ثناء على الكتاب
شكر وتقدير
ملحوظة بشأن أسماء الأماكن
الشخصيات الرئيسية
تمهيد
الجزء الأول: لم الشمل
1 - الحرية وتناحر الأشقاء
2 - التقسيم
3 - تفاحات في السلة
4 - واد دام وجميل
5 - اللاجئون والجمهورية
6 - الدستور
الجزء الثاني: الهند في عهد نهرو
7 - أكبر مقامرة في التاريخ
8 - الهند والعالم
9 - إعادة رسم الخريطة
10 - إخضاع الطبيعة
11 - القانون والدين
12 - تأمين وضع كشمير
13 - مشاكل قبلية
الجزء الثالث: خلخلة الوسط
14 - التحدي الجنوبي
15 - تجربة الهزيمة
16 - السلام في زمننا
17 - الأقليات
الجزء الرابع: صعود الشعبوية
18 - الحرب وخلافة نهرو
19 - التحول إلى اليسار
20 - إكسير النصر
21 - الغريمان
22 - خريف حكم إنديرا غاندي
23 - الحكومة دون حزب المؤتمر
24 - ديمقراطية مبعثرة
25 - صعود الابن الثاني
الجزء الخامس: سجل الوقائع
26 - الحقوق
27 - أعمال الشغب
28 - الحكام
29 - الثروات
30 - وسائل الترفيه
خاتمة
ملاحظات
ثناء على الكتاب
شكر وتقدير
ملحوظة بشأن أسماء الأماكن
الشخصيات الرئيسية
تمهيد
الجزء الأول: لم الشمل
1 - الحرية وتناحر الأشقاء
2 - التقسيم
3 - تفاحات في السلة
4 - واد دام وجميل
5 - اللاجئون والجمهورية
6 - الدستور
الجزء الثاني: الهند في عهد نهرو
7 - أكبر مقامرة في التاريخ
8 - الهند والعالم
9 - إعادة رسم الخريطة
10 - إخضاع الطبيعة
11 - القانون والدين
12 - تأمين وضع كشمير
13 - مشاكل قبلية
الجزء الثالث: خلخلة الوسط
14 - التحدي الجنوبي
15 - تجربة الهزيمة
16 - السلام في زمننا
17 - الأقليات
الجزء الرابع: صعود الشعبوية
18 - الحرب وخلافة نهرو
19 - التحول إلى اليسار
20 - إكسير النصر
21 - الغريمان
22 - خريف حكم إنديرا غاندي
23 - الحكومة دون حزب المؤتمر
24 - ديمقراطية مبعثرة
25 - صعود الابن الثاني
الجزء الخامس: سجل الوقائع
26 - الحقوق
27 - أعمال الشغب
28 - الحكام
29 - الثروات
30 - وسائل الترفيه
خاتمة
ملاحظات
الهند ما بعد غاندي
الهند ما بعد غاندي
تاريخ أكبر ديمقراطية في
العالم
تأليف
راماتشاندرا جوها
ترجمة
لبنى عماد تركي
ثناء على الكتاب
أحد أفضل كتب عام 2007:
صحيفة ذي إيكونوميست.
صحيفة ذا وول ستريت جورنال.
صحيفة واشنطن بوست.
صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل.
مجلة تايم أوت (مومباي).
مجلة أوت لوك (نيودلهي).
نادرا ما تروى قصة الهند للأمريكيين، وكثير منهم لا يعرفها. كتاب «الهند ما بعد غاندي» يملأ هذا الفراغ ببراعة ... لقد أعطى جوها الهند الديمقراطية التأريخ الثري المتمهل الذي تستحقه.
ملحق «عالم الكتب» في صحيفة واشنطن بوست
تأريخ راماتشاندرا جوها الجديد عميق الإحساس ... يحقق نجاحا يثير الإعجاب.
قسم «مراجعة الكتب» في صحيفة نيويورك تايمز
يسير الفهم وبليغ ورائع ... ينسج جوها سردا زاهيا لعدد لا حصر له من الشخصيات الأقل شهرة من موظفي الخدمة المدنية وزعماء القبائل والجنود والانفصاليين، الذين تبدو قصة كل منهم - كما يعرضها - جديرة بسيرة ذاتية قائمة بذاتها ... عمل مذهل، بل إنه ليصنف ضمن المؤلفات الكلاسيكية دون تردد.
قسم «مراجعة الكتب» في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل
الهند ما بعد غاندي»، مؤلف عملاق كاشف عالي المقروئية ... يقدم حجة مقنعة مفادها أن نجاح الهند الأكبر لم يكن في الاقتصاد، وإنما بناء الدولة ... جوها محلل دقيق لأسباب نجاح الهند، يقدم وصفا بارعا للأوضاع المتبدلة التي عايشتها حكومة الهند المركبة.
صحيفة سياتل تايمز
استقصاء سياسي وثقافي واجتماعي مدهش في طموحه ... فتأريخ جوها الرصين للهند ... جاء في الوقت المناسب تماما.
مجلة بابليشرز ويكلي (تقييم ممتاز)
مؤلف رصين.
جون ليونارد، مجلة هاربرز
ممتاز ... يستعين جوها بمجموعة ثرية من المصادر في سرد ذكي بليغ؛ لكي يشرح كيف تمكنت الهند من البقاء دولة جمهورية ديمقراطية على الرغم من تعدد دياناتها ولغاتها وثقافاتها وأعراقها ... بمجرد أن يبدأ القراء الفصل الأول، سيجدون صعوبة جمة في غلق الكتاب؛ فهو مثير للاهتمام ومميز إلى حد مبهر تماما كالهند نفسها.
دورية لايبراري جورنال (تقييم ممتاز)
وأخيرا، ها هو سرد لتاريخ الهند الديمقراطية لا يقل شمولية عن البلد نفسه ... تتمثل إحدى نقاط القوة في هذا الكتاب في ثراء مصادره وتنوعها ... إنه لعمل رصين.
إدوارد لوس، صحيفة فاينانشال تايمز (لندن)
إن تدوين تاريخ هذا البلد مترامي الأطراف في مؤلف واحد لمهمة صعبة ... إنه شامل ومتوازن ومحكم الصياغة بالقدر الذي يمكن لأي قارئ عقلاني أن يتوقعه ... وصف الناشر هذا الكتاب بأنه «يجب على أي شخص مهتم بالهند أن يقرأه». مثل تلك المبالغات عادة ما يتعامل معها المرء بكثير من التشكك؛ فإذا أضفنا كلمة «المعاصرة» بعد «الهند»، ففي هذه الحالة يكون وصف الناشر مبررا إلى حد بعيد.
فيليب زيجلر، مجلة ذا سبكتايتور
سرد متبصر، منمق، مفعم بالحياة للهند منذ عام 1947.
الملحق الأدبي لصحيفة ذا تايمز (لندن)
كتاب مبهر. سرده جذاب دائما، وهو يتمتع بترتيب زمني دقيق. تناول المناطق المختلفة على نحو منصف ومتوازن؛ فليس هذا هو الحال دائما في مثل هذا السرد التاريخي؛ فإلى جانب المذكرات والدراسات المتخصصة والمقالات والصحف المعاصرة، تفحص جوها أيضا مجموعات أرشيفية مهمة.
سانجاي سوبرامانيام، مجلة لندن ريفيو أوف بوكس
جوها باحث يتميز بمخزون مذهل من الطاقة والإبداع، وقد نجح كتابه في دحض الحجة التي تتردد كثيرا، والتي مفادها أن تاريخ الهند المعاصر لا يمكن تدوينه لأن المصادر غير متاحة (نتيجة لعناد الحكومة)، فقد زار على ما يبدو كل الأرشيفات بدءا من ألاباما إلى الله أباد، ومن كلكتا إلى كاليفورنيا؛ حيث خاض في فيض من المراسلات الخاصة، وتقارير الأنباء، والمنشورات العابرة، إضافة إلى الأوراق الحكومية. ونتج عن ذلك سرد رائع جامع.
سونيل خلناني، صحيفة ذا ديلي تليجراف (لندن)
ألف جوها كتابا ممتازا، مفصلا بصورة رائعة، تمثل قراءته ضرورة لأي شخص لديه اهتمام جاد بالهند الحديثة ... إنه كتاب عبقري على نحو جميل. يقوم الكتاب على بحث وتوثيق محكمين، ولكن جوها ليس بالمؤرخ الأكاديمي الممل بأي حال؛ فهو يقدم الحقائق بموضوعية، ولكنه لا يخفي أبدا وطنيته ولا مبادئه العالمية المستوحاة من نهرو، وهو يتجنب مدح الذات ويحتفي باستمرار بالهند الديمقراطية دون التغاضي عن مواطن الضعف والقصور التي لا حصر لها التي تعتري الدولة.
صحيفة ذي إندبندنت (لندن)
يمثل سرد راماتشاندرا جوها الوجيه للكفاح من أجل إنبات دولة ديمقراطية من بذور الشقاق والخلاف رواية آسرة ... «الهند ما بعد غاندي» عمل متوازن يتميز برؤية ثاقبة لا تخيب.
صحيفة صنداي تايمز (لندن)
عمل ضخم يستحوذ على الانتباه ... لا يمكن لمراجعة موجزة أن تنقل النطاق المذهل لهذا الكتاب الرائع الثري بالموضوعات؛ فبعد بحث مضن واضح، يطرح جوها الحقائق والأرقام التي توصل إليها ببراعة، مطعما إياها بطرفات مختارة بعناية ... ويقدم جوها خاتمة متفائلة وفي الوقت نفسه مؤثرة على نحو غير متوقع ... لا شك في أن كتبا أخرى ستصدر عن قصة الهند الاستثنائية المبهرة بعد الاستقلال، ولكن يصعب تخيل صدور كتاب أفضل من هذا.
صحيفة صنداي تليجراف (لندن)
اختار جوها «أساليب التأريخ السردي الأكثر بدائية» عوضا عن «أساليب علم الاجتماع الإحصائي»، ليمنحنا سجلا سلسا نابضا بالحياة لتجربة الهند الجسورة مع الديمقراطية بعد الاستقلال. واختياره للأساليب مبرر تماما في كتاب يجد المرء في قراءته متعة حقيقية من أوله إلى آخره. يقدم جوها، معملا نزعته إلى الاهتمام بالتفاصيل ومهارته في إيجاد الطرائف الأكثر دلالة، رؤية بانورامية عظيمة لتداعي أحداث ستين عاما من تاريخ الهند السياسي. إنه الكتاب المناسب للاحتفال بهذا اليوبيل الماسي.
صحيفة إنديان إكسبريس (مومباي)
كتاب جوها عمل عظيم من أربع نواح على الأقل؛ أولا: المصادر التي يستخدمها جديدة، ويمكن إلى حد بعيد اعتبارها «سبقا» ... ثانيا: الأسلوب الذي تبناه سلس ودارج ... وكتابته دائما ما تتسم بالوضوح والتحرر الملحوظ من الغموض ... ثالثا: حجم المهمة التي اضطلع بها كان من الممكن أن يثني أي أحد عن المضي فيها، ولكن جوها تمكن من إتمامها بنجاح ... رابعا: ينطوي المحتوى الذي قدمه على أهمية عظيمة ... فجوها لديه رؤية واسعة النطاق للتاريخ، وهو لا يحصر نفسه في التاريخ «الكبير» - المعني بالسياسة والشخصيات - وإنما يكتب بعبقرية أيضا عن التاريخ «الصغير»؛ وهو تاريخ الناس المعبر عنه في الرياضة والأفلام والموسيقى والاحتجاجات والثورات الشعبية المتعددة.
مجلة أوت لوك (نيودلهي)
يمزج هذا الكتاب بين الدقة الأكاديمية ومقروئية روايات الإثارة في دراسة تحبس الأنفاس لمحاولات الهند الحفاظ على وحدتها وديمقراطيتها منذ عام 1947.
مجلة تايم أوت (مومباي)
كم البحث الذي أجري في هذا الكتاب مذهل. أعتقد أن هذا أفضل كتاب أصدره مؤلف واحد عن موضوع السياسة الهندية منذ الاستقلال، من حيث البحث؛ إذ يمكن للقارئ أن يودع بأمان ثقته في الحقائق التي قدمها جوها، فضلا عن سرده للنقاشات والجدل اللذين دارا بشأن الموضوعات الخلافية ... وعرضه دائما ما يتسم بالحرص، وحسن الاطلاع، والإنصاف.
بارتها شاترجي، مجلة ذا بوك ريفيو (نيودلهي)
يمتد تاريخ الهند الغني بالأحداث إلى آلاف السنين، ولكن يمكن القول إن أكثر عصوره حيوية بدأ عام 1947، عندما أقدمت تلك الدولة الحديثة الاستقلال على تجربة الديمقراطية غير المسبوقة؛ فقصة بقائها بلدا متحدا ... من أعظم القصص في زمننا، وكذلك من أكثرها استعصاء على الفهم ... يقدم كتاب جوها أدلة مهمة على كيفية بناء الديمقراطية والحفاظ عليها؛ مما يجعل قراءته ضرورة.
النسخة الآسيوية من مجلة تايم
إلى إيرا وساشا وسوجا،
المصابيح التي تضيء دربي.
شكر وتقدير
على مدى خمسة عقود تقريبا كمواطن هندي، أتيحت لي العديد من الفرص لاكتشاف أن الهند أحيانا تكون أكثر دول العالم إثارة للسخط. لكن فقط عندما بدأت أدرس تاريخها المعاصر اكتشفت أنها كانت في كل الأوقات الأكثر إثارة. جعلني صديقي بيتر شتراوس أخوض هذه الرحلة بأن اقترح علي تأليف كتاب عن الهند المستقلة. وحول مجموعة من أمناء المحفوظات وأمناء المكتبات - الذين لديهم نكران للذات - رحلتي إلى مغامرة عامرة بالإثارة والاكتشافات غير المتوقعة.
أدين بالشكر العميق لفريق عمل متحف ومكتبة نهرو التذكاريان وهو المكان الذي يضم مجموعة هائلة ومتنوعة من الأوراق الخاصة والدوريات والميكروأفلام والكتب عن الهند الحديثة. فلأسابيع متصلة، رافقتني عن طيب خاطر كل من شيري جيفان تشاند وشيري روتيلا من قسم المخطوطات واللتين أحضرتا لي الملف تلو الآخر من ممر كبير مظلم إلى غرفة القراءة المشمسة التي كانت أعمل بها. وبالخارج، في القسم الرئيسي، كان أعضاء فريق العمل بالمكتبة خير عون لي. وفي البحث عن المخطوطات، حصلت أيضا على معاونة كبيرة من نائب مدير المكتبة، الدكتور إن بالاكريشنان ومساعدته الرائعة، ديبا بهاتنجار.
وأتوجه بالشكر أيضا لمكتبة عامة أخرى، أكثر شهرة، وهي المكتبة البريطانية في لندن. تمثلت قاعدتي هناك في الأرشيف القديم المسمى «سجلات ومكتبة دائرة الهند» الذي كان موجودا - أثناء عملي هناك - ضمن قسم «مجموعات الدراسات الشرقية والخاصة بدائرة الهند» (الذي تغير اسمه الآن إلى «الدراسات الآسيوية والأفريقية»). وبغض النظر عن الاسم، فهو يظل مكانا رائعا للعمل فيه، بفريق عمله الكفء والمفعم بالنشاط، وارتباطه الوثيق بمجموعات الدراسات الأخرى، والأهم، الاجتماعات العرضية التي يسمح بها مع العلماء من كافة أنحاء العالم.
من بين المكتبات والأرشيفات الأخرى التي جمعت منها المادة الخاصة بهذا الكتاب تلك التي تديرها دار المحفوظات الوطنية الهندية بنيودلهي، ومركز دراسات جنوب آسيا بكامبريدج، وجامعة كاليفورنيا ببيركلي، وجامعة ستانفورد، وجامعة ميشيجان بآن آربر، وجامعة جورجيا بأثينا، وجامعة كورنيل، وبناية فريندز هاوس بيوستن، والمركز الدولي للهند بنيودلهي، ومكتبة اسكتلندا الوطنية بإدنبره، ومتحف الحرب الإمبراطوري بلندن، وجامعة أوسلو، ومعهد مدراس للدراسات التنموية بتشيناي، ومصنع تاتا للصلب بجمشيدبور وأكاديمية لال بهادور شاستري الوطنية للإدارة بمسوري. وأتوجه بشكر خاص لمركز التعليم والتوثيق في بنجالور، الذي نهلت بشدة من نبع مجموعة قصاصاته الإخبارية المتنوعة على نحو متميز.
إلى جانب الصحف والدوريات الخاصة، اعتمد هذا الكتاب أيضا على كتب أخرى، سواء قديمة أو جديدة، إلى جانب الكتيبات. لم يكن باستطاعتي إيجاد الكثير من تلك الكتب في المكتبات العامة (على الأقل تلك الموجودة في مدينتي، بنجالور، التي تعد مركزا عظيما للعلوم ولكن ليس، للأسف، للإنسانيات). أحضر معظم هذه الكتب من مكتبات بيع الكتب، سواء المعروفة منها أو غير المعروفة. أنا ممتن، على وجه الخصوص، لمكتبة بريمير ببنجالور، ومكتبة سيليكت أيضا ببنجالور، ومكتبة برابهو بووكسيلرز بجورجاون، ومكتبة الكتب الجديدة والمستعملة بمومباي، ومكتبة مانوهار بووكسيلرز بنيودلهي. وعلى نفس الدرجة من الفائدة والمعاونة، كانت الأكشاك الموجودة على الأرصفة الموجودة بالقرب من تمثال فلورا فاونتن بمومباي وحي دارياجانج بدلهي، والتي حصلت منها، عبر العقدين السابقين أو أكثر، على قدر كبير من المادة التي استخدمتها في عملي كمؤرخ.
استقيت الصور الفوتوغرافية التي عرضتها في هذا الكتاب على نحو رئيسي من أربعة مصادر: المكتب الإعلامي الصحفي الهندي، ومتحف ومكتبة نهرو التذكاريان، وصحيفة «ذا هندو»، وصحيفة «أناندا بازار باتريكا». أشكر هذه المؤسسات لتعاونها، وزوجتي سوجاتا لمساعدتي في اختيار مجموعة الصور النهائية المعروضة.
لتقديمهم المساعدة لي بشتى الطرق، أود أن أشكر تشينموي أجروال، وكانتي باجباي، وسوهاس باليجا، وروكميني بانرجي، ونوبور باسو، وميليسنت بينيت، وستانلي برانديس، وفيجاي تشاندرو، وشروتي ديبي، وكاناك ماني ديكشيت، وظفر فيوتالي، وجاجاديف جاجاري، وأميتاف جوش، ووالدي إس آر دي وفيسلاكشي جوها، وسوبريا جوها، ووجاهت حبيب الله، وراجن هارشي، ورازيكا هيرتسبرجر، وتريفور هوروود، وشراياس جاياسيمها، وروبن جيفري، وبهجوان جوش، ونسرين مني كبير وديفيش كابور، وموكل كيسافان، وسومايا كيشافان، ونايانجيوت لاهيري، ونيرمالا لكشمان، وإدوارد لوس، ولوسي لاك، وراجو مينون، وماري ماونت، وراجديب موكرجي، ورودرانجسو موكرجي، وأنيل نوريا، وناندان نيلكاني، وموهانداس باي، وسريرام بانتيو، وبراشانت بانجيار، وشيكار باتاك، وشرينات راجافن، ونيتيا راماكريشنان، وراميش راماناثان، وجايرام راميش، وابن أخي كارتيك راكومار، وماهيش رنجاراجن، وأنورادا روي، وتيرتانكار روي، وجون رايل، وبي ساينات، وسانجيف سيث، وراجديب سارديساي، وجالبا راجيش شاه، وراجبوشن شينداي، وكيه سيفاراماكريشنان، وآرفيند سوبرامانين ونانديني ساندار وآر سودرشن، وإم في سواروب، وشيكا ترفيدي، وسيدهارت فاراداراجان، وإيه آر فنكاتاكالاباتي، وراجندرا فورا، وأمي والدمان، وفرانسيس وين.
بعض الأصدقاء يستحقون أن أذكرهم هنا بكل تقدير، نظرا لمعاونتهم الطويلة لي سواء في أمور مهنية أو شخصية. تلك الأرواح الطيبة هي روكون أدفاني، وأندريه بيتي وكيشاف ديسيراجو وجوبال غاندي وديفيد جيلمور، وإيان جاك، وسانجيف جين، وسونيل خلناني. وقدم لي أندريه وديفيد أيضا تعليقات مفصلة على مسودة الكتاب. وما جعلني أستمر في رحلة تأليفي لهذا الكتاب هو ذكرى صديقي كريشنا راج، محرر مجلة «إكونوميك آند بوليتيكال ويكلي» لمدة 35 عاما، الذي ترتبط حياته بشدة بحياة جمهورية الهند، وذلك كما يتضح في الهوامش الموجودة في نهاية هذا الكتاب.
أشكر محرري ريتشارد ميلنر من دار نشر ماكميلان ودان هالبيرن من دار نشر إيكو التابعة لدار نشر هاربر كولينز، لدعمهما وتشجيعهما ونقدهما وتأديبهما لي. وأعد بأن أكون أسرع إنجازا في الكتب التي قد أؤلفها بعد هذا الكتاب! في واقع الأمر، دون وكيل أعمالي جيل كولريدج، حتى هذا الكتاب لم يكن ليكتمل ويظهر للنور؛ ففي أكثر من مناسبة، تراءى لي أن أتوقف عن التأليف لفترة أو نهائيا. وفي كل مرة، كان جيل هو ما يجعلني أستأنف الكتابة، موضحا لي الطرق التي يمكن من خلالها أن يستمر العرض، وفي النهاية يكتمل.
أدين بأكبر فضل، كما ذكرت في الإهداء، للهنود الرائعين دائما والمزعجين أحيانا الذين أتشرف بالعيش وسطهم.
الصورة المصدرة للكتاب : هنود سائرون للحاق بموكب جنازة غاندي، نيودلهي، 31 يناير 1948. بعدسة هنري كارتييه-بريسون، بإذن من شركة ماجنم.
الهند مجتمع تعددي ينسج سحرا باستخدام الديمقراطية وسيادة القانون والحرية الفردية، والعلاقات المجتمعية والتنوع [الثقافي]. يا له من مكان ملائم للمفكرين! ... لا مانع لدي في أن أولد عشر مرات لكي أعيد اكتشاف الهند.
روبرت بلاكويل؛ السفير الأمريكي المغادر، عام 2003
لا أحد يمكن أن يكون أعلم مني بالشراك الكامنة في طريق من يرغب في اكتشاف حقيقة الهند المعاصرة.
نيراد تشودري، «السيرة الذاتية لهندي مجهول»، 1950
الهند والدول المحيطة بها.
ملحوظة بشأن أسماء الأماكن
في السنوات الأخيرة، عدلت أو غيرت أسماء عدة بلدات ومدن في الهند؛ ومن ثم أصبحت بومباي مومباي، وصارت مدراس تشيناي، وباتت كلكتا كلكتا. وبالمثل، كانت العاصمة الصينية، بيجين أو بكين، تعرف باسم بيكين حتى ثمانينيات القرن العشرين. وهكذا يتماشى استخدام أسماء الأماكن في هذا الكتاب مع المتعارف عليه تاريخيا عوضا عن الدقة اللغوية؛ ومن ثم - على سبيل المثال - نشير إلى عاصمة مهاراشترا باسم بومباي حتى نصل إلى الوقت الذي تغير فيه اسمها رسميا إلى مومباي.
الشخصيات الرئيسية
أتل بهاري فجبايي (1924-):
أول رئيس وزراء من خارج حزب المؤتمر يتم فترة رئاسته لمجلس الوزراء، 1998-2004.
إم إس جلوالكر (1906-1973):
زعيم المنظمة الهندوسية الراديكالية راشتريا سوايامسيفاك سانج.
إنديرا غاندي (1917-1984):
رئيسة وزراء الهند، 1966-1977، 1980-1984.
إي إم إس نامبوديريباد (1909-1998):
أول رئيس وزراء شيوعي لولاية هندية (كيرالا).
إيه زي فيزو (1913-1991):
زعيم الانفصاليين في ناجا.
بي آر أمبيدكار (1892-1956):
زعيم الطوائف الهندية الدنيا وأول وزير قانون في الهند المستقلة.
تشكرافارتي راجا جوبالاتشاري (1878-1972):
أول حاكم عام هندي، ومؤسس حزب سواتنترا المناصر لحرية السوق.
جايا براكاش نارايان (1902-1979):
اشتراكي ومصلح اجتماعي.
جواهر لال نهرو (1889-1964):
رئيس وزراء الهند ووزير خارجيتها، 1947-1964، والد إنديرا غاندي وجد راجيف وسانجاي غاندي.
راجيف غاندي (1945-1991):
رئيس وزراء الهند، 1984-1989، وابن إنديرا غاندي.
سانجاي غاندي (1946-1980):
سياسي في حزب المؤتمر، وابن إنديرا غاندي.
سونيا غاندي (1946-):
سياسية في حزب المؤتمر، وزوجة راجيف غاندي.
الشيخ محمد عبد الله (1905-1982):
زعيم وسياسي كشميري.
فالابهاي باتيل (1875-1950):
وزير داخلية الهند ونائب رئيس وزرائها ، 1947-1950.
لال بهادور شاستري (1902-1966):
رئيس وزراء الهند، 1964-1966.
مورارجي ديساي (1896-1995):
أول رئيس وزراء هندي من خارج حزب المؤتمر، 1977-1980.
موهانداس كيه غاندي، المعروف أيضا بالمهاتما غاندي (1869-1948):
شاع النظر إليه باعتباره «أبو الأمة»، ولا تجمعه صلة قرابة بإنديرا ولا راجيف ولا سانجاي غاندي.
تمهيد
بلد غير طبيعي
1
نظرا لضخامة تعداد شعب الهند وتنوعه فإنه منقسم. والظاهر أنه لطالما كان منقسما؛ ففي ربيع عام 1827، شد الشاعر ميرزا أسد الله خان غالب الرحال من دلهي إلى كلكتا، وبعد ستة أشهر بلغ مدينة باناراس المقدسة لدى الهندوس، وهناك كتب قصيدة بعنوان «مصابيح المعبد»، حوت السطور الخالدة التالية:
قلت ذات مرة لعراف أصيل (يعرف أسرار الدهر الدوار): «تعي جيدا يا سيدي
أن الخير والإيمان،
والوفاء والمحبة
بارحت هذه الأرض التعسة.
فالأب وابنه في شقاق،
والشقيقان يتقاتلان. والوحدة والاتحاد يذويان.
ورغم تلك العلامات المشئومة،
لم لا تقوم الساعة؟
لم لا ينفخ في الصور؟
من يمسك بزمام الطامة الكبرى؟»
1
ألف غالب قصيدته على خلفية أفول نجم الإمبراطورية المغولية. حينها كان مسقط رأسه - سهل الجانج الهندي الذي كان يحكمه حاكم واحد في يوم من الأيام - قد تفرق بين القبائل والجيوش المتناحرة؛ فكان الشقيقان يتقاتلان، والوحدة والاتحاد يذويان، إلا أنه أثناء كتابته تلك الأبيات، كان ثمة قوة جديدة (أجنبية) آخذة في بسط سيطرتها على البلاد؛ إذ راحت بريطانيا تبسط نفوذها بثبات مطرد على الجزء الأكبر من شبه القارة الهندية، حتى انتفضت قطاعات كبيرة من السكان الأصليين عام 1857، فيما سماه المستعمرون تمرد سيبوي، الذي أطلقت عليه الحركة القومية الهندية فيما بعد حرب الاستقلال الأولى.
دارت بعض أشد المعارك ضراوة في مسقط رأس غالب؛ دلهي، التي كانت لا تزال عاصمة المغول اسما، وكانت ستصير مع مرور الوقت عاصمة الراج البريطاني (أي، الحكم البريطاني للهند) أيضا. أما غالب نفسه فكان ولاؤه مقسما؛ إذ كان يقبض معاشا من الحكام الجدد، ولكنه نتاج الثقافة المغولية الراقية. وقد اتضح له أكثر مما اتضح للمستعمرين البريطانيين آنذاك أو للحركة القومية الهندية الآن، أنه يستحيل التمييز بين الحق والباطل في تلك الحالة، وأن كلا الطرفين ارتكبا فظائع يشيب لها الولدان. وكتب غالب أثناء فترة عزلته في داره سردا حزينا جاء فيه: إن «الهند صارت ساحة زوبعة هائلة ونار مستعرة». وسأل قائلا: «إلى أي نظام جديد يمكن للهندي أن يتطلع في حبور؟»
2
كانت إجابة ذلك السؤال وشيكة؛ فبعد أحداث عام 1857 تولت بريطانيا زمام الحكم في المستعمرات الهندية، وحل جهاز بيروقراطي راق محل إدارة شركة الهند الشرقية القديمة التي كانت ذات طبيعة مؤقتة وعشوائية إلى حد ما، وتكونت مناطق ومقاطعات جديدة، وتولى إدارة الدولة نخبة ممثلة في دائرة الخدمة المدنية الهندية بدعم من مديريات الشرطة والغابات والري وما إلى ذلك، وبذل الكثير من الجهد (والمال) لإنشاء سكك حديدية عبر البلاد، وهو ما كان له إسهام كبير في وحدة الهند البريطانية واستقرارها؛ إذ تسنى للحكام تحريك قواتهم بسرعة للحيلولة دون تكرر أحداث عام 1857.
2
بحلول عام 1888، كان البريطانيون قد وطدوا أقدامهم في الهند إلى حد أنه بات بإمكانهم توقع دوام حكمهم، إن لم يكن ألف عام، ففترة تتجاوز أعمارهم بكثير على أقل تقدير. وفي ذلك العام، ألقى رجل كان قد شارك في إرساء قواعد الحكم البريطاني للهند سلسلة من المحاضرات في كامبريدج، نشرت فيما بعد في كتاب تحت عنوان بسيط: «الهند». كان ذلك الرجل هو السير جون ستراتشي، الذي أمضى سنوات طوالا في شبه القارة الهندية، وأصبح في النهاية عضوا في مجلس الحاكم العام. وبعد تقاعده في إنجلترا، تناول تجربته في الهند على خلفية التطورات السياسية الأخيرة في أوروبا نفسها.
أفرد ستراتشي أجزاء كبيرة من كتابه للتاريخ الإداري للحكم البريطاني للهند؛ من حيث الجيش ودوائر الخدمة المدنية، والسياسات المعنية بالأراضي والضرائب، والوضع الغريب الذي تمتعت به «الولايات المحلية» (الولايات الأميرية). كان ذلك بمنزلة الإعداد لمن قد يعملون في الهند بعد الرحيل عن كامبريدج. لكن كتابه انطوى كذلك على رأي نظري أشمل مفاده أن «الهند» مجرد لقب أطلق بغرض التيسير؛ أي إنه «اسم نطلقه على منطقة هائلة تشمل العديد من الأقطار المختلفة».
كان ستراتشي يرى أن الاختلافات القائمة بين أقطار أوروبا أقل كثيرا من الاختلافات القائمة بين أقطار الهند، فقال: «إن اسكتلندا تشبه إسبانيا أكثر مما تشبه البنغال البنجاب.» فقد كان تنوع الأعراق واللغات والأديان في الهند أكبر بكثير. وخلافا لأوروبا، لم تكن تلك «الأقطار» «دولا»؛ أي، إنها لم تكن تتمتع بهوية سياسية أو اجتماعية مميزة. وقال ستراتشي لجمهوره في كامبريدج: «إن أول وأهم شيء ينبغي تعلمه عن الهند هو أنه لا يوجد ما يسمى الهند، وما كان موجودا قط، ولا حتى أي قطر من أقطار الهند يمتلك - حسب الفكر الأوروبي - أي نوع من الوحدة سواء المادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الدينية.»
رأى أنه لم يكن ثمة أمة أو دولة هندية في الماضي، وأنه لن يكون هناك واحدة في المستقبل. واعتقد أنه «يمكن تصور نشأة مشاعر الولاء الوطني في أقطار هندية بعينها». لكنه عقب قائلا:
أما أن يمتد أثر ذلك الولاء ليشمل الهند كافة، وأن يشعر رجال البنجاب والبنغال والمقاطعات الشمالية الغربية ومدراس يوما أنهم ينتمون إلى دولة هندية واحدة، فأمر مستحيل؛ فقد يحدو بك المنطق والاحتمالية ذاتهما أن تتطلع إلى وقت تتوحد فيه دول أوروبا المتعددة في دولة واحدة.
3
كان ستراتشي يعتمد في تعليقاته على الحكم من واقع التاريخ؛ ففي ذلك الوقت كان ثمة دول جديدة تعلن عن نفسها بقوة داخل أوروبا على أساس اللغة المشتركة أو الأراضي المشتركة، في حين لم تبدر عن أي من الأقطار التي عرفها في الهند صحوة وطنية مشابهة. لكن يمكننا كذلك تأويل تعليقاته على أنها نصيحة سياسية تهدف إلى تقوية عزيمة من سيئول به الأمر ضمن الحضور إلى الخدمة في الهند؛ إذ كل «دولة» جديدة تنشأ في الهند تعني انتقاصا من قوة الإمبراطورية البريطانية ومكانتها.
ومن المفارقات أنه أثناء حديث ستراتشي كان ثمة مجموعة من الهنود تشكك في الحكم الذي أطلقه. كانت تلك المجموعة هي التي أسست المؤتمر الوطني الهندي؛ الهيئة التمثيلية التي طالبت بمنح سكان البلد دورا أكبر في إدارة شئونهم. وكما يتبين من اسمها، استهدفت تلك الهيئة توحيد الهنود من شتى الثقافات والأقاليم والأديان واللغات؛ ومن ثم إقامة ما ظنه المستعمرون أمرا مستحيلا؛ وهو دولة هندية واحدة.
صدر العديد والعديد من الكتب الجيدة في موضوع تطور المؤتمر الوطني الهندي، وتحوله من ناد للنقاش إلى حركة جماهيرية ثم حزب سياسي، والدور الذي اضطلع به زعماء مثل جوخال وتيلاك و(في المقام الأول) غاندي في تلك المسيرة التقدمية. وتوجه الانتباه إلى مد جسور التواصل بين الجماعات اللغوية والتجمعات الدينية والطوائف الاجتماعية المختلفة. لم تكلل تلك المحاولات بنجاح كامل؛ إذ لم تقتنع الطوائف الاجتماعية الدنيا، ولا سيما المسلمون، اقتناعا كاملا قط بزعم المؤتمر الوطني أنه حزب «وطني» بحق؛ لذا عندما أتى الاستقلال السياسي أخيرا عام 1947 لم يأت لدولة واحدة، وإنما لدولتين: الهند وباكستان.
ليس هذا مجال استرجاع تاريخ الحركة القومية الهندية؛
4
إذ ليس علي سوى التذكير بأنه منذ تأسيس المؤتمر الوطني حتى تحرير الهند - وتقسيمها - كان ثمة متشككون يرون أن الحركة القومية الهندية لم تكن ظاهرة طبيعية على الإطلاق. قطعا كان ثمة ساسة ومفكرون بريطانيون يرحبون بمنح الهند الحكم الذاتي، وساهموا على طريقتهم الخاصة في تحقيق ذلك (كان أحد المحركين الرئيسيين للمؤتمر الوطني الهندي مسئولا استعماريا من أصل اسكتلندي هو: ألان أوكتافيان هيوم)، إلا أنه كان ثمة آخرون كثر يرون أنه لم يكن ثمة روح قومية في الهند - خلافا لفرنسا أو ألمانيا أو إيطاليا - ولم يكن ثمة رباط يؤلف بين الناس ويدفعهم إلى الأمام بعزم. ونبع من تلك الرؤية الادعاء القائل بأن الاستعمار البريطاني كان هو الشيء الوحيد الذي وحد الهند والهنود.
وكان من مؤيدي رأي جون ستراتشي - القائل بأنه لا يمكن أبدا أن تقوم دولة هندية مستقلة - كتاب مشهورون ومغمورون على حد سواء. كان من أبرز المنتمين إلى الفئة الأولى رديارد كيبلينج، الذي قضى السنوات التكوينية من حياته في شبه القارة الهندية، وكتب عنها بعض أروع قصصه. في نوفمبر 1891، زار كيبلينج أستراليا، وهناك سأله أحد الصحفيين عن «إمكانية تحقق الحكم الذاتي في الهند»، فرد قائلا: «أبدا! شعبها عمره 4 آلاف سنة؛ أي إنه شعب عجوز إلى حد يحول دون تعلمه مثل تلك الأمور. ما يريدونه هو القانون والنظام، ونحن هناك لنمنحهم إياهما، ونؤدي مهمتنا على أكمل وجه.»
5
وفي حين شدد كيبلينج على قدم الحضارة الهندية، أكد مستعمرون آخرون على عدم نضج العقلية الهندية وإن وصلوا إلى النتيجة ذاتها؛ وهي أن الهنود غير قادرين على حكم أنفسهم. وقد أصر لاعب كريكيت وصاحب مزارع شاي - بعد أربعين عاما قضاها هناك - على أن:
الفوضى ستعم الهند إن بلغت منا الحماقة يوما أن ندع أهلها يديرون شئونهم بأنفسهم. يا للهول! ما أفظع خليط الاضطراب والعبث وسوء الإدارة وما هو أسوأ من ذلك بكثير الذي سيتبع ذلك على الفور!
قد يذهب ذلك الشعب العظيم إلى أي مكان ويفعل أي شيء تحت قيادتنا.
أما عنهم أنفسهم فما زالوا أطفالا فيما يتعلق بأمور الحكم أو الحنكة السياسية، وقادتهم المزعومون هم أسوأ من فيهم.
6
كانت مثل تلك الآراء واسعة الانتشار فيما بين البريطانيين سواء داخل الهند أو في وطنهم. على الصعيد السياسي، كان أهم «أنصار ستراتشي» هؤلاء هو ونستون تشرشل بلا مراء؛ ففي أربعينيات القرن العشرين - عندما لاح استقلال الهند جليا في الأفق - قال تشرشل متذمرا إنه لم يصر الوزير الأول للملك حتى يقود تفكيك الإمبراطورية البريطانية.
فقبل تلك الأحداث بعقد من الزمان حاول أن يبث الحياة في مستقبله السياسي المحتضر بانتهاج سياسة معارضة منح الهنود الحكم الذاتي. وبعد «مسيرة الملح» التي قادها غاندي عام 1930، بدأت الحكومة البريطانية تبحث مع أعضاء الحركة القومية الهندية مسألة إمكانية منح مستعمرة الهند وضع الدومنيون، فوضعت تلك الفكرة بصورة مبهمة دون جدول زمني لتحقيقها. وعلى الرغم من ذلك، سماها تشرشل فكرة «ليست خيالية في حد ذاتها فحسب، بل وشريرة بصورة إجرامية في تبعاتها». وبما أن الهنود لم يكونوا أهلا للحكم الذاتي، كان لا بد من تسيير «القوات الجادة الصارمة للإمبراطورية البريطانية» لاستباق أي احتمال من ذلك القبيل.
وخلال عامي 1930 و1931 ألقى تشرشل خطابات عدة تستهدف - بأسلوب غير مباشر - حشد أنصار معارضة استقلال الهند؛ ففي خطاب ألقاه أمام جمهور من الناس في مدينة لندن (جزء من لندن الكبرى) في ديسمبر عام 1930، زعم أنه إذا ترك البريطانيون شبه القارة الهندية، «فسيستعان بجيش من الإنكشاريين البيض - بتوجيه من ألمانيا إن لزم الأمر - لتأمين صعود الهندوس المسلح إلى السلطة». وبعد مرور ثلاثة أشهر، قال تشرشل في الخطاب الذي ألقاه في قاعة ألبرت هول عن «واجبنا تجاه الهند» - بينما كان قريبه دوق مارلبورو يرأس الجلسة إن «تسليم الهند لحكم البراهمة [المسيطرين على حزب المؤتمر الوطني من وجهة نظره] تصرف يتسم بالإهمال القاسي والآثم». وتنبأ بأنه إذا رحل البريطانيون فستزول الخدمات العامة التي أنشئوها قاطبة - الإدارات القضائية والطبية وإدارة السكك الحديدية والأشغال العامة - وأنه «سرعان ما سترتد الهند قرونا إلى الوراء لتسقط في بئر الهمجية والحرمان الذي كانت غارقة فيه في العصور الوسطى».
7
3
بعد مرور عقد ونصف عقد من الزمان على إطلاق ونستون تشرشل تلك التحذيرات، رحلت بريطانيا عن الهند، وتلا ذلك فترة من الهمجية والحرمان فعلا، ما زال تحديد المسئول عنها موضع جدل محتدم. لكن أمكن استعادة النظام بعدها بصورة أو بأخرى، ولم تستدع الحاجة تدخل الألمان لحفظ السلام. أما صعود الهندوس - إن جاز الوصف - فحدث واستمر لا بقوة السلاح وإنما بانتخابات منتظمة قائمة على حق الاقتراع العام للبالغين.
إلا أنه خلال السنوات الستين المنصرمة منذ استقلال الهند، صارت مدة بقائها موحدة أو حفاظها على المؤسسات والعمليات الديمقراطية مثار التكهنات؛ فكلما مات رئيس وزراء سادت تنبؤات بحلول الحكم العسكري محل الديمقراطية، وكلما شحت الأمطار الموسمية توقع الناس أن تجتاح البلاد المجاعة، وكلما ظهرت حركة انفصالية جديدة لاح في الأفق اختفاء الكيان الموحد للهند.
من بين أولئك المتشائمين كان ثمة كتاب غربيون، بعد عام 1947 صار احتمال أن يكونوا أمريكيين أو بريطانيين متساويا. الجدير بالذكر أن وجود الهند لم يمثل لغزا فقط بالنسبة إلى المراقبين العابرين أو الصحفيين الذين يحكمون بديهتهم فحسب، بل مثلت حالة شاذة بالنسبة إلى علم السياسة الأكاديمي أيضا، الذي تنص مسلماته على أن التغاير الثقافي والفقر لا تقوم عليهما الدول، ناهيك عن الدول الديمقراطية؛ فقد كتب عالم السياسة المرموق روبرت دال أن فكرة أن الهند «يمكنها الإبقاء على مؤسسات ديمقراطية تبدو - ظاهريا - مستبعدة إلى حد بعيد». وأضاف أنها: «تفتقر إلى الظروف المطلوبة كافة.» وكتب باحث أمريكي آخر يقول: «إن الهند مشهورة بتحطيمها تعميمات العلوم الاجتماعية، إلا أن النتائج التي توصل إليها هذا المقال توفر أساسا للتشكيك في استمرارية الديمقراطية الهندية.»
8
وتزخر صفحات هذا الكتاب بتنبؤات تنذر بتفكك الهند الوشيك، أو وقوعها في بئر الفوضى أو الحكم السلطوي. دعوني أستشهد بنبوءة لا أكثر لزائر متعاطف هو الصحفي البريطاني دون تايلور، فعندما كتب تايلور عام 1969 - حين كانت الهند قد ظلت متحدة طوال عقدين من الزمان واجتازت أربعة انتخابات عامة - كان ما زال يفكر كالتالي:
يظل السؤال المهم هو: هل يمكن أن تبقى الهند وحدة واحدة، أم أنها ستتفكك؟ ... عندما يتطلع المرء إلى ذلك البلد بمساحته الشاسعة، وشعبه الذي يبلغ تعداده 524 مليون نسمة، واللغات الخمس عشرة الكبرى المستخدمة فيه، وأديانه المتنازعة، وأجناسه المتعددة، يبدو عسيرا على التصديق أن تتمكن دولة واحدة من أن تنشأ يوما في تلك الظروف.
بل إنه من العسير حتى أن يستوعب العقل حدود ذلك البلد بما يحويه من جبال الهيمالايا العظيمة، وسهل الجانج الهندي الفسيح الذي تحرقه الشمس وتجتاحه الأمطار الموسمية الضارية، والدلتا الشرقية الخضراء المغمورة بمياه الفيضان، والمدن العظيمة مثل كلكتا وبومباي ومدراس؛ فهي - في كثير من الأحيان - لا تبدو بلدا واحدا، إلا أن الهند تتمتع بصلابة تبدو ضمانا لبقائها، وفيها شيء لا يمكن وصفه إلا بالروح الهندية.
أظن أنه ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن مصير آسيا معلق ببقائها.
9
يتمنى القلب أن تبقى الهند، ولكن العقل قلق من ألا تبقى؛ فهي مكان مفرط التعقيد والإرباك، ويجوز للمرء أن يقول إنها بلد «غير» طبيعي.
والحقيقة أنه منذ نشأة ذلك البلد كان ثمة هنود كثر ارتأوا أن بقاء الهند على المحك، فكان بعضهم (الوطنيون) يتحدث أو يكتب في تخوف، والبعض الآخر (الانفصاليون أو الثوريون) يتحدث أو يكتب في ترقب. وعلى غرار نظرائهم الأجانب، صاروا يعتقدون أن ذلك المكان أكثر تنوعا من أن يظل دولة، وأفقر من أن يظل ديمقراطيا.
4
في العقد الأخير من القرن الماضي أقمت بمسقط رأس غالب، إلا أنني لم أعش في المدينة القديمة المسورة حيث لا يزال قصر عائلته قائما، وإنما في نيودلهي التي بناها البريطانيون لتكون عاصمة لإمبراطوريتهم في الهند. وكما في زمن ذاك الشاعر، كان الهندي يقاتل أخاه الهندي. وفي طريقي إلى العمل كان علي أن أجتاز طريق راج باث (كينجز واي سابقا؛ أي، طريق الملك)، وهو الطريق الذي يشير اسمه وموقعه إلى ممارسة سلطة الدولة. يمتد ذلك الطريق قرابة ميل على أرض منبسطة، وعلى جانبيه مساحات فسيحة، الهدف منها أن تسع آلاف المتفرجين الذين يأتون لمشاهدة الاستعراض السنوي في عيد الجمهورية، ثم يعلو الطريق تل ليبلغ المبنيين العريقين المشيدين من الحجر الرملي والمعروفين بالمبنى الشمالي والمبنى الجنوبي، واللذين يحويان مكاتب الحكومة الهندية. وينتهي الطريق بالمنزل المهيب الذي كان نائب الملك في الهند يعيش فيه يوما في عهد الهند البريطانية.
وقتما انتقلت إلى نيودلهي كان البريطانيون قد رحلوا عنها منذ زمن بعيد، فكانت الهند آنذاك جمهورية حرة ذات سيادة، ولكنها لم تكن جمهورية هانئة تماما على ما يبدو؛ إذ لاحت علامات الشقاق في كل مكان. ومن الجدير بالذكر أنه على طريق راج باث، الأراضي، التي يفترض أن تكون خالية في غير أيام المراسم الاحتفالية، صارت قرية عامرة بالخيام، وكل منها علقت خارجه لافتات نابضة بالحياة. كان من الممكن أن يسكن إحدى تلك الخيام فلاحون من جبال الهيمالايا بمقاطعة أوتراخند يطالبون بمقاطعة منفصلة، في حين يسكن أخرى مزارعون من مهاراشترا يحاربون من أجل رفع سعر غلتهم، ويسكن ثالثة أهالي ساحل كونكان الجنوبي الذين يلحون على الاعتراف بلغتهم رسميا بضمها إلى الجدول الثامن للدستور الهندي.
وكان الأشخاص المقيمون في تلك الخيام والقضايا التي يدفعون بها في تغير دائم؛ فقد يحل عمال المصانع المحتجون على تخفيض النفقات محل فلاحي التلال ، ويحل لاجئون من منطقة التبت يطلبون الجنسية الهندية محل مزارعي مهاراشترا، ورهبان هندوسيون يطالبون بحظر ذبح البقر محل متحدثي اللغة الكونكانية.
في أوائل تسعينيات القرن العشرين، أزالت الحكومة تلك الخيام على نحو فوري؛ خوفا من الانطباع الذي قد يخلفه مثل ذلك التعبير الصريح عن المعارضة لدى الزوار الأجانب. فأخلي طريق راج باث من تلك التعديات واستردت مروجه الخضراء زهوها السابق، إلا أن المحتجين تجمعوا مرة أخرى وانتقلوا إلى مكان آخر، إذ استقروا آنذاك على بعد ميل تجاه الشمال الغربي إلى جانب مرصد جانتار مانتار في منطقة كونوت بليس. هناك كانوا بعيدين عن أعين الدولة، ولكن أمام أعين المواطنين الذين يمرون يوميا من منطقة التسوق المزدحمة تلك. عام 1998 قررت الشرطة أن ذلك الوضع لا يمكن أن يستمر أيضا، فهدمت الأعشاش مجددا، إلا أنه - حسب إفادة إحدى الصحف: «بالنسبة إلى السلطات، لم يتغير سوى المكان؛ فالمشكلات لا تزال قائمة. وما كان منها إلا أن نقلت هؤلاء المحتجين إلى قطعة أرض خالية عند تقاطع ماندير مرج وطريق شانكار؛ حيث يرجح أن يكونوا أقل لفتا للأنظار.»
10
أثناء فترة إقامتي في دلهي - في تسعينيات القرن العشرين - تمنيت أن يتوفر لي متسع من الوقت للسير في طريق راج باث كل يوم من أول يناير إلى نهاية ديسمبر، حتى أسجل ظهور الخيام وقاطنيها واختفاءهما. كانت تلك ستكون قصة الهند كما يرويها شارع واحد في عام واحد. أما الكتاب الماثل بين أيديكم الآن فيتبع نهجا مختلفا؛ فروايته تمتد عبر ستة عقود، بدءا من عام 1947 وصولا إلى وقتنا الحاضر، إلا أنه على غرار الكتاب الذي كنت أنوي يوما تأليفه - استنادا إلى سنة أقضيها أسير بطريق راج باث جيئة وذهابا - يحكي أيضا قصة الصراعات الاجتماعية في المقام الأول؛ من حيث كيفية نشأتها، والتعبير عنها، والسعي إلى حلها.
تجري تلك الصراعات على محاور متعددة، نخص بالذكر منها حاليا أربعة محاور باعتبارها الأبرز؛ أولها: محور «الطوائف الاجتماعية» التي تشكل هوية رئيسية بالنسبة إلى العديد من الهنود؛ إذ يتحدد على أساسها من يستطيعون الزواج، ومع من يمكنهم أن يتواصلوا، ومن ينبغي لهم معاداته. ولفظة «كاستا» البرتغالية تمزج بين مفهومين هنديين هما؛ جاتي: الجماعة التزاوجية التي يولد المرء فيها، وفارنا: المكانة التي تحتلها تلك الجماعة في منظومة التقسيم الطبقي الاجتماعي الذي ذكرتها النصوص الهندوسية المقدسة. وثمة أربع طوائف من «الفارنا»، بينما شكل «المنبوذون» سابقا الطائفة الخامسة (والدنيا). وتتضمن تلك الطوائف أكثر من 3 آلاف «جاتي» أو يزيد، كل منها يتحدى الأعلى منه درجة في المنطقة ذاتها، بينما يمثل له الأدنى منه تحديا بدوره.
المحور الثاني هو «اللغة»: فدستور الهند يعترف باثنين وعشرين لغة باعتبارها لغات «رسمية». أهم تلك اللغات هي «الهندية»، التي يتحدثها أكثر من 400 مليون شخص بصورة أو بأخرى. أما اللغات الأخرى فمنها: التيلوجوية، والكانادية، والتاميلية، والمالايالامية، والماراثية، والجوجاراتية، والأورية، والبنجابية، والبنغالية، والآسامية، وكل منها له طريقة كتابته المميزة، ويتباهى بأنه اللغة الأصلية لملايين البشر. وبطبيعة الحال، لم ينظر إلى الوحدة الوطنية والتنوع اللغوي على أنهما متوافقان على الدوام؛ فقد حارب الهنود الذين يتحدثون إحدى اللغات أشقاءهم من متحدثي اللغات الأخرى.
المحور الثالث للنزاع هو «الدين»: فالغالبية العظمى من تعداد الهند الذي يفوق المليار نسمة تعتنق الديانة الهندوسية، إلا أن الهند بها كذلك ثاني أكبر جماعة سكانية مسلمة في العالم؛ نحو 140 مليون نسمة (إندونيسيا فقط يفوق عدد سكانها المسلمين ذلك العدد). إضافة إلى ذلك، ثمة جماعات كبيرة من المسيحيين والسيخ والبوذيين والجاينيين. وبما أن العقيدة ركن رئيسي من أركان هوية الإنسان مثلها مثل اللغة، فلا غرابة على الإطلاق في نشوب النزاعات أحيانا بين الهنود الذين يعبدون آلهة مختلفة.
يتمثل المحور الرئيسي الرابع في الطبقة الاجتماعية: فالهند بلد ذو تنوع ثقافي منقطع النظير، لكنها للأسف تنطوي أيضا على أوجه تفاوت اجتماعي هائلة؛ إذ ثمة رجال أعمال هنود فاحشو الثراء يمتلكون بيوتا ضخمة في لندن ونيويورك، إلا أن 26٪ من سكان الهند - أي قرابة 300 مليون فرد - يعيشون تحت خط الفقر الرسمي. في الريف، ثمة تفاوت بالغ في حيازة الأراضي، وفي المدينة، ثمة تباين كبير في الدخول . وكما هو متوقع، أشعلت تلك الاختلالات فتيل العديد من حركات الاحتجاج والمعارضة.
تعمل محاور الصراع فرادى وكذلك بالتوازي؛ فأحيانا تتحدث جماعة تعتنق ديانة بعينها لغة خاصة بها أيضا، وكثيرا ما تكون الطوائف الاجتماعية الدنيا هي كذلك طبقات المجتمع الدنيا. ربما يتعين علينا أن نضيف إلى تلك المحاور الأربعة محورا خامسا يتقاطع معها، ألا وهو: «الجنس»؛ ففي هذا الموضوع أيضا تنطوي الهند على تناقضات صارخة؛ ففي حين تولت امرأة منصب رئيس الوزراء 15 عاما كاملة، لا يزال وأد البنات شائعا جدا في بعض المناطق بالهند، ويتلقى العمال الذين لا يملكون أراضي أجورا زهيدة، أقلها على الإطلاق أجور العاملات منهم. والطوائف الاجتماعية الدنيا موصومة اجتماعيا، وبالأخص نساؤها. وينزع رجال الدين في الديانات كافة إلى وضع المرأة في مركز متدن في الدنيا والآخرة. يعد هذا المحور - بصفته محورا للتمييز - أكثر تغلغلا من المحاور الأخرى، وإن كان قليلا ما يعبر عنه في احتجاجات صريحة وجماعية.
تحمل الهند في القرن العشرين الأهمية ذاتها على الأقل بالنسبة إلى المؤرخين - باعتبارها مختبرا للصراعات الاجتماعية - التي تحملها أوروبا القرن التاسع عشر؛ ففي الحالتين نتجت الصراعات عن تلاقي عمليتي تغير اجتماعي لهما أثر تحولي حقيقي، ألا وهما: التصنيع وصناعة دول وطنية حديثة. في الهند كان مجال الشقاق أوسع، نظرا لتنوع جماعاتها المتنافسة من حيث الديانة والطائفة الاجتماعية والطبقة واللغة. ونجد الصراعات أوضح كذلك في الهند؛ إذ إن الهند المعاصرة - بخلاف أوروبا القرن التاسع عشر - دولة ديمقراطية قائمة على منح حق الاقتراع للبالغين، وبها صحافة حرة وسلطة قضائية مستقلة إلى حد بعيد، ولم يشهد زمان أو مكان في تاريخ البشر صراعات اجتماعية تتسم بمثل ذلك التنوع الثري، أو عبر عنها بتلك القوة، أو ظهرت بتلك البلاغة في الفن والأدب، أو تناولها النظام السياسي ووسائل الإعلام بتلك الصراحة.
ويمكن تلخيص تاريخ الهند المستقلة - ومحتويات ذلك الكتاب - في سلسلة من «خرائط الصراع»؛ إذ يمكننا أن نرسم خريطة للهند في كل عقد من الزمان، مع تعيين ألوان متنوعة للصراعات التي سادت آنذاك حسب شدتها : فيستخدم اللون الأزرق للصراعات المعبرة عن مصالح فئة بعينها بصورة ديمقراطية، واللون الأحمر للصراعات المطالبة بإحداث تغير أكبر في القانون بسبل أكثر عدوانية، وإن كانت ما زالت مسالمة، واللون الأسود للصراعات الساعية إلى تدمير الدولة الهندية بالسلاح.
وبقراءة تلك الخرائط حسب ترتيبها الزمني، من شأن المرء أن يجد تباينا كبيرا على مر العقود؛ إذ تصير المناطق الحمراء سوداء، وتصير المناطق السوداء حمراء، وتصير المناطق الزرقاء والحمراء بيضاء؛ وهو لون مناطق الهند التي لا يظهر فيها صراع كبير على الإطلاق. من شأن تلك الخرائط أن تقدم رسما مفعما بالألوان المتغيرة، إلا أنه في خضم تلك التغيرات كلها من شأن المراقب الفطن أن يلاحظ أيضا أن شيئين ظلا ثابتين لا يتغيران؛ أولا: أن شكل الخريطة لا يتغير خلال تكراراتها كلها، يعزى ذلك إلى أنه ما من جزء كبير من الهند نجح في «الانفصال» عنها. وثانيا: أن المناطق الزرقاء والحمراء والسوداء - مجتمعة - لم تقترب بأي شكل قط من حجم المناطق البيضاء على الخريطة. حتى خلال الفترة التي عرفت يوما باسم «عقود الخطر»، كان ما يربو كثيرا على 50٪ من سكان الهند يعيش في سلام هانئ.
وتزخر صحافة اليوم - الجادة والصفراء، واليسارية والمحافظة، والهندية والغربية - بقصص النجاحات الاقتصادية للهند، وهو ما يعد متنافرا مع ماضيها الحافل بالفقر والحرمان، إلا أن قصة النجاح الحقيقية للهند لا تكمن في ميدان الاقتصاد، بل السياسة. قد يكون الترحيب ب «طفرة البرمجيات» الهندية سابقا لأوانه؛ إذ إننا لا نعلم بعد ما إذا كانت تلك الطفرة ستسفر عن تحقيق الرخاء على نطاق أوسع لعامة الشعب أم لا، إلا أن بقاء الهند دولة واحدة بعد مرور ستين عاما عصيبة على استقلالها، واحتفاظها بديمقراطيتها إلى حد كبير هما حقيقتان ينبغي أن نوليهما اهتماما أكبر؛ فقد تبين من تحليل إحصائي أجري مؤخرا للعلاقة بين الديمقراطية والتنمية في 135 بلدا أن «احتمالية فشل الديمقراطية في الهند كانت شديدة الارتفاع»؛ فنظرا لانخفاض مستويات الدخل ونسبة المتعلمين في الهند، وارتفاع مستويات الصراع الاجتماعي، فإنه «كان المتنبأ لها أن تكون دولة دكتاتورية خلال فترة الدراسة بأكملها». وبما أنها فعليا كانت دولة ديمقراطية طوال تلك الفترة (باستثناء عامين)، فقد كان ثمة سبيل وحيد لوصف الهند، وهو: أنها «قيمة شاذة كبيرة».
11
ربما يحتاج المرء في تفسير ذلك الشذوذ - أو تلك المفارقة - إلى نبذ طرائق علم الاجتماع الإحصائي، الذي دائما ما ستكون الهند استثناء القاعدة فيه، والاستعاضة عنها بالأساليب الأكثر بدائية الخاصة بالتأريخ السردي؛ فقوى الشقاق في الهند متعددة، ويوليها هذا الكتاب الاهتمام الواجب، إلا أن ثمة قوى أبقت على الهند متحدة أيضا، وساعدت على تجاوز أوجه الشقاق الطبقية والثقافية أو احتوائها، وأبطلت - حتى هذه اللحظة على الأقل - تلك التنبؤات المتعددة القائلة بأن الهند لن تظل متحدة ولن تظل ديمقراطية. تلك القوى ليست ظاهرة بالقدر ذاته، ويتمثل أحد أهداف هذا الكتاب في تسليط ضوء أكبر عليها. أظنه من السابق لأوانه أن نعرفها الآن؛ فسوف تتكشف مع تقدم السرد. يكفي أن نقول إنها تضمنت أفرادا ومؤسسات على السواء.
5
كتب المنظر السياسي سونيل خلناني يقول: «يمكن النظر إلى الفترة التالية على عام 1947 في تاريخ الهند على أنها مغامرة فكرة سياسية، وهي: الديمقراطية.» طبقا لتلك الرؤية، تبدو الهند المستقلة «ثالث حدث في إطار التجربة الديمقراطية العظيمة التي أطلقتها الثورة الأمريكية والثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر». وكل من تلك التجارب «أخرج طاقات هائلة، ورفع التوقعات حتى بلغت الآفاق، وتعرض لإحباطات مأساوية». وأضاف خلناني أنه في حين أن تجربة الهند هي الأحدث، «فقد يتضح أن النتيجة التي أسفرت عنها هي أهم من نتيجة التجربتين الأخريين. ويعزى ذلك جزئيا إلى نطاقها البشري الهائل، وجزئيا إلى موقعها الذي يمثل منفذا مهما لينبوع الحرية الفائر في قارة آسيا».
12
بصفتي هنديا، أود تخيل أن تجربة الديمقراطية في الهند ستصير «أهم» من التجارب الشبيهة بها في الغرب، وبصفتي مؤرخا، لا أعرف سوى أنها أقل التجارب حظا في الدراسة؛ فقد صدرت مئات - وربما آلاف - الكتب عن الثورتين الفرنسية والأمريكية. ونشرت سير زعمائها المشهورين والمغمورين، ودراسات عن الخلفية الاجتماعية للمشاركين في الثورتين ، وتقييم لتطورها أو انحسارها على مدى العقود والقرون التالية. وفي المقابل، يمكن عد الأعمال الصادرة عن مؤرخين بشأن أي وجه من أوجه الديمقراطية الهندية على أصابع اليد الواحدة، أو - بقدر أكبر من سعة الأفق - على أصابع اليدين.
وقد كتب الخبير التربوي كريشنا كومار يقول: «بالنسبة إلى الأطفال الهنود التاريخ نفسه ينتهي بالتقسيم والاستقلال؛ فالتاريخ - باعتباره أحد مكونات الدراسات الاجتماعية، وفيما بعد باعتباره مادة قائمة بذاتها - يفرغ من مضمونه عام 1947 ... وكل ما حدث خلال الأعوام الخمسة والخمسين الأخيرة يمكن أن يمر عليه منهج مادة التربية المدنية البائس والأعمال السينمائية والتليفزيونية مرور الكرام؛ فالتاريخ الذي يتمثل في المعرفة بالماضي المتكونة بالسبل الرسمية لا يغطي تلك الفترة.»
13
إذا كان التاريخ ينتهي بالتقسيم والاستقلال بالنسبة إلى الأطفال الهنود؛ فذلك لأن الهنود البالغين فرضوا ذلك. في المجال الأكاديمي، تتناول مادة التاريخ الماضي، بينما تتناول مادة علم السياسة ومادة علم الاجتماع الحاضر. ذلك تقسيم تقليدي ومنطقي من عدة أوجه. تكمن الصعوبة في أن المجال الأكاديمي «الهندي» يتحدد الماضي فيه بتاريخ واحد يستحيل تغييره؛ وهو: 15 أغسطس 1947، ومن ثم فعندما دقت الساعة معلنة منتصف الليل ونالت الهند استقلالها، انتهى حيز التاريخ، وبدأ حيز علم السياسة وعلم الاجتماع.
وفي العقود التالية على عام 1947، مضى الحاضر قدما، فدرس علماء السياسة الانتخابات العامة الأولى التي أجريت عام 1952، والانتخابات التالية التي أجريت بعد خمسة أعوام، ووصف مختصو الأنثروبولوجيا الاجتماعية القرى الهندية في الخمسينيات من القرن العشرين، ومرة أخرى في الستينيات، إلا أن الماضي ظل ثابتا؛ فإثر الطبع والتطبع، قصر المؤرخون عملهم على الفترة السابقة على الاستقلال، فنمت أدبيات كثيرة - ولا تزال تنمو - معنية بالتبعات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية للاستعمار البريطاني، ونمت أدبيات أكثر - هي الأخرى لا تزال تنمو - معنية بأشكال معارضة الحكم الاستعماري ووظائفها ومسبباتها وتبعاتها. كان قائد تلك المعارضة هو المصلح الاجتماعي والزعيم الروحاني والملهم والمحرض السياسي موهانداس كرمشاند غاندي.
كان غاندي - ولا يزال - محل إعجاب شديد لدى البعض، ومحل كراهية عميقة لدى البعض الآخر، ويسري القول ذاته على الصرح الهائل الذي عارضه؛ الراج البريطاني. رحل البريطانيون أخيرا عن الهند في أغسطس 1947، واغتيل غاندي على يد أحد الهنود بعد خمسة شهور ونصف لا أكثر. كان لوفاة أشهر معارضي الراج البريطاني بتلك السرعة عقب الاستقلال أثر حاسم على عملية كتابة التاريخ؛ إذ لا يمكن للمرء أن يعرف ما إذا كان المؤرخون - لو كان غاندي ظل على قيد الحياة فترة أطول بكثير - سيبدون اهتماما أكبر بتاريخ الهند الحرة. ما حدث أنه كان بمقتضى العادة والعرف المتعارف عليهما يعتبر تاريخ الهند «منتهيا» يوم 15 أغسطس عام 1947، وإن كان يسمح لمدوني سيرة المهاتما غاندي بمد ذلك التاريخ ستة أشهر. ومن ثم ألفت كتب كثيرة جيدة ومثيرة للجدل عن السنوات الأخيرة العصيبة المشحونة بالصراع للهند البريطانية، فتلك المؤسسة المهيبة - الراج البريطاني - وذلك الشخص العظيم - المهاتما غاندي - لا يزالان يمثلان مصدر اهتمام آسر للمؤرخين، إلا أن تاريخ الهند «المستقلة» ظل أرضا بورا إلى حد بعيد؛ فإذا كان التاريخ هو «المعرفة بالماضي المتكونة بالسبل الرسمية»، فلا وجود لتلك المعرفة عمليا منذ عام 1947.
إلا أنه - كما يظهر في هذا الكتاب - كانت سنوات الحرية الأولى مصدر اهتمام أخاذ تماما مثلما كانت السنوات الأخيرة من الحكم البريطاني؛ فقد سلم البريطانيون مقاليد السلطة رسميا، ولكن كان لا بد من إعادة تكوين تلك السلطة؛ فالتقسيم لم يضع حدا لصراع الهندوس والمسلمين، ولا أنهى الاستقلال التوترات القائمة بين الطبقات والطوائف الاجتماعية. وكانت أجزاء كبيرة على الخريطة ما زالت تحت سيطرة أمراء الولايات الهنود؛ فكان لا بد من ضمها تحت مظلة الاتحاد الهندي طوعا أو كرها. ومن حطام الإمبراطورية الزائلة نشأت دولة جديدة وترعرعت.
وقد كتب توني جوت عن تدوينه في الآونة الأخيرة لتاريخ أوروبا ما بعد الحرب يقول: «هذا النوع من الكتب يقوم - في المقام الأول - على أكتاف الكتب الأخرى.» وأشار إلى أنه «في فترة الستين عاما القصيرة من تاريخ أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية - في تلك الفترة دون غيرها - ثمة مخزون لا ينضب من الأدبيات الثانوية المكتوبة باللغة الإنجليزية».
14
أما الوضع في الهند فمختلف كل الاختلاف؛ فالفجوات في متن معرفتنا هنا هائلة، وجمهورية الهند اتحاد مكون من ثمان وعشرين ولاية، بعضها أكبر من فرنسا وألمانيا، إلا أنه حتى أكبر تلك الولايات وأهمها لم تنل نصيبا من التأريخ؛ ففي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت الهند رائدة نهج جديد في السياسة الخارجية، وكذلك في السياسة الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي، إلا أنه لم يصدر بعد سرد أمين أو حتى لائق لتلك التجارب، وأنجبت الهند رجال أعمال مغامرين ذوي رؤية وديناميكية هائلتين، ولكن قصص المؤسسات التي بنوها والثروات التي كونوها معظمها لم ترو. كذلك لا توجد سير لائقة لبعض الشخصيات الرئيسية في تاريخنا الحديث؛ مثل: الشيخ عبد الله، أو المعلم تارا سينج، أو إم جي راماتشندران، الزعماء «المحليين» الذين يساوي حجم المقاطعة التي تزعمها كل منهم حجم بلد أوروبي كبير.
وعلى خلاف سرد تاريخ أوروبا بعد الحرب، لا يمكن لسرد تاريخ الهند بعد الحرب أن يقوم ببساطة على أكتاف كتب أخرى معنية بموضوعات أكثر تخصصا؛ ففي المسائل الكبرى والصغرى عليه أن يملأ الفراغات باستخدام مواد يجمعها المؤلف بنفسه؛ فقد أخبرني أول معلم لي - موظف عجوز بالخدمة المدنية بالغ الحكمة يدعى سي إس فينكاتاتشر - أن كل عمل تأريخي «مؤقت»؛ أي، ينبغي للكتب التالية عليه أن تضيف إليه، وتعدله، وتشكك فيه، وتطيح به. وعلى الرغم من الموضوعات المتعددة التي يغطيها هذا الكتاب، فليس له أن يأمل في أن يكون قد تناول أيا منها بصورة وافية؛ فكل قارئ على حدة سيكون له شكواه الخاصة؛ فالبعض قد يشكو - مثلا - من أني لم أتعرض للقبائل بالقدر الكافي، والبعض الآخر قد يرى أنه كان يتعين علي أن أفرد لكشمير صفحات أكثر مما أفردته بالفعل.
وأفضل تعبير عن آمالي بالنسبة إلى هذا الكتاب جاء في كلمات مارك بلوك، عندما كتب عن بلد آخر في زمن آخر:
يمكنني أن أشبه نفسي بمستكشف يجري مسحا سريعا للأفق قبل أن يخوض أدغالا يتعذر تحقيق رؤية أشمل من داخلها. وبطبيعة الحال، ثمة فجوات هائلة في متن روايتي، وقد بذلت قصارى جهدي في عدم مواراة أي أوجه قصور، سواء في حالة معرفتنا بصفة عامة، أو فيما أجريته أنا نفسي من توثيق ... وعندما يحين وقت تفوق دراسات أكثر تعمقا على مؤلفي، سأشعر أني جنيت ثمار عملي إذا أسفرت المواجهة مع تخميناتي الخاطئة عن تعريف التاريخ بحقيقته.
15
6
كان يروق للمؤرخ العظيم من جامعة كامبريدج إف دبليو ميتلاند أن يذكر طلابه بأن «ما بات الآن ماضيا كان يوما مستقبلا». ليس ثمة حكمة أصوب من هذه بالنسبة إلى المؤرخين - لا سيما مؤرخي الماضي القريب - الذين يخاطبون جمهورا كون آراء جازمة بخصوص الموضوعات التي يفترض أنه يثقفهم بشأنها؛ فالمؤرخ الأمريكي لحرب فيتنام يكون قراؤه قد حددوا موقفهم تقريبا إزاء عدالة الحرب من عدمها، ويعلم المؤرخ الفرنسي لحركة الطلاب عام 1968 أن قراءه سيكون لديهم آراء قوية بشأن تلك الانتفاضة بعينها، وإن كانت آراؤهم قد تتناقض بعضها مع بعض.
ومدونو التاريخ المعاصر يعون أنهم لا يخاطبون قارئا مشاعره سلبية إزاء النص الموضوع أمامه؛ فالقارئ مواطن أيضا - «مواطن ناقد» - له تفضيلاته السياسية والأيديولوجية الخاصة. تلك التفضيلات توجه رؤية القارئ للماضي وتمليها عليه، ولا سيما رؤيته للزعماء والمشرعين، فنحن نعيش مع تبعات القرارات التي اتخذها ساسة العصر الحديث، وكثيرا ما نفترض أن سياسيا آخر - شخصا نؤيده - كان من الممكن أن يتخذ قرارات أفضل أو أكثر حكمة.
وكلما عدنا بالزمن إلى الوراء، تضاءلت تلك المشكلة؛ فمؤرخو القرن الثامن عشر يسعون إلى تفسير ذلك الزمن وفهمه، وكذلك يفعل القراء سيرا على خطاهم؛ فمدون سيرة جفرسون أو نابليون يمكن أن يحظى بقراء أكثر «ثقة» فيه؛ إذ لا يفترضون معرفتهم بما فعله هذان الرجلان، ولا يتمنون أن يكونوا قد فعلوا شيئا مختلفا. في تلك الحالة، عادة ما يرضى القارئ بأن يتبع الخبير ويسترشد به، إلا أن مدون سيرة كينيدي أو ديجول لا يحالفه مثل ذلك الحظ؛ إذ بعض القراء المحتملين - وربما الكثير منهم - يعلمون بالفعل «حقيقة» هذين الرجلين، وهم أقل استعدادا لسماع صيغ مختلفة من تلك الحقيقة، حتى إن عضدتها مئات المراجع في الهوامش السفلية.
لذا يواجه المؤرخون المعاصرون تحديا من قرائهم يجنبه زملاؤهم الذين يتناولون أزمانا أقدم بالدراسة، إلا أنه ثمة تحد آخر ربما لا يقر به بالقدر ذاته، وهو أن «المؤرخ نفسه مواطن»؛ فالباحث الذي يختار أن يكتب عن حرب فيتنام لديه بالفعل آراء قوية عن موضوع بحثه. أما الباحث الذي يكتب عن الحرب الأهلية الأمريكية فستكون آراؤه أضعف، والباحث الذي يكتب عن حرب الاستقلال الأمريكية ستكون آراؤه أضعف وأضعف؛ فالمؤرخ كالمواطن؛ «كلما دنا المرء من الحاضر، زاد ميله إلى إصدار الأحكام».
لقد حاولت أثناء كتابة هذا الكتاب أن أبقي حكمة ميتلاند نصب عيني دائما، وكان دافعي الفضول أكثر من اليقين، والرغبة في الفهم أكثر من الرغبة في إصدار الأحكام، وسعيت إلى ترجيح كفة المصادر الأولية عن المؤلفات المكتوبة بأثر رجعي، حتى يتسنى لي تفسير واقعة حدثت عام 1955 - مثلا - بما كان معروفا عام 1955 لا عام 2005؛ فهذا الكتاب ليس أكثر من محاولة في المقام الأول لرواية التاريخ الحديث لسدس البشرية، فهو سرد وتحليل للشخصيات والخلافات والموضوعات والعمليات الرئيسية في الهند المستقلة، إلا أن أسلوب السرد مدفوع بغايتين رئيسيين: إيلاء الاعتبار اللازم للتنوع الاجتماعي والسياسي الذي تتسم به الهند، وحل اللغز الذي طالما واجه الباحثين والمواطنين، الأجانب منهم وأصحاب البلد، وهو: لماذا ثمة هند من الأساس؟
الجزء
لم الشمل
الفصل الأول
الحرية وتناحر الأشقاء
إن انتهاء الحكم البريطاني للهند أمر يستحيل تصوره ببساطة في الوقت الحالي، وربما لفترة طويلة من الآن، والاستعاضة عنه بحكومة أو حكومات محلية حلم جامح إلى أقصى حد ... فبمجرد أن يبحر آخر جندي بريطاني بعيدا عن بومباي أو كراتشي، ستصير الهند ساحة قتال للقوى العرقية والدينية المتناحرة ... والحضارة المسالمة التقدمية - التي أتت بها بريطانيا إلى الهند ببطء وثبات - ستذوى بين ليلة وضحاها.
جيه إي ولدون، أسقف كلكتا سابقا، عام 1915
لا يداخلني شك في أنه لو كانت الحكومات البريطانية مستعدة لأن تمنح عام 1900 ما رفضت أن تمنحه في ذلك العام ولكنها منحته عام 1920، أو أن تمنح عام 1920 ما رفضت أن تمنحه في ذلك العام ولكنها منحته عام 1940، أو أن تمنح عام 1940 ما رفضت أن تمنحه في ذلك العام ولكنها منحته عام 1947؛ لأمكن تفادي تسع أعشار البؤس والكراهية والعنف والاعتقالات والإرهاب والقتل، والجلد بالسياط، وحوادث إطلاق النار، والاغتيالات، وحتى المذابح العرقية التي حدثت، ولربما تحقق انتقال السلطة سلميا، بل ربما تحقق دون تقسيم.
ليونارد وولف، عام 1967
1
نالت الهند حريتها يوم 15 أغسطس عام 1947، إلا أن الهنود الوطنيين احتفلوا بأول «عيد استقلال» لهم قبل ذلك التاريخ بسبعة عشر عاما؛ ففي الأسبوع الأول من يناير عام 1930، أصدر المؤتمر الوطني الهندي قرارا خصص بمقتضاه يوم الأحد الأخير من ذلك الشهر لخروج مظاهرات في جميع أنحاء البلاد دعما للاستقلال الكامل؛ فقد استشعر أن من شأن ذلك أن يزكي الطموحات الوطنية ويجبر البريطانيين أيضا على النظر بجدية في مسألة التخلي عن السلطة. وقد أوضح المهاتما غاندي - في مقال بصحيفته «الهند الشابة» - كيفية الاحتفال بذلك اليوم فقال: «يستحسن أن تعلن قرى بأسرها الاستقلال، أو حتى مدن بأسرها ... والأفضل أن تعقد الاجتماعات كلها في اللحظة ذاتها في الأماكن كافة.»
واقترح غاندي الإعلان عن ميعاد التجمع بالطريقة المعتادة: دقات الطبول. تبدأ مراسم الاحتفال برفع العلم الوطني، ويقضى بقية اليوم «في القيام ببعض الأعمال البناءة، سواء كان ذلك بالغزل، أو خدمة «المنبوذين»، أو لم شمل الهندوس والمسلمين، أو النهي عن المنكر، أو حتى الجمع بين تلك الأعمال كافة، وهو ليس بالمستحيل». ويردد المشاركون قسما يؤكدون فيه أنه «حق غير قابل للتنازل عنه لشعب الهند - كأي شعب آخر في العالم - أن ينال الحرية ويستمتع بثمار تعبه»، وأنه «إذا حرمت أي حكومة الشعب من تلك الحقوق وقهرته، فللشعب الحق أيضا في تغييرها أو الإطاحة بها».
1
صدر القرار الذي اختص يوم الأحد الأخير من شهر يناير ليكون عيد الاستقلال في مدينة لاهور؛ حيث كان المؤتمر منعقدا في جلسته السنوية. وهناك اختير جواهر لال نهرو رئيسا للمؤتمر الوطني، تأكيدا لنجمه الصاعد بسرعة داخل الحركة القومية الهندية. ولد نهرو عام 1889 - بعد عشرين عاما من ميلاد غاندي - وكان نتاج مدرسة هارو وجامعة كامبريدج، وصار تلميذا مقربا للمهاتما غاندي. كان ذكيا فصيح اللسان، واسع المعرفة بالشئون الخارجية، ويحمل جاذبية خاصة للشباب.
وقد ذكر نهرو في سيرته الذاتية كيف أن «عيد الاستقلال أتى يوم 26 يناير 1930، وكشف لنا - في لمح البصر - المزاج المتلهف والمتحمس للبلاد؛ فقد كان ثمة شيء مبهر للغاية في تلك التجمعات الحاشدة في كل مكان، التي رددت قسم الاستقلال بصورة سلمية جادة دون أي خطابات أو مناشدات».
2
وفي تصريح صحفي أدلى به نهرو اليوم التالي، قدم «التهنئة المشوبة بالاحترام للأمة على نجاح المظاهرات الجادة والمنظمة»؛ فالمدن والقرى «تبارت في إبداء تمسكها المتحمس بالاستقلال» وتجمعت حشود هائلة في كلكتا وبومباي، ولكن الحشود التي تجمعت في المدن الأصغر حجما حظيت بحضور جيد بدورها.
3
وكل عام بعد عام 1930، احتفل الهنود المنتمون إلى فكر المؤتمر الوطني بيوم 26 يناير باعتباره عيد الاستقلال، إلا أن البريطانيين عندما رحلوا أخيرا عن شبه القارة الهندية، اختاروا أن يسلموا السلطة يوم 15 أغسطس عام 1947. اختار نائب الملك في الهند اللورد ماونتباتن ذلك التاريخ لأنه يمثل الذكرى السنوية الثانية لاستسلام اليابان لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؛ إذ لم يرغب - هو والساسة الذين كانوا في انتظار تسلم مقاليد السلطة - في الانتظار حتى اليوم الذي كان البعض سيفضلونه؛ 26 يناير 1948.
إذن جاءت الحرية أخيرا في يوم مرتبط بفخر للإمبراطورية، وليس المشاعر القومية. وفي نيودلهي - عاصمة الحكم البريطاني والهند الحرة - بدأت المراسم قبيل منتصف الليل؛ فعلى ما يبدو، كان المنجمون قد أعلنوا أن يوم 15 أغسطس يوم مشئوم؛ لذا تقرر بدء مراسم الاحتفال يوم 14 بعقد جلسة خاصة للجمعية التأسيسية، وهي هيئة تمثيلية من هنود عكفوا على وضع دستور جديد.
أقيمت المراسم في القاعة ذات القبة العالية لما كان يوما المجلس التشريعي للراج البريطاني. أنيرت القاعة بأضواء ساطعة وازدانت بالأعلام. بعض تلك الأعلام وضع في إطارات صور كانت تحوي بورتريهات نواب الملك البريطانيين في الهند حتى أسبوع مضى. بدأت الفعاليات الساعة 11 مساء بترديد النشيد الوطني «فاندي ماتارام» (أيتها الأم، لك أنحني )، والوقوف دقيقتين حدادا على أرواح من «فارقوا الحياة أثناء المعركة من أجل الحرية في الهند وسائر الأنحاء» وانتهت المراسم بتقديم العلم الوطني من قبل نساء الهند.
وفيما بين النشيد وتقديم العلم ألقيت الخطب. كان ثمة ثلاثة متحدثين رئيسيين تلك الليلة: الأول كان تشودري خليق الزمان، الذي اختير ليمثل مسلمي الهند. وقد أعلن حسب الأصول ولاء الأقلية للأرض التي تحررت حديثا. والثاني كان الفيلسوف سارفبالي رادها كريشنان، الذي اختير لقدراته الخطابية وعمله في التوفيق بين الشرق والغرب. وقد أثنى على «الحصافة السياسية والشجاعة» اللتين أبداهما البريطانيون باختيارهم الرحيل عن الهند، بينما بقي الهولنديون في إندونيسيا، ورفض الفرنسيون مغادرة الهند الصينية.
4
إلا أن نجم الحفل كان هو أول رئيس وزراء للهند؛ جواهر لال نهرو؛ فقد كان خطابه زاخرا بالمشاعر والبلاغة، وكثيرا ما استشهد به منذئذ. قال نهرو: «عندما تدق عقارب الساعة لتعلن منتصف الليل، عندما ينام العالم، ستستيقظ الهند على الحياة والحرية.»
5
وأضاف أن تلك «لحظة لا يشهدها التاريخ إلا فيما ندر، عندما نخرج من عباءة القديم إلى الحديث، وعندما تنتهي حقبة، وعندما تبوح روح أمة طال قهرها بما يجيش في صدرها».
قيلت تلك الكلمات داخل مقر المجلس ذي الأعمدة. وفي الشوارع بالخارج، مثلما قال صحفي أمريكي:
ساد الهرج والمرج، فراح الهندوس والمسلمون والسيخ يحتفلون معا في بهجة ... وكان المكان أشبه بميدان التايمز ليلة رأس السنة. كانت الحشود تريد نهرو دون غيره؛ فحتى قبل الموعد المنتظر لظهوره، اخترقت حشود مندفعة من آلاف البشر صفوف الشرطة وتدفقت في اتجاه أبواب مبنى المجلس. في النهاية، أغلقت الأبواب الثقيلة منعا لدخول أمواج البشر الساعية - على الأرجح - للحصول على تذكارات معه. أما نهرو - الذي لاحت أمارات السعادة على وجهه - فهرب من مخرج آخر، وبعد برهة خرج بقيتنا.
لا يكتمل حدث على أي قدر من الأهمية في الهند دون وقوع خطأ. وفي تلك الحالة، كان الخطأ طفيفا نسبيا؛ فعندما ذهب جواهر لال نهرو - بعد جلسة منتصف الليل في مقر الجمعية التأسيسية - لتسليم قائمة أعضاء مجلس الوزراء إلى الحاكم العام، سلمه مظروفا فارغا، إلا أنه عندما حان وقت مراسم حلف اليمين كان قد أمكن العثور على الورقة المفقودة. إلى جانب رئيس الوزراء نهرو، تضمنت تلك الورقة أسماء ثلاثة عشر وزيرا آخر، منهم رجلا الحركة القومية العتيدين: فالابهاي باتيل ومولانا أبو الكلام آزاد، إضافة إلى أربعة أعضاء أصغر سنا في حزب المؤتمر الوطني.
وربما يكون الأجدر بالملاحظة هو أسماء الوزراء الذين لم يكونوا أعضاء في حزب المؤتمر، ومنهم ممثلان لعالم التجارة وممثل للسيخ. كان ثمة ثلاثة آخرون من الخصوم الدائمين لحزب المؤتمر الوطني. هؤلاء كانوا آر كيه شانموكام شيتي، وهو رجل أعمال من مدراس كان أحد ألمع العقول المالية في الهند، وبي آر أمبيدكار، الذي كان باحثا نابغا في مجال القانون وينتمي إلى طائفة «المنبوذين»، وشياما براساد موكرجي، وهو سياسي بنغالي بارز كان ينتمي (آنذاك) إلى المنظمة الهندوسية هندو ماهاسابها. ثلاثتهم كانوا من المتعاونين مع الحكام البريطانيين وقتما كان رجال المؤتمر الوطني يحبسون في السجون البريطانية. لكن في ذلك الوقت تصرف نهرو وزملاؤه بحكمة منحين تلك الخلافات جانبا؛ فقد كان غاندي قد ذكرهم أن «الحرية جاءت إلى الهند، لا المؤتمر الوطني الهندي»، وحثهم على تشكيل مجلس وزراء يشمل أكفأ الرجال بصرف النظر عن انتمائهم الحزبي.
6
كان أول مجلس وزراء في الهند الحرة موحدا من نواح أخرى غير النواحي السياسية؛ فقد أتى أعضاؤه من خمس طوائف دينية (إضافة إلى اثنين من الملحدين)، ومن جميع أنحاء الهند. وتضمن المجلس امرأة - راج كوماري أمريت كاور - فضلا عن اثنين من المنبوذين.
في يوم 15 أغسطس، كان البند الأول على جدول الأعمال هو حلف الحاكم العام اللورد ماونتباتن - الذي كان آخر نائب للملك في الهند حتى الليلة السابقة - اليمين. وكان البرنامج المقرر لليوم كالتالي:
8:30ص
حلف الحاكم العام والوزراء اليمين في مقر الحكومة
9:40ص
توجه موكب الوزراء إلى مقر الجمعية التأسيسية
9:50ص
توجه الموكب الرسمي إلى مقر الجمعية التأسيسية
9:55ص
تأدية التحية الملكية للحاكم العام
10:30ص
رفع العلم الوطني في مقر الجمعية التأسيسية
10:35ص
توجه الموكب الرسمي إلى مقر الحكومة
6:00م
مراسم رفع العلم على بوابة الهند
7:00م
إيضاء الزينات
7:45م
إطلاق الألعاب النارية
8:45م
عشاء رسمي في مقر الحكومة
10:15م
حفل استقبال في مقر الحكومة
وقد بدا أن الهنود مولعون بالأبهة والمراسم تماما مثل الحكام المغادرين؛ ففي جميع أنحاء دلهي - وفي مناطق أخرى من الهند - احتفلت الدولة والمواطنون، على حد سواء، بالاستقلال؛ حيث ذكر أن مراسم رفع العلم تمت ثلاثمائة مرة في العاصمة وحدها. وفي المركز التجاري للبلاد - بومباي - أقام عمدة المدينة وليمة في فندق تاج محل الفخم. وفي أحد المعابد بمدينة باناراس المقدسة لدى الهندوس، من الجدير بالذكر أن مسلما رفع العلم الوطني. وفي مدينة شيلونج الجبلية شمال شرقي البلاد، رأس الحاكم مراسم رفع أربعة أطفال للعلم - فتى وفتاة هندوسيين، وفتى وفتاة مسلمين - إذ إنه «من الناحية الرمزية حري بشباب الهند أن يرفعوا علم الهند الجديدة إذ تخرج إلى الوجود».
