رحيل الشاعر والمغني أريون عن بلاط بيرياندر في كورنثة، حيث كان يعيش، كسب مبلغا عظيما من المال في إيطاليا وصقلية، ولما أراد العودة إلى الديار في كورنثة، استأجر طاقما من البحارة الكورنثيين، فقرروا إلقاءه في عرض البحر والاستيلاء على أمواله لأنفسهم، فعرض عليهم أريون أخذ المال مقابل حياته، لكنهم رفضوا عرضه (بالتالي أظهروا أنهم لا يوجد لديهم حس بالتوازن والتبادلية على الإطلاق)، وخيروه - على نحو أشبه نوعا ما بمخاطبة زوجة كاندوليس جيجس البائس - بين شيئين ليسا من الخيار في شيء، إذ خيروه بين الانتحار إن أراد أن يدفن في البر، أو القفز من على متن القارب في البحر. عندئذ استأذنهم أريون أن يغني أغنية على ظهر السفينة مرتديا ملابسه الرسمية الكاملة، واعدا إياهم بالانتحار بعد ذلك مباشرة:
انسحب البحارة كافة من الكوثل وتجمعوا في منتصف السفينة سرورا بفرصة سماعهم أغنية من أشهر مغن في العالم، وارتدى أريون ملابسه الرسمية كاملة، وحمل قيثارته، وعزف وغنى - واقفا على مؤخرة سطح السفينة - «أغنية الفالسيتو»، ثم قفز في البحر كما هو بملابسه وكل شيء.
وعلى نحو غير متوقع بالمرة، يظهر دلفين ويحمل أريون على ظهره إلى اليابسة، ثم يمضي المغني في طريقه إلى بلاط بيرياندر وهو ما زال مرتديا ملابس الغناء، التي كما نتخيل مبللة وثقيلة. يبدي بيرياندر - وهذا مفهوم - تشككا في حكاية أريون عن «المدد الغيبي الذي أتاه في صورة دلفين»، فيبقي أريون تحت الحراسة ريثما يظهر البحارة الكورنثيون، الذين يصرون لدى استجوابهم على أنهم تركوا أريون سليما معافى في جنوب إيطاليا، لكن أريون - الذي يظهر أمامهم فجأة وما زال (من جديد) مرتديا ملابس الغناء - يدحض أقوالهم فورا، فينكشف كذب البحارة ولا يجديهم المزيد من الإنكار. يقول هيرودوت إن هذه هي القصة كما يرويها الكورنثيون وأهل جزيرة ليسبوس، ويضيف، كدليل آخر، وجود تمثال برونزي صغير في زمانه لرجل على دلفين في المكان ذاته الذي رسا فيه أريون على الساحل، ويقال إنه هبة من المغني نفسه.
يمكن للمرء التنويه إلى عدد من العناصر الكثيرة الفاعلة في هذه القصة: استخدام ملابس أريون، التي تكون جافة ومبللة بالتناوب، وأحيانا بكل تأكيد غير مريحة بالمرة، لكنها موجودة دائما لإضافة مكون بصري قوي بل وملموس إلى الحكاية، واستخدام شيء مدرك بالحواس كتأكيد لحكاية من التراث المسموع، وعنصر العجائب، وعنصر رباطة الجأش في مواجهة الموت، وعنصر الاستفسار المتشكك. إن حظ أريون الطيب في الحقيقة عجيبة من العجائب، وكان للعجائب أهمية بالغة عند هيرودوت؛ فأول جملة تتحدث عن خطة المؤلف في «تاريخ هيرودوت» أعلنت عن نيته تمجيد ذكرى الأعمال والأفعال والأشياء العظيمة والعجيبة على السواء، التي اجترحها الإغريق وغير الإغريق على السواء، وهو يصف ما حدث لأريون كعجيبة عظيمة حدثت في عهد بيرياندر. وتكثر العجائب في «تاريخ هيرودوت»؛ إذ يرى أن من العجائب أن أرتميسيا، وهي امرأة، تولت قيادة سفينة في الحرب، ويعزو معالجته التي فاق حجمها المألوف لمصر إلى العدد الكبير على غير العادة من العجائب الموجودة هناك، بداية من النهر الذي يتدفق عكس الاتجاه إلى الأعاجيب المعمارية غير العادية. ومدينة بابل بأكملها عجيبة من العجائب، ومثلها القوارب القابلة للطي التي تجوب الفرات.
علاوة على ذلك، فإن أداء أريون الغنائي، متبوعا بقفزه بملابسه الكاملة، عمل ينم عن رباطة جأش غير عادية في ظل تلك الظروف. ولو أنه كان ينتوي السباحة إلى الساحل، لتخلص بالتأكيد من ملابسه المنمقة، كما يستبق سلوكه أفعالا عجيبة بالقدر نفسه في مواجهة الموت، ومن ذلك على سبيل المثال تمشيط الإسبرطيين شعورهم قبل مواجهة الفرس في ثيرموبيلاي، ولم يظهر لهؤلاء حيوان ذلول، ولا هيلوكوبتر.