في الاحتفال بعيد الاستقلال الأول - الوهمي، إن جاز التعبير - يوم 26 يناير من عام 1930، كانت الحشود «جادة ومنظمة» (حسبما أشار نهرو)، ولكن عام 1947، عندما جاء يوم الاستقلال الحقيقي، كانت المشاعر الظاهرة أكثر بدائية. ونستشهد هنا بقول أحد المراقبين الأجانب؛ إذ قال إنه في كل مكان «في مدينة بعد أخرى، فجرت الجماهير المشتعلة بالحيوية مشاعر الإحباط التي كانت تعتمل داخلها لسنوات طوال في حالة من النشوة الجماعية المشحونة بالمشاعر، فانسابت فورات المرح الغوغائية من أحياء المصانع إلى المناطق الساحلية المترفة وارتدت عائدة ... وتفشت عدوى الاحتفالات المبتهجة متناسية عقود السخط والضغائن ضد المستعمرين البريطانيين».
وكانت الأحداث التي جرت في أكثر مدن الهند ازدحاما بالسكان - كلكتا - نموذجا دالا على المزاج السائد؛ فطوال الأعوام القليلة السابقة كانت تلك المدينة تعاني نقصا في الأقمشة، تحول آنذاك بمعجزة إلى «فيض من الأعلام كست المنازل والبنايات ... والسيارات والدراجات، وفي أيدي الأطفال والرضع». وفي الوقت ذاته، كان ثمة حاكم هندي جديد يحلف اليمين في مقر الحكومة. أما من لم يرق له المنظر فكان السكرتير الخاص للحاكم البريطاني المغادر؛ فقد قال متبرما إن «سمة التنافر العامة التي شابت التجمع من حيث الملبس انتقصت من وقاره إلى حد بعيد». فلم يكن ثمة سترات عشاء ورابطات عنق في مرمى البصر، لا شيء سوى الإزارات وقبعات غاندي البيضاء. وإذ «امتلأت قاعة الحكم بأشخاص غير مخولين بالتواجد فيها»، كانت المراسم «نذيرا بما سوف يحدث» بعد رحيل البريطانيين عن الهند. وقد بلغت الأمور الحضيض عندما وضعت قبعة بيضاء من قبعات غاندي على رأس حاكم البنغال المغادر - السير فريدريك بوروز - بينما كان في سبيله إلى مغادرة القاعة.
2
في دلهي، ثارت عاصفة من «التصفيق المطول» عندما افتتح رئيس الجمعية التأسيسية الجلسة بذكر أبي الأمة: موهانداس كرمشاند غاندي. وفي الخارج، هتفت الحشود «عاش المهاتما غاندي»، إلا أن غاندي لم يحضر الاحتفالات التي أقيمت في العاصمة. كان في كلكتا، لكنه لم يحضر أي احتفال ولا حتى رفع علما هناك. وقد انتشرت قبعات غاندي في مقر الحكومة دون علمه أو إذنه. وفي مساء يوم 14 أغسطس، زاره رئيس وزراء غرب البنغال، الذي سأله كيف ينبغي أن تكون الاحتفالات في اليوم التالي، فرد عليه غاندي قائلا: «الناس يموتون جوعا في كل مكان. أترغب في الاحتفال في ظل هذا الدمار؟»
7
كان مزاج غاندي متعكرا للغاية؛ فعندما طلب منه مراسل صحفي من الصحيفة الرائدة لدى الحركة القومية - «هندوستان تايمز» - توجيه رسالة بمناسبة الاستقلال، أجابه غاندي بأنه «قد فرغت جعبته» وطلبت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) من سكرتيره أن يساعدها في تسجيل رسالة من الرجل الوحيد الذي رأى العالم أنه يمثل الهند بحق، فأخبرهم غاندي أن يتحدثوا إلى جواهر لال نهرو عوضا عنه. لم تقتنع البي بي سي وأرسلت مبعوثها مجددا، مضيفا - على سبيل الحافز - أن تلك الرسالة سوف تترجم إلى لغات عديدة وتذاع في جميع أنحاء العالم، فلم يتأثر غاندي وقال: «اطلب إليهم أن ينسوا معرفتي باللغة الإنجليزية.»
خص غاندي يوم 15 أغسطس بالصيام أربعا وعشرين ساعة؛ فقد جاءت الحرية التي لطالما حارب من أجلها بثمن غير مقبول؛ إذ استتبع الاستقلال تقسيما أيضا. وشهدت الشهور الاثنا عشر السابقة له شغبا يكاد يكون متواصلا بين الهندوس والمسلمين. بدأ العنف يوم 16 أغسطس 1946 في كلكتا وامتد إلى الريف البنغالي، ومن هناك انتقل إلى بيهار، ثم إلى المقاطعات الاتحادية، وأخيرا إلى مقاطعة البنجاب؛ حيث تخطى نطاق العنف ومدى القتل حتى الفظائع التي سبقته.
في بداية الأمر، كان من أشعل فتيل العنف الذي ساد شهري أغسطس وسبتمبر لعام 1946 «العصبة الإسلامية»؛ الحزب الذي غذى الحركة الداعية إلى إقامة دولة باكستانية منفصلة. تزعم تلك العصبة محمد علي جناح، الذي كان رجلا صارما متحفظا وإن كان بارعا في التخطيط السياسي؛ فعلى غرار نهرو وغاندي، كان محاميا تلقى تعليمه في إنجلترا، ومثلهما كان يوما عضوا في المؤتمر الوطني الهندي، ولكنه ترك الحزب لشعوره أنه كان تحت قيادة الهندوس ويعمل لصالحهم؛ فقد رأى جناح أن الحزب - على الرغم من تصريحاته القومية - لم يعبر في الواقع عن مصالح أكبر أقلية في الهند: المسلمين.
فبإشعال فتيل الشغب في كلكتا في أغسطس 1946، كان جناح والعصبة يأملان في تصعيد عملية الاستقطاب بين الطائفتين؛ ومن ثم إجبار بريطانيا على تقسيم الهند عند الجلاء عنها في نهاية المطاف. وقد توجت جهودهم بنجاح باهر؛ إذ رد لهم الهندوس الصاع صاعين بوحشية في بيهار، وحظيت أعمالهم بدعم زعماء حزب المؤتمر الوطني المحليين. كان البريطانيون قد سبق أن قالوا إنهم لن يسلموا السلطة إلى أي حكومة «ترفض فئات كبيرة وقوية ضمن الأطياف الوطنية الهندية سلطتها رفضا مباشرا».
8
وبدا أن الدماء التي أريقت بين عامي 1946 و1947 تشير إلى أن المسلمين يمثلون تلك الجماعة تماما، التي لن تعيش هانئة راضية تحت حكومة تابعة للمؤتمر الوطني ويسيطر عليها الهندوس، فصارت «كل واقعة عنف طائفي يستشهد بها كتأييد إضافي لنظرية الدولتين، وحتمية تقسيم البلاد».
9
لم يقف غاندي مكتوف اليدين أمام ذلك العنف؛ فعندما وردت أولى التقارير من ريف البنغال، نحى كل شيء جانبا واتجه إلى تلك البقعة، وسار ذلك الرجل الذي كان يبلغ من العمر سبعة وسبعين عاما على أرض وعرة مجتازا الطين والحجارة؛ ليواسي الهندوس الذين لاقوا الأمرين من أحداث ذلك الشغب. وخلال جولة مدتها سبعة أسابيع قطع 116 ميلا سيرا على الأقدام - أكثرها حافي القدمين - مخاطبا قرابة 100 مجلس في القرى. وفيما بعد زار بيهار؛ حيث كان المسلمون هم أصحاب المصاب الأكبر، ثم ذهب إلى دلهي؛ حيث بدأ اللاجئون من البنجاب يتوافدون، من الهندوس والسيخ الذين خسروا كل شيء في المجازر التي وقعت. كانت تملؤهم مشاعر انتقامية، سعى غاندي إلى احتوائها؛ إذ خشي أن تسفر عن عنف انتقامي ضد المسلمين الذين اختاروا البقاء في الهند.
وقبل أسبوعين على اليوم المحدد للاستقلال، غادر المهاتما دلهي. قضى أربعة أيام في كشمير ثم استقل القطار إلى كلكتا؛ حيث لم تكن نيران الشغب قد خبت بعد مرور عام على اشتعالها. وعصر يوم 13 أغسطس، استقر في منطقة بيليجاتا ذات الأغلبية المسلمة، في «بناية آيلة للسقوط مفتوحة من كل جانب للجماهير»؛ ليرى إن كان «بإمكانه المساهمة في رد مدينة كلكتا الرئيسية إلى صوابها».
وما كان على غاندي إلا أن يصوم ويصلي يوم 15 أغسطس. بحلول العصر، بلغته أنباء (نقلا عن إحدى الصحف) عن «مظاهر أخوة وبهجة تكاد تكون لا تصدق» في بعض أكثر المناطق تضررا بكلكتا؛ «فبينما شرع الهندوس في نصب أقواس النصر على مداخل الشوارع والحارات، وفي تزيينها بالخوص واللافتات والأعلام والرايات، لم يتوان أصحاب المحال والبيوت من المسلمين عن تزيين محلاتهم ومنازلهم بأعلام دومنيون الهند». وطاف الهندوس والمسلمون الشوارع في سيارات وشاحنات مفتوحة هاتفين بالشعار الوطني «تحيا الهند» الذي «استجابت له بسرعة وببهجة حشود كبيرة متآلفة اكتظت بها الشوارع من الطائفتين».
10
ويبدو أن التقارير الواردة عن ذلك التآلف العفوي قد رفعت معنويات غاندي بعض الشيء، فقرر أن يلقي بيانا ذاك اليوم، لا عبر إذاعة بي بي سي، وإنما عبر وسيلة الاتصال الأثيرة لديه، وهي: مجلس الصلاة. حضر حشد - يبلغ عدده 10 آلاف شخص، وفقا لأحد التقارير، و30 ألف شخص، وفقا لتقرير آخر - ليستمع إلى حديثه في ساحة راش باجان ميدان في بيليجاتا. قال غاندي إنه يأمل أن تكون مظاهر الأخوة بين الهندوس والمسلمين ذلك اليوم «نابعة من القلب وليست وليدة اللحظة»؛ فكلا الطائفتين تجرعتا «سم القلاقل». والآن وقد تصالحتا، قد يبدو مذاق «رحيق الود» أكثر حلاوة، ومن يدري، لعل ذلك يسفر عن أن كلكتا «تتحرر إلى الأبد من أي أثر لفيروس الطائفية!»
كان السلام الذي عم كلكتا يوم 15 أغسطس مبعث راحة، وكذلك دهشة؛ فقد ساد المدينة جو من التوتر في الأسابيع السابقة على الاستقلال. وفقا لحكم التقسيم، قسمت البنغال، وصار الجناح الشرقي تابعا لباكستان بينما بقي القسم الغربي في الهند. وبطبيعة الحال أصبحت كلكتا - المدينة الأولى في تلك المقاطعة - موضع خلاف؛ فقد اختارت لجنة الحدود منحها للهند؛ مما أشعل مخاوف من نشوب العنف ليلة الاستقلال.
وعلى الناحية المقابلة من شبه القارة الهندية، ثارت المتاعب في عاصمة البنجاب، لاهور. وعلى غرار كلكتا، كانت تلك المدينة متعددة الأديان والثقافات، وكان بها العديد من المباني البديعة، أروعها مسجد بادشاهي، الذي بناه أورنجزيب؛ آخر أباطرة المغول العظام، ولكن لاهور كانت أيضا عاصمة إمبراطورية سيخية يوما ما، وصارت بعدها مركز حركة إصلاح هندوسية تدعى أريا ساماج. وفي ذلك الحين - كسائر المدن في مقاطعة البنجاب - بات مصيرها في أيدي البريطانيين، الذين كانوا سيقسمون المقاطعة، فأعلن عن تقسيم البنغال قبل يوم 15، ولكن الإعلان عن قرار تقسيم البنجاب كان قد تأجل إلى ما بعد ذلك التاريخ، فهل تمنح لاهور والمناطق المجاورة لها للهند أم باكستان؟
بدا الخيار الثاني أرجح، وكذلك أكثر منطقية؛ إذ كان المسلمون أكبر طائفة في تلك المدينة. وبالفعل كان حاكم جديد قد عين لمقاطعة البنجاب الغربية الباكستانية الجديدة، وانتقل إلى مقر الحكومة في لاهور. ومساء يوم 15 أغسطس، أقام حفلا بمناسبة شغله ذلك المنصب. فيما بعد قال مسترجعا ذكريات ذلك الحفل:
لا شك أن ذاك كان أسوأ حفل أقيم على الإطلاق ... فقد انقطع التيار الكهربائي ولم يكن ثمة مراوح ولا أضواء، وكان مصدر الضوء الوحيد المتاح لنا هو ألسنة اللهب المتصاعدة من مدينة لاهور المشتعلة على بعد قرابة نصف ميل، وكان صوت الطلقات النارية يدوي في كل مكان حول الحديقة. ليس طلقات منفردة، وإنما وابل من الرصاص؛ فلم يدر أحد من يطلق النار على من، ولم يبال أحد بالسؤال.
11 «لم يبال أحد بالسؤال.» ربما لم يبال أحد في حفل الحاكم، إلا أن المهاتما غاندي في بيليجاتا أعرب عن قلقه إزاء «استمرار ذلك الجنون في لاهور»؛ فمتى وكيف كان له أن ينتهي؟ ربما كان يمكن للمرء أن يأمل أن «يؤثر نموذج كلكتا النبيل - إن كان حقيقيا - على البنجاب وسائر بقاع الهند».
3
بحلول شهر نوفمبر لعام 1946، كان أكثر من 5 آلاف شخص قد راحوا ضحية أحداث الشغب؛ إذ كما ورد في إحدى المذكرات العسكرية: «أحداث كلكتا انتقم منها في نواخالي، وأحداث نواخالي في بيهار، وأحداث بيهار في جارموك تشوار، وأحداث جارموك تشوار في ...»
12
في نهاية عام 1946 كانت إحدى المقاطعات التي أفلتت من الشغب هي مقاطعة البنجاب؛ فقد تولى الاتحاديون حكمها، وهم ائتلاف من ملاك الأراضي المسلمين والهندوس والسيخ، الذين أبقوا على سلام متقلب؛ إذ وقف أمامهم أعضاء العصبة الإسلامية المتشددين من جهة، وأعضاء الحزب السياسي السيخي أكالي دال، الذين لا يقلون عنهم تشددا من جهة أخرى. وبدءا من شهر يناير، اندلعت نوبات عنف متقطعة في مدن البنجاب، وتسارعت وتيرة تلك النوبات بعد الأسبوع الأول من شهر مارس عندما أطيح بالاتحاديين. بحلول شهر مايو، كان مركز العنف قد تحول بلا ريب من شرق الهند إلى شمالها الغربي؛ فقد أفاد بيان مقدم إلى مجلس اللوردات بأن 4014 شخصا قتلوا في أحداث الشغب التي وقعت في الهند بين 18 نوفمبر 1946 و18 مايو 1947، منهم 3024 قتل في البنجاب وحدها.
13
وقد كان ثمة أوجه تشابه ملحوظة بين البنغال والبنجاب، المقاطعتين الرئيسيتين في أحداث عامي 1946 و1947؛ فكلاهما تميز بأغلبية مسلمة؛ ومن ثم طالبت بهما باكستان، ولكن كليهما تضمن كذلك ملايين الهندوس. وما حدث كان أن قسمت المقاطعتان؛ حيث آلت المناطق ذات الأغلبية المسلمة إلى باكستان الشرقية أو الغربية، بينما آلت المناطق التي غلبت عليها الطوائف الدينية الأخرى إلى الهند.
إلا أنه كان ثمة اختلافات جوهرية بين المقاطعتين المذكورتين أيضا؛ فالبنغال كان لها تاريخ طويل من صراع كان داميا في كثير من الأحيان بين الهندوس والمسلمين، يرجع إلى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر على أقل تقدير. وفي المقابل، تعايشت مختلف الطوائف في البنجاب في سلام إلى حد ما، فلم تنشأ صدامات ذات بال بشأن قضايا دينية قبل عام 1947. وفي البنغال، سعت قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى الهندوسية إلى التقسيم بحماس، فقد كانوا على أتم استعداد لهجر المناطق ذات الأغلبية المسلمة، والاستقرار في عاصمة المقاطعة أو في المناطق المحيطة بها. ولعقود من الزمان، أخذ أصحاب المهن من الهندوس ينزحون إلى الغرب، بصحبة ملاك الأراضي الذين باعوا أراضيهم واستثمروا عوائدها في عقارات أو تجارة في كلكتا. وعلى النقيض منهم، كان أكثر الجماعة السكانية الهندوسية الكبيرة في البنجاب من التجار والمقرضين وثيقي الصلة بطوائف الفلاحين، فلم يكونوا مستعدين للانتقال إلى مكان آخر، وظلوا آملين حتى النهاية في تفادي التقسيم بصورة أو بأخرى.
يتمثل الاختلاف الأخير - والأكثر دلالة - في تواجد السيخ في البنجاب؛ وهم العنصر الثالث في الصراع. كان ذلك العنصر الثالث غائبا في البنغال؛ حيث دارت المعركة بين الهندوس والمسلمين فحسب. وعلى غرار المسلمين، كان السيخ يؤمنون بكتاب واحد، وإله واحد لا صورة له، وكانوا جماعة عقائدية مترابطة، إلا أنه من الناحية الاجتماعية، كان السيخ أقرب إلى الهندوس؛ فقد نشأت بينهم علاقة تزاوج وتزاور، وعانوا مثلهم الاضطهاد على يد المغول.
فلو اضطر السيخ للاختيار، لكانوا انحازوا إلى صف الهندوس، ولكنهم لم يرغبوا مطلقا في الاختيار؛ فقد كان ثمة جماعات كبيرة من المزارعين السيخ على جانبي المقاطعة. وفي مطلع القرن العشرين، طلب البريطانيون من السيخ المقيمين في البنجاب الشرقية أن يستوطنوا مناطق في الغرب، كانت قد زودت حديثا بشبكات ري؛ ففي غضون بضعة قرون كان السيخ قد بنوا مستوطنات مزدهرة في «مستعمرات القنوات» تلك، فلماذا يتركونها الآن؟ وكانت مدينتهم المقدسة - أمريتسار - في الشرق، ولكن نانكانا صاحب (مسقط رأس مؤسس ديانتهم) كانت في الغرب، فلم لا تتاح لهم حرية الوصول إلى المكانين؟
خلافا لهندوس البنغال، تأخر سيخ البنجاب في استيعاب معنى التقسيم وحقيقته؛ فقد أصروا بعند في البداية على البقاء في محلهم، ثم إنهم - إذ ارتفع احتمال التقسيم - طالبوا بإقامة دولة مستقلة لهم، كانوا سيطلقون عليها «خالستان». لم يأخذ أحد ذلك المطلب على محمل الجد، لا الهندوس ولا المسلمون ولا البريطانيون قطعا.
أشار المؤرخ روبن جيفري إلى أن السيخ - حتى أغسطس 1947 على الأقل - كانوا «مغبونين أكثر منهم آثمين»؛ فقد «تخلى عنهم البريطانيون، وتحملهم المؤتمر الوطني كرها، وسخرت منهم العصبة الإسلامية، والأدهى من ذلك كله أنهم أحبطتهم إخفاقات قيادتهم السياسية ذاتها».
14
فقد كان وضع السيخ الفريد (والمأساوي) هو أفضل تفسير لتسارع وتيرة العنف الديني وتركزه عند بلوغه البنجاب أخيرا؛ فمن شهر مارس حتى شهر أغسطس، كان كل شهر أشد حرا ودموية من سابقه؛ فقد كان من سخرية القدر أن ألقت الطبيعة بثقلها على السياسة والتاريخ، إذ تأخرت الأمطار الموسمية إلى حد مفرط عام 1947. ومثل الأمطار، تأخر صدور حكم التقسيم بدوره؛ مما فاقم مناخ الشك المخيم على الأجواء.
عهد بمهمة تقسيم البنغال والبنجاب إلى قاض بريطاني يدعى السير سيريل رادكليف. لم يكن لديه معرفة سابقة بالهند، وهو ما اعتبر ميزة، إلا أنه أمهل خمسة أسابيع فحسب لكي يتخذ قراره بشأن الخطوط التي سيرسمها في الشرق وفي الغرب على حد سواء؛ إذ كانت مهمة فائقة الصعوبة دون مبالغة. كان عليه - حسبما قال دبليو إتش أودن - أن يقسم أرضا «بين طائفتين متعصبتين في اختلافهما؛ كل منهما لها مأكلها وآلهتها الخاصة بها»، بينما كانت «الخرائط المتاحة له ... غير محدثة»، و«يكاد يكون من المؤكد أن قوائم التعداد غير صحيحة».
15
وصل رادكليف إلى الهند في الأسبوع الأول من يوليو، وعين له أربعة مستشارين للبنجاب: مسلمان وهندوسي وسيخي. لكنهم إذ تنازعوا على كل أمر، فسرعان ما استغنى عنهم جميعا، إلا أنه كتب إلى ابن أخيه أنه يعلم أن «لا أحد في الهند سيحبني لحكمي بشأن البنجاب والبنغال، وسيكون ثمة قرابة 80 مليون شخص محملين بالضغائن في إثري، ولا أريدهم أن يعثروا علي».
16
في أول أغسطس أنشئت قوة حدود بنجابية للسيطرة على العنف. تزعم تلك القوة اللواء تي دابليو (بيت) ريس؛ وهو رجل ويلزي من أبيرجافيني. وعمل تحت إمرته أربعة مستشارين برتبة عميد: مسلمان وهندوسي وسيخي. تنبأ ريس في أول تقرير كتبه أن حكم الحدود «لن يرضي أحدا تمام الرضا، بل إنه قد يثير سخط السيخ».
17
قيل هذا يوم 7 أغسطس، ويوم 14 ذكر المشير السير كلود أوكينلك؛ القائد الأعلى للجيش الهندي البريطاني أن:
التأخير في إعلان حكم لجنة الحدود يخلف آثارا مزعجة وضارة إلى أقصى حد. ندرك طبعا أن الإعلان قد يذكي نار الفتنة، ولكن في غيابه تشيع أكثر الشائعات جموحا على ألسن مثيري الشغب الذين يوجد الكثير منهم.
18
ظلت الأمطار عصية، وبلغت الحرارة 100 درجة (فهرنهايت) في الظل. كان في ذلك مشقة على المسلمين بصفة خاصة - الجنود منهم والمدنيين - إذ صاموا من الفجر إلى الغروب في شهر رمضان، الذي امتد ذلك العام ما بين 19 يوليو و16 أغسطس. وقد سأل ريس سائقه المسلم عن سبب شح الأمطار؛ فأجابه: «الله أيضا غير راض عنا.»
أعلن قرار التقسيم أخيرا يوم 16 أغسطس، فأثار سخط المسلمين الذين كانوا يرون أن منطقة جورداسبور كان ينبغي أن تخصص لباكستان لا الهند، وكان السيخ أكثر غضبا منهم؛ إذ صارت مدينة نانكانا صاحب المحببة إليهم معزولة في دولة إسلامية. تصاعدت وتيرة الأعمال الوحشية على جانبي الحدود؛ ففي البنجاب الشرقية راحت عصابات مسلحة من السيخ تطوف أنحاء الريف وتفتش عن المسلمين وتذبحهم أينما وجدتهم؛ ففر من استطاع منهم عبر الحدود إلى البنجاب الغربية، حتى يضيفوا إلى حلقة القصاص والانتقام. تدفق المسلمون من أمريتسار وما حولها إلى الملاذ الآمن (بالنسبة إليهم) المتمثل في لاهور. وإن «قصص هؤلاء اللاجئين - النازعة إلى التعظيم والتهويل في المبالغة - تستند بالفعل إلى حقائق قاسية، ولديهم قدر وافر من الأطراف المبتورة وما إلى ذلك التي يمكنهم عرضها - ويعرضونها بالفعل - على إخوانهم المسلمين في لاهور وغربها».
طبقا للأرقام التي ذكرها ريس نفسه، فإن أعداد ضحايا أحداث البنجاب من المدنيين من مارس إلى نهاية يوليو تقدر بنحو 4500 قتيل ، و2500 مصاب. لكن في شهر أغسطس وحده، بلغ عدد القتلى حسب التقارير الرسمية للقوات 15 ألف قتيل، وأقر ريس بأن الرقم الفعلي «كان - على الأرجح - ضعف هذا الرقم أو ثلاثة أمثاله».
وقد انتاب رئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو قلق بالغ إزاء أحداث الشغب التي كانت تمر بها البنجاب وتبعاتها على نطاق أوسع؛ ففي آخر أسبوعين من شهر أغسطس، زار المقاطعة ثلاث مرات؛ حيث تحدث إلى أشخاص على الجانبين وقام برحلات جوية فوقها لاستطلاع الأمور. لم يظن نهرو أنه كان «ثمة خيار بين وحشية جانب أو آخر، فكلاهما عديم الإنسانية وهمجي بدرجة لا تصدق».
19
وكان التعبير الذي استخدمه ريس نفسه لوصف تلك الوحشية هو أنها «ترجع إلى ما قبل العصور الوسطى». والحقيقة أنها كانت تليق بالعصور الوسطى والعصور الحديثة أيضا؛ فالأسلحة التي استخدمها المشاغبون «تنوعت من الفأس والرمح والهراوة إلى أحدث البنادق الرشاشة والمدافع الآلية الخفيفة».
ويوم 2 سبتمبر، حلت قوة الحدود البنجابية. لم تكن فعالة للغاية على أي حال. فقد كانت مشكلة ازدواجية السلطة تعيق عملها؛ إذ كان عليها أن ترفع تقاريرها لمسئولين مدنيين في ظل القانون العسكري. ومع رحيل قوة الحدود البنجابية، عهد إلى حكومتي الهند وباكستان بمسئولية الحفاظ على القانون والنظام. استمر الشغب، وكذلك استمر النزوح على الجانبين، فكانت البنجاب الغربية تطهر من الهندوس والسيخ، وتخلى البنجاب الشرقية من المسلمين. وقد وصف مراسل صحيفة «سواتنترا» - صحيفة أسبوعية مرموقة مقرها مدراس - في البنجاب التعادل القاسي للعنف؛ فكتب أنه رأى:
قطارا خاليا خاصا للاجئين يدخل محطة فيروزبور متأخرا عصر يوم. كان السائق قد طار صوابه هلعا؛ إذ كان الحارس مسجى على الأرض قتيلا في عربته، بينما كان الوقاد مفقودا. سرت على طول رصيف القطار، ووجدت عربات القطار كلها عدا عربتين ملطخة بالدماء بأكملها، وكان ثمة ثلاث جثث راقدة وسط برك من الدماء في إحدى عربات الدرجة الثالثة؛ فقد أوقفت مجموعة من المسلمين المسلحين القطار بين لاهور وفيروزبور وقامت بتلك المجزرة المكتملة الأركان في وضح النهار.
وثمة مشهد آخر من المستبعد أن أنساه بسهولة: قافلة من اللاجئين المسلمين طولها خمسة أميال تعبر جسر سوتليج ببطء بالغ لتصل إلى باكستان. كان فيها عربات تجرها الثيران مكدسة بمنقولات مثيرة للشفقة، وسيقت المواشي إلى جوارها. وسارت النساء يحملن أطفالهن الرضع بين أذرعهن وصناديق صفيح صغيرة تعسة على رءوسهن؛ فقد ارتحل عشرون ألف رجل وامرأة وطفل إلى أرض الميعاد، ليس لأنها أرض الميعاد، وإنما لأن عصابات الهندوس والسيخ في ولاية فريدكوت ومن داخل منطقة فيروزبور قطعوا مئات المسلمين إربا، وأحالوا حياة الباقين جحيما.
20
كان ثمة عشرة ملايين لاجئ مرتحل؛ على الأقدام وعلى عربات تجرها الثيران وبالقطار، وسافروا أحيانا تحت حراسة الجيش، وأحيانا أخرى واضعين ثقتهم في القدر وفي أربابهم. وقد حلق جواهر لال نهرو فوق قافلة لاجئين تضمنت 100 ألف شخص وامتدت مسافة عشرة أميال. كانت القافلة مسافرة من جالاندر إلى لاهور، وكان عليها أن تجتاز أمريتسار؛ حيث كان ثمة 70 ألف لاجئ من البنجاب الغربية «في حالة هياج»، فاقترح نهرو شق طريق بالجرافات حول المدينة حتى لا يلتقي الجانبان.
21
كان تلك بلا شك أكبر عملية نزوح جماعي حدثت في التاريخ. «لم يحدث على مر التاريخ المعروف أن نقلت تلك الملايين كلها في غضون بضعة أيام قليلة هكذا.» فقد كتب أحد شهود العيان أنهم فروا:
في القيظ والمطر والفيضان وبرد البنجاب القارص. وقد امتدت سحب الغبار المتخلفة عن القوافل على ارتفاع منخفض عبر السهول الهندية، وامتزجت برائحة الخوف والعرق، والفضلات البشرية، والجثث المتعفنة. وعندما انقشعت سحابة الكراهية، نوديت أسماء الموتى وترددت أصداء خمسمائة ألف اسم في أرجاء الأراضي المذهولة؛ فمنهم من قتل متأثرا بجراح ناتجة عن طلقات نارية، أو طعنات سيف أو خنجر أو سكين، وآخرون ماتوا من جراء الأمراض الوبائية. وبينما لقي العدد الأكبر حتفهم من جراء العنف، فقد كان ثمة أرواح رقيقة منهكة تطلعت إلى حدائقها المنهوبة ثم وقعت على الأرض وفارقت الحياة؛ فما جدوى الحياة عندما يتوقف العقل ويجمح الرجال؟ لماذا تنتزع طفلك من على وتد أو تجذب حبيبك من بئر عكر؟
22
وقد تفاقمت الأزمة في المقاطعة بسبب الانحياز الحزبي الملحوظ لدى السير فرانسيس مودي، حاكم البنجاب الغربية؛ فقد كان «متصلبا في معاداته لحزب المؤتمر الوطني». ظن مودي أنه «قادر على الحكم بشخصه، فأحبط مساعي وزرائه، لا سيما فيما يتعلق برأب الصدع بين البنجاب الغربية والبنجاب الشرقية، ومن ثم بين باكستان والهند». والمؤسف أنه لم يكن ثمة سياسي باكستاني على استعداد للتصدي للتعصب الديني؛ فأيا كان ما ظنوه في قرارة أنفسهم، فقد كانوا متحرجين من التحدث علنا. أما عن الحاكم العام الجديد لباكستان - محمد علي جناح - فقد كان مقره مدينة كراتشي الساحلية (عاصمة البلاد)، ولم «يزر لاهور إلا من وراء ستار وتحت حراسة مشددة». كان في ذلك الوجل تناقض صارخ مع دفاع السياسيين الهنديين البارزين الباسل عن الأقليات لديهما. وقد كتب مراقب بريطاني فعلا أن «أسهم نهرو وغاندي ارتفعت إلى حد غير مسبوق لدى المسلمين في البنجاب الغربية».
23
وفي ذلك الوقت، اشتعل الوضع في البنغال مجددا. وردت تقارير عن أحداث شغب جديدة في نواخالي. وفي كلكتا ذاتها خرق السلام في منطقة بيليجاتا التي استقر فيها غاندي؛ فهناك اعتدى مسلمون على شاب هندوسي يوم 31 أغسطس. تبع ذلك عنف انتقامي وانتشر. وبحلول الغروب في 1 سبتمبر كان ثمة ما يربو عن خمسين قتيلا. تلك الليلة قرر غاندي الصيام، فسأله أحد أصدقائه: «ولكن كيف يمكنك أن تصوم في مواجهة عصابات إجرامية؟» فجاء رد غاندي - حسب شاهد عيان - كالآتي: «أعلم أني سأتمكن من التعامل مع مشكلة البنجاب أيضا إذا تمكنت من وضع أزمة كلكتا تحت السيطرة، ولكنني إذا فقدت همتي الآن قد تنتشر الفتنة كالنار في الهشيم. أستطيع أن أرى بوضوح قوتين أجنبيتين أو ثلاثا ستأتي إلينا، مما سيقضي على حلم الاستقلال الوليد.» فرد عليه صديقه قائلا: «ولكن إن مت، فسيزداد الحريق اشتعالا.» قال له غاندي: «على الأقل لن أكون حاضرا لأشهده. وسأكون قد قمت بواجبي.»
24
بدأ غاندي الصيام يوم 2 سبتمبر، وبحلول اليوم التالي توافدت إليه عصابات الهندوس والمسلمين وسلموا أسلحتهم، وخرجت مسيرات مختلطة داعية إلى الوفاق الطائفي في أجزاء مختلفة من المدينة، وأكد وفد من الساسة البارزين - الممثلين لحزب المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية والمنظمة الهندوسية ذات النفوذ المحلي هندو ماهاسابها - لغاندي أن الشغب سيتوقف. وحينها أنهى المهاتما صيامه، الذي دام ثلاثة أيام.
دام السلام، مما حدا باللورد ماونتباتن إلى الإدلاء بتعليقه الشهير الذي قال فيه إن رجلا واحدا أعزل من السلاح كان أكثر فاعلية من 50 ألف رجل في البنجاب. لكن الثناء الذي وجهته صحيفة «ستيتسمان» - صحيفة بريطانية مقرها كلكتا لطالما عارضت غاندي وسياساته - إلى غاندي ربما حظي بالقدر ذاته من الإعزاز لدى غاندي ومعجبيه؛ إذ ورد فيه أنه:
لسنوات طويلة عجزنا عن الاتفاق على استخدام الصيام كأداة سياسية مع أشهر ممارسيها ... ولكن على مدى تاريخ مهني طويل، لم يسبق قط - في نظرنا - أن صام المهاتما غاندي من أجل قضية أبسط وأجدر من تلك، ولا قضية أعدت لمخاطبة الضمير العام بمثل تلك الفاعلية الفورية.
25
يوم 7 سبتمبر غادر غاندي إلى دلهي، بعد أن قضى أربعة أسابيع في بيليجاتا. كان يأمل في المضي قدما إلى البنجاب، إلا أنه لدى بلوغه العاصمة استوقفته على الفور قصص القلاقل والسلب. كان المسلمون في دلهي خائفين؛ فقد كان الهجوم متزايدا على ديارهم ودور عبادتهم، وقيل لغاندي إن ما لا يقل عن 137 مسجدا دمر في الأسابيع الأخيرة. كما أن اللاجئين الهندوسيين والسيخ احتلوا منازل المسلمين قسرا. وقد أفاد أحد موظفي الإغاثة التابعين لجمعية الأصدقاء الدينية (الكويكرز) بأن «سكان دلهي المسلمين من جميع الطبقات - موظفي الخدمة المدنية ورجال الأعمال والحرفيين وسائقي عربات الخيول والحمالين - فروا إلى عدد من الحصون الطبيعية»، مثل القلعة القديمة، وهو الحصن الكبير ذو الأسوار العالية في وسط المدينة، ومقبرة الإمبراطور المغولي همايون. في القلعة القديمة وحدها كان ثمة 60 ألف لاجئ مكدسين في الخيام «في أركان الشرفات وفي العراء إلى جانب الجمال وعربات الخيول والأمهار، وسيارات الأجرة القديمة المتهالكة، وسيارات الليموزين الفارهة خاصتهم».
26
وقتها علق غاندي برنامجه في البنجاب، وطفق يزور المخيمات في العاصمة وخارجها. وفي السهول المحيطة بدلهي كان ثمة جماعة من المزارعين الذين يعرفون باسم الميو ديانتهم الإسلام، ولكنهم تبنوا كثيرا من ممارسات جيرانهم الهندوس وطقوسهم، وفي خضم الجنون السائد آنذاك صار ذلك الانسجام العقائدي طي النسيان، فقتل آلاف منهم أو أخرجوا من ديارهم، سواء كانوا في أراض هندية أم في مدينتي ألوار وبهاراتبور.
27
وقد كتب دي جي تندولكار؛ مدون سيرة غاندي، أن غاندي خلال شهري سبتمبر وأكتوبر «طاف بالمستشفيات ومخيمات اللاجئين مواسيا المنكوبين، وناشد السيخ والهندوس والمسلمين أن ينسوا الماضي، وألا يمعنوا التفكير في معاناتهم، وإنما أن يتآخوا ويعتزموا العيش في سلام ... وتوسل إليهم جميعا أن يرسوا السلام بسرعة في دلهي، حتى يتمكن من المضي قدما إلى البنجاب الشرقية والبنجاب الغربية». وقال غاندي «إنه ماض إلى البنجاب حتى يدفع المسلمين إلى تصحيح الخطأ الذي يقال إنهم اقترفوه هناك في حق الهندوس والسيخ. ولكن لم يكن له أن يأمل في النجاح ما لم يضمن إنصاف المسلمين في دلهي».
28
وقد تحدث غاندي أيضا في أحد معسكرات منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج؛ تلك المنظمة التي أسسها طبيب من مهاراشترا عام 1925، وكانت هيئة مترابطة متحمسة من شباب الهندوس. كان غاندي معجبا بانضباطهم وغياب حس الطوائف الاجتماعية لديهم، وإن لم يعجبه عداؤهم للديانات الأخرى؛ فأخبر أعضاء المنظمة أنه «إن شعر الهندوس بأنه لا مكان لسواهم في الهند، وأن غير الهندوس - لا سيما المسلمين - إن أرادوا العيش هناك فعليهم أن يعيشوا عبيدا للهندوس، فستكون تلك طعنة في مقتل للهندوسية». فقد كان غاندي يرى أن المنظمة كانت «كيانا حسن التنظيم والانضباط»، إلا أنه أخبر أعضاءها أن «قوتها يمكن أن تستخدم إما في صالح الهند وإما ضدها؛ فهو لم يدر ما إذا كان ثمة جانب من الصواب في الاتهامات [بالتحريض على الكراهية الطائفية] الموجهة إلى المنظمة، ومن مصلحة المنظمة أن تظهر من خلال سلوكها المتسق أن تلك الاتهامات عارية من الصحة».
29
وخلافا لغاندي، لم يكن جواهر لال نهرو ميالا إلى إحسان النية بتلك المنظمة الهندوسية؛ فقد قال لوزير داخليته فالابهاي باتيل: «يبدو واضحا لي أن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج اضطلعت بدور كبير في الاضطرابات السائدة، ليس في دلهي فحسب، وإنما في سائر الأنحاء؛ ففي أمريتسار كان نشاطها واضحا وضوح الشمس.» نبعت مشاعر نهرو تجاه المنظمة من مخاوفه الأعمق إزاء الوضع الطائفي، فقد رأى أنه «ثمة محاولة حسنة التنظيم لا شك فيها من عناصر فاشية سيخية وهندوسية بعينها للإحاطة بالحكومة، أو على الأقل تفتيت قوامها الحالي، فقد تخطى الأمر حد الاضطرابات الطائفية؛ فقد كان كثير من هؤلاء الناس قساة عتاة إلى أقصى حد، وتصرفوا كإرهابيين خالصين».
30
وكان ثمة داع أكبر للقلق؛ إذ عمل أولئك المتعصبون في «مناخ مؤات فيما يتعلق بالرأي العام»؛ ففي دلهي بالذات، كان اللاجئون الهندوس والسيخ من باكستان متعطشين للدماء. لكن رئيس الوزراء أصر على أن تكون الهند مكانا يمكن للمسلمين أن يعيشوا ويعملوا فيه بحرية. وقد كتب رجل إنجليزي من الموظفين التابعين للحاكم العام في مذكراته يقول:
مشاهدة نهرو عن كثب في تلك المحنة تجربة ملهمة؛ فهو يؤكد إيمان المرء بالإنسانية والعقل المتحضر، إذ يكاد يقف وحيدا في غمار الطائفية بكل صورها، من دسائس الأفراد إلى الجنون الجماعي؛ فهو يتحدث بصوت المنطق والخير.
31
استجابة لمبادرة غاندي ونهرو، مرر حزب المؤتمر الوطني قرارا بشأن «حقوق الأقليات»؛ فالحزب لم يقبل قط «نظرية الدولتين»، وإذ اضطر رغما عن إرادته إلى قبول التقسيم، كان ما زال مقتنعا بأن «الهند أرض ديانات وأعراق متعددة، ولا بد أن تظل هكذا»، وأن أيا كان الوضع في باكستان، ستكون الهند «دولة علمانية ديمقراطية يتمتع فيها المواطنون جميعا بحقوق كاملة، وكلهم سواسية في تمتعهم بحق حماية الدولة، بصرف النظر عن الديانة التي يعتنقونها». وود حزب المؤتمر أن «يطمئن الأقليات في الهند إلى أنه سيستمر في حماية حقوقهم كمواطنين من الاعتداء عليها بكل ما أوتي من قوة».
32
إلا أن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج كانت متشككة بقوة إزاء وجهة النظر تلك. كان زعيمها رجلا نحيفا ملتحيا تخرج في كلية العلوم يدعى إم إس جلوالكر، وكان معارضا بشدة لفكرة الدولة العلمانية التي لا تميز بين المواطنين على أساس الدين؛ ففي الهند التي يتصورها:
يجب على غير الهندوس في الهند إما أن يتبنوا الثقافة واللغة الهندوسية، ويتعلموا الديانة الهندوسية ويحترموها ويوقروها، ولا يخطر ببالهم سوى إجلال العرق والثقافة الهندوسيين ... باختصار لا بد أن يكفوا عن التصرف كأجانب، وإما أن يبقوا في البلاد في ظل تبعية تامة للأمة الهندوسية دون مطالبة بشيء، ولا استحقاق لامتيازات، وبالتأكيد دون أي معاملة تفضيلية ولا حتى حقوق مواطنة.
33
وفي يوم الأحد 7 ديسمبر 1947، نظمت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج مسيرة حاشدة بساحة رامليلا في قلب دلهي. ألقى إم إس جلوالكر الخطاب الرئيسي. وحسب صحيفة «هندوستان تايمز»، فقد نفى جلوالكر أن منظمته تستهدف إقامة حكم هندوسي، ولكنه أصر على التالي: «إننا نبتغي وحدة المجتمع الهندوسي. وبوضع ذلك الهدف السامي نصب أعيننا، ستمضي المنظمة قدما دون التفات لأي سلطة أو شخص.»
34
السلطات التي قصدها كانت حزب المؤتمر وحكومة الهند. أما الأشخاص فنهرو وغاندي، اللذان شعر اللاجئون المتعاطفون مع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج بمشاعر عدائية قوية تجاههما، وكانت اجتماعات غاندي تتعطل بسبب لاجئين معترضين على تلاوة آيات من القرآن، أو آخرين هتفوا بشعارات تتساءل عن سبب عدم حديثه عن معاناة الهندوس والسيخ الذين ما زالوا يعيشون في باكستان. الحقيقة أن غاندي - كما كتب تندولكار - «كان منشغلا بالقدر ذاته بمعاناة الأقلية في باكستان، وود لو أمكنه الذهاب لنجدتهم، ولكن كيف يتجرأ على الذهاب هناك الآن، في حين أنه لا يستطيع أن يكفل الإنصاف الكامل للمسلمين في دلهي؟»
مع استمرار الهجمات على المسلمين، قرر غاندي أن يلجأ إلى الصيام مجددا؛ فبدأ صيامه يوم 13 يناير، موجها إياه إلى ثلاث جهات مختلفة: أول جهة كانت شعب الهند؛ فإليه أشار ببساطة أنه إذا كان لا يؤمن بنظرية الدولتين، فعليه أن يثبت في عاصمته المختارة - «المدينة الخالدة» دلهي - أن الهندوس والمسلمين يمكن أن يتعايشوا في سلام وأخوة. أما الجهة الثانية فكانت حكومة باكستان، فقد سألها: «إلى متى يمكنني أن أركن إلى صبر الهندوس والسيخ، على الرغم من صيامي؟ على باكستان أن تضع حدا لذلك الوضع» (أي، إخراج الأقليات من أرضهم).
وأخيرا وجه غاندي صيامه إلى حكومة الهند؛ فقد احتجزت حصة باكستان من «تسوية الاسترليني» التي كانت بريطانيا تدين بها للدومنيونين؛ وهو دين تحملته مقابل إسهامات الهند إبان الحرب العالمية الثانية. كانت التسوية قدرها 550 مليون روبية، وهو مبلغ لا بأس به؛ فرفضت نيودلهي الإفراج عن النقود؛ لأنها كانت غاضبة من باكستان إثر محاولتها الأخيرة الاستيلاء على ولاية كشمير. رأى غاندي أن ذلك تصرف كيدي لا داع له؛ لذا اشترط منح باكستان المال المستحق لها لإنهاء صومه.
قررت حكومة الهند ليلة 15 يناير أن تفرج عن الأموال المستحقة لحكومة باكستان، وفي اليوم التالي وقع أكثر من ألف لاجئ إقرارا مفاده أنهم سيرحبون برجوع المسلمين المهجرين من دلهي، ويسمحون لهم بالعودة إلى ديارهم، ولكن غاندي كان يرغب في ضمانات أكثر موثوقية. في ذلك الوقت، راحت صحته تتدهور بسرعة، فبدأ يعاني فشلا كلويا، وانخفض وزنه، وصار الغثيان والصداع ملازمين له. أصدر الأطباء تحذيرا قائلين: «من واجبنا أن نخبر الناس أن يتخذوا خطوات فورية لاستيفاء الشروط اللازمة لإنهاء الصوم دون إبطاء.»
وفي 17 يناير تشكلت لجنة سلام مركزية بقيادة رئيس الجمعية التأسيسية راجندرا براساد، وتضمنت أعضاء آخرين من حزب المؤتمر، كما تضمنت ممثلين عن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج وجمعية العلماء وهيئات سيخية. وصبيحة يوم 18 يناير حملوا إقرارا مشتركا لغاندي أرضاه بما يكفي لكسر صيامه؛ فقد تعهد ذلك الإقرار بالآتي: «إننا سوف نحمي حياة المسلمين وممتلكاتهم ودينهم، ولن تتكرر الأحداث التي وقعت في دلهي ثانية.»
35
فهل ستتكرر «معجزة كلكتا» في دلهي؟ بدا أن قادة الجماعات المتشددة قد هدأت حدتهم إثر صيام غاندي، إلا أن أتباعهم ظلوا عدائيين. في زيارات سابقة لدلهي، أقام غاندي في حي الكناسين، إلا أنه نزل تلك المرة في دار أحد محبيه وهو المليونير جي دي بيرلا. وحتى أثناء صيامه، كانت جماعات من اللاجئين تمر من أمام منزل بيرلا هاتفة: «دعوا غاندي يموت.» ثم ألقى لاجئ من البنجاب يدعى مادان لال قنبلة يوم 20 يناير على غاندي داخل منزل بيرلا بينما كان يقود الناس في مجلس صلاة، فانفجرت القنبلة على مسافة قريبة منه، ولحسن الحظ لم يصب أحد بأذى.
لم تنل محاولة قتل غاندي من عزيمته؛ إذ ظل يجتمع بالناس، واجتمع أيضا مع اللاجئين الغاضبين. ويوم 26 يناير تحدث أثناء مجلس الصلاة عن أن ذلك اليوم كان يحتفل به في الماضي كعيد الاستقلال، والآن أتت الحرية، ولكن الأشهر القليلة الأولى فيها جاءت مخيبة للآمال بشدة، إلا أنه كان يثق بأن «المرحلة الأسوأ قد ولت»، وأن الهنود سيعملون معا على تحقيق «المساواة بين الطبقات والعقائد كافة، لا لسيادة الأغلبية وتفوقها على الأقلية أبدا، مهما كانت ضآلة الأقلية، سواء من حيث العدد أو النفوذ». وقد سمح لنفسه أيضا بأن يأمل «أنه على الرغم من انقسام الهند جغرافيا وسياسيا إلى شطرين، فسنكون دائما في قلبنا أصدقاء وإخوة يساعد أحدنا الآخر ويحترمه، ونبقى متحدين أمام العالم الخارجي».
كان غاندي قد كافح طيلة حياته من أجل حرية الهند ووحدتها، إلا أنه في النهاية استطاع أن ينظر إلى تقسيمها بتجرد وهدوء، ولكن كان ثمة أشخاص آخرون أقل تسامحا؛ ففي مساء يوم 30 يناير أطلق عليه شاب الرصاص أثناء مجلس الصلاة اليومي فأرداه قتيلا. كان القاتل - الذي سلم نفسه بعدها - برهميا من بونا يدعى ناثورام جودسي. أحيل إلى المحاكمة وحكم عليه بالإعدام فيما بعد، ولكن ليس قبل أن يلقي خطابا مميزا مبررا فعلته؛ فقد ادعى جودسي أن مبعث الاستفزاز الرئيسي بالنسبة إليه من المهاتما كان «مداومته وإصراره على استرضاء المسلمين»، والذي «قد بلغ أوجه في صيامه الأخير من أجل المسلمين، مما أوصلني إلى أنه لا بد من الإنهاء الفوري لوجود غاندي».
36
4
جلب موته فيضانا جارفا من الأسى؛ فأشاد بذكراه ألبرت أينشتاين - الذي طالما اعتبره أعظم شخصية في القرن العشرين - بكلمات تهز المشاعر، وكذلك أشاد بذكراه جورج أورويل - الذي كان يعتبر غاندي دجالا يوما، ولكنه بات يراه قديسا. وصدر عن جورج برنارد شو رد فعل أرعن خليق به؛ إذ قال: «هذا دليل على مدى خطورة أن يكون المرء صالحا»، وآخر دنيء من محمد علي جناح خليق به؛ إذ قال إن وفاة خصمه القديم خسارة بالنسبة إلى «المجتمع الهندوسي» فحسب.
إلا أن أهم ردي فعل معلنين صدرا عن أبرز - بل أقوى - تابعين لغاندي، وهما: فالابهاي باتيل وجواهر لال نهرو؛ فباتيل الذي كان آنذاك وزير داخلية الحكومة الهندية، كان جوجاراتي كغاندي وانضم إلى صفه منذ عام 1918، وكان منظما وواضع استراتيجيات ممتاز، واضطلع بدور رئيسي في جعل المؤتمر الوطني حزبا قوميا. وفي مجلس الوزراء الهندي، كان هو الرجل الثاني مباشرة بعد رئيس الوزراء جواهر لال نهرو. كان نهرو قد انضم لغاندي بعد باتيل بعامين، وكان يستطيع محادثته بلغتين فقط من لغاته الثلاث (الهندية والإنجليزية)، إلا أنه جمعته به رابطة عاطفية عميقة، ومثل باتيل كان يطلق على غاندي عادة «بابو»؛ أي، «أبي»، ولكنه كان الابن الأثير من عدة نواح (أعز بكثير من أبناء المهاتما الفعليين الأربعة)، وكان أيضا وريثه السياسي المختار.
في ذلك الحين - إذ عصفت القلاقل المدنية بالهند - أخبر الرجلان الأمة أنه على الرغم من رحيل المعلم، فرسالته باقية. وقد ناشد باتيل الناس، في حديثه على إذاعة «أول إنديا راديو»، بعد مقتل غاندي مباشرة، ألا يفكروا في الانتقام، وإنما «أن يحملوا رسالة المحبة ونبذ العنف التي أطلقها المهاتما. وإنه لمن دواعي خجلنا أن أعظم رجل في العالم اضطر إلى أن يدفع حياته ثمنا لآثام اقترفتها أيدينا. إننا لم نطعه في حياته؛ فدعونا نسير على خطاه الآن بعد مماته على الأقل».
37
أما نهرو فقال بعد نثر رماد غاندي في نهر الجانج في الله أباد: «لقد دفعنا ثمنا باهظا حتى نعي الدرس، فهل بيننا الآن من لن يتعهد بعد وفاة غاندي بإتمام رسالته ...؟» وأضاف نهرو أنه صار على الهنود الآن «أن يتحدوا ويحاربوا سم الطائفية القاتل الذي أودى بحياة أعظم رجال زمننا».
38
دعا نهرو وباتيل، على حد سواء، إلى الوحدة والتسامح، ولكن الرجلين في واقع الأمر كانا قد دخلا في خلاف مرير في الآونة الأخيرة؛ ففي الأسبوعين الأخيرين من ديسمبر كان نهرو قد خطط لزيارة بلدة أجمير التي ثار فيها الشغب، وفي اللحظة الأخيرة ألغى رحلته وأرسل سكرتيره الخاص عوضا عنه، فشعر باتيل بإهانة بالغة؛ إذ قد شعر أنه بما أن وزارة الداخلية أرسلت فريق تحقيق خاص إلى أجمير، فقد دلت رحلة مرءوس رئيس الوزراء على عدم ثقته في وزارة الداخلية. أوضح نهرو أنه اضطر إلى إلغاء زيارته نظرا لحدوث حالة وفاة في العائلة؛ ولذا أرسل سكرتيره حتى لا يخيب أمل من توقعوا مجيئه بالأساس، ولكنه على أي حال، كان يحق له بصفته رئيس الحكومة أن يذهب أينما شاء وقتما شاء، أو أن يرسل أحدا آخر ينوب عنه، فرد باتيل قائلا إنه في النظام البرلماني لا يعدو رئيس الوزراء أن يكون الأول بين أنداد؛ فهو ليس أعلى من زملائه الوزراء ولا يسيطر عليهم.
ازداد الجدل احتداما يوما بعد يوم، وفي إحدى اللحظات عرض الرجلان أن يقدما استقالتهما، ثم اتفق على أن يعرضا وجهتي نظرهما أمام غاندي. قبل أن يتسنى تحديد موعد مناسب بدأ المهاتما صيامه الأخير. وفي الأسبوع التالي كان باتيل مسافرا خارج دلهي، ولكن المسألة كانت ملحة على فكره، كما كانت ملحة على فكر نهرو. وبالفعل، التقى غاندي باتيل يوم 30 يناير قبيل مجلس الصلاة المصيري ذاك، وطلب أن يسويا خلافاتهما هو ونهرو، وقال أيضا إنه يود الاجتماع بهما في اليوم التالي.
بعد مرور ثلاثة أيام على اغتيال غاندي، كتب نهرو رسالة إلى باتيل جاء فيها أنه «بوفاة بابو تغير كل شيء، وعلينا أن نواجه عالما مختلفا أكثر صعوبة. لم تعد للخلافات القديمة أهمية، ويبدو لي أن الحاجة الملحة في الوقت الحالي تتمثل في عملنا معا بأكبر قدر ممكن من القرب والتعاون». فرد باتيل قائلا: «أبادلك من كل قلبي المشاعر التي أعربت عنها بإخلاص ... فقد أحزنتني الأحداث الأخيرة بالغ الحزن، وقد كتبت إلى بابو ... مناشدا إياه إعفائي من مهامي، ولكن وفاته غيرت كل شيء، ولا بد أن توقظنا الأزمة التي ألمت بنا على إدراك جديد لمقدار ما أنجزناه معا، والحاجة إلى بذلنا مزيدا من الجهود المتضافرة لصالح بلدنا المفجوع.»
39
لم يفلح غاندي في التوفيق بين الهندوس والمسلمين في حياته، ولكنه وفق - بسبب مماته - بين جواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل. كان ذلك صلحا ذا أهمية كبيرة بالنسبة إلى الدولة الجديدة الفائقة الهشاشة.
الفصل الثاني
التقسيم
كان مقدرا للهند على مر التاريخ أن تفد إليها أعراق وثقافات بشرية متعددة، لتجد وطنا في تربتها المضيافة، وأن تقصدها قوافل كثيرة للراحة ... وقد أثرت أحداث ألف ومائة عام من التاريخ المشترك [بين الإسلام والهندوسية] الهند بإنجازاتنا المشتركة؛ فاللغة والشعر والأدب والثقافة والفن والملبس وآدابنا وأعرافنا، وأحداث الحياة اليومية التي لا تعد ولا تحصى، كل شيء يحمل بصمة مساعينا المشتركة ... تلك الأعوام الألف الماضية من حياتنا المشتركة صهرتنا في جنسية واحدة ... وشئنا أم أبينا، لقد صرنا الآن دولة هندية متحدة وغير قابلة للانقسام؛ فلا يمكن لخيال أو تخطيط يرمي إلى الفصل والتقسيم أن يفصم عرى تلك الوحدة.
مولانا أبو الكلام آزاد، خطاب رئيس حزب المؤتمر، عام 1940
المشكلة في الهند ليست ذات طبيعة طائفية، وإنما ذات طبيعة قومية لا لبس فيها، ولا بد من التعامل معها من هذا المنطلق ... إن إمكانية اجتماع الهندوس والمسلمين في جنسية واحدة لوهم، وقد جاوز ذلك التصور الخاطئ لدولة هندية واحدة المدى، وهو سبب معظم مشاكلنا، وسوف يؤدي بالهند إلى الهلاك، إذا فشلنا في العدول عن تصرفاتنا في الوقت المناسب؛ فالهندوس والمسلمون ينتميان إلى فئتين متباينتين من الفلسفة الدينية والعادات الاجتماعية والأدب؛ فلا هم يتزاوجون ولا يتزاورون، وهم ينتمون فعليا إلى حضارتين مختلفتين قائمتين بالأساس على أفكار وتصورات متناقضة؛ فآراؤهم إزاء الحياة وجوانب حياتهم متباينة.
إم إيه جناح، خطاب رئيس العصبة الإسلامية، عام 1940
1
هل كان تقسيم الهند ضروريا؟ عندما رحل البريطانيون، ألم يكن بإمكانهم أن يخلفوا وراءهم دولة واحدة؟ ثارت مثل تلك التساؤلات منذ عام 1947، وهي أثناء الإجابة عنها تطرح التساؤل المكمل لها، وهو: «لماذا» قسمت الهند؟
تجلى الحنين إلى الهند المتحدة لدى الأشخاص المقيمين على الناحية الهندية من الحدود بالأساس، إلا أنه أحيانا كان يظهر شعور بالضياع داخل ما صار باكستان أيضا، بل إن أحد السياسيين الاتحاديين المحنكين كتب يوم 15 أغسطس من عام 1947 يقول:
أود فعل أي شيء لإنقاذ وحدة البنجاب ... فإن رؤية ما يحدث لتكسر الفؤاد ... كل ذلك بسبب سياسة التمييع والانصراف قبل الوصول إلى أي اتفاق حقيقي ... فقد استبعد حدوث أي تعديل بتحديد تاريخ لنقل السلطة، ولم يعد من سبيل سوى تشريح الجسد حيا ... سيكون علينا أن نبدأ من جديد، [ولكن] يكاد الأمل ينعدم في بناء الأمور على أساسها القديم؛ إذ إن الكراهية الطائفية والتدمير المتبادل صار لهما الأولوية في أذهان الجميع الآن.
1
لماذا لم يكن إنقاذ وحدة البنجاب - أو الهند - ممكنا؟ قدمت ثلاث إجابات متباينة إلى حد بعيد. الإجابة الأولى تلوم قيادة المؤتمر الوطني على الاستهانة بجناح والمسلمين. أما الثانية فتلوم جناح على السعي وراء هدف إقامة بلد منفصل بصرف النظر عن التبعات الإنسانية، والثالثة تلقي بالمسئولية على عاتق البريطانيين، بزعم أنهم شجعوا الانقسام بين الهندوس والمسلمين بغية إطالة حكمهم.
2
تلك الإجابات - أو لنقل الاتهامات - الثلاثة، كل منها يحمل جانبا من الصواب؛ فصحيح أن نهرو وغاندي اتخذا قرارات خاطئة جدا في تعاملاتهما مع العصبة الإسلامية؛ إذ في عشرينيات القرن العشرين تجاهل غاندي جناح وحاول توحيد قضيته مع الملالي، وفي الثلاثينات زعم نهرو بغطرسة - واتضح فيما بعد أنه كان مخطئا - أن جموع المسلمين ستؤثر اتباع عقيدته الاشتراكية على الانضمام إلى ركب حزب قائم على الدين. لكن في تلك الأثناء، راح المسلمون ينتقلون بثبات من المؤتمر الوطني إلى العصبة الإسلامية. في ثلاثينيات القرن العشرين عندما كان جناح مستعدا لعقد اتفاق، قوبل بالتجاهل، وفي الأربعينيات بعدما صار المسلمون يقفون وراءه بقوة، لم يكن ثمة سبب يدفعه إلى عقد أي اتفاق.
وصحيح أيضا أن بعض تحولات جناح السياسية تحدت أي تفسير عدا الطموح الشخصي؛ فقد عرف في يوم من الأيام بلقب «سفير الوحدة بين الهندوس والمسلمين»، وعرف عنه ممارسته السياسة الدستورية. وحتى عندما نصب نفسه حاميا للإسلام والمسلمين، أغفل ادعاءات التدين في حياته الشخصية. (كان يحب الويسكي، ويقول البعض إنه كان يحب شطائر لحم الخنزير أيضا.)
3
إلا أنه منذ أواخر ثلاثينيات القرن العشرين بدأ يعمل على إذكاء المشاعر الدينية. وبلغت تلك العملية أوجها في دعوته إلى إقامة «يوم العمل المباشر»؛ وهو اليوم الذي أشعل فتيل الحلقة الدامية من العنف والعنف المضاد التي جعلت التقسيم في النهاية أمرا حتميا.
وأخيرا، ثمة جانب من الصحة أيضا في أن البريطانيين رحبوا فعلا بالعداوة القائمة بين الهندوس والمسلمين وأججوها؛ ففي مارس 1925 - عندما كانت المعركة ضد الاستعمار قد اكتسبت بعدا شعبيا حقيقيا - كتب وزير الدولة لشئون الهند إلى نائب الملك للهند التالي: «لطالما وضعت أعرض آمالي وأدومها على استمرار الوضع الطائفي.»
4
فداخل إنجلترا، أدى نمو القيم الليبرالية إلى إعلاء شأن سيادة الفرد، ولكن في المستعمرات كان الفرد دائما ما ينظر إليه على أنه تابع للمجتمع. تجلى ذلك في الوظائف الحكومية؛ حيث حرصت الحكومة على الموازنة بين أعداد الموظفين من المسلمين والهندوس، وفي السياسة؛ حيث استحدث البريطانيون قواعد انتخابية طائفية بحيث كان المسلمون لا يصوتون إلا لمسلمين آخرين، وكان معظم المسئولين البريطانيين يميلون إلى تفضيل المسلمين؛ إذ لم تكن شعائرهم الدينية وأسلوب حياتهم - مقارنة بالهندوس - غريبة تماما على البريطانيين. وبصفة عامة، عمقت السياسة الاستعمارية الانقسامات الدينية التي ساعدت على تعزيز حكم الرجل الأبيض.
فقصر نظر المؤتمر الوطني، وطموح جناح، ولاأخلاقية بريطانيا وسعيها وراء مصالحها الذاتية؛ كل ذلك ربما يكون قد اضطلع بدور ما، ولكن على مشارف أربعينيات القرن العشرين، على الأقل، كانت مسألة التقسيم قد صارت جزءا من حتمية التاريخ الهندي. إذ حتى لو لم يشجع البريطانيون إقامة القواعد الانتخابية الطائفية، لكان بدء العمل بالسياسة الانتخابية الحديثة شجع تكوين كتل تصويتية مجتمعية؛ فقد تزايد دفع المسلمين إلى التفكير في أنفسهم على أنهم مسلمون فقط؛ فحتى عام 1927 كان قوام العصبة الإسلامية 1300 عضو فحسب، وبحلول عام 1944 صار لديها أكثر من 500 ألف عضو في البنغال وحدها (كانت البنجاب فيها 200 ألف عضو)؛ فقد توافد المسلمون من جميع الطبقات إلى العصبة، الحرفيين والعمال وأصحاب المهن ورجال الأعمال، كلهم تجمعوا استجابة لنداء «الإسلام في خطر»، متخوفين من احتمال أن تقوم دولة موحدة، وتكون «دولة البراهمة والبانيا (التجار)».
5
صدرت أول دعوة رسمية لإقامة دولة باكستان عن العصبة الإسلامية في مارس 1940؛ فقد كانت الحرب العالمية الثانية قد أجلت مسألة باكستان (واستقلال الهند على نحو أعم)، وبعد الحرب وصلت حكومة عمالية إلى سدة الحكم في بريطانيا العظمى. وخلافا للمحافظين، كان حزب العمل «يرى أنه مقيد بالتزام أخلاقي بالتعجيل بعملية منح الهند الاستقلال»، فقد أبدى رئيس الوزراء كليمنت أتلي في قضية الهند «حسما وحماسا غير معتادين في تاريخه المهني».
6
كان بعض الساسة البارزين في حزب العمل وثيقي الصلة بالمؤتمر الوطني، ومنهم السير ستافورد كريبس، الذي أرسل في أوائل عام 1946 ضمن بعثة وزارية بريطانية مكونة من ثلاثة أعضاء للتفاوض على شروط استقلال الهند. كان كريبس - وزعماء آخرون من حزب العمل - يود لو خلف وراءه دولة هندية متحدة تمضي تحت حكم المؤتمر الوطني وتوجيهه، ولكن المذكرة التي أعدت للبعثة في ديسمبر 1945 أظهرت أن ذلك احتمال مستبعد تماما. كتب تلك المذكرة بنديريل مون، الذي كان زميلا نابغا بكلية أول سولز، وعمل في دائرة الخدمة المدنية الهندية لفترة. أشار مون إلى أن «احتمال الحصول على موافقة الهندوس على التقسيم أرجح من احتمال الحصول على موافقة المسلمين على الوحدة». فمن وجهة النظر البريطانية، كان «توحيد الهند ضد رغبة المسلمين سيستلزم استخدام القوة، وتقسيم الهند ضد رغبة الهندوس «لن» يستلزم استخدام القوة، وفي أسوأ الظروف يرجح أن تكون القوة اللازمة أخف في تلك الحالة؛ فقد يبدي الهندوس في مدراس وبومباي وأوتر براديش والمقاطعات المركزية حسرتهم على انتزاع إخوانهم في البنغال أو البنجاب من أحضان الهند الأم، ولكن من المستبعد أن تكون لديهم الإرادة أو القوة اللازمة لكي ينبروا للدفاع عنهم».
7
وقد أثبتت الأشهر القليلة التالية ما انطوت عليه تلك التعليقات من حكمة موضوعية؛ ففي بدايات عام 1946 أجريت انتخابات لمجالس المقاطعات المختلفة. أقيمت تلك الانتخابات على أساس قصر حق التصويت على المتعلمين وأصحاب الأملاك، وكان من يملكون حق التصويت ضمن السكان البالغين نحو 28٪ فحسب، ولكن تلك النسبة - في بلد بحجم الهند البريطانية - كانت تعادل نحو 41 مليون شخص.
8
في جميع أنحاء العالم ، تميز أسلوب الخطابة في السياسة الديمقراطية الحديثة بانقسامه بين اتجاهين متناقضين إلى حد ما. الأول يخاطب الأمل: الطموحات الشعبية المتعلقة بالرخاء الاقتصادي والسلام الاجتماعي، والثاني يخاطب الخوف: المخاوف الطائفية بشأن التعرض للغبن أو الاجتياح من أعداء المرء التاريخيين. في انتخابات عام 1946 اعتمد المؤتمر الوطني على خطاب الأمل؛ فأعد برنامجا إيجابيا قويا وعد بالإصلاح الزراعي وحقوق العمال، وما إلى ذلك. أما العصبة الإسلامية فركنت إلى خطاب الخوف؛ فأخبرت الناخبين أن المسلمين إذا لم يحصلوا على وطن منفصل، فسيسحقهم الهندوس الذين يفوقونهم عددا في الهند الموحدة. وقد سعت العصبة فعليا لإقامة استفتاء على مسألة باكستان. وعلى حد قول جناح في إحدى خطب حملته الانتخابية: «الانتخابات هي بداية النهاية؛ فإذا قرر المسلمون دعم باكستان في الانتخابات المقبلة، فسنكون قد ربحنا نصف المعركة. أما إذا فشلنا في المرحلة الأولى من الحرب، فلن تقوم لنا قائمة.»
نقل كوادر العصبة رسالة زعيمهم بحماس؛ ففي بيهار طلبت العصبة الإسلامية المحلية من الناخبين أن «يقرروا ما إذا كان الأحرى أن تكون الأصوات قاعدة تستخدم في الإعداد لإنشاء حصن «حكم راما» (راما هو إله هندوسي)، أم في إقامة بناء يمنح الاستقلال للإسلام والمسلمين». وقد عرض أحد الملصقات التي استخدمتها العصبة للدعاية الانتخابية بضع ثنائيات متناقضة ذات مغزى: الدين والدنيا، والضمير والإقطاع، والحق والمنصب، وفي كل حالة كان البند الأول يرمز إلى باكستان، والثاني إلى الهند.
كذلك فقد حثت العصبة الناخبين في دعايتها الانتخابية على تجاوز التقسيم إلى طوائف وعشائر؛ فتضمن أحد الملصقات دعوة: «اجتمعوا بالإسلام، اتحدوا»، وطلب من المسلمين أن يدلوا بأصواتهم كفريق واحد. وقد لعب الطلاب المتطوعون دورا حيويا؛ إذ طافوا بالمناطق الريفية من دار لأخرى لحشد الأصوات.
وقد جاءت نتائج الانتخابات دليلا دامغا على نجاح الحملة الانتخابية للعصبة. فكما يبدو في جدول
2-1 ، في جميع أنحاء الهند - من مقاطعة لأخرى - كان أداء المؤتمر الوطني ممتازا في الفئة العامة، ولكن العصبة اكتسحت المقاعد المخصصة للمسلمين، مقاتلة من أجل قضية واحدة هي إنشاء دولة قائمة بذاتها للمسلمين. في الدوائر العامة ، ربح حزب المؤتمر 80,9٪ من الأصوات، بينما حصدت العصبة 74,7٪ من الأصوات.
بعد ظهور النتائج، ذكرت «دون» صحيفة حزب العصبة الإسلامية أن:
الأشخاص الذين انتخبوا في المجالس التشريعية هذه المرة كلفهم الناخبون بمهمة ... الفوز بباكستان؛ فتلك المهمة وحدها ستكون هي «المهمة ذات الأولوية» داخل مجالس المقاطعات والمجالس المركزية وخارجها. قد ولى وقت اتخاذ القرار، وحان وقت العمل.
نشرت تلك الكلمات يوم 7 أبريل من عام 1946، وبعد ثلاثة أيام عقد جناح اجتماعا في دلهي للمشرعين الأربعمائة الذين انتخبوا على قوائم العصبة الإسلامية؛ فكرر ذلك الاجتماع الدعوة إلى إقامة دولة باكستان المستقلة، إلا أن جناح حضر مؤتمرا في أوائل شهر مايو بسيملا؛ حيث سعت البعثة الوزارية البريطانية إلى إيجاد حل قائم على الوحدة. وخلال الشهرين التاليين جرى تداول مشروعات قوانين متعددة تسمح بإقامة دولة واحدة مع منح المقاطعات خيار الانفصال إن شاءت، ولكن المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية عجزا عن الاتفاق على شروط انضمام المقاطعات لذلك الاتحاد المقترح أو خروجها منه. وتمثلت إحدى النقاط الإشكالية الأخرى في ادعاء جناح أن المؤتمر الوطني لا يمكنه ترشيح مسلم ليكون أحد ممثليه في المحادثات.
9
جدول 2-1: نتائج انتخابات مجالس المقاطعات عام 1946 (المصدر: شو كواجيما، «المسلمون والقومية والتقسيم: انتخابات المقاطعات في الهند عام 1946» (نيودلهي: مانوهار، 1998)).
المقاعد المخصصة للمقاطعة
إجمالي المقاعد المخصصة للمسلمين
المقاعد التي ربحها حزب المؤتمر
المقاعد التي ربحتها العصبة الإسلامية
مدراس
215
29
165
29
بومباي
175
30
125
30
البنغال
250
119
86
114
أوتر براديش
228
66
153
54
البنجاب
175
86
51
75
بيهار
152
40
98
34
المقاطعات المركزية وبيرار
112
14
92
13
آسام
108
34
58
31
المقاطعة الشمالية الغربية الحدودية
50
36
30
17
أوريسا
60
4
47
4
السند
60
34
22
28
الإجمالي
1585
492
927
429
اجتهد جناح في المساومة مدركا أن جموع المسلمين في صفه، وبحلول نهاية شهر يونيو من عام 1946 صار من الواضح أنه لا يمكن الوصول إلى تسوية؛ فعادت البعثة الوزارية البريطانية إلى لندن، ثم التقى زعماء العصبة الإسلامية يوم 29 يوليو، وأكدوا أن «الوقت قد حان الآن لكي تلجأ الكتلة المسلمة إلى العمل المباشر حتى تقيم دولة باكستان، وتكفل حقوقها العادلة، وتصون شرفها، وتتخلص من عبوديتها الحالية تحت الحكم البريطاني، والمستقبل المتوقع في ظل سيطرة الطوائف الهندوسية».
وبعد أسبوعين كان يوم العمل المباشر، وبداية النهاية بالنسبة إلى حلم الهند المتحدة.
2
لم يكن غاندي وحده من قرر اعتبار يوم استقلال الهند - 15 أغسطس 1947 - يوما للحداد عوضا عن الاحتفال؛ فعلى الناحية المقابلة من الحدود - في باكستان؛ حيث جاء الاستقلال مبكرا يوما - كتب الشاعر فيض أحمد فيض الأبيات التالية:
هذا الصباح المجذوم، شوهته أنياب ليلة الفجر
ما ذاك الصباح الذي طال انتظاره
ما ذاك الفجر الصافي الذي خرج رفاقنا في إثره
ظانين أنه في فضاء السماء الرحب
في مكان ما ستجد النجوم مستقرها الأخير لا محالة
في مكان ما سيغسل ببطء المد حدود الليل
في مكان ما سيجد زورق الأسى مرساه.
10
لم يكن مثار الحسرة هنا هو التقسيم بقدر ما كانت تكلفته الدامية؛ فبحلول نهاية عام 1945 على الأقل - وربما قبل ذلك - بدا قيام باكستان بنحو أو بآخر حتميا، ولم يعد من الممكن وقف هذا آنذاك بسخاء حزب المؤتمر أو تواضع مفاجئ من جانب جناح، ولكن مرثاة الشاعر تحتم علينا أن نطرح سؤالا آخر: إذا كان التقسيم حتميا، فهل كان من الضروري أن يتسبب في إزهاق تلك الأرواح كلها؟
حتى نجيب عن هذا السؤال، لا بد أن نجري استعراضا موجزا لأحداث الشهور الستة الأخيرة في الحكم البريطاني. في 20 فبراير 1947، أعلنت حكومة حزب العمل في لندن أن بريطانيا سترحل عن الهند بحلول شهر يونيو من عام 1948، وأن شخصا آخر سيشغل منصب نائب الملك في الهند عوضا عن اللورد ويفل. وفي 22 مارس، تولى نائب الملك الجديد اللورد ماونتباتن مهام منصبه، وفي غضون الأسابيع القليلة التالية ناقش شروط الانسحاب البريطاني مع الأطراف المعنية، فوجد أن معظم زعماء حزب المؤتمر الوطني في سبيلهم إلى الاقتناع بحتمية التقسيم؛ إذ رأوا أن «منح الجزء الأكبر من الهند الاستقلال أفضل من تأجيل منح الهند كاملة استقلالها».
11
وقد قام غاندي بمحاولة أخيرة لإنقاذ الوحدة؛ بأن طلب من جناح أن يرأس أول حكومة في الهند الحرة، ولكن المؤتمر الوطني لم يؤيد ذلك العرض، ولم يقبله جناح على أي حال.
وفي 2 مايو، أرسل اللورد إيزماي؛ رئيس أركان نائب الملك ، إلى لندن بخطة للتقسيم، فحصل على موافقة مجلس الوزراء، ولكن كان لا بد من إعادة صياغة الخطة عدة مرات لدى عودته؛ بغية إرضاء كل من حزب المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية. (في مرحلة ما طلب جناح - الذي ظل وقحا حتى النهاية - شق ممر طوله 800 ميل عبر الهند؛ بغية ربط الجناح الشرقي والجناح الغربي لباكستان.) ورفع ماونتباتن الخطة بعد مراجعتها إلى مجلس الوزراء البريطاني.
انقضى الجزء الأكبر من الشهر في تلك الأحداث. وفي 3 يونيو، أعلن ماونتباتن - بعد عودته من لندن - خطة التقسيم على إذاعة «أول إنديا راديو». تبعه على الميكروفون نهرو وجناح وبالديف سينج (متحدثا بالنيابة عن السيخ). في الصباح التالي، عقد نائب الملك مؤتمرا صحفيا في مبنى المجلس التشريعي، وهناك اقترح - للمرة الأولى - ألا يغادر البريطانيون في يونيو 1948، وإنما في منتصف أغسطس 1947؛ أي في غضون أقل من عشرة أسابيع.
كان ماونتباتن نفسه من اتخذ قرار تقليص الإطار الزمني لانسحاب بريطانيا بتلك الصورة الجذرية. وقد برر فيليب زيجلر - مدون سيرته - قراره كالتالي:
بمجرد أن أقر مبدأ التقسيم صار من المحتم أن تشتعل نيران الطائفية كالنار في الهشيم. وكلما طالت الفترة السابقة على نقل السلطة تفاقمت التوترات وتنامى خطر انتشار العنف؛ فاليوم كانت البنجاب، وغدا البنغال، أو حيدر أباد، أو أي من المجتمعات التي لا حصر لها في شبه القارة الهندية التي عاش الهندوس والمسلمون فيها جنبا إلى جنب، فالمائتا ألف كان من الممكن أن يصيروا مليونين أو حتى عشرين مليونا.
12
والواقع أنه أثناء كتابة زيجلر تلك السطور (في عام 1985)، كان تقدير الوفيات الناجمة عن العنف المرتبط بالتقسيم قد بلغ مليون قتيل، واقترح بعض الباحثين فيما بعد أن الرقم أقرب إلى مليونين. كم كان ذلك الرقم سيصير لو رحل البريطانيون في يونيو 1948 كما كان مخططا؟ في هجوم لاذع على سمعة ماونتباتن، اتهمه أندرو روبرتس باللين والتردد - «وقتما اضطر إلى إبداء بعض الخشونة، اتخذ ماونتباتن أضعف السبل الممكنة» - وبأنه يتحرج من التصدي بحسم للعنف الطائفي، ولا سيما أنه خفض عدد أفراد قوة الحدود البنجابية دون تزويدها بغطاء جوي. على العكس من زيجلر، روبرتس مقتنع بأن «الانسحاب المفرط التسرع» أدى إلى «زيادة الوفيات لا تقليلها».
13
وقد شعر بعض المراقبين المعاصرين للأحداث أيضا بأن قرار تفكيك إمبراطورية شيدت على مدى قرنين من الزمان خلال شهرين بالضبط لم يكن قرارا صائبا؛ ففي صيف عام 1947 كان الرجل الذي شغل أخطر المناصب هو السير إيفان جنكينز؛ حاكم مقاطعة البنجاب التي كانت لا تزال متحدة؛ ففي أوائل شهر مايو كتب جنكينز إلى ماونتباتن مستحثا إياه على «إعادة النظر في الشروط التي ينطوي عليها أي إعلان مبكر يجسد حلا للمشكلة السياسية الهندية؛ فسوف نواجه في البنجاب رفضا باتا من طوائفها للتعاون بأي شكل من الأشكال؛ إذ من الواضح أنه ما من فائدة ترجى من إعلان تقسيم للبنجاب لن تقبل به أي طائفة».
14
ولكن القرار اتخذ بصرف النظر عن تلك الاعتراضات، وعهد إلى الحاكم بمهمة حفظ القانون والنظام أثناء تقسيم البنجاب. وكتب إلى ماونتباتن مجددا يوم 30 يوليو، شارحا أن احتمال نيل الاستقلال مقترنا بالتقسيم أثار غضب الناس عوضا عن إثارة حماسهم؛ فقد كان المسلمون يأملون في الحصول على البنجاب كاملة، بينما تخوف السيخ والهندوس من خسارة لاهور. وعلق الحاكم ساخرا: «إن تقسيم بلد يحتوي على 30 مليون شخص حكم باعتباره وحدة واحدة طوال 98 عاما خلال ستة أسابيع، أمر بالغ الصعوبة، حتى إن كانت الأطراف المعنية كلها متآلفة ومتلهفة للمضي قدما.»
15
والحقيقة أن جنكينز طالب مرات عدة بإرسال مزيد من القوات، وطالب أيضا بإرسال «سرب طائرات استطلاع تكتيكية». وقد كان أحد أسباب عدم توفر قوات كافية للتعامل مع مثيري الشغب هو أن البريطانيين - الحكام - كانوا يخشون التعرض للهجوم بمجرد أن يعلن قرار الجلاء. وقد ساد ذلك الشعور أوساط الأوروبيين المقيمين في الهند جميعا، من ضباط وقساوسة ومزارعين وتجار. وفي صيف عام 1946، كتب ضابط إنجليزي شاب لأسرته أن «واقع الأمر أن البلد كله سيكون ضدنا (لمدة تكفي على أي حال لمحونا نحن أعضاء الجالية الأوروبية المتناثرين) قبل أن يتحول الأمر - كما من المحتم أن يصير - إلى قتال طائفي بين الهندوس والمسلمين».
16
وقد كان إيلاء حماية الأرواح البريطانية الأولوية القصوى سياسة من سياسات الدولة إلى حد بعيد؛ ففي فبراير 1947 قال حاكم البنغال: «أول إجراء سأتخذه في حالة إعلان تاريخ لانسحاب السلطة البريطانية ... هو «استنفار» القوات وإعداد العدة لتجميع الأوروبيين المقيمين في مناطق نائية دون سابق إنذار بمجرد أن تبدأ ردود الأفعال العدائية في الظهور.»
17
والحقيقة أنه خلال صيف عام 1947 كان الرجال والنساء البيض أكثر الناس أمانا في الهند؛ فلم يكن أحد راغبا في قتلهم.
18
ولكن شعورهم بعدم الأمان استتبع وضع وحدات عسكرية متعددة على مقربة من المستوطنات الأوروبية عوضا عن تحريرها لمهمة السيطرة على الشغب في سائر الأنحاء.
وقد كانت غريزة حب البقاء بدورها وراء قرار تأجيل تعيين حدود البنجاب إلى ما بعد التاريخ المحدد للاستقلال؛ فيوم 22 يوليو - عقب زيارة إلى لاهور - كتب اللورد ماونتباتن إلى السير سيريل رادكليف طالبا منه تعجيل الأمور؛ لأن «كل يوم زائد» من شأنه أن يقلل مخاطر الاضطراب. وكان من شأن الإعلان عن قرار تقسيم الحدود «قبل» الاستقلال أن يتيح تحريك القوات قبل نقل السلطة. وكان حاكم البنجاب حريصا أشد الحرص أيضا على إعلان قرار التقسيم فور الانتهاء منه. والواقع أن رادكليف كان جاهزا بقرار التقسيم يوم 9 أغسطس ذاته، إلا أن ماونتباتن غير رأيه آنذاك واختار ألا يعلن القرار إلا بعد يوم 15 أغسطس. كان أقل ما يوصف به تبريره لتأخير الإعلان هو أنه تبرير غريب؛ إذ قال: «لا شك أنه كلما صدر الإعلان أبكر، زادت فترة تحمل بريطانيا مسئولية الاضطرابات التي سيسفر عنها حتما.» ومن نفس المنطلق قال: «كلما أخرنا الإعلان قل تعرض البريطانيين إلى الكراهية المحتمة.»
19
كقاعدة، يجب على المرء أن يكتب عن التاريخ باعتبار ما كان فقط، وليس ما كان يمكن أن يكون؛ إذ هل كان من شأن إتاحة فترة زمنية أطول - صدور إعلان في أبريل 1947 مفاده أن بريطانيا سوف ترحل خلال سنة - أن تحقق عملية تقسيم أقل إيلاما؟ وهل كان من شأن زيادة نشاط نشر القوات وتبكير إعلان قرار رادكليف أن يؤدي إلى تقليل العنف في البنجاب؟ ربما، أو ربما ما كان ذلك سيحدث. وقد اتضح أن أنسب مرثاة في وصف الأيام الأخيرة للحكم البريطاني صدرت عن أحد المسئولين بالبنجاب، الذي قال لموظف شاب من أكسفورد يعمل في الخدمة المدنية: «أنتم البريطانيون تؤمنون بالإنصاف؛ فقد تركتم الهند في حالة الفوضى ذاتها التي وجدتموها عليها.»
20
وعلى الرغم من أن النقاش لم يزل محتدما بشأن دواعي التقسيم، فلم يول القدر ذاته من الاهتمام لتبعاته؛ فقد كانت تلك التبعات لا يستهان بها بأي حال، كما سيتضح في هذا الكتاب؛ فقد كان للتقسيم عواقب وخيمة على الديموغرافيا والاقتصاد والثقافة والدين والقانون والعلاقات الدولية والسياسات الحزبية.
الفصل الثالث
تفاحات في السلة
الولايات الهندية تحكمها معاهدات ... الولايات الهندية - إذا لم تنضم إلى هذا الاتحاد - ستظل على وضعها الحالي تماما.
السير ستافورد كريبس؛ سياسي بريطاني، عام 1942
سنضطر إلى مصارحة الأمراء عاجلا أم آجلا؛ فنحن حاليا مخادعون بتظاهرنا بأنه يمكننا الاحتفاظ بتلك الولايات الصغيرة كلها، مع علمنا التام بأننا لن نتمكن من ذلك عمليا.
اللورد ويفل؛ نائب الملك في الهند، عام 1943
1
قليلون هم الرجال الذين انشغلوا بكيفية تصوير التاريخ لهم مثل انشغال اللورد ماونتباتن؛ آخر من تولى منصب نائب الملك والحاكم العام في الهند؛ فحسبما علق صحفي مخضرم ذات مرة، كان ماونتباتن يتصرف كأنه «مسئول العلاقات العامة لشخصه».
1
وكان أحد مساعدي ماونتباتن أكثر صراحة؛ إذ قال على رئيسه إنه «أكثر الرجال غرورا على وجه البسيطة». فلطالما أصدر نائب الملك التعليمات للمصورين أن يلتقطوا صوره من ارتفاع ست بوصات فوق مستوى عينيه؛ لأن صديقه الممثل كاري جرانت كان قد أخبره بأن تلك الطريقة لا تظهر التجاعيد، وعندما زار المارشال مونتجومري الهند وتزاحم الصحفيون لالتقاط صور الاثنين معا، انزعج ماونتباتن من تقلد مونتجومري أوسمة أكثر منه.
2
وبصفة عامة، كانت شخصية ماونتباتن واضحة التناقض مع سلفه؛ فقد لاحظ أحد موظفي الخدمة المدنية الذين عملوا تحت إمرة اللورد ويفل، أن «الغرور والخيلاء ومثل تلك النقائص لم تمسه أبدا»؛ أي، إن ويفل لم يكن يأبه أو يبالي بكيفية حكم التاريخ عليه.