يبدو أن ساردنا يقول، وفي مرحلة مبكرة جدا من سرده: انظروا، العالم مليء بالعجائب، وسوف أقدمها لكم. ربما تتوقف قليلا لتبدي إعجابك ببطولة فنان عظيم، ربما تؤثر أيضا - إذا شئت - أن ترفض الحكاية بأكملها باعتبارها ببساطة غير معقولة، لكنك ستفعل ذلك على مسئوليتك. ثم هناك أيضا تشكك بيرياندر، أهو حذر متعقل أم فرط ارتياب؟ في النهاية، يثبت صدق أريون، ويثبت أن شكوك بيرياندر في غير محلها، غير أن التحفظ في الحكم عنصر أساسي في مشروع هيرودوت؛ فهيرودوت أيضا يظل متشككا في غياب الأدلة، ومن خلال هذه الحكاية المشكوك فيها ينصحنا بأن نحذو حذوه، بل إننا أحرار في قراءة «تاريخ هيرودوت» ذاته بتشكك، وأن نجري مع السارد الحوار نفسه الذي يجريه السارد مع مصادره.
مثلما يشبه كفاح بيرياندر للحصول على معلومات معينة عن قصة أريون المشكوك فيها المهمة المنوطة بنا لتقييم الأدلة، تبرز الحكايات الأخرى الصعوبة التي يجدها المرء في نقل ما لديه من معلومات، وهو تحد آخر في مشروع المؤرخ. يشتمل «تاريخ هيرودوت» - وهو ذاته نص يضم رسائل مشفرة كثيرة - على قصص عديدة تحمل رسائل تمر، إذا جاز التعبير، دون أن يلتقطها الرادار؛ إذ أقدم هيستيايوس - رغبة منه في إيصال رسالة هدامة إلى أرستاجوراس مع علمه أن الطرق خاضعة للحراسة - على حلق رأس أحد عبيده، وكتب الرسالة بالوشم على فروته وانتظر حتى نما الشعر من جديد، ثم أرسل العبد إلى أرستاجوراس وأعطاه تعليمات لإيصالها لأرستاجوراس كي يحلق رأسه، وعندما فعل أرستاجوراس ذلك ، وجد رسالة تحرضه على التمرد على الإمبراطورية الفارسية. ولإثناء الإسبرطيين عن استعادة هيبياس كطاغية لأثينا، يروي سوسيكليس الكورنثي قصة طويلة عن حكم الطغاة (القصة التي اشتملت على نادرة لابدا وصومعة القمح). وتشتمل حكاية سوسيكليس على النادرة البارزة التالية عن بيرياندر الكورنثي ومعاصره ثراسيبولوس، طاغية ملطية؛ فبعد فترة وجيزة من خلافته أبيه كطاغية كورنثة في القرن السادس، أرسل بيرياندر رسولا إلى ثراسيبولوس طالبا منه النصح بشأن الحكم، لم يقل ثراسيبولوس شيئا، بل تمشى عبر حقل قمح مع الرجل، قاطعا باستمرار كل سنابل القمح الأطول والأجود وملقيا إياها بعيدا. ألغز الأمر على الرسول، الذي أكد لبيرياندر لدى عودته إلى كورنثة أن ثراسيبولوس مجنون، لكن عندما سمع بيرياندر ما فعله ثراسيبولوس، أدرك أن ثراسيبولوس يوصيه بأن يقتل كل من يفوق الباقين في كورنثة، وكانت هذه هي بالضبط الاستراتيجية التي تبناها. وإلى هذا يمكن أن نضيف حالة الفارسي أرتاباتزوس والخائن الإغريقي تيموكسينوس، اللذين كانا يتواصلان بلف رسائل قصيرة على السهام، ثم تغطيتها بالريش، وإطلاقها على مكان محدد سلفا، وهي الخطة التي فشلت عندما أصابت إحدى رميات أرتاباتزوس إغريقيا في كتفه، والتف الجميع حوله للمساعدة على إخراج السهم ...
لم يكن هيرودوت يهوى حكي القصص فحسب، بل حكي القصص المزدانة بصيغ التفضيل؛ إذ يستمتع كثيرا بتسجيل شيء كان «أعظم شيء حدث»، أو على الأقل «أعظم شيء على ما بلغنا»، ومن هنا كانت النكهة الواضحة التي صاحبت قصة هرموتمس وبانيونيوس البشعة، وهي قصة توضح أيضا أحد المبادئ الأساسية التي يراها هيرودوت فاعلة في الكون، حيث يخبرنا (برضا واضح) أن هرموتمس هو الوحيد ممن نعرفهم الذي انتقم أعظم انتقام لجرم ارتكب في حقه. كان هرموتمس قد بيع كأسير حرب لرجل يدعى بانيونيوس، الذي يقول هيرودوت إنه «كان يكسب عيشه بآثم طريقة ممكنة»، ألا وهي خصاء الصبيان جميلي الهيئة وبيعهم (يستخدم هيرودوت على لسان تيميستوكليس الكلمة ذاتها، وهي آثم، لوصف محاولة خشايارشا الشريرة حكم كل من آسيا وأوروبا). وكان هرموتمس من ضحايا بانيونيوس، لكن الأمور لم تسؤ معه كما ساءت مع بعض الآخرين؛ حيث انتهى به الحال ليكون الخصي المقرب لدى خشايارشا، وبعد مرور سنوات عديدة، تصادف أن التقى هرموتمس بانيونيوس، وبعد أن شكره على النعم الكثيرة التي حلت عليه نتيجة خصائه، حثه على الانتقال مع أسرته بأكملها للعيش قريبا منه. الغريب أن هذه الخدعة تنطلي على بانيونيوس (وبالتأكيد لم تكن القصة ستفلح لولا ذلك)، وبمجرد وقوعه في قبضته، يندد به هرموتمس وبأفعاله الشنيعة ويجبره على خصاء أبنائه، ثم يجبر أبناءه على خصائه، ويختتم هيرودوت قائلا: «وهكذا وقع بانيونيوس في براثن هرموتمس وحل عليه انتقامه.»
Неизвестная страница