3
بيد أن أغلب الفضل للشروع في إنهاء الحكم البريطاني في الهند يعود إلى ويفل؛ ففي حين أنه كان متشككا إزاء النخبة السياسية، كان شديد التعاطف مع تطلعات الهنود.
4
إذ كان هو من افتتح المباحثات والمفاوضات عند انتهاء الحرب، وهو من ضغط من أجل وضع جدول زمني واضح للانسحاب، إلا أن خلفه المتباهي تركت له مهمة وضع اللمسات الأخيرة المثيرة التي أعلنت قيام الدولتين الجديدتين.
بعد رحيل ماونتباتن عن الهند عمل جاهدا لتقديم فترة حكمه كنائب الملك في الهند على أفضل نحو ممكن، فأمر بتأليف مجموعة من الكتب الرامية إلى تعظيم نجاحاته والتعتيم على إخفاقاته، أو أنه استخدم نفوذه للحث على تأليفها. تلك الكتب تخلف انطباعا بأن ماونتباتن كان حكما عاقلا نجح في التوسط بين تلميذين متخاصمين، سواء كانا الهند وباكستان، أو المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية، أو غاندي ومحمد علي جناح، أو جواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل.
5
وتؤخذ ادعاءات ماونتباتن مسلما بها، إلى حد السخافة في بعض الأحيان، كما في الإشارة إلى أن نهرو ما كان ليضم باتيل إلى مجلس وزرائه ما لم يوص ماونتباتن بذلك.
6
والغريب أن الإسهام الحقيقي الذي قدمه ماونتباتن إلى الهند والهنود لم يلق اهتماما كبيرا من مدوني سيرته المبالغين في مدحه. كان ذاك هو الدور الذي اضطلع به في حل مشكلة جغرافية سياسية لم تواجهها دولة حديثة الاستقلال مثلها من قبل (ومن المستبعد أن تواجهها دولة في المستقبل)؛ فعندما رحلت بريطانيا عن شبه القارة الهندية تركت وراءها أكثر من 500 إقليم منفصل؛ اثنان منها كانا دولتي الهند وباكستان الحديثتي النشأة، والباقي كان مجموعة متنوعة من القبائل والولايات التي كونت ما كان يعرف باسم «ولايات الهند الأميرية». وإن قصة تفتيت تلك الوحدات لقصة شيقة إلى أقصى حد؛ إذ رواها في بي مينون من وجهة نظر متحيزة منذ خمسين عاما في كتابه «قصة اندماج الولايات الهندية»، ولكنها لم ترو في أي موضع آخر، ولا أي وقت آخر منذ ذلك الحين.
7
2
كانت الولايات الأميرية من الكثرة بحيث اختلف على عددها؛ فأحد المؤرخين قدر أنها كانت 521 ولاية، وآخر بأنها كانت 565 ولاية. ووفقا لأي تقدير، فقد تجاوز عددها 500 ولاية. وتفاوتت أحجامها ومكانة كل منها تفاوتا بينا؛ فمن ناحية كان ثمة ولايات كبيرة مثل كشمير وحيدر أباد، كل منها يعادل حجمها حجم دولة أوروبية كبيرة، ومن ناحية أخرى، كان ثمة إقطاعيات صغيرة جدا تشتمل على اثنتي عشرة قرية أو أقل.
نتجت الولايات الأميرية الكبرى عن طول مدة التاريخ الهندي بقدر ما نتجت عن السياسية البريطانية؛ فكثير من الولايات اشتهرت بصدها موجات الغزاة المسلمين الذين اجتاحوا شمال الهند فيما بين القرن الحادي عشر والقرن السادس عشر، بينما يعود الفضل في تاريخ ولايات أخرى إلى الاتصال بأولئك الغزاة؛ على سبيل المثال: نشأت أسرة آصف جاه؛ حاكمة حيدر أباد، في أوائل القرن الثامن عشر، باعتبارها ولاية تابعة لإمبراطورية المغول العظيمة، إلا أنه كان ثمة ولايات أخرى - مثل كوتش بيهار في الشرق، وجارهوال في الشمال بمنطقة الهيمالايا - لم يمسها النفوذ الإسلامي تقريبا.
وأيا كان التاريخ الماضي لتلك الولايات، فالفضل في شكلها وسلطاتها حاليا يعود إلى البريطانيين؛ فشركة الهند الشرقية - التي بدأت مؤسسة تجارية - مضت تدريجيا تجاه شغل منصب السيادة على الهند وولاياتها. ساعدها على ذلك تراجع دور المغول بعد وفاة أورنجزيب عام 1707؛ فقد ارتأت الشركة في الحكام الهنود حلفاء استراتيجيين ذوي نفع في إيقاف طموح عدوهما المشترك - الفرنسيين - عند حده. فرضت الشركة معاهدات على تلك الولايات تقر بأن الشركة هي «السلطة العليا»؛ ومن ثم بينما كانت المناطق التي حكمها «النوابون» (لقب كان يمنح لحكام المقاطعة أو الأمراء في زمن المغول) أو «المهراجات» ملكا لهم، احتفظ البريطانيون لأنفسهم بحق تعيين الوزراء والتحكم في من يخلفونهم، والحصول على مخصص مالي كبير نظير تقديم الدعم الإداري والعسكري. وفي كثير من الحالات، نقلت المعاهدات أيضا مناطق مهمة من الولايات الهندية إلى البريطانيين؛ فليس من قبيل المصادفة أنه - عدا ولايات كاثياوار وقبيلتين في الجنوب - لم تحظ أي ولاية هندية بساحل. وقد فاقمت التبعية الاقتصادية من حدة التبعية السياسية؛ إذ اعتمدت الولايات على الهند البريطانية للحصول على المواد الخام، والسلع الصناعية، وفرص العمل.
8
وقد كان للولايات الأميرية الكبرى سككها الحديدية وعملاتها وطوابعها الخاصة، وهي شكليات سمح لها بها التاج البريطاني. ولكن قليلا منها فقط كان به صناعات حديثة، وأقل من ذلك توافرت لديه صور التعليم الحديثة؛ فقد كتب مراقب بريطاني في أوائل القرن العشرين أنه، بصفة عامة، كانت الولايات «بؤرا للرجعية، وقلة الكفاءة، والسلطة الاستبدادية الجامحة التي يمارسها أحيانا أفراد متوحشون مختلون عقليا».
9
وكان ذلك إلى حد ما رأي حزب الحركة القومية الرئيسي أيضا؛ حزب المؤتمر. ومنذ عشرينيات القرن العشرين راح الحزب يضغط على حكام الولايات حتى يضاهوا البريطانيين، على الأقل، في السماح بنذر يسير من التمثيل السياسي. وقد شملت مظلة الحزب الاتحاد الشعبي لولايات عموم الهند، الذي تبعته الجمعيات الشعبية الفردية للولايات بدورها.
وقد كان الأمراء سيئي السمعة حتى في أوج مجدهم؛ إذ كان ينظر إليهم، بصفة عامة، على أنهم ضعيفو الشخصية، ومنغمسون في الشهوات، ومولعون بخيول السباق، وزوجات الآخرين، وقضاء الإجازات في أوروبا. ورأى كل من المؤتمر الوطني والبريطانيين أنهم لا يبالون بالمسائل الإدارية المملة. كان ذلك صحيحا في معظمه، ولكن كان ثمة استثناءات؛ فقد وهب مهراجا ميسور ومهراجا بارودا إمارتيهما جامعات رفيعة المستوى، وتصديا للتحيز الطبقي، وشجعا إنشاء المؤسسات التجارية الحديثة، وثمة مهراجات آخرون حافظوا على التقاليد العظيمة للموسيقى الهندية الكلاسيكية.
وسواء كانوا صالحين أم فاسدين، مسرفين أم مراعين، استبداديين أم ديمقراطيين نوعا ما، فبحلول أربعينيات القرن العشرين وجد الأمراء جميعا أنفسهم أمام مشكلة مشتركة؛ ألا وهي مستقبلهم في الهند الحرة؛ ففي الجزء الأول من عام 1946 أجرت الهند البريطانية انتخابات متوالية حاسمة، ولكنها لم تمس الولايات الأميرية. ونتيجة لذلك، كان ثمة «عداء متنام إزاء حكومات الولايات الأميرية».
10
إلا أن وضعها الدستوري ظل يكتنفه الغموض؛ فقد انصب اهتمام البعثة الوزارية لعام 1946 على مسألة الهندوس والمسلمين، أو مسألة الهند المتحدة مقابل باكستان، وبالكاد ذكرت الولايات من الأساس. وبالمثل، تجنب بيان 20 فبراير 1947 - الذي أعلن رسميا أن الحكم البريطاني في سبيله للانتهاء - التطرق لتلك المسألة. ويوم 3 يونيو، أعلن البريطانيون تاريخ الجلاء النهائي، وكذلك إقامة دومنيونين، ولكن ذلك البيان أيضا لم يوضح وضع الولايات، وحينها بعض الحكام «استغرقوا في أحلام جامحة يتمتعون فيها بسلطة مستقلة داخل دولة هندية متعددة الأجزاء».
11
وحينئذ دق ناقوس الخطر في الوقت المناسب تماما.
3
خلال عامي 1946 و1947، رأس جواهر لال نهرو الاتحاد الشعبي لولايات عموم الهند، وأشار مدون سيرته إلى أن نهرو «كان يملك آراء قوية بخصوص موضوع الولايات ذاك؛ فقد كان يبغض استبداد الإقطاعيين والكبت الكامل للمشاعر الشعبية. واحتمال أن ينصب أولئك الأمراء الصوريون ... أنفسهم ملوكا مستقلين أورثه حنقا بالغا».
12
وقد شجع مسئولون من الإدارة السياسية ذلك الاحتمال بتصويرهم للأمراء أنه بمجرد أن يرحل البريطانيون يمكنهم - إن رغبوا - أن يطالبوا بالاستقلال.
من جانبهم، لم يرق نهرو للأمراء، بل إنهم كانوا يخشونه. ولحسن الحظ، كان المؤتمر الوطني قد أحال مشكلة الولايات إلى الإداري البراجماتي فالابهاي باتيل، وخلال ربيع عام 1947 أقام باتيل سلسلة من حفلات الغداء حث فيها ضيوفه الأمراء على مساعدة المؤتمر الوطني في صياغة دستور جديد للهند، وذلك عن طريق إرسال مندوبين إلى الجمعية التأسيسية، التي بدأت مداولاتها في دلهي في ديسمبر من عام 1946. وفي الوقت ذاته، كتب باتيل إلى الدواوين (رؤساء الوزراء) الأكثر نفوذا من الأمراء، مستحثا إياهم على مطالبة رؤسائهم بالتوافق مع الحزب الذي سوف يحكم الهند.
13
كان أحد أوائل الأمراء الذين انضموا إلى صف باتيل هو مهراجا بيكانير. كان ديوانه هو كيه إم بانيكار؛ وهو مؤرخ مرموق أمكنه أن يرى - أوضح من غيره - أن «حقبة فاسكو دي جاما في تاريخ آسيا»
14
شارفت على الانتهاء. لم يكن من سبيل لمقاومة القوى القومية، وإن لم يتوصل إلى حل وسط معها فسوف تكتسحه. ومن ثم فقد ناشد مهراجا بيكانير في الأسبوع الأول من أبريل 1947 أقرانه الأمراء علنا أن ينضموا إلى الجمعية التأسيسية ، وقال إن دخولهم الجمعية من شأنه أن «يوضح للجميع أن الأمراء الهنود لا يعملون لصالح ولاياتهم وبلدهم الأم فحسب ، وإنما أنهم في المقام الأول أبناء الهند الوطنيون الأبرار».
15
والواقع أن أول ولاية تنضم إلى ركب الجمعية التأسيسية في فبراير كانت ولاية بارودا. وبعد النداء الذي أطلقته بيكانير، انضمت 12 ولاية أخرى، منها ولايات كثيرة في راجستان؛ فبانيكار وبيكانير «قادتا أمراء راجبوت في بادرة جديدة من بوادر إجلال دلهي التي صار يحكمها - عوضا عن المغول أو البريطانيين - رجل هندي قدير. والأرجح - من وجهة نظرهم - أنهم كانوا مصيبين في عقدهم اتفاقا مع المؤتمر الوطني».
16
كانت ولايات عدة في راجستان - منها بيكانير - ستتشارك حدودها مع باكستان، واستتبع ذلك - إضافة إلى ذكريات المعارك القديمة التي خاضتها مع الملوك المسلمين - استعدادها للتفاهم مع المؤتمر الوطني في مرحلة مبكرة. إلا أن الولايات الأخرى البعيدة عن الحدود لم تكن متأكدة من مبلغ سلطة دلهي بعد جلاء بريطانيا. أليس من الممكن أن يرتد الوضع إلى ما كان عليه إبان القرن الثامن عشر، عندما كانت شبه الجزيرة مقسمة إلى عشرات الولايات المتمتعة بالسيادة إلى حد ما؟
في 27 يونيو، أنشأت حكومة الهند وزارة جديدة للولايات، حلت محل الدائرة السياسية القديمة التي تسبب عهدها بمناصرته للأمراء ومعاداته للمؤتمر الوطني في ضرر بالغ.
17
وتقرر أن يصير باتيل الوزير المسئول عنها، الذي اختار في بي مينون - رجل مالايالي قصير القامة، يقظ، حاد الذكاء من مالابار - سكرتيرا له. وعلى غير المعتاد بالنسبة إلى الرجال الذين شغلوا ذلك المنصب، فقد كان مينون موظفا عاديا ترقى في المناصب. وعوضا عن أن يكون عضوا في دائرة الخدمة المدنية الهندية الراقية - مثلما كان غيره من سكرتيري الحكومة - كان قد انضم إلى حكومة الهند موظفا صغيرا، وارتقى السلم الوظيفي بخطى ثابتة؛ فقد شغل منصب المفوض المعني بالإصلاح والمستشار الدستوري لنواب الملك المتعاقبين، واضطلع بدور رئيسي في صياغة قانون استقلال الهند.
وقد ناداه أقرانه في إدارة الخدمة الهندية ساخرين: «بابو (لقب شبيه بأفندي) مينون»، إشارة إلى أصله المتواضع. والواقع أنه مع انتقال الحكم من يدي بريطانيا إلى المؤتمر الوطني، لم يكن ثمة رجل أقدر منه على الإشراف على ذلك الجانب الأصعب من المرحلة الانتقالية. وقد كان أول إجراء اتخذه مينون هو إثناء الحكومة البريطانية عن مساندة مطالب الاستقلال الخيالية للولايات، وقال للمسئولين في لندن: «أي إشارة إلى استعداد حكومة جلالة الملك للاعتراف باستقلالها، ستضفي صعوبة جمة على جميع المحاولات الرامية إلى توحيد صف الولايات والدومنيونين الجديدين في كافة المسائل الحيوية موضع الاهتمام المشترك.»
18
إضافة إلى ما سبق، كان مينون في وضع مثالي للتوسط بين رئيسه القديم ماونتباتن ورئيسه الجديد فالابهاي باتيل. وقد عملوا فيما بينهم على وضع مسودة صك انضمام، تقبل الولايات بمقتضاها تسليم مقاليد الدفاع والشئون الخارجية والاتصالات إلى حكومة حزب المؤتمر. وفي 5 يوليو، أصدر باتيل بيانا ناشد فيه الأمراء أن يقبلوا طلب الاتحاد الهندي فيما يتعلق بتلك الموضوعات الثلاث وينضموا إلى الجمعية التأسيسية. وعلى حد تعبيره، فإن «البديل عن التعاون في سبيل الصالح العام» هو «الأناركية والفوضى». وخاطب باتيل وطنية الأمراء طالبا منهم العون في النهوض «بتلك الأرض المقدسة إلى المكانة التي تليق بها بين دول العالم».
19
وفي 9 يوليو، التقى كل من باتيل ونهرو نائب الملك، وسألاه «عما ينوي فعله لمساعدة الهند فيما يتعلق بأكثر المشكلات التي تواجهها إلحاحا؛ أي العلاقات مع الولايات الأميرية»، فرد ماونتباتن أنه سيولي تلك المسألة «أشد الاهتمام». وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، أتى غاندي للقاء ماونتباتن. وقد ذكر نائب الملك أن المهاتما «طلب إلي أن أبذل قصارى جهدي؛ لضمان ألا يخلف البريطانيون وراءهم تركة من البلقنة (التفتت) والاضطراب يوم 15 أغسطس بتشجيع الولايات على إعلان استقلالها».
20
وقد ألح ثلاثي المؤتمر الوطني على ماونتباتن حتى يعضد موقفهم في مواجهة الولايات، وقد أدى تلك المهمة على أكمل وجه، لا سيما في الخطاب الذي ألقاه أمام مجلس الأمراء يوم 25 يوليو، وظهر فيه بأبهى حلة وقد ازدان صدره بصفوف من الأوسمة العسكرية. وقد ذكر أحد مساعديه المجلين له أنه «ارتدى زيه العسكري كاملا، مزدانا بمجموعة من الأوسمة والنياشين المقصود بها إبهار حتى أولئك الأشخاص المتمرسين في الأبهة الأميرية».
21
بدأ ماونتباتن حديثه بإخبار الأمراء أن قانون استقلال الهند حرر «الولايات من كافة التزاماتها تجاه التاج البريطاني». وقد صارت الآن مستقلة عمليا، أو بمعنى آخر، وحيدة شريدة؛ فقد انفصمت عرى الصلات القديمة، ولكن «إذا تعذر الاستعاضة عن تلك السلطة، فلن ينشأ عن ذلك سوى الفوضى»، وهي فوضى «ستضرب الولايات أولا». ونصحهم بإقامة علاقات مع أقرب الدولتين الجديدتين إليهم. وقد أعرب عن قصده دون مواربة قائلا: «لا يمكنكم الفرار من حكومة الدومنيون التي صارت جارتكم، مثلما لا يمكنكم الفرار من الرعايا الذين تقع مسئولية رعايتهم على عاتقكم.»
كان صك الانضمام الذي طلب إلى الأمراء التوقيع عليه يتضمن التنازل عن مسئولية الدفاع، إلا أن ماونتباتن قال إن الولايات إذا استقلت فسوف «تنقطع عن أي مصادر إمداد من العتاد أو السلاح الحديث». وتتنازل الولايات أيضا بموجب الصك عن مسئولية الشئون الخارجية؛ فالأمراء «لا يمكن أن يرغبوا في تحمل نفقات إرسال سفراء أو وزراء أو قناصل إلى تلك البلدان الأجنبية كلها». وتتنازل أيضا عن الاتصالات، ولكنها «مجرد وسيلة للإبقاء على شريان الحياة في شبه القارة كلها». وقال ماونتباتن إن عرض المؤتمر الوطني تضمن ترك «نفوذ داخلي كبير» للحكام، مع تخليصهم من المسائل التي لا يمكنهم التعامل معها بمفردهم.
22
كان حديث ماونتباتن إلى مجلس الأمراء عملا ألمعيا، وهو يمثل - في رأيي - أهم أعماله كافة في الهند؛ فقد أقنع الأمراء أخيرا بأن بريطانيا لم تعد حاميتهم ولا راعية شئونهم، وأن حصولهم على الاستقلال مجرد سراب.
وقد مهد ماونتباتن لخطابه برسائل شخصية إلى أهم الأمراء، وأتبعها بمواصلة الضغط عليهم حتى يوقعوا على صك الانضمام. قال لهم إنهم إذا وقعوه قبل 15 أغسطس، فسيتسنى له الاتفاق مع المؤتمر الوطني على منحهم شروطا لائقة. أما إذا لم يستمعوا له، فقد يواجهون «وضعا متفجرا» عقب الاستقلال، عندما يصب عليهم القوميون جام غضبهم.
23
بحلول يوم 15 أغسطس، كانت جميع الولايات تقريبا قد وقعت صك الانضمام، وفي الوقت ذاته كانت بريطانيا قد رحلت بلا رجعة، وحينها نكص المؤتمر الوطني عن تعهده بأنه إذا وقع الأمراء على النقاط الثلاث المحددة، «فسوف نحترم تماما تواجدها المستقل في الأمور الأخرى».
24
إذ استعادت الجمعيات الشعبية نشاطها، وقامت حركة في ولاية ميسور للمطالبة بإقامة «حكم ديمقراطي كامل»، وعرض ثلاثة آلاف شخص أنفسهم للحبس.
25
وفي بعض الولايات في كاثياوار وأوريسا، استولى المحتجون على مقرات المصالح الحكومية، وعلى المحاكم والسجون.
26
أحسن فالابهاي باتيل وحزب المؤتمر استغلال تهديد الاحتجاجات الشعبية حتى يدفعوا الأمراء إلى الإذعان. كانوا قد انضموا بالفعل، والآن طلب منهم أن «يندمجوا»؛ أي أن يفككوا الكيانات المستقلة لولاياتهم ويندمجوا في اتحاد الهند. وفي المقابل، يسمح لهم بالاحتفاظ بألقابهم، ويمنحون راتبا سنويا دائما. أما إذا لم يمتثلوا، فسيواجهون خطر قلاقل خارجة عن نطاق السيطرة (وقد يستحيل السيطرة عليه) من الرعايا الذين تحررت مشاعرهم المكبوتة بحلول الاستقلال.
27
وطوال الجزء الأخير من عام 1947، طاف في بي مينون أرجاء الهند مستدرجا الأمراء واحدا تلو الآخر. وكما كتب مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» في نيودلهي، فإن التقدم الذي أحرزه:
يمكن قياسه من خلال سلسلة من عناوين الصحف المتواضعة التي تبعته كالتالي:
أولا: عنوان صغير فيه «السيد في بي مينون يزور ولاية شوتا هزري»، ثم في منشور المحكمة اليومي للحاكم العام، يأتي ذكر موجز كالآتي: «سعادة مهراجا شوتا هزري وصل»، وسرعان ما يخرج العنوان الرئيسي «اندماج شوتا هزري».
28
وكما يتضح من ذلك السرد، فقد كان باتيل ومينون يقومان بالأعمال التحضيرية، ولكن اللمسات الأخيرة كان يضعها ماونتباتن في صورة مقابلة أخيرة مثلت في بعض الأحيان تنازلا ضروريا لإرضاء غرور الأمراء. وقد زار الحاكم العام أيضا أهم المشيخات؛ حيث أشاد «بالقرار الحكيم الخليق برجال الدولة» المتعلق بالاتحاد مع الهند.
29
تولى ماونتباتن الجانب الرمزي من عملية اندماج الأمراء في الهند. أما مينون فتولى المضمون. وفي كتابه، وصف مينون ببعض التفصيل المفاوضات المضنية مع الحكام. انطوى الحديث على قدر كبير من الإطراء؛ إذ ادعى أحد الحكام أنه سليل الإله راما، وآخر أنه سليل الإله كريشنا، بينما قال ثالث إنه من سلالة خالدة، باركها حكماء السيخ.
وقد عرضت على كل حاكم «مخصصات من خزانة الدولة» نظير أرضه؛ حيث كان يحدد حجم المخصصات بمقدار العائد الذي تحققه الولاية، فالولايات الأكبر ذات الموقع الأكثر استراتيجية كان لا بد أن تحصل على صفقة أفضل. إلا أنه كان ثمة عوامل أخرى ذات صلة؛ مثل: عراقة الأسرة الحاكمة، والهالة الدينية التي قد تحيط بها، وأعرافها. وإلى جانب المخصصات السنوية، سمح للحكام بالاحتفاظ بقصورهم وغيرها من الممتلكات الخاصة، والأهم من ذلك أنه سمح لهم الاحتفاظ بألقابهم، فكان من شأن مهراجا شوتا هزري أن يظل مهراجا شوتا هزري، ويورث اللقب لابنه أيضا.
30
وبغية طمأنة الأمراء، سعى باتيل إلى إضافة ضمانة دستورية متعلقة بمخصصاتهم من الخزانة، إلا أن المدفوع - مثلما أشار مينون - لم يكن شيئا يذكر مقارنة بالمكاسب المتحققة عنه. إضافة إلى ضمان الوحدة السياسية للهند، كان اندماج الولايات - من الناحية الاقتصادية - غنيمة محققة. ووفقا لحسابات مينون، في حين أن الحكومة ستدفع نحو 150 مليون روبية إلى الأمراء، ففي غضون عشرة أعوام من شأن العوائد المتحققة عن ولايات أولئك الأمراء أن تبلغ عشرة أمثال ذلك المبلغ على الأقل.
31
وتبعت مهمة الحصول على أراضي الولايات مهمة أخرى لا تقل عنها صعوبة تتمثل في الاندماج الإداري؛ ففي معظم الولايات، كانت نظم ريع الأراضي والنظم القضائية بالية، ولم يكن ثمة تمثيل شعبي من أي نوع، فعمدت وزارة الولايات إلى نقل موظفين مدربين في الهند البريطانية لتلك الولايات حتى يضعوا نظما جديدة، وأشرفت كذلك على تعيين وزارات مؤقتة قبل إجراء انتخابات شاملة.
وقد نفذ باتيل ومينون أكثر من حيلة من حيل البريطانيين؛ فنفذا حيلة «فرق تسد»، باستمالتهما بعض الأمراء إلى صفهما مبكرا، مثيرين البلبلة لدى الآخرين. كما أنهما قد لعبا على أوتار الغرور الطفولي للمهراجات، سامحين لهما بالاحتفاظ بألقابهم، ومانحين إياهم ألقابا جديدة في بعض الأحيان (ولهذا عين عدة مهراجات حكاما للمقاطعات). ولكنهما - على غرار البريطانيين في القرن الثامن عشر - أبقيا المصلحة الذاتية نصب عينيهما على الدوام، وهي: المزايا المادية، مثلما أخبر باتيل موظفي وزارة الولايات: «إننا لا نريد نساءهم وحليهم، وإنما نريد أرضهم.»
32
في غضون عامين لا أكثر، كان ما يربو على 500 مشيخة مستقلة، بعضها عتيق، قد تحلل إلى أربع عشرة وحدة إدارية هندية جديدة. كان ذلك إنجازا هائلا بكل المقاييس، وقد أتت به الحكمة والبصيرة والعمل الشاق، وقدر ليس بضئيل من التحايل.
4
عندما تناقش فالابهاي مع ماونتباتن في مشكلة الولايات للمرة الأولى، طلب إليه إحضار «سلة كاملة من التفاح» بحلول تاريخ الاستقلال. سأله ماونتباتن عما إذا كان قد يرضيه 560 تفاحة عوضا عن 565 تفاحة كاملة، فأومأ رجل حزب المؤتمر العتيد برأسه موافقا.
33
وفي النهاية ثلاث ولايات فقط هي التي سببت متاعب قبل 15 أغسطس، وثلاث ولايات أخرى بعد ذلك التاريخ.
كانت ترافنكور أول ولاية تشكك في حق حزب المؤتمر في خلافة بريطانيا باعتباره السلطة العليا. كانت تلك الولاية تحتل موقعا استراتيجيا في الطرف الجنوبي القصي من شبه القارة الهندية، وكان شعبها قد تلقى أفضل تعليم في البلاد، وازدهرت فيها التجارة البحرية، واحتوت على احتياطيات مكتشفة حديثا من المونازيت الذي يستخلص منه الثوريوم، الذي يستخدم في إنتاج الطاقة الذرية والقنابل الذرية. وكان السير سي بي راماسوامي آير يشغل منصب الديوان في ترافنكور، وهو محام لامع طموح تسلم ذلك المنصب منذ ستة عشر عاما، وكان يظن أنه الحاكم الحقيقي للولاية، وأن المهراجا والمهراني كانا طوع بنانه.
ومنذ فبراير 1946، أعلن آير بوضوح عن اعتقاده بأن ترافنكور - عندما يرحل البريطانيون - ستصير «وحدة مستقلة تماما»، مثلما كانت قبل عام 1795، عندما وقعت أول معاهدة مع شركة الهند الشرقية. وفي صيف عام 1947، عقد سلسلة من المؤتمرات الصحفية طالبا تعاون أهل ترافنكور في سعيه إلى الاستقلال، وذكرهم بعراقة أسرتهم الحاكمة وإغراق ترافنكور أسطولا هولنديا عام 1741 (على ما يبدو كانت تلك الهزيمة البحرية الوحيدة التي ألحقتها دولة آسيوية بقوة أوروبية يوما)؛ فكان القصد من الاستعانة بماض يفوح منه عبق المجد الإقليمي هو التصدي للقومية الهندية في الحاضر. وقد كان للمؤتمر الوطني - وكذلك الحزب الشيوعي الهندي - تواجد قوي في الولاية، إلا أن الديوان أصر على أنه من 15 أغسطس 1947 فصاعدا «ستصير ترافنكور بلدا مستقلا»، وأضاف متحديا: «ليس من سبب محدد يجعلها أقل من الدنمارك وسويسرا وسيام.»
والمثير للاهتمام أن محمد على جناح رحب بسعي ترافنكور إلى الاستقلال، فأرسل يوم 20 يونيو برقية إلى آير أشار فيها إلى أن باكستان «مستعدة لإقامة علاقات مع ترافنكور قائمة على المنفعة المتبادلة». وبعد ثلاثة أسابيع، كتب الديوان إلى حكومة مدراس يحيطها علما بأن ترافنكور تتخذ خطوات بغية «تأكيد وضعها ككيان مستقل». إلا أنها كانت مستعدة لتوقيع معاهدة بين ترافنكور «الدولة المستقلة ذات السيادة» و«حكومتي الدومنيون» لكل من الهند وباكستان.
يوم 21 يوليو، كان ديوان ترافنكور على موعد لمقابلة نائب الملك في دلهي. وفي مساء اليوم السابق، التقى دبلوماسيا بريطانيا كبيرا وأخبره أنه يأمل في نيل الاعتراف من الحكومة البريطانية، وسأل عما إذا كانت المملكة المتحدة ستتدخل في حالة رفض الهند إمداد ترافنكور بالمنسوجات. ويبدو أن ساسة من لندن كانوا قد شجعوا آير في طموحاته؛ إذ رأوا في ترافنكور المستقلة مصدرا لمادة خام ذات أهمية حيوية بالنسبة إلى الحرب الباردة المقبلة. والحقيقة أن حكومة ترافنكور كانت قد وقعت اتفاقية بالفعل مع حكومة المملكة المتحدة من أجل إمدادها بالمونازيت. وفي لندن، نصح وزير الإمدادات حكومته بتجنب الإدلاء بأي تصريح من شأنه أن «يعضد موقف الدومنيونين الهنديين في محاربة سعي ترافنكور إلى الاستقلال»، وقال الوزير إنه بما أن تلك الولاية تملك «أكبر مخزون نعرفه من رمل المونازيت»؛ فمن وجهة النظر البريطانية «سيكون احتفاظ ترافنكور باستقلالها السياسي والاقتصادي - على الأقل في الوقت الحالي - ميزة».
يوم 21 يوليو، ذهب آير إلى المقابلة المقررة مع ماونتباتن. اجتمعا أكثر من ساعتين، استغلهما الديوان في شن هجوم ضار على غاندي ونهرو وحزب المؤتمر. وبعد أن «أفرغ مكنونات صدره»، نائب الملك «تركه يرحل، وأوكل أمره إلى في بي مينون»، الذي حثه على توقيع صك الانضمام، ولكن الديوان قال إنه يفضل التفاوض على إبرام معاهدة مع الهند عوضا عن ذلك.
عاد آير إلى ترافنكور دون أن يفقد فيما يبدو عزمه على الاستقلال ، ثم إنه بينما كان في طريقه لحضور حفل موسيقي يوم 27 يوليو، هاجمه رجل يرتدي السروال العسكري القصير، وسدد إليه طعنة في وجهه، وأخرى في جسده، ومن ثم أخضع لجراحة طارئة. (اتضح أن من شرع في قتله كان عضوا في حزب كيرالا الاشتراكي.) كانت تبعات ذلك الحادث فورية، ومن وجهة النظر الهندية مرضية إلى أقصى حد؛ فعلى حد تعبير نائب الملك في تقريره الأسبوعي إلى لندن: «فتح تنظيم الاتحاد الشعبي لولايات عموم الهند النار واستسلمت ترافنكور فورا.» فمن فراشه بالمستشفى نصح آير المهراجا «بسلوك سبيل التوافق والتفاهم»، الذي لم يتبعه هو نفسه «لاستبدادي وحسمي المفرط». وفي 30 يوليو، أبرق المهراجا إلى نائب الملك معلنا اعتزامه الانضمام إلى الاتحاد الهندي.
34
ولاية أخرى ترددت في مسألة الانضمام كانت بوبال. كانت تقع في وسط الهند، وتمتعت بالتوليفة المعتادة المكونة من سكان معظمهم من الهندوس وحاكم مسلم. ومنذ عام 1944، عمل نواب بوبال مستشارا لمجلس الأمراء. كان معروفا عنه معارضته الشديدة لحزب المؤتمر، وقربه بالقدر ذاته من جناح والعصبة الإسلامية؛ فعندما أفصح البريطانيون بعد الحرب عن نيتهم الرحيل عن الهند، ملأ ذلك الاحتمال نفس النواب يأسا. كان يرى في ذلك «أحد أعظم المآسي التي حلت بالبشرية، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق»؛ فالآن «صارت الولايات والمسلمون وعامة الشعب أجمع، الذين كانوا يركنون إلى العدالة البريطانية ... فجأة بلا معين ولا نظام ولا نصير»، فلم يعد أمام النواب سوى «الموت في سبيل مسلمي العالم».
وردت تلك السطور في رسالة كتبها في نوفمبر 1946 إلى المستشار السياسي للورد ويفل. وبعد أربعة أشهر، حل ماونتباتن محل ويفل في منصب نائب الملك، وقد صادف أن ماونتباتن كان رفيقا قديما لنواب بوبال في لعب البولو. كانت صداقتهما عمرها خمسة وعشرون عاما، وزعم ماونتباتن ذات مرة أن النواب كان «ثاني أعز صديق له في الهند».
35
لكن سرعان ما اتضح أنهما صارا ينتميان إلى معسكرين مختلفين؛ ففي منتصف يوليو 1947، كتب ماونتباتن إلى بوبال - مثلما كتب إلى سائر الأمراء - ناصحا بالانضمام إلى الهند، فرد عليه النواب برسالة طويلة - أقر بأنها ذات لهجة «عاطفية» - بدأها بالإعراب عن «صداقة وفية لم ينفصم عراها» مع التاج الانجليزي، وهي صلة تعمد حكومة جلالة الملك إلى كسرها من طرف واحد. ولمن سلمت بريطانيا بوبال وزميلاتها؟ إلى حزب غاندي ونهرو المكروه. وسأل نواب بوبال غاضبا: «هل ينبغي لنا أن نستسلم لقادة حزب المؤتمر دون قيد أو شرط وندعهم يملون شروطهم؟»
وانتقلت الرسالة من الاتهام بالخيانة إلى التحذير، فقال النواب إنه في الهند، كان حائط الصد الأساسي أمام «المد الشيوعي المتصاعد» هو أصحاب الأملاك. وقد صرح حزب المؤتمر بالفعل بنيته القضاء عليهم. وإلى يسار ذلك الحزب، وقف الحزب الشيوعي الهندي الذي يتحكم في اتحادات عمال النقل؛ فيمكن للشيوعيين إن أرادوا أن يصيبوا شبه القارة بالشلل والمجاعة. وقال نواب بوبال لصديقه: «أصدقك القول، إنه ما لم تقدم أنت وحكومة جلالة الملك الدعم للولايات وتحول دون زوالها من على خارطة الهند، فسرعان ما ستجدون أنفسكم أمام دولة هندية واقعة تحت السيطرة الشيوعية ... فإذا وجدت الأمم المتحدة نفسها ذات يوم أمام 450 مليون شخص إضافي تحت القبضة الشيوعية، فسيكون لديها مبرر كاف لإلقاء اللوم على بريطانيا العظمى لوقوع تلك الكارثة، وطبعا أنا لا أود أن يقترن اسمك بذلك.»
وقد ألمح إلى أنه - مثل ترافنكور - سوف يعلن استقلال بوبال، وأنه لن يحضر على أي حال اجتماع مجلس الأمراء المقرر عقده يوم 25 يوليو. ويوم 31 كتب ماونتباتن مجددا إلى النواب يدعوه مرة أخرى إلى توقيع صك الانضمام، وذكره بما قاله في الخطبة التي ألقاها؛ إنه ما من حاكم سيتمكن من «الهرب» من الدومنيون الأقرب إليه. وقلب الجدل حول الشيوعية رأسا على عقب بحنكة؛ فقال إنه يقر بوجود خطر المد الشيوعي، ولكن الأفضل أن يتحد حزب المؤتمر والأمراء في التصدي له، فالرجال مثل باتيل «يخشون الشيوعية بقدر ما تخشاها، وإن نالوا تأييد مصادر التأثير المتزنة جميعها مثل طبقة الأمراء، فقد يتمكنون من درء الخطر الشيوعي».
36
وحينئذ كان نواب بوبال قد بلغته أخبار اجتماع 25 يوليو؛ فسمع بالانطباع الرائع الذي خلفه صديقه القديم، وبموجة الانضمامات المتنامية من زملائه الأمراء، فاستسلم واكتفى بطلب رشوة صغيرة لكبريائه، وسأل عما إذا كان بإمكان نائب الملك أن يضغط على باتيل لكي يطيل المهلة الزمنية المتاحة التي تبلغ عشرة أيام، بحيث يعلن انضمام بوبال «بعد» 15 أغسطس لا قبلها. قال نواب بوبال إن ذلك «من شأنه أن يسمح لي بأن أوقع على حكم إعدامنا بضمير مرتاح». (الواقع أن باتيل قال إنه لا يمكنه أن يسمح بأي استثناءات، فقال ماونتباتن إنه إذا وقعت بوبال صك الانضمام يوم 14 أغسطس، فسيحتفظ به ثم يسلمه إلى باتيل بعد يوم 25 أغسطس.)
37
والحالة الأغرب كانت حالة ولاية جودبور؛ وهي ولاية قديمة كبيرة ذات ملك هندوسي وأغلبية سكانية هندوسية أيضا؛ ففي حفل غداء أقامه ماونتباتن في منتصف يوليو، كان مهراجا جودبور الشاب قد انضم إلى غيره من أمراء راجبوت الذين أشاروا إلى استعدادهم للانضمام إلى الهند، ولكن سرعان ما غرس أحدهم - لم يتضح من - في رأسه فكرة أنه بما أن الولاية تقع على حدود باكستان، فقد يحصل على شروط أفضل منها؛ فأعد اجتماعا بينه وبين جناح، ربما بإيعاز من نواب بوبال. وفي ذلك الاجتماع، عرض زعيم العصبة الإسلامية منح جودبور مرافق الموانئ كاملة في كراتشي، واستيراد الأسلحة دون قيود، وإمداد ربوعها التي ضربتها المجاعة بالحبوب من السند. وثمة رواية تذهب إلى أن جناح ناول المهراجا ورقة بيضاء وقلم حبر وقال له: «فلتمل شروطك كاملة.»
لو كانت جودبور قد تحولت إلى صف باكستان، لكان ذلك فتح الباب أمام احتمال أن تحذو الولايات المتاخمة لها - مثل جايبور وأودايبور - حذوها، إلا أن تلك الخطة نمت إلى علم كيه إم بانيكار، وطلب إلى فالابهاي باتيل التدخل؛ فاتصل باتيل بحاكم جودبور ووعده بحرية استيراد السلاح أيضا، فضلا عن إمداده بمخزون لائق من الحبوب. وفي الوقت ذاته، أخبر نبلاء جودبور وشيوخ قراها المهراجا أنه لا يمكن أن يتوقع أن يرتاحوا للتواجد في دولة مسلمة، وسأله حاكم ولاية ملاصقة أيضا - جايسالمر - عما سيحدث إن انضم إلى باكستان ثم ثار الشغب بين الهندوس والمسلمين، فإلى أي صف سينحاز حينها؟
وبذلك رضخ مهراجا جودبور بدوره، ولكن ليس قبل تمثيلية تحد قام بها في اللحظة الأخيرة ، فعندما قدم إليه صك الانضمام في غرفة الانتظار بمكتب نائب الملك، أخرج المهراجا مسدسا وصوبه إلى رأس السكرتير قائلا: «لن أقبل إملاءاتك.» ولكنه هدأ بعد دقائق قليلة ووقع على الصك.
38
5
من الولايات التي لم توقع الصك حتى 15 أغسطس كانت جوناجاد، التي تقع في شبه جزيرة كاثياوار في غرب الهند. تلك الولاية - على غرار بوبال - كان بها نواب مسلم يحكم أغلبية هندوسية. كانت جوناجاد محاطة من ثلاث جهات بولايات هندوسية أو بالهند، ولكنها على الجهة الرابعة - وهذا ما ميزها عن بوبال - كان لها ساحل طويل، وكان ميناؤها الرئيسي فيرافال يقع على بعد 325 ميلا بحريا من مدينة كراتشي، الميناء الباكستاني المهم، وعاصمة باكستان في ذلك الوقت. وكان حاكم جوناجاد عام 1947 - محبة خان - دائم الشغف بشيء واحد: الكلاب. تضمنت حديقة الحيوان التي كان يقتنيها ألفي كلب أصيل، منهم ستة عشر كلب صيد موفد خاصة لحراسة القصر. وعندما تزاوج اثنان من كلاب الصيد الأثيرين لديه، أعلن ذلك اليوم عطلة رسمية، وأنفق على «زواجهما» 300 ألف روبية؛ أي قرابة متوسط الدخل السنوي لأحد رعاياه ألف مرة.
داخل حدود جوناجاد كان مزار الهندوس المقدس لسومناث، فضلا عن جيرنار، التل الذي بنى الجاينيون على قمته معابد مهيبة من الرخام لعبادتهما؛ فاجتذب كل من سومناث وجيرنار آلاف الحجاج من سائر أنحاء الهند. كما أن غابات جوناجاد كانت هي الملاذ الأخير للأسود الآسيوية، التي حظيت بحماية محبة خان وأسلافه، الذين أثنوا حتى كبار المسئولين البريطانيين على صيدها.
39
وفي صيف عام 1947، سافر نواب جوناجاد لقضاء عطلة في أوروبا. وأثناء سفره، حل السير شاه نواز بوتو - سياسي بارز في العصبة الإسلامية من السند وثيق الصلة بجناح - محل الديوان القائم.
40
وحينما عاد النواب، ضغط عليه بوتو لكي يبقى خارج الاتحاد الهندي. وفي 14 أغسطس - يوم تسليم السلطة - أعلنت جوناجاد أنها سوف تنضم إلى باكستان. كان ذلك جائزا من الناحية القانونية، وإن لم يكن منطقيا من الناحية الجغرافية، وتعارض أيضا مع نظرية «الدولتين» الخاصة بجناح، بما أن 82٪ من سكان جوناجاد كانوا هندوسيين.
درست باكستان طلب النواب بضعة أسابيع، ثم قبلت انضمام جوناجاد يوم 13 سبتمبر. ويبدو أنها قررت ذلك اعتقادا منها في إمكانية استخدام جوناجاد في المقايضة على جامو وكشمير؛ فتلك الولاية أيضا لم تكن قد انضمت إلى أي من الدومنيونين حتى 15 أغسطس. كان بها مهراجا هندوسي يحكم أغلبية مسلمة؛ أي، إنها من حيث التكوين كانت جوناجاد المعكوسة.
وقد أثار قبول باكستان انضمام جوناجاد إليها سخط الزعماء الهنود. وأصاب ذلك «وترا حساسا» لدى فالابهاي باتيل بالذات؛ إذ إنه كان من أبناء تلك المنطقة، وكان يتحدث اللغة ذاتها (الجوجاراتية) التي يتحدثها سكان جوناجاد؛
41
فكان أول رد فعل له هو ضمان انضمام ولايتين تابعتين لجوناجاد، هما: مانجرول وبابرياواد؛ فقد ادعى زعيماهما الهندوسيان أن لهما الحق في الانضمام إلى الهند؛ ونفى نواب جوناجاد ذلك، زاعما أنهما لا بد أن يحصلا على موافقته أولا بصفتهما تابعتين له، فأخذت الحكومة الهندية صف الولايتين التابعتين، وأرسلت قوة عسكرية صغيرة لمساندتهما.
وفي منتصف شهر سبتمبر، ذهب في بي مينون إلى جوناجاد للتفاوض مع النواب، ولكن الأخير امتنع عن مقابلته، متمارضا، فاضطر مينون إلى الاكتفاء بمقابلة الديوان عوضا عنه، وأخبر السير شاه نواز أنه ينبغي لجوناجاد من الناحيتين الثقافية والجغرافية أن تنضم إلى الهند. لم يناقشه السير شاه نواز في ذلك، ولكنه شكا إليه تأجيج «الكتابات المتشددة في الصحافة الجوجاراتية» مشاعر السكان المحليين، وقال إنه شخصيا يحبذ طرح المسألة للاستفتاء.
42
في الوقت نفسه، أقيمت «حكومة مؤقتة لجوناجاد» في بومباي، رأسها سمالداس غاندي؛ أحد أبناء إخوة غاندي، وأحد سكان المنطقة، فأصبحت تلك «الحكومة» وسيلة لإثارة السكان داخل جوناجاد. فر النواب مذعورا إلى كراتشي آخذا معه اثني عشر كلبا من الكلاب الأثيرة لديه، وألقيت المسئولية على عاتق الديوان. في 27 أكتوبر، كتب السير شاه نواز إلى جناح قائلا إنه في حين أنه «عقب الانضمام إلى باكستان مباشرة، تلقيت أنا ومعاليه مئات الرسائل من المسلمين بالأساس تهنئنا على قرارنا ، اليوم أصبح أشقاؤنا لا مبالين باردين. يبدو أن مسلمي كاثياوار فقدوا كل حماسهم لباكستان».
وبعد عشرة أيام، أخبر السير شاه نواز الحكومة الهندية أنه يرغب في تسليم إدارة جوناجاد لها، فتمت عملية نقل السلطة رسميا يوم 9 نوفمبر، إلا أن ماونتباتن في دلهي كان مغتاظا من عدم مشاورته في الأمر قبل تسليم الولاية؛ فنظم الهنود حينئذ - جزئيا بهدف إرضائه ولكن أيضا ترسيخا للمشروعية - استفتاء شعبيا، فنتج عن الاستفتاء الذي أقيم في 20 فبراير 1948 تصويت 91٪ من الناخبين لصالح الانضمام إلى الهند.
43
6
ولاية حيدر أباد بدورها كان حاكمها مسلما وأغلبية سكانها هندوسا، ولكنها مثلت غنيمة أكبر بكثير من بوبال أو جوناجاد؛ فقد امتدت الولاية عبر هضبة الدكن في وسط شبه القارة، وفاقت مساحتها 80 ألف ميل مربع، بينما زاد تعدادها عن 16 مليون نسمة موزعين على ثلاث مناطق لغوية: المنطقة التيلوجوية، والمنطقة الكانادية، والمنطقة الماراثية. كانت حيدر أباد محاطة بالمقاطعات الوسطى من الشمال، وبومباي من الغرب، ومدراس من الجنوب والشرق. وعلى الرغم من أنها كانت ولاية حبيسة بلا سواحل، فقد كانت مكتفية ذاتيا من الغذاء والقطن والبذور الزيتية والفحم والأسمنت، إلا أن البنزين والملح كان لا بد من استيرادهما من الهند البريطانية.
نشأت حيدر أباد ولاية تابعة للمغول عام 1713، وقد جرى العرف على تسمية حاكمها «النظام». كان 85٪ من سكانها هندوسا، إلا أن المسلمين تحكموا بمقاليد الجيش والشرطة ودائرة الخدمة المدنية. كان النظام نفسه يمتلك نحو 10٪ من أراضي الولاية، بينما يتحكم كبار ملاك الأراضي في أكثر الأراضي الباقية. بلغ دخل الحاكم من حيازته 25 مليون روبية سنوية ريعا، في حين كانت تمنحه خزانة الولاية 5 ملايين روبية أخرى. وكان ثمة نبلاء فاحشو الثراء، إلا أن غالبية المسلمين - كغالبية الهندوس - كانوا عمالا بالمصانع وحرفيين وعاملين وفلاحين.
44
في عامي 1946 و1947، كان الحاكم هو النظام السابع - مير عثمان علي - الذي اعتلى العرش منذ عام 1911. كان أحد أغنى أغنياء العالم، ولكنه كان أيضا أبخلهم؛ إذ نادرا ما كان يرتدي ثيابا جديدة، وكان لباسه المفضل منامة غير مكوية وقميصا وطربوشا باهت اللون، وكان «عادة ما يقود سيارة قديمة متهالكة شبيهة بعلبة الصفيح، طراز عام 1918، ولم يكرم وفادة أي من زائريه قط».
45
كان النظام عاقدا العزم على التشبث بأكثر من ثروته الشخصية؛ فما أراده لولايته - عندما يرحل البريطانيون - كان الاستقلال، مصحوبا بإقامة علاقات مباشرة بينه وبين التاج البريطاني. وقد استعان في قضيته بالسير والتر مونكتون؛ مستشار الملك القانوني وأحد أرفع المحامين مقاما في إنجلترا. (كان من ضمن موكلي مونكتون السابقين الملك إدوارد الثامن، الذي طلب مشورة مونكتون أثناء أزمة تنازله عن العرش.) كان النظام مستعدا لدفع مبلغ باهظ نظير خدمات ذلك المحامي الإنجليزي، بلغ 90 ألف جنيه بريطاني في السنة، حسبما قيل. وفي اجتماع مع نائب الملك، مونكتون «شدد على أن معاليه سيواجه صعوبة جمة في سلك أي طريق من المرجح أن ينتقص من سيادة النظام المستقلة». وعندما اقترح ماونتباتن أن تنضم حيدر أباد إلى الجمعية التأسيسية، أجابه المحامي قائلا إن الهند إن بالغت في الضغط، فموكله «قد ينظر جديا في خيار الانضمام إلى باكستان».
46
وإن طموحات النظام - لو كانت تحققت - لكان من شأنها أن تفصل شمال الهند عن جنوبها فعليا. ومثلما أشار الخبير الدستوري رجينالد كوبلاند، فإن «الهند يمكنها أن تعيش إن بتر طرفاها المسلمان في الشمال الغربي والشمال الشرقي، ولكن هل يمكنها أن تحيا دون الوسط؟» وعبر باتيل عن ذلك المعنى بمزيد من الصراحة قائلا إن استقلال حيدر أباد بمنزلة «سرطان في معدة الهند».
47
في تلك المواجهة بين النظام وحكومة الهند، كان لكل منهما وكيله الخاص؛ فالهنود كان لديهم حزب مؤتمر ولاية حيدر أباد - الذي تشكل عام 1938 - الذي مارس ضغوطا شديدة من أجل إقامة حكومة تمثيلية داخل حدود الولاية. أما النظام فكان لديه «اتحاد المسلمين»، الذي رغب في صون مكانة المسلمين في الإدارة والسياسة. وكان الحزب الشيوعي الهندي طرفا فاعلا مهما أيضا؛ إذ كان له حضور قوي في منطقة تيلانجانا بولاية حيدر أباد.
في عامي 1946 و1947، تعالت أصوات الأطراف الثلاثة؛ فطالب حزب مؤتمر الولاية بأن تحذو حيدر أباد حذو سائر ولايات الهند، ونظم قادته احتجاجات في الشوارع، معرضين أنفسهم للحبس. وفي المقابل، اكتسى اتحاد المسلمين بصبغة راديكالية على يد زعيمه الجديد قاسم رضوي؛ وهو محام درس في عليكرة وكان عنده إيمان قوي بفكرة «عزة المسلمين». تحت قيادة رضوي، دعم الاتحاد جماعة شبه مسلحة تدعى «رضا كار» ذرع أعضاؤها شوارع حيدر أباد جيئة وذهابا حاملين السيوف والأسلحة النارية.
48
وفي الوقت ذاته، هبت انتفاضة في الريف بقيادة وتوجيه من الشيوعيين، فصودرت أراض كبيرة في جميع أنحاء تيلانجانا وأعيد توزيعها على الفلاحين المتعطشين للأرض. في البداية، صادر المتمردون أي حيازة تزيد عن 500 فدان، ثم خفضوا الحد إلى 200 فدان، ولاحقا 100 فدان، كما أنهم قضوا على ممارسة السخرة، وشكل الشيوعيون ما يشبه حكومة موازية في مناطق نالجوندا وورانجال وكاريمناجار، وما يربو على ألف قرية «تحررت عمليا من حكم النظام».
49
في 15 أغسطس، رفع عمال حزب المؤتمر العلم الوطني في شتى أنحاء ولاية حيدر أباد، فقبض على منفذي العملية وزج بهم في السجن.
50
وعلى الجانب الآخر، ازدادت جماعة رضا كار ضراوة، فأكدت دعمها لإعلان الاستقلال الذي أصدره النظام، وطبعت منشورات ووزعتها جاء فيها: «حرروا حيدر أباد من أجل الحيدر أباديين»، و«لا اتفاق مع الاتحاد الهندي».
51
وقد تلقت طموحات النظام تشجيعا من حزب المحافظين في بريطانيا؛ فالسير والتر مونكتون نفسه كان عضوا بارزا في حزب المحافظين، وقد كتب إلى زعماء الحزب طالبا إليهم دعم موكله. زعم مونكتون أن حزب المؤتمر يمارس نوعا من «سياسة القوة» تعد «نسخة طبق الأصل من السياسات التي انغمس فيها هتلر وموسوليني». وبما أن ماونتباتن كان على وفاق تام مع نهرو وباتيل، فقد بات على حزب المحافظين «التأكد من أنه إذا كان لا مناص من تلك الخيانة المشينة لأصدقائنا وحلفائنا القدامى، فإنها على الأقل لن تترك دون عقاب أمام ضمير العالم».
52
وإن رؤية حيدر أباد تحت حكم النظام على أنها بولندا، وحزب المؤتمر على أنه معادل لهتلر لتبلبل الفكر، ولكن حتى ونستون تشرشل سمح لنفسه بتصديق ذلك التشبيه؛ ربما لأنه لطالما كره غاندي. قال تشرشل في خطابه بمجلس العموم إن البريطانيين عليهم «مسئولية شخصية ... ألا يسمحوا لولاية أعلنوا أنها ذات سيادة أن تخنق أو تجوع أو يتمكن منها العنف فعليا». وألقى آر إيه باتلر - النجم الصاعد لحزب المحافظين - بثقله مع تشرشل قائلا إن بريطانيا ينبغي أن تلقي بثقلها في سبيل تحقيق «مطالب حيدر أباد العادلة المتعلقة باحتفاظها باستقلالها».
53
وقد استمد النظام - وجماعة رضا كار بدرجة أكبر - دعما لقضيته من باكستان أيضا، وبلغ الأمر بجناح حد أن أخبر اللورد ماونتباتن أن حزب المؤتمر إذا «حاول الضغط على حيدر أباد بأي شكل، فسوف يهب مئات الملايين من المسلمين هبة رجل واحد دفاعا عن أعرق أسرة حاكمة مسلمة في الهند».
54
وحينها قال النظام إنه سيوقع معاهدة مع الهند، ولكن ليس صك انضمام. وفي أواخر نوفمبر 1947، وافق على توقيع «اتفاقية تجميد الوضع»، التي استمرت بمقتضاها الترتيبات التي كانت قائمة بين حيدر أباد والراج البريطاني مع الحكومة الوريثة له. فكسب الطرفان بذلك بعض الوقت؛ بالنسبة إلى النظام حتى يعيد النظر في سعيه إلى الاستقلال، والهنود حتى يجدوا سبلا أفضل لإقناعه بالانضمام.
وبمقتضى تلك الاتفاقية، أوفد كل من النظام والحكومة الهندية نوابا عنهما في أرض الآخر. كان النائب عن الحكومة الهندية هو كيه إم مونشي؛ الحليف المؤتمن لدى فالابهاي باتيل، وكان النظام قد عين ديوانا جديدا في شهر نوفمبر، مير لائق علي، وهو رجل أعمال ثري معروف عنه تعاطفه مع باكستان. عرض لائق علي تضمين بعض الممثلين عن الهندوس في حكومته، ولكن حزب مؤتمر الولاية رأى ذلك العرض هزيلا جدا ومتأخرا للغاية. وعلى أي حال، كانت السلطة الحقيقية قد انتقلت آنذاك إلى جماعة رضا كار وقائدها قاسم رضوي. وبحلول مارس 1948، كان عدد أعضاء اتحاد المسلمين قد بلغ مليونا، عشرهم مدربون على حمل السلاح، واتخذ كل عضو في جماعة رضا كار موثقا من الله بأن «يحارب حتى الرمق الأخير للحفاظ على غلبة القوة الإسلامية في الدكن».
55
في أبريل عام 1948، زار أحد مراسلي صحيفة «ذا تايمز» اللندنية حيدر أباد، وأجرى حوارا مع قاسم رضوي، ووجد أنه «خطيب شعبي متطرف ذو ملكات تنظيمية عظيمة، فهو ممتاز في دور «المحرض»، وآسر حتى عند لقائه وجها لوجه».
56
أما رضوي فرأى نفسه الزعيم المنتظر لدولة إسلامية، زعيما على شاكلة جناح بالنسبة إلى الحيدر أباديين، وإن كان أكثر تشددا. وقد احتلت لوحة الزعيم الباكستاني مكانا بارزا على جدار حجرته. وأخبر رضوي صحفيا هنديا أنه يكن إعجابا شديدا لجناح، وأضاف أنه «متى راودتني الشكوك أذهب إليه للمشورة، وهو لا يضن علي بها أبدا».
يظهر رضوي في الصور بلحية كثة، فقد بدا «أشبه بمفستوفيليس (رمز الشيطان في حكايات شعبية ألمانية) شرقي»،
57
وكان أكثر ملامحه لفتا للانتباه هو عيناه الناريتان «اللتان تشع منهما نيران التطرف». كان يزدري حزب المؤتمر ويقول: «لا نريد حكم البراهمة أو التجار الهندوس هنا.» وعندما سئل عن الجانب الذي سينحاز إليه إذا ما حدث صدام بين باكستان والهند، أجاب رضوي بأن باكستان قادرة على تدبر أمرها، ولكنه أردف قائلا: «أينما تضررت مصالح المسلمين، فستجدون اهتمامنا وتعاطفنا. ذلك ينطبق على فلسطين أيضا بالطبع؛ فحتى إن تضررت مصالح المسلمين في الجحيم، فستميل قلوبنا تعاطفا معهم.»
58
نظرت جماعة رضا كار إلى المعركة الدائرة بين دلهي وحيدر أباد من منظور هندوسي إسلامي. أما المؤتمر الوطني فارتأى فيها صداما بين الديمقراطية والاستبداد. والحقيقة أنها اشتملت على الأمرين معا. وكان مواطنو حيدر أباد هم ضحايا ذلك الاشتباك الذين مثلت لهم الشهور التالية على أغسطس 1947 فترة من انعدام الأمن البالغ.
59
شرع بعض الهندوس في الفرار إلى المناطق الملاصقة لهم من مدراس، وتزامن ذلك مع توافد المسلمين من المقاطعات الوسطى إلى حيدر أباد؛ فأولئك المسلمون - الذين كانوا أميين في معظمهم - بلغتهم روايات مخيفة عن هجمات على إخوانهم في الدين في البنغال والبنجاب، ولكنهم لم يستوعبوا على ما يبدو أنهم سيكونون أقلية في حيدر أباد أيضا؛ فعلى حد تعبير مراقب مستقل، ربما «كانت ثقة هؤلاء المهاجرين المسلمين في حماية قوات النظام والعرب لهم أكبر من ثقتهم في إدارة مقاطعات الاتحاد». وقيل عن هؤلاء المسلمين إنهم بدورهم طردوا هندوسا من ديارهم في حيدر أباد بمساعدة رجال النظام. كما كان ثمة مزاعم أيضا عن وضع خطة لجعل المسلمين أغلبية في الولاية ؛ فعلى ما يبدو باتت الأحياء الهندوسية في مدن مثل أورانج أباد وبيدار وحيدر أباد «تبدو مهجورة».
60
وخلال ربيع وصيف عام 1948، تنامى التوتر؛ إذ وردت مزاعم عن تهريب أسلحة من باكستان إلى حيدر أباد - في طائرات قادها مرتزقة بريطانيون - واستيراد أسلحة من أوروبا الشرقية. وكتب رئيس وزراء مدراس إلى باتيل مخبرا إياه أنه يجد صعوبة في التعامل مع فيض اللاجئين القادمين من حيدر أباد. وأرسل كيه إم مونشي تقارير صارخة عن غدر «النظام»، و«فكرته الراسخة» المتعلقة بالاستقلال، وإشارته إلى حكومة الهند بوصف «أوغاد دلهي»، وعن «الدعاية السامة التي تنقل ليل نهار عن الاتحاد الهندي في الخطب وإذاعة «النظام» وصحفه ومسرحياته وما إلى ذلك».
61
حينها ماطل الجانب الهندي بعض الشيء. وفي يونيو 1948، عقد في بي مينون ولائق علي سلسلة من الاجتماعات في دلهي، فطلب مينون أن تقيم الولاية حكومة تمثيلية، وتتعهد بإجراء استفتاء شعبي بشأن الانضمام، واقترحت استثناءات عدة للحفاظ على كرامة «النظام» تضمنت الاحتفاظ بقوات، لكنه لم يقبل أيا منها. حينئذ حاول ديوان حيدر أباد السابق الموقر - السير ميرزا إسماعيل - أن يتوسط بين الطرفين؛ فنصح «النظام» بألا يحيل قضية حيدر أباد إلى الأمم المتحدة (وهو ما هدد لائق علي بفعله)، وأن ينتزع نفسه من براثن جماعة رضا كار وينضم إلى الهند، فقد أخبر معاليه أن حيدر أباد «يجب أن تدرك ضعف موقفها».
62
وفي 21 يونيو 1948، استقال اللورد ماونتباتن من منصب الحاكم العام. قبل ذلك بثلاثة أيام، كان قد كتب إلى النظام يحثه على التنازل ودخول التاريخ؛ «باعتبارك صانع السلام في جنوب الهند، ومنقذ ولايتك وأسرتك الحاكمة وشعبك». أما إذا تمسك بموقفه، فسوف «يجلب على نفسه إدانة كل ذي عقل».
63
اختار النظام ألا يصغي إليه، ولكن برحيل ماونتباتن، صار اتخاذ إجراءات حاسمة أيسر على باتيل؛ ففي 13 سبتمبر، أرسلت فرقة جنود هندية إلى حيدر أباد، وفي غضون أقل من أربعة أيام كانت قد فرضت سيطرتها على الولاية بأكملها، وكان من ضحايا المعركة اثنان وأربعون جنديا وما يربو على ألفي عضو من جماعة رضا كار.
وفي ليلة 17 سبتمبر، تحدث «النظام» في الإذاعة، والأرجح أن يكون كيه إم مونشي هو من كتب له خطابه، فأعلن حظر جماعة رضا كار، ونصح رعاياه قائلا: «عيشوا في سلام ووئام مع بقية شعب الهند.» وبعد ستة أيام، أصدر إعلانا آخر في الإذاعة قال فيه إن رضوي ورجاله «استولوا على الولاية» بأساليب «هتلرية» و«أشاعوا فيها الإرهاب». وزعم أنه كان «متلهفا للوصول إلى تسوية مشرفة مع الهند، لكن تلك الجماعة ... دفعتني إلى رفض العروض التي كانت حكومة الهند تقدمها من حين لآخر».
64
وسواء حدث ذلك مصادفة أم عمدا، فقد اتخذت الهند إجراءها ضد حيدر أباد بعد وفاة الحاكم العام لباكستان بيومين. كان جناح قد تنبأ بأن يهب 100 مليون مسلم في حالة تهديد ولاية «النظام». لم يحدث ذلك، ولكن المشاعر تأججت في بعض أنحاء باكستان؛ ففي كراتشي، خرجت مسيرة احتجاجية من 5 آلاف شخص متوجهة إلى المفوضية السامية الهندية، وخرج المفوض السامي - نصير غاندي القديم - إلى الشارع محاولا تهدئتهم، فهتفوا ردا عليه: «أيها الجبناء، لقد هاجمتمونا وقد توفي شيخنا لتوه.»
65
في شهر يونيو، كان أحد كبار زعماء حزب المؤتمر قد أخبر النظام أنه إن تصالح مع الاتحاد، فقد يصير معاليه «سعادة سفير الهند قاطبة في موسكو أو واشنطن».
66
في الواقع لم يعرض عليه ذلك؛ ربما لأن ملبسه أو أسلوب استضافته لزائريه - أو كليهما - لم يكونا لائقين بمبعوث دبلوماسي، ولكن بادرة الإذعان الأخيرة من طرفه كانت مكافأتها أن صار حاكم ولاية حيدر أباد الهندية الجديدة.
وبعد مضي عامين على انتهاء نظام الحكم القديم، زار الصحفي خواجة أحمد عباس من بومباي حيدر أباد، فوجد أن نافذة ستوديو تصوير راجا ديندايال ذي المائة عام، غطت فيها صور «محرر» المدينة - الكولونيل جيه إن تشودري من الجيش الهندي - على صور النظام. والآن في حيدر أباد، صارت قبعة حزب المؤتمر البيضاء «غطاء رأس الطبقة الحاكمة الجديدة، وأثارت نفس الانبهار الذي كانت تثيره العمامة المخروطية لآل آصف جاه قبل دخول القوات الهندية».
67
7
في أغسطس 1947، نشر مسئول بريطاني مخضرم كان قد خدم في شبه القارة الهندية مقالا يحمل عنوانا واعدا هو «الهند والمستقبل». كانت الهند البريطانية قد قسمت لتوها إلى دولتين جديدتين، وسأل الكاتب: «هل سيقف الانقسام عند ذلك الحد؟» أم أن شبه القارة ستتفتت «إلى عدد لا يحصى من الدول الصغيرة المتناحرة؟» بدا عدم الاستقرار ملازما لباكستان، وكان ثمة احتمال كبير بأن تتحول الأجزاء الشمالية الغربية منها إلى دولة مستقلة تحت اسم «بشتونستان». لم تكن الهند أكثر استقرارا بالضرورة، ومن ثم كان «يعتقد كثير من المراقبين الأكفاء أن مقاطعة مدراس ستنفصل في نهاية المطاف لتصير دولة مستقلة تماما». أما عن الولايات الأميرية، فأصغرها وأضعفها لن يكون أمامه خيار سوى الانضمام إلى الهند، إلا أن «الولايات الجنوبية الكبيرة - ولا سيما حيدر أباد وميسور وترافنكور - وضعها مختلف تمام الاختلاف؛ إذ يمكنها - إن لزم الأمر - أن تحتفظ بكيان مستقل، ومن المستبعد أن تردعها تهديدات حزب المؤتمر الأخيرة عن اتخاذ قرارها في هذا الصدد على أساس مصلحتها الشخصية فحسب».
وأنهى ذاك المتنبئ كلامه قائلا: «من المرجح أن تنقسم الهند البريطانية في النهاية إلى ثلاثة أو أربعة بلدان، إلى جانب اتحاد فيدرالي مكون من الولايات الهندية الجنوبية، وسيمثل ذلك ما يشبه ردة إلى النمط السائد في الهند إبان القرن السادس عشر.»
68
علما بالفرص المتاحة آنذاك - والمعارضة - فقد كان دمج تلك الولايات المتعددة المتفرقة إنجازا مذهلا بحق، وقد تمت المهمة بسلاسة وشمولية بالغتين إلى حد أن الهنود سرعان ما نسوا أن ذلك لم يكن بلدا واحدا فيما مضى، وإنما 500 بلد. وخلال عامي 1947 و1948 كان خطر التفكك ملموسا بحق، إثر وجود «خلايا الدسائس» على غرار بوبال وترافنكور و«نقاط الهجوم الاستراتيجية» مثل حيدر أباد، ولكن بعد مرور خمسة أعوام لا أكثر على تنازل آخر مهراجا عن أرضه، كان الهنود «قد صاروا يعتبرون الهند الموحدة أمرا مسلما به إلى حد أن مجرد تخيل وضع مختلف الآن صار يتطلب مجهودا ذهنيا كبيرا».
69
إن وضع الأمراء الهنود في التكوين السياسي الهندي «كان بلا نظير أو شبيه في أي مؤسسة عرفها التاريخ»، إلا أنه من خلال «مفاوضات سلمية ودية» تفتت المشيخات، وصار «يصعب تمييزها عن الوحدات الديمقراطية الأخرى التي يتألف منها الاتحاد الهندي».
وردت تلك الكلمات في كتيب أصدرته الحكومة الهندية عام 1950. وقد كانت تستحق تهنئة ذاتها عن جدارة؛ إذ تحول 500 «مركز استبداد إقطاعي إلى وحدات حرة وديمقراطية ضمن الاتحاد الهندي» دون خسائر كبيرة في الأرواح، و«تلاشت النقاط الصفراء على الخريطة» التي مثلت تلك المشيخات، و«رجعت السيادة والسلطة إلى الشعب». وأردف الكتيب يقول: «لأول مرة صار ملايين من الناس المعتادين على العيش في مجموعات ضيقة منعزلة في الولايات جزءا من الحياة الكبرى في الهند، وصار بإمكانهم استنشاق هواء الحرية والديمقراطية الذي ساد البلاد كلها.»
وبما أن ذلك كان كتيبا رسميا، فقد نسب فضل إتمام المهمة بطبيعة الحال إلى الرجل المسئول؛ حيث كتب الصحفيون: «ما عجز المندوبون الساميون البريطانيون عن تحقيقه عقب قرنين من الجهود المتواصلة، أنجزه السردار فالابهاي باتيل من خلال مناشدته المقنعة للمشاعر النبيلة لطبقة الأمراء.»
70
والحقيقة أن باتيل كان حكيما ثابت الجنان في قيادته فعلا؛ فأي سياسي غيره من حزب المؤتمر - حتى (أو لا سيما) نهرو - ربما لم يكن ليشرف على عملية القضاء على طبقة الأمراء بمثل ذلك الصبر وبعد النظر، ولكنه لم يكن ليتمكن من إتمام المهمة دون في بي مينون، الذي قام بمئات الزيارات إلى المشيخات مقوضا حكامها تدريجيا. ولم يكن مينون بدوره ليتمكن من إحراز الكثير دون الموظفين الذين نفذوا عملية الانتقال الفعلية، مهيئين الظروف أمام اندماج المشيخات ماليا واجتماعيا مع بقية الهند.
والحقيقة أن الساسة والبيروقراطيين، على حد سواء، تمتعوا بحليف لا غنى عنه تمثل في الجندي المجهول: الشعب؛ فلعقود من الزمان، كثير من سكان الولايات الأميرية طالبوا في صخب بالحقوق الممنوحة لمواطني الهند البريطانية، وكثير من الولايات كان بها جمعيات شعبية قوية ونشطة. كان الأمراء يعون ذلك تماما؛ فالحق أنه دون تهديد الاحتجاج الشعبي من أسفل ما كانوا سلموا السلطة إلى الحكومة الهندية بتلك السهولة.
أثناء عملية توحيد الهند، كان لفالابهاي باتيل مساعدون كثر، معظمهم مجهولون ولم يكرموا. من الأشخاص الذين لم يسقطوا تماما من الذاكرة في بي مينون، الذي كان المخطط الرئيسي وراء عملية دمج الولايات الأميرية، وكذلك كان أول من أرخ لها؛ فدعونا نستمع إلى الدرس الذي استخلصه من تلك العملية:
إن تفكيك 554 ولاية بدمجها داخل إطار الجمهورية، وإرساء النظام بعد كابوس الفوضى الذي بدأنا به، وإدخال الديمقراطية في إدارة كل الولايات السابقة ينبغي أن يقوي عزيمتنا في تحقيق القدر ذاته من النجاح في الميادين الأخرى.
71
سوف نحول انتباهنا في الوقت المناسب إلى تلك «الميادين الأخرى» من عملية بناء الدولة، ولكن دعونا أولا نتقصى حالة الولاية الأميرية التي سببت أكثر المتاعب للاتحاد الهندي؛ فتلك التفاحة بالذات ظلت متأرجحة على حافة السلة؛ إذ لم تقع داخلها قط، وإن لم تقع خارجها أيضا.
الفصل الرابع
واد دام وجميل
جذبني لكشمير حبي للجبال وقرابتي بأهلها، وهناك لم أر حياة الحاضر وحيويتها وجمالها فحسب، وإنما الأزمان الماضية الرائعة القابعة في أركان الذاكرة ... فعندما أفكر في الهند، تجول ببالي أشياء كثيرة ... ولكن في المقام الأول جبال الهيمالايا ذات القمم المكسوة بالثلوج، أو واد جبلي في كشمير في فصل الربيع وقد غطته أزهار يانعة، ويتدفق من ثناياه جدول ماء رقراق.
جواهر لال نهرو، 1946
1
انضمت أكثر من 500 ولاية أميرية إلى الاتحاد الهندي. كان أهم تلك الولايات - وما زال - ولاية جامو وكشمير؛ فبمساحة تبلغ 84471 ميلا مربعا، كانت أكبر حتى من حيدر أباد، إلا أن تعداد سكانها الذي يفوق أربعة ملايين قليلا كان أكثر تفرقا. وقد اتسمت تلك الولاية بقدر كبير من التنوع الثقافي، فقد تضمنت خمس مناطق رئيسية، وتمتعت مقاطعة جامو المتاخمة للبنجاب بهضاب منخفضة ومساحات كبيرة من الأراضي القابلة للزراعة. قبل التقسيم كان المسلمون يمثلون فيها أغلبية طفيفة (53٪)، ولكن مع موجة الهجرة المذعورة ذلك العام صار الهندوس هم الفئة الغالبة في جامو. وعلى العكس منها ، كان وادي كشمير شمال جامو ذا أغلبية مسلمة كبيرة. كان ثمة إجماع على أن ذلك الوادي - بالإجماع - أحد أجمل بقاع الهند، وكان السياح الأغنياء من دلهي والبنجاب يصطافون في بحيراته وهضابه. وقد ضم أيضا مجموعة من أصحاب الحرف رفيعي المستوى الذين اشتغلوا في الحرير والصوف والأخشاب والنحاس، ليصنعوا تحفا رائعة كانت تصدر إلى جميع أنحاء الهند وخارجها. وتضمن كل من جامو وكشمير مجموعة صغيرة من السيخ أيضا.
وقد امتدت جبال لاداخ العالية شرق الوادي على حدود التبت، وكان معظم سكانها بوذيين، وغربها كان قطاعا جلجيت وبلتستان قليلي السكان. كان معظم السكان هناك مسلمين، ولكن من فروع الإسلام الشيعية والإسماعيلية، لا فئة السنة الغالبة (كما كان الحال في الوادي).
لم تجتمع تلك المناطق المتفرقة تحت مظلة ولاية واحدة إلا في القرن التاسع عشر. فقد وحدتها عشيرة دوجرا الراجبوتيون من جامو، الذين غزوا منطقة لاداخ في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وانتزعوا وادي كشمير من أيدي البريطانيين في أربعينيات القرن التاسع عشر، ودخلوا جلجيت مع نهاية القرن. وبهذا صارت ولاية جامو وكشمير تشترك في حدودها مع أفغانستان وإقليم شينجيانج (سينكيانج) الصيني والتبت، فلم يكن يفصلها عن الاتحاد السوفييتي سوى شريط ضيق من الأراضي الأفغانية.
1
موقع تلك الولاية منحها أهمية استراتيجية غير متناسبة إلى حد بعيد مع تعداد سكانها. وقد تضاعفت تلك الأهمية بعد 15 أغسطس 1947، عندما أصبحت كشمير تتقاسم حدودها مع الدومنيونين الجديدين. وقد تفاقمت الحالة الشاذة المتمثلة في وجود حاكم هندوسي لأغلبية مسلمة إثر مصادفة جغرافية؛ فخلافا للمشيخات الأخرى موضع الخلاف - مثل جوناجاد وحيدر أباد - كانت كشمير متاخمة للهند وباكستان على حد سواء.
كان مهراجا كشمير عام 1947 رجلا يدعى هاري سينج، الذي اعتلى العرش في سبتمبر 1925. وكان يقضى كثيرا من وقته في حلبة السباق ببومباي، أو في الصيد في الأدغال الشاسعة الغنية بالطرائد التي حوتها أراضيه. وقد كان مثالا نموذجيا للفئة التي ينتمي إليها من ناحية أخرى، فكما شكت زوجته الرابعة والصغرى: كان «لا يلتقي الشعب أبدا، تلك هي المشكلة؛ فهو يكتفي بالجلوس محاطا بمتملقيه من الحاشية والمحظيين، ولا يعرف أبدا ما يحدث في الخارج».
2
وفي أغلب فترة حكمه، كان أبغض الناس إلى المهراجا رجلا مسلما من الوادي يدعى الشيخ محمد عبد الله. ولد عبد الله عام 1905 لتاجر أوشحة، وحصل على درجة الماجستير في العلوم من جامعة عليكرة الإسلامية. وعلى الرغم من مؤهلاته لم يتمكن من الحصول على وظيفة حكومية في كشمير؛ إذ كان الهندوس مسيطرين على إدارة الولاية، فبدأ عبد الله في التساؤل: «لماذا يختص المسلمون بتلك المعاملة؟ إننا أغلبية، ونحن الأكثر إسهاما في دخل الولاية، ونتعرض رغم ذلك للقهر ... أكان ذلك لأن أغلبية موظفي الحكومة غير مسلمين؟ ... لقد توصلت إلى أن إساءة معاملة المسلمين كانت نتيجة الاضطهاد الديني.»
3
وبعد أن حرم عبد الله الوظيفة الحكومية، صار معلما؛ فأنشأ ناديا للقراءة وكان يتحدث بالنيابة عن أشقائه الرعايا المحتجين على الوضع في البلاد. كان ذا حضور ملهم بقامته الفارعة التي قاربت المترين وخطبه الذكية الآسرة. وعلى الرغم من أنه كان يشعل لفافة تبغ من حين لآخر، فهو لم يكن يعاقر الخمر، وكان يذهب إلى المسجد كل جمعة، وكان متبحرا في دراسة القرآن.
4
في صيف عام 1931، اختير عبد الله ضمن وفد من المسلمين كانوا يرجون رفع مسألتهم إلى المهراجا.
5
وقبل أن تتسنى لهم مقابلته، قبض على ناشط يدعى عبد القادر وقدم للمحاكمة. أسفر ذلك عن صدام بين المحتجين والشرطة لقي فيه واحد وعشرون شخصا مصرعهم. وقد تلا ذلك موجة من العنف الطائفي في الوادي، تعرض فيه كثير من محال الهندوس إلى النهب والحرق.
في العام التالي - عام 1932 - شكل مؤتمر لجموع مسلمي كشمير لتجسيد المعارضة المتنامية ضد المهراجا. كان من ضمن الأعضاء البارزين لذلك التنظيم: الشيخ عبد الله، وغلام عباس؛ محام من جامو. وبعد ستة أعوام، تزعم عبد الله عملية تحويل التنظيم إلى «مؤتمر وطني» تضمن هندوسا وسيخا أيضا. وطالبت الهيئة الجديدة بحكومة تمثيلية قائمة على الاقتراع العام.
وفي ذلك الوقت تقريبا، تعرف عبد الله على جواهر لال نهرو، وتوطدت صلتهما فورا؛ فكلاهما كان عفويا ذا آراء قوية، ولكنهما اشتركا في آرائهما لحسن الحظ: أي الالتزام بالوئام بين الهندوس والمسلمين وبالاشتراكية. وقد ازداد تقرب حزب المؤتمر الوطني (الكشميري) من حزب المؤتمر الوطني الهندي؛ مما نفر بعض أعضائه، لا سيما غلام عباس الذي ترك الحزب وسعى إلى تنظيم صفوف مسلمي كشمير وحدهم. كانت تلك بداية خصومة مريرة مع الشيخ عبد الله، مثلت خلافا شخصيا بقدر ما هو أيديولوجي.
في منتصف أربعينيات القرن العشرين، كان عبد الله قد اكتسح خصمه في التنافس على الشعبية، فقد ذكر أحد معاصريه أنه كان: «محبوبا للغاية من أهل كشمير آنذاك».
6
وقد دخل السجن وخرج منه أكثر من مرة منذ عام 1931، وأدخل السجن مرة أخرى عام 1946 بعد أن طلب إلى آل دوجرا «مغادرة كشمير» وتسليم السلطة إلى الناس. وفي الاضطرابات التالية، قتل أكثر من عشرين شخصا، فأعلن المهراجا فرض الأحكام العرفية، وحكم على الشيخ بالحبس ثلاث سنوات بتهمة «إشاعة الفتنة»؛ فأشعل ذلك الإجراء غضب جواهر لال نهرو، الذي هب لنجدة صاحبه في كشمير. منع رجال المهراجا نهرو من الدخول؛ إذ أوقفوه عند الحدود وأعادوه إلى الهند البريطانية.
7
وبعد أن اتضح أن بريطانيا سرعان ما سترحل عن شبه القارة الهندية، حث رامتشاندرا كاك - رئيس وزراء هاري سينج - المهراجا على التفكير في مسألة استقلال ولايته؛ فصرح المهراجا يوم 15 يوليو عام 1946، بأن الكشميريين سوف «يقررون مصيرهم دون إملاءات من أي جهة لا تشكل جزءا لا يتجزأ من الولاية».
8
وفي نوفمبر، لاحظ المندوب السامي البريطاني في سريناجار أن:
المهراجا وكاك ينظران جديا في احتمال عدم انضمام كشمير إلى الاتحاد الهندي إذا تكون. وفي مناسبة سابقة ألمح إلي كاك بأن كشمير قد تضطر إلى البقاء خارج الاتحاد نظرا للعداء الذي يرجح أن تبديه حكومة حزب المؤتمر المركزية تجاه كشمير. وأظن أن المهراجا يرى أنه بمجرد أن تختفي السلطة العليا ستضطر كشمير إلى الاعتماد على نفسها، وأن مسألة الولاء للحكومة البريطانية لن تنشأ، وأن كشمير ستكون حرة في التحالف مع أي قوة - بما في ذلك روسيا - يقع عليها اختيارها.
9
كانت فكرة الاستقلال قد استحوذت على المهراجا، فقد كان يبغض حزب المؤتمر الوطني؛ لذا لم يستطع أن يفكر في الانضمام إلى الهند، ولكنه إن انضم إلى باكستان فقد يقضي على حكم أسرته الهندوسية.
10
وفي أبريل 1947، تولى نائب جديد للملك في الهند مقاليد الحكم في نيودلهي، واتضح أنه كان من معارف المهراجا هاري سينج القدامى؛ فقد خدما معا في طاقم موظفي أمير ويلز أثناء زيارته الهند عام 1921-1922. في الأسبوع الثالث من يونيو عام 1947 - بعد اتخاذ قرار تقسيم الهند - انطلق اللورد ماونتباتن إلى كشمير؛ «بغية استباق نهرو وغاندي إلى ذلك على الأرجح».
11
فقد كان يريد أن يقيم بنفسه الوجهة التي قد تتخذها الولاية. في سريناجار، التقى نائب الملك بكاك ونصحه بأن يخبر المهراجا بالانضمام إلى أي من الدومنيونين، لكن المهم أن ينضم، فأجابه رئيس الوزراء متحديا بأن كشمير تنوي البقاء مستقلة.
12
ثم حدد نائب الملك موعدا للقاء المهراجا في جلسة خاصة. وفي اليوم المحدد - الذي كان آخر أيام زيارة ماونتباتن - لم يبارح هاري سينج فراشه متعللا بمغص مفاجئ، والأرجح أن تلك كانت حيلة لتجنب ما كان من شأنه أن يكون لقاء غير سار بالتأكيد.
13
أخبر نهرو ماونتباتن أنه «في رأيي الشخصي، لم تكلل زيارتك إلى كشمير بالنجاح». وقد أراد أن يذهب إلى هناك ويحل ذلك المأزق السياسي بنفسه. غاندي أيضا كان يرغب في الذهاب. وكما هو متوقع، لم يكن هاري سينج يرغب في مجيء أي منهما.
14
في النهاية، كان نهرو منشغلا بأمور أخرى، فذهب غاندي عوضا عنه، وبناء على طلب المهراجا، لم يخطب في أي مجالس عامة خلال الأيام الثلاثة التي قضاها في سريناجار، ولكنه التقى وفودا من العمال والطلاب طالبوا بالإفراج عن عبد الله، وإقالة رئيس الوزراء كاك من منصبه.
15
ويوم 15 أغسطس، لم تكن ولاية جامو وكشمير قد انضمت لأي من الهند أو باكستان، فقد عرضت أن توقع «اتفاقية تجميد الوضع» مع البلدين على حد سواء، مع إتاحة حرية انتقال الأشخاص والبضائع عبر الحدود. وقعت مع باكستان الاتفاقية، ولكن الهند قالت إنها ستنتظر وتراقب الوضع، إلا أنه في منتصف شهر سبتمبر علقت خدمة السكك الحديدية بين سيالكوت في البنجاب الغربية وجامو، وأوقفت حركة الشاحنات المحملة بالبضائع المتجهة إلى الولاية على الجانب الباكستاني من الحدود.
16
وإذ تدهورت العلاقات مع باكستان، أقال المهراجا رئيسي وزراء واحدا تلو الآخر؛ فأولا استعيض عن كاك بضابط يدعى جاناك سينج، ثم حل محله بدوره قاض سابق من محكمة البنجاب العليا - ميهر تشاند ماهجان - كانت علاقته أفضل بزعماء حزب المؤتمر. ومن بين هؤلاء الزعماء كان الزعيمان الأكبران الفائقا الأهمية: رئيس الوزراء جواهر لال نهرو (الذي كان ينحدر هو نفسه من أصول كشميرية)، ووزير الداخلية ووزير الولايات فالابهاي باتيل. من الجدير بالذكر أنه بينما كان نهرو يرغب دائما في أن تكون كشمير جزءا من الهند، مال باتيل في وقت ما للسماح لها بالانضمام إلى باكستان، ثم غير رأيه يوم 13 سبتمبر، عندما قبلت حكومة باكستان انضمام جوناجاد، من منطلق أنه «إذا كان بإمكان جناح أن يبسط نفوذه على ولاية ذات أغلبية هندوسية حاكمها مسلم، فلماذا لا يهتم السردار بولاية ذات أغلبية مسلمة وحاكم هندوسي؟»
17
وفي 27 سبتمبر 1947، كتب نهرو رسالة طويلة إلى باتيل عن الحالة «الخطيرة والمتردية» في الولاية. كان قد نمى إلى علمه أن باكستان تعد العدة لإرسال متسللين «لدخول كشمير بأعداد كبيرة». لم يكن بإمكان المهراجا وإدارته التصدي لذلك الخطر بمفردهما، ومن ثم كانت الحاجة إلى «التآلف مع حزب المؤتمر الوطني حتى يتوفر ذلك الدعم الشعبي في مواجهة باكستان». وكان من شأن الإفراج عن عبد الله وتطويع أتباعه أن يساعد على «تحقيق انضمام كشمير إلى الاتحاد الهندي».
18
يوم 29 سبتمبر، أطلق سراح الشيخ عبد الله. وفي الأسبوع التالي - في خطاب ألقي في مسجد حضرة بال بسريناجار - طالب عبد الله «بنقل السلطة كاملة إلى شعب كشمير، ومن ثم يقرر ممثلو الشعب في كشمير الديمقراطية ما إذا كانت الولاية ستنضم إلى الهند أم باكستان». وأضاف أن الحكومة الشعبية في كشمير «لن تكون حكومة أي طائفة بمفردها، وإنما ستكون حكومة مشتركة بين الهندوس والسيخ والمسلمين. وهذا ما أحارب من أجله».
19
بطبيعة الحال، توقعت باكستان أن كشمير - بأغلبيتها المسلمة - سوف تنضم إليها. أما الهند فاعتبرت العامل الديني غير ذي أهمية، لا سيما إذا كان الحزب السياسي الرئيسي - حزب المؤتمر الوطني - معروفا عنه أنه غير طائفي. وبحلول مطلع شهر أكتوبر - حسبما كتب باتيل إلى نهرو - لم يكن ثمة «اختلاف بيني وبينك بشأن مسائل السياسة المتعلقة بكشمير»؛ فكلاهما رغب في ضمها.
20
ما كانت مشاعر أهل كشمير أنفسهم؟ بعد إطلاق سراح عبد الله بفترة وجيزة، ذكر القائد البريطاني لقوات الولاية أن «السواد الأعظم من أهل كشمير ليس لديهم تحيز قوي سواء للهند أو باكستان»، إلا أنه على الرغم من «عدم وجود كيان حسن التنظيم في كشمير يناصر انضمامها إلى باكستان»، فإن «المؤتمر الوطني الكشميري لطالما كان مؤيدا للمؤتمر الوطني الهندي ومعاديا لباكستان».
21
أما عن المهراجا هاري سينج، فقد ظل متشبثا بحلم الاستقلال. ويوم 12 أكتوبر، قال نائب رئيس وزراء ولاية جامو وكشمير في دلهي:
ننوي أن نبقي على علاقات ودية مع كل من الهند وباكستان. وعلى الرغم من الإشاعات المستمرة بهذا الصدد، فلا نية لدينا للانضمام إلى أي من الهند وباكستان ... الشيء الوحيد الذي قد يغير رأينا هو إذا قرر أحد الطرفين استخدام القوة ضدنا ... فقد أخبرني المهراجا أنه يطمح أن يجعل كشمير سويسرا الشرق؛ أي دولة محايدة تماما.
22
2 «الشيء الوحيد الذي قد يغير رأينا هو إذا قرر أحد الطرفين استخدام القوة ضدنا.» بعد نطق تلك الكلمات بأسبوعين، غزت قوة مكونة من عدة آلاف رجل مسلح الولاية من الشمال. وفي يوم 22 أكتوبر، عبروا الحدود الفاصلة بين المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية وكشمير، وتوجهوا إلى العاصمة سريناجار دون إبطاء.
كان معظم هؤلاء الغزاة بشتونيين قادمين مما كان آنذاك مقاطعة باكستانية. لا خلاف حول ما ذكرناه حتى الآن. أما ما ليس مؤكدا، فهو لماذا جاءوا؟ أو من كان معاونهم؟ هذان السؤالان هما محور النزاع بشأن كشمير؛ فبعد ستين عاما، لا يزال المؤرخون عاجزين عن تقديم إجابات شافية. كان أحد أسباب ذلك الغزو هو أن الطرف الشمالي من كشمير كان منعزلا ويصعب الوصول إليه؛ حيث لم يكن ثمة سكك حديدية ولا طرق تشق تلك الجبال، ولم يذهب إليها علماء أنثروبولوجيا ولا حتى صحفيون؛ لذا لم يكن ثمة شهود عيان مستقلون على ما صار يطلق عليه «الغزو القبلي لكشمير».
إلا أنه ثمة روايات كثيرة متحيزة لجانب أو آخر؛ ففي ذلك الوقت - وفيما بعد - اعتقد الهنود أن باكستان هي التي دفعت القبائل عبر الحدود، وأنها كانت تمدهم أيضا بالبنادق والذخيرة. نفى الباكستانيون ضلوعهم في الغزو بأي شكل من الأشكال؛ فقد أصروا على أن ذلك كان اندفاعا «عفويا» للمسلمين البشتونيين للذود عن إخوانهم في الدين الذين يضطهدهم الملك الهندوسي والإدارة الهندوسية.
23
وقد ثار سخط في جزء من كشمير بالفعل، وذلك في منطقة بونش غربي العاصمة سريناجار؛ فحتى عام 1936 كانت بونش تحكمها عشيرة متفرعة عن أسرة دوجرا الحاكمة، ولكن في ذلك العام أصبحت المنطقة تحت السيطرة المباشرة للمهراجا في سريناجار. فتضررت من فقدان استقلالها، كما تضررت من الضرائب الجديدة التي فرضها المهراجا؛ إذ فرضت ضرائب محلية على ماعز الأفراد وخرافهم وماشيتهم، إضافة إلى ضريبة فرضت على دخول الغابة، فكان أكثر المتضررين هم الرعاة في بونش، الذين كان أكثرهم مسلمين.
24
وأثناء الحرب العالمية الثانية، خدم كثير من مسلمي بونش في الجيش البريطاني، فرجعوا من الحرب وقد اكتسبوا قدرا وافرا من الوعي السياسي، كحالة الجنود بعد تسريحهم من الجيش عادة. وكان حكم مهراجا كشمير قد واجه تحديا بالفعل في الوادي من الشيخ عبد الله وحزبه، وأضيف إلى ذلك تحد منفصل تمثل في رجال بونش.
ويوم 14 أغسطس، رفعت متاجر ومكاتب عدة في بونش الأعلام الباكستانية، معلنة ولاءها لها عوضا عن ولاية كشمير، التي كانت ما زالت غير تابعة لأي من البلدين. فسجل خلال الأسابيع التالية وقوع اشتباكات بين قوات دوجرا والمتظاهرين من أهل المنطقة. وبحلول بداية سبتمبر، كان عشرات من رجال بونش قد سلحوا أنفسهم ببنادق حصلوا عليها من «مصادر غير رسمية في باكستان»، وأنشئوا أيضا قاعدة في بلدة مري الباكستانية؛ حيث جمعت الأسلحة والذخيرة بغية تهريبها إلى كشمير عبر الحدود. وتقر الروايات الباكستانية لتلك الواقعة بأن كلا من رئيس الوزراء لياقت علي خان، وميان افتخار الدين - أحد كبار زعماء العصبة الإسلامية في البنجاب - كانا على علم بالمساعدات المقدمة لأهل بونش وأقراها. وقد أشرف على العملية عقيد في الجيش الباكستاني يدعى أكبر خان. كان خان قد جمع 4 آلاف بندقية من مخزون الجيش وحولها إلى الاستخدام في كشمير. الأغرب من ذلك أنه انتحل أثناء الحرب الاسم المستعار «الجنرال طارق»، تيمنا بمحارب أسطوري من المور قاتل المسيحيين في إسبانيا في العصور الوسطى.
25
وفي بونش، كان الموظفون والجنود المسلمون قد تركوا وظائفهم في الإدارات الحكومية وانضموا إلى صفوف المتمردين. وبحلول نهاية سبتمبر، لاحت بوادر نزاع خطير بين إحدى مناطق المعارضة وحكومة المهراجا هاري سينج، إلا أنه على الرغم من وقوع صدامات من حين لآخر، لم تندلع أعمال عنف كبيرة، ولم يحدث التحام مباشر. كانت بونش تقع على حدود غرب البنجاب؛ فكان بلوغ مدن باكستانية مثل راولبندي يسيرا من هناك، إلا أن المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية تبعد مسافة إلى الغرب؛ فهل سمع الغزاة من تلك المنطقة بالتمرد الذي كان يختمر في بونش، أم أنهم كانوا ينتوون المجيء على أي حال؟
تلك الأسئلة بدورها ليس في إمكان المرء تقديم إجابات شافية عليها، فكل ما نعرفه على وجه التأكيد هو أن الغزاة البشتونيين بعدما عبروا الحدود يوم 22 أكتوبر تقدموا بسرعة ملحوظة في زحفهم صوب الجنوب. وقد كتب المؤرخ مايكل بريشر يقول: «السمات الرئيسية للغزاة كانت تكتيكاتهم المفاجئة، وغياب أبسط صور الدفاع لدى جيش ولاية كشمير، والسلب والنهب والسطو الذي أعملوه في الهندوس والمسلمين على حد سواء.» أو مثلما عبر عنها باقتضاب أخصائي اجتماعي بريطاني خبير بكشمير، فقد ارتأى الغزاة البشتونيون «فرصة للتحلي بالفضيلة الدينية وكسب الغنيمة الوفيرة».
وما إن بلغ البشتونيون كشمير حتى تحركوا بسرعة إلى جنوب وادي جيلوم؛ فكانت محطتهم الأولى هي بلدة مظفر أباد المطلة على نهر كيشانجانجا، على بعد سبعة أميال فحسب من الحدود، وهناك كان مقر كتيبة مشاة من جيش جامو وكشمير، ولكنها كانت منقسمة إلى نصفين؛ إذ أعلن نصف الرجال - مسلمو بونش - عن سخطهم على المهراجا آنذاك، فسقطت الحامية، ولكن ليس قبل أن يفر بعض رجالها ويتصلوا بسريناجار هاتفيا للإبلاغ عما حدث، فأتاح ذلك للقائم بأعمال قائد قوات الولاية - العميد راجيندر سينج - أن يجمع مائتي رجل وينطلق صوب أوري - وهي بلدة تقع قرابة منتصف الطريق بين سريناجار ومظفر أباد.
كان الغزاة في طريقهم إلى أوري أيضا، ولكن العميد راجيندر سينج وصل إلى هناك أولا، ونسف الجسر الذي يربط البلدة بالشمال على سبيل الاحتياط، فعطل ذلك الإجراء الغزاة ثماني وأربعين ساعة، ولكنهم تمكنوا في النهاية من عبور النهر وسحق معظم رجال العميد. ومن أوري اتجهوا إلى موقع محطة الكهرباء التي كانت تغذي الوادي بالطاقة، فأطفئوا مفاتيح التشغيل مغرقين سريناجار في ظلام دامس.
26
لا ينبغي أن نندهش من التباين في تقديرات أعداد الغزاة؛ فوفقا لبعض التقديرات لم يزد عددهم عن ألفين، ووفقا لتقديرات أخرى بلغ عددهم 13 ألفا. ما نعرفه هو أنهم كانت في حيازتهم بنادق وقنابل يدوية، وأنهم تنقلوا في شاحنات. وقد لقي غزوهم لكشمير تشجيعا صريحا من عبد القيوم؛ رئيس وزراء المقاطعة الحدودية الشمالية الغربية، بينما غض الحاكم البريطاني السير جورج كانينجهام الطرف عما يحدث، وكذلك فعل الضباط البريطانيون الذين كانوا يخدمون في الجيش الباكستاني. وقد ذكر الأمريكي مدون سيرة جناح أن: «الشاحنات والبنزين والسائقين لم يكونوا من عتاد القبائل التقليدية البتة، وقد نفذت عملية أكتوبر العنيفة التي أملت باكستان على ما يبدو في أن تمثل المحرك لانضمام كشمير إلى باكستان بعلم وتأييد الضباط البريطانيين، وكذلك المسئولين الباكستانيين على طول الطريق الباكستاني الشمالي الذي سلكته القبائل، حتى وإن لم ينظموها ويحرضوا عليها فعليا.»
27
ما إن سيطر الغزاة على محطة الكهرباء يوم 24 أكتوبر حتى سلكوا الطريق المفتوح المؤدي إلى سريناجار. وفي طريقهم كانت بلدة بارامولا، وهناك - لأول مرة - يمكننا استقاء روايتنا لما حدث من شهود عيان، فقد رأى مدير بريطاني لإحدى شركات الأخشاب في بارامولا الغزاة قادمين «بإمدادات وفيرة من الشاحنات والوقود والذخيرة، وكان لديهم أيضا مدافع هاون من عياري بوصتين وثلاث بوصات ». سرق من ذلك المدير 1500 روبية كان قد سحبها لتوه من البنك.
وكان الهدف التالي هو دير سان جوزيف، فهناك دمر الغزاة الأجهزة الموجودة في المستشفى، وأطلقوا النار على رئيسة الراهبات وأصابوها، وقتل عقيد كان مقيما في ذلك المجمع على الفور. وأفادت إحدى الروايات أن الراهبات أوقفن صفا استعدادا لرميهن بالرصاص، ولكن رجلا أفريديا كان قد درس في مدرسة رهبان في بيشاور أوقف رجاله قبل أن يضعوا اللمسات الأخيرة في مهمتهم.
28
كتب ألاستير لام، أحد مؤرخي نزاع كشمير يقول: «لا شك أن سلوك البشتونيين طريق الحرب كان نذير شؤم لمن يقعون في طريقهم.» وقد أخبرنا بأنه إلى جانب الهجوم على الدير، أحرق البشتونيون أيضا متاجر كان يمتلكها الهندوس والسيخ، ويقول لام إنهم فعلوا «ما يمكن توقعه من محاربين منخرطين فيما اعتبروه جهادا أو حربا مقدسة».
29
إلا أن جشعهم طغى قطعا على هويتهم الدينية في بارامولا؛ فقد «تهجموا على ديار مسلمي كشمير المسالمين أيضا، فسلبوا ديارهم ونهبوها، واغتصبوا فتياتهم الصغيرات. وقد ترددت أصداء صرخات الفزع والألم لهؤلاء الفتيات في جميع أنحاء بلدة بارامولا».
30
مثلت أحداث بارامولا كارثة استراتيجية ودعائية بالنسبة إلى الغزاة، فقد أثبتت أنه «ما إن يزول التعصب المبدئي للجهاديين حتى لا يتبقى سوى حافز النهب»، فآنذاك كان ثمة «اندفاع لملء الشاحنات بالغنائم من أسواق كشمير وإرسالها إلى ديارهم في وزيرستان».
31
وقد أضاع الغزاة بتوقفهم للسرقة والنهب الهدف الرئيسي الذي كان نصب أعينهم، وهو: إسقاط سريناجار، وهم بهجومهم على المسلمين إضافة إلى الهندوس، قوضوا زعمهم أنهم يحاربون حربا مقدسة. وكان مما ألحق ضررا كبيرا بموقفهم أنه من ضمن من قتلوا كان قساوسة مسيحيين «خيرين» لا شأن لهم بالسياسة، وأنه كان ثمة مراسل بريطاني في الجوار أخذ شهادة الناجين.
32
ويوم 24 أكتوبر - بينما كان البشتونيون في طريقهم من أوري إلى بارامولا - أبرق المهراجا هاري سينج إلى الحكومة الهندية طلبا للمساعدة العسكرية . في صبيحة اليوم التالي، اجتمعت لجنة الدفاع الحكومية في نيودلهي وقررت انتداب في بي مينون لتفقد الأوضاع فورا، فسافر مينون في وقت لاحق من ذلك اليوم إلى سريناجار، وعندما هبطت طائرته في المطار انتابته حالة من «الكآبة من سكون المقابر المحيط به من كل مكان، فقد خيم على الأجواء نذير نكبة وشيكة». فاتجه فورا إلى منزل ميهر تشاند ماهجان وعرف أن الغزاة في بارامولا على بعد أقل من خمسين ميلا، والتقى المهراجا أيضا ونصحه بأن يلوذ إلى جامو.
وصباح يوم 26 أكتوبر، عاد مينون إلى دلهي، بصحبة رئيس وزراء كشمير. اجتمعت لجنة الدفاع مرة أخرى. كان من ضمن الحاضرين - إلى جانب ماونتباتن ونهرو وباتيل - الشيخ عبد الله، الذي صادف أن كان موجودا في دلهي ذلك اليوم، فألح هو وماهجان على أن ترسل الهند قوات لصد الغزاة فورا، إلا أن ماونتباتن اقترح أنه من الأفضل ضمان انضمام هاري سينج إلى الهند قبل تخصيص أي قوات للدفاع عنه.
وقتها ذهب مينون إلى جامو حيث لجأ المهراجا، وعندما وصل إلى القصر «وجد الفوضى ضاربة أطنابها، وقد بعثرت المقتنيات الثمينة في جميع أنحاء القصر». كان المهراجا نائما، بعد ليلة أمضاها على الطريق من سريناجار، فأوقظ وقبل الانضمام على الفور للاتحاد الهندي. وعاد مينون بصك الانضمام الموقع إلى دلهي.
33
أقلعت أول طائرة إلى سريناجار من دلهي فجر يوم 27 أكتوبر حاملة على متنها القوات والعتاد، وانطلقت ثمان وعشرون طائرة داكوتا إجمالا إلى سريناجار ذاك اليوم. وفي الأيام التالية، غادرت دلهي أكثر من مائة طائرة تجاه الوادي محملة بالجنود والإمدادات، وعائدة باللاجئين والجرحى.
34
كانت بعض الطائرات المتجهة إلى سريناجار يوم 27 أكتوبر ملكا للجيش أو القوات الجوية، والبعض الآخر صادرته الحكومة من شركات الطيران الخاصة. وحسبما ذكر ضابط استقل إحدى طائرات الركاب تلك: «انتزعت التجهيزات الفاخرة، واقتلعت المقاعد الوثيرة من مكانها، وفي غضون دقائق صعدت قوات مسلحة تسليحا كاملا على متن الطائرات، بقدر سعة الطائرة.» طاروا فوق البنجاب؛ حيث شاهدوا «سلاسل طويلة من قوافل اللاجئين أسفلهم»، و«بقايا حريق في منزل أو قرية هنا وهناك»، وهبطوا في مطار سريناجار حيث استقبلهم «أصوات أسلحة صغيرة ونيران مدافع آلية».
35
بوصول القوات إلى الوادي ، تنفس رئيس الوزراء الهندي الصعداء؛ فقد كتب إلى أخته قائلا: «لو كنا ترددنا وتأخرنا يوما واحدا، لربما صارت سريناجار حطاما محترقا؛ فقد وصلنا هناك في الوقت المناسب تماما.» وكان يظن أنهم نجحوا في:
إبقاء باكستان بمنأى عن كشمير؛ فقد اتفقنا على أن مستقبل كشمير لا بد أن يقرره أهلها. وفي الوقت نفسه، عهد إلى الشيخ عبد الله بتشكيل وزارة. من ناحيتي، لا أمانع في أن تكون كشمير مستقلة إلى حد ما، ولكنها كانت ستكون ضربة قاسية إذا صارت مجرد جزء خاضع لاستغلال باكستان.
36
كان المشهد مختلفا تماما على الجهة المقابلة؛ فقد استشاط حاكم باكستان العام غضبا عندما بلغته أنباء وصول القوات الهندية إلى سريناجار. احتسى جناح أولا عدة أقداح من البراندي لتشد أزره، ثم أمر قادته بتسيير قواتهم إلى كشمير.
37
رفض قائد الجيش البريطاني الانصياع إلى ذلك الأمر، فظلت القوات الباكستانية خارج النزاع مؤقتا، وإن ظل ضباطها على اتصال وثيق بالغزاة.
عندما نزلت القوات الهندية سريناجار، كان المهراجا قد غادرها بالفعل، كما لم يكن ثمة وجود يذكر لإدارته؛ فقد اختفت الشرطة وحل محلها متطوعون من حزب المؤتمر الوطني الكشميري، تولوا حراسة الشوارع والجسور، والإشراف على حركة الناس والبضائع بصفة عامة. وقد أقر صحفي قام بتغطية أحداث العنف في البنجاب بالتالي: «لم أكن أتوقع مشاهد الود، بل الأخوة المذهلة التي رأيتها في سريناجار، فقد تنقل الهندوس والسيخ دون تحرج في أرجاء البلدة بين المسلمين الذين مثلوا أغلبية السكان؛ وساروا معهم جنبا إلى جنب في شوارع سريناجار متطوعين منخرطين في مهمة مشتركة.»
38
وتذكر مراسل آخر العلاقة الهانئة بين حزب المؤتمر الوطني الكشميري والجيش، التي رمزت إليها الجولات التي قام بها الشيخ عبد الله وقائد القوات اللواء ثيمايا معا.
39
وبينما راح الهنود يستعدون لصد الغزاة، سافر اللورد ماونتباتن إلى لاهور في بعثة سلام، وعقد اجتماعا مشحونا بالجدل مع جناح في أول نوفمبر 1947، قيل له فيه إن الهند إذا تخلت عن المطالبة بكشمير، فسوف تتخلى باكستان عن المطالبة بولاية جوناجاد المتنازع عليها. ووصف جناح انضمام كشمير إلى الهند بأنه قائم على «الاحتيال والعنف»، فأشار ماونتباتن إلى أن العنف جاء من طرف الغزاة الذين كانوا مواطنين باكستانيين، وأنه يعرف تمام المعرفة أن المهراجا هاري سينج أراد الاستقلال، وأنه أجبر على الانضمام إلى الهند فقط بعد الهجوم على ولايته، فرد جناح قائلا إن المهراجا جلب الوبال على نفسه بإساءته معاملة مسلمي بونش.
40
وفي ذلك الحين، كان الجيش الهندي قد طوق سريناجار، فآنذاك كان ثمة 4 آلاف جندي في موقعه مسلحين بمدافع آلية، وبذلك كفل أمن المدينة.
41
وبخروج سريناجار من دائرة الخطر، بدأ الهنود يطهرون أجزاء أخرى من الوادي من الغزاة، فوضعوا أيديهم على بارامولا يوم 8 نوفمبر، وسقطت محطة الكهرباء بعد أربعة أيام، في الوقت المناسب لإنقاذها من التفجير، وسقطت بلدة أوري في اليوم التالي.
42
وبحلول فصل الشتاء، علقت العمليات العسكرية مؤقتا، فعاد الانتباه مرة أخرى إلى الشئون الداخلية لكشمير. كان ماهجان ما زال رئيسا للوزراء، ولكنه كان يتلقى مساعدة نشطة من زعماء حزب المؤتمر الوطني الكشميري. وفي يوم 11 نوفمبر كتب نهرو إلى هاري سينج طالبا منه أن يضع «ثقته الكاملة» في الشيخ عبد الله؛ أي أن يوليه الإدارة رسميا عوضا عن ماهجان؛ فقد أصر نهرو على أن: «الشخص الوحيد القادر على تحقيق المرجو في كشمير هو الشيخ عبد الله؛ إذ من المفروغ منه أنه الشخصية الشعبية الرائدة في كشمير. وقد ثبتت طبيعة ذلك الرجل حين هب للتعامل مع الأزمة، وأنا أقدر نزاهته ورجاحة عقله بصفة عامة؛ فقد اجتهد وحقق نجاحا باهرا في حفظ السلام المجتمعي. قد يخطئ كثيرا فيما يتعلق بصغائر الأمور، ولكني أرجح أنه سيكون مصيبا فيما يتعلق بالقرارات الكبرى.»
43
وكان المهاتما غاندي يضاهيه في إعجابه بالشيخ عبد الله؛ ففي الأسبوع الأخير من نوفمبر 1947، زار عبد الله دلهي، حيث رافق غاندي في اجتماع عقد احتفالا بذكرى مولد جورو ناناك؛ مؤسس العقيدة السيخية، وأخبر غاندي جموع الحاضرين التالي:
إنكم ترون الشيخ عبد الله إلى جواري. كنت متحرجا من إحضاره معي، لعلمي بوجود شقاق كبير بين الهندوس والسيخ من ناحية، والمسلمين من ناحية، ولكن الشيخ عبد الله - المعروف بأسد كشمير - على الرغم من أنه مسلم حقا - قد فاز بقلوب الطائفتين الأخريين؛ إذ أنساهم أنه ثمة فرق بين الطوائف الثلاث ... وعلى الرغم من مقتل المسلمين على أيدي الهندوس والسيخ في جامو في الآونة الأخيرة، فقد ذهب إلى جامو ودعا الآثمين إلى نسيان الماضي والتوبة عما اقترفته أيديهم. استمع إليه الهندوس والسيخ، والآن صار المسلمون والهندوس والسيخ ... يقاتلون معا دفاعا عن وادي كشمير الجميل.
44
بالنسبة إلى غاندي ونهرو على حد سواء، كان الشيخ عبد الله قد أصبح رمزا للعلمانية، وممارسا لتناغم الديانات، ومثلت أعماله في كشمير نفيا قاطعا لنظرية الدولتين. وفي المقابل، نعت رئيس الوزراء الباكستاني - لياقت علي خان - عبد الله مزدريا ب «الخائن». وفي 27 نوفمبر، التقى خان نهرو في دلهي، وقام ماونتباتن مقام الحكم بينها. وعندما اقترح إجراء استفتاء للخروج من الأزمة، صرح خان بأنه أولا «ينبغي إنشاء إدارة جديدة كليا في كشمير يقبلها شعب باكستان باعتبارها محايدة».
45
آنذاك كان نهرو يرى أن الهند يجب أن تصل إلى «قرارات سريعة وحاسمة إلى حد بعيد مع حكومة باكستان بشأن كشمير»؛ فاستمرار العمليات العسكرية كان معناه «تعريض سكان الولاية لمحن ومعاناة شديدتين». ووضع نهرو في رسالة إلى المهراجا هاري سينج ملامح الصور المختلفة التي يمكن أن تتخذها التسوية؛ فذكر احتمال إقامة استفتاء شعبي للولاية بأكملها لتحديد إلى أي دومنيون تنضم، أو أن تظل الولاية كيانا مستقلا يضمن الدفاع عنه كل من الهند وباكستان. أما الخيار الثالث، فكان التقسيم؛ بانضمام جامو إلى الهند، وبقية الولاية إلى باكستان. وتضمن خيار رابع بقاء جامو والوادي مع الهند، مع التنازل عن بونش وما وراءها إلى باكستان. كان نهرو ذاته ميالا لذلك الخيار الأخير؛ فقد رأى أنه في بونش «من المرجح أن تعارض غالبية السكان الاتحاد الهندي»، ولكنه كان راغبا عن التخلي عن وادي كشمير؛ معقل حزب المؤتمر الوطني الكشميري، الذي بدا سكانه ميالين إلى الهند؛ فقال نهرو للمهراجا في رسالة إنه من وجهة نظر الهند :
بقاء كشمير داخل الاتحاد الهندي ذو أهمية حيوية ... ولكن مهما رغبنا في ذلك، فلا يمكنه أن يتحقق في النهاية دون رضا جموع الشعب، حتى إن سيطرت القوات العسكرية على كشمير لفترة، وقد تأتي عاقبة ذلك لاحقا في صورة رد فعل قوي مضاد. إذن تلك مشكلة تتعلق في جوهرها بالتقرب النفسي من جموع الشعب، وإشعارهم بأنهم سيفيدون من التواجد في الاتحاد الهندي؛ إذا شعر المسلم العادي بأنه لا موضع آمن أو مضمون له في الاتحاد، فمن البديهي أنه سيبحث عنه في مكان آخر؛ فلا بد أن تبقي سياستنا الأساسية ذلك نصب عينيها، وإلا فشلنا.
46
تلك الرسالة التي كتبها نهرو لم تنل الشهرة التي تستحقها؛ فقد استبعدت (لسبب ما) من «الأعمال المختارة» لنهرو، ووجدت في مراسلات فالابهاي باتيل، الذي كان قد أرسل إليه نسخة منها؛ إذ تظهر تلك الرسالة - على عكس الفكرة الراسخة في الأذهان - أن رئيس الوزراء الهندي كان مستعدا إلى حد بعيد للوصول إلى تسوية بشأن كشمير. والواقع أن الخيارات الأربعة التي وضعها في ديسمبر 1947 لا تزال هي الخيارات الأربعة قيد النقاش حتى يومنا هذا.
3
يوم 1 يناير من عام 1948، قررت الهند رفع مسألة كشمير إلى الأمم المتحدة؛ وذلك بناء على نصيحة الحاكم العام اللورد ماونتباتن؛ فمنذ انضمام كشمير إلى الهند، أرادت الهند طلب المساعدة من الأمم المتحدة في تطهير المناطق الشمالية مما قالت إنه احتلال غير قانوني من جماعات موالية لباكستان.
47
خلال شهري يناير وفبراير، عقد مجلس الأمن عدة جلسات بشأن كشمير، واستطاعت باكستان - التي مثلها الخطيب عظيم الموهبة السير ظفر الله خان - أن تقدم حجة أقوى بكثير من الهند؛ حيث أقنع خان الوفود الحاضرة بأن الغزو كان نتيجة لأحداث الشغب المأساوية التي اندلعت في شمال الهند عامي 1946 و1947، وأنه كان رد فعل «طبيعيا» من المسلمين لمعاناة أشقائهم. واتهم الهنود بارتكاب «إبادة جماعية» في شرق البنجاب؛ إذ أجبروا 6 ملايين مسلم على الفرار إلى باكستان؛ فأعيدت صياغة مسألة كشمير باعتبارها جزءا من ذيول مسألة التقسيم. وقد منيت الهند بهزيمة رمزية منكرة عندما غير مجلس الأمن بند جدول الأعمال من «مسألة جامو وكشمير» إلى «مسألة الهند وباكستان».
عندها اقترحت باكستان انسحاب القوات المسلحة كافة المرابطة في الولاية، وإجراء استفتاء في ظل «إدارة مؤقتة محايدة». والمفارقة أن باكستان كانت قد رفضت فكرة إجراء الاستفتاء في حالة جوناجاد، وكان رأي جناح آنذاك أن إرادة الحاكم هي التي ستقرر أي دومنيون تنضم إليه الولاية الأميرية. في المقابل، أحالت الهند المسألة إلى الإرادة الشعبية؛ إذ بعد أن اتبعت ذلك النهج في جوناجاد، لم تستطع التنصل من الأمر بسهولة في كشمير، إلا أن الحكومة الهندية أصرت على أن الاستفتاء الشعبي يمكن إجراؤه في ظل إدارة حزب المؤتمر الوطني الكشميري، التي كان زعيمها الشيخ عبد الله؛ «الزعيم السياسي الأكثر شعبية في الولاية».
48
وهذا ما قاله الشيخ عبد الله نفسه عندما ألقى خطبة في الأمم المتحدة يوم 5 فبراير 1948، حيث كان حديثه - على حد تعليق أحد المراقبين - «صريحا مباشرا خاليا من اللغة الدبلوماسية». فقد أخبر مجلس الأمن أنه «ما من قوة على الأرض يمكن أن تعزلني من منصبي [في كشمير]؛ فما دام الناس يقفون ورائي فلن أبارحه».
49
وكانت السمة المميزة للمحادثات التي أجريت في الأمم المتحدة بشأن كشمير هي تحيز بريطانيا؛ فقد عضد ممثلها - فيليب نويل-بيكر - الموقف الباكستاني بقوة. وقد أورث ذلك التحيز البريطاني الهنود سخطا بالغا؛ إذ رآه البعض من مخلفات أيام الاحتلال، أو تحولا من مساندة العصبة الإسلامية إلى مساندة باكستان، والبعض الآخر رأى أنه تعويض عن إقامة دولة إسرائيل حديثا، وما استتبعه من حاجة لاسترضاء المسلمين في جميع أنحاء العالم. وتمثلت الفرضية الثالثة في أنه في المعركة التالية مع روسيا السوفييتية، كان المتوقع أن تكون باكستان حليفا يعتمد عليه أكثر؛ فقد كانت باكستان تحظى بموقع أفضل أيضا؛ إذ توفر مدخلا يسيرا إلى القواعد الجوية البريطانية في الشرق الأوسط.
50
وفي الأسبوع الأول من مارس 1948، كتب محرر صحيفة «صنداي تايمز» إلى نويل- بيكر قائلا:
في المعركة العالمية من أجل الشيوعية وضدها، تحتل كشمير مكانة أهم مما يدرك معظم الناس ؛ فهي الركن الوحيد الذي يلامس فيه الكومنولث البريطاني الاتحاد السوفييتي فعليا، وهي وتر حساس غير متوقع في نطاق حوض المحيط الهندي يتوقف أمن الكومنولث كله، بل العالم أجمع، على الحفاظ عليه.
51
بحلول ذلك الوقت، كان نهرو نادما أشد الندم على لجوئه إلى الأمم المتحدة؛ فقد صدمه - حسبما قال لماونتباتن - اكتشافه أن «سياسات القوة وليس الأخلاق» هي التي تحكم منظمة «سيطر عليها الأمريكيون تماما»، الذين - على غرار البريطانيين - «لم يتحرجوا من إبداء تعاطفهم مع القضية الباكستانية».
52
وداخل مجلس الوزراء، تنامت الضغوط الداعية إلى استئناف الأعمال العدائية، وطرد الغزاة من شمال كشمير، ولكن هل كان ذلك ممكنا من الناحية العسكرية؟ فقد قال جنرال بريطاني خدم لسنوات في شبه القارة الهندية محذرا:
قد تظل كشمير بمنزلة «حرب شبه الجزيرة الأيبيرية»؛ أي، مصدر استنزاف مستمر. أنا لم أجد هنديا على دراية بمدى استنزاف تلك الحرب لقوات نابليون وخزانته، وأحيانا أشعر أن الوزراء ينفرون من التفكير في احتمال حدوث مثل ذلك التطور في حالة كشمير. أشعر أنهم لا يزالون يؤثرون الظن بأن تلك المسألة قابلة للتسوية، في حملة حاسمة قصيرة، بضربات قاصمة تسددها القوات الهندية المتفوقة إلى حد بعيد التي ينبغي أن «تلقى» في كشمير.
53
في ذلك الوقت، حل الشيخ عبد الله في مارس 1948 محل ميهر تشاند ماهجان في منصب رئيس وزراء جامو وكشمير، ثم في منتصف مايو - عندما ذاب الجليد - استؤنفت الحرب. تقدمت فرقة مشاة من أوري باتجاه الشمال والغرب، فأسقطت بلدة تيثوال، ولكنها واجهت مقاومة شديدة في طريقها إلى بلدة مظفر أباد المهمة.
54
وعلى الجهة المقابلة من خط الحدود المتغير باستمرار، أشرفت باكستان على تكوين حكومة لآزاد كشمير (كشمير الحرة)، وتشكيل جيش لها، قوامها رجال من تلك الأجزاء من الولاية، بمعونة وتوجيه من ضباط في الجيش الباكستاني، وكانت تلك القوات ماهرة في استغلال تضاريس المنطقة. وفي أواخر صيف 1948، استولت على بلدتي كارجيل ودراس، وصارت تهدد ليه - عاصمة لاداخ - التي تقع على ارتفاع 11 ألف قدم، إلا أن سرب طائرات تابع للقوات الجوية الهندية نجح في تزويد ليه بالإمدادات، وأغاث السرب أيضا بلدة بونش في الغرب، التي سيطر الغزاة على المناطق المحيطة بها.
55
ظل الجيشان يتقاتلان خلال الشهور اللاحقة من عام 1948، وفي نوفمبر استرد الهنود كلا من دراس وكارجيل، فصارت ليه ولاداخ في أمان مؤقتا. وفي الشهر ذاته، تحررت الهضاب المحيطة ببونش أيضا، إلا أن المناطق الشمالية والغربية من كشمير ظلت تحت سيطرة باكستان. أراد بعض قادة الجيش الهندي مواصلة الزحف، وطلبوا إعادة نشر ثلاث فرق من على السهول، فلم يلب طلبهم؛ أولا: كان الشتاء على الأبواب، وثانيا: لم يكن الهجوم سيتطلب إمدادات من القوات فحسب، وإنما غطاء جويا كبيرا أيضا.
56
ولعله كان خيرا أن أوقف الجيش الهندي زحفه؛ فكما علق آنذاك أحد الباحثين المتابعين لمسألة كشمير عن كثب: «إما أن تسوى المسألة بالتقسيم، وإما أن تضطر الهند إلى دخول غرب البنجاب؛ فلا يمكن اتخاذ قرار عسكري في كشمير نفسها أبدا.»
57
وفي الأمم المتحدة، عينت بعثة خاصة لكشمير أجرى أعضاؤها جولة مطولة في المنطقة، زاروا فيها دلهي وكراتشي وكشمير؛ في سريناجار، استضافهم الشيخ عبد الله في حدائق شاليمار الشهيرة. وفيما بعد أجرى حديثا طويلا مع أحد ممثلي الأمم المتحدة، الدبلوماسي والباحث التشيكي جوزيف كوربيل. وقد استبعد عبد الله خياري الاستفتاء الشعبي والاستقلال قائلا: إن «الحل الوحيد» هو تقسيم كشمير، وخلافا لذلك - بحسب قوله - «سيستمر القتال وسيطول الخلاف بين الهند وباكستان إلى ما لا نهاية، وتستمر معاناة شعبنا».
وفي سريناجار، ذهب كوربيل للاستماع إلى خطبة الشيخ عبد الله في المسجد. كان الحاضرون 4 آلاف «أعاروه انتباههم كاملا، وقد بدا إيمانهم وولاؤهم جليا في وجوههم. ولم نلحظ وجود الشرطة، التي كثيرا ما استخدمت لاستدرار الولاء». ثم زارت البعثة باكستان، وهناك عرفت أن باكستان لن تنظر في أي حل يمنح وادي كشمير - بأغلبيته المسلمة - للهند.
58
4
بحلول مارس 1948 كان الشيخ عبد الله قد صار أهم رجل في الوادي. كان هاري سينج ما زال الرئيس الشرفي للولاية - صار يحمل لقب «صدري رياست» - لكنه لم يعد يمتلك سلطات حقيقية، وأقصته حكومة الهند تماما من مباحثات الأمم المتحدة. من وجهة نظرهم كان رجلهم هو الشيخ عبد الله؛ فقد كان الشعور السائد أنه وحده دون غيره القادر على «إبقاء» كشمير للاتحاد الهندي.
في تلك المرحلة كان الشيخ عبد الله نفسه ميالا إلى التأكيد على الروابط بين كشمير والهند؛ فنظم في مايو 1948 أسبوعا من احتفالات «الحرية» في سريناجار دعا إليه قيادات الحكومة الهندية. وتضمنت الفعاليات أغاني شعبية، وقراءات شعرية، وتذكرة بالشهداء، وزيارات إلى مخيمات اللاجئين. وأثنى الزعيم الكشميري على «الروح الوطنية لشعبنا وقوات الاتحاد الهندي القتالية الباسلة». وأضاف: «إن معركتنا ليست شأن الشعب الكشميري فحسب، وإنما هي حرب كل ابن وابنة في الهند.»
59
في عيد الاستقلال الهندي الأول، أرسل عبد الله رسالة إلى «سواتنترا»، الصحيفة الأسبوعية الكبرى في مدراس. كانت الرسالة تنادي بتوحيد الشمال والجنوب، والجبال والسواحل، وفي المقام الأول انضمام كشمير بالكامل للهند. وإنها جديرة بذكرها كاملة هنا:
أود أن أوجه رسالة أخوة على صفحات «سواتنترا» إلى أهل الجنوب. في سجلات الهند التاريخية، التقى الجنوب والشمال على أرض كشمير؛ فقد جاء الشنكراتشاريا العظيم إلى كشمير لينشر فلسفته الديناميكية، ولكنه هزم هنا في جدال مع امرأة من البانديت. تمخض ذلك عن فلسفة كشمير الفريدة؛ الشيفية. ويقف نصب تذكاري للشنكراتشاريا العظيم في كشمير شامخا على هضبة شنكراتشاريا في سريناجار؛ وهو معبد يحوي تمثال شيفا.
بعد ذلك عهد إلى أحد أبناء الجنوب بمهمة رفع قضية كشمير إلى الأمم المتحدة، وكما تعلم الهند كلها، دافع عن كشمير بصمود وإصرار خليق بأبناء الجنوب.
نحن في كشمير نتوقع أن نستمر في تلقي دعم أهل الجنوب وتعاطفهم، وأننا يوما ما عندما نصف حدود بلدنا سنستخدم عبارة «من كشمير إلى رأس كومورين».
60
من جانبها، ردت صحيفة «سواتنترا» بنشر أنشودة غنائية عن وحدة الهند وكشمير، جاء فيها أن «دماء كثير من التاميليين والأندريين والمالاياليين والكورجيين البواسل روت تربة كشمير الخصبة ، وامتزجت بدماء الوطنيين الكشميريين لتحفظ وحدة الشمال والجنوب إلى الأبد». وذكرت الصحيفة أن خطب الشيخ عبد الله العصماء في العيد تلقى آذانا صاغية لدى جنود مسلمين كثر من كيرالا وتاميل نادو. وفي أوري على بعد ستين ميلا من سريناجار، كان ثمة قبر جندي مسيحي من ترافنكور، نقش عليه الصليب المعقوف للديانة الفيدية وآية قرآنية؛ إذ لم يكن ثمة «رمز أقوى وأشد تأثيرا من ذلك على وحدة الهند واتحادها الكاملين».
61
سواء كان ولاء عبد الله للهند أم لا، فهو لم يكن لباكستان بالتأكيد؛ ففي أبريل 1948 وصف باكستان بأنها «عدو متوحش عديم الضمير»،
62
واستهزأ بها باعتبارها دولة دينية، كما استهزأ بالعصبة الإسلامية باعتبارها «موالية للأمير» لا «موالية للشعب». فمن وجهة نظره، «القادة الهنود لا الباكستانيون ... وقفوا في صف حقوق سكان الولايات طيلة الوقت».
63
وعندما سأل أحد الدبلوماسيين في دلهي الشيخ عبد الله عن رأيه في خيار الاستقلال، أجاب بأنه لن ينجح أبدا؛ نظرا لصغر كشمير وفقرها المفرطين. إضافة إلى ذلك، قال الشيخ: «باكستان ستبتلعنا. لقد حاولت مرة، وستعيد الكرة.»
64
وفي داخل كشمير، منح عبد الله الأولوية القصوى لإعادة توزيع الأراضي؛ ففي ظل نظام المهراجا، عدد صغير من الهندوس وعدد أصغر من المسلمين تمتعوا بحيازات كبيرة جدا، فيما خدمهم أغلبية سكان الريف كعمال أو مستأجرين بقاؤهم مرهون برضاء الملاك. وفي عامه الأول في السلطة، نقل عبد الله ملكية 40 ألف فدان من الأراضي الزائدة إلى من لا يملكون أرضا، وجرم الملكية الغائبة، ورفع حصة المستأجر من المحصول من 25٪ إلى 75٪، وأمر بتأجيل سداد الديون. أزعجت سياساته الاشتراكية بعض العناصر في الحكومة الهندية، لا سيما أنه لم يدفع تعويضات لملاك الأراضي الذين انتزعت ملكيتهم، ولكن عبد الله رأى ذلك ضروريا للنهوض بكشمير. إذ، كما قال في مؤتمر صحفي عقد في دلهي، إن لم يسمح له بالقيام بإصلاحات زراعية، فلن يستمر في منصب رئيس وزراء جامو وكشمير. وعندما سئل عما قد يفعله إن صار للعناصر الرجعية اليد العليا في الحكومة المركزية، أجاب عبد الله قائلا: «لا تظنوا أنني سأتخلى عنكم حتى إن تخليتم عني؛ فسوف أستقيل وأنضم إلى غيري في الاتحاد الهندي ممن سيناضلون أيضا من أجل تحسين الأوضاع الاقتصادية للفقراء.»
65
وفي ذلك المؤتمر الصحفي، أدلى عبد الله أيضا ببعض التعليقات الساخرة من المهراجا هاري سينج، حيث أشار إلى أن المهراجا فر من سريناجار عندما كانت معرضة للخطر. وفي أبريل 1949، حقق عبد الله نصرا عظيما عندما حل ابن هاري سينج - كاران سينج - ذو الثمانية عشر عاما محل أبيه في منصب صدري رياست. في الشهر التالي، اختير عبد الله وثلاثة رجال آخرون من حزب المؤتمر الوطني لتمثيل كشمير في الجمعية التأسيسية بدلهي، في مزيد من التأكيد على وحدتها مع الهند.
66
ذاك الصيف أعاد الوادي فتح أبوابه للسياح. وعلى حد تعبير أحد الصحفيين المتعاطفين: «كل سائح يذهب إلى كشمير هذا الصيف سيؤدي لكشمير - والهند - خدمة تعادل الخدمة التي يقدمها جندي يحارب على الجبهة.»
67
في الخريف، جاء زائر أهم من مليون سائح؛ جواهر لال نهرو. قام نهرو وعبد الله بجولة متأنية مدتها ساعتان في ممر سريناجار الرئيسي؛ نهر جيلوم. وعلق مراسل مجلة «تايم» قائلا إنه بينما شق زورقهما سطح المياه، «تدافعت مئات قوارب الجندول حوله؛ إذ رغب ركابها المكدسون في إلقاء نظرة، وراحوا يقذفون نهرو بالزهور». شاهد الآلاف الموكب من على ضفاف النهر مطلقين ألعابا نارية من حين لآخر، وراح «تلاميذ حسنو التدريب» يهتفون بشعارات تشيد بنهرو وعبد الله، واغتنم التجار الفرصة فعلقوا بضائعهم بجانب لافتات دعائية كتبوا عليها «أفضل سجاد فارسي وكشميري».
وخلصت المجلة إلى أن «البشائر كلها» كانت تشير إلى أن «الهند اعتبرت أنها ربحت المعركة من أجل كشمير، وأن الهند كانت تنوي الاحتفاظ بجائزتها».
68
5
لم تكن المعركة من أجل كشمير - وحتى الآن - تقتصر ولا حتى في معظمها على قتال على أرض؛ فهي - كما وصفها جوزيف كوربيل منذ نصف قرن - «معركة ضارية ربما تكون مستعصية بين أسلوبي حياة، ومبدأين للتنظيم السياسي، ومعيارين للقيم، واتجاهين روحانيين».
69
على أحد الجانبين كانت فكرة الهند، وعلى الجانب الآخر فكرة باكستان. في ربيع عام 1948، زار الصحفي البريطاني كينجزلي مارتن البلدين ليرى كيف يرى كل جانب كشمير، فوجد الهنود مقتنعين تماما بمشروعية انضمام تلك الولاية، وشديدي الإدانة لباكستان على مساعدتها الغزاة. وبالنسبة إليهم لم يكن لديانة أهل كشمير أي أهمية. وكانت حقيقة أن عبد الله كان الرئيس الشعبي لحكومة طارئة «دليلا دامغا على أن الهند ليست «هندوستان (بلاد الهندوس)»، وأنه كان ثمة مسلمون اختاروا بكامل إرادتهم أن يدخلوا في الهند التي يفترض - كما أكد نهرو - أنها بلد ديمقراطي يمكن للأقليات أن تعيش فيه بسلام وحرية».
وعندما عبر مارتن الحدود، رأى «كم بدا الوضع مختلفا من زاوية باكستان». فمعظم الأشخاص الذين التقاهم كان لهم أصدقاء أو أقارب ماتوا على أيدي الهندوس أو السيخ، والنزاع بالنسبة إلى الباكستانيين بدأ بتمرد اندلع في بونش، و«صار منسيا إلى حد بعيد غير مبرر» في الهند. وفي كراتشي ولاهور، كان الناس «متعاطفين تماما» مع الغزاة الذين جاءوا من الحدود، والذين كانوا - من وجهة نظرهم - يخوضون «حربا مقدسة ضد مضطهدي الإسلام».
70
وقد عضد مراسل الحرب الأسترالي المخضرم آلان مورهيد النتائج التي خلص إليها مارتن؛ ففي زيارة لباكستان وجد هو أيضا أن النزاع الكشميري كان ينظر إليه «على أنه حرب إسلامية مقدسة ... لقد رأيت بعضهم يتحدثون بحماس جارف عن المضي إلى دلهي. وكان التجنيد جاريا في كل مكان، وساد جو من الإثارة البالغة إثر نجاح المسلمين».
71
تجسدت هشاشة الدولة الباكستانية وأيديولوجيتها في الهويات الملتبسة لزعمائها الكبار؛ فقد كان الحاكم العام محمد علي جناح جوجاراتيا تزوج من بارسية، ورئيس الوزراء لياقت علي خان كان رجلا أرستقراطيا من المقاطعات الاتحادية تزوج من مسيحية، وكلاهما لم يكن يمارس الإسلام فعليا بأي معنى من معاني الكلمة. وكان كبار موظفي الخدمة المدنية بباكستان - على غرار جناح ولياقت - «مهاجرين» تقع بيوت أجدادهم على الجانب الهندي من الحدود، فلم تكن جذور الطبقة الحاكمة متأصلة فيما صار دولتهم. يشك المرء في أن ذلك زاد من رغبتهم المحمومة في جعل كشمير جزءا من باكستان.
إلا أن الدولة القومية الهندية الجديدة لم تكن بالغة الصلابة هي الأخرى؛ فقد تبين عدم إتزانها في اختيارها ضابطا مسلما مات أثناء القتال في كشمير باعتباره بطلا علمانيا. صحيح أن الجيش الهندي كان مكونا من رجال من جميع الديانات خلافا للجيش الباكستاني - من بين كبار قياداته كان رجل سيخي وآخر بارسي وكورجيان آتيان من مجتمع يقطن هضاب جنوب الهند، ويروق له اعتبار نفسه «غير هندوسي» - إلا أن القائد الذي حظي بأكبر قدر من الإجلال كان مسلما. تلقى ذاك الرجل - العميد عثمان - تعليمه في الله آباد وساندهيرست، واختار البقاء في الهند ساعة التقسيم. قيل إن باكستان كفرته، وإن حكومة آزاد كشمير عرضت مكافأة قيمتها 50 ألف روبية لمن يأتي به حيا أو ميتا.
خلال شهري يناير وفبراير من عام 1948، تصدى عثمان ورجاله لهجوم شرس على نوشهره، وفي يوليو من ذلك العام، استشهد في المعركة، فكتب صحفي هندي أن «حياة ثمينة زاخرة بالخيال وبوطنية لا تلين، سقطت ضحية التعصب الطائفي. سيظل النموذج الشجاع الذي مثله العميد عثمان مصدر إلهام دائم للهند الحرة».
72
ونعى زعماء حزب المؤتمر وفاته على الملأ، بدءا من جواهر لال نهرو وصولا إلى أسفل السلم الوظيفي. ولم تقتصر الإشادات الوافدة بالثناء على شجاعته فحسب، وإنما شخصه أيضا؛ فقيل لعامة الشعب الهندي إنه إضافة إلى كونه ضابط جيش، فقد كان «نباتيا لا يدخن ولا يعاقر الخمر». أعيد جثمانه من كشمير إلى دلهي ودفن بتكريم عسكري كامل، ووضع قبره إلى جوار قبر الدكتور إم إيه أنصاري، القومي المسلم الشهير الذي كان من الجيل السابق.
73
يمكن القول إن العميد عثمان كان في نظر الجيش الهندي كالشيخ عبد الله في نظر السياسة الهندية؛ رمزا لما يفترض أن تتسم به الدولة من علمانية شمولية، وتأكيدا على أنها إن كانت ستوصف بشيء، فهو أنها الوجه المقابل لباكستان؛ حيث الانعزالية والتعصب الديني.
كلا الطرفين وظفا رجالا وأموالا في معركة كشمير، والأهم من ذلك أن كلا منهما وظف أيديولوجيته المتعلقة بصفة الدولة. وتجسد الصدام بين الأيديولوجيتين في نقاش بشأن مستقبل كشمير نظمته إحدى الصحف الأسبوعية الرائدة في بومباي. كان بطلا النقاش صحفيين شابين؛ كلاهما مسلم، ولكن أحدهما هندي والآخر باكستاني. طلب من كل منهما الإجابة عن سؤال : كيف سيصوت الكشميريون إذا نجحت الأمم المتحدة في إقامة استفتاء شعبي؟
كان المتحدث باسم الهند هو الروائي وكاتب السيناريو الموهوب خواجة أحمد عباس. قال إن ربع سكان كشمير يؤيدون الشيخ عبد الله وحزب المؤتمر الوطني الكشميري بقوة، وتلك هي العناصر «التقدمية» ذات الوعي السياسي. ربع آخر يعارض الشيخ عبد الله بالقوة ذاتها، هؤلاء هم «من تشبعوا تماما بالأيديولوجية الباكستانية». ونصف الناخبين لم يحسموا موقفهم، ويمكن أن يميلوا إزاء أي الطرفين؛ فهؤلاء منجذبون إلى شخص عبد الله، ولكنهم أيضا «متأثرون بدعوة أن الإسلام في خطر». ظن عباس أنه عندما يأتي يوم الحساب، سترجح ذكريات الأعمال الوحشية التي ارتكبها الغزاة وجاذبية الأيديولوجية العلمانية التقدمية كفة الهند، إلا أن الهند إذا «أرادت التأكد تماما من الحصول على أغلبية كافية ومقنعة»، فلا بد من تنحية المهراجا وأسرته، والسماح للشيخ عبد الله بإتمام تطبيق برنامجه الاقتصادي.
74
في الأسبوع التالي، رد على عباس صحفي مقيم في كراتشي يدعى وارس إسحاق، كان يرى أن تأثير الدين سيكفل النصر لباكستان في أي استفتاء شعبي يجرى في كشمير، وقال إن الإسلام ليس مجرد دين، وإنما ثقافة وأسلوب حياة، والكشميريون لن يغضوا الطرف عن دعوة الإيمان إلا في حالة واحدة: إن حققت الهند فعلا زعمها أنها دولة علمانية. إلا أن وضع الأقليات بعد وفاة غاندي كان محفوفا بالمخاطر. وكتب إسحاق أن رفع الحظر عن التنظيم المتحيز للهندوس - راشتريا سوايامسيفاك سانج - على وجه الخصوص «أقنع المسلمين في جميع أنحاء الهند أخيرا، ولا سيما في كشمير، بأن وضعهم في الهند سيظل وضع الأقلية المقهورة». فعندما تحين اللحظة الحاسمة، سيصوت أكثرية أهل كشمير على الانضمام إلى «مجتمع الأمم الإسلامية».
75
6
يجوز قول إن نزاع عامي 1947 و1948 لم يسفر إلا عن خاسرين؛ فالوضع المعلق - إذ لم تفلح أي من الدولتين في ضم الولاية كاملة - أضر بالطرفين، ولا يزال يضرهما حتى الآن. لهذا نمت نظريات المؤامرة وازدهرت؛ فعلى الجانب الهندي، وجهت أصابع الاتهام إلى الحاكم العام البريطاني، الذي رفع القضية إلى الأمم المتحدة، وإلى الجنرال البريطاني المسئول عن قيادة الجيش الهندي، الذي قيل إنه منع قواته من الزحف إلى شمال كشمير.
76
ولكن الباكستانيين بدورهم ألقوا اللوم على ماونتباتن؛ إذ ظنوا أنه تآمر مع السير سيريل رادكليف حتى يهدي مقاطعة جورداسبور إلى الهنود، فيفتح أمامهم الطريق إلى كشمير.
77
ولاموا حكومتهم نفسها على عدم تقديمها مزيدا من العون إلى الغزاة؛ فكما قال أحد كبار موظفي الخدمة المدنية متحسرا عام 1998:
كانت فرصة باكستان الوحيدة في الحصول على كشمير هي الحرب الخاطفة، التي تجتمع فيها دعوة الجهاد مع السرعة والمفاجأة؛ لوضع العدو أمام الأمر الواقع قبل أن يتسنى له الإفاقة من الصدمة؛ فقد كنا ندرك تمام الإدراك أن ذلك الغزو القبلي كان الوسيلة الوحيدة للتصدي لخطط الهند، وتعويض ضعف باكستان من الناحية العسكرية ... العنصر الوحيد الذي حسم المسألة في غير صالح باكستان كان القيادة المعيبة للجماعة القبلية ... كان ذلك هو الخطأ الوحيد - والحاسم - وينبغي لمنظمي الغزو ... أن يتحملوا مسئوليته.
78
سيعود هذا الكتاب إلى كشمير بصفة متكررة، ولكن دعوني أنهي هذه الدراسة لأصول النزاع ببعض العبارات المستبصرة التي أدلي بها آنذاك. جاءت الأقوال المقتبسة أدناه من معلقين تحدثوا لا عام 1999 أو عام 2000، وإنما في السنوات الأولى من النزاع.
79
كشمير هي المشكلة الكبرى الوحيدة التي قد تتسبب في سقوط الهند وباكستان (هنري جرايدي؛ سفير الولايات المتحدة الأمريكية إلى الهند، يناير 1948).
ما دام نزاع كشمير مستمرا فسيظل استنزافا خطيرا للقوة العسكرية والاقتصادية، والأهم من ذلك، الروحانية لهذين البلدين العظيمين (الجنرال إيه جي إل مكنوتن؛ وسيط تابع للأمم المتحدة، فبراير 1950).
يبدو امتلاك كشمير ذا أهمية حيوية لأمن باكستان الاقتصادي والسياسي إلى حد أن سياساتها الخارجية والدفاعية بالكامل تمحورت حول النزاع على كشمير بالأساس ... فإلى حد ما يتخطى كثيرا مذابح البنجاب - التي لم تدم طويلا رغم بشاعتها - نزاع كشمير هو الذي سمم كل جانب من جوانب العلاقات الهندية الباكستانية (ريتشارد سيمنز؛ الأخصائي الاجتماعي والمؤلف البريطاني، 1950).
كشمير حالة يستحيل احتواؤها حال اشتعالها، فقد تطول آثارها العالم الإسلامي أجمع، وهي ربما تكون أخطر قضية في العالم (رالف بنش ؛ مسئول كبير في الأمم المتحدة، فبراير 1953).
الفصل الخامس
اللاجئون والجمهورية
اللاجئون يرسلون إلى جميع أنحاء الهند، وسوف ينشرون الكراهية الطائفية على نطاق واسع، ويثيرون قدرا هائلا من الضغائن في كل مكان. لا بد من رعاية اللاجئين، ولكن علينا أن نتخذ خطوات لمنع انتشار عدوى الكراهية لما يتخطى الحد الأدنى الضروري الذي لا يمكن منعه.
سي راجا جوبالاتشاري؛ حاكم البنغال، 4 سبتمبر 1947
لعل الدماء التي سالت من غاندي، والدموع التي سالت من أعين نساء الهند في كل مكان علمن فيه بوفاته تزيل لعنة عام 1947، وعسى أن تخمد المأساة المفجعة لذلك العام في التاريخ، وألا تؤثر على الانفعالات الحالية.
سي راجا جوبالاتشاري، 20 مارس 1948
1
تحتل كوروكشترا مكانة خاصة في المخيلة الهندية؛ فقد كانت ساحة المعارك الدامية التي وردت في ملحمة «مهابهاراتا»؛ وفقا للملحمة، دار القتال على سهل مفتوح شمال غربي مدينة إندرابراسترا الأثرية (المعروفة حاليا بدلهي). كان ذاك السهل يدعى كوروكشترا، وهو الاسم الذي يحمله حتى يومنا هذا.
بعد مرور عدة آلاف من السنين على تأليف ملحمة «مهابهاراتا»، أصبح مسرح الأحداث التي جرت فيه مأوى مؤقتا لضحايا حرب أخرى. تلك الحرب بدورها دارت بين أقارب مقربين؛ هما: الهند وباكستان، عوضا عن أبناء العم الباندافا والكاورافا. كثير من الهندوس والسيخ الذين فروا من البنجاب الغربية وجهتهم حكومة الهند إلى مخيم للاجئين في كوروكشترا؛ حيث أنشئت مدينة من الخيام مترامية الأطراف على السهل، لإيواء موجات النازحين، التي كانت تصل أحيانا إلى 20 ألف فرد في اليوم. كان المخطط في البداية أن يأوي المخيم 100 ألف لاجئ، ولكن الأمر آل به إلى إيواء ثلاثة أمثال ذلك العدد؛ فكما كتب مراقب أمريكي: «لقد صنع الجيش معجزات حتى تكفي الخيام كل اللاجئين.» وقد كان سكان كوروكشترا الجدد يستهلكون 100 طن من الدقيق يوميا، إلى جانب كميات كبيرة من الملح والأرز والعدس والسكر وزيت الطهي، وكل تلك المؤن وفرتها الحكومة مجانا. وكان ثمة شبكة أخصائيين اجتماعيين من الهنود والأجانب تعين الدولة في مساعيها هي المجلس المتحد للإغاثة والرعاية.
كان لا بد من إيواء اللاجئين وإطعامهم، وكذلك كسوتهم والترفيه عنهم. ومع اقتراب الشتاء، «سرعان ما أدركت الحكومة أن تحمل الأمسيات والليالي صار فيه مشقة»، فصادر المجلس المتحد للإغاثة والرعاية مجموعة من أجهزة عرض الأفلام من دلهي، ونصبها في كوروكشترا. من الأفلام التي عرضت كانت أعمال والت ديزني الخاصة بميكي ماوس ودونالد داك. وباستخدام شاشات عرض كبيرة من القماش تسمح بالعرض من الناحيتين، أمكن لحشود تبلغ نحو 15 ألف فرد مشاهدة العرض ذاته. وقد علق أحد الأخصائيين الاجتماعيين على ذلك قائلا: «ذاك الانفصال عن الواقع لمدة ساعتين كان بمنزلة طوق النجاة؛ فقد نسي اللاجئون ما تعرضوا له من تجارب صادمة وبؤس لساعتين ذهبيتين من الضحك. نعم، استطاع من تعرضوا للضرب والجرح، المشردون المجروحون، أن يضحكوا؛ فقد كان ثمة أمل.»
1
كان مخيم كوروكشترا هو الأكبر بين قرابة 200 مخيم أقيم لإيواء اللاجئين من غرب البنجاب. بعض اللاجئين وصلوا قبل تاريخ نقل السلطة؛ منهم رجال الأعمال البعيدو النظر الذين باعوا ممتلكاتهم سلفا ونزحوا بعائدات البيع. إلا أن الأغلبية العظمى جاءت بعد 15 أغسطس 1947، دون متاع يذكر سوى بعض الثياب التي كانوا يحملونها على ظهورهم. كان هؤلاء هم المزارعون الذين «تخلفوا حتى آخر لحظة، مصرين على البقاء في باكستان، إن أمكن طمأنتهم إلى احتمال أن يعيشوا حياة كريمة». لكن عندما تصاعدت وتيرة العنف في البنجاب خلال شهري سبتمبر وأكتوبر، اضطروا إلى التخلي عن تلك الفكرة، ففر من حالفه الحظ من الهندوس والسيخ إلى الهند راكبين السيارات، أو السكك الحديدية، أو البحر، أو سيرا على الأقدام.
2
لم تكن المخيمات من قبيل مخيم كوروكشترا أكثر من مجرد حل مؤقت؛ فقد كان لا بد من إيجاد سكن دائم وعمل منتج للاجئين. وقد وصف أحد الصحفيين الذين زاروا مخيم كوروكشترا في ديسمبر 1947 بأنه مدينة قائمة بذاتها، بها 300 ألف شخص، كلهم «يجلسون عاطلين إلى حد الجنون». وكتب يقول إن «الفكرة الوحيدة التي تسيطر على المزارعين اللاجئين في مخيم كوروكشترا هي «اعطونا أرضا، وسوف نزرعها». كان ذاك هو نداءهم، فقد أخبرنا أولئك المزارعون المتعطشون للأرض أنهم لا يأبهون كثيرا بمكان الأرض التي يمنحونها ما دامت صالحة للزراعة. لقد بدا شغفهم بالأرض فطريا».
3
الواقع أنه كان ثمة عملية نزوح كبيرة في الاتجاه المعاكس أيضا، من الهند إلى باكستان؛ لذا كان أول مكان أعيد توطين اللاجئين فيه هو الأراضي التي أخلاها المسلمون في الجزء الشرقي من البنجاب. وإذا كانت عملية انتقال السكان هي «أكبر عملية نزوح جماعي» في التاريخ، فقد بدأت بعدها «أكبر عملية توطين ريفي في العالم». في مقابل 2,7 مليون فدان هجرها الهندوس والسيخ في غرب البنجاب، لم يخلف المسلمون في البنجاب الشرقية وراءهم سوى 1,9 مليون فدان. وكان مما فاقم العجز أن الأراضي الواقعة غربي المقاطعة كانت أكثر خصوبة، ومياه الري المتاحة لها أوفر. الواقع أنه في أواخر القرن التاسع عشر نزحت مئات القرى السيخية في هجرة جماعية إلى الغرب لزراعة أراضيها في «مستعمرات القنوات» الحديثة النشأة، وهناك أحالوا الصحاري إلى واحات، ولكن في أحد أيام عام 1947 قيل لهم إن جنتهم صارت في باكستان؛ فبعد جيلين لا أكثر وجد هؤلاء السيخ المطرودون أنفسهم في مساكنهم القديمة.
بادئ ذي بدء، خصص لكل عائلة من المزارعين اللاجئين أربعة فدادين، بصرف النظر عن حجم حيازتها في باكستان، وأقرضوا المال لشراء البذور والمعدات. وإذ بدأت زراعة تلك الأراضي المؤقتة، فتح الباب أمام دعاوى المطالبة بمخصصات دائمة، وطلب من كل أسرة أن تقدم أدلة على حجم الأراضي التي خلفتها وراءها. بدأ تلقي الدعاوى منذ 10 مارس 1948، وفي غضون شهر، قدم أكثر من 500 ألف دعوى، ثم جرى التأكد من صحتها في مجالس مفتوحة مكونة من نازحين آخرين من القرية ذاتها؛ فكان موظف حكومي يقرأ الدعوى بينما يقرها المجلس أو يعدلها أو يرفضها.
كما هو متوقع كان اللاجئون ينزعون إلى المبالغة في البداية، إلا أن كل دعوى كاذبة كانت تقابلها عقوبة؛ أحيانا بتقليل الأراضي المخصصة، وفي الحالات القصوى بالحبس فترة وجيزة. مثل ذلك رادعا، ورغم ذلك فقد قدر أحد الموظفين الوثيقي الصلة بتلك العملية أنه كان ثمة تضخم إجمالي بلغ نحو 25٪. وأنشئت أمانة عامة لإعادة التأهيل في جالاندهار لتجميع الدعاوى وتنسيقها، والتحقق منها، والتصرف بشأنها. بلغ أقصى عدد للعاملين بها 7 آلاف موظف؛ صاروا يشكلون في حد ذاتهم مدينة لاجئين نوعا ما. الجزء الأكبر من هؤلاء الموظفين سكن في خيام مزودة بأضواء ومراحيض بدائية، ومقامات ومعابد مؤقتة للهندوس والسيخ.
كان قائد العمليات هو مدير عام إعادة التأهيل السردار تارلوك سينج؛ من دائرة الخدمة المدنية الهندية. وقد استغل تارلوك سينج - الذي تخرج في كلية لندن للاقتصاد - خلفيته الأكاديمية في ابتكارين ثبتت أهميتهما الحيوية للنجاح في توطين اللاجئين. تمثل ابتكاراه في «الفدان القياسي» و«التخفيض المتدرج».
عرف «الفدان القياسي» بأنه مساحة الأرض التي يمكن أن تنتج من عشرة إلى إحدى عشر موند من الأرز (الموند يساوي قرابة 40 كيلوجراما). في المناطق الجافة التي لا تصلها شبكة الري في الشرق، كانت أربعة فدادين طبيعية تعادل فدانا «قياسيا» واحدا، بينما كان فدان الأرض الطبيعي في مستعمرات القنوات الخصبة يساوي نظيره القياسي تقريبا. حلت فكرة الفدان القياسي المبتكرة مسألة التباين في التربة والمناخ في شتى أنحاء المقاطعة.
أما فكرة «التخفيض المتدرج»، فساهمت في التغلب على التفاوت الهائل بين كم الأراضي التي خلفها اللاجئون وراءهم والأراضي التي صارت متاحة لهم؛ وهي فجوة قاربت مليون فدان. طبق على الفدادين العشرة الأولى في أي دعوى تخفيض قدره 25٪، ومن ثم يحصل رافع الدعوى على 7,5 فدان فقط عوضا عن عشرة فدادين. بالنسبة للدعاوى المطالبة بفدادين أكثر، طبقت تخفيضات أشد: 30٪ لما بين 10 فدادين و30 فدانا فصاعدا، حتى إن مالكي أكثر من 500 فدان فرضت عليهم ضريبة معدلها 95٪. كان الخاسر الأكبر الأوحد هو سيدة تدعى فيدياواتي، ورثت أراضي عن زوجها (وخسرتها) بلغت مساحتها 11500 فدان، امتدت عبر خمس وثلاثين قرية في منطقتي كوجرانوالا وسيالكوت، وكان التعويض المخصص لها 835 فدانا لا أكثر في قرية واحدة من قرى كارنال.
بحلول نوفمبر عام 1949، كان تارلوك سينج ورجاله قد خصصوا 250 ألف قطعة أرض. بعد ذلك وزع اللاجئون بصورة متساوية على مناطق شرق البنجاب، فأعيد توطين الجيران والأقارب معا، وإن ثبت استحالة إعادة إنشاء المجتمعات القروية كاملة. ثم فتح باب التظلم أمام اللاجئين؛ فطلب ما يقرب من 100 ألف أسرة مراجعة مخصصاتها، وتم العمل بثلث تلك الاعتراضات، ونتيجة لذلك تغيرت ملكية 80 ألف فدان مرة أخرى.
حصل هؤلاء اللاجئون مقابل أراضيهم الحسنة الري في الغرب على حيازات جدباء في الشرق، وبتطبيق التخفيضات المتدرجة، قلت الأراضي التي يمتلكونها أيضا، ولكنهم شرعوا في العمل ببراعتهم وإقدامهم المعهودين؛ فحفروا آبارا جديدة، وبنوا مساكن جديدة، وزرعوا محاصيلهم. وبحلول عام 1950، دبت الحياة من جديد في ريف كان مهجورا.
4
إلا أن شعور الضياع ظل باقيا؛ فالاقتصاد يمكن إعادة بناؤه، ولكن الإجحاف الثقافي الذي نتج عن التقسيم لم يكن من الممكن أبدا أن يرفعه أي من الطرفين أو أن يرفع عنه؛ فالسيخ صار بحوزتهم أراض جديدة للزراعة، ولكنهم لن يستردوا أبدا أماكن العبادة الأثيرة لديهم، ومنها: معبد جوردوارا في لاهور؛ مثوى زعيمهم المحارب العظيم رانجيت سينج، وكذلك نانكانا صاحب؛ حيث ولد جورو ناناك؛ مؤسس العقيدة السيخية.
في أبريل 1948، زار رئيس تحرير صحيفة كلكتا «ستيتسمان» نانكانا صاحب، وهناك التقى مجموعة من السيخ سمحت لهم باكستان بالبقاء لحراسة المعبد. وبعد بضعة أشهر، زار مركز الطائفة الأحمدية المسلمة - بلدة قاديان - في البنجاب الهندي. كانت مئذنة مسجد الأحمدية المهيبة مرئية من على بعد أميال في محيطها، ولكن لم يعد يسكن في نطاقها آنذاك سوى 300 من أتباع تلك الطائفة. خلافا لذلك، استولى على البلدة 12 ألف لاجئ هندوسي وسيخي. وفي كل من قاديان ونانكانا صاحب كان ثمة «نقص واضح في أعداد المصلين اليوميين، وشعور الخواء الموجع والانتظار والأمل، ... وإيمان عززته المحن المذلة».
5
2
كان أغلب النازحين من البنجاب الغربية مزارعين، ولكن كثيرا منهم أيضا كانوا حرفيين وتجارا وعمالا؛ فأنشأت الحكومة بلدات جديدة لاستقبالهم، إحداها - فريد أباد - التي كانت على بعد عشرين ميلا جنوبي العاصمة دلهي، وكان من التنظيمات النشطة فيها الاتحاد التعاوني الهندي بقيادة كمالا ديفي تشاتوبادياي؛ الناشطة الاشتراكية والنسوية الوثيقة الصلة بمهاتما غاندي.
معظم سكان فريد أباد كانوا لاجئين هندوسيين من المقاطعة الشمالية الغربية الحدودية، وقد شجعهم أخصائي اجتماعي يدعى سودير جوش على بناء منازلهم بأنفسهم، إلا أن الحكومة أرادت أن تشيد المنازل عن طريق إدارة الأشغال العامة التابعة لها، المعروف عنها التباطؤ والفساد، والمشهورة بلقبي «إدارة الإهدار العام» و«النهب المأمون». احتجاجا على ذلك، حاصرت مجموعة من اللاجئين منزل رئيس الوزراء في دلهي. كان ذلك مصدر «إزعاج» لنهرو، الذي وجدهم أمامه كل يوم عند ذهابه إلى العمل، ولكنهم على الأقل جعلوه «يمعن التفكير في المشاكل» التي تواجه اللاجئين. وفي تسوية تليق بالأسلوب الهندي، سمح للاجئين ببناء قرابة 40٪ من المنازل، فيما تولت إدارة الأشغال العامة تشييد الباقي.
في فريد أباد، نظم الاتحاد التعاوني الهندي جمعيات تعاونية ومجموعات للعون الذاتي أنشأت محلات ووحدات إنتاج صغيرة. ومن أجل إمدادها بالطاقة وإنارة المنازل، أقيم مصنع لوقود الديزل خلال فترة قصيرة. كان ذلك المصنع في ورشة بكلكتا؛ حيث أقامته ألمانيا باعتباره جزءا من تعويضات الحرب. لم يكن أحد يريد المصنع في كلكتا؛ ولذا أرسل إلى فريد أباد عوضا عنها. بحث سودير جوش عن المهندس الألماني الذي شيد المصنع في هامبورج وأقنعه بالمجيء إلى الهند. جاء المهندس ولكنه - للأسف - لم يجد روافع لإقامة المصنع؛ لذا درب رجال فريد أباد على تشغيل روافع لولبية تتحمل وزن خمسة عشر طنا، ساعدت على رفع المعدات بوصة تلو بوصة. وفي غضون عشرة شهور، كان المصنع جاهزا. في أبريل 1951، حضر نهرو شخصيا لتدشينه، وإذ «ضغط الزر، أنيرت الأضواء، وارتفعت معنويات سكان فريد أباد جميعا؛ فقد صارت البلدة تمتلك الطاقة اللازمة لبناء مستقبلها الصناعي».
6
في الوقت ذاته، استوطن آلاف اللاجئين دلهي ذاتها. حتى عام 1911 كانت تلك المدينة إسلامية الطابع والثقافة. وفي ذلك العام، حول البريطانيون عاصمتهم من كلكتا إلى دلهي، وبعد عام 1947، صارت نيودلهي مقر حكومة الهند الحرة. رحل المسلمون المتحدثون بالأردية إلى باكستان - خلافا لرغبة كثير منهم - وحل محلهم الهندوس والسيخ المتحدثون بالبنجابية، وأقاموا المنازل والمتاجر أينما تيسر لهم. توسط المدينة كونوت سركيس؛ رواق التسوق المهيب الذي صممه آر تي راسل. ولو كان راسل تسنى له رؤية ما حل بصنيعة يده لربما «تقلب في قبره»؛ فخلال عامي 1948 و1949، نصبت «الدكاكين وعربات البائعين بمختلف الأحجام والأشكال» على الرصيف، ومن ثم «ما كان يوما ممشى ظليلا يمكن للزائر أن يتمشى فيه باسترخاء متفقدا البضائع المعروضة دون التعرض لبائع ملح ما لم يدخل أحد المتاجر، صار في حالة من الفوضى ... بصفة عامة، أصبحت منطقة التسوق الأنيقة في نيودلهي - التي كانت ترتادها النخبة والأثرياء في أيام ما قبل الاستقلال - مجرد سوق شعبي يبدو أفخم من حقيقته».
7
أتى قرابة 500 ألف لاجئ للاستقرار في دلهي بعد التقسيم، فملئوا المدينة و«انتشروا حيثما تسنى لهم، وتكدسوا في المخيمات والمدارس والكليات والمعابد الهندوسية والسيخية، واستراحات الحجاج (دارامشالا)، والثكنات العسكرية، والحدائق، واحتلوا أرصفة محطات القطار والشوارع والأرصفة وكل مكان يمكن تخيله». ومع مرور الوقت، بنى أولئك الأشخاص بيوتا على أراض خصصت لهم في غرب وجنوب دلهي لاتينز؛ إذ هناك أقيمت مستعمرات - يغلب عليها البنجابيون حتى يومنا هذا - عبارة عن «نجر» أو بلدات تحمل أسماء باتيل وراجندرا (براساد) ولجبات (راي)؛ وهم زعماء حزب المؤتمر الهندوسيون الذين نالوا إعجاب السكان بصفة خاصة.
وقد أبدى اللاجئون في دلهي - على غرار نظرائهم الذين استقروا في مزارع البنجاب الشرقية - قدرا كبيرا من حسن التدبير والحماسة، ومع مرور الوقت صار لهم «نفوذ غالب في دلهي»؛ إذ سيطروا على تجارتها وأعمالها. وفعلا صارت المدينة التي كانت يوما مغولية، ثم بريطانية، مدينة بنجابية بامتياز عند حلول خمسينيات القرن العشرين.
8
3
مثل دلهي، أحدث التقسيم تحولا في ثقافة مدينة بومباي وجغرافيتها الاجتماعية. إذ بحلول يوليو 1948 كان ثمة 500 ألف لاجئ في المدينة وافدين من السند والبنجاب والمقاطعة الحدودية الشمالية الغربية. فاقم اللاجئون ما كان يمثل أقصى مشكلات بومباي حدة، وهو: نقص المساكن؛ فقرابة مليون شخص صاروا يبيتون في الشارع. أخذت العشوائيات تتنامى بسرعة، وفي الوحدات السكنية المزدحمة، كانت الحجرة يقطنها خمسة عشر أو عشرون شخصا.
9
ذكر أحد الصحفيين أن إجمالي الخسائر التي تكبدها اللاجئون النازحون من السند تتراوح بين 4 و5 مليارات روبية؛ إذ كانوا يمتلكون في موطنهم مساحات كبيرة من الأراضي، وكانوا يسيطرون على الخدمات العامة ويتحكمون في التجارة والأعمال. وبينما صار اللاجئون البنجابيون يمتلكون البنجاب الشرقية التي أمكنهم أن يحققوا فيها «أساسيات الوجود المؤسسي المستقل وسمات الحكومة المستقلة»، لم يكن لدى السنديين أي شيء من ذلك القبيل لإعادة البناء عليه؛
10
فبعضهم توجه إلى الدولة مستجديا أو غاضبا، بينما قرر البعض الآخر الاعتماد على نفسه؛ لذا في بومباي كان «من المألوف رؤية حتى الصبية السنديين يجولون بالأقمشة لبيعها في الطرق الرئيسية بالمدينة؛ فالتجارة تجري في عروقهم مجرى الدم. لهذا لم يتقبل أهل جوجارات ومهاراشترا الغزو السندي؛ فحتى الصبية الصغار من مجاهل السند يستطيعون كسب عيشهم ببيع الحلي الرخيصة في قطارات الضواحي».
11
تضمنت بومباي خمسة مخيمات للاجئين، وكانت حالتها متردية؛ فمخيم كولوادا ضم 10400 شخص يعيشون في الثكنات، وكان متوسط المساحة المتاحة لكل عائلة قرابة 36 قدما مربعة. لم يتوفر بالمخيم كله سوى اثني عشر صنبور مياه، ولم يكن به أطباء ولا كهرباء، وتضمن مدرسة واحدة. أدار المكان رجل يدعى براتاب سينج إدارة دكتاتورية. ففي أبريل 1950 ثار شغب محدود النطاق عندما رفض بعض المستأجرين دفع الإيجار احتجاجا على ظروف معيشتهم، فاستصدر براتاب سينج أمر إخلاء ضدهم، وعندما قاوموا استدعى الشرطة، وقتل شاب في المشاجرة التي أعقبت تلك الأحداث. وقد أطلق الصحفي الذي نقل الواقعة على المقيمين في المخيم لقبا مناسبا هو «النزلاء» (إشارة إلى نزلاء السجن)؛ إذ قال معلقا: «كان النزلاء الآخرون جرذان قبيحة ضخمة بحجم القطط، وبقا وناموسا وثعابين.»
12
انتشر اللاجئون الوافدون من السند في بلدات غرب الهند ومدنها. وإلى جانب مومباي، كان ثمة تجمعات سكانية كبيرة منهم في بونا وأحمد أباد. وقد وجد عالم نفس اجتماعي زار الوافدين من السند في خريف 1950 أنهم غير راضين على الإطلاق، وقال: «الجميع تقريبا يشكون المساكن المزدحمة القذرة، والمياه غير الصالحة، وحصص التموين غير الكافية، والأهم من ذلك عدم كفاية الدعم الحكومي.» وقال أحد اللاجئين في أحمد أباد: «إننا نأكل أشياء اعتدنا إلقاءها للطيور في باكستان.» وشكا آخرون سوء معاملة أهل المدينة من الجوجاراتيين، كما ناصبوا المسلمين العداء بصفة خاصة . وقد صبوا جام غضبهم على الدولة الهندية، وإن برءوا نهرو نفسه فقالوا: «حكومتنا عديمة الفائدة. كلها عصبة من اللصوص. وحده البانديت نهرو لا بأس به، والبقية كلهم لا قيمة لهم، ويسعون لخدمة مصالحهم الذاتية. البانديت نفسه يخبرنا بما يسعه القيام به. أما بقية المنظومة فمعطوبة.»
13
4
غيرت وفود اللاجئين المتدفقة معالم ثالث مدن الهند الكبرى أيضا؛ كلكتا؛ فقبل التقسيم أخذت العائلات الهندوسية الميسورة من شرق البنغال في الانتقال إلى تلك المدينة بصحبة ممتلكاتها، وبعد التقسيم كان أغلب النازحين من عائلات الطبقة العاملة وعائلات المزارعين. في البنجاب، حدثت الهجرة في صورة اندفاع واحد، ولكن في البنغال كانت الهجرات متفرقة، إلا أنه في شتاء 1949-1950 هبت موجة من أعمال الشغب الطائفية في باكستان الشرقية أجبرت عددا أكبر من الهندوس على عبور الحدود. في الأعوام السابقة على ذلك التاريخ، جاء نحو 400 ألف لاجئ إلى غرب البنغال، وفي عام 1950، قفز ذلك الرقم إلى 1,7 مليون لاجئ.
إلى أين لجأ أولئك الناس؟ بعضهم أقام مع أقربائه، بينما سكن آخرون محطات القطار في المدينة؛ حيث تبعثرت فرشهم وصناديق أمتعتهم وغيرها من متعلقاتهم على أرصفة المحطات؛ فهناك «عاشت أسر، ونامت وتزاوجت، وأخرجت فضلاتها، وأكلت على الأرصفة الأسمنتية بين الذباب والقمل والأطفال والإسهال. وكان ضحايا الكوليرا يستلقون منهكين يتطلعون إلى قيئهم، بينما انشغلت النسوة بإزالة القمل من رءوسهن بعضهن لبعض، وطفق المتسولون يتسولون». إلا أن غيرهم سكنوا الشوارع «بجوار الماشية الشاردة - مثلهم مثلها - كانوا يشربون مياه المجاري، ويأكلون من القمامة، وينامون على جانب الطريق».
14
هكذا كتب مراسل صحيفة «مانشستر جارديان» في الهند. والحقيقة أن اللاجئين لم يكونوا بالسلبية التي يشير إليها ذلك الوصف مطلقا؛ ففي بدايات عام 1948 «شغل عدد كبير من اللاجئين ثكنات ليك العسكرية؛ إذ ضاقوا ذرعا بحياتهم البائسة في محطة سيالدا، وشغلوا كذلك ثكنات جودبور العسكرية ومنزل ميسور وغيره من المنازل والثكنات العسكرية الشاغرة في شاهبور ودورجابور وطريق باليجونج الدائري ودارمتالا. وبين ليلة وضحاها تقريبا، صارت تلك المنازل المهجورة تعج باللاجئين من رجال ونساء وأطفال في تعد متعمد على الملكية».
15
استولى بعض اللاجئين على منازل خالية، بينما احتل آخرون أراضي مهجورة على طول الطرق وخطوط السكة الحديدية، إضافة إلى أدغال الشجيرات التي أزيلت حديثا والمستنقعات الحديثة التجفيف؛ فكان أولئك الملاك بوضع اليد «يتسللون خلسة إلى تلك الأراضي ليلا، ويصنعون مأوى مؤقتا سريعا تحت جنح الظلام، ثم كانوا يرفضون الرحيل، وإن عرضوا في كثير من الأحيان أن يدفعوا سعرا منصفا نظير الأرض».
16
كانت حكومة غرب البنغال هي التي أجبرت اللاجئين دون تخطيط منها على تطبيق قانونهم الخاص؛ فمن جهة، لم يحدث نزوح واسع النطاق في الاتجاه المعاكس مثلما حدث في البنجاب ليخلف حقولا ومزارع مهجورة يستوطنها اللاجئون. ومن جهة أخرى، قد راق للحكومة أن تظن - أو تأمل - أن هذه الهجرة الوافدة مؤقتة، وأن الهندوس سوف يعودون إلى ديارهم في الشرق عندما تستقر الأوضاع. وقد أيد ذلك الاعتقاد زعم أن البنغاليين كانوا إلى حد ما أقل «طائفية» من البنجابيين؛ فهنا كان المسلم يتحدث لغة جاره الهندوسي ويتناول نفس طعامه، لذا فقد يكون أكثر استعدادا لمواصلة العيش معه جنبا إلى جنب.
رفض اللاجئون أنفسهم هذا الزعم الأخير رفضا عنيفا؛ فبالنسبة إليهم لم يكن ثمة مجال للعودة إلى ما رأوه دولة إسلامية. وقد وجدوا سندا لأفكارهم في شخص المؤرخ السير جودانات سركار، الذي يمكن القول إنه كان أشد المثقفين البنغاليين تأثيرا في جيله؛ ففي خطاب ألقاه سركار في اجتماع مع جموع غفيرة من اللاجئين - عقد يوم 16 أغسطس 1948 - قارن هجرة هندوس شرق البنغال بفرار رجال الكنيسة البروتستانتية الكالفينية الفرنسيين في عهد لويس الرابع عشر، وحث أهالي غرب البنغال على استيعاب الوافدين وإدماجهم في المجتمع، حتى يغذوا ثقافتهم واقتصادهم. وأضاف أنه بمساعدة اللاجئين «لا بد أن نحيل غرب البنغال إلى ما ستكون عليه فلسطين تحت الحكم اليهودي؛ منارة في الظلام، وواحة للتحضر في قلب صحراء جهل العصور الوسطى والتعصب الديني البالي».
17
وفي سبتمبر 1948، تشكل مجلس عمل معني باللاجئين في عموم البنغال، ونظمت مسيرات ومظاهرات مطالبة بمنح اللاجئين تعويضات منصفة وحقوق المواطنة. كان زعماء تلك الحركة يهدفون إلى إلقاء «مجموعات اللاجئين المنظمة في شوارع كلكتا ومواصلة الضغط على الحكومة بلا هوادة ... فالمسيرات والمظاهرات والاجتماعات، والاختناقات المرورية، ووابل الطوب المكسور، والقنابل المسيلة للدموع، وعصي البامبو التي استخدمتها الشرطة سلاحا، وعربات الترام والحافلات المحترقة، وإطلاق الأعيرة النارية من حين لآخر؛ كل ذلك صار علامة مميزة للمدينة».
18
حيثما تواجد لاجئون مهجرون لقوى خارجة عن سيطرتهم، صاروا وقودا محتملا للحركات المتطرفة؛ ففي دلهي والبنجاب، كانت المنظمة الهندوسية الراديكالية راشتريا سوايامسيفاك سانج هي التي وطدت أقدامها منذ البداية في أوساط المهاجرين. وفي البنغال، اجتهدت شقيقة المنظمة الهندوسية الأولى - منظمة هندو ماهاسابها - في إضفاء صبغة دينية على المسألة، فقد قال أعضاؤها: إن الهندوس البنغاليين «صاروا قرابين في عملية التضحية الكبيرة التي مثلها تحرير الهند». وبمطالبتهم بالعودة إلى باكستان الشرقية، كانت الحكومة مذنبة بانتهاج سياسة «الاسترضاء» والتحريض على «الإبادة الجماعية». وفي حين تطالب الدولة اللاجئين بالإذعان، كان ما يحتاجه اللاجئون هو جرعة قوية من «الرجولة». كتب هندوسي غاضب في مارس 1950 قائلا: «المرء لا يسعه إلا أن يتمنى ظهور رجال مثل شيفاجي أو رانا براتاب من صفوفهم.»
19
لقي استحضار ذكرى المحاربين الهندوس من العصور الوسطى الذين قاتلوا الملوك المسلمين استجابة أقوى في دلهي والبنجاب. أما في البنغال، فقد كان الشيوعيون هم الأنجح في تعبئة اللاجئين؛ كانوا هم من نظموا المسيرات إلى المقرات الحكومية، وخططوا الاحتلال القسري للأراضي المراحة في كلكتا؛ وهي الأراضي التي «ما كان للاجئين مسوغ لها سوى القوة المنظمة والحاجة الملحة». ومن ثم نشأت مستعمرات مرتجلة في أجزاء مختلفة من المدينة؛ «تجمعات من الأكواخ ذات أسقف من القش أو القرميد أو الصفيح، جدرانها من الحصير المصنوع من البامبو، وأرضيتها من الطين، بنيت على الطراز السائد في شرق البنغال».
20
وبحلول أوائل عام 1950، كان ثمة نحو 200 ألف لاجئ في مستعمرات وضع اليد تلك. وفي غياب دعم الدولة ، اللاجئون «شكلوا لجانا خاصة بهم، ووضعوا قوانين لإدارة المستعمرات، ونظموا أنفسهم في هيئة جسد واحد عملاق».
21
وزعمت «لجنة جنوب كلكتا لإعادة توطين اللاجئين» أنها تمثل 40 ألف أسرة أنشأت في مستعمراتها ما مجموعه 500 ميل من الطرق، وحفرت 700 بئر أنبوبية، وأنشأت 45 مدرسة ثانوية، إضافة إلى 100 مدرسة ابتدائية، وكل ذلك على نفقة الأسر وبجهودها الذاتية. وطلبت اللجنة من الحكومة أن «تقنن» وضع تلك المستعمرات بوضعها رسميا تحت إشراف بلدية كلكتا، وأن تقنن بالمثل وضع رقع الأراضي الخاصة ومباني المدارس، وأن تساعد في تطوير الأسواق وتنظيم القروض.
22
وكثيرا ما اشتكى المدافعون عن أولئك اللاجئين من المعاملة التمييزية التي ينالها اللاجئون البنجابيون؛ فقد وجد فريق من الأخصائيين الاجتماعيين البنغاليين في زيارة لشمال الهند أن المخيمات هناك «أفضل بكثير»؛ حيث كانت المساكن دائمة، ومزودة بمياه جارية وصرف صحي لائق. أما في غرب البنغال، فقد اضطر اللاجئون إلى الاكتفاء ب «مخيمات من أكواخ البامبو المتحللة»؛ حيث كان «انعدام الخصوصية والحيز المتاح للمطبخ أمرا مشينا»، كما أن النقود وبدل الكسوة الممنوحين في الشمال كانا أعلى.
23
وبصفة عامة، كانت عملية إعادة التوطين أيسر بكثير في البنجاب؛ فبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين كان لاجئو الشمال قد عثروا على مساكن جديدة ووظائف جديدة، لكن انعدام الأمن استمر في الشرق؛ فقد كتب أحد المراسلين في يوليو 1954 أنه ما دام اللاجئون البنغاليون «غير مستقرين وعاطلين، فسيتنامى السخط الاقتصادي والسياسي، وسينجح الشيوعيون في استغلال معاناتهم».
24
5
لا شك أن أكثر ضحايا التقسيم كن النساء، الهندوسيات منهن والسيخ والمسلمات. فعلى حد تعبير عضو المؤتمر الوطني السندي الموقر تشويترام جدواني: «لم تبلغ معاناة النساء هذا الحد في أي حرب.» فقد تعرضن للقتل والتشويه والانتهاك والهجر. وبعد الاستقلال، امتلأت بيوت الدعارة في دلهي وبومباي باللاجئات اللاتي طردهن أهلهن بسبب ما فعل بهم، رغما عن إرادتهن.
25
في صيف عام 1947، إذ انتشرت أعمال العنف في البنجاب من قرية لأخرى، اختطف الهندوس والسيخ في شرق المقاطعة نساء مسلمات وأبقوهن في حوزتهم، ورد الطرف الآخر بالمثل؛ فأسر الرجال المسلمون فتيات صغيرات من الهندوس والسيخ. إلا أنه بعدما هدأت الأوضاع وجفت الدماء، اتفقت الحكومتان الهندية والباكستانية على ضرورة إعادة الأسيرات إلى أهلهن.
على الجانب الهندي، تولت مريدولا سارابهاي ورامشواري نهرو قيادة عملية استعادة النساء المخطوفات. كلاهما كانتا من عائلة أرستقراطية، وقادمتين من خلفية قومية متينة. وقد نالتا التشجيع والدعم في عملهما من جواهر لال نهرو، الذي أبدى اهتماما شخصيا بالغا بالمسألة. وفي بيان موجه للاجئين أذيع في الإذاعة، تحدث رئيس الوزراء تحديدا عن «أولئك النساء اللاتي وقعن ضحية تلك المحن كلها»، وطمأنهن أنهن «لا ينبغي أن يشعرن بأننا ينتابنا أي نوع من التردد حيال إعادتهن، أو يراودنا أي شك في عفتهن. نريد أن نعيدهن عن محبة؛ لأن الخطأ لم يكن خطأهن؛ فقد اختطفن قسرا. ونريد أن نعيدهن بكل كرامة، ونرعاهن بكل حب. لا ينبغي أن يساورهن شك في أنهن سيعدن إلى أهلهن ويحصلن على كل مساعدة ممكنة».
26
جرى تتبع النساء المخطوفات فرادى، الواحدة تلو الأخرى. وعند تحديد موقع إحداهن، كانت الشرطة تدخل القرية وقت الغروب، بعد عودة الرجال من الحقول. كان ثمة «مخبر» يرشدهم إلى منزل المختطف. عادة كان المختطفون ينكرون أن النساء الموجودة في حوزتهم مخطوفات. وبعد تجاوز اعتراضاتهم - أحيانا بالقوة - كانت الشرطة تأخذ النساء المخطوفات إلى معسكر حكومي أولا، ثم تنقلهن عبر الحدود.
27
بحلول شهر مايو لعام 1948، كان نحو 12500 امرأة قد عثر عليها وأعيدت إلى أهلها. المفارقة - والمأساة - أن كثيرا من النساء لم يرغبن في أن ينقذن؛ إذ كن قد توصلن إلى نوع من السلام النفسي مع وضعهن الجديد بعد الأسر. وعند المطالبة بعودتهن، انتابهن شك كبير في كيفية استقبال أهلهن لهن؛ فقد صرن «نجسات»، ولتزداد الأمور تعقيدا، كثير منهن كن حبليات. هؤلاء النساء كن يعلمن أنه حتى لو قبلن هن، فأطفالهن الذين ولدوا من صلب «العدو» لن يقبلوا أبدا. في كثير من الأحيان، كانت الشرطة ومعاونوها يضطرون إلى استخدام القوة لأخذ النساء، فكن يقلن: «لم تستطيعوا إنقاذنا آنذاك؛ فبأي حق ترغموننا الآن؟»
28
6
تفاقمت أزمة اللاجئين إثر النقص الحاد في الغذاء ؛ فبعد انتهاء الحرب راحت واردات الحبوب ترتفع باطراد؛ إذ زادت من 0,8 مليون طن عام 1944 إلى 2,8 مليون طن بعد أربعة أعوام. وفي عشية الاستقلال، وجد سياسي مار بمقاطعة شرق جودافاري رجالا ونساء يعيشون على بذور التمر الهندي، وثمار نخيل البوراس، ولحاء أشجار الجيلوجو، التي كانت تسلق معا لعمل عصيدة، تتسبب في الانتفاخ والإسهال، وأحيانا الوفاة. في العام التالي، لم تسقط الأمطار في المقاطعة الغربية من جوجارات؛ مما أفضى إلى نقص حاد في الماء والأعلاف؛ فجفت الآبار ومجاري الأنهار، ونفقت المواشي والماعز جوعا ومرضا.
29
في بعض المناطق كان المزارعون يتضورون جوعا، وفي مناطق أخرى كانوا متململين. وفي فترة الاضطراب التي أعقبت تولي الهنود مقاليد الحكم في حيدر أباد، تحرك الشيوعيون بسرعة للاستيلاء على منطقة تيلانجانا، واستعانوا في ذلك بمجموعة من البنادق عيار,303 بوصة وبنادق طراز مارك 5 من مخلفات جماعة رضا كار المتقهقرة. دمر الشيوعيون قصور ملاك الأراضي ووزعوا أراضيهم على الفلاحين الكادحين. وإذ قسم الشيوعيون أنفسهم إلى عدة مجموعات، كل منها مسئول عن عدد من القرى، طلبوا من الفلاحين ألا يدفعوا ريع الأرض، وتولوا هم مهمة فرض القانون والنظام.
30
في مناطق مثل ورنجال ونالجوندا، نال الشيوعيون تأييدا كبيرا إثر نشاطهم في القضاء على الإقطاع؛ فقد أقر أحد ساسة حزب المؤتمر في زيارة للمنطقة بأن «كل ربة منزل كانت تمد الشيوعيين بعون قيم في صمت، وأبدى قرويون بريئو المظهر تعاطفا نشطا تجاه الشيوعيين».
31
تشجع الشيوعيون بالنجاحات التي حققوها في حيدر أباد على التفكير في ثورة فلاحين تشمل البلد كله؛ فقد أملوا في أن تكون تيلانجانا هي بداية الهند الشيوعية، وأماط الحزب الشيوعي الهندي اللثام عن اتجاهه الجديد في مؤتمر سري عقد في كلكتا في فبراير 1948؛ فخرج متحدث لتهيئة الحالة المزاجية المنشودة بقوله: «إن شعب تيلانجانا المغوار» مهد الطريق «إلى الحرية والديمقراطية الحقيقية»، فقد كان «المستقبل الحقيقي للهند وباكستان»، ولو أن الكوادر الشيوعية تمكنت من «بث تلك الروح الثورية في جموع الشعب - فيما بين المواطنين الكادحين - فسنجد التداعيات تتوالى».
32
في اجتماع كلكتا، انتخب أعضاء الحزب أمينا عاما جديدا؛ إذ سلم بي سي جوشي الراية إلى بي تي راناديف. كان راناديف صارما جادا بطبعه، على عكس جوشي المرح المحبب إلى النفس. (الجدير بالذكر أن كليهما كان هندوسيا من الطائفة العليا، وهو ما كان المعتاد بالنسبة للزعماء الشيوعيين آنذاك.)
33
كان جوشي صديقا لنهرو، ودعا إلى «المعارضة المخلصة» لحزب المؤتمر الحاكم؛ فقد قال إن بقاء الهند الحرة صار على المحك بعد وفاة غاندي. وأشرف على إصدار منشور للحزب عنوانها: «سوف ندافع عن حكومة نهرو» (ضد قوى البعث الهندوسي). إلا أن راناديف كان متشددا مؤمنا بأن الهند تحكمها حكومة برجوازية موالية للإمبرياليين، وفي تحول كامل في موقف الحزب، وصف نهرو آنذاك بأنه عميل للإمبريالية الأمريكية. سحب المنشور الذي أصدره الأمين العام السابق، وأنزل جوشي إلى مرتبة عضو عادي في الحزب، ووجه إليه وابل من الاتهامات؛ حيث وصف بأنه إصلاحي شجع نمو الاتجاهات «المناهضة للثورة» داخل الحزب.
34
وكان الموقف الجديد للحزب الشيوعي الهندي مفاده أن حكومة نهرو انضمت إلى ركب التحالف الأنجلو أمريكي في «خلاف محتدم» مع «المعسكر الديمقراطي» بقيادة الاتحاد السوفييتي. وقد اعتبر بي تي راناديف الإحباط الذي ساد أوساط حزب المؤتمر علامة على «تصاعد الانتفاضة الثورية»، ودعا من مخبئه تحت الأرض إلى تنظيم إضراب عام وانتفاضات للفلاحين في جميع أنحاء البلاد. وحثت منشورات الشيوعيين كوادرها على «مؤاخاة العمال الثوريين في المصانع والطلاب في الشوارع»، وعلى «توجيه بنادقكم وحرابكم إلى أعضاء حزب المؤتمر الفاشيين». وكان الهدف الأسمى هو «الإطاحة بحكومة حزب المؤتمر المجرمة».
35
تشجع راناديف ورجاله بانتصار الشيوعيين في الصين؛ ففي سبتمبر 1949 - بعيد وصول ماو تسي تونج إلى سدة الحكم - أرسل إليه راناديف رسالة تهنئة قال فيها: «إن جموع شعب الهند الكادحة غمرتها الفرحة إثر هذا النصر العظيم؛ فهي تعلم أنه سيعجل تحريرها، وهو يحثها على التحلي بمزيد من العزم والشجاعة في معركتها من أجل الإطاحة بالنظام الحالي، وإرساء دعائم حكم الديمقراطية الشعبية.»
36
كما شجع المنظرون الروس الشيوعيين الهنود؛ إذ ذهب أولئك المنظرون إلى أن «النظام السياسي القائم في الهند يشبه من عدة أوجه النظام الرجعي المعادي للشعبوية الذي كان قائما في الصين تحت حكم حزب الكومينتانج».
37
وقد كان للسفارة السوفييتية في دلهي ذاتها طاقم موظفين كبير، بحيث كانت «الحركة الشيوعية الهندية تتلقى توجيها ممتازا وفوريا» (على حد قول مسئول كبير في دائرة الخدمة المدنية).
38
كان الشيوعيون قد أعلنوا الحرب على الدولة الهندية. وردت الحكومة بكل ما أوتيت من قوة؛ فقبضت على ما يصل إلى 50 ألف عضو من الحزب الشيوعي الهندي والمتعاطفين معه واحتجزتهم. وفي حيدر أباد، قبضت الشرطة على قياديين مهمين ضمن المجموعات الشيوعية، وإن كان رافي نارايان ريدي «زعيم الحركة الشيوعية في الدكن كان ما زال حرا طليقا». وقد شن الحاكم العسكري جيه إن تشودري حربا دعائية على الشيوعيين. فأعلنت المنشورات الملقاة على القرى باللغة التيلوجوية أن أراضي التاج التي يحوزها النظام سوف توزع على الفلاحين. وعرضت فرق مسرحية طافت القرى قضية الحكومة من خلال الدراما والتمثيل الإيمائي. وفي إحدى المسرحيات، صور تشودري إلها هندوسيا، فيما صور الشيوعيون شياطين.
39
وقد أسفرت الدعاية السلبية والقمع عن الآثار المنشودة؛ فقد انخفضت عضوية الحزب الشيوعي الهندي من 89 ألف عضو عام 1948 إلى 20 ألف عضو بعد عامين؛ إذ كشفت الهجمة المضادة التي شنتها الحكومة «قلة التعاطف الشعبي معه في اتجاهه الثوري الجامح». يبدو أن الحزب أخطأ خطأ جسيما في تقدير مدى إحكام حزب المؤتمر قبضته على الشعب الهندي.
40
وبينما راح تأثير الشيوعيين في الانحسار، أخذت زمرة من المتطرفين تزداد قوة في الاتجاه اليميني. كانت تلك الزمرة هي منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. بعد اغتيال المهاتما غاندي في يناير 1948، فرضت الحكومة حظرا على تلك المنظمة. وعلى الرغم من أنها لم تكن ضالعة بصورة مباشرة في الاغتيال، فقد كان لها دور نشط في أحداث العنف التي اندلعت في البنجاب، وكانت تحظى بدعم كبير فيما بين اللاجئين الساخطين على حالهم. وكانت نظرتها إلى العالم شبيهة بنظرة ناثورام جودسي، وقد ترددت إشاعات واسعة النطاق مفادها أن رجالها احتفلوا سرا بمقتل غاندي. وقد كتب نهرو إلى حكومة البنجاب بعد أسبوعين على مقتل غاندي قائلا: «كفانا ما قاسيناه بالفعل في الهند من أنشطة جماعة راشتريا سوايامسيفاك سانج وأمثالها ... فأيادي أولئك الأشخاص ملوثة بدم المهاتما غاندي ، والآن لم يعد ثمة معنى لإخلاء المسئولية والتبرؤ تذرعا بالتقى والورع.»
41
فرض حظر على المنظمة، وقبض على كوادرها، إلا أنه بعد مرور عام قررت الحكومة رفع الحظر مرة أخرى، فقد وافق رئيسها - إم إس جلوالكر - آنذاك على مطالبة رجاله بإعلان ولائهم لدستور الهند والعلم الوطني، وأن يقصر أنشطة المنظمة «على المجال الثقافي مع نبذ العنف أو السرية». وتعهد رئيس المنظمة لوزير الداخلية - فالابهاي باتيل - بأن المنظمة «أثناء تقديمها المساعدة للمعوزين، أكدت تعزيزها للسلام في البلاد». وقد كانت مشاعر باتيل نفسه متضاربة إزاء المنظمة؛ إذ على الرغم من استنكاره خطبها المعادية للمسلمين، كان معجبا بتفانيها وانضباطها، وعندما رفع الحظر عنها، نصح أعضاءها بأن «السبيل الوحيد أمامهم هو إصلاح حزب المؤتمر من الداخل، إذا رأوا أنه يحيد عن الصواب».
42
بعد تقنين وضع المنظمة، قام جلوالكر بجولة «انتصار» في جميع أنحاء البلاد ألقى فيها الخطب، واجتذب «حشودا ضخمة». وقد كتب أحد مراقبي المشهد أن المنظمة «خرجت من محنتها الأخيرة بتأييد جماهيري قد تحسدها عليه الأحزاب الأخرى - بما فيها حزب المؤتمر - وتحذره، بينما ما زالت الفرصة سانحة، ما لم ترغب الأحزاب في رؤية البلاد مسلمة إلى نزعة تحريرية وحدوية هندوسية ستقودها إلى كارثة محققة»؛ فقد كانت المنظمة المقابل الهندوسي للعصبة الإسلامية؛ إذ كانت «مشربة بأفكار طائفية عدوانية، وبإصرار على أنه لا مجال للتنازل عن الهدف الأسمى المتمثل في إرساء ثقافة هندوسية خالصة غالبة في بارات الهند».
43
على غرار الشيوعي بي تي راناديف، كان جلوالكر ينتمي إلى الطائفة العليا في مهاراشترا. كلا الرجلين كان شابا نسبيا - في أوائل الأربعينيات - وكلاهما حظي بولاء مئات من الكوادر الأصغر سنا إلى حد بعيد؛ فكل من منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج والشيوعيين استمد طاقة الشباب ومثاليتهم، وكذلك تعصبهم، وفي الأيام الأولى لاستقلال الهند، كانت هاتان الجماعتان خصمي حزب المؤتمر الحاكم الأكثر حماسا.
على رأس حزب المؤتمر، كان رئيس الوزراء جواهر لال نهرو. واجه نهرو عائقين رئيسيين في تصديه للراديكاليين اليساريين واليمينيين؛ أولا: كان نهرو معتدلا، وعادة لا تفضي الوسطية إلى نوعية الخطب العصماء التي تهيج الرجال وتدفعهم إلى الحركة. وثانيا: كان نهرو وزملاؤه أكبر سنا بكثير من خصومهم السياسيين؛ ففي عام 1949، كان نهرو نفسه في الستين من عمره، وهو عمر يفترض بالرجل الهندوسي عندما يبلغه أن يعتزل الحياة اليومية ويعتنق الحياة الرهبانية.
كان نهرو يعتبر منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج أكبر الخطرين، وهو رأي اختلف معه فيه آخرون في حكومته، أبرزهم فالابهاي باتيل. الغريب أن إم إس جلوالكر كان قد كتب إلى باتيل عارضا المساعدة في محاربة عدوهما المشترك؛ الشيوعيين. قال في رسالته: «إذا استغللنا سلطة حكومتك والقوة الثقافية لمنظمتنا، فسرعان ما سنتمكن من التخلص من الخطر الشيوعي.»
44
راقت فكرة الجبهة المتحدة تلك لباتيل، بل ربما تكون هي التي حدت به إلى التفكير في احتواء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج داخل حزب المؤتمر.
واقع الأمر أن أعضاء المنظمة لم يسمح لهم بالانضمام إلى الحزب، ولكن جلوالكر ظل طليقا، متمتعا بحرية عرض آرائه على من اختاروا الاستماع إليها. في الأسبوع الأول من نوفمبر 1949، ألقى خطابا أمام جمهور بلغ 100 ألف شخص في حديقة شيفاجي ببومباي. وقد وصفه أحد الصحفيين الحاضرين بأنه «رجل متوسط الطول، غائر الصدر، شعره طويل مرسل غير مهذب، وله لحية متدلية». كان يبدو رجلا هندوسيا زاهدا بريئا، عدا أن «عينيه السوداوين الثاقبتين الغائرتين في محجريهما منحاه المظهر التقليدي لمشعوذ على وشك تنفيذ حيلة مخيفة». وقبل أن يبدأ حديثه، قدمت له نواد متخصصة في كمال الأجسام والفنون القتالية أطواقا من الزهور. كان الحديث في حد ذاته «فائر الحماس» في إشادته بفضائل الثقافة الهندوسية، وعلى حد تعبير الصحفي: «لقد قدم العلاج الشافي لعلل الأمة كافة، وهو: تنصيب جلوالكر فوهرر للهند قاطبة.»
45
بعد أسبوع جاء جواهر لال نهرو لإلقاء خطبة في بومباي، وكان مكان الخطبة هو نفس المكان الذي ألقى فيه جلوالكر خطبته: حديقة شيفاجي؛ واحة المروج الخضراء في قلب المستعمرات السكنية المزدحمة في وسط بومباي، التي كانت تغلب عليها الطبقة الوسطى من متحدثي اللغة الماراثية. استخدم نهرو مكبر الصوت ذاته الذي استخدمه جلوالكر ، والذي أمدته به شركة موتواني شيكاجو للهواتف والإذاعة. إلا أن الرسالة التي نقلها كانت مختلفة اختلافا بينا؛ إذ تحدث عن الحاجة إلى حفظ السلام الاجتماعي داخل الهند، إضافة إلى السلام بين الدول المتناحرة خارجها.
ألقى نهرو خطابه في عيد ميلاده الستين يوم 14 نوفمبر 1949، وما كان ليتمنى هدية أفضل من مشاعر الود الفياضة التي أعرب عنها أبناء بلده ذلك اليوم. كان المنتظر أن يصل بومباي الساعة 4:30 عصرا؛ فقبل ساعة على هبوط طائرته في مطار سانتا كروز، «أخذ الناس يغلقون محلاتهم وتوقفوا عن العمل حتى يتمكنوا من رؤية نهرو، وتزاحموا على الأرصفة وفي الشوارع قبل أن تمرق إلى جوارهم السيارة المكشوفة ذات اللون الأحمر الداكن التي استقلها نهرو بوقت طويل. وأثناء مروره استرعت الانتباه عاصفة من التلويح والهتاف».
وصل نهرو - بعدما اغتسل وبدل ثيابه - بعد ساعة إلى حديقة شيفاجي. وهناك «توافدت حشود غير مسبوقة إلى ساحة الميدان الفسيحة للاستماع إليه؛ فتجمع أكثر من 600 ألف شخص في تلك الأمسية الخالدة. كان ثمة كتلة بشرية فائرة الحماس، من رجال ونساء وأطفال أتوا ... للاستماع إليه؛ إذ كانوا ما زالوا مؤمنين بقيادته وقدرته على توجيههم في الفترة العصيبة المقبلة المليئة بالتحديات».
46
جاء مائة ألف شخص للاستماع إلى جلوالكر يدعو إلى فكرة إقامة دولة دينية هندوسية في الهند، إلا أن معقل المهاراشتريين ذاك حضر فيه ستة أمثال ذلك العدد لتشجيع رئيس الوزراء في دفاعه عن الديمقراطية في مواجهة الحكم المطلق، والعلمانية في مواجهة الشوفينية الهندوسية؛ ففي إطار ذلك التنازع بين الأفكار المتنافسة المتعلقة بالهند، أحرز جواهر لال نهرو نصرا محققا، حتى ذلك الحين على أي حال.
7
مثلت عملية إعادة توطين اللاجئين - مثلها مثل عملية دمج الولايات الأميرية في الاتحاد الهندي - مشكلة سياسية غير مسبوقة من حيث طبيعتها ونطاقها؛ فقد كتب عن عدد المهاجرين من باكستان إلى الهند أنه كان «مثل أوراق خريف متساقطة تحملها الرياح، أو أجزاء من صحف متطايرة هنا وهناك وسط عاصفة من الغبار؛ فقد كان من وصل سليم البدن والعقل بلا وجهة أو جذور ».
47
اقتربت أعداد اللاجئين الذين توافدوا إلى الهند عقب الاستقلال من 8 ملايين. كان ذلك العدد يفوق تعداد سكان بعض البلدان الأوروبية الصغيرة مثل النمسا والنرويج، ويعادل سكان قارة كأستراليا. وقد أعيد توطين هؤلاء الناس ببذل الوقت والجهد والنقود، وأخيرا وليس آخرا: من خلال المثالية.
اشتملت عملية بناء الهند الجديدة على قدر كبير من البطولة والعظمة بالفعل، كما تضمنت سقطات وأخطاء وأمورا معلقة ظلت دون أن تحسم؛ فقد انطوت عملية القضاء على طبقة الأمراء - وكذلك عملية إعادة توطين اللاجئين - على ضروب من الألم والمعاناة، إلا أن المهمتين قضيتا في نهاية الأمر.
من الجدير بالذكر، أن الأطراف الفاعلة في تلك العملية المعقدة والملتوية كانوا جميعا هنودا. كان ذلك أمرا غير متوقع على الإطلاق، بالنسبة إلى بريطانيا على الأقل. وقد كتب حاكم سابق للبنغال عام 1947 يقول:
إن نهاية سيطرة بريطانيا السياسية على الهند لن تعني رحيل البريطانيين كأفراد عنها؛ فلسنوات عدة لن تستطيع الهند أن تستغني عن العدد الكبير من الأفراد البريطانيين العاملين في دائرة الخدمة الحكومية. سوف يظلون متعاقدين مع حكومة الهند وحكومات المقاطعات والولايات في مجموعة كبيرة من الوظائف الإدارية والقانونية والطبية والشرطية والمهنية والفنية، وستمر سنوات طويلة قبل أن تتمكن الهند من شغل المناصب العليا العديدة كلها بأبنائها، في ظل نطاق الحكومة المطلوبة لإدارة شئون شعبها البالغ عدده 400 مليون نسمة.
48
والواقع أن ذلك العون لم يطلب، ولا اقتضته الحاجة؛ فالحق يقال إن الحكام البريطانيين كانوا قد خلفوا مجموعة من المؤسسات الفعالة؛ هي: دائرة الخدمة المدنية، وجهاز الشرطة، والقضاء، والسكك الحديدية، وغيرها. في وقت الاستقلال، دعت حكومة الهند الأعضاء البريطانيين في دائرة الخدمة المدنية الهندية إلى البقاء، ولكنهم جميعا - باستثناءات قليلة - عادوا إلى وطنهم، بصحبة زملائهم في الدوائر الأخرى. لذا صار الأبطال الذين تخلد هذه الصفحات ذكراهم هنودا كلهم، سواء كانوا رجال سياسة مثل نهرو وباتيل، أم بيروقراطيين مثل تارلوك سينج وفي بي مينون، أم أخصائيين اجتماعين مثل كمالا ديفي تشاتوبادياي ومريدولا سارابهاي. يسري ذلك أيضا على جنود مجهولين لا حصر لهم لم تعرف أسماؤهم آنذاك ولا يزالون مجهولين إلى الآن، هؤلاء هم الموظفون الذين تلقوا طلبات تخصيص الأراضي، وتولوا البت فيها، والموظفون الذين شيدوا المساكن وأداروا المستشفيات والمدارس، والموظفون الذين عملوا في المحاكم ووظائف السكرتارية. كذلك كان السواد الأعظم من الأخصائيين الاجتماعيين الذين عملوا على استمالة اللاجئين ومواساتهم ورعايتهم هنودا.
وقد كتب مهندس معماري أمريكي يدعى ألبرت ماير - عمل في الهند خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال - بانفعال عن سمو الأشخاص المحيطين به ومثاليتهم، فقال: «إن عدد الأشخاص الذين رأيتهم ونوعياتهم وقدراتهم ونظرتهم وطاقتهم وتفانيهم، والمناخ المتقد من الخطط والتوقعات وعدم الاستقرار، ورغم ذلك الهدوء ورباطة الجأش! محصلة ذلك كله متواجدة في لحظة ميلاد أمة.»
49
في تاريخ بناء الأمم لا يوجد نظير للتجربة الهندية سوى التجربة السوفييتية؛ ففي الاتحاد السوفييتي بدوره، اصطنع شعور الوحدة بين جماعات عرقية وديانات وجماعات لغوية وطبقات اجتماعية شتى، وقد كان حجمه - جغرافيا وكذلك ديموغرافيا - شاسعا فيما يشبه الهند. كانت المادة الخام التي كان على الدولة العمل بها غير مواتية بالمثل؛ شعب قسمته الديانات، وعصفت به الديون والأمراض.
كانت الهند بعد الحرب العالمية الثانية تشبه الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الأولى إلى حد بعيد، فقد نشأت دولة من أشتاتها، إلا أنه في حالة الهند لم تيسر العملية بالقضاء على الأعداء من المنتمين للطبقات العليا أو إقامة معسكرات اعتقال.
الفصل السادس
الدستور
في الحكم تتحقق صور إنكار الذات كافة. في الحكم تتحد الأسرار المقدسة كافة. في الحكم تجتمع المعرفة كافة. وفي الحكم تتركز العوالم كافة.
ملحمة «مهابهاراتا»
إن الأخلاقيات الدستورية ليست شعورا فطريا، وإنما يجب غرسها. علينا أن ندرك أن شعبنا لم يتعلمها بعد؛ فالديمقراطية في الهند ليست أكثر من نثر للسماد فوق تربة هندية، غير ديمقراطية في أساسها.
بي آر أمبيدكار
1
إن دستور الهند بما يحويه من 395 مادة واثني عشر جدولا هو أطول دساتير العالم على الأرجح. بدأ العمل به في يناير 1950، بعدما استغرقت صياغته ثلاثة أعوام، في الفترة ما بين ديسمبر 1946 وديسمبر 1949. خلال تلك الفترة، ناقشت الجمعية التأسيسية الهندية مسوداته بندا بندا، وإجمالا عقدت الجمعية التأسيسية إحدى عشرة جلسة استغرقت 165 يوما، وفيما بين الجلسات تولت عدة لجان ولجان فرعية مهمة مراجعة المسودات وتنقيحها.
طبع محضر جلسات الجمعية التأسيسية في أحد عشر مجلدا ضخما. وتمثل تلك المجلدات - التي يتخطى بعضها الألف صفحة - شهادة على حب الهنود للإطناب، ولكنها تشهد أيضا على ما يتمتعون به من بصيرة وذكاء وحماسة وحس دعابة. تلك المجلدات كنز لا يعرفه الكثيرون، لا يقدر بثمن بالنسبة إلى المؤرخين، وكذلك مصدر تنوير محتمل لمن يهمه الأمر من المواطنين؛ ففيها نجد أفكارا كثيرة متنازعة بشأن الدولة؛ من حيث اللغة التي ينبغي أن تتحدثها، والنظام السياسي والاقتصادي الذي ينبغي أن تتبعه، والقيم الأخلاقية التي ينبغي أن تتمسك بها أو تتخلى عنها.
2
منذ أوائل ثلاثينيات القرن العشرين أصر حزب المؤتمر على أن يصوغ الهنود دستورهم بأنفسهم. وفي عام 1946، نزل اللورد ويفل على ذلك الطلب أخيرا. اختير أعضاء الجمعية التأسيسية على أساس انتخابات مجالس المقاطعات التي أقيمت ذلك العام. إلا أن العصبة الإسلامية قررت مقاطعة الجلسات الأولى؛ مما جعل الجمعية التأسيسية عمليا منبر حزب واحد.
عقدت أول جلسة للجمعية التأسيسية يوم 9 ديسمبر 1946، وخيمت مشاعر الترقب على الأجواء. جلس زعماء حزب المؤتمر - مثل نهرو وباتيل - في الصفوف الأمامية، إلا أنه بغية إثبات أن الجلسة لا تقتصر من حيث المبدأ على حزب المؤتمر وحده، خصصت لمعارضين معروفين - مثل سرات بوس من البنغال - مقاعد أمامية أيضا. وذكرت إحدى الصحف القومية أن «تسع سيدات قد حضرن مما أضفى لونا» لمشهد غلبت عليه قبعات غاندي وسترات نهرو.
1
إلى جانب الأعضاء الذين أوفدتهم مقاطعات الهند البريطانية، تضمنت الجمعية التأسيسية أيضا ممثلين عن الولايات الأميرية، أرسلتهم تلك الولايات إذ انضمت إلى الاتحاد واحدة تلو الأخرى. وقد كان 82٪ من أعضاء الجمعية العامة أعضاء في حزب المؤتمر، إلا أنه بما أن ذلك الحزب كان في حد ذاته متعدد الأطياف، فقد تعددت آراء أعضائه. كان فيه ملحدون وعلمانيون، وآخرون كانوا «أعضاء في حزب المؤتمر نظريا، ولكنهم ينتمون بروحهم إلى منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج أو منظمة هندو ماهاسابها».
2
وكان منهم ذوو الفلسفة الاقتصادية الاشتراكية، بينما ناصر آخرون حقوق ملاك الأراضي. وإلى جانب التباين الذي انطوى عليه حزب المؤتمر في داخله، فقد رشح أيضا أعضاء مستقلين من مختلف الطوائف الهندية والجماعات الدينية، كما كفل تمثيل المرأة، وسعى إلى الاستعانة بخبراء القانون بصفة خاصة، ومن ثم «لم يكن ثمة طيف من أطياف الرأي العام لم يمثل في الجمعية التأسيسية».
3
كان توسيع القاعدة الاجتماعية للجمعية التأسيسية يعزى في جزء منه إلى الانتقادات البريطانية؛ فقد أبدى ونستون تشرشل، بصفة خاصة، استنكارا بالغا إزاء فكرة إنشاء جمعية تأسيسية تغلب عليها «جماعة واحدة كبرى في الهند»، وهي: الهندوس. إذ رأى أن حزب المؤتمر لم يكن حزبا ممثلا للمجتمع بحق، وإنما بوق «الأقليات نشطة التنظيم والتخطيط التي استولت على السلطة باستخدام القوة أو الحيلة أو الخداع، ثم مضت إلى استخدام تلك السلطة باسم الجماهير العريضة التي فقدت كل صلة فعلية بها منذ زمن».
4
وقد أكسبت تلك العملية طابعا أقوى من المشاركة بمطالبة الشعب أجمع بتقديم طلباته؛ فوردت مئات الطلبات، التي تشير دراسة عينات منها إلى طبيعة المصالح التي كان على المشرعين أن يضعوها في اعتبارهم؛ فطلبت منظمة فرناشارما سواراجيا سانج لعموم الهند (التي مقرها كلكتا) أن يكون الدستور «قائما على المبادئ المرساة في النصوص الهندوسية القديمة». وكان مما أوصت به، بصفة خاصة، حظر ذبح الأبقار وإغلاق المسالخ. وطالبت الطوائف الهندية الدنيا بوضع حد «لسوء المعاملة من جانب الطوائف الاجتماعية العليا»، وأيضا «حجز مقاعد خاصة لهم على أساس تعدادهم في المجالس التشريعية، والدوائر الحكومية، والهيئات المحلية، وما إلى ذلك». وطالبت الأقليات اللغوية بمنحها «حرية التحدث باللغة الأم»، وكذلك «إعادة توزيع المقاطعات على أساس لغوي». وطالبت الأقليات الدينية بضمانات خاصة، وطالبت هيئات متنوعة على غرار نقابة معلمي منطقة فيزياناجارام والمجلس اليهودي المركزي في بومباي بمنح أعضائها «التمثيل اللائق ... في جميع الهيئات العامة، بما في ذلك المجالس التشريعية وما إلى ذلك».
5
تشهد تلك الطلبات على ما تتسم به الهند من تنوع مربك، ولكنها تشهد أيضا على وجود «ثقافة حقوقية» نشأت مبكرا في صفوف الهنود؛ فقد كانوا كثرا ومنقسمين، والأهم من ذلك كله أنهم لم يجدوا غضاضة في الإفصاح عن آرائهم. كان على دستور الهند أن يفصل بين آلاف المزاعم والمطالب المتنازعة، وزاد الاضطراب الذي ساد تلك الفترة صعوبة المهمة؛ فقد التقت الجمعية التأسيسية بين عام 1946 وعام 1949، على خلفية ندرة الغذاء، وأعمال الشغب الطائفية، وإعادة توطين اللاجئين، والحروب الطبقية، والتعنت الإقطاعي. وعلى حد قول أحد مؤرخي تلك المرحلة: «كان من المفترض أن تصاغ الحقوق الأساسية وسط مجزرة المظالم الكبرى.»
6
3
تألفت الجمعية التأسيسية مما يزيد عن 300 عضو إجمالا. وقد حدد جرانفيل أوستن في تأريخه للدستور الهندي عشرين عضوا باعتبارهم الأشد تأثيرا؛ من هؤلاء كان ما لا يقل عن اثني عشر حاصلا على درجة علمية في القانون، منهم أعمدة في حزب المؤتمر؛ مثل: جواهر لال نهرو، وفالابهاي باتيل، وراجندرا براساد.
كان أول خطاب مهم يلقيه نهرو في الجمعية التأسيسية يوم 13 ديسمبر من عام 1946، عندما اقترح «قرار الأهداف». أعلن ذلك القرار الهند «جمهورية مستقلة ذات سيادة»، وكفل لمواطنيها «العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمساواة في المكانة، والمساواة في الفرص، والمساواة أمام القانون، وحرية الفكر والتعبير والاعتقاد، والعقيدة والعبادة، والعمل والتجمع والتصرف، بما يتماشى مع القانون والأخلاق العامة». وصاحب ذلك كله التأكيد على «منح الضمانات اللازمة للأقليات، والمناطق المتخلفة، والمناطق القبلية، والطبقات المقهورة، وغيرها من الطبقات المتخلفة». في اقتراح هذا القرار استحضر نهرو روح غاندي و«ماضي الهند العظيم»، فضلا عن السوابق الحديثة مثل الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية.
7
بعد تسعة شهور، ألقى نهرو خطابا آخر في القاعة المعمدة ذاتها - في منتصف الليل - مطالبا الهنود بالوفاء بموعدهم مع القدر. فيما بين هاتين الخطبتين - يوم 22 يوليو من عام 1947 - اقترح قرارا مفاده أن يكون العلم الوطني للهند «مقسما أفقيا بالتساوي بين ثلاثة ألوان هي: الزعفران، والأبيض، والأخضر الداكن»، وتتوسطه عجلة باللون الكحلي. في تلك المناسبة، قاد نهرو أنشودة التنافس في الوطنية؛ إذ سعى متحدث تلو الآخر إلى رؤية شيء خاص في ألوان العلم يظهر مساهمة طائفته في الهند.
8
وبطبيعة الحالة، كانت الخطب ذات الأهمية الرمزية هي الخطب التي ألقاها نهرو. وبالمثل، كان القائم بمعظم العمل بعيدا عن دائرة الضوء هو فالابهاي باتيل؛ إذ بصفته سياسيا حزبيا محنكا، اضطلع بدور رئيسي في صياغة التقارير على مختلف أنواعها؛ فقد كان باتيل - وليس نهرو، الذي لم يكن صبورا بالقدر ذاته - هو الذي تولى مهمة الوساطة بين الأطراف المتخاصمة، حيث كان يأخذ الأعضاء المتمردين معه في تمشيته الصباحية ويريهم وجهة النظر الأشمل، وكان باتيل أيضا هو من اقترح أحد القرارات المثيرة للجدل، وهو القرار المعني بحقوق الأقليات.
9
ثالث أعضاء حزب المؤتمر المهمين كان هو رئيس الجمعية التأسيسية راجندرا براساد، الذي رشح لذلك المنصب في اليوم التالي على تأسيس الجمعية وصانه بوقار حتى النهاية. كانت المهمة التي أوكلت إليه مهمة لا يحسد عليها؛ إذ إن الهنود يجيدون الحديث أكثر من الاستماع، ولا سيما رجال السياسة الهنود؛ فكان على براساد أن يصلح بين الأعضاء المتخاصمين، وأن يلزم رجالا لا يستطيعون أحيانا التمييز بين صغائر الأمور وكبائرها بحدود الوقت (وهي مهمة لا تقل صعوبة عن الأولى).
إلى جانب ثلاثي حزب المؤتمر المذكور، كان أهم عضو في الجمعية هو المحامي البارع المنتمي إلى الطائفة الدنيا بي آر أمبيدكار. شغل أمبيدكار منصب وزير القانون في حكومة الاتحاد الهندي، وكذلك منصب رئيس لجنة صياغة الدستور. وعمل إلى جواره عقلان عظيمان آخران هما: كيه إم مونشي؛ روائي ومحام، وكذلك مناضل واسع الثقافة من جوجارات، وألادي كريشنا سوامي آير؛ وهو تاميلي شغل منصب النائب العام في رئاسة مدراس طوال خمسة عشر عاما.
حري بنا أن نضيف إلى هؤلاء الرجال الستة رجلا سابعا لم يكن عضوا في الجمعية التأسيسية على الإطلاق؛ ذلك هو بي إن راو، الذي عمل مستشارا دستوريا لحكومة الهند. وخلال تاريخ مهني طويل في دائرة الخدمة الهندية شغل سلسلة من المناصب القانونية. أعد راو سلسلة من المذكرات لكي ينظر فيها أمبيدكار وفريقه، مستعينا بدراسته وخبرته، وجولة دراسية كان قد أنهاها لتوه في الدول الديمقراطية الغربية. تلقى راو بدوره المساعدة من كبير مسئولي الصياغة إس إن موخرجي، الذي كانت «قدرته على وضع أكثر المقترحات تعقيدا في أبسط وأوضح صياغة قانونية يندر أن تجد لها نظيرا».
10
4
الرؤية الأخلاقية والمهارة السياسية والفطنة القانونية، كل تلك العناصر اجتمعت في صياغة الدستور الهندي، وكان في ذلك اتحاد لما سماه جرانفيل أوستن الثورة «الوطنية» والثورة «الاجتماعية».
11
ركزت الثورة الوطنية على الديمقراطية والحرية اللتين حرمت تجربة الحكم الاستعماري الهنود جميعا منهما، بينما ركزت الثورة الاجتماعية على التحرر والمساواة، اللذين حرمت التقاليد والنصوص الدينية النساء والطوائف الاجتماعية الدنيا منهما.
فهل كان يمكن إحداث هاتين الثورتين المتلازمتين بسبل محلية؟ دعا البعض إلى وضع دستور مستوحى من فكر غاندي يقوم على إعادة إحياء نظام «حكم البنشايات» (مجالس القرى)، وبه تكون القرية هي الوحدة الأساسية للسياسة والحكم. لقيت تلك الدعوة هجوما عنيفا من بي آر أمبيدكار، الذي رأى أن «تلك الجمهوريات القروية كانت مبعث هلاك الهند». وقد تفاجأ أمبيدكار «بأن من أدانوا النزعة الإقليمية والطائفية صاروا يناصرون القرى؛ فما القرى سوى أوكار للانتماءات المحلية، ومستنقعات من الجهل وضيق الأفق والطائفية».
12
أثارت تلك التعليقات سخط بعض الأطراف؛ فقد استهزأ الاشتراكي إتش في كامات بموقف أمبيدكار باعتباره «موقفا طبيعيا لأبناء الحضر المثقفين». وقال زعيم الفلاحين إن جي رانجا إن تعليقات أمبيدكار إن دلت على شيء فعلى جهله بتاريخ الهند. وقال: «إنه لا يفقه شيئا في التقاليد الديمقراطية لبلدنا. إن كان عرف الإنجازات التي حققتها مجالس القرى في جنوب الهند على مدى ألف سنة، ما قال ذلك الكلام.»
13
إلا أن العضوة المشاكسة من المقاطعات الاتحادية - بيجام إعزاز رسول - كانت «متفقة تماما» في الرأي مع الدكتور أمبيدكار؛ فقد رأت أن «الحداثة تميل إلى حقوق المواطن في مواجهة أي هيئة اعتبارية، ومجالس القرى يمكن أن تكون شديدة الاستبداد».
14
في نهاية الأمر، اختير الفرد - لا القرية - ليكون هو الوحدة الأساسية. في نواح أخرى أيضا، احتذى الدستور بالسوابق الأوروبية الأمريكية عوضا عن الهندية؛ فطرح النظام الرئاسي الأمريكي ثم رفض، وكذلك رفض النظام السويسري القائم على انتخاب الوزراء بالاقتراع المباشر. وقد ناصر كثير من الأعضاء نظام التمثيل النسبي، لكنه لم يؤخذ على محمل الجد قط. وقد اتبعت مستعمرة بريطانية سابقة أخرى - أيرلندا - هذا النظام، ولكن عندما زار المستشار الدستوري بي إن راو دبلن، أخبره دي فاليرا نفسه أنه يتمنى لو أن الأيرلنديين تبنوا «نظام الانتخاب الفردي» البريطاني في الانتخابات، وكذلك نظام مجلس الوزراء البريطاني؛ فقد كان يشعر أن هذين النظامين يتمخضان عن حكومة قوية. وفي الهند، حيث كان عدد جماعات المصالح المتنافسة أكبر بما يفوق القياس، كان اتباع النموذج البريطاني منطقيا أكثر؛
15
فتقرر اختيار أعضاء مجلس الشعب في البرلمان الهندي - وكذلك مجالس النواب في الأقاليم - على أساس الاقتراع العام للبالغين. وبعد مداولات مستفيضة، قرر البرلمان - وكذلك معظم الأقاليم - إنشاء مجلس ثان ليكون رقيبا على الحماس الديمقراطي المفرط، واختير أعضاؤه بالاقتراع غير المباشر؛ حيث اختارتهم المجالس التشريعية للولايات في حالة مجلس الشيوخ.
في حين أن مجلس الوزراء تزعمه رئيس الوزراء، فإن رئيس الدولة كان رئيسا انتخبه مجمع انتخابي يتضمن المجالس التشريعية الوطنية والإقليمية، وتقرر أن يكون الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن يتمتع بسلطة إعادة مشروعات القوانين إلى البرلمان. كان ذلك منصبا ذا «نفوذ وكرامة عظيمين»، ولكنه - على غرار الملكية البريطانية - لم يكن ذا «سلطة حقيقية».
16 (في الأقاليم اضطلع حاكم ترشحه الحكومة المركزية بدور شبيه بدور الرئيس.) وقد نص الدستور على إنشاء لجنة انتخابية مستقلة، ومراقب مالي عام للحسابات. وفي سبيل حماية القضاء من السياسات الحزبية، تقرر أن يعين الرئيس القضاة بالتشاور مع رئيس المحكمة العليا، ولا يقرر البرلمان مرتباتهم، وإنما يعهد بها إلى خزانة الدولة مباشرة. كان ينظر إلى المحكمة العليا في دلهي على أنها حامية الثورة الاجتماعية، وكذلك الضامن للحقوق المدنية وحقوق الأقليات، ومنحت اختصاصا استئنافيا واسعا ، إذ كان يجوز أن تحول لها أي قضية مدنية أو جنائية تتضمن تفسيرا للدستور.
وقد نص الدستور على نظام معقد من الفيدرالية المالية؛ ففي حالة بعض الضرائب (مثل الجمارك وضريبة الشركات) احتفظت حكومة الاتحاد بالعوائد كافة، وفي غيرها (مثل ضريبة الدخل وضريبة الإنتاج) تقاسمت العوائد مع الولايات، وفي ضرائب أخرى (مثل ضريبة التركات) منحت الولايات العائد كله. في الوقت نفسه، كان بإمكان الولايات أن تفرض ضرائب معينة وتجبيها دون الرجوع للحكومة؛ ومنها: ضريبة الأراضي، وضريبة الملكية، وضريبة المبيعات، والضريبة عالية الربحية التي تفرض على المشروبات الكحولية المعبأة.
استندت تلك المواد المالية بقوة إلى قانون حكومة الهند الصادر عام 1935. في المقابل، تضمن الجزءان الثالث والرابع «ضمير الدستور»،
17
الذي ورد فيه مجموعة من الحقوق الأساسية والمبادئ التوجيهية. تلك الحقوق الأساسية واجبة النفاذ في المحاكم كانت مستمدة من الالتزام السلبي بعدم التعدي على الحرية الشخصية أو تقييدها، والالتزام الإيجابي بحماية الأفراد والجماعات من الإجراءات التعسفية للدولة. تضمنت الحقوق المنصوص عليها: الحرية، والمساواة أمام القانون، والحقوق الثقافية للأقليات، وحظر الممارسات من قبيل نبذ المنبوذين والعمل القسري.
18
أما المبادئ التوجيهية غير الخاضعة لحكم القضاء، فكانت مستمدة من التزام الدولة الإيجابي بتوفير حياة أكثر إشباعا للمواطن، وكانت خليطا عجيبا من القوى المتجاذبة المتنازعة؛ فبعض المبادئ كان فيها تنازل للجناح الاشتراكي من حزب المؤتمر، وأخرى (مثل حظر ذبح الأبقار) أتت إرضاء للفصيل المحافظ في الحزب.
19
بالنسبة إلى المراقب المحايد، مثل الدستور تكييفا للمبادئ الغربية بما يتلاءم مع الغايات الهندية. ولكن بعض الوطنيين لم يروه هكذا؛ فقد زعموا أن الهنود هم من ابتكروا فكرة منح حق الاقتراع للبالغين. وتحدث تي براكاسام عن نقش على جدران معبد قديم في كونجيفارام عمره ألف عام، تحدث عن إجراء انتخاب استخدمت فيه أوراق الشجر كأوراق اقتراع، والآنية الفخارية كصناديق اقتراع.
20
لم تكن تلك الشوفينية حكرا على الجنوب وحده، فقد زعم خبير اللغة الهندية راجو فيرا أن الحضارة الهندية القديمة كانت «منبع نظام الحكم الجمهوري»، وأنها «نشرت ذلك النظام في سائر أنحاء العالم ».
21
أما من تطلعوا إلى أحكام الدستور عن كثب، فلم يكن في مقدورهم تعزية أنفسهم هكذا؛ إذ شعر مهافير تياجي «بإحباط بالغ لعدم رؤية أثر لغاندي في ذلك الدستور».
22
وتذمر كيه هانومان تايا من أنه في حين رغب المناضلون من أجل الحرية مثله في «موسيقى الفينا أو السيتار» (آلات وترية هندية)، كان ما حصلوا عليه هو «موسيقى إحدى الفرق الإنجليزية».
23
5
سعى الدستور الهندي إلى تعزيز الوحدة الوطنية، وكذلك إلى تيسير التغير الاجتماعي التقدمي؛ فقد تضمن الحق الأساسي في نشر الدين، ولكن الولاية احتفظت لنفسها بحق فرض التشريعات المعنية بالإصلاح الاجتماعي (مثل قانون مدني موحد). كانت حكومة الاتحاد مخولة - عبر التخطيط على المستوى الوطني - سلطة إعادة توزيع الموارد من المقاطعات الأغنى إلى المقاطعات الأفقر. لم تتضمن التشريعات الخاصة بالملكية الحق في ضمان الحقوق القانونية الفردية، وهو موضع آخر طغت فيه المصلحة المجتمعية كما تحددها الولاية على حقوق الفرد. وقد طرحت قوانين الإصلاح الزراعي للنقاش في مقاطعات كثيرة، وأرادت الحكومة أن تغلق باب التقاضي أمام المقرضين والملاك الساخطين.
وصفت الحقوق الأساسية وتحددت بناء على احتياجات الإصلاح الاجتماعي، وكذلك اعتبارات الأمن والنظام العام؛ فكان ثمة بنود خاصة بحقوق تعلق في «حالة الطوارئ القومية». وورد بند في الدستور يبيح «الاحتجاز الاحتياطي» دون محاكمة، وهو ما أطلق عليه أحد المناضلين من أجل الحرية المخضرمين «أسوأ ما شاب الدستور»؛ فهو إذ كان قد أمضى عشرة أعوام من حياته في «الزنزانات وحجرات المحكوم عليهم بالإعدام في أيام الاستعباد البريطاني»، كان يعلم «ألوان العذاب التي يذوقها من يحتجز دون محاكمة، ولا يمكنني القبول بذلك أبدا».
24
أبدى الدستور قدرا من التحيز لحقوق الاتحاد الهندي في مواجهة حقوق الولايات المكونة له؛ فقد كان ثمة نظام مركزي قائم بالفعل، فرضته حكومة الاستعمار. وقد أسفر العنف الذي ساد تلك الحقبة عن دفعة إضافية تجاه المركزية، التي صارت تعتبر آنذاك ضرورة من أجل منع وقوع الفوضى، وكذلك من أجل تخطيط النمو الاقتصادي للبلاد.
وقد ورد في الدستور ثلاث قوائم من الموضوعات: قائمة الاتحاد، وقائمة الولايات، وقائمة الاختصاص المشترك. كانت موضوعات القائمة الأولى (الاتحاد) خاصة بالحكومة المركزية، في حين اختصت الولايات بالموضوعات الواردة في القائمة الثانية (الولايات). أما القائمة الثالثة (الاختصاص المشترك )، فاشتركت حكومة الاتحاد والولايات في موضوعاتها، إلا أن البنود التي انفرد بها «الاتحاد» كانت أكثر مما في الاتحادات الفيدرالية الأخرى، وكذلك كانت البنود الموضوعة على قائمة «الاختصاص المشترك» أكثر مما رغبت الولايات. إضافة إلى ذلك، سيطرت حكومة الاتحاد على الثروة المعدنية والصناعات الكبرى، ومنحتها المادة 356 سلطة تولي إدارة ولاية بناء على توصية حاكمها.
25
قاتل ساسة الولايات باستماتة في سبيل حقوق الولايات، وتقليل البنود المدرجة تحت قائمة «الاختصاص المشترك» وقائمة «الاتحاد»، فطلبوا نصيبا أكبر من عوائد الضرائب، وشنوا حملة أيديولوجية على المبدأ في حد ذاته. وقد قال عضو من أوريسا إن الدستور تضمن «سلطة بالغة المركزية، حتى إني أخشى ألا تتحمل حكومة الاتحاد كل تلك المهام الملقاة على عاتقها». ورأى عضو من ميسور أن ما اقترح كان دستورا «مركزيا» لا «فيدراليا»؛ فقد ورد في مواده أن «الديمقراطية مركزها دلهي، ولا يجوز العمل بها بالمعنى ذاته والروح ذاتها في سائر أنحاء البلاد».
26
وقد يكون أفصح دفاع عن حقوق الولايات هو الذي صدر عن كيه سنثانام من مدراس؛ فقد رأى أن الأحكام المالية جعلت المقاطعات «متسولين على باب حكومة الاتحاد». في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن لكل من الحكومة المركزية والولايات أن يفرضا «جميع أنواع الضرائب»، ولكن هنا حرمت المقاطعات من عوائد حيوية، مثل عوائد ضريبة الدخل. إضافة إلى ذلك، فقد حاولت لجنة الصياغة أن «تلقي على كاهل حكومة الاتحاد شتى أنواع السلطات التي لا ينبغي أن تحوزها، ومنها «مواجهة التشرد» التي أزيلت من على قائمة الولايات، ووضعت على قائمة الاختصاص المشترك؛ فسأل سنثانام ساخرا: «أتريدون أن تنشغل الهند كلها بالمشردين؟» وعلى حد تعبيره، عوضا عن تحميل حكومة الاتحاد عبئا ثقيلا: «ينبغي أن يعهد بالمسئولية الأولى عن سلامة سكان المقاطعات إلى حكوماتها.»
27
في اليوم التالي، رد عضو من المقاطعات الاتحادية على تلك الاتهامات؛ فإذ استمع إلى سنثانام ، تساءل عما إذا كانت «نزعة الهند الأزلية تجاه التفكك هي التي تطل برأسها عبر هؤلاء الزعماء». فوجود حكومة مركزية قوية كان ضرورة مطلقة في هذه «الأوقات العصيبة المتوترة»، ومثل هذه الحكومة هي التي يمكن أن تكون «في وضع يسمح لها بالتفكير والتخطيط من أجل سلامة البلد كله».
28
دافع أعضاء لجنة الصياغة بشراسة عن الميل المركزي للدستور؛ ففي إحدى أولى الجلسات أخبر بي آر أمبيدكار الجمعية أنه يريد «حكومة اتحاد قوية أقوى بكثير من الحكومة المركزية التي كانت موجودة بموجب قانون حكومة الهند الصادر عام 1935».
29
ودعا كيه إم مونشي إلى إقامة «اتحاد فيدرالي يتمتع بأقوى حكومة مركزية ممكنة».
30
في بعض المسائل كان مونشي أقرب للهندوسي المتعصب، ولكنه في هذه المسألة وجد نفسه على الجانب ذاته كالمسلمين؛ فالعنف الطائفي المروع الذي وقع خلال عامي 1946 و1947 شهد على الحاجة إلى وجود حكومة مركزية قوية. وحسب قول قاضي سيد كريم الدين: «ليس الجميع كجواهر لال نهرو» (فيما يتعلق بالتزامه بتحقيق الوفاق بين الهندوس والمسلمين). وقال قاضي إنه ثمة «مسئولون تنفيذيون ضعاف ومترددون في المقاطعات كافة»؛ لذا «نريد اليوم حكومة متزنة، نريد اليوم حكومة وطنية، نريد اليوم حكومة قوية، وسلطة تنفيذية محايدة صارمة لا تنحني أمام الأهواء الشعبية».
31
6
أولت الجمعية التأسيسية اهتماما كبيرا لمسألة حقوق الأقليات. وقد جرى أول نقاش مطول للمسألة بعد التقسيم بعشرة أيام. وفيه دعا مسلم من مدراس - بي بوكر بهادور - بإصرار إلى الإبقاء على الدوائر الانتخابية المنفصلة، وقال: «في الوضع الحالي لهذا البلد، من الصعب أن يتمكن غير المسلمين من «تلبية احتياجات المجتمع الإسلامي ومتطلباته». فإذا ألغي نظام الدوائر الانتخابية المنفصلة، فستشعر فئات مهمة في المجتمع «بأنها لا تشارك في حكم البلاد بدرجة كافية».»
32
وقد كان وزير الداخلية السردار باتيل معارضا لهذا الطلب بشدة؛ فقد أدت الدوائر الانتخابية المنفصلة في الماضي إلى انقسام البلاد، وهتف باتيل أمام عاصفة من التصفيق قائلا: «من يريد مثل هذا الأمر فسيجد له مكانا في باكستان وليس هنا. نحن هنا بصدد بناء أمة، وإننا نرسي دعائم «أمة واحدة»، ولن يجد من يختار الانقسام مجددا ويزرع بذور الفتنة مكانا ولا تعاطفا بيننا هنا. أقولها بصراحة ودون مواربة.»
33
إلا أن بعض المسلمين عارضوا فكرة الدوائر الانتخابية المنفصلة منذ البداية، ومنهم السيدة إعزاز رسول، التي قالت إنه «لا معنى على الإطلاق» الآن لحجز مقاعد على أساس الدين، فقد كانت الدوائر الانتخابية المنفصلة «سلاح تدمير ذاتي يفرق بين الأقليات والأغلبية إلى الأبد»، ومصالح المسلمين في دولة ديمقراطية علمانية «متطابقة كليا» مع مصالح غيرهم من المواطنين.
34
بحلول عام 1949، اقتنع الأعضاء المسلمون الذين كانوا يطالبون بدوائر انتخابية منفصلة في البداية بوجهة نظر السيدة إعزاز رسول؛ فقد شعروا أن حجز مقاعد للمسلمين «من شأنه أن يوقع ضررا بالغا بالمسلمين أنفسهم»، وإنما ينبغي للمسلمين أن يعيدوا تشكيل أنفسهم في كتل تصويتية، بحيث لا يستطيع أي مرشح في الدوائر التي يتواجدون فيها بأعداد كبيرة تحمل تبعات إغفالهم، بل ربما يصير «لهم صوت حاسم في الانتخابات». إذ إنه «في النهاية قد تهزم أغلبية هائلة ظاهريا ... من صوت واحد»، لذا «تكمن سلامة المسلمين في لعب دورهم بذكاء والاختلاط مع الهندوس في الشئون العامة».
35
أما الأقلية الضعيفة التي فاقت المسلمين عددا، فكانت نساء الهند. أتت عضوات الجمعية العامة من الحركة القومية واعتنقن روح الوحدة منذ البداية. لذا رفضت هانسا مهتا؛ من بومباي، تطبيق نظام تخصيص المقاعد أو الحصص أو الدوائر الانتخابية المنفصلة بالنسبة للنساء، وقالت: «نحن لم نطالب بامتيازات قط. ما طلبناه كان العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وطالبنا بالمساواة التي لا يمكن لسواها أن يكون أساسا للاحترام والفهم المتبادلين، والتي لا يمكن نشأة تعاون حقيقي بين الرجل والمرأة دونها.»
36
ووافقتها الرأي رينوكا روي؛ من البنغال، فقالت: بخلاف «الحركات المحدودة النطاق المنادية بمنح المرأة حق الاقتراع» في «كثير من الدول المستنيرة المزعومة»، ناضلت المرأة في الهند في سبيل «المساواة في المكانة، والعدالة والإنصاف، وفي المقام الأول القدرة على المشاركة في العمل المسئول في خدمة بلادها ... فمنذ نشأة الحركة النسائية في هذا البلد، كانت المرأة معارضة من الأساس لفكرة الامتيازات الخاصة وتخصيص المقاعد».
37
كان الصوت الوحيد المؤيد لتخصيص مقاعد للمرأة صوت رجل. كان ذلك غريبا، والأغرب كان منطق حجته؛ فقد قال آر كيه تشودري إنه من واقع «خبرته بصفته عضو برلمان ورجلا خبر العالم»:
أظن أنه من الحكمة أن نخصص دوائر انتخابية للمرأة؛ فعندما تطلب المرأة شيئا - كما نعلم - يسهل أن نجلبه ونعطيه لها، ولكنها عندما لا تطلب شيئا محددا يصير معرفة ما تريده أمرا بالغ الصعوبة. إذا منحت النساء دوائرهن الانتخابية الخاصة، فسيتقاتلن فيما بينهن بعيدا عن الدائرة الانتخابية العامة، وإلا وجدنا أنفسنا أحيانا نضعف ونستسلم لهن ونمنحهن مقاعد ليست من حقهن.
38
7
لم تخصص مقاعد للمسلمين ولا النساء، إلا أن الدستور أوصى بتخصيص مقاعد للمنبوذين. كان ذلك إقرارا بالمعوقات الهائلة التي عانوا منها، وكذلك احتراما لغاندي الذي لطالما شدد على أن الحرية الحقيقية لن تتأتى إلا بتنقية المجتمع الهندوسي نفسه من ذلك الشر. وكان غاندي أيضا هو من أشاع مصطلحا جديدا «للمنبوذين» هو: «الهاريجان» أو أبناء الرب.
خصص الدستور مقاعد في المجالس التشريعية وكذلك وظائف في الدوائر الحكومية للطوائف الدنيا، وكذلك فتح أبواب المعابد على مصراعيها أمام جميع الطوائف، وطالب بالقضاء على ممارسة النبذ في المجتمع كله. وقد قوبلت تلك المواد بترحيب واسع النطاق. فعلق مونيسوامي بيلاي من مدراس قائلا: «إن ممارسة النبذ كانت سبة ولطخة تشين جبين الهند الناصع ... وثمة قديسون عظام بذلوا قصارى جهدهم للقضاء على ممارسة النبذ، ولكن هذه الجمعية المنعقدة في شهر أغسطس والدستور الجديد آل إليهما شرف الإعلان على الملأ أن ممارسة النبذ لم يعد لها مكان في بلادنا.»
39
ومثلما أشار إتش جيه خاندكار من المقاطعات الوسطى، فقد كان تمثيل المنبوذين منخفضا على نحو ملحوظ في المناصب الإدارية العليا. وفي المقاطعات - التي قد يشكلون فيها ما يصل إلى 25٪ من تعداد السكان - في كثير من الأحيان، كان ثمة وزير واحد فحسب من الهاريجان، في حين قد يسيطر البراهمة - الذين لا يمثلون أكثر من 2٪ من السكان - على ثلثي مقاعد مجلس الوزراء. أشار خاندكار إلى أنه على الرغم من الالتزام المعلن لحزب المؤتمر، «فيما عدا غاندي وعشرة أشخاص أو عشرين شخصا آخر [من الطائفة العليا]، ليس ثمة من يفكر في النهوض بالهاريجان بالمعنى الحقيقي للكلمة ».
قدم هذا العضو دفاعا بليغا عن توسيع نطاق مسألة تخصيص المقاعد لتشمل الوظائف الحكومية. وأشار إلى التعيينات الجديدة في دائرة الخدمة الإدارية الهندية - وريثة دائرة الخدمة المدنية الهندية - حيث أجريت مقابلات عمل للعديد من أبناء فئة الهاريجان، ولكنهم رفضوا جميعا استنادا إلى أنهم لم يحصلوا على الدرجات العلمية المطلوبة؛ فقال خاندكار في إصرار مخاطبا زملاءه من الطائفة العليا:
أنتم المسئولون عن كوننا غير مؤهلين اليوم، فقد عانينا القهر لآلاف السنين. أنتم انخرطتم في الدوائر الحكومية تحقيقا لأغراضكم الخاصة، وقهرتمونا إلى حد أن عقولنا وأبداننا، وحتى قلوبنا، لم تعد تعمل، وكذلك لم نعد قادرين على المضي إلى الأمام. هذا هو الوضع. أنتم أوصلتمونا إلى هذا الوضع ثم تقولون إننا غير مؤهلين، ولم نحصل على الدرجات العلمية المطلوبة. كيف لنا أن نحصل عليها؟
40
كان دحض حجته صعبا، ويكاد يكون مستحيلا. ولكن بعض الأعضاء حذروا من احتمال إساءة استخدام تلك المواد؛ فرأى أحدهم أن «أولئك الأشخاص الذين يطالبون بإصرار بتلك المقاعد وتخصيصها لهم ومراعاتهم يمثلون بضعة أشخاص هم صفوة مجتمع الهاريجان». وقد كان هؤلاء أصحاب «القوة السياسية» وسط تلك الفئات.
41
وبالنسبة إلى مهافير تياجي؛ العضو اليساري في حزب المؤتمر، تخصيص المقاعد لا يفضي إلى تمثيل حقيقي؛ ذلك لأن «أيا من الطوائف لا تنتفع أبدا بذلك التخصيص؛ فالنفع يعود على فرد أو عائلة». وعوضا عن تخصيص المقاعد على أساس الطائفة، ربما كان الأحرى أن تخصص المقاعد على أساس الطبقات الاجتماعية، بحيث «يحدد الإسكافيون والصيادون والطبقات المشابهة ممثليهم عن طريق نظام تخصيص المقاعد؛ لأن تلك هي الفئات التي لا تجد أي تمثيل فعليا».
42
8
نص أول تقرير عن حقوق الأقليات - صدر في نهايات شهر أغسطس من عام 1947 - على تخصيص مقاعد للمنبوذين فقط. أما المسلمون فحرموا ذلك الحق، وهو ما كان متوقعا في تلك الظروف، إلا أن أحد أعضاء الجمعية التأسيسية أبدى أسفه على أن «جماعة الأديفاسي (القبائل الأصلية) الأكثر عوزا، والأكثر استحقاقا لم تدخل في الصورة إطلاقا».
43
كان ذلك العضو هو جيبال سينج؛ الذي كان من الأديفاسي هو نفسه، وإن كان من عينة فريدة إلى حد ما؛ فقد كان جيبال من قبائل الموندا في هضبة تشوتاناجبور، وهي هضبة تكسوها الغابات في جنوب بيهار، وتسكنها قبائل متعددة كلها منفصلة على نحو أو آخر عن مجتمع الطوائف الهندوسية. وإذ أرسل المبشرون جيبال للدراسة في أكسفورد، ذاع صيته هناك بوصفه لاعب هوكي ممتازا، فنال شرف تمثيل جامعته، ثم مضى ليصير رئيس الفريق الهندي الذي حصل على الميدالية الذهبية في دورة الألعاب الأولمبية لعام 1928.
عندما عاد جيبال إلى الهند، لم يعمل على نشر تعاليم الإنجيل - مثلما أملت الجهة الراعية له بلا شك - وإنما ابتكر تعاليم خاصة به. كانت تلك التعاليم مفادها أن أبناء القبائل هم «السكان الأصليون» لشبه القارة الهندية، ومن ثم كان اسمهم «الأديفاسي» أو «الأديباسي»، التي تعني ذلك تحديدا. أنشأ جيبال منظمة «أديباسي ماهاسابها» عام 1938، التي طالبت باقتطاع «جهارخاند» من ولاية بيهار وجعلها ولاية مستقلة. بالنسبة إلى قبائل تشوتاناجبور، كان جيبال هو «الزعيم الأكبر». وقد مثل القبائل في الجمعية التأسيسية، ليس قبائل الهضبة التي نشأ فيها فحسب، وإنما قبائل الهند كافة.
44
كان جيبال خطيبا موهوبا، بثت مداخلاته الحماس والمرح في قاعة الجمعية. (في هذا الصدد، كانت خسارة الكنيسة مكسبا للسياسة بلا شك.) ألقى أول خطاب له يوم 19 ديسمبر عام 1946، عندما لخص - ترحيبا بقرار الأهداف - قضية الأديفاسي ببراعة، فقال:
باعتباري أحد سكان الغابات، أو الأديفاسي، لا يتوقع مني أن أفهم التعقيدات القانونية للقرار، ولكن المنطق يخبرني أن كلا منا عليه أن يسير في هذا الطريق إلى الحرية، وأن نحارب معا. يا سيدي، إذا كان ثمة فئة من الشعب الهندي أسيئت معاملتها فهي قومي؛ فقد تعرضوا لمعاملة مشينة، وأهملوا طيلة 6 آلاف سنة منصرمة. ويتجلى في تاريخ حضارة وادي السند - والتي أنا من أبنائها - أن الوافدين الجدد - ومعظم الحاضرين هنا دخلاء من وجهة نظري - هم من دفعوا قومي إلى النزوح من وادي السند ليلوذوا إلى أمان الغابات ... تاريخ قومي كله حافل باستغلال وحرمان مطردين على أيدي السكان غير الأصليين في الهند ، يتخللهما فترات من التمرد والفوضى، ورغم ذلك فإني أصدق جواهر لال نهرو، وأصدقكم جميعا عندما تقولون إننا سنفتح الآن صفحة جديدة، صفحة الهند المستقلة؛ حيث المساواة في الفرص، وإعطاء كل ذي حق حقه.
45
بعد ثلاثة أعوام - في إطار النقاشات بشأن مسودة الدستور - ألقى جيبال خطابا متقدا بالحماس بكل ما في الكلمة من معان. إذ استسلاما لضغط أتباع غاندي، كان حظر المشروبات الكحولية قد صار من المبادئ التوجيهية، فقال جيبال زعيم الأديفاسي إن ذلك يمثل تدخلا «في الحقوق الدينية لأقدم جماعة في البلاد». فقد كانت المشروبات الكحولية جزءا من مهرجاناتهم وطقوسهم، بل حياتهم اليومية ذاتها. وفي غرب البنغال «يستحيل زرع شتلات الأرز ما لم يحتس رجال قبيلة السنتال جعة الأرز. هؤلاء الرجال رثو الثياب ... عليهم أن يعملوا طوال اليوم في حقول مغمورة بالمياه وسط الأمطار الغزيرة والوحل؛ فما الذي تحويه تلك الجعة ويبقيهم على قيد الحياة؟ أتمنى أن تجري الجهات الطبية المسئولة في هذا البلد أبحاثا في مختبراتها حتى تعرف المكون الذي تحويه جعة الأرز، والذي يحتاجه رجال الأديفاسي إلى هذا الحد، ويقيهم مختلف ضروب الأمراض».
46
كانت الجمعية التأسيسية قد أنشأت لجنة فرعية معنية بحقوق القبائل رأسها الأخصائي الاجتماعي المخضرم إيه في تكار، وقد أفضت النتائج التي توصلت إليها اللجنة - وكذلك كلمات جيبال وغيره - عن توعية أعضاء الجمعية بمعاناة القبائل. وعلى حد تعليق أحد الأعضاء من بيهار: «لقد حول أهل القبائل إلى بيادق على رقعة شطرنج السياسة المحلية»؛ فقد حدث «استغلال هائل النطاق، ويجدر بنا أن نحني رءوسنا خجلا».
47
وكان يقصد بضمير المتكلم هنا المجتمع الهندوسي ككل، الذي أساء إلى الأديفاسي إما بتجاهلهم وإما باستغلالهم، ولم يبذل جهدا يذكر لكي يوفر لهم مرافق التعليم والصحة الحديثة، واستوطن أراضيهم وغاباتهم، ووضعهم تحت منظومة من الربا والديون، ومن ثم - على سبيل التصحيح الجزئي للوضع - «خصصت » للأديفاسي بدورهم مقاعد في المجالس التشريعية ووظائف في الحكومة.
9
كان الموضوع الأكثر إثارة للجدل داخل الجمعية التأسيسية هو اللغة؛ اللغة التي ينبغي التحدث بها في الجمعية التأسيسية، والتي ينبغي كتابة الدستور بها، والتي ستحمل لقب «اللغة القومية» المتفرد. وفي يوم 10 ديسمبر من عام 1946 - بينما كانت لائحة إجراءات الجمعية ما زالت قيد المناقشة - اقترح آر في دوليكار من المقاطعات الاتحادية تعديلا. وعندما بدأ الحديث باللغة الهندوستانية ذكره الرئيس بأن كثيرا من الأعضاء لا يفهمون تلك اللغة، فكان رد دوليكار كالتالي:
لا يحق لمن يجهل اللغة الهندوستانية أن يبقى في الهند؛ فالأفراد الحاضرون في هذه القاعة بغية وضع دستور للهند ولا يعرفون اللغة الهندوستانية ليسوا جديرين بأن يكونوا أعضاء في هذه الجمعية التأسيسية، وحري بهم أن يغادروا.
أثارت تعليقاته جلبة في أرجاء القاعة، فهتف الرئيس قائلا: «سكوت! سكوت!» ولكن دوليكار تابع حديثه قائلا:
أقترح أن تضع لجنة الإجراءات القواعد باللغة الهندوستانية لا اللغة الإنجليزية. وبصفتي هنديا أنادي بأن نفكر نحن الهنود - إذ انطلقنا سعيا وراء حرية بلادنا ونحارب في سبيلها - ونتحدث بلغتنا. لقد تحدثنا طيلة الفترة الماضية عن الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وسويسرا ومجلس العموم البريطاني. وقد أصابني الصداع من هذا الحديث. ترى لم لا يتحدث الهنود لغتهم؟ بصفتي هنديا أشعر أن فعاليات جلسات الجمعية ينبغي أن تجري باللغة الهندوستانية. نحن لسنا معنيين بتاريخ العالم؛ فلدينا تاريخ بلادنا الذي يرجع إلى ملايين السنين.
واستمر محضر الجلسة المطبوع كالتالي:
الرئيس :
سكوت! سكوت!
السيد آر في دوليكار (مواصلا الحديث باللغة الهندوستانية) :
أطلب منكم السماح لي باقتراح ذلك التعديل.
الرئيس :
سكوت! سكوت! لن أسمح لك بالمتابعة. يتفق أعضاء الجمعية معي على أنك خرجت عن النظام.
48
عندئذ اعتلى جواهر لال نهرو المنصة وأقنع دوليكار بالعودة إلى مقعده. وفيما بعد، أخبر نهرو ذاك العضو الناشز بضرورة حفظ النظام في جلسات الجمعية وقال له إن «هذا ليس بمجلس شعبي في جانسي حتى تخاطب «الإخوة والأخوات» وتشرع في إلقاء الخطب العصماء بأعلى صوتك».
49
ولكن الأمر لم ينته عند هذا الحد؛ ففي إحدى الجلسات حث الأعضاء الجمعية على توجيه أوامر إلى حكومة دلهي بتغيير لوحات أرقام السيارات كلها من اللغة الإنجليزية إلى الهندية.
50
والأهم من ذلك أنهم طالبوا بإصدار النسخة الرسمية من الدستور باللغة الهندية، إلى جانب نسخة غير رسمية باللغة الإنجليزية. لم تقبل لجنة الصياغة بذلك الطلب، متعللة بأن اللغة الإنجليزية أقدر على التعبير عن المصطلحات الفنية والقانونية الواردة في الوثيقة، إلا أنه عند طرح مسودة الدستور للنقاش، طالب الأعضاء بمناقشة كل بند باللغة الهندية وقالوا إن اعتماد وثيقة مكتوبة باللغة الإنجليزية أمر «مهين».
51
من الضروري أن نبين هنا الفرق بين اللغة «الهندوستانية» واللغة «الهندية». اللغة الهندوستانية الشائعة في مناطق كثيرة من شمال الهند كانت خليطا فريدا من اللغتين الهندية والأردية، واللغة الهندية التي تكتب بأبجدية ديفاناجاري تعتمد إلى حد بعيد على اللغة السنسكريتية. أما الأردية التي تكتب بأبجدية عربية معدلة، فقائمة إلى حد بعيد على اللغة الفارسية واللغة العربية. ومنذ القرن التاسع عشر، مع تنامي التوتر بين الهندوس والمسلمين في شمال الهند، راحت اللغتان تتباعدان أكثر فأكثر؛ فنشأت حركة داعية إلى زيادة ترسيخ الأصول السنسكريتية للغة الهندية من ناحية، ومن ناحية أخرى، نشأت حركة داعية إلى زيادة ترسيخ الأصول العربية والفارسية للغة الأردية. وبنحو خاص في ميدان الأدب، بدأ تداول صورة منقاة من اللغة الهندية، وأخرى منقاة من اللغة الأردية.
52
طوال ذلك الوقت، ظلت لغة الحديث الرائجة هي اللغة الهندوستانية؛ فتلك كانت مفهومة بالنسبة إلى متحدثي الهندية والأردية، وكذلك بالنسبة إلى متحدثي معظم اللغات المحلية الرئيسية في سهل الجانج الهندي؛ مثل: الأردية، والبوجبورية، والمايثيلية، والماروارية وخلافه. إلا أن اللغات الهندوستانية والهندية والأردية كانت شبه مجهولة في شرق الهند وجنوبها؛ فاللغات المتحدثة هناك كانت هي: الآسامية، والبنغالية، والكانادية، والمالايالامية، والأورية، والتاميلية، والتيلوجوية، وكل منها له أبجديته الخاصة وأدبياته الراقية.
في ظل الحكم البريطاني، ظهرت الإنجليزية لغة للتعليم العالي وللإدارة؛ فهل تبقى في موقعها بعد رحيل البريطانيين؟ رأى رجال السياسة في الشمال أنه ينبغي الاستعاضة عنها باللغة الهندية. أما رجال السياسة والسكان في الجنوب، فحبذوا استمرار اللغة الإنجليزية وسيطا للتواصل بين المقاطعات.
انشغل جواهر لال نهرو نفسه بتلك المسألة؛ ففي مقال طويل كتبه في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين ، أعرب عن إعجابه باللغات المحلية الكبرى، وقال إنه دون «التعدي بأي حال على نطاق استخدامها»، يرى أنه لا بد أن يكون ثمة لغة للتواصل في عموم الهند. الإنجليزية أبعد مما ينبغي عن عامة الشعب، ومن ثم اختار اللغة الهندوستانية عوضا عنها، التي وصفها بأنها «الوسيط الذهبي» بين الهندية والأردية. آنذاك - إذ لم يكن التقسيم احتمالا واردا من الأساس - ظن نهرو أنه يمكن استخدام الأبجديتين. لكن اللغة الهندوستانية كانت تتميز ببساطة قواعدها وسهولة تعلمها النسبية، إلا أنه بغية زيادة تيسير تعلمها كان بإمكان علماء اللغة أن يطوروا لغة هندوستانية مبسطة على غرار اللغة الإنجليزية المبسطة، يمكن للدولة ترويجها في جنوب الهند.
53
وعلى غرار نهرو، كان غاندي يظن أن اللغة الهندوستانية يمكن أن تؤلف بين الشمال والجنوب، والمسلمين والهندوس، وأنها - عوضا عن الإنجليزية - ينبغي أن تصير هي «اللغة القومية». وعلى حد قوله: «يستخدم المسلمون الأبجدية الأردية في الكتابة، ويستخدم كهنة السنسكريتية الأبجدية الهندية في الكتابة، فالهندوستانية خليط جيد بين الاثنتين.»
54
عام 1945، دخل غاندي جدالا محتدما مع بروشتم داس تندن، الرجل الذي قاتل ببسالة - بل ببطولة - من أجل تخليص اللغة الهندية من العناصر الأجنبية. كان تندن نائب رئيس مؤتمر الأدب الهندي لعموم الهند، الذي نادى بأن تكون اللغة الهندية ذات الأبجدية الديفاناجارية هي وحدها اللغة القومية. وقد استاء غاندي من نزوح المؤتمر - الذي كان عضوا فيه منذ زمن بعيد - إلى الجانب الشوفيني. وبما أنه كان يعتقد أنه ينبغي استخدام كل من الكتابة الناجارية والكتابة الأردية، فقد رأى أنه ربما آن الأوان لتقديم استقالته من عضوية المؤتمر. حاول تندن أن يثنيه عن ذلك القرار، ولكن غاندي قال له: «كيف لي أن يكون لي رأيان مختلفان؟ من سيفهمني عندما أقول إن اللغة القومية = الهندية، وإن اللغة القومية = الهندية + الأردية = الهندوستانية؟»
55
وقد قضى التقسيم على فرص اللغة الهندوستانية تقريبا؛ فقد تنامت الحركة الداعية إلى ترسيخ الأصول السنسكريتية للغة الهندية. كان بإمكان المرء أن يرى ذلك على الطبيعة داخل الجمعية التأسيسية؛ حيث كانت الإشارات في البداية إلى الهندوستانية، ثم تحولت كلها فيما بعد إلى الهندية. وبعد تقسيم البلاد، ازداد مؤيدو اللغة الهندية تعصبا. وعلى حد تعليق جرانفيل أوستن، فقد كان «أنصار اللغة الهندية على استعداد للمخاطرة بإحداث انقسام داخل الجمعية التأسيسية وداخل البلاد في إطار سعيهم غير العقلاني نحو توحيد اللغة».
56
وقد أثارت حملتهم بعض أشد النقاشات حدة في جلسات الجمعية؛ فسكان جنوب الهند لم يقبلوا باللغة الهندوستانية، وكانوا أقل قبولا للغة الهندية، ومتى تحدث أحد الأعضاء باللغة الهندية، كان عضو آخر يطلب ترجمة إلى الإنجليزية.
57
وعندما طرحت فكرة أن تصير الهندية اللغة القومية الوحيدة، قوبلت بمعارضة شديدة. ومن الأمثلة الدالة على ذلك التعليق الوارد عن تي تي كريشنامشاري من مدراس، حين قال:
كنا نكره اللغة الإنجليزية فيما مضى. كنت أكرهها لأنني اضطررت إلى تعلم أشعار شكسبير وميلتون، التي لم أكن أتذوقها على الإطلاق ... فإذا فرض علينا تعلم اللغة الهندية ... ربما أعجز عن ذلك لتقدمي في العمر، وربما لا أجد لدي استعدادا لذلك بسبب كم القيود التي تفرضونها علي ... هذا النوع من التعصب يجعلنا نخشى أن الحكومة المركزية القوية التي نحتاجها، والتي لا غنى عنه، ستكون معناها أيضا استعباد الأشخاص الذين لا يتحدثون لغتها. وأود يا سيدي أن أنقل إليكم تحذيرا نيابة عن أهل الجنوب، نظرا لوجود عناصر في جنوب الهند بالفعل ترغب في الانفصال ... وإن أصدقائي الموقرين في المقاطعات الاتحادية لا يعينوننا البتة بمواصلة دفعهم بفكرة «إمبريالية اللغة الهندية» إلى أقصى حد ممكن. يا سيدي، إن وحدة الهند وكذلك جعل اللغة الهندية اللغة الرسمية منوطتان بأصدقائي في المقاطعات الاتحادية؛ فالخيار لهم.
58
أخيرا توصل أعضاء الجمعية التأسيسية إلى حل وسط؛ حيث «تصير اللغة الرسمية للاتحاد هي اللغة الهندية بالأبجدية الديفاناجارية»، ولكن لمدة «خمسة عشر عاما منذ بدء العمل بالدستور، تظل اللغة الإنجليزية مستخدمة في جميع الأغراض الرسمية التي استخدمها فيها الاتحاد قبل بدء العمل بالدستور مباشرة».
59
فعلى أي حال، حتى عام 1965 استخدمت اللغة الإنجليزية في تدوين المذكرات القضائية، ومحاضر جلسات المحاكم، وفي الدوائر الخدمية والمنظومة البيروقراطية في عموم الهند.
10
أعرب المهاتما غاندي ذات مرة عن أمله في رؤية امرأة من المنبوذين تنصب أول رئيسة للهند. لم يحدث ذلك، ولكن سرعان ما أتى تعويض عنه عندما طلب من رجل من تلك الطائفة - الدكتور بي آر أمبيدكار - أن يرأس لجنة الصياغة في الجمعية التأسيسية.
وفي 25 نوفمبر 1949 - اليوم السابق على انتهاء فعاليات الجمعية التأسيسية - ألقى أمبيدكار خطابا مؤثرا لخص فيه عمل اللجنة؛
60
فتوجه بالشكر إلى زملائه أعضاء لجنة الصياغة، وطاقم الدعم، وحزب طالما عارضه؛ إذ من دون عمل أعضاء حزب المؤتمر في صمت داخل الجمعية التأسيسية وخارجها، ما كان أمبيدكار تمكن من خلق نظام من قلب الفوضى. قال: «كان انضباط حزب المؤتمر هو سبب نجاح لجنة الصياغة في توجيه الدستور داخل الجمعية التأسيسية عن يقين بمصير كل مادة وكل تعديل.»
ثم تنازل أمبيدكار، إثر نوبة من الحنين الوطني، وأقر بأن الهند عرفت قديما شكلا من أشكال الديمقراطية، فقال: «كانت الهند ذات يوم زاخرة بالجمهوريات.» وكما هو متوقع منه، استشهد بالبوذيين الذين نموا المثل الديمقراطية في جماعات النساك، التي طبقت قواعد شبيهة بالإجراءات البرلمانية؛ من تصويت واقتراحات وقرارات، وتوجيه لوم، وتعيين رقباء.
وطمأن أمبيدكار الجمعية التأسيسية أيضا إلى أن الفيدرالية التي نص عليها الدستور لا تنكر حقوق الولايات بأي حال من الأحوال. وقال إنه من الخطأ أن نفكر أنه ثمة «مركزية مفرطة، وأن الولايات اختزلت إلى بلديات»؛ فقد فصل الدستور بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا تستطيع حكومة الاتحاد أن تغير حدود ذلك الفصل وحدها، وعلى حد قوله: «حكومة الاتحاد والولايات متساويتان في هذا الأمر.»
أنهى أمبيدكار خطابه بثلاثة تحذيرات متعلقة بالمستقبل. كان الأول يتعلق بالاحتجاجات الشعبية في الدول الديمقراطية. قطعا لم يكن ثمة مجال للثورات الدامية، ولكنه رأى أنه لم يكن ثمة مجال لأساليب غاندي أيضا. وقال: «يجب أن نتخلى عن أسلوب العصيان المدني وعدم التعاون والاحتجاجات الشعبية.» ففي ظل النظم الاستبدادية قد تكون تلك الأساليب مبررة بعض الشيء، ولكن ليس الآن، بعدما أتيحت سبل الإنصاف الدستورية. وقال أمبيدكار إن الاحتجاجات الشعبية وما شابهها «ليست أكثر من ركائز الفوضى، وكلما أسرعنا بنبذها، كان ذلك أفضل لنا».
التحذير الثاني كان متعلقا بالخضوع الأعمى للقيادة الكاريزمية. واستشهد أمبيدكار بقول جون ستيوارت ميل، الذي حذر المواطنين من أن «يسلموا حرياتهم ولو إلى رجل عظيم، أو أن يعهدوا إليه بسلطات تمكنه من تخطي مؤسساتهم». وذلك التحذير أكثر أهمية هنا مما كان في إنجلترا؛ وذلك نظرا لأنه:
في الهند، يضطلع الباكتي، أو ما يمكن أن نسميه طريق التقوى أو تأليه الأشخاص، بدور في سياستها لا يضاهيه أي بلد آخر في العالم؛ فهو في الدين قد يكون هو السبيل إلى خلاص الروح، ولكن معناه في السياسة، وهو تأليه الأشخاص، هو السبيل الأكيد إلى الانحطاط، وإلى الدكتاتورية في نهاية المطاف.
وحث أمبيدكار في تحذيره الأخير الهنود على ألا يقنعوا بما سماه «الديمقراطية السياسية فحسب»، فقد تخلصت الهند من الحكم الأجنبي، ولكن التفاوت والهرمية لا يزالان يعصفان بها؛ لذا فبمجرد أن يصير هذا البلد جمهورية رسميا يوم 26 يناير 1950:
سيلج حياة مليئة بالتناقضات؛ ففي مجال السياسة سنحظى بالمساواة، وفي مجال الحياة الاجتماعية والاقتصادية سنعاني التفاوت. وفي السياسة سنقر بمبدأ «شخص واحد، صوت واحد، وصوت واحد، قيمة واحدة». أما في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية، فسنظل رافضين لمبدأ المساواة بين الأفراد، نظرا لهيكلنا الاجتماعي والاقتصادي؛ فإلى متى سنظل نحيا هذه الحياة المليئة بالتناقضات؟ وإلى متى سنظل رافضين للمساواة في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية؟ إذا استمررنا على هذا المنوال طويلا، فلن يسفر ذلك إلا عن تعريض ديمقراطيتنا السياسية للخطر.
11
انعقدت الجمعية التأسيسية للدستور الهندي في 9 ديسمبر 1946. وقبل ذلك التاريخ بثمانية شهور قدم دستور جديد إلى البرلمان الياباني لاعتماده، إلا أن تلك الوثيقة كتبتها بالكامل تقريبا مجموعة من الأجانب؛ ففي أوائل فبراير 1946 اجتمع أربعة وعشرون فردا - كلهم أمريكيون، ومنهم ستة عشر رجلا عسكريا - في قاعة رقص بطوكيو حولت لاستخدامهم. اجتمعوا فيها أسبوعا قبل أن يخرجوا بدستور رأوا أنه ينبغي لليابانيين اعتماده. بعدها قدم الدستور كأمر واقع إلى القيادة السياسية المحلية، التي سمح لها «بإضفاء صبغة يابانية » على مسودة الدستور بترجمتها إلى اللغة المحلية. خضعت المسودة للنقاش في البرلمان الياباني أيضا، إلا أن أي تعديل - حتى التعديلات الشكلية الخالصة - كان لا بد أن تعتمده السلطات الأمريكية أولا.
كتب مؤرخ تلك التجربة العجيبة أنه «ما من دولة حديثة ارتكزت يوما على دستور أغرب من هذا».
61
وإن التناقض بين تلك الحالة وبين الحالة الهندية لواضح أيما وضوح. فأحد الدستورين وضع في إطار من السرية المطلقة، بينما وضعت مسودة الآخر ونوقشت على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام كافة. وأحدهما وضع بسرعة فائقة وكتبه أجانب. أما الآخر فكان من اشتركوا في كتابته كلهم من أهل البلد، ونتج عن سنوات عدة من التفكير المتمعن والنقاش. إلا أنه إحقاقا للحق، ينبغي للمرء أن يقر بأن الدستورين - على الرغم من اختلاف ظروف نشأتهما - كانا يمثلان في جوهرهما عقيدة إنسانية ليبرالية. ويمكن للمرء أن يقول عن الوثيقة الهندية ما قاله المشرف الأمريكي عن مسودة الدستور الياباني، ومفاده أنه «يمثل تحولا حادا عن اتجاه اليمين المتطرف في الفكر السياسي، دون أن يبدي أدنى ميل للمبادئ الراديكالية التي يعتنقها اليسار المتطرف».
62
زعم جرانفيل أوستن أن صياغة الدستور الهندي «ربما كانت أهم مشروع سياسي منذ وضع الدستور الأمريكي في فيلادلفيا عام 1787»؛ فقد كان وضع مجموعة من المثل الوطنية، وآلية مؤسسية للعمل على تحقيقها «خطوة هائلة بالنسبة إلى شعب كان فيما مضى مقيدا إلى حد بعيد بسبل غير عقلانية لتحقيق أهداف خيالية». وفي هذا - مثلما يعلن القسم الأخير من كتاب أوستن - «الفضل يرجع للهنود».
63
الجزء
الهند في عهد نهرو
الفصل السابع
أكبر مقامرة في التاريخ
نحن رجال بسطاء نخدم قضايا عظيمة، ولكن القضية لعظمتها، تسبغ علينا بعضا من تلك العظمة أيضا.
جواهر لال نهرو، في حديث له عام 1946
الهند تعني لنا شيئين لا ثالث لهما: المجاعات ونهرو.
صحفي أمريكي، في حديث له عام 1951
1
في السنوات الأولى بعد نيل الحرية، تعرض حزب المؤتمر الحاكم لتهديدات من الخارج ومن الداخل؛ فرجال الحركة القومية كانوا نموذجا للمثالية والتضحية كثوار على الراج البريطاني، ولكنهم كحكام أخذوا يستمتعون بثمار منصبهم. وعلى حد تعبير أحد الصحفيين المخضرمين من مدراس: «كانت أولى ضحايا الصراع على السلطة بعد وفاة غاندي هي الأخلاق.»
1
وذكرت مجلة «تايم» أنه بعد نيل الاستقلال، حزب المؤتمر «وجد نفسه دون هدف يوحده؛ فأصابه الترهل والخمول، وصار يشتمل على العديد من الموظفين المتلونين وعدد ليس بقليل من تجار السوق السوداء».
2
وأشارت إحدى الصحف الأسبوعية المؤثرة في بومباي إلى أنه «من غرب البنغال إلى أوتر براديش - على طول وادي الجانج - يعاني حزب المؤتمر الوطني الانقسامات؛ فالهالة القديمة التي أحاطت بالتنظيم السياسي الأصلي بدأت تتلاشى، وازدادت حدة التحزبات، وأصبحت شعبية الحزب في تراجع مستمر».
3
نشأت الانقسامات الحزبية على مستوى المناطق، وكذلك على مستوى الأقاليم. إلا أن أعظم الشقاقات كان الشقاق بين عمودي الحزب الرئيسيين: البانديت جواهر لال نهرو والسردار فالابهاي باتيل. وقعت خلافات كبرى بين هذين الرجلين - الأول رئيس الوزراء والآخر نائبه - في الشهور الأولى التالية على الاستقلال. ثم قربهما موت غاندي من جديد. ولكن خلال عامي 1949 و1950 عادت الخلافات إلى الظهور.
لا شك أن نهرو وباتيل كان بينهما تناقض صارخ من حيث طباعهما وشخصيتيهما؛ فرئيس الوزراء كان رجلا برهميا من الطائفة العليا، وكان والده إحدى الشخصيات البارزة أيضا في الحركة القومية. أما نائبه، فكان ابن طائفة المزارعين، وسليل أحد متمردي السيبوي في التمرد الذي حدث عام 1857. وكان نهرو يحب أطايب الطعام والنبيذ، ويتذوق الفنون والآداب الراقية، وتعددت أسفاره إلى الخارج. أما باتيل فلم يكن يدخن ولا يعاقر الخمر وكان نباتيا، وبصفة عامة كان «مسئولا صارما لا وقت لديه للهو». كان يستيقظ في الرابعة صباحا، ويقضي ساعة في تفقد خطاباته، ثم يذهب للتمشية في شوارع نيودلهي الخافتة الإضاءة. هذا إلى جانب أن «المظهر الجاد والملامح الباردة الساخرة جعلا السردار شخصية صارمة جدا». وقد وصفته صحيفة «نيويورك تايمز » بأنه «شديد الصرامة والحدة».
إلا أنه كان ثمة أوجه تشابه أيضا بينهما؛ فكلاهما كان لديه ابنة تشغل دور ربة المنزل والرفيقة وكاتمة السر الأولى، وكلاهما كان سياسيا ظاهر النزاهة شديد الوطنية. لكن أفكارهما لم تكن متناغمة على الدوام؛ فعلى حد التعبير الحصيف لأحد مراقبي المشهد، كانت «معارضة السردار للعناصر اليسارية في البلاد إحدى المشكلات الكبرى لعملية التكيف السياسي التي تواجهها الهند». وكان يقصد بذلك أن باتيل كان صديقا للرأسماليين في حين كان نهرو يؤمن بضرورة سيطرة الدولة على الاقتصاد، وأن باتيل كان أكثر ميلا إلى مساندة الغرب في الحرب الباردة الناشئة، وأن باتيل كان أكثر تسامحا مع التطرف الهندوسي وأكثر تعنتا بخصوص باكستان.
4
وفي أواخر عام 1949 وقع خلاف كبير بين نهرو وباتيل؛ ففي مطلع العام الجديد، كان من المقرر أن تتحول الهند من «دومنيون»، يمثل فيه ملك بريطانيا رئيس الدولة، إلى جمهورية مكتملة الأركان. وكان نهرو يرى أنه عندما يتحول منصب الحاكم العام إلى منصب الرئيس، ينبغي أن يحتفظ شاغل المنصب - سي راجا جوبالاتشاري - بوظيفته. كان راجا رجلا أكاديميا مهذبا تربطه صلة طيبة جدا برئيس الوزراء. إلا أن باتيل كان يفضل راجندرا براساد؛ فقد كان مقربا منه ولكنه إضافة إلى ذلك كان يتمتع بقبول أكبر داخل حزب المؤتمر. وكان نهرو قد أكد لراجا أنه سينال كرسي الرئاسة، ولكن باتيل أثار استياءه - وأحرجه - بدفع صغار موظفي الحزب إلى طرح اسم براساد عوضا عن راجا.
5
واختير تاريخ الاستقلال الأصلي - 26 يناير - ليكون أول عيد للجمهورية. وفي ذلك اليوم تلقى رئيس الدولة الجديد، راجندرا براساد، التحية العسكرية فيما أصبح منذئذ استعراضا سنويا متزايد المهابة عاما بعد عام؛ ففي ذلك العام شارك ثلاثة آلاف جندي من القوات المسلحة في المسيرة العسكرية أمام الرئيس، وأطلق سلاح المدفعية واحدا وثلاثين مدفعا للتحية بينما حلقت من فوقه طائرات ليبرايتور التابعة للقوات الجوية الهندية. كانت الهند ربيبة غاندي بصدد إعلان نفسها آنذاك دولة قومية ذات سيادة.
6
بذلك ربح باتيل الجولة الأولى. وبدأت الجولة الثانية بعد بضعة أشهر، متمثلة في معركة رئاسة حزب المؤتمر الوطني الهندي. كان باتيل قد رشح بروشتم داس تندن لهذا المنصب، وهو عضو قديم بالحزب من المقاطعات الاتحادية، بل من مسقط رأس رئيس الوزراء نفسه : مدينة الله أباد. كان تندن صديقا شخصيا لنهرو، ولكنهما لم يكونا حليفين أيديولوجيين بأي حال من الأحوال؛ فقد كان تندن «هندوسيا متزمتا ملتحيا وقورا ... قدم مثالا نموذجيا للجناح الطائفي المتطرف في حزب المؤتمر». ومثل إجمالا «تجسيدا للرجعية السياسية والاجتماعية»؛ فقد كان «هندوسيا معاديا للمسلمين ومناصرا لفكرة الطوائف الهندية» يمثل «انبعاثا لثقافة بائدة ومنظومة مجتمعية عفى عليها الدهر».
7
كان نهرو قد انتقد تندن سابقا لرغبته في فرض اللغة الهندية على مناطق جاهلة بها في الهند. وأزعجه كثيرا مخاطبة تندن اجتماع للاجئين وحديثه عن الانتقام من باكستان؛ فقد كان نهرو يعتقد أن الهند بحاجة إلى لمسة شافية، وسياسة تصالحية بين الهندوس والمسلمين. وكان من شأن انتخاب تندن رئيسا للحزب السياسي الأول في الهند - الحزب الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء شخصيا - أن يرسل إشارات خاطئة تماما.
وعندما أجريت انتخابات رئاسة الحزب في أغسطس 1950، فاز تندن بسهولة. وحينها كتب نهرو إلى راجا جوبالاتشاري قائلا إن تلك النتيجة كانت «أبلغ علامة على اعتبار انتخاب تندن أكثر أهمية من وجودي في الحكومة، أو الحزب». وأضاف: «حدسي ينبئني بأنني استنفدت جدواي في الحزب والحكومة على حد سواء.» وفي اليوم التالي كتب إلى راجا مرة أخرى قائلا: «أشعر أني منهك؛ بدنيا وعقليا. ولا أظنني قادرا على العمل على نحو يرضيني إطلاقا في المستقبل.»
8
حاول راجا آنذاك الوصول إلى تسوية بين الفصيلين. كان باتيل ميالا إلى ذلك الحل، واقترح إصدار بيان مشترك باسميهما، يعلن فيه هو ونهرو التزامهما ببعض الأساسيات في سياسة الحزب. إلا أن رئيس الوزراء قرر أن ينفرد بالأمر؛ فبعد أسبوعين من التفكير المتمعن قرر الاستعاضة عن فكرة الاستقالة بالتحول إلى منحى الشدة. وفي يوم 13 سبتمبر من عام 1950 أصدر بيانا للإعلام أدان فيه «تعبير القوى الطائفية والرجعية عن ابتهاجها صراحة» لفوز تندن. وقال إنه ليحزنه أن «روح الطائفية والرجعية قد تغلغلت تدريجيا في حزب المؤتمر، وصارت تؤثر أحيانا على السياسة الحكومية». ولكن خلافا لباكستان، الهند دولة علمانية. وأصر نهرو على أنه «علينا أن نعامل الأقليات في بلدنا تماما مثلما نعامل الأغلبية. والحقيقة أن المعاملة المنصفة ليست بالكافية؛ فعلينا أن نشعرهم بأنهم يعاملون على هذا الأساس». والآن «في ظل الارتباك السائد وخطر العقيدة الزائفة، صار لزاما على حزب المؤتمر أن يعلن سياسته في هذا الصدد بوضوح كامل لا لبس فيه».
9
كان نهرو يشعر أن حزب المؤتمر والحكومة مسئولان عن إشعار المسلمين في الهند بالأمان. أما باتيل، فكان ميالا إلى إلقاء تلك المسئولية على عاتق الأقليات نفسها. وقد قال لنهرو ذات مرة إن «المواطنين المسلمين في الهند عليهم مسئولية تبديد الشكوك والمخاوف التي تعتري قطاعا كبيرا من الشعب حيال ولائهم، وتستند بدرجة كبيرة إلى صلتهم الماضية بالمطالبة بإقامة دولة باكستان والأنشطة المؤسفة التي انخرط فيها بعضهم».
10
ففيما يتعلق بمسألة الأقليات - وكذلك في مسائل أخرى ذات صلة بالفلسفة والسياسات - لم يكن لنهرو وباتيل أن يتفقا كليا أبدا. إلا أنه في أعقاب المنافسة المريرة على رئاسة الحزب، لم يصر باتيل على موقفه، لأنه كان يعلم أن تدمير الحزب سيستتبع على الأرجح تدمير الهند؛ فكان يقول لمن يأتون لزيارته من رجال الحزب: «افعلوا ما يأمر به جواهر لال» و«لا تضعوا هذا الجدل في الاعتبار». وفي 2 أكتوبر، أثناء تدشين مركز للمرأة في إندور، انتهز باتيل تلك المناسبة - ذكرى مولد غاندي - للتأكيد على ولائه لرئيس الوزراء؛ فوصف نفسه في خطابه بأنه مجرد واحد من جنود مسالمين كثر في جيش غاندي. وأضاف أنه بعد رحيل غاندي «صار جواهر لال نهرو قائدنا؛ فقد اختاره بابو (غاندي) خلفا له، بل أعلن ذلك أيضا. ويجب على جنود بابو جميعا أن يعملوا بوصيته ... وأنا لست بالجندي الخائن للعهد».
11
تلك هي الأدلة التي قدمها لنا مدون سيرة باتيل، راجموهان غاندي. وهي في الحقيقة تؤكد المشاعر التي أعرب عنها مدون سيرة نهرو، سارفبالي جوبال، ومفادها أن ما حال دون «وقوع قطيعة كاملة» بين الرجلين «كان الاحترام المتبادل وكياسة باتيل الرزينة».
12
فقد تذكر باتيل وعده لغاندي بأن يعمل جنبا إلى جنب مع جواهر لال. بالإضافة إلى ذلك فوقت وقوع الجدل بشأن رئاسة الحزب، كان باتيل مريضا جدا. والرسالة الخطية التي بعثها إلى نهرو تهنئة بعيد ميلاده - يوم 14 نوفمبر - كتبها على فراش المرض. وبعد أسبوع، عندما زاره نهرو في بيته، قال له باتيل: «أريد أن أتحدث إليك على انفراد عندما أستجمع بعض قوتي ... أشعر أنك تفقد ثقتك بي شيئا فشيئا.» فرد عليه نهرو قائلا: «كنت أفقد الثقة بنفسي شيئا فشيئا.»
13
بعد ثلاثة أسابيع توفي باتيل، وعهد إلى رئيس الوزراء بإعداد قرار مجلس الوزراء الصادر رثاء لرحيله؛ فخص نهرو بالذكر تكريسه نفسه لفكرة «الهند المتحدة القوية»، و«عبقريته» في حل المشكلة المعقدة التي مثلتها الولايات الأميرية. بالنسبة إلى نهرو، مثل باتيل رفيقا وخصما، ولكن بالنسبة إلى مواطنيهما كان «مقاتلا من أجل الحرية منقطع النظير، ومحبا للهند، وخادما عظيما للشعب، ورجل دولة عبقريا حقق إنجازات هائلة».
14
2
أسفرت وفاة فالابهاي باتيل في ديسمبر 1950 عن زوال الرجل الوحيد المكافئ لنهرو في حزب المؤتمر؛ فلم يعد ثمة مركزان للقوة داخل الحزب الحاكم في الهند. إلا أن رئيس الوزراء ظل عليه مواجهة خصمين أقل شأنا إلى حد ما: رئيس حزب المؤتمر، بروشتم داس تندن؛ ورئيس الجمهورية، راجندرا براساد. وقد وصف مدون سيرة نهرو براساد بأنه «يتصدر صفوف فكر العصور الوسطى».
15
ربما يكون ذلك حكما متعنتا في حق رجل وطني ضحى بالكثير في سبيل حرية الهند. إلا أنه كان من الجلي أن رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية اختلفا بخصوص بعض الموضوعات المحورية، مثل مكانة الدين في الحياة العامة.
بلغت تلك الخلافات أوجها في ربيع عام 1951، عندما طلب إلى الرئيس افتتاح معبد سومناث الذي أعيد إنشاؤه حديثا في جوجارات. نظرا لأن هذا المعبد دارت الأساطير حوله بوجود ثروات فيه، فقد أغار عليه عدة قادة مسلمين، منهم الغازي الشهير من القرن الحادي عشر محمود الغزنوي. وبعد كل من تلك الغارات التي كان يهدم فيها، كان يعاد بناؤه. ثم أمر الإمبراطور المغولي أورنجزيب بهدمه تماما؛ فظل حطاما طيلة قرنين ونصف من الزمان، حتى زاره السردار باتيل في سبتمبر 1947 ووعد بالمساعدة في إعادة بنائه . ثم عهد إلى زميله كيه إم مونشي بتلك المهمة.
16
وعندما قرر رئيس الهند تشريف طقس افتتاح المعبد بحضوره، صدم نهرو لقراره؛ فكتب إليه ناصحا بالعدول عن المشاركة في «الافتتاح المهيب لمعبد سومناث الذي ... سيترتب عليه تداعيات عدة للأسف. في رأيي الشخصي، كنت أظن ذلك وقتا غير مناسب لتسليط الضوء على عمليات البناء الواسعة النطاق في سومناث، والتي كان من الممكن تنفيذها بصورة تدريجية وبفعالية أكبر فيما بعد. ولكن هذا ما حدث. إلا أنني أشعر أنه سيكون من الأفضل لو لم ترأس فعاليات ذلك الحدث بنفسك».
17
تجاهل براساد النصيحة وذهب إلى سومناث. ولكن يحسب له أن الخطاب الذي ألقاه هناك شدد على مبدأ التناغم بين الأديان الذي دعا إليه غاندي. صحيح أنه استحضر في حنين عصرا ذهبيا كان فيه الذهب الذي تحويه معابد الهند يرمز إلى ثروة وازدهار عظيمين. إلا أن الدرس المستفاد من تاريخ سومناث اللاحق كان أن «التعصب الديني لا يؤدي إلا إلى التحريض على الكراهية والسلوك اللاأخلاقي». ومن المنطلق نفسه، لم يكن الدرس المستفاد من إعادة بنائه هو «إعادة فتح الجروح القديمة، التي التأمت إلى حد ما على مر القرون»، بل «مساعدة كل طائفة وكل جماعة على نيل حريتها كاملة». وإذ طالب الرئيس جمهوره ب «التسامح الديني الكامل» حثهم على «محاولة استيعاب الجوهر العظيم للدين»، وهو «أنه ليس من الضروري أن يسلك المرء سبيلا واحدا من أجل الوصول إلى الحقيقة والتقرب إلى الرب». وذلك لأنه «مثلما تمتزج الأنهار كافة في المحيط الواسع، تساعد كذلك الأديان المختلفة البشر على التقرب إلى الرب».
18
لا أحد يعلم ما إذا كان نهرو قد قرأ الخطاب. ولكنه على أي حال كان يفضل ألا يذهب براساد من الأساس؛ فقد كان يرى أن المسئولين الحكوميين ينبغي ألا تكون لهم صلة «علنية» بالأديان والأضرحة أبدا. أما رئيس الجمهورية، فكان يعتقد أن المسئولين الحكوميين ينبغي أن يبدوا قدرا متساويا وعلنيا من الاحترام للجميع. وقال براساد لنهرو إنه على الرغم من كونه هندوسيا، فإنه «يحترم الديانات كافة ويزور الكنائس والمساجد وأضرحة المتصوفين والمعابد السيخية من حين لآخر».
في تلك الأثناء، كان تنامي الطابع الهندوسي لحزب المؤتمر قد أفضى إلى رحيل بعض رجاله الأكثر نشاطا؛ ففي عام 1948، ترك الحزب مجموعة من الشباب النوابغ ليؤسسوا الحزب الاشتراكي. وفي يونيو 1951، ترك الحزب جيه بي كريبالاني - أحد أتباع غاندي الموقرين - لينشئ حزب كيسان مجدور براجا (الحزب الشعبي للفلاحين والعمال)، الذي ناصر مصالح الفلاحين والعمال وغيرهم من الطبقات الكادحة. وقد زعم كريبالاني، على غرار الاشتراكيين، أن حزب المؤتمر بات تنظيما محافظا بدرجة مفرطة تحت قيادة بروشتم داس تندن.
في الواقع، فقد عضد تأسيس حزب كريبالاني موقف نهرو في مواجهة تندن؛ فقد صار بإمكانه آنذاك أن يقول إنه يجب على حزب المؤتمر أن يعدل عن المسار الرجعي الذي سلكه في الآونة الأخيرة، ويستعيد تراثه الديمقراطي الاحتوائي. وفي شهر سبتمبر - عندما انعقدت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بنجالور - فرض نهرو مواجهة مع تندن وأنصاره؛ فقد أبدى الأعضاء الصغار بحزب المؤتمر قلقا متناميا حيال الانتخابات العامة المقبلة. ومثلما أشار صحفي من الجنوب، فقد كان من الواضح أن اللجنة ستدعم رئيس الوزراء في مواجهة تندن، ولو لمجرد أن «رئيس حزب المؤتمر ليس ممن يجتذبون أصوات الناخبين». وعلى النقيض منه، كان «البانديت نهرو صائد أصوات منقطع النظير. وقبيل الانتخابات العامة، لا صوت يعلو فوق أصوات الناخبين، والبانديت نهرو يمثل قيمة لحزب المؤتمر لا يمثلها غيره».
19
كان ذلك ما حدث في بنجالور فعلا، حيث استقال تندن من منصب رئيس الحزب، وانتخب نهرو مكانه. وإذ صار رئيس الحزب ورئيس الحكومة، «صار بإمكان نهرو الآن شن حرب شاملة على جميع العناصر ذات النزعة الطائفية في البلاد».
20
وكانت أولى معاركه في تلك الحرب هي الانتخابات العامة في 1952.
3
مثلت أول انتخابات عامة تجرى في الهند أمورا عدة منها كونها بادرة ثقة؛ فقد اختار بلد حديث الاستقلال أن يتجه مباشرة إلى منح حق الاقتراع لجميع السكان البالغين، عوضا عن أن يبدأ - مثلما حدث في الغرب - بقصر حق التصويت على ملاك الأراضي الذكور، ومنح الطبقات العاملة والمرأة ذلك الحق بعد ردح من الزمان؛ فقد نالت الهند حريتها في أغسطس 1947، وشكلت اللجنة الانتخابية بعد عامين. وفي مارس 1950 عين سوكومار سين رئيسا لتلك اللجنة. وفي الشهر التالي مرر البرلمان قانون تمثيل الشعب. وعند اقتراح رئيس الوزراء جواهر لال نهرو ذلك القانون، أعرب عن أمله في عقد الانتخابات في تاريخ لا يتجاوز ربيع عام 1951.
كان من الممكن تفهم تعجل نهرو الانتخابات، لكنه سبب بعض القلق للرجل المسئول عن إجرائها. من المؤسف أننا لا نعرف الكثير عن سوكومار سين؛ فهو لم يترك مذكرات، وكذلك الوثائق الباقية عنه قليلة. لقد ولد عام 1899 وتلقى تعليمه في كلية الرئاسة وجامعة لندن، حيث حصل على ميدالية ذهبية في الرياضيات. التحق بالعمل في دائرة الخدمة المدنية الهندية عام 1921، حيث خدم في مقاطعات عدة وعمل قاضيا قبل تعيينه رئيسا لسكرتارية غرب البنغال، وهو المنصب الذي انتدب منه لمهمة رئاسة اللجنة الانتخابية.
ربما كانت خلفية سين الرياضية هي التي دفعته إلى مطالبة رئيس الوزراء بالتمهل؛ ففي الحقيقة لم يحدث أن وجد مسئول حكومي - ولا سيما مسئول هندي - نفسه أمام مثل تلك المهمة الرهيبة؛ أولا: لكم أن تتخيلوا حجم جمهور الناخبين؛ 176 مليون هندي تبلغ أعمارهم واحدا وعشرين عاما أو أكثر، منهم 85٪ أميون، وكل واحد منهم لا بد من التوصل إليه ومعرفة اسمه وتسجيله. كان تسجيل الناخبين الخطوة الأولى فحسب. فكيف يمكن للمرء أن يصمم رموز أحزاب، وأوراق اقتراع، وصناديق اقتراع لجمهور من الناخبين معظمه لا يعرف القراءة والكتابة؟ بعد ذلك جاء تحديد مراكز الاقتراع، والاستعانة بموظفي اقتراع يتميزون بالأمانة والكفاءة. إضافة إلى ذلك، فإلى جانب الانتخابات العامة كان من المزمع عقد انتخابات لمجالس الولايات. وفي هذا الصدد عمل أعضاء اللجان الانتخابية للأقاليم المختلفة - الذين كانوا موظفين في دائرة الخدمة المدنية الهندية عادة - إلى جانب سوكومار سين.
وأخيرا تقرر عقد الانتخابات في الشهور الأولى من عام 1952. وعنها كتب معلق أمريكي أن آليات عملية الانتخابات «تطرح مشكلة هائلة الأبعاد»،
21
وكان محقا في تعليقه. وسنورد بعض الأرقام لتساعدنا على استيعاب حجم المهمة العسيرة الموكلة إلى سين. كانت المقاعد المطروحة للانتخاب 4500 مقعد، 500 منها للبرلمان والبقية للمجالس المحلية. وقد أقيمت 224 ألف لجنة انتخابية وزودت بمليوني صندوق اقتراع فولاذي؛ مما تطلب 8200 طن من الفولاذ. وعين 16500 كاتب لكتابة قوائم الناخبين وفرزها بموجب عقود مدتها ستة أشهر. واستخدمت 380 ألف رزمة من الأوراق لطباعة قوائم الناخبين، فيما اختير 56 ألف موظف مسئول للإشراف على عملية الاقتراع، بمعاونة 280 ألف موظف من «درجة أدنى». وكلف 224 ألف شرطي بالنزول ذلك اليوم لمنع استخدام العنف والإرهاب.
كانت الانتخابات وجمهور الناخبين موزعين على مساحة تزيد عن مليون ميل مربع. كانت المساحة الجغرافية شاسعة متنوعة التضاريس وفائقة الوعورة في بعض الأحيان، بالنسبة إلى المشروع قيد التنفيذ؛ ففي القرى الجبلية المنعزلة، لزم إقامة الجسور خصوصا عبر الأنهار، وفي الجزر الصغيرة في المحيط الهادئ استخدمت السفن لنقل قوائم الناخبين للجان الانتخابية. أما المشكلة الثانية فكانت اجتماعية وليست جغرافية، وتمثلت في إحجام كثير من النساء في شمال الهند عن التصريح بأسمائهن؛ فقد كن يرغبن في تسجيل أنفسهن تحت اسم أم فلان أو زوجة علان. وقد أثارت تلك الممارسة جنون سوكومار سين، ووصفها بأنها «بقايا عادة عجيبة بالية من الماضي»، وأمر موظفيه بتصحيح القوائم عن طريق إدخال أسماء النساء «محل ما لا يزيد عن كونه وصفا لذلك القطاع من الناخبين». على الرغم من ذلك، لم يكن ثمة مفر من شطب 2,8 مليون امرأة من القوائم. ورأى سين موجة السخط الناتجة عن استبعادهن «أمرا إيجابيا»، لأن من شأنه القضاء على ذلك السلوك المتعصب عند حلول الانتخابات التالية، وحينها سوف يتسنى تسجيل النساء بأسمائهن الحقيقية.
في النظم الديمقراطية الغربية، معظم الناخبين يمكنهم التعرف على الأحزاب بأسمائها، ولكن في الهند استخدمت الرموز المصورة لتيسير التعرف على الأحزاب. كان يسهل تمييز تلك الرموز المستمدة من الحياة اليومية؛ مثل استخدام أحد الأحزاب زوجا من العجول رمزا، واستخدام آخر رمز الكوخ، وثالث رمز الفيل، واستخدام رابع مصباحا خزفيا. وتمثلت الفكرة المبتكرة الأخرى في تعدد صناديق الاقتراع؛ ففي حالة وجود صندوق اقتراع واحد، يمكن للناخب الهندي الجاهل بقواعد القراءة والكتابة أن يرتكب خطأ؛ ولذا كان لكل حزب صندوق اقتراع عليه رمزه في كل مركز اقتراع؛ بحيث يمكن للناخبين إلقاء أوراق الاقتراع فيه بكل بساطة. ولتجنب انتحال ناخب شخصية آخر، ابتكر العلماء الهنود نوعا من الحبر يبقى أثره على إصبع الناخب أسبوعا عند استخدامه. وقد كان إجمالي القنينات المستخدمة في الانتخابات من ذلك الحبر 389916 قنينة.
22
طوال عام 1951، وظفت اللجنة الانتخابية الأفلام والإذاعة لتثقيف عامة الشعب بشأن تلك الممارسة المستحدثة في الديمقراطية؛ فعرض فيلم وثائقي عن حق الانتخاب ووظائفه، وواجبات جمهور الناخبين في أكثر من 3 آلاف دار للعرض السينمائي. ووصلت اللجنة الانتخابية إلى عدد أكبر من ذلك بكثير من الهنود عبر إذاعة «أول إنديا راديو»، التي أذاعت برامج عدة عن الدستور والغرض من منح حق الانتخاب للبالغين وعملية إعداد قوائم الناخبين وعملية التصويت نفسها.
23
4
من المفيد أن نتأمل الوضع الدولي الذي كان سائدا في الشهور السابقة على أول انتخابات عامة للهند؛ ففي مناطق أخرى من آسيا، كانت فرنسا تحارب رابطة استقلال فيتنام، وكانت قوات الأمم المتحدة تعمل على صد عدوان من كوريا الشمالية. وفي جنوب أفريقيا، كان الحزب الوطني الخاص بالجنوب أفريقيين البيض قد سحب حق الانتخاب من الملونين من كيب الغربية، وهي آخر جماعة من غير البيض كانت تتمتع بحق التصويت. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية قد انتهت لتوها من اختبار أول قنبلة هيدروجينية لها. وكان الجاسوسان ماكلين وبرجس قد أعلنا تحول ولائهما إلى روسيا لتوهما. وشهد عام 1951 ثلاثة اغتيالات سياسية؛ لملك الأردن ورئيس وزراء إيران ورئيس وزراء باكستان - لياقت علي خان، الذي أصيب بطلق ناري أرداه قتيلا يوم 16 أكتوبر، أي قبل تسعة أيام من الإدلاء في أول انتخابات عامة في الهند.
ومن المثير للاهتمام أن انتخابات الهند كان من المقرر أن تتزامن مع الانتخابات العامة في المملكة المتحدة؛ فقد كان السياسي المخضرم ونستون تشرشل يسعى إلى إعادة حزبه المحافظ إلى السلطة. وفي المملكة المتحدة، كانت الانتخابات منافسة بين حزبين بالأساس. أما في الهند فتضمنت الانتخابات مجموعة مربكة من الأحزاب والزعماء. كان الحزب الحاكم هو حزب المؤتمر الوطني الهندي بقيادة جواهر لال نهرو، ذلك الحزب الذي كان الوارث والمستفيد الرئيسي من الحركة المطالبة بالحرية. وكان ثمة مجموعة من الأحزاب الجديدة التي شكلها بعض الأفراد العظيمي الموهبة في مواجهة حزب المؤتمر.
كان من الأحزاب اليسارية البارزة حزب كيسان مجدور براجا بقيادة جيه بي كريبالاني، والحزب الاشتراكي الذي كان من أعلامه جايا براكاش نارايان البطل الشاب لحركة التمرد «ارحلوا عن الهند» لعام 1942. وقد اتهم هذان الحزبان حزب المؤتمر بخيانة التزامه تجاه الفقراء، زاعمين أنهما يعبران عن المثل القديمة التي اعتنقها حزب المؤتمر في «عهد غاندي»، التي كانت تعلي مصالح العمال والفلاحين على مصالح ملاك الأراضي والرأسماليين.
24
وورد نقد من نوع آخر عن حزب جانا سانج، الذي كان يطمح إلى توحيد الجماعة الدينية الكبرى في الهند - الهندوس - في كتلة تصويتية واحدة. وقد أعرب الحزب عن مقاصده بوضوح في المعاني الرمزية التي اشتملت عليها جلسته الافتتاحية، التي عقدت في نيودلهي يوم 21 سبتمبر من عام 1951؛ فقد بدأت الجلسة بتلاوة مقاطع من نصوص فيدا وترديد النشيد الوطني «فاندي ماتارام». وجلس مؤسس الحزب - شياما براساد موكرجي - على المنصة إلى جانب قيادات أخرى من الحزب، ومن ورائهم:
خلفية بيضاء مزدانة برسوم لشيفاجي، والإله كريشنا وهو يقنع أرجونا النادم بحمل السلاح لمحاربة قوى الشر المتمثلة في الإخوة كاورافا على ساحة المعركة في كوروكشترا، ورانا براتاب سينج، ومصباح خزفي هندوسي الطراز، بلون الزعفران. وتدلت من سقف السرادق لافتات نقش عليها جملة من ملحمة «مهابهاراتا» نصها «سانج شاكت كالي يوجيه»، تزعم للحضور أنه في عهد الإلهة كالي لم تأت القوة إلا بالاتحاد [إشارة إلى اسم الحزب «جانا سانج»، أي اتحاد الشعب].
25
كانت الصور لافتة للنظر؛ فهي مأخوذة من ملاحم هندوسية ولكنها تستحضر كذلك المحاربين الهندوس الذين حاربوا الغزاة المسلمين فيما بعد. ولكن من يا ترى يمثل العدو الشرير، الإخوة كاورافا؟ هل هي باكستان أم المسلمون أم جواهر لال نهرو أم حزب المؤتمر؟ فكل منهم بدا موضع كراهية في خطب زعماء الحزب. كان الحزب يدعو إلى إعادة توحيد الوطن عبر احتواء (أو ربما غزو) باكستان. وكان يرى أن المسلمين الهنود أقلية إشكالية، «لم تتعلم بعد أن تنتمي إلى هذه البلاد وثقافتها وتعطيها الأولوية في الحب والولاء». واتهم حزب المؤتمر بأنه «يسترضي» هؤلاء المسلمين المشكوك في وطنيتهم.
26
كان إس بي موكرجي عضوا ذات يوم في وزارة الاتحاد الهندي، وكذلك كان بي آر أمبيدكار - المحامي العظيم من فئة المنبوذين - الذي ساهم بوصفه وزير القانون لحكومة الاتحاد في صياغة الدستور الهندي. كان أمبيدكار قد استقال من منصبه بهدف إنشاء حزب اتحاد الطوائف المجدولة استعدادا للانتخابات. وقد شن هجوما عنيفا على حكومة حزب المؤتمر في خطبه لعدم فعلها شيئا يذكر للارتقاء بالطوائف الدنيا؛ فالحرية لم تستتبع تغييرا لأولئك الناس؛ فهم لا يزالون يعانون «الممارسات المعتادة نفسها من استبداد وقهر وتمييز». وقال أمبيدكار إنه بعد نيل الحرية، تحول حزب المؤتمر إلى استراحة، تفتقر إلى وحدة الأهداف والمبادئ، و«أبوابه مفتوحة أمام الجميع؛ الحمقى والمحتالين، والأصدقاء والأعداء، والطائفيين والعلمانيين، والمصلحين والأصوليين، والرأسماليين وأعداء الرأسمالية».
27
وعلى يسار تلك الأحزاب كان الحزب الشيوعي الهندي. كما رأينا، كان كثير من نشطاء ذلك الحزب قد تحولوا عام 1948 إلى العمل تحت الأرض بغية قيادة تمرد للفلاحين كانوا يأملون في أن يفضي إلى انتفاضة ثورية على النموذج الصيني. إلا أن الشرطة - والجيش في بعض المناطق - واجهت ذلك بأيد من حديد. أما الآن، فقد عاد الشيوعيون إلى العمل فوق الأرض استعدادا لخوض المعركة الانتخابية. وأعلن الأمين العام الانسحاب «غير المشروط» للحزب من التمرد في تيلانجانا؛ فقد صدر عفو مؤقت وألقى المقاتلون سلاحهم وانطلقوا سعيا وراء أصوات الناخبين. وقد أسفر ذلك التغيير المباغت في الأدوار عن معضلات لا يمكن لأي من نصوص ماركس أو لينين حلها. لذا ترددت إحدى المرشحات الشيوعيات في تنافسها على أحد مقاعد البنغال ما بين أن ترتدي ساريا رث الهيئة - دليلا على وحدتها مع الفقراء - وأن تغسله وتكويه حتى تلقى قبولا أكبر لدى جماهير الطبقة الوسطى. وذكر أحد مرشحي البرلمان في تيلانجانا (حيث بلغت ثورة الفلاحين أوجها) حيرته عندما قدم إليه موظف كبير مشروبا، فقبل وتجرعه ليعتريه «إحساس بالدوار» في رأسه؛ إذ اتضح أن ذلك المشروب كان ويسكي وليس عصير فواكه.
28
أجريت الحملات الانتخابية لانتخابات 1951-1952 عبر اللقاءات الجماهيرية الكبيرة، وطرق الأبواب لجمع الأصوات، واستخدام وسائل الإعلام المرئية. وكتب أحد المراقبين البريطانيين أنه «في أوج الحمى الانتخابية، انتشرت الملصقات والشعارات في كل مكان - على الجدران، وفي نواصي الشوارع، حتى إنها زينت التماثيل في نيودلهي، متحدية كبرياء جيل سابق من نواب الملك». وظهرت وسيلة دعاية جديدة في كلكتا؛ حيث كتب على ظهور الأبقار الشاردة «انتخبوا حزب المؤتمر» باللغة البنغالية.
29
وقد استخدمت الأحزاب كافة الخطب والملصقات للدعاية، إلا أن الشيوعيين فقط تمكنوا من الوصول إلى الإذاعة؛ ليست إذاعة «أول إنديا راديو» - التي حظرت الدعاية للأحزاب - بل إذاعة «موسكو راديو» - التي كانت تبث برامجها عبر محطات في طشقند؛ فكان بإمكان المستمعين الهنود - إن رغبوا - أن يسمعوا وصف الأحزاب غير الشيوعية المشاركة في الانتخابات بأنها «فاسدة وعميلة للإمبريالية الأنجلو أمريكية وتقهر العمال».
30
وللشريحة القادرة على القراءة، قدمت صحيفة أسبوعية في مدراس ترجمة مفيدة من مقال مأخوذ من صحيفة «برافدا» الروسية وصف حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأنه «حكومة ملاك الأراضي والمحتكرين، وخائني الوطن، والعصي والرصاص»، وأعلن أن البديل أمام «الشعب الهندي المطحون الذي طالت معاناته» هو الحزب الشيوعي، الذي «تلتف حوله القوى التقدمية كافة في البلاد، وكل من يعلي المصالح الحيوية لأرض آبائه».
31
أضيف إلى القائمة (وإلى رصيد الإثارة والتشويق) الأحزاب الإقليمية القائمة على الولاء العرقي والديني. كان من بينها حزب درافيدا كازاجام في مدراس، الذي مثل الكبرياء التاميلي في مواجهة سيطرة الشمال الهندي، وحزب أكالي دال في البنجاب؛ الحزب الرئيسي لطائفة السيخ، وحزب جهارخاند في بيهار، الذي طالب بإقامة دولة منفصلة لأهل القبائل. كذلك كان ثمة عدد كبير من الجماعات الصغيرة المنشقة في اليسار السياسي، إضافة إلى حزبين هندوسيين أكثر تزمتا من حزب جانا سانج؛ هما: هندو ماهاسابها ورام راجيا باريشاد.
كان لزعماء هذه الأحزاب جميعا سنوات من الخبرة في العمل السياسي، وبعضهم سجن في سبيل القضية القومية، بينما سجن البعض الآخر في سبيل القضية الشيوعية. ورجال من قبيل إس بي موكرجي وجايا براكاش نارايان كانوا خطباء مفوهين، يمتلكون القدرة على أسر الجماهير واجتذابهم إلى صفهم. وقد كتب عالم السياسة ريتشارد بارك قبيل الانتخابات أن «الأحزاب الهندية البارزة وأعضاءها ليس لهم نظير في أي بلد آخر من حيث مهارتهم في الدعاية الانتخابية أو طرحهم المثير للقضايا أو فن الخطابة السياسية أو تمكنهم في ميدان علم النفس السياسي».
32
ربما احتفى البعض بهذا التنوع باعتباره برهانا على صلابة العملية الديمقراطية. إلا أن البعض الآخر انتابته شكوك في هذا الصدد؛ لذا سخر أحد الرسوم الكاريكاتورية في مجلة «شانكارز ويكلي» من نفاق العملية الانتخابية. إذ صور رجلا بدينا يرتدي معطفا أسود اللون منخرطا في الدعاية الانتخابية بين جماعات متباينة من الناخبين، فأخبر مزارعا هزيلا قائلا له: «هدفي هو إعطاء الأراضي للفلاحين.» وأكد لشاب حسن الهندام أن «حقوق ملاك الأراضي مصونة». وفي إحدى المناطق قال إنه «مع التأميم قلبا وقالبا»، وفي أخرى أكد على أنه سوف «يشجع القطاع الخاص». وأخبر سيدة ترتدي الساري الهندي أنه يدعم مشروع القانون الهندوسي (إصلاح تشريعي يستهدف بالأساس تعزيز حقوق المرأة)، لكنه قال لبرهمي مضفر الشعر إنه سوف «يحمي ثقافتنا العريقة».
33
5
كل تلك الأحزاب على مختلف ضروبها وضعت هدفا واحدا نصب أعينها: حزب المؤتمر الحاكم. كان زعيمه جواهر لال نهرو قد تغلب لتوه على أحد التحديات التي تعرضت لها قيادته؛ فبوفاة فالابهاي باتيل أصبح أيضا الشخص المسيطر داخل الحكومة. لكنه واجه مشكلات لا حصر لها، منها اللاجئون الغاضبون من باكستان الشرقية والغربية، الذين لم يكونوا قد استقروا بعد في منازلهم الجديدة. وكان الأندريون في الجنوب والسيخ في الشمال قد بدءوا يتململون. ولم تكن مسألة كشمير قد حلت بعد في نظر العالم. ولم يكن الاستقلال قد أحدث أي تحسن بعد في مشكلتي الفقر وعدم المساواة، وهو الوضع الذي كان من المرجح أن يلام عليه الحزب الحاكم بطبيعة الحال.
أحد الأساليب الممكنة لسرد قصة الحملة الانتخابية هو عبر تصفح عناوين الصحف. وقراءتها شائقة، لا سيما وأن القضايا التي سلطت عليها الضوء ظلت في طليعة اهتمام الانتخابات الهندية منذئذ؛ فجاء في خبر من أوتر براديش: «معارضة ضارية للوزراء»، وقال خبر آخر: «صراعات الطوائف الهندية تضعف حزب المؤتمر في بيهار.» وورد الخبر الدال الآتي عن المنطقة الشمالية الشرقية: «مطالب الحكم الذاتي في مانيبور.» وعن مدينة جواهاتي، صدر الخبر: «فرص حزب المؤتمر في آسام: أهمية أصوات المسلمين والقبائل.» وفي جواليور جاء الخبر: «استياء في أوساط حزب المؤتمر: قائمة المرشحين تفاقم الشقاق.» وفي كلكتا جاء الخبر: «استقبال رئيس حزب المؤتمر في غرب البنغال بصيحات الاستهجان في اجتماع الحزب» (وكان من اعترض طريقه اللاجئون الوافدون من باكستان الشرقية). واستهل خبر صادر عن مدينة لكنو بالآتي: «لا أمل في انتخابات حرة نزيهة»، وهو الحكم الذي أصدره جيه بي كريبالاني، الذي زعم أن موظفي الدولة سوف يعمدون إلى تزوير نتائج الانتخابات لصالح الحزب الحاكم. وورد عن مدينة بومباي - في ثلاث مراحل مختلفة من الانتخابات - تلك العناوين الخالدة إلى حد بعيد: «حزب المؤتمر يعتمد على مساندة المسلمين» و«فتور من جانب حزب المؤتمر تجاه الطوائف المجدولة: اتهامات يرددها الدكتور أمبيدكار» و«أربعة عشر مصابا في اشتباكات بانتخابات مجلس المدينة». إلا أنه من حين لآخر كان ثمة أخبار ملائمة لعصرها لكنها غير ملائمة لعصرنا بالتأكيد؛ من أبرزها ذلك الخبر الذي ورد في مجلة «ذا سيرشلايت» في مدينة باتنا، الذي ادعى وجود «آمال في تصويت سلمي في بيهار».
في مواجهة المعارضة الواسعة النطاق من الخارج - وبعض الخلاف داخل الحزب نفسه - قرر جواهر لال القيام بجولات انتخابية سافر فيها بالسيارة، وأحيانا بالطائرة والقطار أيضا؛ فبدأ في أول أكتوبر جولة وصفها فيما بعد موظف من الحزب أنهك بسبب مشاركته فيها بأنها تشبه «حملات الأباطرة سامودرا جوبتا وأشوكا وأكبر» إضافة إلى «أسفار فا-هيان وتشيونتسانج». ففي غضون تسعة أسابيع طاف نهرو البلاد من أولها لآخرها؛ فقطع 25 ألف ميل إجمالا؛ منها 18 ألف ميل جوا، و5200 ميل بالسيارة، و1600 ميل بالقطار، وحتى 90 ميلا بالقارب.
34
بدأ نهرو الحملة الانتخابية لحزبه بخطاب ألقاه في مدينة لوديانا بالبنجاب يوم الأحد 30 سبتمبر. كان لاختيار المكان دلالته، وكذلك المنحى العام لحديثه؛ إذ أعلن شن «حرب شاملة على الطائفية»، وإدانته «التنظيمات الطائفية التي تنشر فيروس الطائفية تحت اسم الثقافة الهندوسية والثقافة السيخية، مثلما فعلت العصبة الإسلامية من قبل». فتلك «العناصر الطائفية الخبيثة» إن نالت السلطة، فسوف «تجلب الموت والدمار على البلاد». وطلب إلى جمهوره البالغ قوامه نصف مليون فرد الآتي: «أبقوا نوافذ عقولكم مفتوحة ودعوا النسيم العليل يهب عليها من جميع أنحاء العالم.»
كان الشعور السائد يذكر بغاندي، وبالفعل فقد ألقى نهرو خطابه الكبير التالي في دلهي عصر يوم 2 أكتوبر، في ذكرى مولد المهاتما. وفيه تحدث باللغة الهندوستانية إلى حشد هائل من الناس عن عزم الحكومة القضاء على ممارستي النبذ والإقطاع. ومرة أخرى أشار إلى أنصار الطائفية باعتبارهم العدو الأكبر، الذي «لن نتهاون معه» و«سنقهره بكل قوتنا». وقد تخلل خطابه الذي استمر خمسا وتسعين دقيقة تهليل صاخب من الجمهور، لا سيما عندما أصدر إعلانه الرنان: «إذا رفع أحد يده على آخر استنادا إلى الدين، فسوف أحاربه حتى آخر نفس يتردد في صدري، من منصبي كرئيس للحكومة وكذلك من خارجها.»
أينما ذهب نهرو كان ينتقد النزعة الطائفية بشدة؛ ففي البنغال موطن إس بي موكرجي سخر من حزب جانا سانج ناعتا إياه «بالابن غير الشرعي لمنظمتي راشتريا سوايامسيفاك سانج وهندو ماهاسابها». وبالتأكيد تطرق إلى موضوعات أخرى أيضا؛ ففي بيهار أدان «وحش الطبقية». وفي بومباي ذكر جمهوره بأن التصويت لحزب المؤتمر يعني أيضا التصويت لسياسته الخارجية المتمثلة في الحيادية القائمة على المبادئ. وفي بهاراتبور وبيلاسبور أعرب عن أسفه لقلة صبر نقاده اليساريين، الذين يتفق معهم في الغاية وإن اختلفت الوسيلة؛ فعلى حد تعبيره: «لا يمكننا بناء صرح الاشتراكية إلا بالتدريج.» وفي أمبالا طلب إلى النساء خلع نقابهن و«التقدم لبناء الوطن». وفي مناطق عدة أعرب عن إعجابه بأفضل معارضيه؛ رجال مثل أمبيدكار وكريبالاني وجايا براكاش نارايان، الذين كانوا زملاءه في الحزب أو الحكومة يوما. وقال: «نريد عددا من الرجال من هذا القبيل ذوي المقدرة والنزاهة. هؤلاء رجال مرحب بهم، لكنهم جميعا مختلفون فيما بينهم ولا يحققون شيئا في النهاية.» وأعرب عن بالغ أسفه للمعارضة التي لاقاها من الحزب الاشتراكي، الذي - حسب قوله - «يضم بعض أصدقائي الحميمين القدامى الذين أكن لهم كل إجلال واحترام». أما ابنته - إنديرا غاندي - فلم تشاركه شعوره، إذ زعمت في خطبها أن الاشتراكيين يعملون بتمويل أمريكي.
35
أثناء جولة نهرو، «كان وقت ترحاله أطول من وقت نومه، ووقت حديثه أطول من وقت ترحاله». فقد خطب في 300 مؤتمر جماهيري وعدد لا حصر له من اللقاءات الجانبية. وخطب في 20 مليون فرد شخصيا، فيما ظفر عدد مكافئ لهم بإطلالة منه؛ إذ تزاحموا في الشوارع ليلقوا نظرة عليه بينما تمرق سيارته بسرعة إلى جوارهم. كان ممن استمعوا إلى نهرو ورأوه عمال مناجم وفلاحون ورعاة ماشية وعمال مصانع وعمال زراعيون. كذلك حضرت النساء من الطبقات كافة اجتماعاته. وفي بعض الأحيان كان ثمة عناصر عدائية متفرقة بين الحشود؛ ففي مناطق من شمال الهند، صاح بعض أنصار حزب جانا سانج في اجتماعات نهرو الترويجية أنه غير جدير بالثقة لأنه يأكل لحم البقر. وحين مر نهرو بمجموعة من الشيوعيين ملوحين بشعار المطرقة والمنجل (علم الحزب الشيوعي السوفييتي)، قال لهم: «اذهبوا للعيش في البلد الذي تحملون علمه.» فردوا عليه في حنق: «لم لا تذهب أنت إلى نيويورك وتعيش إلى جوار إمبرياليي وول ستريت؟»
36
ولكن في أغلب الأوقات كان الناس الذين يحضرون للاستماع إلى نهرو من المتعاطفين معه، بل من المتملقين في كثير من الأحيان. وقد أورد كتيب نشره حزب المؤتمر المحصلة الآتية، التي كانت مبالغا فيها ولكن ليس بدرجة كبيرة:
تقريبا في كل بقعة أو مدينة أو بلدة أو قرية أو موقف على جانب الطريق، كان الناس ينتظرون ساعات طويلة للترحيب بزعيم الأمة. وأغلقت المدارس والمتاجر أبوابها، وأخذ بائعو اللبن ورعاة البقر اليوم عطلة، والفلاح ومعاونه استقطعا راحة مؤقتة من برنامج عملهما الشاق من الفجر إلى الغروب في البيت والحقل. وبفضل نهرو، نفد مخزون المحال من المياه الغازية وعصير الليمون، وحتى المياه أصبحت نادرة ... وأتت قطارات مخصوصة من المناطق النائية لنقل الناس إلى مؤتمرات نهرو؛ حيث لم يكتف الركاب المتحمسون بالجلوس على مساند الأقدام بالأبواب، وإنما جلسوا فوق العربات أيضا. وكانت حالات الإغماء بالعشرات بين الحشود المتوافدة.
37
وقد قدمت الصحافة المستقلة أمثلة متعددة على المزاج الشعبي؛ فعندما ألقى نهرو خطبة في بومباي، تقدمت مسيرة - معظمها من المسلمين - إلى تشوباتي في صحبة المزامير والصنوج. وتقدم المسيرة عجلان ومحراث (رمز حزب المؤتمر). وفي جميع الأنحاء، أخذت الحشود تتجمع منذ الصباح الباكر لحضور خطب مقرر إلقاؤها في فترة بعد الظهيرة، وفي كل مكان تقريبا كسرت الحواجز في خضم «اللهفة إلى إلقاء نظرة على السيد نهرو». وعقب خطاب ألقاه نهرو في دلهي، التقاه عند نزوله من على المنصة مصارع شهير - ماسو بهلوان - قدم إليه سلسلة ذهبية وقال معلقا: «هذه مجرد هدية رمزية. وأنا على استعداد لأن أهب حياتي فداء لك وللوطن.» وانجذبت وسائل الإعلام بشدة إلى سيدة تتحدث التيلوجوية ذهبت للاستماع إلى حديث نهرو في بلدة كراجبور القائمة على خط السكة الحديدية. وأثناء خطاب رئيس الوزراء فاجأتها آلام المخاض. وعلى الفور، حوطتها جماعة من مواطنيها من الأندريين، وجاء المولود إلى النور بسلام، بينما حاولت القابلات استراق السمع بالتأكيد لحديث بطلهن.
وقد جاء أفضل سرد للشعبية الاستثنائية التي تمتع بها نهرو عن طريق شهادة دي إف كاركا، رئيس تحرير صحيفة بومباي الأسبوعية الذائعة الصيت «كارنت»، المعروف بوقوفه لنهرو بالمرصاد. كان كاركا واحدا ضمن الحشد الهائل المتجمع على شاطئ تشوباتي، واحدا من 200 ألف شخص تجمعوا هناك، وكثير منهم واقفون في البحر. وقد أشار كاركا - آسفا بالتأكيد - إلى «الألفة الفورية التي نشأت بين المتحدث وجمهوره». وقد وصف خطاب نهرو كالآتي:
قال لهم إنه جاء إلى بومباي بعد طول غياب، بعد سنين طوال.
ثم سكت قليلا ونظر إليهم بتلك النظرة التواقة التي يتميز بها. وفي تلك الوقفة - التي يتشاءم بها خصومه السياسيون - لا بد أن ألف صوت انحاز إلى صفه.
نعم، إنه يشعر بصلة شخصية بهذه المدينة.
وقفة.
ألفا صوت.
إنه كشعور العودة إلى الديار.
وقفة.
خمسة آلاف صوت.
لقد قضى بعض أسعد لحظات حياته في بومباي. نعم، أسعد لحظات حياته.
خمسة آلاف صوت ...
تذكر تلك اللحظات الرائعة بوضوح. وبعض أتعس لحظات حياته أيضا؛ الأيام التعيسة العصيبة لمعركة الحرية.
عشرة آلاف صوت لحزب المؤتمر.
وقفة. ثم قال: «إنني إذ أنظر إلى رفاقي في الكفاح في سبيل الحرية، أستمد منهم مشاعر الحرية والقوة.»
الألفة اكتملت أواصرها.
عشرون ألف صوت!
وقفة.
نظرة آسفة عميقة نابعة من الروح تحت شمس الأصيل الآيلة للزوال، والهواء مشبع بالانفعالات ... خاطب الجمع الحاضر قائلا إنه قد أخذ على عاتقه دور السائل المستجدي. وقال وسط الهتافات: «إن كنت سائلا، فأنا أسأل محبتكم، وودكم، وتعاونكم المستنير في حل المشكلات التي يواجهها الوطن.»
ثلاثون ألف صوت مضمون لنهرو.
وقفة.
ضجة بين الحضور. دمعة على وجه رجل أو امرأة جالسة على الرمال أو واقفة على الشاطئ. دمعتان، تمسحان برفق بطرف الساري عن وجه امرأة. سوف تعطي صوتها لنهرو بصرف النظر عما يقوله أي شخص كائنا من كان. عادت ذكريات غاندي إلى الأذهان، إلى أيام كان نهرو يقف فيها إلى جوار المهاتما. نهرو ... إنه الرجل الذي تركه لنا ليكون وريثه السياسي.
خمسون ألف صوت! مائة ألف! مائتا ألف!
38
تأثرت الحشود بنهرو، وهو بدوره تأثر بها. ونجد أفضل وصف لمشاعره في رسالة كتبها إلى إدوينا ماونتباتن التي يمكن وصفها - بمزيج من اللباقة والصدق - بأنها كانت صديقته المقربة:
في أي مكان أذهب إليه، تتجمع حشود ضخمة في المؤتمرات التي أعقدها، ولكم يروق لي المقارنة بينهم، بين وجوههم، وملابسهم، وردود أفعالهم تجاهي وتجاه ما أقول. حينها تثب إلى مخيلتي مشاهد من ماضي في هذه البقعة ذاتها من الهند، ويتحول ذهني إلى معرض لصور الأحداث الماضية. ولكن الحاضر يملأ مخيلتي أكثر من الماضي، وإنني لأحاول أن أسبر أغوار عقول تلك الحشود وقلوبها؛ فبعد طول المدة التي قضيتها محبوسا في الحكومة بدلهي، صرت أجد متعة كبيرة في تلك التعاملات الجديدة مع الشعب الهندي ... وإن الجهد المبذول لشرح ما نواجهه من مشكلات وصعوبات بلغة بسيطة، وبلوغ عقول هؤلاء البسطاء لمنهك وممتع في الآن ذاته.
وإذ أتجول في الأنحاء، يندمج الماضي والحاضر معا، وهذا الاندماج يقودني إلى التفكير في المستقبل؛ فيتحول الزمان إلى ما يشبه نهرا جاريا في حركة مستمرة ترتبط فيها الأحداث أحدها بالآخر.
39
6
المكان الوحيد الذي لم يصل إليه حتى نهرو كان تحصيل تشيني في هيماجل براديش، حيث أقام أول هنود يدلون بأصواتهم في انتخابات عامة، وهم جماعة من البوذيين. لقد أدلوا بأصواتهم يوم 25 أكتوبر من عام 1951، قبل أيام من إغلاق ثلوج الشتاء للأودية التي يعيشون فيها وعزلها عن العالم. كان أهالي تشيني يدينون بالولاء للبانشن لاما في التبت، وتحكمهم طقوس يديرها الكهنة المحليون. تضمنت تلك الطقوس طقس «جوراسنج»؛ شعيرة دينية تجرى احتفالا بإتمام بناء بيت جديد، و«كنجور زلمو»؛ زيارة رسمية إلى المكتبة البوذية في كنم، و«منتاكو»؛ «حيث يتسلق الرجال والنساء والأطفال الجبال، ويغنون ويرقصون»، و«جوخيا تشوج سيميج»؛ وهو تزاور الأقارب. ومنذ هذه اللحظة - وإن لم يعلموا بذلك بعد - أضيف طقس جديد إلى المجموعة القائمة، يمارس كل خمسة أعوام، وهو: التصويت في الانتخابات العامة.
40
بدأ الاقتراع في المملكة المتحدة في اليوم ذاته، ولم يكن أول الناخبين هناك فلاحين بوذيين في واد من أودية الهيمالايا، وإنما «بائعو اللبن، والخادمات، والعمال الليليون في طريق عودتهم إلى المنزل».
41
إلا أنه في تلك الجزر الصغيرة عرفت نتائج الانتخابات في اليوم التالي: الإطاحة بحزب العمال وعودة ونستون تشرشل رئيسا للوزراء. أما في الهند، فكان على أول الناخبين الانتظار شهورا حتى يعلموا النتائج؛ إذ إن بقية البلد لم تذهب للاقتراع حتى شهري يناير وفبراير من عام 1952.
سجلت أعلى نسبة حضور - 80,5٪ - في دائرة كوتايام البرلمانية، في كيرالا الحالية. وسجلت أدنى نسبة حضور - 18٪ - في شهدول فيما صار الآن ولاية ماديا براديش. وعلى مستوى البلد ككل، مارس نحو 60٪ من الناخبين المسجلين حقهم في الانتخاب، وهذا على الرغم من ارتفاع مستوى الأمية. وقد وصف باحث من كلية لندن للاقتصاد حال شابة في هيماجل قطعت عدة أميال سيرا على الأقدام برفقة أمها الواهنة للإدلاء بصوتيهما، قائلا: «ليوم واحد - على الأقل - كانت تشعر بأهميتها.»
42
وتعجبت إحدى الصحف الأسبوعية في بومباي من ارتفاع نسبة الحضور في مقاطعات الغابات بأوريسا؛ حيث جاء أعضاء القبائل إلى اللجان الانتخابية بأقواسهم وسهامهم. وقد سجلت إحدى اللجان الانتخابية القائمة وسط الأدغال نسبة تصويت أعلى من 70٪، ولكن من الواضح أن سوكومار سين أخطأ في بعض الأمور على الأقل؛ إذ إن اللجنة الانتخابية المجاورة لم يأتها سوى فيل واثنين من النمور.
43
وقد سلطت الصحف الضوء على الأشخاص الطاعنين في السن؛ مثل رجل عمره 110 أعوام في مادوراي جاء مستندا إلى اثنين من أحفاد أبنائه، وامرأة في أمبالا تبلغ من العمر 95 عاما، صماء حدباء، ورغم ذلك جاءت للإدلاء بصوتها. كان ثمة رجل مسلم أيضا في التسعين من عمره في ريف آسام اضطر إلى العودة خائبا بعد أن أخبره الموظف المسئول أنه «لا يمكنه التصويت لنهرو»، ورجل مسن آخر في العقد العاشر من العمر في ريف مهاراشترا أدلى بصوته في انتخابات المجلس المحلي، ولكنه سقط ميتا قبل أن يتسنى له الإدلاء بصوته في انتخابات البرلمان. وقد توطدت دعائم الديمقراطية الهندية في قائمة الناخبين لولاية حيدر أباد؛ حيث كان النظام شخصيا من أوائل الأشخاص الذين أدلوا بصوتهم.
إحدى المناطق التي اتسمت عملية الاقتراع فيها بنشاط واضح كانت بومباي؛ فدلهي كانت مقر الحكام، إلا أن تلك المدينة الكبيرة المتألفة من جزر كانت العاصمة المالية للهند. كما أن مستوى الوعي السياسي بتلك المدينة كان مرتفعا جدا. فإجمالا مارس 900 ألف من سكان بومباي - أو 70٪ من جمهور الناخبين بالمدينة - حقهم الديمقراطي يوم الانتخابات. وجاء العمال بأعداد أكبر بكثير من الطبقة الوسطى. وهذا ما سردته صحيفة «تايمز أوف إنديا» فيما يلي: «في المناطق الصناعية، اصطف الناخبون في طوابير طويلة قبل فتح مراكز الاقتراع أبوابها بفترة طويلة، على الرغم من البرودة والنداوة الواضحة في ذلك الصباح. وعلى النقيض، في نادي هضبة مالابار - الذي ضم مركزي اقتراع - بدا أن الناس يردون أشتاتا للعب التنس أو البريدج ولا يأتون للتصويت إلا عرضا.»
في اليوم التالي على انتخابات بومباي، جاء الدور على منطقة تلال ميزو. من حيث الثقافة والتضاريس الجغرافية لا يمكن أن يكون ثمة منطقتان أكثر تناقضا؛ فبومباي تمتعت بكثافة هائلة من مراكز الاقتراع - 1349 مركزا إجمالا، محشورة في اثنين وتسعين ميلا مربعا فحسب. أما منطقة تلال ميزو - المنطقة القبلية المتاخمة لباكستان الشرقية وبورما - فلم تحو سوى 113 لجنة انتخابية موزعة على أرض مساحتها 8 آلاف ميل مربع. وقد قال أحد الكتبة إن سكان هذه التلال «لم يروا اصطفاف الطوابير من قبل إلا في صفوف المعارك». لكن رغم ذلك فقد لاقت تلك الممارسة «إعجابا قويا» من جانبهم؛ إذ كانوا يصلون إلى لجانهم الانتخابية بعد السير أياما في «طرق محفوفة بالمخاطر عبر الغابات البرية، حيث ينصبون خيامهم ليلا على الطريق وسط الغناء والرقصات الشعبية حول النار». ومن ثم فإن 92 ألفا من سكان تلك التلال الذين «كانوا يحسمون قضاياهم لقرون من الزمان بواسطة أقواسهم وسهامهم، أتوا للتعبير عن قرارهم لأول مرة بواسطة أوراق الاقتراع».
وقد أعربت مصورة أمريكية مكلفة بتغطية الحدث في هيماجل براديش عن إعجابها الشديد بمدى التفاني الذي أبداه موظفو اللجان الانتخابية؛ فقد مشى أحدهم ستة أيام لحضور ورشة العمل التحضيرية التي نظمها قاضي المقاطعة، بينما سافر آخر أربعة أيام على ظهر بغل، ثم عادا إلى مركزي الاقتراع النائيين حيث يعملان حاملين أكياسا محاكة من الخيش تحوي صناديق اقتراع وأوراق اقتراع ورموز أحزاب وقوائم انتخابية. وفي يوم الانتخاب قررت المصورة مراقبة فعاليات الحدث من قرية مغمورة بين التلال، هي قرية بوتي. كان مركز الاقتراع هناك مدرسة لها باب واحد. وبما أن القواعد كانت تنص على وجود باب للدخول وآخر للخروج، حولت نافذة إلى باب، مع تزويدها بدرجات مرتجلة على جانبيها للسماح لكبار السن والمرضى باعتلائها للخروج بعد الإدلاء بأصواتهم.
44
في الانتخابات الأولى هذه على الأقل، كان الساسة وعامة الشعب على حد سواء (على حد تعبير رئيس اللجنة الانتخابية) «ملتزمين بالقانون ومسالمين إلى حد بعيد»؛ فلم تسجل سوى 1250 مخالفة انتخابية، تضمنت 817 حالة «انتحال شخصية ناخبين»، و106 محاولة لإخراج أوراق اقتراع من مركز الاقتراع، و100 حالة «دعاية انتخابية على بعد مائة ياردة من مركز الاقتراع»، وهي المخالفة التي شاركت فيها الأبقار التي كتب على ظهورها دعاية للأحزاب بلا شك دون علمها.
45
7
انتهى الاقتراع للانتخابات العامة في الأسبوع الأخير من فبراير. وعند ظهور النتائج، اتضح أن حزب المؤتمر قد فاز بفارق كبير؛ فقد حصل على 364 مقعدا في البرلمان من أصل 489 مقعدا، و2247 مقعدا من أصل 3280 مقعدا في مجالس الولايات. إلا أنه - مثلما سارع نقاد حزب المؤتمر بالإشارة - قد كان ثمة فجوة خطيرة بين نسبة المقاعد التي حصل عليها المرشحون ونسبة الأصوات التي حصدوها. وذلك يعزى إلى أنه في معظم الدوائر الانتخابية كان ثمة ستة مرشحين أو أكثر؛ فكان الشخص الذي يحصد أكبر عدد من الأصوات يربح، حتى لو كان أكثر من 50٪ من الناخبين قد صوتوا لمرشحين آخرين أو أحزاب أخرى. ومن ثم فإنه على مستوى البرلمان ككل، حصد حزب المؤتمر 45٪ من الأصوات إلا أنه حصل على 74,4٪ من المقاعد، وعلى مستوى الولايات حصد 42,4٪ من الأصوات فيما حصل على 68,6٪ من المقاعد. على الرغم من ذلك، فقد خسر ما يصل إلى ثمانية وعشرين وزيرا من حزب المؤتمر في الانتخابات، منهم رجال أقوياء النفوذ من قبيل جاي نارايان فياس في راجستان، ومورارجي ديساي في بومباي. وكان الأكثر إثارة للدهشة أن شيوعيا ذاق الويسكي لأول مرة في حياته أثناء الحملة الانتخابية - هو رافي نارايان ريدي - فاز بأكبر هامش ربح، بما يفوق جواهر لال نهرو نفسه.
ومن الهزائم الأبرز تلك التي باء بها بي آر أمبيدكار زعيم حزب الطوائف المجدولة. كان منافسه في دائرته الانتخابية ببومباي بائع لبن مغمورا يدعى كاجرولكار. وفي هذا الإطار، ذاع صيت شعار صاغه الصحفي الماراثي الموهوب بي كيه أتري ترجمته مفادها:
أين صائغ الدستور العظيم أمبيدكار؟
وأين بائع الزبد المغمور كاجرولكار ؟
46
ولكن في نهاية المطاف، قادت مكانة حزب المؤتمر وسيطرته - وحقيقة أن نهرو ألقى خطبا عدة في بومباي - كاجرولكار إلى النصر. وقد قال أحدهم مازحا إنه حتى لو ترشح عمود إنارة على قائمة حزب المؤتمر لانتخب. أو حسب تعبير أكثر موضوعية لأحد علماء السياسة: ربح الحزب الانتخابات بناء على «شعبية نهرو الشخصية وقدرته على التعبير عن طموحات الهند الحديثة الاستقلال بفصاحة وقوة».
47
قبيل بدء الانتخابات، أشار سوكومار سين إلى أنها تمثل «أكبر «تجربة» في الديمقراطية في تاريخ البشرية». إلا أن محررا صحفيا من مدراس كان أقل حيادية؛ إذ شكا من أن «أغلبية كبيرة جدا سوف تدلي بصوتها لأول مرة؛ وقليلون هم من يعرفون ماهية الصوت الانتخابي، ولماذا ينبغي أن يصوتوا، ولمن. لا عجب أن تعد المغامرة بأكملها أكبر «مقامرة» في التاريخ».
48
وقال مهراجا انتزعت منه ممتلكاته حديثا لزوجين أمريكيين زائرين إن أي دستور يجيز منح حق الانتخاب للجميع في بلد أمي يعد ضربا من «الجنون». وأضاف: «لكما أن تتخيلا كم الغوغائية والتضليل والخداع المحتمل حدوثه.» ثم أردف قائلا: «إن وضع العالم أقل اتزانا بكثير من أن نسمح بمثل تلك التجربة.»
49
شاركه تشككه بندريل مون، زميل كلية أول سولز والموظف السابق في دائرة الخدمة المدنية الهندية الذي اختار البقاء في الهند بعد انتهاء خدمته. عام 1941، كان مون قد تحدث إلى الطلاب الخريجين من جامعة البنجاب عن عدم ملاءمة الديمقراطية الغربية الطراز للسياق الاجتماعي الذي يعيشون فيه. والآن - بعد مرور أحد عشر عاما - صار رئيس اللجنة الانتخابية لولاية مانيبور الجبلية، ومسئولا عن انتداب موظفين للجان الانتخابية والإشراف على عملية الاقتراع وعد الأصوات. وعندما ذهب أهالي مانيبور للانتخاب يوم 29 يناير، كتب مون لوالده أن «سوف ينظر عصر مستقبلي أكثر تنورا بعين ذاهلة إلى المسرحية الهزلية السخيفة المتمثلة في تسجيل أصوات ملايين الأميين».
50
وقد شاركته تشككه صحيفة «أورجانيزر» الأسبوعية التي تصدرها الجماعة الهندوسية ذات النزعة الانتقامية: راشتريا سوايامسيفاك سانج. كانت تلك المجلة تأمل في أن «يعيش جواهر لال نهرو حتى يقر بفشل خطوة منح حق الانتخاب لجميع البالغين في الهند». وزعمت الصحيفة أن المهاتما غاندي قد حذر من «هذه الجرعة المتهورة من الديمقراطية»، وأن رئيس الجمهورية - راجندرا براساد - كان «متشككا إزاء هذه المغامرة غير المأمونة العواقب». إلا أن نهرو «الذي طالما اتخذ الشعارات والبادرات الاستعراضية نهجا لحياته، رفض أن يستمع» إلى أحد.
51
في بعض الأحيان كان نهرو نفسه تراوده بعض الظنون إزاء فكرة إعطاء حق الانتخاب للجميع؛ ففي 20 ديسمبر من عام 1951 تغيب فترة قصيرة عن الحملة الانتخابية لكي يلقي خطابا في ندوة أقامتها منظمة اليونسكو في دلهي. وفي خطابه أقر نهرو بأن الديمقراطية أفضل شكل للحكم - أو الحكم الذاتي - لكنه رغم ذلك تساءل عما إذا كان:
مستوى الرجال المختارين بواسطة هذه الأساليب الديمقراطية الحديثة القائمة على منح حق الانتخاب للبالغين يتدهور تدريجيا بسبب قلة التفكير والضجة الدعائية ... فالناخب يستجيب إلى الضوضاء والصخب، إنه يستجيب للتكرار ويصنع إما دكتاتورا أو سياسيا أحمق يعوزه الإحساس. مثل ذلك السياسي يمكنه أن يحتمل صخب العالم كله ويظل واقفا على قدميه؛ ولذا يختاره الناخبون في النهاية لأن الآخرين يكونون قد انهاروا من فرط الصخب.
كان ذاك اعترافا نادر الحدوث، يستند بلا شك إلى الخبرات التي اكتسبها نهرو مؤخرا في جولته. وبعد أسبوع اقترح نهرو أنه قد يكون من الأفضل إقامة انتخابات مباشرة في المستويات الدنيا - على مستوى القرى والمقاطعات مثلا - وانتخابات غير مباشرة في المستويات العليا؛ فعلى حد تعبيره: «الانتخابات المباشرة لتلك الأعداد الهائلة تمثل مشكلة معقدة وقد لا يتمكن المرشحون من التواصل مع جمهور الناخبين أبدا وتتسع المسافة الفاصلة بين المرشحين والناخبين.»
52
كان نهرو يمتلك قدرة غير عادية - في أوساط الساسة على الأقل - على رؤية جانبي المسألة؛ ففي تلك الحالة، كان بإمكانه رؤية أوجه القصور التي تعتري العملية رغم التزامه بها. إلا أنه بحلول وقت ظهور النتائج النهائية - وخروج حزب المؤتمر من الانتخابات حزبا حاكما بلا منازع - كانت الشكوك التي انتابت نهرو قد تبددت. وقال: «لقد زاد احترامي للناخب الذي يوصف بالأمي. وأيا ما كانت الشكوك التي اعترتني بشأن منح حق الانتخاب للبالغين في الهند، فقد زالت تماما.»
53
إضافة إلى ذلك، فالانتخابات نفسها هدأت كليا الظنون التي انتابت السفير الأمريكي الجديد في الهند - تشستر بولز - الذي تولى مهام منصبه في دلهي في خريف عام 1951. وقد أقر بشعوره ب «الصدمة من فكرة انتخابات تتضمن 200 مليون ناخب، معظمهم من القرويين الأميين ... أخشى أن تبوء بفشل ذريع». بل ربما تكون - حسب وصف صحيفة «مدراس ميل» - «أكبر مسرحية هزلية مثلت تحت اسم الديمقراطية في أي مكان في العالم». إلا أنه غير رأيه إثر قيامه بجولة ريفية؛ فقد كان يظن يوما أن البلدان الفقيرة تحتاج إلى الخضوع لحكم دكتاتور خير حتى تتهيأ للديمقراطية. لكن مشهد تنافس أحزاب متعددة بحرية - ووقوف المنبوذين والبراهمة في صف واحد - أقنعه بغير ذلك؛ فلم يعد يرى الإلمام بالقراءة والكتابة مقياسا للذكاء، ولم يعد يظن أن آسيا بحاجة إلى «سلسلة من القادة من قبيل أتاتورك» قبل أن تصير مستعدة للديمقراطية. وقد كتب بولز ملخصا تقريره عن الانتخابات: «في آسيا - كما في أمريكا - لا أعرف رؤية أعظم من هذه: الحكم برضاء المحكومين.»
54
وقد سلط صحفي تركي زائر اهتمامه على مضمون الانتخابات لا شكلها؛ فأبدى إعجابه بالقرار الذي اتخذه نهرو بعدم السير على خطى البلدان الآسيوية الأخرى بسلوك «الطريق الأسهل» وإقامة «حكم دكتاتوري قائم على مركزية السلطة وعدم تقبل المعارضة والنقد». فقد كان رئيس الوزراء «حكيما إذ نأى بنفسه عن تلك الإغراءات». إلا أن «الفضل الأساسي ... يرجع إلى الأمة نفسها؛ إذ ترك 176 مليون هندي لضميرهم في مواجهة صندوق الاقتراع؛ فقد كان التصويت مباشرا وسريا. وكان أمامهم خيار ما بين الحكم الديني والشوفينية والانفصالية الطائفية والانعزالية من ناحية، والعلمانية والوحدة الوطنية والاستقرار والاعتدال والتعامل الودي مع بقية العالم من ناحية أخرى؛ فأثبتوا نضجهم باختيار الاعتدال والتقدم ونبذ الرجعية والقلاقل ». وقد بلغ انبهار ذلك المراقب مبلغا جعله يأخذ وفدا من مواطنيه للقاء سوكومار سين؛ فأراهم رئيس اللجنة الانتخابية نماذج من صناديق الاقتراع وأوراق الاقتراع ورموز الأحزاب، فضلا عن مخطط مركز الاقتراع، وذلك حتى يتمكنوا من استئناف مجرى الديمقراطية المعطل في بلادهم.
55
كان الصحفي التركي مصيبا من ناحية؛ فقد كان ثمة 176 مليون بطل بالفعل، أو 107 على الأقل - وهم من ذهبوا للتصويت فعلا من بين الناخبين الذين يحق لهم الانتخاب. إلا أن بعض الأبطال كانوا أكثر تميزا من غيرهم؛ فمثلما أشار عالم الاجتماع الجليل ابن لكنو، دي بي موكرجي: «يعزى قدر كبير من الفضل إلى المسئولين عن تلك التجربة العظيمة الأولى من نوعها في تاريخ الهند؛ فقد أظهر الجهاز البيروقراطي معدنه الأصيل بالتأكيد باضطلاعه بإخلاص بالمهام التي وكلت إليه من رئيس وزراء مخلص.»
56
ينطوي الجمع بين نهرو والجهاز البيروقراطي على أهمية، ومفارقة أيضا؛ فذات حين كان نهرو لا يكن لذلك الجهاز سوى الازدراء. وعلى حد تعبيره في سيرته الذاتية، فإنه «لا يوجد الكثير مما يستدعي الدهشة في الهند في يومنا هذا أكثر من التدهور المستمر - أخلاقيا وفكريا - لدوائر الخدمة العليا، ولا سيما دوائر الخدمة المدنية الهندية. يتجلى ذلك الوضع في أوضح صوره في الموظفين الكبار، لكنه يسري عبر الدوائر الخدمية كافة».
57
كتب نهرو ذلك الكلام عام 1935، حين كان في إمكان الجهات موضع سخريته أن تسجنه هو وأمثاله. ولكن بعد مرور خمسة عشر عاما، اضطر نهرو إلى تسليم الانتخابات إلى الرجال الذين كان من الممكن أن ينعتهم فيما مضى بعملاء الإمبريالية.
في هذا الصدد، كانت انتخابات عام 1952 قصة اشتركت في تأليفها قوتان تاريخيتان متعارضتان منذ زمن بعيد: الاستعمارية البريطانية والقومية الهندية. وفيما بينهما قدمت هاتان القوتان إلى هذه الأمة الوليدة ما يمكن وصفه دون مبالغة بوثبة إلى الديمقراطية.
الفصل الثامن
الهند والعالم
أفضل حالات البانديت نهرو تكون حينما يتحرر من صغائر الأمور.
مجلة «إيكونوميك ويكلي»، 28 يوليو 1951
1
بعيد انتخابات عام 1952 كتب نيراد سي تشودري مقالا عن جواهر لال نهرو في مجلة واسعة الانتشار. كان الكاتب (آنذاك) هنديا متوسط الشهرة، ولكن موضوع حديثه احتفظ بمكانته السامية فوقه وفوق الجميع؛ فقد قال تشودري إن زعامة نهرو «أهم قوة أخلاقية وراء وحدة الهند»؛ فهو «ليس زعيم حزب، وإنما زعيم شعب الهند بأكمله، وهو الخليفة الشرعي لغاندي». وكان تشودري يرى أن «نهرو يحافظ على وحدة الآلة الحكومية والشعب، ودون هذا المحور الرابط كانت الهند ستحرم على الأرجح الحكم المستقر في هذه الأوقات الحاسمة؛ فهو لم يكفل التعاون بين الطرفين فحسب، بل أيضا منع على الأرجح نشوب صراعات فعلية، على المستوى الثقافي والاقتصادي والسياسي. حتى زعامة المهاتما - لو كانت استمرت - ما كانت لتتغلب على مثل تلك الصراعات».
وأضاف: «وإذا كان نهرو - على المستوى المحلي - هو حلقة الوصل التي لا غنى عنها بين الطبقات الوسطى الحاكمة والشعب صاحب السيادة، فهو بالقدر ذاته حلقة الوصل بين الهند والعالم؛ فهو ممثل الهند لدى الدول الديمقراطية الغربية العظيمة، وأود أن أضيف أنه ممثلها لدى الهند أيضا. لا شك أن الدول الغربية تنظر إليه من هذا المنطلق وتتوقع منه أن يضمن لها تأييد الهند، ولهذا تنزعج أيما انزعاج عندما يسلك نهرو منحى معاديا للغرب أو محايدا؛ فهي تشعر بأن أحد رجالها خذلها.»
1
خلال الفترة الطويلة التي شغل فيها نهرو منصب رئيس الوزراء، شغل منصب وزير خارجية حكومة الهند في الوقت نفسه. كان ذلك أمرا طبيعيا؛ إذ إنه من بين قيادات حزب المؤتمر كان هو الوحيد الذي يمتلك رؤية دولية بحق؛ فقد كان غاندي يتمتع بتوجه عالمي لكنه لم يسافر إلى الخارج تقريبا. وقيادات الحزب الأخرى - مثل فالابهاي باتيل - لم تكن تحيد عن توجهها الداخلي. أما نهرو فقد «كان دائم الانبهار بالاتجاهات والحركات العالمية».
2
في فترة ما بين الحربين ظل نهرو يراقب النقاشات الأوروبية عن كثب، ويشارك فيها من حين لآخر. وفي عام 1927 زار روسيا، وفي العقد التالي تعددت أسفاره في أنحاء القارة الأوروبية. وفي ثلاثينيات القرن العشرين اضطلع بدور نشط في حشد الدعم من أجل قضية النظام الجمهوري في إسبانيا. وأصبح أحد دعائم اليسار التقدمي؛ إذ كثرت خطبه على المنصات العامة في إنجلترا وفرنسا. وفي هذا الصدد تعزز صيته وشهرته بنشر كتابه «سيرة ذاتية» والنجاح التجاري الذي حققه، إثر صدوره في لندن عام 1936.
3
نجد نموذجا ممثلا لأفكار نهرو في الخطاب الذي ألقاه عن «السلام والإمبريالية» بإحدى قاعات بناية فريندز هاوس في يوستن في شهر يوليو من عام 1938. بدأ نهرو خطابه بالحديث عن «الاعتداء الفاشي» ولكنه واصل حديثه معتبرا الفاشية مجرد وجه آخر للإمبريالية. في بريطانيا كان ثمة ميل إلى التمييز بينهما، ولكن في مخيلة نهرو لم يكن ثمة مجال للشك في أن «الساعين إلى منح شعوب العالم التابعة كافة حريتها كاملة» لا بد أن يعارضوا الفاشية والإمبريالية على حد سواء.
وقال نهرو إن تلك الأوقات العصيبة شجعت «زيادة التضامن بين الشعوب المختلفة» ونمت «شعورا بالصحبة والرفقة على الصعيد الدولي». وقد اتسع نطاق حديثه ليشمل بؤر الصراع في جميع أنحاء العالم؛ فتحدث عن إسبانيا والحبشة والصين وفلسطين، كما تحدث عن أفريقيا برقة بالغة؛ فقال: «إن شعوب أفريقيا تستحق منا اهتماما خاصا» مشيرا إلى أنه «على الأرجح ما من شعب في العالم ذاق ما ذاقته تلك الشعوب من معاناة واستغلال».
4
في أواخر صيف عام 1939 خطط نهرو رحلة إلى جارة الهند الكبرى، الصين. كان ثمة مراسلات ودية بين نهرو وبين شيانج كاي-شيك، وهو ما فسره لأحد زملائه بقوله: «يوما بعد يوم يزداد ظني في تقارب الهند والصين مستقبلا.» كان يأمل في أن يسافر جوا إلى تشونج كينج، ويقضي ثلاثة أسابيع متنقلا بين ربوع المناطق النائية، ثم يعود إلى الوطن عبر طريق بورما. ولكن للأسف، وأدت الحرب المشتعلة في أوروبا خططه في مهدها.
5
سجن نهرو في أعقاب حركة «ارحلوا عن الهند» عام 1942. وعندما أطلق سراحه في يوليو 1945 كرس طاقاته في بداية الأمر للجولة الأخيرة في معركة الحكم الإمبريالي. ولكن عندما لاحت حرية الهند واضحة في الأفق القريب، تحول فكره مجددا إلى الشئون الخارجية؛ ففي حديث إذاعي في سبتمبر 1946 خص نهرو بالذكر الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والصين بوصفها البلدان الثلاثة الأكثر أهمية لمستقبل الهند. وفي العام التالي تحدث أمام الجمعية التأسيسية للدستور، قائلا إن الهند ستكون صديقة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، عوضا عن اتباع معسكر إحدى القوتين «أملا في وقوع بعض الفتات من على مائدتيهما». وعلى حد تعبيره، «نحن قادة أنفسنا».
6
وقد ظهرت صيغة مبكرة مما صار يعرف بسياسة «عدم الانحياز» في رسالة كتبها نهرو إلى كيه بي إس مينون في يناير 1947، بينما كان مينون يستعد لتولي مهام منصب سفير الهند الأول لدى الصين؛ فقال نهرو إن «سياستنا العامة»:
تتمثل في تجنب التورط في سياسات القوة، وعدم الانضمام إلى أي مجموعة من القوى في معاداة مجموعة أخرى. المجموعتان القائدتان الآن هما الكتلة الروسية والكتلة الأنجلو أمريكية؛ فعلينا أن نقيم علاقات ودية مع الكتلتين على حد سواء، ولكن دون الانضمام إلى أي منهما. والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا كلتاهما متشككة إزاء الأخرى على نحو غير عادي، وكذلك إزاء البلدان الأخرى. سيجعل هذا طريقنا وعرا، وثمة احتمال كبير في أن تشك كل منهما في ميلنا تجاه الأخرى. هذا ما لا مفر منه.
7
كان نهرو يرى استقلال الهند باعتباره جزءا من عودة آسيا في صورتها الأشمل؛ فربما كانت القرون الماضية ملكا لأوروبا - أو للأجناس البيضاء بصفة عامة - ولكن الآن قد حان الوقت لكي تتبوأ الشعوب الملونة والتي كانت مستعبدة المكانة التي تليق بها.
كان من المبادرات المهمة في هذا الصدد مؤتمر العلاقات الآسيوية، الذي أقيم في نيودلهي في الأسبوع الأخير من مارس 1947. في ذلك المؤتمر أرسل ثمانية وعشرون بلدا ممثلين عنها - منها أقرب جيران الهند (أفغانستان وبورما وسيلان ونيبال)، ودول جنوب شرق آسيا التي كانت لا تزال خاضعة للحكم الاستعماري (مثل ماليزيا وإندونيسيا وفيتنام)، والصين والتبت (التي أرسلت كل منهما وفدا مستقلا)، وسبع «جمهوريات» آسيوية من الاتحاد السوفييتي، وكوريا. كذلك أرسلت جامعة الدول العربية ممثلا عنها، كما أرسل وفد يهودي من فلسطين. ومثلما ذكر أحد الصحفيين الغربيين الذين غطوا الحدث، فطوال أسبوع، كانت مدينة دلهي «حافلة بألوان متشابكة من البشر الغريبي الملبس والهيئة: ثياب مزركشة من جنوب شرق آسيا، وسراويل واسعة من أسفل الركبة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي الشرقية، والشعر المضفر المصاحب للعباءات المبطنة من التبت ... عشرات اللغات العجيبة والألقاب المتعددة المقاطع. وعلى نحو أو آخر - مثلما ردد بعضنا لبعض - كانت هذه الأعداد تمثل قرابة نصف تعداد سكان العالم».
8
عقد المؤتمر في القلعة القديمة، وهي صرح حجري كبير بناه شير شاه صوري في القرن السادس عشر، والذي كان متهدما بعض الشيء وإن ظل محتفظا برونقه. كانت الجلسة الافتتاحية والجلسة الختامية مفتوحتين للجمهور، واجتذبتا حشودا كبيرة؛ بلغت 20 ألفا من الناس وفقا لأحد التقديرات. كانت اللغة الرسمية هي الإنجليزية وإن توافر مترجمون فوريون للوفود. وقف المتحدثون على المنصة، ومن خلفهم ثبتت خريطة ضخمة للقارة، كتب أعلاها «آسيا» بمصابيح النيون. كان نهرو من ألقى الخطاب الافتتاحي. وقد «اعتلى المنصة وسط عاصفة من التصفيق» قائلا إنه «بعد سكون طال» آسيا «اكتسبت أهمية مفاجئة في الشئون العالمية»، وبلدانها «لم يعد من الممكن استغلالها لتحقيق مصالح الآخرين».
9
إلا أنه - مثلما ذكر الصحفي جي إتش جانسن - فإن خطاب نهرو «لم ينطو على معاداة مباشرة أو قوية للاستعمار؛ فقد قال: «إن النظم الإمبريالية القديمة آيلة إلى الزوال.» ولوح بيده في إشارة أقرب إلى الازدراء كانت أسوأ من مهاجمة تلك النظم؛ كانت تلك إشارة النهاية».
10
وبعد أن أنهى نهرو حديثه، أرسل كل بلد مشارك في المؤتمر - حسب الترتيب الأبجدي - متحدثا إلى المنصة. استغرقت خطب الوفود يومين كاملين، انقسم المؤتمر بعدها إلى اجتماعات مصغرة حسب الموضوع؛ فكان ثمة أقسام منفصلة لقضايا «الحركات القومية الساعية إلى الحرية»، و«المشكلات العرقية والهجرة بين الدول الآسيوية»، و«التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية»، و«المشكلات الثقافية»، و«وضع المرأة والحركات النسائية».
اختتم المؤتمر بخطاب للمهاتما غاندي، أعرب فيه عن أسفه لعقد المؤتمر ليس في «الهند الحقيقية» الكائنة في القرى بل في المدن «المتأثرة بالغرب». وأصر غاندي على أن «الرسالة المنشودة لآسيا لا يمكن استقاؤها عبر منظار غربي أو بتقليد القنبلة الذرية ... أود أن تغادروا هذا المؤتمر وقد وقرت في أذهانكم فكرة أن آسيا يجب أن تغزو الغرب بالمحبة والصدق».
11
ظهر غاندي في ذلك الحدث، ولكن نهرو كان نجم الحفل الفعلي. وقد رأى معجبوه في ذلك تأكيدا لمكانته باعتباره الصوت الحقيقي لآسيا الناشئة. أما نقاده فكانوا أقل تفضلا في آرائهم؛ فقد شكت صحيفة «دون» التابعة لحزب العصبة الإسلامية في وصفها للمؤتمر من:
براعة نهرو في تنصيب نفسه على نوع من كرسي الزعامة لعموم آسيا. كان ذلك تحديدا هو هدف ذلك القائد الهندوسي الطموح: أن يفرض نفسه زعيما للأمم الآسيوية ويعزز بوصوله إلى تلك المكانة المرموقة والأهمية الخطط التوسعية للهندوسية الهندية.
12
2
زار نهرو أوروبا مرات عدة قبل الاستقلال. إلا أن أولى زياراته إلى الولايات المتحدة الأمريكية جاءت بعد عامين من توليه منصب رئيس الوزراء؛ فالولايات المتحدة لم تحتل مساحة كبيرة من فكر نهرو السياسي؛ فهو على سبيل المثال قد أفرد في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» للولايات المتحدة مساحة أصغر بكثير من الصين أو روسيا. ولم يكن ما قاله عنها كله ثناء؛ فالطراز الأمريكي من الرأسمالية تمخض عن العبودية وثقافة العصابات وثراء فاحش يقابله فقر مدقع؛ فقد كان جي بيربونت مورجان يقتني يختا قيمته 6 ملايين جنيه، في حين عرفت نيويورك بأنها «مدينة الجوع». كان نهرو معجبا بمحاولات فرانكلين ديلانو روزفلت ضبط الاقتصاد، لكنه لم يعقد آمالا على نجاح محاولاته؛ وذلك لأن «الشركات الأمريكية الكبرى تعتبر أقوى أصحاب المصالح في العالم الحديث، وهي لن تتخلى عن سطوتها وامتيازاتها بمجرد إشارة من الرئيس روزفلت».
13
قبل رحلة نهرو إلى الولايات المتحدة في أواخر عام 1949، عمد صحفي مقدام في مجلة «تايم» إلى تصفح كتاباته؛ فكشف أن «ببساطة موضوع أمريكا لم يشغل حيزا كبيرا من فكره قط؛ فكونه خريج جامعة بريطانية، ربما كان ينظر بأنفة إلى القصور الأمريكي في ميدان الثقافة. وبصفته اشتراكيا بمشاعره، صنف الولايات المتحدة قوة تكنولوجية لا نظير لها ولكنها متوحشة في رأسماليتها».
14
كثيرون شاركوا نهرو شعوره. كانت النخبة في الهند - مثلها في ذلك مثل الطبقة الأرستقراطية في بريطانيا - عادة ما تنظر إلى أمريكا والأمريكيين على أنهما عديما الثقافة والتهذيب. ومن الأمثلة على ذلك آراء بي بي كومارامنجلام، سليل عائلة شهيرة بجنوب الهند. كان والده - دكتور بي سوبريان - من أصحاب الأملاك الأثرياء وسياسيا ذا نفوذ، خدم في وزارة نهرو في مرحلة لاحقة. درس الابن في أكاديمية ساندهيرست العسكرية، بينما درس شقيقه وشقيقته في جامعتي أكسفورد وكامبريدج. وقد واصل شقيقه موهان وشقيقته برفاتي مسيرتهما ليصيرا من الأعلام البارزة للحزب الشيوعي الهندي، وهو ما أكسبهما ميلا إلى كراهية أمريكا. ولكن في هذا الصدد تفوق عليهما شقيقهما ضابط الجيش؛ فبعد نيل الهند استقلالها أرسل للتدريب في كلية المدفعية في فورت سيل بأوكلاهوما. ومنها كتب إلى أحد معلميه في مدراس قائلا:
هذا ليس بلدا يمكن أن أعجب به أبدا؛ فأنا لا أكن له احتراما كبيرا. الأشخاص الذين أضطر إلى التعامل معهم بالغو الطيبة، ومضيافون، وقد أحسنوا معاملتنا نحن الاثنين. ولكنني لسبب ما أستشعر لمحة تصنع في معاملتهم، وهي أيضا ناتجة عن محاولة إبهارنا. أظن أنهم شديدو الغيرة من العالم القديم وخلفيته وثقافته وهو ما أورثهم عقدة نقص حادة. أما عن أخلاقياتهم، فمنعدمة. الناس هنا يبدون استمتاعا بمحاولة تفوق بعضهم على بعض بأي وسيلة، وغالبا ما تكون وسائلهم ملتوية. الساسة مبتزون والشركات الكبرى محكمة قبضتها على كل شيء في البلد. وأظن أن أصحاب النفوذ أحكموا قبضتهم إلى حد بعيد على صغار التجار الريفيين والمزارعين. وإني لآمل أن تمضي بلادنا قدما بحذر ولا تخضع لتأثير الولايات المتحدة بالكامل.
15
من جانبهم كان للأمريكيين آراؤهم المتحيزة أيضا عن الهند؛ فقد كانوا معجبين بغاندي وكفاحه من أجل الاستقلال الوطني، ولكن معرفتهم بالبلد نفسه كانت ضئيلة؛ فكما أشار هارولد آيزاك ذات مرة، في السنوات التالية على الحرب، كان الهنود ينقسمون في أعين الأمريكيين إلى أربع فئات فحسب؛ أولا: الهنود «الأسطوريون»، وهم المهراجات والسحرة الذين تصحبهم كائنات عجيبة بالقدر ذاته مثل النمور والأفيال. وثانيا: الهنود «الغامضون»، وهم أناس يتسمون «بالعمق والتأمل والسكون والحكمة». وثالثا: الهنود «المضللون»، الذين يعبدون الحيوانات وآلهة متعددة الرءوس، ويعيشون في بلد أكثر وثنية حتى من الصين. ورابعا: الهنود «البؤساء»، الذين يحاصرهم الفقر والمرض؛ الذين لديهم «أطفال أعينهم محاطة بالذباب وبطونهم منتفخة، أطفال يموتون في الشوارع، والأنهار ملأى بالجثث». ربما كانت أكثر تلك الصور رواجا الصورتين الأخيرتين؛ فلم يكن من قبيل المصادفة أن يكون أشهر كتاب صدر عن شبه القارة الهندية في أمريكا هو كتاب «أمنا الهند» لكاثرين مايو، وهو الكتاب الذي وصفه غاندي بأنه «تقرير مفتش صرف صحي».
16
كان نهرو يشارك الهنود بعض آرائهم المتحيزة، كما أنه كان على دراية بتحيزات الأمريكيين. إلا أنه كان على استعداد لتنحية تلك التحيزات جانبا من أجل ذلك اللقاء الأول الرفيع المستوى بين أغنى الدول الديمقراطية وأحدثها عهدا. وفي أغسطس 1949، بينما كان نهرو يعد العدة لرحلته، كان متوترا على غير عادته. وسأل شقيقته فيجايا لاكشمي بانديت: «بأي صورة أخاطب الولايات المتحدة؟ كيف أخاطب شعبها وما إلى ذلك؟ كيف أتعامل مع الحكومة هناك ورجال الأعمال وغيرهم؟ أي وجه ينبغي أن أقدم إلى عامة الشعب الأمريكي: الوجه الهندي أم الأوروبي؟ ... أريد أن أكون ودودا مع الأمريكيين ولكن مع جعل موقفنا واضحا دائما.»
17
قضى نهرو ثلاثة أسابيع في الولايات المتحدة، كان يدلي خلالها بخطاب في اليوم أمام جمهور، تباين من الكونجرس الأمريكي إلى رعايا إحدى الكنائس في شيكاجو. وقد نال درجة الدكتوراه الشرفية من جامعة كولومبيا، وتحدث إلى جمهور مكون من 10 آلاف مستمع في جامعة كاليفورنيا ببيركلي. وأبدى توحده مع رجل الشارع العادي؛ إذ التقطت له صورة مع سائق سيارة أجرة في بوسطن، لكنه أوضح كذلك انتماءه إلى أرستقراطية المثقفين، كما في زيارته لألبرت أينشتاين في جامعة برينستون، والتي صاحبتها ضجة كبيرة.
في خطاب نهرو أمام الكونجرس، تحدث بإجلال عن مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية، ثم إنه قدم في مقابلهم رجلا عظيما من أبناء وطنه. كان ذلك الرجل هو غاندي، التي استلهمت الهند المستقلة سياستها الخارجية من رسالته الداعية إلى السلام والصدق. إلا أن المهاتما «كان أعظم من الحدود المقيدة لبلد واحد، وقد تساعدنا الرسالة التي قدمها في تناولنا للمشكلات العالمية الأشمل». فأكثر ما يفتقر إليه العالم - على حد تعبير نهرو - كان «التفهم والتقدير المتبادلين بين الدول والشعوب».
كان ذلك تعبيرا دبلوماسيا، ولكن نهرو تحدث بصراحة أكبر في أماكن أخرى؛ ففي جامعة كولومبيا، استنكر الرغبة في «الزج بالعالم في معسكرين متعاديين». وقال إن الهند لن تنحاز إلى أي منهما، وإنما ستتبع «نهجا مستقلا لكل قضية جدلية أو خلافية». وكان يرى أن السبب الرئيسي وراء الحروب يكمن في استمرار العنصرية والاستعمار. ولا يمكن أن يكفل السلام والحرية إلا بالقضاء نهائيا على سيطرة بلد أو عرق على آخر.
18
أعجب الإعلام الأمريكي برئيس الوزراء الهندي. وقد بلغ الأمر بصحيفة «شيكاجو صن تايمز» أن قالت إنه «من نواح عدة، يمثل نهرو أقرب شبه في هذا الجيل بتوماس جيفرسون من حيث أسلوبه في التعبير عن الطموحات العالمية إلى حرية البشر في كل مكان».
19
وقد وصفته مجلة «ذا كريستيان ساينس مونيتور» بأنه «عملاق عالمي». وعندما رحل نهرو، علق أحد كتاب الأعمدة في صحيفة «سانت لويس بوست ديسباتش» قائلا: «غادرنا نهرو، تاركا خلفه حشدا من النساء الدامعات.»
20
حتى مجلة «تايم» أقرت بأنه في حين أن الأمريكيين لم يتثبتوا بعد من موقف نهرو، فقد «لمسوا فيه؛ إن لم يكن صدقا نادرا، فقلبا نادرا».
21
إلا أن الزائر القادم من الهند لم يلق استحسان فئة من الناس، وهم كبار مسئولي وزارة الخارجية الأمريكية؛ فقد خاض نهرو عدة نقاشات مطولة مع وزير الخارجية - دين آتشيسون - لكنها لم تسفر عن شيء. وكتب آتشيسون في مذكراته عن زيارة نهرو باستخفاف لا يخلو من بعض القنوط؛ فقد وجد نهرو في حواراتهما «عصبيا» متكبرا («لقد تحدث إلي ... كأنه في مؤتمر جماهيري»)، ومتصيدا لأخطاء الآخرين (لا سيما المستعمرون الفرنسيون والهولنديون) دون الإقرار بأي من أخطائه. وعندما تطرق آتشيسون إلى موضوع كشمير، قابله «مزيج عجيب من الخطب الجماهيرية وومضات الغضب والكراهية العميقة لخصومه». وبصفة عامة، فقد قال عن نهرو إنه «أحد أصعب الرجال الذين اضطررت إلى التعامل معهم في حياتي ».
22
كان ثمة مسئولون أمريكيون آخرون أكثر تعاطفا مع نهرو. أحدهم كان تشستر بولز، سفير الولايات المتحدة إلى نيودلهي من عام 1951 إلى عام 1953؛ فإذ راقب بولز نهرو أثناء عمله في بيئته، أبدى إعجابا ظاهرا بالتزامه بالديمقراطية، والعملية الديمقراطية، وحقوق الأقليات. أما دين آتشيسون - وأمريكيون كثيرون غيره - فقد قسم العالم إلى فئتين: الأصدقاء والأعداء.
23
ولم يكن بولز مؤيدا لذلك المقياس؛ فقد كان يصر على أنه «من السخافة والحمق أن نثب نحن الأمريكيين إلى استنتاج أنه بما أن نهرو ليس معنا 100٪، فلا بد أنه ضدنا».
24
توطدت العلاقات بين الهند والولايات المتحدة خلال فترة عمل بولز سفيرا لدى الهند؛ فقد أرسلت الولايات المتحدة خبراء ومعدات لمساعدة البرامج الهندية الموجهة إزاء التنمية الزراعية. ولكن التشكك الشعبي استمر؛ فقد صادف كاتب من ولاية ديلاوير الأمريكية - طاف شبه الجزيرة الهندية في أوائل خمسينيات القرن العشرين - كثيرا من الهنود المتعلمين الذين مثلت الولايات المتحدة بالنسبة إليهم بلدا «معزولا بسبب أخطاء جسيمة، يتخبط بمفرده في ظلمات المادية المهلكة، والطموحات الإمبريالية، وتأجيج نيران الحرب، والفساد السياسي، والإفلاس الروحاني والثقافي، والتمييز العنصري والظلم».
25
ازداد التشكك المتبادل عمقا بعد عام 1953، عندما وجد الجمهوريون أنفسهم في سدة الحكم مرة أخرى بعد ابتعادهم عنها عشرين عاما؛ فعندما شارف ذلك العام على الانتهاء، قام ويليام إف نولاند - زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ الأمريكي - برحلة حول العالم في ستة أسابيع. وبعد عودته إلى الوطن، قالت مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» نقلا عنه إن جواهر لال نهرو لا يمثل جميع أمم آسيا أو شعوبها. وقال السناتور نولاند مشددا: «قطعا لا يتحدث نهرو بلسان جمهورية كوريا أو اليابان أو الصين الحرة أو فورموزا أو تايلاند أو فيتنام أو لاوس أو كمبوديا. وهو لا يتحدث طبعا بلسان باكستان؛ فالبلدان الوحيدة التي قد يمكنه التحدث بلسانها بشيء من الثقة - أو أن يمثل آراءها على الأقل - هي الهند نفسها، وإندونيسيا المماثلة لها في توجهها المحايد وربما بورما.»
26
شاركه تلك الآراء وزير الخارجية الجديد جون فوستر دالاس، الذي كان من أعتى جنود الحرب الباردة، وسيطر هوسه بالشيوعية على سياسته الخارجية؛ ففي إطار المعركة ضد الاتحاد السوفييتي كان دالاس مستعدا لتجاهل النظم السياسية الداخلية للدول الأخرى. والحكام الدكتاتوريون الموالون للولايات المتحدة نالوا حظوة عن الحكام الديمقراطيين غير الموالين؛ وذلك حسب العبارة الشهيرة التي يفترض أن دالاس قالها: «حتى إن كان وغدا، فهو على الأقل وغدنا.»
وقد شعر دالاس ونهرو بنفور متبادل منذ البداية؛ فقد زعم الأول أن «فكرة الحياد بالية وغير أخلاقية وتفتقر إلى بعد النظر»، وأن المؤمنين بها ينتمون إلى الشيوعية سرا. وبطبيعة الحال لم يلق ذلك التفسير قبولا لدى نهرو؛ فحسبما كتب الدبلوماسي الأسترالي والتر كروكر، لم تفت رئيس الوزراء الهندي المفارقة المتمثلة في أنه:
فيما يتعلق بقدسية العالم الحر والحياة الحرة التي أعلنها دالاس، فأنا - الملعون في نظر دالاس - أبذل جهدا هائلا لكي أضع الهند على طريق الديمقراطية البرلمانية، وسيادة القانون، وحرية الأديان كافة والمساواة بينها، والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية؛ في حين تضمنت البلدان التي يشيد بها دالاس ويقدم لها الدعم لأنها «مستعدة للإعلان عن انتمائها» إلى صفوف معاداة الشيوعية نظما استبدادية عقيمة أو قمعية، ونظما قائمة على حكم القلة وأخرى قائمة على الحكم الديني، تتسم أحيانا بالفساد إضافة إلى الرجعية.
27
ثم أمعن دالاس في تهييج مشاعر الهنود عندما أشار إلى أن البرتغال - الحليف الذي حظي بثقة الولايات المتحدة - يمكنها أن تحتفظ بمستعمرتها، جوا، قدر ما تشاء. إلا أن الدور الحاسم لدالاس في العلاقات بين الولايات المتحدة والهند تمثل في الميثاق العسكري الذي وقعه مع باكستان في فبراير 1954. وحسبما علق أحد المؤرخين ساخرا: «السيد دالاس أراد المواثيق ... أما باكستان فأرادت المال والسلاح.»
28
منذ استقلال الهند تقريبا، ارتأت المملكة المتحدة في باكستان حليفا محتملا في الحرب الباردة، بل «حصنا منيعا أمام الشيوعية». وفي المقابل، اعتبرت الهند متساهلة مع الاتحاد السوفييتي. وكان ونستون تشرشل نفسه شديد الإعجاب بالرأي القائل إن باكستان يمكنها أن تمثل جبهة صمود في شرق روسيا، مثلما مثلت تركيا - العميل الغربي الموثوق - جبهة صمود في غرب روسيا. وقد أيد أستاذ جامعة هارفرد النابغة الذي كان شابا آنذاك هنري كيسنجر هذه الفكرة؛ ففي رأيه، كانت «حماية أفغانستان [من السوفييت] متوقفة على قوة باكستان».
29
فبالنسبة إلى الجمهوريين من أمثال دالاس، مثلت المعركة ضد الشيوعية أهمية قصوى؛ وهو ما يفسر ميله إلى باكستان، التي اعتبرها عضوا رئيسيا في حلقة دفاعية محيطة بالاتحاد السوفييتي؛ فضربات الطائرات الأمريكية المنطلقة من قواعد في باكستان كان يمكنها أن تبلغ مناطق في عمق وسط آسيا السوفييتي. وقد حظي رأي دالاس بتأييد ريتشارد نيكسون نائب الرئيس، واستطاعا استمالة الرئيس أيزنهاور في نهاية المطاف بمضافرة جهودهما؛ إذ كان قلقا من تداعيات إقامة أي تحالف مع باكستان على الهند.
30
بلغت المعونة العسكرية الأمريكية لباكستان نحو 80 مليون دولار سنويا. كذلك فقد شجعت الولايات المتحدة باكستان على الانضمام إلى التحالف العسكري المقاوم للاتحاد السوفييتي في وسط آسيا - والمعروف بمنظمة الحلف المركزي - ونظيره في جنوب شرق آسيا - المعروف بمنظمة حلف جنوب شرق آسيا. وقبل شهرين من توقيع دالاس الميثاق مع باكستان، حذر مبعوث أمريكي عمل سنوات في شبه القارة الهندية من أن «ترجيح كفة باكستان عسكريا على الهند، من شأنه أن يثير حفيظة الهند».
31
طبعا كان ذلك ما حدث، وإن كان ثمة عوامل توتر أخرى في العلاقات الهندية الأمريكية أيضا؛ ففي خضم النزاعات المستمرة أثناء الحرب الباردة - كما في كوريا والهند الصينية - اعتبرت الهند محايدة أكثر من اللازم؛ فحماس نهرو المفرط في الدعوة إلى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية، وإصراره على منحها مقعدا في مجلس الأمن الذي كانت تشغله تايوان آنذاك، لم يلقيا قبولا لدى واشنطن؛ فقد شعر عدد متزايد من الأمريكيين أن نهرو «دخل ساحة السياسة الدولية في صورة البطل المتحدي للحكمة الأمريكية».
32
ربما كان ذلك صحيحا؛ فحسبما كتب نهرو إلى قطب الصناعة الهندي جي دي بيرلا في مايو من عام 1954: «لا أظن التاريخ ينطوي على نماذج كثيرة لاتباع بلد واحد سلسلة من السياسات الخاطئة مثلما فعلت الولايات المتحدة في الشرق الأقصى خلال الأعوام الخمسة أو الستة الماضية؛ فهي ما برحت تتخذ خطوة خاطئة تلو الأخرى ... إنها تظن أن أي مشكلة يمكن حلها بالمال والسلاح، وتنسى العنصر البشري؛ فهي تنسى الدوافع القومية للشعوب، وتنسى استياء شعوب آسيا البالغ من فرض الإملاءات عليها.»
33
بيرلا نفسه كان متلهفا إلى حد بعيد إلى تحسين العلاقات بين البلدين؛ ففي أكتوبر 1954 زار الولايات المتحدة وتحدث إلى شريحة عريضة من الشخصيات المهمة. بل إنه قضى نصف ساعة مع جون فوستر دالاس، الذي شكا من أن الهند «مثلتهم تمثيلا مضللا على أنهم يؤججون نيران الحروب وما إلى ذلك».
34
وفي فبراير من عام 1956 زار بيرلا الولايات المتحدة مجددا في مهمة رامية إلى مد جسور الود بين البلدين. وعندما طلب من نهرو النصح، رد عليه بدرس في الأخلاق؛ فقال: «لقد أغضب تصريح دالاس عن جوا الجميع هنا؛ فالعلاقات الهندية الأمريكية تتأثر بالأشياء من ذلك القبيل أكثر بكثير مما تتأثر بالمعونات التي قد يمنحوننا إياها. وهناك أيضا المعونة العسكرية الأمريكية لباكستان، التي تمثل تهديدا مستمرا ومتناميا علينا، وتزيد في الواقع أعباءنا أكثر بكثير من قيمة المعونات التي يمنحوننا إياها.»
35
في الشهر التالي، كان جون فوستر دالاس من الجرأة بحيث أقدم على زيارة نيودلهي. لا يزال سجل المحادثات التي أجراها مع الحكومة الهندية سريا، ولكننا نمتلك نص مؤتمر صحفي أجراه هناك، وفيه تلقى وابلا من الأسئلة العدائية؛ فسئل عن سبب قوله إن جوا جزء لا يتجزأ من البرتغال، وهو ما لم ينكره دالاس ولكنه قال إنه يؤيد الوصول إلى «حل سلمي» للخلاف. ثم تحولت دفة الحديث إلى المعونة الأمريكية الممنوحة لباكستان، واحتمال أن تفضي إلى تصعيد النزاع في كشمير؛ فأجاب دالاس متخذا موقفا دفاعيا قائلا: «الأسلحة التي نمد بها باكستان ليس الهدف منها أن تشكل تهديدا للهند بأي حال من الأحوال.» وعندما أبدى صاحب السؤال إصرارا، علق دالاس في غضب قائلا: «نحن لا نشعر بأنه نظرا لوجود نزاع على كشمير ... ينبغي أن تكون باكستان منزوعة السلاح بحيث تعجز عن صد عدوان الاتحاد السوفييتي.» وبعد ذلك هدد دالاس بمغادرة المؤتمر الصحفي إن طرحت أي أسئلة أخرى عن جوا أو كشمير.
36
لقد بدا في الواقع أن الهند والولايات المتحدة الأمريكية بينهما قواسم مشتركة كثيرة؛ مثل: نمط الحياة الديمقراطي، والالتزام بتعدد الثقافات، و(أخيرا وليس آخرا) أسطورة أصل قومي تشدد على الكفاح ضد قهر الاحتلال البريطاني. ولكن فيما يتعلق بمسائل السياسة الدولية كان بينهما خلاف محتدم؛ إذ كانت الولايات المتحدة ترى الهند متهاونة إزاء الشيوعية، بينما رأت الهند الولايات المتحدة متهاونة إزاء الاستعمار. وفي النهاية، بدت نقاط الخلاف طاغية على نقاط الوفاق، وهو ما يعزى جزئيا إلى التآلف - أو في الواقع انعدام التآلف - على المستوى الشخصي بين الطرفين الرئيسيين على الجانبين.
37
3
زار جواهر لال نهرو الاتحاد السوفييتي قبل جولته في أمريكا الشمالية بعقدين من الزمان. وإذ استقل القطار من برلين، وصل إلى حدود روسيا يوم 7 نوفمبر من عام 1927، الذي وافق الذكرى السنوية العاشرة لاستيلاء البلاشفة على السلطة. وكانت مظاهر «عبادة لينين» منتشرة في الأرجاء؛ فكانت الأعلام الحمراء والتماثيل النصفية للبطل البلشفي في كل مكان. ومن هناك مضى نهرو إلى موسكو، وهي المدينة التي أعجب بها لما اتسمت به من أبهة مادية ومساواة اجتماعية بادية. وعن ذلك كتب: «التناقضات بين الرفاهية البالغة والفقر المدقع ليست ظاهرة، ولا يلحظ المرء هرمية الطبقات أو الطوائف الاجتماعية.»
كتب نهرو سردا لرحلته، انطوى على مخزون لا ينضب من العواطف الجياشة؛ سواء كان يتحدث عن الجمعيات التعاونية للفلاحين أو دستور الاتحاد السوفييتي أو التسامح المفترض مع الأقليات أو التقدم الاقتصادي. وقد أثارت فيه زيارة قبر لينين تأملات بشأن ذلك الرجل والمهمة التي اضطلع بها، ليخلص في النهاية إلى تأييد قاطع لزعم رومان رولان أن الزعيم البلشفي كان «أعظم رجل أفعال في قرننا هذا وأكثرهم إيثارا في الوقت نفسه». وقد أخذ نهرو إلى نموذج لسجن رآه معبرا عما انطوت عليه المنظومة الاشتراكية من «نظام اجتماعي أفضل وقانون جنائي إنساني».
وانتهى نهرو إلى أنه مقارنة بالبلدان البرجوازية، كان الاتحاد السوفييتي يعامل العمال والفلاحين، والنساء والأطفال، وحتى السجناء، معاملة أفضل. وقد اكتملت سذاجة السرد بالاقتباس الذي استهله به؛ الذي تمثل في مقولة ويليام وردزوورث عن الثورة الفرنسية: «كان العيش في ذلك الفجر نعمة، ولكن الشباب فيه كان الجنة ذاتها.»
38
ويشير مدون سيرة نهرو إلى أنه زار الاتحاد السوفييتي «في الأيام الأخيرة من حقبة ازدهاره الأولى. وإن كان رد فعله نازعا إلى المثالية، فذلك يعزى في جزء منه إلى أنه كان ثمة آثار لمثالية مخيمة على الأجواء».
39
هذا صحيح، على نحو أو آخر؛ فقد كان لينين لم يزل محتفظا بهالته (إذ لم يكن تعصبه معروفا لدى الكثيرين خارج حدود روسيا)، ولم تكن معسكرات الموت في سيبيريا قد أقيمت ولا اغتيالات الكولاك (ملاك الأراضي الزراعية الأثرياء) حدثت بعد. وبالتأكيد أبدى مسافرون غربيون آخرون تأييدهم إبان عشرينيات القرن العشرين. ومثلهم، كان نهرو قد أتى ناويا أن يعجب بما يراه، وقد كان.
40
كان النظام الاقتصادي السوفييتي هو أكثر ما أثار إعجاب نهرو؛ فبصفته من أصحاب الفكر التقدمي في زمانه، كان يرى ملكية الدولة أكثر عدلا من الملكية الخاصة، والتخطيط على مستوى الدولة أكثر كفاءة من التخطيط على مستوى السوق. فيتضمن كتابه «لمحات من تاريخ العالم» سردا أشاد فيه بخطط الاتحاد السوفييتي الخمسية. إلا أنه لم ينجذب قط للنموذج البلشفي للثورة المسلحة ولا لدولة الحزب الواحد؛ فقد أكسبه تتلمذه على يد غاندي ميلا إلى نبذ العنف، كما أورثه انفتاحه على الليبرالية الغربية حماسا للديمقراطية الانتخابية وحرية الصحافة.
بعد نيل الهند استقلالها، اتسمت علاقاتها بالاتحاد السوفييتي بالجفاء في البداية؛ وذلك لأن الحزب الشيوعي الهندي كان قد حاول - بمباركة موسكو - قلب نظام الحكم، ولكن ذلك التمرد باء بالفشل. ولكن فيما بعد لان الاتحاد السوفييتي، وسعى إلى استمالة الهند بعيدا عن المعسكر الغربي؛ ففي عام 1951، بينما كان الكونجرس الأمريكي يبحث طلب معونة غذائية مقدما من الهند، عرض الاتحاد السوفييتي - إذ كان متحررا من قيود الإجراءات الديمقراطية - إرسال 50 ألف طن من القمح فورا. كذلك لاقت جهود الوساطة التي بذلتها الهند في النزاع الكوري استحسان موسكو. فيما سبق، كان الحكم على الدول الآسيوية قائما على مدى ملاءمتها للشيوعية، ولكن الحرب الباردة (كما في الولايات المتحدة أثناء تولي دالاس حقيبة وزارة الخارجية) جعلت أيديولوجية الاتحاد السوفييتي أكثر مرونة؛ فلم يعد لكون البلد اشتراكيا أهمية، وإنما المهم كان انحيازه إلى الاتحاد السوفييتي.
41
بلغ ذلك التغير أوجه بالاستقبال الذي ناله جواهر لال نهرو عند زيارته الاتحاد السوفييتي عام 1955. وعن ذلك كتب أحد المراقبين معلقا: «أينما ذهب نهرو في الاتحاد السوفييتي، كان يجد حشودا كبيرة في استقباله؛ ففي المصانع كافة احتشد العمال بالآلاف لإلقاء نظرة خاطفة عليه.» وفي جامعة موسكو، «ترك الطلاب محاضراتهم وحيوه بعاصفة من التصفيق». (كان أحد الطلاب هو ميخائيل جورباتشوف، الذي عاد بذاكرته إلى الوراء بعد أعوام مستحضرا الأثر الذي خلفته فيه فكرة نهرو عن السياسة الأخلاقية.)
42
وفي اليوم الأخير من زيارة رئيس الوزراء الهندي، كان من المقرر أن يلقي خطابا في مؤتمر شعبي في حديقة جوركي. ولكن الجمهور كان أكثر من المتوقع بكثير؛ ومن ثم تقرر نقل الخطاب إلى استاد فريق دينامو موسكو لكرة القدم.
43
وبعد مرور ستة أشهر، جاء الزعيمان السوفييتيان بولجانين وخروتشوف لرد الزيارة. فلم يدخر الهنود بدورهم وسعا في الترحيب بهما؛ فقبل وصول الزائرين إلى دلهي، انطلقت مكبرات الصوت تهيب بالناس أن يتوافدوا بأعداد كبيرة، تعبيرا عن امتنانهم لحسن وفادة الروس لنهرو. وبالفعل جاءت جموع غفيرة لاستقبال الرجلين في كل المدن التي زاروها. كان ثمة عدة أسباب لذلك الحماس؛ منها الفضول بشأن كل ما هو غريب وأجنبي، وحب الهنود للاستعراض، ولا سيما الاتجاه الراسخ لمعاداة الغرب وشعور الفخر نيابة عن روسيا لتحديها الولايات المتحدة الأمريكية. كانت أكبر الحشود في كلكتا الثورية المعادية للإمبريالية، حيث شكل الطلاب وعمال المصانع نسبة كبيرة بين 500 ألف شخص حضروا للترحيب بالزعيمين السوفييتيين. ولكن حتى نيودلهي كانت شعلة من الأضواء؛ فقد «تنافست بورصة دلهي بأضوائها الساطعة مع مكتب الحزب الشيوعي في تحدي الأضواء الاحتفالية».
44
خلال الأسابيع الثلاثة التي أمضاها بولجانين وخروتشوف في الهند، زارا مصانع صلب ومصانع للطاقة الكهرمائية، وألقيا خطبا في مؤتمرات جماهيرية في عواصم ما لا يقل عن سبع ولايات. كانت أهمها بلا شك سريناجار، عاصمة جامو وكشمير. وهناك أوضحا أنهما يعتبران كشمير جزءا لا يتجزأ من الاتحاد الهندي، وأن أبناء كشمير من «أبناء الهند الموهوبين المجدين».
45
وما كان الهنود ليجدوا كلاما أحلى وقعا على آذانهم من ذلك.
4
قبيل سفر نهرو إلى موسكو عام 1955، أعرب ناقد هندي عن قلقه من أن ينجح مضيفو نهرو في استدراجه إلى شراكهم؛ وذلك لأنه «ككثير من أمثاله ذوي الطبيعة الحساسة، الذين اعتادوا في أواخر العقد الثالث وأوائل العقد الرابع من عمرهم أن يتطلعوا إلى الاتحاد السوفييتي باعتباره قوة تقدمية بحق، يبدو أن رئيس الوزراء لم يتخل أبدا عن نظرته في تلك الأيام. وعلى الرغم من كل ما حدث منذ ذلك الوقت، لا يزال الاتحاد السوفييتي محتفظا ببعض سحره ذاك في نظره؛ فهو يبالغ في وصف محاسنه، ويكاد يعمى عن مساوئه ووحشيته».
46
كان كاتب ذلك الكلام هو إيه دي جوروالا، الذي كان ليبراليا ميالا إلى الغرب. وكان ثمة آخرون، مثله، هنود يرون أن الهند ينبغي أن تقيم تحالفات أقوى مع الدول الديمقراطية في الحرب الباردة.
47
ولكن الأرجح أن الأكثر عددا - والأعلى صوتا بالتأكيد - من هؤلاء كانوا الهنود المتشككين إزاء الولايات المتحدة والميالين إلى الاتحاد السوفييتي. تمثل أحد أسباب ذلك في أنه في حين أن الولايات المتحدة كانت تستنكف أن تطلب إلى حلفائها الأوروبيين أن يصفوا مستعمراتهم في آسيا وأفريقيا، كان الروس كثيرا ما يتحدثون عن شرور العنصرية والاستعمار.
48
حاول نهرو جاهدا في البداية أن يتحاشى الانحياز إلى أحد المعسكرين خلال الحرب الباردة. ولكن عدم الانحياز ذاك - مثلما كان يردد كثيرا - لم يكن مجرد هروب، بل كان إيجابيا؛ إذ إن وجود تكتل ثالث كان يمكن أن يكون له أثر مهدئ مفيد على غطرسة القوتين العظميين. لقد تحدثنا بالفعل عن مؤتمر العلاقات الآسيوية الذي انعقد عام 1947. وكان ثمة مسعى مماثل - اضطلع فيه نهرو بدور مهم - هو المؤتمر الأفريقي الآسيوي، الذي عقد في مدينة باندونج الإندونيسية عام 1955.
لم تدع إلى ذلك المؤتمر سوى البلدان ذات الحكومات المستقلة؛ فأرسل تسعة وعشرون بلدا وفودا، منهم الهند والصين. وحظيت أربع دول أفريقية بتمثيل (البقية كانت لا تزال خاضعة لحكم الاستعمار)، وكذلك فقد حضرت كل من العراق وإيران والسعودية وسوريا. ناقش الحضور أساليب التعاون الثقافي والاقتصادي، وأعلن المؤتمر التزامه الراسخ بوضع حد لحكم الاستعمار. ومثلما قال سوكارنو رئيس إندونيسيا: «كيف لنا أن نقول إن الاستعمار انتهى بينما لا تزال مساحات شاسعة في آسيا وأفريقيا غير متمتعة بحريتها؟»
49
اعتبر نهرو مؤتمر باندونج «إنجازا عظيما»؛ إذ «أعلن الظهور السياسي لأكثر من نصف سكان العالم في ساحة الشئون الدولية. ولكنه لم يمثل أي تحد غير ودي أو معاداة لأحد». ومثلما أخبر البرلمان الهندي لدى عودته، فقد فصم الاستعمار عرى الروابط التاريخية بين البلدان الآسيوية والبلدان الأفريقية. والآن، إذ أشرق فجر الحرية، ستتسنى إعادة إحيائها وتوثيقها.
50
جاء هذا الإعلان الأخير ردا على الاتهام القائل إن مؤتمر باندونج وما شابهه كان معاديا للغرب في أساسه؛ فإلى أي درجة كانت حركة عدم الانحياز «غير منحازة»؟ في الهند، وضعت تلك المثل تحت الاختبار في النصف الثاني من عام 1956؛ ففي شهر يوليو من ذلك العام أمم جمال عبد الناصر الشركة التي كانت تدير قناة السويس. فاستجابت بريطانيا (التي مثل ذلك التصرف تهديدا عظيما لمصالحها الاستراتيجية) بالمطالبة بفرض سيطرة دولية على القناة. حاول نهرو جاهدا أن يتوسط بين الطرفين المتنازعين؛ إذ كان وثيق المعرفة بكل منهما. ولكن جهوده باءت بالفشل. وفي النهاية، في أواخر شهر أكتوبر، شنت بريطانيا - بالاشتراك مع فرنسا وإسرائيل - هجوما عسكريا على مصر؛ فأثار ذلك العدوان الاستعماري الجديد استنكار العالم أجمع. وفي النهاية، أجبر التحالف الإنجليزي الفرنسي على الانسحاب، تحت ضغط من الولايات المتحدة الأمريكية.
51
وبعد العدوان على مصر بفترة قصيرة، اجتاحت الدبابات السوفييتية بودابست؛ فقد كانت ثورة شعبية قد أطاحت بالنظام الموالي للاتحاد السوفييتي في سبيل إقامة حكومة أكثر تمثيلا للشعب، وجاءت استجابة موسكو وحشية لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. واعتبر تصرفها - على غرار تصرف بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط - انتهاكا غير مقبول للسيادة الوطنية.
وقد رأى المعلقون الهنود غزوي مصر والمجر متماثلين تماما؛ فكلاهما كان «عملا من أعمال اللصوصية الدولية» اقترفته قوى تحتل مقاعد دائمة في مجلس الأمن بالأمم المتحدة، وكلاهما «أثار موجة استنكار في العالم أجمع». ومثلما أشارت صحيفة في مدراس، فإن «استقلال مصر هدد موارد النفط لدولتي إنجلترا وفرنسا» وتابعت:
إن استقلال المجر لن يقتصر أثره على تهديد إمدادات اليورانيوم الضرورية لبقاء الجيش الأحمر في هيئة ممتازة فحسب، بل سيحدث صدعا خطيرا في الإمبراطورية السوفييتية. لم يكن في إمكان لندن تقبل الأثر الأول ولا في إمكان موسكو تحمل الثاني. وهذا ما دعاهما إلى هذين التصرفين العدوانيين السافرين اللذين مثلا استعراضا وحشيا للغريزة الحيوانية المفترسة.
52
كان نهرو قد انتقد التدخل الإنجليزي الفرنسي بمجرد حدوثه.
53
ولكن عندما عقدت الأمم المتحدة جلسة لمناقشة قرار يطلب إلى الاتحاد السوفييتي «سحب قواته كافة من الأراضي المجرية دون إبطاء» امتنعت الهند - التي مثلها في كيه كريشنا مينون - عن التصويت، الأمر الذي أثار سخط العالم الغربي، وعرض الحكومة الهندية لاتهامها بتطبيق معايير مزدوجة.
54
كذلك واجه الموقف الهندي انتقادات شديدة في داخل البلاد؛ حيث دار نقاش حاد في البرلمان، وأدان بعض الإعلاميين «التملق الذليل المعيب للحكام السوفييتيين». وكتب أحد الصحفيين: «إننا بإذعاننا لروسيا نتخلى عن مزاعمنا الأخلاقية.» وسادت تكهنات حول أن الحكومة ربما تأثرت بعجزها عن إحكام قبضتها على كشمير؛ حيث إن أحد قرارات الأمم المتحدة التي امتنعت عن التصويت عليها طلب إقامة استفتاء شعبي في المجر بإشراف دولي.
55
وقد كشف بحث الأمر فيما بعد أن نهرو كان في واقع الأمر شديد الاستياء من الغزو السوفييتي؛ فقد أرسل عدة رسائل سرية إلى موسكو حث فيها الاتحاد السوفييتي على سحب قواته. وفيما بعد تحدثت الهند في العلن أيضا، ولكن وقتها كان الضرر قد وقع بالفعل. وازداد الوضع سوءا بوقوف نهرو وراء امتناع كريشنا مينون عن التصويت في البداية، استنادا إلى عدم كفاية المعلومات المتاحة آنذاك.
56
وقد نال الصخب الذي ثار بسبب مسألة المجر من مصداقية نهرو الدولية؛ فقد كان البعض يرون عدم الانحياز معبرا عن «الإدانة العنيفة للمعسكر الغربي عندما تبدر منه تصرفات خاطئة» ولكن «استخدام لغة ملتبسة عندما يحيد المعسكر السوفييتي عن المسار القويم».
57
كذلك عرضت تلك الواقعة رئيس الوزراء الهندي لاتهامه بتغليب الولاءات الشخصية على الأهداف القومية؛ إذ أيد نهرو موقف كريشنا مينون في العلن، ولكنه استنكر تصرفه في قرارة نفسه.
كان كريشنا مينون صديقا قديما لنهرو، ورجلا ممتازا في بعض النواحي؛ فقد تلقى تعليمه في كلية لندن للاقتصاد، وكذلك كان أول محرر لكتب بليكان غير الروائية المرموقة، والتابعة لدار نشر بنجوين بوكس. وفي ثلاثينيات القرن العشرين، عمل دون كلل على حشد الدعم البريطاني لاستقلال الهند. ولكنه أوجد وقتا أيضا للقيام بوظيفة المتحدث غير الرسمي باسم نهرو والوكيل الأدبي له. وبعد الاستقلال كوفئ بمنصب المفوض السامي في لندن، الذي عمل فيه بكد، ولكنه اكتسب عداوات أيضا، لتعاليه وكثرة مجاهرته بصداقته لرئيس الوزراء.
58
وبعد عودة كريشنا مينون من لندن، عين وزيرا بلا حقيبة وزارية؛ فأصبح سفيرا متجولا نوعا ما، ومثل الهند في الأمم المتحدة واجتماعات نزع السلاح في جنيف. كان رجلا قوي الآراء، محل جدل داخل وطنه وخارجه؛ فقد كتب عنه صحفي يعرفه حق المعرفة أن «صفاء فكره يتلون أحيانا بالأهواء والضغائن». ونظرا لأن «تعبيره عما يحب ويكره أقوى مما قد يبدو مأمونا لرجل في مثل منصبه»، فقد بدا «غريبا اختيار رجل يصحبه كل ذلك الصخب لمهام دبلوماسية ذات طبيعة حساسة».
59
وحتى قبل واقعة المجر كان ثمة تعليقات سلبية على اعتماد رئيس الوزراء على كريشنا مينون. وفي داخل حزب المؤتمر، كان كثيرون غير مرتاحين لميوله المؤيدة للشيوعية.
60
كذلك كان مكروها في الأوساط الإعلامية الغربية. على سبيل المثال، تحدثت صحيفة في نيويورك عن «الطبيعة المنفرة» لذلك «الدبلوماسي الأقل لباقة بين أقرانه».
61
ولكن نهرو ظل على دعمه لمينون. ومنذ عام 1953، لوحظ في دلهي أن رئيس الوزراء «يستاء أيما استياء عندما ينتقد أحد الدبلوماسي الأثير لديه، السيد كريشنا مينون». وقد كان لذلك العمى أن يكلف نهرو كثيرا فيما يتعلق بمسألة المجر عام 1956. ولكنه رغم ذلك لم يتخل عن مينون. لم؟ قدمت ألفا ميردال - سفيرة السويد لدى الهند آنذاك، ووثيقة المعرفة بنهرو - إجابة قيمة عن ذلك السؤال؛ فقد خلصت ميردال إلى أن رئيس الوزراء الهندي كان «على دراية بعيوب مينون ولكنه ظل يستمع إليه لألمعيته؛ فقد كان مينون المقابل الفكري الحقيقي الوحيد لنهرو في الحكومة»، وكان الرجل الوحيد الذي يمكنه أن يحادثه عن ماركس وميل وديكنز ودستويفسكي.
62
5
دعونا نعد الآن إلى علاقة الهند بجارتها الأكبر حجما، بل الأكثر تعدادا منها: الصين. كانت حضارة البلدين مرتبطة منذ قديم الأزل بروابط التجارة والثقافة. وفي الزمن الحديث، راقبت كل منهما كفاح الأخرى ضد السيطرة الأوروبية. وكان حزب المؤتمر الوطني ونهرو يكنان احتراما خاصا لشيانج كاي-شيك زعيم حزب الكومينتانج، الذي حث الأمريكيين على أن يحثوا بدورهم البريطانيين على منح الهنود استقلالهم.
إلا أنه عام 1949، أطاح الشيوعيون بحزب الكومينتانج؛ فكيف صار شكل العلاقة بين البلدين؟ احتفظت الهند بسفيرها لدى بكين - المؤرخ كيه إم بانيكار - دلالة على استمرار العلاقة. وفي مايو من عام 1950، أتيح لبانيكار مقابلة ماو تسي تونج، وأعجب به أيما إعجاب؛ فقد ذكر فيما بعد أن وجه ماو كان «لطيفا تلوح عليه الطيبة وتطل من عينيه نظرة عطوفة. ولم تظهر قسوة ولا غلظة في عينيه أو التعبير المرتسم على فمه. بل إنه منحني انطباعا بتحليه بعقلية فلسفية، حالمة بعض الشيء ولكنها واثقة من نفسها تمام الثقة». فالزعيم الصيني كان قد «تعرض لمحن كثيرة وتحمل معاناة هائلة»، ولكن «وجهه لم تلح عليه أمارات المرارة أو القسوة أو الأسى». كان ماو يذكر بانيكار برئيسه نهرو إذ إن «كليهما رجل أفعال ذو مزاج حالم مثالي» وكليهما «يمكن اعتباره إنساني النزعة، بالمعنى الأوسع للكلمة».
63
كان ذلك الكلام سيبدو مضحكا لو لم يصدر بهذه الجدية؛ فطالما كان المثقفون يبدون انبهارا غريبا بالرجال الأقوياء؛ فقد كتب جورج برنارد شو عن لينين كلاما مشابها إلى حد بعيد. إلا أن شو كان كاتبا حرا، غير مسئول عن أحد سوى نفسه. أما بانيكار فكان الممثل الرسمي لحكومته. وما يقوله ويؤمن به يمكن أن يحمل وزنا كبيرا. وقد قدم في هذا السياق أحد أكثر الحكام الدكتاتوريين ضراوة على مر التاريخ بمظهر الرجل الحالم الرقيق الشاعري.
وفي أكتوبر 1950، بعيد لقاء ماو بانيكار، غزت الصين التبت وضمتها إليها. كانت الصين مهيمنة على التبت منذ زمن، وكثيرا ما فرضت عليها سيطرتها في الماضي. ولكن كان ثمة فترات أيضا حظيت فيها التبت باستقلال حقيقي، كما في العقود الأربعة السابقة على الغزو الشيوعي. وعلى أي حال فقد أرسلت كل من الصين والتبت وفدين منفصلين إلى مؤتمر العلاقات الآسيوية الذي عقد عام 1947.
وضع نهرو آنذاك في موقف لا يحسد عليه؛ فقد كانت الهند تربطها علاقات وثيقة بالتبت، اقتصادية وثقافية أيضا. ولكن الهند إذ كانت آنذاك حديثة الاستقلال ولا تزال هشة، ما كان بإمكانها أن تخوض حربا دفاعا عن التبت. وعندما تحدث نهرو في البرلمان بعد الغزو الصيني ببضعة أسابيع، أعرب عن أمله في حل المسألة سلميا. وقال مفسرا إنه يرى أنه على الرغم من ممارسة الصين نوعا من «الهيمنة» على التبت تاريخيا، فإن ذلك لا يصل إلى حد «السيادة» عليها. وأضاف أنه لا يرى كيف يمكن للتبت أن تشكل «تهديدا» للصين بأي حال.
64
ولكن نهرو رأى في قرارة نفسه أن «الصينيين تصرفوا بقدر كبير من الحماقة» بضمهم التبت. وكان ثمة «شعور قوي هنا في الهند بأنهم خذلونا». ولكن، حسب تفكير رئيس الوزراء: «لا بد أن نحذر المبالغة» في انتقاد بلد مجاور في طور الخروج هي الأخرى من عباءة السيطرة الأوروبية.
65
إلا أنه كان ثمة أعضاء آخرون في الحكومة يدفعون في اتجاه اتخاذ موقف أقوى؛ فقد كان وزير الداخلية فالابهاي باتيل مقتنعا - على سبيل المثال - بأن الصينيين استغفلوا بانيكار؛ فقد استدرجوه إلى «إحساس زائف بالثقة» أفضى إلى إغفاله خطط الغزو تماما. ولكن بعدما حدث ما حدث، وجبت على الهند اليقظة. وقد كتب باتيل إلى نهرو يوم 7 نوفمبر محذرا من أن «الصين لم تعد منقسمة. إنها متحدة وقوية». وقال باتيل إن «التاريخ الحديث المرير»:
يخبرنا أيضا أن الشيوعية ليست درعا واقيا من الإمبريالية وأن الشيوعيين ليسوا أفضل أو أسوأ من أي مستعمر آخر. والطموحات الصينية في هذا الصدد لا تقتصر على مرتفعات الهيمالايا على جانبنا فحسب ، بل تشمل أيضا أجزاء مهمة من آسام ... فالنزعة الوحدوية الصينية والإمبريالية الشيوعية مختلفتان عن النزعة التوسعية أو الإمبريالية لدى القوى الغربية؛ فالأولى مكتسية بعباءة الأيديولوجية على نحو يجعلها أخطر عشر مرات؛ فثوب التوسع الأيديولوجي يستر وراءه مزاعم عرقية أو قومية أو تاريخية خفية.
وحث باتيل نهرو على «إدراك الخطر الجديد» النابع من الصين، وإكساب الهند «قوة دفاعية». ثم إنه حدد سلسلة من الخطوات الرامية إلى تعزيز الأمن. ورأى أنه في ضوء «الموقف الحاد» المتخذ بشأن التبت، ينبغي أن تتوقف الهند عن مناصرة انضمام الصين للأمم المتحدة. وأخيرا، قال إن التطورات الأخيرة في مجريات الأحداث ينبغي أن تستحث إعادة النظر من جديد في «علاقتنا بالصين وروسيا وأمريكا وبريطانيا وبورما». وبدا أن باتيل يلمح في ذلك إلى أن الهند ينبغي أن تعيد النظر في سياسة عدم الانحياز لصالح إقامة تحالف مع الغرب.
66
أيد الصحفي دي إف كاركا هذا التحول الأخير بقوة أكبر؛ فهو - مثل باتيل - هاله الإهمال الذي تصرف به بانيكار. (على ما يبدو، لم يسمع السفير الهندي بغزو الصين للتبت حتى أعلن على إذاعة «أول إنديا راديو».) فقد أثبت ضم التبت أن مرتفعات الهيمالايا لم تعد منيعة. وكان الجيش الهندي يفتقر إلى المعدات أو التدريب اللازمين لمواجهة عدو يتسم بالإصرار والتركيز؛ ومن ثم، خلص كاركا إلى أنه: «أيا كانت علاقاتنا الماضية التعسة ببريطانيا، ومهما كبر خوفنا من انتشار الإمبريالية الأمريكية في آسيا، فعلينا أن نقرر الآن ما إذا كنا سنستمر في سياسة الحياد تلك ونعرض حدودنا للخطر، أم نختار الخطر الأصغر ونعقد ميثاقا عسكريا مع الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى.»
67
ما كان نهرو ليتكرم بإعارة صحفي مثل كاركا اهتمامه، ولكنه رد على باتيل، في مذكرة في هذا الصدد عممت على مجلس الوزراء؛ جاء فيها أنه يرى أن عدم التمكن من «إنقاذ» التبت أمر مؤسف، ولكنه اعتبر تعرض الهند لهجوم من جانب الصين آنذاك أمرا «مستبعدا للغاية»، وأنه «لا يمكن تصور» أن يخوض الصينيون «مغامرة جامحة عبر جبال الهيمالايا». ورأى أن «فكرة أن الشيوعية تستتبع التوسع والحرب، أو على نحو أكثر تحديدا: أن الشيوعية الصينية تستتبع حتما توسعا تجاه الهند، فكرة ساذجة إلى حد بعيد». وبصرف النظر عن الأحداث التي جرت في التبت، لا يزال حريا بالهند أن تسعى للوصول إلى «نوع من التفاهم» مع بكين؛ لأن «تعايش الهند والصين في سلام من شأنه أن يحدث اختلافا كبيرا في نظام العالم أجمع وموازينه».
68
توفي باتيل بعد شهر؛ ومن ثم لم يعد ثمة معارضة حقيقية لفكرة اتباع سياسة «تفاهم» مع الصين؛ فقد كان البلدان يتقاسمان حدودا طويلة، تتمثل في ألف ميل تتألف في معظمها من أراض لم تخضع للمسح ولا الترسيم. في غرب الهند، امتدت الحدود عبر منطقة لاداخ ذات الأغلبية البوذية في ولاية جامو وكشمير، المتاخمة لإقليمي التبت وشينجيانج الصينيين. وفي الشرق، رسمت الحدود بخط مكماهون، الذي رسم على قمة جبال الهيمالايا، إثر معاهدة وقعت بين بريطانيا والتبت عام 1914. وفي المنتصف، تماس البلدان على مقربة من مستجمع مياه نهر الجانج، الذي كان يفصل التبت عن ولاية أوتر براديش الهندية.
كانت الحدود في الوسط غير مختلف عليها نسبيا، بينما مثل وضع الطرفين مشكلة أكبر؛ فقد اعتبر الصينيون خط مكماهون تحديدا عبئا إمبرياليا. إلا أنهم غضوا الطرف عن تلك المسألة مؤقتا، وانصب اهتمامهم على نيل رضا الهند، التي كانت مهمة آنذاك بصفتها جسرا يربط الصين بالعالم الغربي. وفي صيف عام 1952 زار وفد حكومي بزعامة فيجايا لاكشمي بانديت بكين. كانت السيدة بانديت قد شغلت منصب سفيرة الهند إلى موسكو، والأهم من ذلك أنها كانت شقيقة نهرو الصغرى العزيزة. وقد التقت ماو مرة وتشو إن لاي مرتين، وخلف كلاهما أثرا عميقا في نفسها؛ فقد كتبت السيدة بانديت إلى شقيقها في رسالة قائلة إن ماو كان «هادئا ودقيقا» ويتحلى «بحس دعابة رائع». وكان ظهوره أمام الجمهور يستحضر غاندي إلى الأذهان؛ فكما في حالة المهاتما، «الشعب لا يصفق له فحسب، وإنه يعبده. ونظرات الرانين إليه تحمل كلا من المحبة والافتتان. إنه لمشهد يحرك المشاعر». أما عن تشو إن لاي، فهو «رجل دولة عظيم يتحلى بقدر وافر من الحيوية والسحر. وهو مهذب، ويتمتع بحس دعابة معد للغاية؛ فالمرء لا يجد مفرا من مشاركته الضحك، وهو كثير الضحك. وهو يشعر المرء بالألفة في لحظات ومحادثاته لا تفقد شيئا من فحواها في الترجمة».
وفي الواقع فقد لاحت نبرة تذبذب غريبة في رسالة السيدة بانديت؛ فقد كتبت قائلة: «لقد تناولنا ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وتحدثنا عن الصداقة والثقافة والسلام حتى أصابني شيء من التعب.» ولم تكن متأكدة مما إذا كان «الربان الأكبر» يذكرها أكثر بغاندي أم ستالين؛ ففي حين «يعطي ماو انطباعا بالطيبة والتسامح والحكمة ... فقد بدا لي تسامحه واجهة إذ يذكرني بالزعماء الروس ولا سيما ستالين؛ فهو يستخدم الإيماءة نفسها للتحية ويستخدم الأسلوب نفسه مع عامة الشعب». إلا أن أكثر ما برز كان «الحيوية الشديدة التي اتسم الناس بها وتفانيهم في العمل؛ فإحساس القهر الذي يستشعره المرء في موسكو غائب هنا؛ فالجميع هنا يبدون سعداء وعازمين على تحقيق الازدهار لبلدهم».
69
وعلى ما يبدو فقد كان رد فعل السيدة بانديت إزاء الصين عام 1952 مشابها لرد فعل أخيها إزاء روسيا عام 1927؛ وهو أنه لعل هذا الفجر قد لا يتبين أنه زائف في نهاية المطاف. وكان نهرو ميالا إلى هذا الرأي أيضا. وسرعان ما تعزز الفكر الرومانسي بالسياسة الواقعية؛ إذ أخذت الولايات المتحدة تميل بوضوح ناحية باكستان؛ مما قدم لنيودلهي سببا إضافيا لكسب ود بكين؛ ففي اتفاقية واسعة النطاق وقعت في أبريل 1954، اعترفت الهند رسميا بالتبت جزءا من الصين. وحدد الإعلان المشترك خمسة مبادئ للتعايش السلمي، تضمنت عدم الاعتداء المتبادل واحترام كل منهما السلامة الإقليمية للآخر.
70
كان من غير المرحبين بتلك الاتفاقية الأمين العام السابق لوزارة الخارجية، السير جيريجا شانكار باجباي؛ فقد كتب باجباي إلى زميل له محذرا من أن الصين الشيوعية ليست «مختلفة عن الشيوعية الروسية من حيث أهدافها التوسعية». كان التفكير السائد في نيودلهي هو أنه «من الطبيعي أن يستمر السلام والود الدائمان بيننا وبين الصين إلى ما لا نهاية ». أما باجباي فكان يخشى أن «الأشخاص الذين يعتمد رئيس الوزراء على مشورتهم أكثر من غيرهم الآن يرفضون رفضا باتا وقاطعا أي احتمال لحدوث تغيير فيما يبدو أنه سياسة الصين الحالية القائمة على العيش في سلام مع جيرانها الآسيويين».
71
من المستبعد أن يكون ذلك التحذير بلغ نهرو، وحتى لو كان وصل، فالمرجح أنه كان سيتجاهله. ونحو نهاية عام 1954 زار نهرو الصين للمرة الأولى. وكما حدث في روسيا بعدها بستة أشهر، حشدت جموع غفيرة لاستقبال الزائر، الذي أعرب عن تقديره لهذه «الاستجابة العاطفية الهائلة من الشعب الصيني». وخاض نهرو محادثات مع تشو إن لاي بشأن المسائل الحدودية، ومع ماو بشأن الوضع العالمي. وكذلك دفع بقضية منح التبت حكما ذاتيا، وأكد له الصينيون في حضور الدالاي لاما أن تلك الولاية البوذية ستحظى بمكانة «لا تتمتع بها أي مقاطعة أخرى في جمهورية الصين الشعبية».
72
وخطب نهرو لدى عودته من الصين في مؤتمر شعبي ضخم في ساحة الميدان بكلكتا؛ حيث استمع إليه مليون شخص وهو يؤكد أن «شعب الصين لا يريد الحرب»؛ فقد كان مشغولا تماما بتوحيد بلاده والقضاء على الفقر. وتحدث بإعجاب عن روح الوحدة التي لمسها في الصين، وغياب النعرات الإقليمية والطائفية التي كانت وبالا على الهند. أما عن «الترحيب الهائل» الذي ناله في جمهورية الصين الشعبية، فقال: إن ذلك «ليس لأنني جواهر لال أتمتع بأي مقدرة خاصة، وإنما لأنني رئيس وزراء الهند التي يكن لها شعب الصين في قلبه محبة عظيمة ويرغب في أن تربطه بها علاقة ودية إلى أقصى حد».
73
وبعد عامين ردت المجاملة، حين زار تشو إن لاي الهند. كان قد أتى بصحبة الدالاي لاما والبانشن لاما، اللذين دعيا ضمن الاحتفالات بمرور 2500 عام على مولد بوذا. وأثناء رحلة بالسيارة في الريف الهندي، تحرر الدالاي لاما من مرافقيه الصينيين وركب مع نهرو. وقال إن نذر ثورة على الاحتلال تعتمل في التبت، وإنه هو نفسه تراوده رغبة قوية في طلب اللجوء إلى الهند. وإن تعذر ذلك، فيمكن للهند على الأقل أن ترسل إلى لاسا قنصلا غير موال للصينيين ولا الشيوعيين. وعندما سأل نهرو تشو عن الوضع في التبت، أقر القائد الصيني بوقوع «أحداث مؤسفة» هناك، ووعد بالنظر فيها.
74
وانتهت المسألة عند ذلك الحد؛ فقد عاد الدالاي لاما إلى لاسا، وظل الهنود والصينيون إخوة في نفس الخندق، وكان الشعار السائد في تلك الأيام هو: «الهنود والصينيون إخوة». وكان أكثر المسئولين عن تلك العلاقة هو القائد تشو بجاذبيته الآسرة؛ فقد أعجب نهرو طبعا، ولكنه أعجب أيضا رجلا أكثر تشككا بكثير؛ هو السياسي المخضرم سي راجا جوبالاتشاري؛ فقد تناول «راجا جي» الغداء مع رئيس الوزراء الصيني، وكتب في رسالة إلى أحد أصدقائه بعدها قائلا: «كان انطباعي عنه إيجابيا جدا بصراحة؛ فإلى جانب تخلي الشيوعيين كافة عن تحفظهم بصفة عامة، أعتقد أن رئيس الوزراء الصيني رجل صالح وجدير بالثقة.»
75
أعربت الهند والصين في العلن عن صداقة أبدية، ولكن على أرض الواقع كانت كل منهما تسعى إلى حماية مصالحها الاستراتيجية. كانت الهند أكثر اهتماما بالقطاع الشرقي، فيما كانت الصين مهتمة بالقطاع الغربي. كانت بريطانيا قد رسمت خط مكماهون بهدف حماية مزارع الشاي المزدهرة في إقليم آسام من غزوة مفترضة من أعلى جبال الهيمالايا. كان ثمة «خط داخلي» عند سفح الجبل لا يمكن لأحد تخطيه دون تصريح. وفيما بين هذا الخط والحدود امتد نحو 50 ألف ميل مربع من الأراضي الكثيفة الغابات، تسكنها قبائل كثيرة مستقلة تتولى إدارة نفسها، كل منها أصغر من أن تدعى ولاية، وأبعد من أن تتبع ولاية أخرى أكبر. كانت بعض القبائل بوذية، كما كان ثمة معبد بوذي قديم في تاوانج. كان هؤلاء خاضعين سياسيا للسلطات التبتية و«تابعين كهنوتيا» للاسا.
بموجب معاهدة عام 1914، أقنعت بريطانيا التبت بالتخلي عن سيطرتها على تاوانج. فحسبما قال أحد المسئولين الاستعماريين، كان لا بد من إدخال «تلك الأرض التبتية بلا شك» في الهند البريطانية، «وإلا فستصير التبت وآسام متاخمتين، ولو حدث مجددا أن وقعت التبت تحت سيطرة الصين، فسيكون الوضع خطرا علينا».
76
وكانت القبائل الأخرى التي تعيش بين الخط «الداخلي» والخط «الخارجي» خارج دائرة نفوذ التبت. وأصبح أهالي تلك القبائل - على غرار القبائل البوذية - مواطنين هنودا تلقائيا في أغسطس 1947، عندما ورثت الحكومة الجديدة الحدود التي تركتها لها بريطانيا. ثم تحركت نيودلهي شيئا فشيئا لملء الفراغ الإداري الذي خلفه البريطانيون. وفي فبراير من عام 1951 ذهبت قوة صغيرة مصحوبة بمسئول سياسي لزيارة تاوانج؛ حيث أعلمت الكهنة بأنهم لم يعد عليهم أن يكونوا خاضعين للاسا. ثم بدأ المسئولون ينتشرون فيما صار يدعى «منطقة الحدود الشمالية الشرقية». وأنشئت دائرة لإدارة الحدود الهندية، تدرب موظفوها على كيفية التعامل الأمثل مع القبائل التي تتسم بالعدوانية أحيانا. كان مدربهم هو مختص الأنثروبولوجيا البريطاني المولد فريير إلوين، الذي كان قد أصبح مواطنا هنديا آنذاك وكاتم سر نهرو.
77
أما بالنسبة إلى الصينيين، فقد ركزوا اهتمامهم على مد خطاهم في القطاع الغربي؛ فهناك أيضا كانت المنطقة الهندية المتاخمة - المعروفة بلاداخ - بوذية كالتبت. إلا أنها كانت ولاية مستقلة منذ القرن العاشر، وطوال 150 عاما مضت كانت جزءا من إمارة كشمير، التي دانت بالولاء للجانب الهندي من الحدود.
وفيما بين شمال شرق لاداخ وشينجيانج، على الجانب الصيني، كان ثمة نجد مرتفع - أكساي تشين - وهو أرض «جرداء تماما» في معظمها، تحتوي على رقع متباعدة من «الأعشاب المتناثرة».
78
في الماضي، كان الرعاة في لاداخ يذهبون إلى أكساي تشين للرعي وجمع الملح. وبموجب اتفاقية وقعت عام 1842 حددت تلك المنطقة جزءا من كشمير. وأكد البريطانيون ذلك؛ إذ انتابهم قلق من احتمال استخدام الروس - خصومهم في «اللعبة الكبرى» - النجد للتوغل بالمدفعية الثقيلة داخل الهند البريطانية.
لم يحدث ذلك، ولكن بعد عام 1950 ارتأى الصينيون في الأرض المنبسطة ذاتها طريقا مؤديا إلى منطقة التبت المشاغبة، من بلدة ياركند في مقاطعة شينجيانج؛ فأرسلت بكين مساحين لاستطلاع الأرض، وفي عام 1956 بدأت بناء طريق عبر أكساي تشين. وبحلول شهر أكتوبر لعام 1957 كان الطريق جاهزا، ومعدا لحمل شاحنات عسكرية وزنها عشرة أطنان محملة بالسلاح والجند من ياركند إلى لاسا.
عرفنا تلك المعلومات من سجلات نشرت بعد فترة طويلة؛ فآنذاك كانت الصين تجري أنشطتها في الغرب، والهند تجري أنشطتها في الشرق، كل منهما بعيدا عن مرأى الأخرى. وأمام العالم أجمع، ومواطنيهما أنفسهم، ربطت بين الجارتين الآسيويتين علاقة نموذجية من الود والتعاون.
6 «إذا وجد يوما بلدان تعد آفاقهما كافة بتفاهم وصداقة أخويين، فهما الهند وباكستان؛ فهذان بلدان مرتبطان بكافة أنواع الروابط؛ رابطة العرق، واللغة، والجغرافيا، والاقتصاد، والثقافة»،
79
هذا ما جاء في صحيفة تصدر ببومباي عام 1952.
إلا أن علاقات الهند بباكستان كانت مسممة منذ البداية؛ فقد قسم بلاد الهند على خلفية من العنف، فيما استمرت مشاعر الشك والعداء المتبادلة؛ ففي شتاء 1949-1950 ثارت موجة من أعمال الشغب الطائفية في باكستان الشرقية، عبر في إثرها مئات الآلاف من الهندوس الحدود إلى الهند؛ فاقترح نهرو على نظيره الباكستاني - لياقت علي خان - أن يزورا معا المناطق المنكوبة لإرساء السلام. قوبل عرضه بالرفض ولكن خان وافق على المجيء إلى دلهي وتوقيع اتفاقية تلزم الطرفين بالمعاملة الإنسانية لأقليات كل منهما. إلا أن ميثاق «نهرو-لياقت» فشل في السيطرة على أعداد اللاجئين؛ فقد كانت مشاعر الغضب متفجرة فيما بين الهندوس في غرب البنغال، بل إن بعضهم كان يرغب في أن تدخل الحكومة حربا مع باكستان نيابة عنهم.
80
دار النزاعان الرئيسيان حول حاجتين بشريتين أساسيتين؛ هما: الأرض والماء. النزاع الأول - الذي تطرقنا إليه بالفعل في هذا الكتاب، وسنعود له مرة أخرى - كان يتعلق بالوضع المعلق لكشمير. أما النزاع الثاني فكان يتعلق بالاستخدام المنصف لنهر السند وروافده الرئيسية الخمسة. كانت تلك الأنهار تجري من الشرق إلى الغرب، أي من الهند تجاه باكستان. كان نهرا السند وجيلوم يدخلان الهند قبل أن يتسنى أي استقطاع كبير منهما، ولكن الأنهار الأربعة الأخرى كانت تجري لأميال عديدة في أراض هندية؛ وهو ما مكن الهند من تنظيم تدفقهما وحجز المياه قبل وصول الأنهار إلى باكستان.
بعد التقسيم، وقعت حكومتا البنجاب الشرقية والبنجاب الغربية «اتفاقية تجميد الوضع» التي استمر تدفق المياه بموجبها دون انقطاع. وعندما سقطت الاتفاقية في أبريل 1948، أوقفت الهند تدفق مياه نهري رافي وسوتليج إلى الغرب. زعمت الهند أن ذلك كان نتيجة لعدم توقيع اتفاقية جديدة، ولكن كان الاعتقاد السائد أن ذلك إجراء انتقامي لدعم باكستان غزو كشمير. وقد ساد الذعر بين مزارعي البنجاب الغربية إثر جفاف قنوات الري. في غضون شهر، وقعت اتفاقية جديدة، وعاد إمداد المياه. إلا أن بناء سد باكرا-نانجال على الجانب الهندي من نهر سوتليج أثار احتجاجات جديدة من جانب باكستان.
آنذاك كان الطرفان راغبين في حل أكثر دواما، فطلبت باكستان إحالة الأمر إلى التحكيم الدولي، وهو ما رفضته الهند في البداية. ثم تدخل البنك الدولي قائما بدور صانع السلام. ولما كان البنك يعلم بعناد الطرفين، فقد اقترح حلا جراحيا: تخصيص مياه ثلاثة أنهار لباكستان، ومياه الثلاثة الأخرى للهند. قدم ذلك الاقتراح في فبراير 1954، واستغرق الأمر ستة أعوام أخرى حتى يوقع عليه الطرفان أخيرا.
81
في مسألة نهر السند - كما في مسألة كشمير أو أي مسألة أخرى في شبه القارة الهندية - ازدادت صعوبة الوصول إلى اتفاق بسبب السياسة الداخلية؛ فرئيس الحكومة الهندي أو الباكستاني الذي يشجع الحوار كان دائما ما يتهم بالتنازل للطرف الآخر. كان من الأمثلة المبكرة على ذلك الحرب التجارية التي اندلعت في الفترة ما بين عام 1949 وعام 1951، إثر خفض قيمة الروبية الهندية؛ فقد أعلنت باكستان عن احتجاجها بوقف شحن منسوجات الجوت، وردت الهند برفض توريد الفحم.
82
ولم يحل النزاع إلا في فبراير من عام 1951، عندما قبل نهرو الإقرار بالقيمة التعادلية للروبية الباكستانية؛ وهو القرار الذي لاقى ترحيبا لدى الغرف التجارية، ولكن الساسة على مختلف ضروبهم وأنواعهم عارضوه بشدة. وكان ثمة إجماع في نيودلهي على أن «الهند تعرضت لهزيمة محققة». وورد عن عضو في حزب المؤتمر أن الشعور السائد في مقر الحزب كان أن «مثل ذلك الإذلال ما كان ليحدث لو كان السردار باتيل على قيد الحياة». وقال أحد زعماء اللاجئين معلقا: «المسألة الحقيقية التي ينبغي تناولها الآن هي معرفة القضية التالية التي سيستسلم فيها جواهر لال لباكستان؛ كشمير، أو على الأرجح ممتلكات النازحين.» وقال متحدث باسم منظمة هندو ماهاسابها: «حتى يصبح نهرو زعيما عالميا، يمكن أن يصل إلى حد تسليم الهند كلها إلى باكستان.» وزعم أحد منظمي راشتريا سوايامسيفاك سانج «إن هذا يدلنا على ما سوف يحدث فيما بعد؛ مزيد من الاسترضاء والاستسلام ما لم توقف الجماهير نهرو عند حده».
83
وعلى الجانب الباكستاني، بالمثل رأى رجال السياسة المعارضون أي تنازل للهند استرضاء للعدو. إلا أنه على المستوى الشعبي كانت المشاعر حيال الجانب الآخر مختلطة بوضوح؛ فالأيديولوجية القومية باعدت بينهما، ولكن الثقافة الجماهيرية جمعت بينهما من جديد؛ فالمسألة لا تقتصر على تناولهما طعاما واحدا ومعيشتهما في نوع واحد من المنازل، وإنما تشاركهما أيضا حس التسلية؛ فكان لنجوم السينما الهنود معجبون كثر في باكستان، بينما حظي لاعبو الكريكيت الباكستانيون باستقبال حافل لدى لعبهم في الهند.
عبر عن هذا التأرجح رسالة نشرتها صحيفة «دون» الصادرة في كراتشي عام 1955، وفيها كتبت امرأة ذهبت لزيارة أقاربها في الهند في الآونة الأخيرة تحكي التجارب التي مرت بها خلال رحلة بالقطار من أمريتسار إلى أمبالا؛ فعندما نمى إلى علم الركاب أنها من باكستان، هاجمها ركاب لاجئون من السند وغرب البنجاب. وعلى ما يبدو، «بعض الركاب من غير اللاجئين أبدوا اعتراضا، ولكن الهندوس والسيخ اللاجئين نحوا اعتراضاتهم جانبا، قائلين إن غير اللاجئين لا يمكن أن يدركوا قدر المعاناة التي تعرض لها اللاجئون النازحون من باكستان». فاستثار هذا السرد للمشاعر العدائية الهندية رسائل عدة تحكي عن الدفء وحسن الضيافة على الجانب المقابل من الحدود. ونصح رجل أي مسافر إلى الهند في المستقبل أن «ينخرط في أكل ثمار الجوافة وأوراق التنبول لأن هذا أفضل وقت لتناولها، عوضا عن أن ينخرط في مثل تلك الأحاديث التي تنزع إلى الإضرار بالوفاق الهندي الباكستاني المتنامي». وشكت مراسلة من أن مثل تلك «التقارير الكاذبة» تبث مشاعر المرارة وتحول دون نشأة مشاعر «الألفة بين الهند وباكستان». نالت هذه الفكرة الأخيرة تأييد كاتبة الرسالة الأصلية، إذ ردت بهذا التنبيه الدال: «إلا أنني كنت أتمنى لو كانت، باعتبارها باكستانية - وهو ما أفترضه - تحلت باللياقة الكافية للتحدث عن «باكستان والهند » عوضا عن «الهند وباكستان».»
84
7
كانت السياسة الخارجية الهندية معارضة لاستمرار الحكم الاستعماري في أي مكان؛ وهو ما استتبع بطبيعة الحال استعادة أراضي الوطن التي كانت لا تزال واقعة تحت سيطرة الأجانب؛ فعند جلاء البريطانيين عام 1947، بقي البرتغاليون في جوا وغيرها من الأراضي التي وضعوا أيديهم عليها في الهند، بينما ظل الفرنسيون مسيطرين على ثلاث رقع من الأراضي في الجنوب - أهمها ميناء بونديتشيري - إلى جانب مستعمرة تشاندرناجور الشرقية.
وفي يونيو من عام 1949، صوت سكان تشاندرناجور بأغلبية كاسحة لصالح الاندماج مع الهند؛ حيث استثارت الانتخابات استعراضا مدويا للمشاعر الوطنية، وانتشرت ملصقات تصور أما في زي هندي تمد يدها لاستعادة طفل غربي الملبس. وبعد مرور عام انتقلت ملكية الأرض إلى الهند، ولكن الفرنسيين تمسكوا بأراضيهم الأخرى في جنوب الهند. وفي ربيع عام 1954 «ازداد توتر» الموقف؛ إذ هبت حركة قوية داعية للاندماج في بونديتشيري، وكانت التظاهرات تقام يوميا أمام القنصلية الفرنسية في مدراس. وفي أول نوفمبر سلم الفرنسيون الأراضي أخيرا، واحتفل الهنود في استعراض رائع بالألعاب النارية. وفي يناير التالي، تضمن الاستعراض السنوي لعيد الجمهورية عربة مكشوفة من بونديتشيري لأول مرة، عليها فتيات يغنين أغاني فرنسية.
85
وفي ترحيب جواهر لال نهرو بعودة هذه الأجزاء، أشاد بحكومتي البلدين لتحليهما ب «التسامح والفطنة والحكمة» في حل مشكلة الهند الفرنسية «بكياسة وحسن نية».
86
كانت البرتغال هي المقصودة بتلك التعليقات بالأساس، إلا أنها لم تلق لها بالا؛ إذ كانت مصرة على التمسك بجوا أطول فترة ممكنة. وأثناء إنهاء إجراءات تسليم السلطة في بونديتشيري، تحدث الدكتاتور البرتغالي أنطونيو دي أوليفيرا سالازار على محطة الإذاعة الوطنية عن مستعمراتهم في الهند باعتبارها ملكا «لدولة البرتغال بموجب التاريخ والقانون». وقال مصرا: «جوا تمثل مجتمعا برتغاليا في الهند، ومنارة الغرب في أراضي الشرق.» وقال إنه لا بد من الحفاظ عليها حتى «تظل تذكارا للاكتشافات البرتغالية وبؤرة صغيرة للروح الغربية في الشرق».
87
قبل الاستقلال بفترة طويلة، تشكلت لجنة حزب المؤتمر في جوا، وتضمنت ناشطين مقيمين في جوا إضافة إلى المنفيين منها في بومباي. وقد ذهبوا إلى أن الأوضاع في جوا أسوأ بكثير منها في الهند البريطانية؛ حيث ساد التمييز العنصري، وغابت حقوق الإنسان كليا. وفي عام 1946، زار رامانوهار لوهيا - العضو اليساري في حزب المؤتمر - المنطقة، وحث أهلها على الثورة على حكامهم. تبع ذلك نوبة من الإضرابات والاحتجاجات، قوبلت بالقمع من جانب السلطات. وفي يوم 15 أغسطس من عام 1947، رفع العلم الهندي الثلاثي الألوان في أنحاء شتى من جوا، ولكن الشرطة سرعان ما قبضت على المحتجين.
88
وإلى جانب جوا، كان البرتغاليون يسيطرون على عدة أراض أصغر على ساحل كونكان؛ منها مدينة دامان، التي اشتملت على حامية مكونة من 1500 جندي من شرق أفريقيا البرتغالية. كانت تلك المدينة متاخمة لمقاطعة بومباي، التي حظر فيها بيع الكحوليات وشربها بعد الاستقلال؛ ومن ثم ازدهرت تجارة تهريب الكحوليات؛ ففي أمسيات الأحد، كانت الحدود بين دامان وبومباي «ممتلئة بزوار باخوس (إله الخمر)، العائدين إلى وطنهم الهند، أرض الندرة والتقشف».
89
وإلى جانب مدمني الخمر، ثارت ثائرة الهنود ذوي الوعي السياسي حيال موقف البرتغال إزاء مستعمراتها. تروى نهرو في البداية؛ أملا في حل المسألة بالحوار، ولكنه اضطر إلى التحرك بدفع من عناصر الحزب الاشتراكي الراديكالية، الذين بدءوا سلسلة من الاحتجاجات الشعبية لدفع جوا إلى الانضمام إلى الاتحاد الهندي. وفي شهر يوليو من عام 1954 استولى مجموعة من النشطاء من بومباي على مستعمرة دادرا الصغيرة. وفي الشهر التالي سقطت مستعمرة أكبر قليلا؛ هي نجر-هافيلي، دون مقاومة. ثم حاول ألف متطوع عبور الحدود إلى دامان في عيد الاستقلال، ولكن الشرطة الهندية أوقفتهم، وعليه أبرقوا إلى رئيس الوزراء طلبا للدعم؛ فأبرق نهرو ردا عليهم قائلا إن مثل تلك المواجهة «لن تفيد قضيتنا».
90
إلا أن ذلك لم يردع الاشتراكيين إلا لفترة مؤقتة. وبعد عام دخلت مجموعة بقيادة إن جي جوراي إلى جوا هاتفة بالشعارات ، وتوغلت عدة أميال في عمقها قبل أن تهاجمهم الشرطة؛ حيث أصيب عدة محتجين بإصابات بالغة، وأودع المتظاهرون الحبس في سجن حصن أجوادا، حيث قضوا عشرين شهرا قبل أن يطلق سراحهم؛ فأثناء احتجاجات عامي 1954 و1955 هذه ، اعتقل البرتغاليون أكثر من ألفي شخص.
91
8
كانت السياسة الخارجية بالنسبة إلى نهرو أداة لتأكيد حضور الهند على الساحة العالمية؛ فبعد الاستقلال أشرف بنفسه على إنشاء مكتب الخدمة الخارجية الهندية، حيث جلب الموظفين الأكفاء من دائرة الخدمة المدنية الهندية للعمل به، وعين موظفين جددا من الشباب. وكان العمل في مكتب الخدمة الخارجية الهندية يتسم بمزيج فريد بين المثالية والرونق، كما أنه أتاح فرصة التعامل مع رئيس الوزراء على المستوى الشخصي؛ فيسترجع أحد موظفي هذا المكتب ذكرياته - في أوائل عام 1948 - عندما استدعي إلى مكتب نهرو، وعرض عليه خريطة للعالم. جالت عينا رئيس الوزراء بالخريطة، وأشار بأصابعه إلى نقاط في الشمال والجنوب والشرق والغرب. ثم هتف: «سيكون لدينا أربعون سفارة! سيكون لدينا أربعون بعثة دبلوماسية!»
92
بعد مرور خمس سنوات، عندما أصبح لدى الهند أربعون بعثة دبلوماسية بالفعل، كتب نهرو رسالة تهنئة لها جميعا. وقال إنه منذ الاستقلال «زادت هيبة الهند بدرجة كبيرة ... فلطالما تحاشينا الاضطلاع بدور لافت للأنظار في الشئون الدولية ... وبصفة تدريجية، نما تقدير في البلدان الأخرى لصدق نيتنا رغم اختلافنا معها». وطالب جميع ممثلي الهند في الخارج - «من رئيس البعثة إلى أصغر موظف» - بأن «يشعروا بأنهم أسرة سعيدة ويعملوا على هذا الأساس، يتعاون أفرادها بعضهم مع بعض ... جميعنا شركاء في مغامرة عظيمة، وجميعنا شركاء ورفاق في مهمة واحدة».
93
وعلى الرغم من أن تلك المغامرة بعينها قدمت ونفذت في إطار جماعي، فقد حملت بصمة رئيس الوزراء واضحة على كل نواحيها؛ ففي عام 1950، قال أحد أكثر أعضاء مجلس الوزراء ذكاء وأقلهم تزلفا إن نهرو أصبح «أعظم رجل في العالم، أعظم من رجال الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأي رجل آخر». وقال إن بلدا «يفتقر إلى الموارد والرجال والمال - سبل السلطة الثلاثة - سرعان ما أصبح»، من خلال قائده، «ينظر إليه على أنه أكبر قوة أخلاقية في العالم المتحضر ... وكلمته أصبحت مسموعة باحترام في مجالس العظماء».
94
وحتى السياسيون المعارضون كانوا مقدرين لما حققه نهرو من أجل مكانة الهند الدولية. وبدا لهم عدم الانحياز تطبيقا مبتكرا لمبادئ غاندي في شئون العالم. وتعضدت الثقة في قدرة الهند على البقاء عندما دعيت لأدوار وساطة مهمة في نزاعات ذلك العصر وحروبه الأهلية.
كذلك أشاد بعض الأجانب المتعقلين بسياسة عدم الانحياز التي انتهجها نهرو؛ فعندما بدأت دار النشر العظيمة فلترينيلي في ميلان نشاطها عام 1955، كان أحد أول كتابين نشرتهما هو كتاب «سيرة ذاتية» لنهرو، الذي أشادت به لاتسامه ب «الاتساق والتماسك في معاداته الفاشية» وكذلك كونه بوقا أصيلا ل «البلدان الخارجة من تحت نير الاستعمار ... لتتبوأ مكانها بقوة في المنظومة السياسية الدولية».
95
ومن السفارة السويدية في نيودلهي، كتبت ألفا ميردال إلى زوجها جونار أن نهرو كان «يلعب بطبيعة الحال دورا حاسما ناهيك عن كونه دورا تاريخيا عالميا، دون أدنى ميل إلى الاستبداد. أوليس صحيحا أنه ربما كان الشخص الوحيد الذي رأيناه يصل إلى منصب رفيع ذي نفوذ دون أن يشعر بأنه أصبح أكثر أهمية؟»
96
كانت تلك هي مكانة نهرو بين رعايا دول خط المواجهة في الحرب الباردة، التي وقفت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ ففي عام 1955 كانت حركة عدم الانحياز ما زالت محتفظة ببريقها وهالتها الأخلاقية. ثم جاء العام التالي بغزو المجر، وبداية خيبة أمل الغربيين في نهرو. أما أهل بلده فاستغرق فقده دعمهم المسحور وقتا أطول.
الفصل التاسع
إعادة رسم الخريطة
البعض يريدون إعادة إحياء سنة شيفاجي ورفع علم الإمبراطورية الماراثية في ساميوكتا مهاراشترا (أي، مهاراشترا المتحدة)، بينما يرغب آخرون في توسيع الإمبراطورية الاقتصادية لمليونيرات بومباي وأحمد أباد حتى تشمل مهاجوجارات قاطبة. والتحيزات والخصومات والأحقاد الإقليمية يعاد إحياؤها في جميع الأنحاء، والجميع يبدون متلهفين للانفصال عن الآخرين، وليس الاتحاد معهم؛ فالآساميون يودون اقتطاع تلك الأرض من البنغال، والبنغاليون يرغبون في قطعة من بيهار، والتيلوجيون غير راضين في أوريسا، والأقلية التاميلية تريد الانفصال عن ترافنكور.
الكاتب اليساري كيه إيه عباس، في يناير 1951
1
لطالما أدرك قادة الحركة القومية الهندية قدرة اللغة الأم على استثارة الناس وتحريكهم؛ فقد كانت الهند أرض لغات كثيرة، كل منها لها أبجديتها الخاصة، وقواعدها النحوية، ومفرداتها، وتراثها الأدبي . وعوضا عن إنكار ذلك التنوع، سعى حزب المؤتمر إلى إفساح المجال له؛ فمنذ عام 1917، ألزم الحزب نفسه بإقامة أقاليم لغوية في الهند الحرة؛ فشكلت دائرة منفصلة لأندرا ذلك العام، ودائرة منفصلة للسند في العام التالي. وبعد عقد جلسة حزب المؤتمر في ناجبور عام 1920، وسع تطبيق ذلك المبدأ واتخذ شكلا رسميا بإنشاء لجان إقليمية لحزب المؤتمر حسب المناطق اللغوية؛ وذلك على غرار: لجنة حزب المؤتمر في كارناتاكا براديش، ولجنة حزب المؤتمر في أوريسا، ولجنة حزب المؤتمر في مهاراشترا، وهكذا دواليك. والجدير بالذكر أن تلك اللجان لم تتبع التقسيمات الإدارية للهند البريطانية، بل أحيانا ما تنافت معها.
وقد شجع المهاتما غاندي عملية إعادة تنظيم حزب المؤتمر على أساس اللغة ودعمها. وعندما جاء الاستقلال - في أغسطس 1947 - رأى غاندي أن ولايات الدولة الجديدة ينبغي أن تتحدد على أساس اللغة. وفي يوم 10 أكتوبر من عام 1947 كتب إلى زميل له قائلا: «أرى أننا ينبغي أن نعجل بإعادة تنظيم المقاطعات اللغوية ... ربما توهمنا حاليا أن اختلاف اللغات دلالة على اختلاف الثقافات، ولكن ثمة احتمال أيضا في أن يختفي هذا التوهم بإنشاء المقاطعات اللغوية. سوف أكتب شيئا عن هذا الموضوع إذا سنح لي الوقت ... أعلم أنه ثمة فئة من الناس يقولون إن فكرة إقامة أقاليم لغوية فكرة خاطئة. وفي رأيي أن هذه الفئة تتفنن في اختلاق العقبات.»
1
وكان جواهر لال نهرو أيضا يقدر التنوع اللغوي الذي تتميز به الهند؛ ففي مقال كتبه عام 1937، قال: «إن اللغات الحية كيان نابض نشط، متغير باستمرار، مطرد النمو، يعبر عن الأشخاص الذين يتحدثونه ويكتبونه.» وأضاف: «لغاتنا المحلية العظيمة ليست مجرد لهجات أو لغات دارجة، كما يدعوها الجهلاء أحيانا؛ بل هي لغات عريقة، ذات ميراث ثر، وكل منها يتحدثها ملايين البشر، وكل منها مرتبطة ارتباطا لا ينفصم بحياة العامة وثقافتهم وأفكارهم وكذلك حياة الطوائف العليا وثقافتها وأفكارها. ومن البديهي أن جموع الشعب لا يمكن أن تنمو تعليميا وثقافيا إلا من خلال لغتها الخاصة.»
2
كانت تلك هي رؤية نهرو عام 1937، ولكن بحلول عام 1947 كان فكره قد تغير؛ فآنذاك كانت البلاد قد قسمت لتوها على أساس الدين، فأما كان لتقسيمها مرة أخرى على أساس اللغة ليشجع على تفكيك الاتحاد الهندي؟ ولم لا يحتفظ بالوحدات الإدارية القائمة؛ مثل مدراس - التي ضمت جماعات سكانية من متحدثي التاميلية والمالايالامية والتيلوجوية والكانادية والأردية والكونكانية - وبومباي، التي يتحدث سكانها الماراثية والجوجاراتية والأردية والسندية والجندية وغيرها من اللغات؟ أليس من شأن تلك الولايات المتعددة اللغات والثقافات أن تقدم ممارسة نموذجية لتناغم العيش؟ وعلى أي حال، ألا ينبغي للدولة الجديدة أن تتحد على المثل العلمانية المتمثلة في السلام والاستقرار والنمو الاقتصادي، عوضا عن إعادة إحياء الهويات الطبقية واللغوية البدائية؟
أعرب نهرو عن تلك التحفظات في خطاب أدلى به في الجمعية التأسيسية بعد الاستقلال بثلاثة أشهر؛ فقال إنه على الرغم من أن حزب المؤتمر وعد يوما بإقامة أقاليم لغوية، فالبلاد تواجه الآن «وضعا حرجا للغاية نتيجة للتقسيم»؛ فقد «برزت النزاعات الانشقاقية إلى السطح»، ويستلزم التصدي لها التشديد على «أمن الهند واستقرارها ... ومن ثم تتمثل الضرورة الأولى في أن تصير الهند كلها قوية راسخة الدعائم، وواثقة في قدرتها على مواجهة الأخطار كافة ومواجهة المشكلات كافة والتصدي لها؛ فبحياة الهند، تحيا جميع أجزائها وتزدهر. وبضعف الهند، تضعف العناصر المكونة لها كافة».
3
ومن ثم وجب تأجيل إنشاء أقاليم لغوية، لحين تمتع الهند بالقوة والثقة بنفسها. يبدو أن نهرو أقنع غاندي نفسه بذلك؛ إذ إنه في نوفمبر من عام 1947، كتب المهاتما قائلا إنه «ربما كان الإحجام عن فرض إعادة التوزيع على أساس اللغة مبررا في ظل المناخ الكئيب الحالي؛ فالروح الإقصائية تأتي في المقام الأول دائما. لا أحد يفكر في الهند ككل». كان غاندي يرى آنذاك أن إعادة تنظيم الأقاليم يجدر تأجيله لوقت أهدأ، عندما يخبو لهب القلاقل الطائفية ويحل محلها «مناخ صحي، يشجع الوفاق عوضا عن الشقاق، والسلام عوضا عن القلاقل، والتقدم عوضا عن الرجعية، والحياة عوضا عن الموت».
4
وكما هي الحال دائما، شدد غاندي على ضرورة اتخاذ «خطوات تدريجية». ولكنه لم يكن مستعدا للتخلي عن المبدأ في حد ذاته؛ ففي مجلس صلاة انعقد يوم 25 يناير 1948، عاد غاندي للحديث عن موضوع الولايات اللغوية. وقال مذكرا: «منذ نحو عشرين عاما قرر حزب المؤتمر إقامة مقاطعات في هذا البلد قدر عدد لغاته الرئيسية.» وقد وصل الحزب إلى السلطة، وأصبح في موقع يتيح له تنفيذ ذلك الوعد. كان غاندي يرى أنه إن أقيمت مقاطعات جديدة على أساس اللغة، و«وضعت كلها تحت سيطرة دلهي، فلن يكون في ذلك أي ضرر. ولكن الوضع سيكون سيئا جدا إن رغبت كلها في التحرر ورفضت القبول بالسلطة المركزية؛ فلا ينبغي آنذاك أن تكون بومباي بمعزل عن مهاراشترا، ومهاراشترا بمعزل عن كارناتاكا، وكارناتاكا بمعزل عن أندرا؛ وإنما لنحيا جميعا إخوة. وإضافة إلى ذلك، فإذا أقيمت مقاطعات لغوية فسيعطي ذلك دفعة للغات الإقليمية؛ فمن السخف أن نجعل الهندوستانية لغة التعليم في المناطق كافة، ومن الأسخف أن نستخدم الإنجليزية لهذا الغرض».
5
في غضون أسبوع توفي غاندي، وكان لدى الممسكين بزمام السلطة مسائل أخرى أكثر إلحاحا يعنون بها؛ فقد لزم تهيئة سكن وعمل مجز لملايين اللاجئين الوافدين من باكستان الشرقية والغربية، وكذلك كان ثمة حرب غير معلنة دائرة في كشمير، ووجب وضع دستور جديد، وتحديد موعد للانتخابات، وصياغة سياسات اقتصادية وتنفيذها؛ لذا لزم آنذاك إرجاء إنشاء المقاطعات الجديدة، ربما لأجل غير مسمى.
حظي نهرو بتأييد كل من فالابهاي باتيل وسي راجا جوبالاتشاري في إحجامه عن إضافة التقسيمات اللغوية إلى التقسيم الديني الأخير، وأصر سي راجا جوبالاتشاري على ضرورة وقف «القوى الانفصالية الأخرى» عند حدها فورا.
6
كذلك فقد عمل باتيل جاهدا في إطار الجمعية التأسيسية على تغيير الموقف الرسمي لحزب المؤتمر. وتحت إدارته، عينت الجمعية التأسيسية لجنة من الفقهاء القانونيين والموظفين الحكوميين لإعداد تقارير عن تلك المسألة؛ فأقرت اللجنة بقوة المشاعر الشعبية - «النداء القوي» الذي توجهه المطالبات بالمشاعر اللغوية إلى «كثير من أبناء وطننا» - ولكنها خلصت إلى أنه في ظل الوضع المضطرب السائد «الضرورة الأولى والأخيرة للهند في الوقت الحالي هي أن تصير دولة ... فأي شيء يساعد على تنمية المشاعر القومية لا بد أن يستمر، وأي شيء يلقي العقبات في طريقها لا بد من رفضه أو تنحيته جانبا. لقد طبقنا ذلك الاختبار على المقاطعات اللغوية أيضا، واحتكاما إليه، نرى أنه لا يمكن تأييدها».
7
أثار ذلك الحكم استياء قطاعات كبيرة من الجمعية التأسيسية؛ فمعظم أعضاء حزب المؤتمر من متحدثي الماراثية أصروا على إنشاء ولاية مهاراشترا المستقلة. وبالمثل، رغب أعضاء الحزب الذين مثلت الجوجاراتية لغتهم الأم في مقاطعة خاصة بهم. وشابههم في تطلعاتهم أعضاء حزب المؤتمر المتحدثون بلغات التيلوجوية أو الكانادية أو المالايالامية أو الأورية؛ فبغية تهدئة الصخب، عينت لجنة جديدة، شارك فيها كل من نهرو وباتيل، بينما كان العضو الثالث هو مؤرخ الحزب ورئيسه السابق باتابي سيتارامايا.
سحبت تلك اللجنة - التي سميت لجنة جيه في بي، نسبة إلى الأحرف الأولى من أسماء أعضائها - موافقة حزب المؤتمر السابقة على مبدأ المقاطعات اللغوية، قائلة: «إن اللغة ليست قوة رابطة فحسب، بل مفرقة أيضا.» وفي ذلك الوقت، حيث «لزم أن يكون الاعتبار الأول هو أمن الهند ووحدتها ورخاؤها الاقتصادي»، «لا بد من التصدي لأي ميول انفصالية وانشقاقية بكل صرامة».
2
نقلا عن أحد المصادر الموثوقة - روبرت كينج - كان تقرير لجنة جيه في بي نوعا من «العلاج بالمياه الباردة». فقد «هدأ الأمور لبرهة».
8
ولكن سرعان ما اشتعلت النيران من جديد؛ فخلال عامي 1948 و1949 تجددت الحركات الساعية إلى الاستقلال اللغوي؛ منها حملة ساميوكتا كارناتاكا أو كارناتاكا العظمى، التي سعت إلى توحيد متحدثي اللغة الكانادية في ولايات مدراس وميسور وبومباي وحيدر أباد. وإلى جانب تلك الحركة كانت المعركة من أجل مهاراشترا العظمى، التي سعت إلى لم شمل متحدثي اللغة الماراثية في وحدة سياسية واحدة. كذلك أراد المالاياليون ولاية خاصة بهم، على أساس دمج إمارتي كوتشن وترافنكور مع مالابار. وهبت أيضا حركة مهاجوجارات.
ودارت معركة من نوع خاص من أجل إقامة ولاية سيخية في البنجاب، جمعت بين المزاعم اللغوية والدينية؛ فالسيخ ربما كانوا الفئة الأكثر تضررا من التقسيم؛ فقد خسروا أكثر أراضيهم إنتاجية بضمها إلى باكستان، واضطروا إلى تقاسم المساحة والنفوذ مع الهندوس فيما تبقى من الهند.
نحو عام 1950، بلغت نسبة السكان الهندوس في البنجاب الهندية قرابة 62٪، مقابل 35٪ من السيخ. إلا أن تلك النسب أخفت فجوة إقليمية كبرى؛ فالنصف الشرقي من ذلك الإقليم سادت فيه اللغة الهندية، ومثل الهندوس نحو 88٪ من سكانه. أما النصف الغربي فسادت فيه اللغة البنجابية، ومثل السيخ ما يربو قليلا على نصف تعداد سكانه.
ولم يكن الانقسام الديني مطابقا للانقسام اللغوي تماما؛ فالبنجابية كانت اللغة الأولى للسيخ كافة، وكذلك كثير من الهندوس. إلا أن الهندوس كانوا يميلون إلى اعتبار البنجابية مجرد لهجة محلية من اللغة الهندية، بينما أصر السيخ ليس على أنها لغة قائمة بذاتها فحسب، بل أنها لغة مقدسة أيضا؛ فقد كان السيخ يقرءون البنجابية ويكتبونها في النصوص الجورموخية، التي يؤمن السيخ بأن أبجديتها جاءت على لسان الجورو (المعلم).
9
منذ عشرينيات القرن العشرين، مثل حزب أكالي دال مصالح السيخ ذوي الوعي السياسي؛ فكان كيانا دينيا وحزبا سياسيا في الوقت نفسه؛ فقد كان هو المتحكم في المعابد السيخية، ولكنه نافس في الانتخابات أيضا. لفترة طويلة كان زعيم الحزب هو المعلم تارا سينج، وهو شخصية مهمة مثيرة للفضول و(مثل شخصيات كثيرة مثله في التاريخ الهندي) لم تدون سيرتها بعد.
ولد تارا سينج في يونيو من عام 1885، هندوسيا. لا ينبغي أن تثير تلك الحقيقة دهشتنا؛ إذ إن الجيل الأول من معتنقي دين جديد، يكون في أغلب الأحيان هو الأكثر فاعلية، بل الأكثر أصولية من بين الزعماء الدينيين. درس تارا سينج في كلية خالصا بأمريتسار، حيث تفوق في دراسته الأكاديمية وكذلك في كرة القدم؛ حيث أكسبه ثباته كمدافع لقب «الصخرة». وعوضا عن الالتحاق بالعمل في حكومة الاستعمار، أصبح ناظر مدرسة سيخية في ليالبور، وفيها نال لقب «المعلم».
10
في عشرينيات القرن العشرين انضم تارا سينج إلى الحركة الساعية إلى تطهير المعابد السيخية من الكهنة الفاسدين الذين كانوا يديرونها. وفي عام 1931 تولى منصب رئيس اللجنة العليا لإدارة المعابد، وهو منصب واسع النفوذ والتأثير، لا سيما على المال. وطوال الأعوام الثلاثين التالية كان أشد المدافعين عن «الطريقة» السيخية عزيمة وإصرارا. واستطاع إظهار نفسه بصورة «الشخص الوحيد المثابر المتجلد في اعتناق الطريقة السيخية ككيان سياسي مستقل، والزعيم السيخي الوحيد الذي سعى دون كلل أو ملل وراء هدف منح المجتمع السيخي سلطة سياسية منظمة جغرافيا، والزعيم الغيري المتحرر من الطموحات الشخصية».
11
قبل عام 1947 كان تارا سينج مصرا على أن الطريقة السيخية في خطر من المسلمين والعصبة الإسلامية. وبعد عام 1947 قال إنها في خطر من الهندوس وحزب المؤتمر. وازدادت خطبه قوة مع اقتراب موعد الانتخابات العامة للعام 1951-1952. فقد ندد بالهيمنة الهندوسية وزعم أنه «في سبيل الدين والثقافة والطريقة، وبغية إعلاء راية الجورو، السيخ على استعداد لفعل أي شيء لنيل الاستقلال».
12
قبض على تارا سينج عدة مرات بين عامي 1948 و1952، لتحديه حظر التجمعات العامة وما اعتبر خطبا «تهييجية». وسجن معه مئات من أنصاره؛ فقد حظي بدعم قوي من جانب المزارعين السيخ، لا سيما بين أفراد طائفة الجات العليا. كان استخدام تارا سينج للفظة «الاستقلال» غامضا عن عمد؛ فقد كان مزارعو الجات يرغبون في مقاطعة سيخية داخل الهند، وليس دولة ذات سيادة. كانوا يريدون التخلص من هيمنة الهندوس على البنجاب الشرقية، ليتبقى لهم بذلك ولاية يمكن أن يمثلوا أغلبية كبيرة فيها. ولكن تارا سينج بتلميحه إلى الانفصال ضغط على الحكومة، وفي الوقت نفسه أقنع أتباعه بالتزامه الشخصي بالقضية.
إلا أن تارا سينج لم يحظ بدعم السيخ جميعا؛ فالطوائف الاجتماعية الدنيا من السيخ - المتخوفة من الجات - كانت معارضة لحزب أكالي دال. وبعض الجات انضموا إلى حزب المؤتمر. وفي بادرة للمحاباة، أعلن كثير من الهندوس متحدثي البنجابية أن اللغة الهندية هي لغتهم الأم في تعداد عام 1951.
إلا أن الضربة القاصمة لتارا سينج كانت الانتخابات العامة ذاتها؛ ففي مجلس البنجاب - الذي تضمن 126 مقعدا - لم يحصل حزب أكالي دال إلا على أربعة عشر مقعدا.
3
لا شك أن أشرس الحركات المطالبة بالانفصال على أساس اللغة كانت حركة متحدثي التيلوجوية في أندرا؛ فقد كان متحدثو تلك اللغة أكثر من متحدثي أي لغة أخرى في الهند عدا اللغة الهندية. وتميزت هذه اللغة بثراء تاريخها الأدبي، وارتبطت برموز لمجد أندرا؛ مثل إمبراطورية فيجاياناجارا؛ فحينما كانت الهند لا تزال واقعة تحت الحكم البريطاني، عملت منظمة أندرا ماهاسابها جاهدة على إنماء حس الهوية بين جماعات المتحدثين باللغة التيلوجوية في رئاسة مدراس، الذين ادعت المنظمة تعرضهم للاضطهاد على يد التاميليين. كذلك نشطت منظمة أندرا ماهاسابها في إمارة حيدر أباد.
بعد الاستقلال، طالب متحدثو التيلوجوية حزب المؤتمر بتنفيذ قراراته القديمة الصادرة لصالح إنشاء ولايات لغوية. واستخدموا أساليب متنوعة في الدفع بقضيتهم؛ من عرائض وشكاوى ومسيرات في الشوارع وحالات صيام عن الطعام. وفي ضربة كبرى لحزب المؤتمر، استقال تي براكاسام - رئيس وزراء ولاية مدراس الأسبق - من منصبه في الحزب عام 1950 بسبب قضية الولايات. ومن ناحية أخرى، دعا الأعضاء متحدثو اللغة التيلوجوية في مجلس مدراس بإلحاح إلى إقامة ولاية باسم «أندرا براديش» فورا. وأثناء نوبة الرياح الموسمية لعام 1951 صام رجل كان عضوا في حزب المؤتمر وأصبح السوامي (الكاهن) - يدعى سيتارام - عن الطعام تأييدا لتلك الفكرة. وبعد خمسة أسابيع أنهى صيامه، استجابة لمناشدة الزعيم المحترم تلميذ غاندي، فينوبا بهافي.
13
ثم وضعت قضية أندرا أمام اختبار الاقتراع العام للبالغين؛ فأثناء جولات نهرو الانتخابية في المناطق المتحدثة باللغة التيلوجوية، قابل متظاهرين في أماكن عدة ملوحين بأعلام سوداء وهاتفين: «نريد أندرا.»
14
وكتبت الصحيفة الرسمية لحزب المؤتمر باستياء أن «رئيس حزب المؤتمر شهد تظاهرات من أنصار إقامة ولاية أندرا، صحبتها شعارات ولافتات وملصقات؛ فكان يبتسم لهم في بعض الأماكن، ويشتاط غضبا من سلوكهم في أماكن أخرى».
15
كانت العلامات غير مبشرة، وبالفعل على الرغم من نجاحات حزب المؤتمر في سائر الأنحاء، كان أداؤه ضعيفا جدا في تلك المنطقة؛ فمن بين 145 مقعدا لتلك المنطقة في مجلس مدراس التشريعي، لم يفز الحزب إلا بثلاثة وأربعين مقعدا. وفازت أحزاب داعمة لحركة أندرا بمعظم المقاعد الأخرى. كان من تلك الأحزاب الشيوعيون، الذين ربحوا واحدا وأربعين مقعدا.
شجعت نتائج الانتخابات إعادة إحياء حركة أندرا؛ فقرب نهاية فبراير 1952، بدأ السوامي سيتارام مسيرة في المناطق المتحدثة باللغة التيلوجوية، بغية حشد الدعم للحركة؛ فقال إن إقامة الولاية «لا يمكن إرجاؤها أكثر من ذلك»، وإن قبائل أندرا «مستعدة لدفع ثمن تحقيق ذلك الهدف». وحث السوامي جميع أعضاء مجلس مدراس المتحدثين باللغة التيلوجوية على مقاطعة أعمال المجلس لحين إنشاء الولاية التي يحلمون بها.
16
كان المحرضون على إقامة ولاية أندرا يبغضون شخصين على وجه التحديد: رئيس الوزراء نهرو، ورئيس وزراء مدراس سي راجا جوبالاتشاري؛ فكلاهما سجل له قول أنه لا يرى إقامة ولاية أندرا فكرة صائبة. وكلاهما أكد أنه حتى إذا نشأت تلك الولاية - خلافا لرغبتهما - فلن تشكل مدينة مدراس جزءا منها، وهو ما أثار سخط قبائل أندرا، التي كان لها حضور ديموغرافي واقتصادي قوي في المدينة، ورأت أن لها حقا فيها مثلما للتاميليين.
17
وفي يوم 22 مايو، أخبر نهرو البرلمان أنه «لأعوام حتى الآن وجهنا جهودنا القصوى نحو توحيد الهند. أنا عن نفسي أعتبر أي شيء لا يساعد في عملية التوحيد تلك غير مستساغ؛ فحتى إن كان تشكيل مقاطعات لغوية مستحسنا في بعض الحالات، فمن الجلي أن هذا ليس هو الوقت المناسب. وعندما يحين الوقت المناسب، فسننشئها دون إبطاء».
وحسبما كتب كيه في ناريانا راو: «بدا ذلك الموقف من نهرو مفرط الغموض والمراوغة لقبائل أندرا؛ فلا أحد يعلم ما هو الوقت المناسب ومتي يحين.» فكثفوا احتجاجهم تعجلا للرد على ذلك التساؤل. وفي يوم 19 أكتوبر 1952، بدأ رجل يدعى بوتي سريرامولو صياما عن الطعام حتى الموت في مدراس. وباركه في ذلك السوامي سيتارام، وآلاف غيره من متحدثي التيلوجوية.
18
ولد سريرامولو في مدراس عام 1901، ودرس الهندسة الصحية قبل أن يلتحق بالعمل في هيئة السكك الحديدية. وفي عام 1928 تعرض لمأساة مزدوجة، عندما توفيت زوجته وابنهما الوليد. وبعد عامين استقال من منصبه لكي ينضم إلى مسيرة الملح. وفيما بعد قضى برهة من الزمن في أشرم سبرماتي الذي عاش فيه غاندي. وفي فترة لاحقة، قضى ثمانية عشر شهرا في السجن ضمن حملة الساتياجراها (المقاومة السلمية) الفردية لعام 1940-1941.
ادعت دراسة مغرقة في المدح نشرتها اللجنة المختصة بتاريخ حركة أندرا عام 1985 أن إقامة بوتي سريرامولو في أشرم المهاتما غاندي «كانت عظمتها ملحمية؛ فها هو طالب علم ممتلئ بالمحبة والتواضع، كله خدمة وتضحية لإخوانه البشر، وها هو أيضا جورو؛ المعلم العالمي، الممتلئ مثله بالمحبة والصدق واللاعنف والتقارب مع الفقراء الكادحين. أثناء إقامة سريرامولو في سبرماتي ... أدى مهامه ببهجة وتفان، وكسب محبة المقربين ورضا المعلم الأكبر، غاندي».
19
صحيح أن غاندي كان يكن محبة لسريرامولو، ولكن يتحتم علينا قول إنه أثار حنقه أيضا إلى حد ما؛ ففي 25 نوفمبر 1946 أقدم التلميذ على الصيام عن الطعام حتى الموت طلبا لفتح المعابد كافة في مقاطعة مدراس للمنبوذين. آنذاك حثه رجال آخرون في حزب المؤتمر على التوقف؛ إذ تركز اهتمامهم أكثر على حرية الهند الوشيكة. وحين رفض، لجئوا إلى غاندي، الذي أقنعه بالتخلي عن صيامه. وبعدها كتب المهاتما إلى تي براكاسام قائلا إنه «سعيد لانتهاء صيام سريرامولو على النحو السار الذي تصفه. وقد أبرق إلي ما إن أفطر. أعلم أنه مجتهد، وإن كان غريب الأطوار بعض الشيء».
20
كان بوتي سريرامولو قد أنهى صيامه عام 1946 إثر إصرار غاندي. ولكن عام 1952 كان غاندي قد توفي، وعلى أي حال فقد كانت مسألة أندرا أكثر أهمية بالنسبة إلى سريرامولو مما كانت مسألة المنبوذين قبلا؛ فكان عازما على المضي في ذلك الصيام حتى النهاية، أو حتى ترضخ حكومة الهند.
ففي يوم 3 ديسمبر، كتب نهرو إلى راجا جوبالاتشاري قائلا: «ثمة نوع ما من الصيام عن الطعام يجري في سبيل إقامة مقاطعة أندرا وبلغتني بشأنه برقيات محمومة. ذلك الأمر لن يؤثر في مطلقا، وأقترح أن نتجاهل الأمر برمته.» بحلول ذلك الوقت كان سريرامولو صائما عن الطعام منذ ستة أسابيع. وإذ استمرت محنته، تنامى الدعم لقضيته؛ فدعي إلى إقامة إضرابات عامة في مدن كثيرة. ويذكر عالم الاجتماع الهندي أندريه بيتي - الذي كان مسافرا من مدراس إلى كلكتا آنذاك - إيقاف جموع غاضبة لقطاره في فيزاج وهتافها بشعارات معادية لراجا ونهرو.
21
حينذاك اضطر نهرو إلى التسليم بقوة المشاعر الشعبية؛ ففي يوم 12 ديسمبر كتب إلى راجا جي مرة أخرى، مشيرا إلى أن الوقت قد حان لقبول مطلب ولاية أندرا. وقال: «وإلا نشأ سخط كامل فيما بين قبائل أندرا، ولن نتمكن من احتوائه.» بعد مرور يومين أبرق راجا جي إلى رئيس الوزراء، وقال يائسا: «ربما أمكن كف الأذى بدرجة أكبر إذا قمت باستدعاء - أكرر استدعاء - السوامي سيتارام إلى دلهي؛ فهو الآن في مدراس يحوم حول الرجل الصائم عن الطعام، سريرامولو. والأذى كله نشأ عن تلك البؤرة، إذ إن شباب أندرا انفعاليون جدا وميالون إلى الشغب؛ فإذا دعوت سيتارام لإجراء مباحثات، فربما تغير الجو العام والأرجح أن يتلاشى الأذى.»
22
كان الوقت قد فات آنذاك؛ ففي يوم 15 ديسمبر - بعد ثمانية وخمسين يوما من بدء الصيام - توفي بوتي سريرامولو، وفتحت أبواب الجحيم. «أنباء وفاة سريرامولو أوقعت أندرا كلها في بحر من الفوضى.» فهوجمت المصالح الحكومية، وأوقفت القطارات وشوهت جدرانها. وبلغت تكلفة تلف الممتلكات العامة ملايين الروبيات. كذلك فقد قتل العديد من المتظاهرين عندما أطلقت الشرطة النار عليهم.
23
زعم نهرو يوما أن «الحقائق لا الصيام» ستحسم المسألة. والآن إذ واجه رئيس الوزراء احتمال انتشار الاحتجاجات وربما خروجها عن السيطرة، رضخ؛ فبعد مرور يومين على وفاة سريرامولو، أصدر بيانا أعلن فيه عزمه إقامة ولاية أندرا.
وخلال الأشهر القليلة التالية، حددت المناطق المتحدثة بالتيلوجوية في مقاطعة مدراس لفصلها. وحسبما كتب رئيس وزراء مدراس، فإن تقسيم المقاطعة «صحبه الكثير من السباب والسلوكيات السيئة والتشكك والغضب».
24
وقد كبح راجا جوبالاتشاري جماح مشاعره ليحضر مراسم الاحتفال بولاية أندرا الجديدة في كرنول يوم 1 أكتوبر 1953. وكان من بين الحضور أيضا - بصفته ضيف الحفل الرئيسي - عدو قبائل أندرا الآخر حتى ذلك الحين؛ رئيس الوزراء جواهر لال نهرو.
4
كان رئيس الوزراء منزعجا من تشكل ولاية أندرا براديش؛ فقد كتب إلى زميل له في مجلس الوزراء في وجوم قائلا: «سترى أننا أيقظنا المارد النائم، وأغلب الظن أن معظمنا لن يفلت من بطشه.»
25
وقد حدث ما كان نهرو يخشاه؛ إذ زادت إقامة ولاية أندرا حدة المطالبات المشابهة من جماعات لغوية أخرى. وعينت حكومة الهند - دون كامل إرادتها - لجنة لإعادة تنظيم الولايات بغية «إصدار التوصيات بشأن المبادئ العامة التي ينبغي أن تحكم حل هذه المشكلة». خلال عامي 1954 و1955 تنقل أعضاء اللجنة في أنحاء الهند؛ فزاروا 104 مدن وبلدات، وأجروا حوارات مع أكثر من 9 آلاف شخص، وتلقوا ما يصل إلى 152250 عريضة كتابية.
كان من العرائض الأكثر طولا وإثارة للاهتمام تلك التي قدمتها لجنة مواطني بومباي، التي رأسها أحد أقطاب صناعة القطن الرائدين - السير بروشتمداس تهاكورداس - وضمت صفوفها رجال صناعة بارزين آخرين؛ مثل: جيه آر دي تاتا. وحوت ترويسة العريضة المقدمة أسماء العديد من أنجح المحامين والباحثين والأطباء في المدينة.
كان جدول أعمال تلك اللجنة يقتصر على بند واحد؛ هو إبقاء المدينة خارج حدود ولاية مهاراشترا. وفي عرضها لقضيتها، طبعت كتابا مبهرا من 200 صفحة، مليئا بالرسوم البيانية والخرائط والجداول. كان الفصل الأول مقدمة تاريخية، توضح توافد موجات متعاقبة من المستوطنين على المدينة من جماعات لغوية مختلفة. وزعم ذلك الفصل أن هجرة المهاراشتريين كانت محدودة قبل نهاية القرن التاسع عشر. وحتى وقت صدور الكتاب لم يكن متحدثو الماراثية يمثلون أكثر من 43٪ من تعداد سكان المدينة. وتحدث الفصل الثاني عن أهمية بومباي للحياة الاقتصادية الهندية؛ فقد كانت المركز الرئيسي لقطاعات الصناعة والأموال والتجارة الخارجية. وكانت نافذة الهند على العالم؛ إذ فاقت حركة الطائرات منها وإليها نظيرتها في المدن الأخرى كلها مجتمعة. كان الفصلان الثالث والرابع معنيين بالجوانب الاجتماعية، وعبرا عن الطابع الذي تتميز به المدينة من تعدد للغات والثقافات. ونقلا عن مراقب أوروبي، بومباي «ربما كانت التجمع البشري الأكثر تنافرا في ربوع الكرة الأرضية». ونقلا عن آخر، كانت «بؤرة حقيقية لأنواع البشر وصنوفهم المتباينة، على نحو يفوق كثيرا تنوع الجنسيات في القاهرة والقسطنطينية». أما الفصل الخامس فتناول الجغرافيا، وتحدث عن عزلة بومباي الطبيعية؛ إذ كان البحر والجبال يفصلانها عن البر الناطق بالماراثية.
كان أول المستوطنين فيها من الأوروبيين، وكان كبار التجار والرأسماليين هم الجوجاراتيين والبارسيين، وأكثر المستوطنين إحسانا هم البارسيون؛ فالمدينة قامت على سواعد غير الماراثيين. وحتى في نطاق الطبقة العاملة، كان الوافدون من شمال الهند والمسيحيون أكثر عددا في أكثر الأحيان من متحدثي الماراثية؛ فمن وجهة نظر لجنة مواطني بومباي، كان من الواضح أنه «استنادا إلى الجغرافيا أو التاريخ أو اللغة أو السكان أو المنظومة القانونية، لا يمكن اعتبار بومباي وشمال كونكان جزءا من إقليم ماراثا مثلما يزعم أنصار ساميوكتا مهاراشترا».
26
ووراء واجهة الرؤية العالمية تزعمت جماعة لغوية بعينها حركة «أنقذوا بومباي»: الجوجاراتيون؛ فلو أصبحت بومباي عاصمة ولاية مهاراشترا الكبرى، فسيكون معظم السياسيين والوزراء من متحدثي الماراثية، وهو الاحتمال الذي لم يرق تماما للطبقة البرجوازية الناطقة بالجوجاراتية، سواء الهندوس منها أو البارسيون؛ فقد كانت تلك الطبقة هي التي أمدت لجنة مواطني بومباي بالعمالة والتمويل، وتولت إدارتها فعليا.
27
نهرو نفسه بدا متقبلا إلى حد ما لفكرة إبعاد بومباي عن سيطرة جماعة لغوية واحدة، وكذلك كان إم إس جلوالكر الناطق بالماراثية، وهو تلاق فكري نادر الحدوث بين رئيس الوزراء وزعيم منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج؛ فكلاهما كان يرى أن إقامة ولايات لغوية من شأنه أن «يولد شعورا بالمرارة وينمي ميولا انشقاقية تشكل خطرا على وحدة البلاد».
28
وفي مايو 1954 ألقى جلوالكر خطابا في بومباي بناء على دعوة مؤتمر مناهضة النزعة الإقليمية، الذي اعتبر المطالب اللغوية دلالة على «التهديد الذي تمثله النزعة الإقليمية والنزعة الطائفية»؛ فقد دوى صوته متوعدا في قوله: «التشرذم يولد القلاقل؛ فالأمة الواحدة والثقافة الواحدة هما مبدآي.» وإن رؤية المرء نفسه تاميليا أو ماراثيا أو بنغاليا مؤداها «استنزاف حيوية الأمة». كان يتمنى أن يستخدموا جميعا وصف «هندوسي»، وهنا حاد مساره عن مسار نهرو، الذي كان يتمنى أن يكونوا جميعا «هنودا» بالطبع.
29
ولكن مثلما اختلف رجال آخرون في حزب المؤتمر مع نهرو بخصوص هذه المسألة، خالف بعض أعضاء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج زعيمهم؛ فقد بدأ نشاط منظمة ساميوكتا مهاراشترا باريشاد منذ عام 1946، وضم في صفوفه مهاراشتريين من جميع الألوان السياسية؛ اليميني واليساري، والعلماني والطائفي، والبرهمي والماراثي والهاريجان. كانت المنظمة ترغب في ولاية من شأنها أن توحد متحدثي الماراثية المتفرقين في وحدات سياسية مختلفة. إلا أنهم في قرارة أنفسهم لم يداخلهم شك في ألا يكون لتلك الولاية سوى عاصمة واحدة، وهي: بومباي.
كان رئيس ساميوكتا مهاراشترا باريشاد هو عضو حزب المؤتمر المخضرم شانكار راو ديو، وكان أمين المنظمة ومنظرها الأكبر هو عالم الاقتصاد المرموق خريج جامعة كامبريدج: دي آر جادجيل. وكان جادجيل يرى أنه على الرغم من أن بومباي يمكن أن تظل الميناء والمركز الاقتصادي الرئيسي لمهاراشترا، فلا بد من «فرض لامركزية إجبارية» على صناعات المدينة. وكان ثمة منظر آخر أكثر صراحة منه - جي في دشموك - قال إنه ما لم تصر مدينة بومباي جزءا من ولاية المهاراشتريين، فسيضطرون إلى أن يقنعوا ب «الاضطلاع بدور الوسطاء الثانويين لدى الوسطاء، والوكلاء الثانويين لدى الوكلاء، والأستاذة المساعدين للأساتذة، والموظفين لدى المديرين، والأجراء لدى أصحاب المتاجر».
30
وردا على لجنة المواطنين التي أنشأها الجوجاراتيون، أعدت ساميوكتا مهاراشترا باريشاد وثيقة مبهرة من 200 صفحة هي الأخرى. قدم الجزء الأول منها دفاعا نظريا عن مبدأ الولايات اللغوية؛ بحجة أن من شأنها أن ترسخ الفيدرالية، بجمع متحدثي اللغة الواحدة في وحدة واحدة مترابطة موحدة؛ ومن ثم، فإن «المقاطعة اللغوية التي تدار بلغة عامة الشعب، تتيح لهم استشعار وتفهم مجريات الديمقراطية وضرورة المشاركة فيها».
وعندما بلغ الحديث مسألة ولاية مهاراشترا تحديدا، زعمت الوثيقة أن «المجتمع في المناطق الماراثية متجانس بدرجة ملحوظة». فقد كان تكوين الطوائف الاجتماعية واحدا، والآلهة والقديسين والتراث الشعبي والأساطير واحدة. وإن تفرق متحدثي الماراثية في ذلك الوقت بين ثلاث وحدات سياسية - حيدر أباد وولاية بومباي والمقاطعات المركزية - مصادفة تاريخية لا بد من تصحيحها فورا.
وذهبت المنظمة إلى أنه لا بد من إنشاء ولاية مهاراشترا جديدة متحدة، عاصمتها بومباي؛ لأن الأرض التي تقف عليها تلك المدينة الجزرية لطالما سكنها متحدثو الماراثية؛ ففي حين يمتد البحر إلى غرب بومباي، يسود متحدثو الماراثية الأراضي أجزاءها الشمالية والجنوبية والشرقية. والمدينة نفسها هي المركز الرئيسي للصحافة والمطبوعات والأعمال المسرحية الماراثية. كذلك فقد كانت بومباي شديدة الاعتماد على محيطها الداخلي الماراثي من الناحية الاقتصادية؛ إذ تستمد منه قدرا كبيرا من عمالتها وكافة احتياجاتها من المياه والنفوذ. وجميع طرق الاتصال المتاحة لبومباي تمر عبر مهاراشترا. وفي المجمل، «لا مجال للتفكير في إقامة ولاية مهاراشترا بعاصمة غير بومباي، وسيستحيل سير تلك الولاية إن جرت أي محاولة لفصل مدينة بومباي عنها». ورد المجلس على الحجة القائلة بعدم وجود أغلبية ماراثية بالمدينة، قائلا إن جماعة المتحدثين بتلك اللغة أكبر من أي جماعة أخرى فيها. وعلى أي حال، فقد كان تعدد اللغات من طبيعة مدن الموانئ الكبيرة؛ ففي عاصمة بورما، لا يتحدث سوى 32٪ من سكانها اللغة الوطنية، ولكن «لم يجرؤ أحد على الإشارة إلى أن رانجون ينبغي اعتبارها أرضا غير بورمية».
31
كانت بومباي محاطة بمناطق متحدثة بالماراثية؛ ومن ثم كان لا بد أن تصير عاصمة ولاية مهاراشترا الجديدة. كانت تلك هي حجة ساميوكتا مهاراشترا باريشاد. إلا أن لجنة مواطني بومباي زعمت أن بومباي نشأت على أيدي غير المهاراشتريين بالأساس؛ ولذا يجب أن تشكل دولة مدينية منفصلة؛ فهل كان يمكن أن يتلاقى الطرفان؟ في يونيو 1954 زار شانكار راو ديو السير بروشتمداس تهاكورداس للوصول لتسوية. قال ديو إنه لا يمكن الوصول إلى تسوية بشأن المطلب الأساسي - أي أن تكون بومباي عاصمة مهاراشترا - ولكن يمكنهما العمل معا للحفاظ على «الطابع المستقل ذاته لتلك المدينة العالمية التوجه، بما يكفل توجهها هذا، من حيث التداول فيها، والتجارة والصناعة، وما إلى ذلك». ومن جانبه، أعرب السيد بروشتمداس عن استعداده للتنازل عن فكرة الدولة المدينية مقابل مقاطعة مركبة ثنائية اللغة مكونة من متحدثي الماراثية ومتحدثي الجوجاراتية.
32
دار الاجتماع في إطار مهذب، ولكنه لم يصل إلى شيء. وأحيلت مسألة بومباي إلى أعضاء لجنة إعادة تنظيم الولايات، لتكون أعقد المسائل الشائكة التي ابتلوا بها.
5
تألف أعضاء لجنة إعادة تنظيم الولايات من فقيه قانوني؛ هو إس فضل علي، ومؤرخ ومسئول حكومي؛ هو كيه إم بانيكار، وأخصائي اجتماعي؛ هو إتش إن كونزرو. ومن الجدير بالذكر أن أيا منهم لم يكن له صلة رسمية - في الماضي أو الحاضر - بحزب المؤتمر. وفي أكتوبر 1955، بعد ثمانية عشر شهرا من العمل المكثف، قدم الثلاثة تقريرهم. في البداية وضعوا موجزا وافيا للحجج المؤيدة والحجج المعارضة لإقامة الولايات اللغوية، وحثوا على اتباع «نهج متوازن» يقر «باعتبار التجانس اللغوي عاملا مهما يفضي إلى تيسير المسائل الإدارية وكفاءتها» وإن لم يكن «هو المبدأ الوحيد والملزم، الذي يتجاوز أي اعتبارات أخرى». وكان من تلك الاعتبارات الأخرى وحدة الهند كلها طبعا وأمنها.
33
وبعدها، أورد التقرير في تسعة عشر فصلا المقترحات المحددة لأعضاء اللجنة بخصوص إعادة تنظيم الولايات؛ ففيما يتعلق بالولايات الجنوبية، بدا يسيرا إعادة توزيع المناطق حسب الأقسام اللغوية الرئيسية: التيلوجوية والكانادية والتاميلية والمالايالامية؛ حيث أعيد توزيع المناطق والوحدات الإدارية المسماة بالتعلقة حسب الجماعة اللغوية التي تمثل أغلبية سكانية فيها. وتقرر إحلال أربع ولايات صغيرة محل خليط الأقاليم المتوارثة عن حقبة الاستعمار البريطاني.
وفيما يتعلق بشمال الهند، سعت اللجنة بالمثل إلى تقسيم القطاع الهائل الناطق بالهندية إلى أربع ولايات، هي: بيهار وأوتر براديش وماديا براديش وراجستان. وفي الشرق، تقرر إبقاء المقاطعات القائمة كما هي، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة. ورفضت اللجنة طلب اقتطاع ولايات قبلية من ولايتي بيهار وآسام.
كذلك لم تقبل اللجنة بإنشاء ولاية سيخية، ورفضت تخصيص مدينة مدراس لولاية أندرا. إلا أن التوصية الأكثر إثارة للجدل كانت بعدم السماح بإقامة مهاراشترا المتحدة. وعلى سبيل الرشوة، اقترحت اللجنة إنشاء ولاية لمنطقة فيداربها، تضم المناطق الداخلية المتحدثة بالماراثية. ولكن بومباي تقرر بقاؤها كما هي، مقاطعة ثنائية اللغة تشتمل على متحدثي اللغة الجوجاراتية ومتحدثي اللغة الماراثية. وقال أعضاء اللجنة إنهم يكنون كل احترام للحجج التي ساقتها حركة ساميوكتا مهاراشترا، ولكنهم لم يستطيعوا «الاستهانة بمخاوف الجماعات الأخرى».
6
طرحت توصية لجنة إعادة توزيع الولايات المتعلقة بجعل بومباي عاصمة ولاية ثنائية اللغة للنقاش في البرلمان في 15 نوفمبر 1955. ورأى نائب بومباي الطموح - إس كيه باتيل - أن اللجنة كان ينبغي ألا تتوقف عند هذا الحد؛ فكان يرى أن الحكومة ينبغي أن تنشئ دولة بومباي المدينية، آملا بلا شك في أن يتولى هو إدارتها . وقال إن تلك الدولة المدينية المأمولة تتمتع «بتركيبة سكانية عالمية من جميع النواحي»، وإنها «قامت على سواعد الجميع». وقال إن بومباي إذا تركت لتحكم نفسها، فمن شأنها أن «تصير هندا مصغرة تدار بالمقاييس الدولية ... وبوتقة انصهار سوف تنشئ حضارة جديدة مجيدة ... وإنه من قبيل المصادفة الاستثنائية أن يمثل تعداد المدينة 1٪ بالضبط من تعداد البلد كله؛ فتلك النسبة المستمدة من جميع أنحاء البلاد ستصير نموذجا تقتدي به الولايات الأخرى في ممارسة العلمانية والتفاهم المتبادل».
وطلب إس كيه باتيل - مثله في ذلك مثل اللجنة ذاتها - إلى المهاراشتريين أن يتحلوا بروح التنازل ويتخلوا عن المطالبة ببومباي. ولكن سرعان ما اتضح أنه لا يتحدث بلسان إخوته المهاراشتريين؛ ففي مجلس الشعب الهندي، تحدث بعد إس كيه باتيل مباشرة عضو حزب المؤتمر من مدينة بونا، إن في جادجيل. وقال مصرا إنه على الرغم من تأييده لفكرة التنازل، «فثمة حد له. وهذا الحد هو: أنه لا يمكن لأحد التنازل عن احترامه لذاته، ولا يمكن لامرأة أن تتنازل عن عفتها، ولا أن يتنازل بلد عن حريته». وقد أقر مبدأ اللغة في كل مكان، عدا تلك الحالة الوحيدة. وتسبب تقرير اللجنة في ألم كبير في أنحاء المناطق الناطقة بالماراثية. وتقارير الاجتماعات الاحتجاجية أوضحت «أن أي شيء غير مهاراشترا متحدة عاصمتها مدينة بومباي لن يقبل». وحذر جادجيل من أن تلك المشاعر لو لم تجد آذانا مصغية، فسوف يتقرر مصير بومباي في شوارعها.
حثت لجنة إعادة توزيع الولايات المهاراشتريين على تقبل خسارة بومباي باسم الوحدة الوطنية. واحتج جادجيل على محاولة الابتزاز تلك؛ فقال إنه طوال 150 عاما مضت، ساهم المهاراشتريون بإيثار في إنماء المشاعر الوطنية؛ فأسس متحدثو الماراثية أول مدرسة وجامعة هندية، وساهموا في تأسيس حزب المؤتمر الهندي. وكان الماراثيون «في طليعة التحرك العنيف » ضد البريطانيين. وفيما بعد، في مطلع القرن العشرين، عندما أصاب الضعف حزب المؤتمر، «من الذي ضخ فيه دماء جديدة؟ من طرح العقائد الجديدة والفلسفة الجديدة؟ كان ذاك هو لوكمانيا تيلاك؛ ففي حركة الإدارة الذاتية التي تزعمها، وفي الحركة التي هبت في عشرينيات القرن العشرين لم نتخلف عن أي من المقاطعات وسبقنا كثيرا منها ... وسأكتفي بترديد الشهادة التي منحنا إياها المهاتما غاندي نفسه ولا غيره بأن مهاراشترا خلية نشطة للعمال الوطنيين». وحتى الآن، في الهند المستقلة، كان أحد أبناء مهاراشترا - فينوبا بهافي - هو الذي «يحمل راية الفلسفة الغاندية ويعمل على نشر رسالته من مكان لآخر».
فيما يتعلق بمسألة بومباي، استمع أبناء مهاراشترا إلى مواعظ بشأن ضرورة «العمل من أجل وحدة البلاد وأمنها وصالحها». ولكن - حسبما قال جادجيل في مرارة - طوال السنين المنصرمة «لم نفعل سوى ذلك». كان ختام خطبة جادجيل مؤثرا، وآخر جملة فيه كانت الأفضل؛ إذ قال: «إن مطالبتنا بخدمة الأمة كمطالبة خشب الصندل بنشر شذاه.»
34
حينذاك تحولت دفة المسألة - مثلما تنبأ جادجيل - من المجلس إلى الشوارع، التي حذرت إحدى صحف بومباي الأسبوعية من أنها «يعتمل في ثناياها اضطراب قد يتفجر في شكل قوة جبرية مخيفة تستحيل معها الحياة المنظمة لفترة من الوقت».
35
وعمل رجال السياسة اليمينيون واليساريون على تأجيج مشاعر السخط. فالزعيم الشيوعي إس إيه دنجى ألقى بثقله وراء ساميوكتا مهاراشترا، وكذلك فعل السياسي البارز ابن الطائفة الدنيا، بي آر أمبيدكار. وكان معهم حزب جانا سانج، والاشتراكيون، الذين ربما كانوا الأكثر نشاطا على الإطلاق. كذلك انضم إلى ركابهم كثير من أعضاء حزب المؤتمر المعارضين، مشكلين بذلك ائتلافا ممثلا شاملا من المهاراشتريين الغاضبين المحبطين.
وقد انعكس هذا النطاق الشمولي الرحب في صورة اسم معدل؛ حيث تحولت ساميوكتا مهاراشترا باريشاد إلى ساميوكتا مهاراشترا ساميتي. أفضل ترجمة لكلمة «باريشاد» هو لفظ منظمة، الذي يعبر عن محورية دور الموظفين المسئولين، أما كلمة «ساميتي» - أو جمعية - فتشير إلى مسعى أكثر تعاونية وتشاركية.
36
في الساعات الأولى من يوم 16 يناير، هجمت شرطة بومباي على الزعماء والنشطاء في لجنة العمل الحديثة التشكيل لعموم أحزاب ساميوكتا مهاراشترا، خوفا من وقوع متاعب، واعتقلت نحو 400 شخص إجمالا؛ مما استثار دعوة لإقامة إضراب عام يوم 18 يناير. وفي ذلك اليوم، أغلقت المتاجر والمصانع، وتوقفت الحافلات والقطارات عن عملها، وانطلقت المسيرات في الشوارع تحرق دمى لنهرو ورئيس وزراء ولاية بومباي متحدث الجوجاراتية، مورارجي ديساي. وعندما توقف صحفي أوروبي لالتقاط صورة لصورة نهرو، وهي ممزقة وملقاة على أرض الشارع لتطأها الأقدام، «تعالت هتافات هائلة من الشرفات ومن أسطح البنايات، وهتف الناس: «التقط الصورة، التقطها وأر العالم رأينا في نهرو».»
37
وعصر يوم 16 يناير سجلت أول اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين. كانت الجماهير في حالة ثورة، وأعملت السلب والنهب في المتاجر والمكاتب. ولقرابة أسبوع أصيبت المدينة بحالة شلل كامل؛ فاستدعي خمسة عشر ألف شرطي للتصدي لمثيري الشغب. وعندما انقشع غبار المعركة، كشف عن أكثر من اثني عشر قتيلا، ودمار ممتلكات تقدر بمليارات الروبيات. كانت تلك أسوأ نوبة شغب في الذاكرة الحية.
38
تسببت أحداث بومباي في هزة كبيرة في أعماق جواهر لال نهرو؛ فقد كتب لأحد زملائه في مجلس الوزراء قائلا: إن مسألة اللغة «أخطر حتى من الناجم الناشئ عن التقسيم وعلينا أن نقدم نموذجا إيجابيا».
39
وإذ انعقدت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في الأسبوع الثالث من يناير، أدانت العنف الذي «عرض بومباي والهند للخزي والعار». وتحت توجيه نهرو، حث الحزب أعضاءه على تحجيم القوى التي تثير «القلاقل والنعرات الانفصالية والإقليمية»، والعمل عوضا عن ذلك على «وحدة جميع أجزاء هذا البلد العظيم». وأصدر رئيسا ولايتي بيهار وغرب البنغال المنتميان إلى حزب المؤتمر بيانا مشتركا اقترحا فيه دمج ولايتيهما في ولاية واحدة، وأملا في أن يثبط ذلك الاتحاد «النزعات الانفصالية»، ويساعد على التقدم الاقتصادي، والأهم من ذلك كله أنه سيقدم «نموذجا مهما لذلك النهج الإيجابي حيال مشكلة الوحدة الهندية» التي دعا إليها زعماء الحزب.
40
كان من حلفاء نهرو وزير الداخلية جي بي بانت، ورئيس وزراء ولاية بومباي؛ مورارجي ديساي. قال ديساي إن هدف المتظاهرين هو «الإطاحة بالحكومة عمليا والاستحواذ على المدينة بالقوة. وكان ذلك هدفهم أيضا من إرهاب العناصر غير المهاراشترية في المدينة ودفعها إلى الخضوع والقبول بانضمام مدينة بومباي إلى مهاراشترا».
عارض إن في جادجيل ذلك التأويل بشدة. وكان اعتقاده أن الإدارة بالغت في رد فعلها . وكتب جادجيل إلى كل من نهرو وبانت قائلا إن استخدام الشرطة لإطلاق النار والضرب بالعصي «بلغ نطاقا يندى له جبين المسئولين البريطانيين السابقين في إنجلترا أنفسهم خجلا». ففي عام 1919، كان البريطانيون قد وصفوا تجمعا سلميا في حديقة جليانوالا باج في أمريتسار بأنه «تمرد على الحكومة»، حتى يبرروا المذبحة التي أمر بها الجنرال داير. وبالمثل بالغ مورارجي ديساي في وصف التظاهرات في بومباي بغية «تبرير فظائع الشرطة». وكتب جادجيل بمرارة: عندما «كان الخيار بين مورارجي ومهاراشترا»، اختارت دلهي مورارجي استنادا إلى أن «الشخص القادر على إطلاق النار هو إداري جيد». لكن التكاليف التي تكبدها الحزب نظير تلك المواجهة كانت باهظة؛ فقد «أسفر إطلاق النار العشوائي من جانب الشرطة وغير ذلك من الأعمال الوحشية عن تنفير المهاراشتريين تماما من حزب المؤتمر وحكومة الهند».
41
وفي تلك الأثناء، تأججت مشاعر السخط في الصدور. وكان الشعار الذي تردد على شفاه المهاراشتريين جميعا (تقريبا) هو: «سنواجه العصي والرصاص، ولكننا سنحصل على مدينتنا بومباي في النهاية.»
42
وفي يوم 26 يناير - عيد الجمهورية - رفعت رايات سوداء في عدة مناطق تسكنها الطبقات العاملة في بومباي. وعندما خطط جواهر لال نهرو لزيارة بومباي في شهر فبراير، أعد أعضاء ساميوكتا مهاراشترا عريضة وقعها 100 ألف طفل، بغية تقديمها إلى رئيس الوزراء، وعليها شعار «أيها العم نهرو، سلم بومباي». ثم جاء نهرو، ولكن في ظل حراسة مشددة؛ فلم يلتق بالصحفيين، ناهيك عن الأطفال.
43
وفي يونيو 1956 كان من المزمع عقد جلسة حزب المؤتمر السنوية في بومباي، فقوبل نهرو برايات سوداء في المطار، وعلى طول الطريق إلى المدينة. كان التوتر سائدا في الأجواء خارج قاعة الاجتماع. وفي اليوم الثاني من الجلسة، قذف حشد من الناس أعضاء الحزب بالحجارة، فأصيب عدة أشخاص؛ مما دفع الشرطة إلى إغراق الحشود المتجمعة بوابل من قذائف الغاز المسيل للدموع.
وفاقم من مشكلات نهرو عدم الرضا الذي أصبح جليا لدى بعض أعضاء حزب المؤتمر المهاراشتريين؛ فقد استقال وزير المالية - سي دي دشموك، الذي كان أيضا نائب منطقة كوبالا الساحلية في البرلمان - من منصبه احتجاجا على عدم تخصيص مدينة بومباي لولاية مهاراشترا، وتبعته استقالات أخرى.
أثناء صيف عام 1956، انتظر الطرفان في لهفة قرار الحكومة المركزية بشأن بومباي. فعلى الرغم من قبول مجلس الوزراء بالتوصيات الأخرى للجنة إعادة توزيع الولايات، فقد أشيع أن نهرو ووزير الداخلية - جي بي بانت - كانا ميالين لجعل مدينة بومباي إقليما اتحاديا منفصلا. ولكن في ظل المناخ السائد بدا ذلك الخيار غير قابل للتطبيق. وفي يوم 1 نوفمبر نشأت الولايات الجديدة القائمة على اللغة، وانضمت إليها ولاية بومباي الثنائية اللغة. وكان التنازل الوحيد المقدم للمتظاهرين هو الاستعاضة عن رئيس الوزراء مورارجي ديساي بماراثي في الحادية والأربعين من عمره؛ هو واي بي تشافان.
44
7
مثل تشكيل الولايات اللغوية، ضمن ما مثل، انتصارا للإرادة الشعبية؛ فتلك لم تكن رغبة جواهر لال نهرو، ولكنها كانت رغبة بوتي سريرامولو. وقد أضرب سريرامولو عن الطعام ثمانية وخمسين يوما، تجاهل رئيس الوزراء الأمر تماما في أول خمسة وخمسين يوما منها. وخلال تلك الفترة - حسب رواية أحد الصحفيين - طاف نهرو أرجاء الهند، وألقى 132 خطابا، كلها عن موضوعات غير اللغة.
45
ولكن ما إن أقر نهرو إقامة ولاية أندرا، وأنشأ لجنة إعادة تنظيم الولايات، لم يعد ثمة مفر من إعادة تنظيم البلد كله على أساس اللغة.
كشفت حركات الولايات اللغوية عن عمق غير عادي في المشاعر الشعبية؛ فبالنسبة إلى الكاناديين والأندريين والأوريين والمهاراشتريين، مثلت اللغة علامة على الهوية أقوى من الطائفة الاجتماعية أو الديانة. تجلى ذلك في كفاحهم، وفي السلوك الذي بدر منهم عندما كلل كفاحهم بالنصر.
كان من العلامات الدالة على ذلك الرعاية الرسمية للفنون؛ فقد بذلت جهود عظيمة وأموال طائلة لتمويل الكتب والمسرحيات والأفلام المؤلفة أو المعروضة باللغة الرسمية للولاية. نتج عن ذلك تمويل تفاهات كثيرة، وكثير من الأعمال القيمة أيضا . وعلى وجه التحديد، فقد ازدهر الأدب الإقليمي منذ إعادة تنظيم الولايات على أساس لغوي.
تجلى ذلك أيضا في المعمار؛ فأصبح بناء عاصمة جديدة - أو على الأقل مجلس تشريعي جديد - شرطا لازما للولايات الجديدة؛ ففي أوريسا - على سبيل المثال - كلف مهندسان معماريان بتصميم وتخطيط مجموعة كبيرة من البنايات الحكومية، وقيل لهما إنها لا بد أن «تمثل الثقافة الأوريسية وحرفيتها». وقد أكثر العمل النهائي من توظيف الأنماط الفنية ذات الطابع المحلي؛ من أعمدة، وأقواس، وصور منحوتة للآلهة. وكتب مؤرخ معمار مدينة بهوبانشوار الجديدة أنه «معمار انبثق من تراب الوطن، مقدسا وطاهرا».
46
وتمثل تجل أكثر بهاء للكبرياء الإقليمي في البناء الجديد الذي استخدم مجلسا وأمانة لولاية ميسور. شيد ذلك البناء في مواجهة محكمة بنجالور العليا، البناء الأنيق ذي الأعمدة المدهون باللون الأحمر والذي ربما لا يزال هو البناء الأجمل في المدينة. إلا أن رئيس وزراء ميسور - كيه هانومان تايا - اعتبر المحكمة العليا أثارة للاستعمار؛ فسعى في البداية إلى الحصول على إذن بهدمها، وعندما رفض طلبه، قرر تشييد بناء جديد للمجلس التشريعي يفوق المحكمة حجما وبهاء. وكان على البناء الجديد أن يعبر عن «فكرة القوة والكرامة، إذ شيد على الطراز الهندي - ولا سيما الميسوري - ولم يكن غربيا خالصا».
انتقى المنتج النهائي توليفة متنوعة من الطرازات المعمارية للممالك العظيمة التي قامت على هضبة كارناتاكا. وأعطى هانومان تايا عمال البناء تعليمات محددة للغاية؛ إذ طلب منهم محاكاة الأعمدة في حجرة بعينها بإحدى قصور ميسور، أو أبواب من معبد قديم بعينه. وقد انتهى الأمر بالبناء إلى خليط مهيب، إن جاز التعبير. إلا أنه حقق الهدف الرئيسي المرجو منه، وهو: الوقوف «على قدم المساواة، والتفوق على المحكمة العليا الاستعمارية»؛ ومن ثم «يؤدي بنجاح دور الجوهر المستخلص لكبرياء كانادا».
47
عندما بدأت الحركة الساعية إلى إنشاء الولايات اللغوية، أثارت مخاوف عميقة لدى نخبة الحركة القومية؛ فقد خشوا أن تسفر تلك الحركة عن تفتيت الهند، وإنشاء نماذج أخرى عديدة من باكستان. وجاء في صحيفة «تايمز أوف إنديا» في أوائل فبراير 1952 أن «أي محاولة لإعادة رسم خريطة الهند على أساس لغوي لن تسفر إلا عن إتاحة فرصة طال انتظارها للقوى الرجعية كي تبرز إلى السطح وتوطد أقدامها، وهو ما من شأنه أن يقوض الوحدة الهندية من جذورها».
48
ولكننا عندما نسترجع الأحداث، يبدو لنا أن إعادة التنظيم على أساس اللغة عززت وحدة الهند عوضا عن تقويضها. صحيح أن الآثار الناجمة عنها - مثل بناء المجلس التشريعي في بنجالور - لم ترض أذواق الجميع، وصحيح أن نزاعات خطيرة نشبت بين الولايات بشأن اقتسام مياه الأنهار، إلا أنه بصفة عامة مثل إنشاء الولايات اللغوية قناة بناءة إلى حد بعيد للتعبير عن الكبرياء الإقليمي؛ فقد ثبتت إمكانية أن يكون المرء كاناديا - أو تاميليا أو أوريا - مسالما وكذلك هنديا راضيا.
أتى مثال مبكر على ذلك في انتخابات المجلس التشريعي في أندرا عام 1955؛ فقبل ثلاثة أعوام، كان أداء حزب المؤتمر في تلك المنطقة كارثيا. كان الحزب موضع ارتياب بسبب مماطلته بشأن مسألة إنشاء ولاية أندرا. وفي المقابل، نجح الشيوعيون في ركوب موجة «أندرا العظمى». ولكن عام 1955، بعدما ترسخت أسس ولاية أندرا براديش، حقق حزب المؤتمر نصرا ساحقا، بينما مني خصومهم الرئيسيون - الشيوعيون - بهزيمة منكرة. وحينذاك، كتب أحد الأشخاص معلقا بارتياح: «لن تعود أندرا ديسا (أحد الأسماء التي أطلقت على أندرا براديش) مشتبها بها بصفتها معقلا محتملا للشيوعيين في الهند.»
49
لم ينفصل الأندريون عن الهند، ولكنهم وضعوا تعريفا جديدا لكون المرء هنديا، أو على الأقل أحدهم فعل ذلك. بوتي سريرامولو رجل طواه النسيان الآن، وهو أمر مؤسف؛ إذ إنه اضطلع بدور غير هامشي في تاريخ بلاده، وكذلك جغرافيتها؛ فصيامه وما أتبعه أوقد شرارة إعادة رسم خريطة الهند على أسس لغوية؛ فإذا كان جواهر لال نهرو هو «صانع» الهند الحديثة، فربما ينبغي أن يدعى بوتي سريرامولو مركاتور الهند الحديثة (مركاتور عالم جغرافيا ابتكر طريقة جديدة لرسم الخرائط، رسم بها خريطة للعالم).
الفصل العاشر
إخضاع الطبيعة
لا بد أن يختار الشعب الهندي ما إذا كان سيتعلم أم يظل جاهلا، وما إذا كان سيقوي صلاته بالعالم الخارجي ويستجيب لتأثيراته أم يظل منعزلا لا مباليا، وما إذا كان سيصير منظما أم متفرقا، جريئا أم وجلا، مغامرا أم سلبيا، دولة صناعية أم زراعية، ثرية أم فقيرة، قوية ومحترمة أم ضعيفة وخاضعة لهيمنة الدول المتقدمة . الأفعال - لا المشاعر - ستكون هي العامل الحاسم.
المهندس إم فيسفسفارايا، كتب عام 1920
التزام الهند بدلالات الاشتراكية لا يقل على الأقل عمقا عن التزامنا بدلالات الاقتصاد الحر ... فحتى أعتى الرأسماليين الهنود يمكن أن يلاحظ من حين لآخر أنه في حقيقة الأمر اشتراكي في أعماقه.
عالم الاقتصاد جيه كيه جالبريث، كتب عام 1958
1
كان المهاتما غاندي يروق له أن يقول: «الهند تعيش في قراها.» فوقت الاستقلال، كان ذلك البلد قائما بالأساس على المزارعين والعمال. نحو ثلاثة أرباع قوة العمل كانت في القطاع الزراعي، وهو القطاع الذي ساهم بما يقرب من 60٪ من الناتج المحلي الإجمالي. وكان ثمة قطاع صناعي صغير نام، مثل المشتغلون فيه نحو 12٪ من قوة العمل و25٪ من الدخل القومي.
كان الفلاح هو عماد الأمة الهندية، والاقتصاد الهندي. وكان ثمة تباين هائل في الممارسات الزراعية المتبعة في أنحاء شبه القارة الهندية. على سبيل المثال، كان ثمة هوة واسعة بين مناطق زراعة القمح في الشمال والغرب - حيث لم تشارك النساء في الزراعة بوجه عام - ومناطق زراعة الأرز في الجنوب والشرق، التي اضطلعت النساء فيها بدور محوري في إنبات الشتلات. وكان ثمة أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة الهندية لا يزرع فيها الأرز ولا القمح؛ فهناك كانت الحبوب الرئيسية المزروعة مجموعة من حبوب الدخن المقاومة للجفاف. وإلى جانب الحبوب، كان الفلاحون يزرعون طائفة واسعة من محاصيل الفاكهة، فضلا عن الغلال الموجهة نحو السوق؛ مثل: القطن وقصب السكر.
ولكن على الرغم من تلك التباينات، كانت الزراعة في جميع أنحاء الهند ذات طابع عملي إلى حد بعيد؛ إذ استندت إلى المعرفة والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، عوضا عن الأفكار المستقاة من الكتب. وفي جميع الأنحاء تقريبا، كانت قائمة على مدخلات محلية بالأساس؛ فالمياه والوقود والعلف والأسمدة؛ تلك الأشياء كلها كانت تجمع في محيط القرية. وكانت الأراضي تحرث بمحراث يجره زوج من الثيران. وكانت المنازل تبنى من الأخشاب والقش المجلوبين يدويا من الغابات المجاورة.
وفي كل مكان، تعايش المشتغلون بالزراعة جنبا إلى جنب مع غير المشتغلين بها. فكان العاملون في القطاع الزراعي، الذين ربما شكلوا ثلثي سكان الريف، يعتمدون بنحو حيوي على الطوائف الخدمية والحرفية؛ من حدادين، وحلاقين، وجامعي قمامة، وما شابههم. واشتمل العديد من المناطق على مجتمعات نشطة من النساجين، بينما اشتملت بعض الأنحاء على جماعات سكانية كبيرة من الرعاة الرحل.
ومن الناحية الاجتماعية أيضا، كان ثمة أوجه تشابه في أساليب الحياة في مختلف أنحاء شبه القارة الهندية؛ فقد كانت نسبة المتعلمين منخفضة جدا. وكانت النعرات الطائفية الاجتماعية شديدة القوة؛ حتى إن القرى كانت تقسم إلى ست أو أكثر من الجماعات التزاوجية (الجاتي). كذلك ضربت النعرات الدينية بجذورها عميقا.
وتخلل ريف الهند طابع الأبدية والاستمرارية؛ فالفلاحون والرعاة والنجارون والنساجون جميعهم عاشوا وعملوا مثل أجدادهم؛ فكما جاء في إحدى الدراسات الاستقصائية في أربعينيات القرن العشرين: «ستجد الحياة البسيطة ذاتها، والصراع ذاته مع التقلبات المناخية (إلا في المناطق المحظية)، وحب الألعاب البسيطة ذاتها، والرياضات والأغنيات، والاستعداد ذاته لمد يد المساعدة للجيران، والديون المالية ذاتها.»
1
إلا أنه بالنسبة إلى القوميين الهنود، كانت الاستمرارية مجرد لفظ محسن للركود؛ فقد كانت الإنتاجية الزراعية منخفضة؛ ومن ثم كانت مستويات التغذية والصحة منخفضة مثلها، والشيء الوحيد تقريبا الذي لم يفتأ يتزايد كان معدل النمو السكاني؛ فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، مع اتساع نطاق الخدمات الطبية، حدث انخفاض سريع في معدل الوفيات. ونظرا لثبات معدل المواليد، فقد كان ثمة زيادة مطردة في تعداد السكان؛ ففيما بين عامي 1881 و1941 ارتفع تعداد سكان الهند البريطانية من 257 مليون نسمة إلى 389 مليون نسمة. وفي الوقت نفسه، انخفضت كمية الحبوب الغذائية المتاحة للفرد من معدل منخفض بالفعل قدره 200 كيلوجرام في السنة إلى 150 كيلوجراما فحسب.
تقريبا منذ تأسس حزب المؤتمر عام 1885، كان القوميون الهنود يتهمون البريطانيين باستغلال الفلاحين. وعزموا على أن يتصدر الإصلاح الزراعي جدول أعمالهم عندما يصلون إلى السلطة. وبدا لهم أنه ثمة ثلاثة برامج تتسم بأهمية محورية؛ الأول: كان القضاء على نظام تحصيل إيرادات الأراضي الزراعية. والثاني: تمثل في توسيع كبير لنطاق الري، وذلك لهدفين؛ هما: زيادة الإنتاجية وتقليل الاعتماد على الأمطار الموسمية. والبرنامج الثالث: كان مختصا بإصلاح نظام حيازة الأراضي؛ ففي شمال الهند وشرقها بصفة خاصة، كان البريطانيون قد شجعوا نظام الملكية الغائبة للأراضي. وفي مناطق أخرى كثيرة أيضا، لم يكن من يفلح الأرض هو مالكها عادة.
وفي حين أن المستأجرين لم يحظوا بالأمان في حيازتهم، فالعمالة الزراعية لم تملك أراضي تفلحها من الأساس. وقد بلغت أوجه عدم المساواة في الاقتصاد الزراعي مستويات حادة بالفعل. وكانت صور الاستغلال عديدة ومبتكرة للغاية؛ ولذا فإلى جانب ضريبة الأراضي، كان ملاك الأراضي في المقاطعات الاتحادية يفرضون على الفلاحين مجموعة من الضرائب الإضافية؛ مثل الضريبة التي تفرض لدفع تكلفة سيارة المالك الجديدة وتلك التي تخصص للإنفاق على أفياله؛
2
فقد كان ملاك الأراضي ميالين إلى معاملة حيواناتهم ومركباتهم أفضل مما يعاملون الفلاحين الأجراء لديهم. وقبل الاستقلال بأسبوعين، نشرت صحيفة تقدمية من مدراس قصة عن المعاناة في ريف مالابار، تحكي عن أحد كبار ملاك الأراضي يملك سبعة أفيال، يلزمه لها 25 ألف كيلوجرام من الأرز غير المقشور، بينما ينال المستأجرون لديه حصص ثلاثة أيام من الغذاء للأسبوع كله.
3
أخذت العناصر الاشتراكية في حزب المؤتمر الوطني تدفع تجاه إلزام الحزب بالإصلاح الزراعي الشامل؛ من قبيل: القضاء على الحيازات الكبيرة، وتعزيز أمان المستأجرين، وإعادة توزيع الأراضي الفائضة. كذلك فقد ناصروا توسيع نطاق الائتمان الزراعي، للتغلب على مشكلة مديونية الفلاحين الواسعة الانتشار.
4
إلا أنه - مثلما أدرك القوميون أيضا - كان لا بد أن يرافق الإصلاح الزراعي دفقة من النمو الصناعي؛ فقد كانت الدولة بحاجة إلى المزيد من المصانع لاستيعاب الزيادة في العمالة العاطلة جزئيا في الريف. وكانت الدولة بحاجة أيضا إلى المصانع لإثبات حداثتها؛ فحتى تدخل الهند زمرة الدول المتقدمة، كان لا بد من أن تتعلم وتتحد وتنفتح على الخارج، والأهم من ذلك كله؛ أن تتجه إلى التصنيع.
في زمن الاستعمار، كان ثمة تفاوت حاد بين المصانع المملوكة للشركات البريطانية ونظيرتها المملوكة للهنود؛ فصناعة الجوت - على سبيل المثال - كانت تحت سيطرة الأجانب إلى حد بعيد، بينما كانت المنسوجات القطنية في يد الأهالي . وكثيرا ما كان الراج البريطاني يتهم (عن حق في معظم الأحيان) بتعمد تثبيط المشروعات الهندية، وإحداث خلل في هيكل التعريفات والتجارة لصالح الشركات البريطانية. وفي حين أن بعض الرأسماليين الهنود كانوا مصرين على الابتعاد عن السياسة، كان آخرون منهم مؤيدين متحمسين لحزب المؤتمر. وبطبيعة الحال كانوا يأملون في عكس مسار تلك التحيزات عند مجيء الحرية، بحيث يوضع الرأسماليون الأجانب في موقف ضعف.
5
فإن كان على الهند أن تتجه إلى التصنيع، فأي نموذج كان يجدر بها أن تتبع؟ من وجهة نظر زعماء الحركة القومية، كانت «الإمبريالية» و«الرأسمالية» توجهين بذيئين. وكما أشار جون كينيث جالبريث، فإنه «حتى وقت قريب مثل جزء كبير من المشروعات الرأسمالية في الهند امتدادا لذراع السلطة الإمبريالية، بل إنها مثلت إلى حد ما سبب وجودها المعلن. ونتيجة لذلك، يحمل الاقتصاد الحر في آسيا الوصمات الإضافية للاستعمار، وهذا عبء رهيب».
6
ماذا كانت البدائل إذا؟ كتب بعض القوميين بإعجاب عن الاتحاد السوفييتي، وعن «إعماله المذهل للمعرفة العلمية الحديثة في حل ما يعانونه من مشكلات الفقر والحاجة»؛ ومن ثم تحوله في غضون عقدين من الزمان لا أكثر «من مجتمع فلاحين شبه جائعين إلى عمال صناعيين حسني التغذية والملبس». تحقق ذلك عن طريق «إزالة دافع الربح من صناعاته التي تنتمي إلى الأمة وتتطور لصالحها»، وذلك من خلال إنجازات هندسية عظيمة صنعت من الأنهار «مصادر جبارة للطاقة الكهربائية»، ومنظومة تخطيط وضعها خبراء نزهاء أدت إلى زيادة الإنتاج تسعة أمثال وفيها «انعدمت البطالة وفوضى الإنتاج».
7
نموذج آخر حظي بإعجاب كبير كان هو اليابان؛ فعندما زار عضو حزب المؤتمر البارز لالا لاجبت راي ذلك البلد أثناء الحرب العالمية الأولى، انبهر بالتحول الذي طرأ عليه؛ إذ تبدلت حاله من البدائية (الزراعية) إلى التحضر (الصناعي) في غضون خمسين عاما فحسب. واكتشف أن اليابان بنت مصانعها وبنوكها بتعليم عمالها واستبعاد المنافسة الأجنبية. كان دور الدولة محوريا؛ ومن ثم «يرجع الفضل في ازدهار اليابان الصناعي الحالي إلى بصيرة حكومتها وحصافتها ووطنيتها». فاليابان التي كانت يوما متخلفة كالهند «نمت لتصبح معلمة الشرق ومورد جميع كماليات الحياة ورفاهياتها التي اعتاد الشرق جلبها من الغرب».
8
2
في عام 1938، أنشأ حزب المؤتمر لجنة التخطيط الوطنية، وكلفها بوضع سياسة للتنمية الاقتصادية في الهند التي كان استقلالها وشيكا. رأس جواهر لال نهرو تلك اللجنة، التي تألفت من نحو ثلاثين عضوا في المجمل، مقسمين بالتساوي تقريبا بين ميادين العلم والصناعة والسياسة. وخصصت لجان فرعية لموضوعات محددة مثل الزراعة، والصناعة، والطاقة والوقود، والتمويل، والخدمات الاجتماعية، و«دور المرأة في الاقتصاد الموجه». وحددت اللجنة «الاكتفاء الذاتي القومي» وتحسين مستويات المعيشة بمقدار الضعف في غضون عشرة أعوام بصفتهما الهدفين الرئيسيين. وعرف التخطيط في حد ذاته بأنه «التنسيق الفني - من جانب خبراء نزهاء - للاستهلاك والإنتاج والاستثمار والتجارة وتوزيع الدخل، بما يتفق مع الأهداف الاجتماعية التي وضعتها الهيئات الممثلة للدولة».
9
تعلمت اللجنة من اليابان وروسيا درسا مفاده أن البلدان التي تتأخر في التحول إلى التصنيع لا بد أن تعتمد على تدخل الدولة بنحو حيوي. وكان ذلك يسري على الهند بدرجة أكبر؛ إذ كان اقتصادها مختلا إثر قرنين من الحكم الاستعماري. وكما ورد في أحد تقارير لجنة التخطيط الوطنية، فإن التنمية الموجهة تدعم مبدأ «تغليب الخدمة على الربح»؛ فقد كان ثمة قطاعات كبيرة من الاقتصاد لا يمكن أن يعهد بها إلى القطاع الخاص، وحيث لا يمكن تحقيق أهداف التخطيط إلا من خلال «التعامل مع المسألة باعتبارها مشروعات عامة جماعية».
10
والجدير بالذكر أن القطاع الخاص قبل؛ ففي عام 1944، أصدر مجموعة من رجال الصناعة البارزين ما سموه «خطة التنمية الاقتصادية للهند» (المشهورة أكثر باسم «خطة بومباي»)، أقروا فيها بأن «الترتيب الاقتصادي الحالي، القائم على المشروعات الخاصة والملكية الخاصة، فشل في تحقيق التوزيع المرضي للدخل القومي»، والدولة وحدها هي القادرة على المساهمة في «تقليل التفاوتات في الدخل». كذلك كان دور الدولة ضروريا في زيادة الإنتاج؛ فالطاقة والبنية التحتية والنقل قطاعات شعر الرأسماليون الهنود أنفسهم بالحاجة لاحتكار الحكومة لها. وقالوا إنه في المراحل المبكرة من عملية التصنيع لا بد من أن «تمارس الدولة قدرا لا بأس به من التدخل والرقابة لصالح المجتمع». وبالفعل فإن ««توسيع نطاق» الوظيفة الإيجابية والوظيفة الوقائية للدولة «ضروري» لأي عملية تخطيط اقتصادي واسعة النطاق».
11
تظهر خطة بومباي - التي نسيها أغلب الناس الآن - كذب ادعاء أن جواهر لال نهرو فرض نموذجا للتنمية الاقتصادية المركزية رغما عن إرادة الطبقة الرأسمالية. وإن المرء ليتساءل عما كان خبراء السوق الحرة الحاليون سيقولونه عن تلك الخطة. أغلب الظن أنهم كانوا سيعتبرونها منشورا دعائيا للاقتصاد الموجه، غير جدير بالرأسمالية ورجالها. ولكن الحقيقة أنه ينبغي النظر إليها على أنها تعبير عن روح العصر.
12
كانت روح ذلك العصر مؤيدة تماما للتخطيط المركزي، وشغل الدولة ما سمي «قمم القيادة» في الاقتصاد؛ ومن ثم فقد وجه دستور الهند الحكومة إلى كفالة «توزيع ملكية الموارد المادية للمجتمع وضبطها بما يحقق أفضل إسهام للصالح العام» و«ألا يؤدي سير النظام الاقتصادي إلى تركز الثروة ووسائل الإنتاج بما يفضي إلى محنة عامة». وخلال شهر بعد اعتماد الدستور، أنشأت الحكومة لجنة تخطيط لتطبيق تلك «المبادئ التوجيهية»، رأسها نهرو، وتضمنت وزراء رفيعي المستوى فضلا عن موظفين متمرسين من دائرة الخدمة المدنية الهندية.
في صيف عام 1951، أصدرت لجنة التخطيط مسودة للخطة الخمسية الأولى، ركزت على الزراعة؛ القطاع الأكثر تضررا من عملية التقسيم؛ فإلى جانب زيادة إنتاج الغذاء، تمثلت مواضع التركيز الكبرى الأخرى في الخطة في تنمية وسائل النقل والاتصالات، وتوفير الخدمات الاجتماعية. وعند طرح المقترحات في البرلمان، أشاد نهرو بالخطة باعتبارها أول خطة من نوعها «تضع جوانب الهند كافة - الزراعية والصناعية والاجتماعية والاقتصادية - في إطار فكري واحد». وقال إن عمل تلك اللجنة «أكسب البلد كله «وعيا تخطيطيا»».
13
بلغت توقعات لجنة التخطيط حدا مرتفعا. ومثلما كتب أحد كتاب الأعمدة الصحفية، فإن «أحد مساوئ النظم الديمقراطية هي أنها تعمل بوتيرة أكثر بطئا من غيرها من النظم السياسية. ولكن شعب الهند لن يحتمل أي تباطؤ غير مبرر في نهضته الاقتصادية».
14
وبعد الانتخابات العامة الأولى زادت شدة الإلحاح؛ فانهال النقاد من اليمين واليسار على الخطة الخمسية الأولى لوما وتقريعا باعتبارها تفتقر إلى الرؤية والطموح. صحيح أن إنتاج الحبوب الغذائية شهد زيادة كبيرة، ولكن الناتج في قطاعات أخرى عجز عن بلوغ الأهداف المنشودة.
15
عندما طرح نهرو الخطة الخمسية الأولى، قال: «إنه من الجلي بالنسبة إلي أنه علينا تحويل الهند إلى التصنيع، وبأقصى سرعة ممكنة.» وقد احتل ذلك الهدف موقع الصدارة في الخطة الخمسية الثانية، التي صيغت على يد براسنتا تشاندرا مهالانوبس، عالم الفيزياء والإحصاء خريج جامعة كامبريدج والمتشبع بالفلسفة السنكسريتية والأدب البنغالي؛ باختصار: «شخص مبهر متعدد الثقافات، من نوع الرجال الذين من المحتم أن ينالوا إعجاب نهرو.»
16
كان مهالانوبس - ضمن أمور أخرى - الرجل الذي أدخل علم الإحصاء الحديث في الهند؛ فقد أنشأ عام 1931 معهد الإحصاء الهندي في كلكتا. وفي غضون عقد من الزمان جعل من المعهد مركزا عالمي المستوى للتدريب والبحث. كذلك كان مهالانوبس رائد مجال الأبحاث المتعددة التخصصات؛ إذ طبق أساليبه الإحصائية تطبيقا مبتكرا على مجالات الأنثروبولوجيا والهندسة الزراعية وعلم الأرصاد الجوية.
في فبراير 1949، عين مهالانوبس مستشارا إحصائيا شرفيا لوزارة الاتحاد الهندي. وفي العام التالي ساعد على إنشاء هيئة مسح العينات القومية، وفي العام التالي على ذلك ساعد على إنشاء هيئة الإحصاءات المركزية. أنشئت هاتان الهيئتان بهدف جمع بيانات جديرة بالثقة عن مستويات المعيشة المتغيرة في الهند؛ عن الأجور والوظائف والاستهلاك وما شابه ذلك. وهاتان الهيئتان سبب من أسباب امتلاك الهند مجموعة من الإحصاءات الرسمية الأكثر موثوقية من نظيراتها في أي مكان آخر في العالم غير الغربي.
17
تلك هي الجوانب غير المختلف عليها ضمن الميراث الذي خلفه مهالانوبس. وربما كان الأهم من ذلك - وإن كان أكثر إثارة للجدل بالتأكيد - هو إسهاماته في مجال التخطيط النظري والعملي؛ ففي عام 1954، ألزم نهرو حزبه، وبلده بالتبعية، بتكوين «نمط اشتراكي للمجتمع». وفي العام نفسه، كلفت الحكومة معهد الإحصاء الهندي بدراسة مشكلة البطالة؛ فكتب مهالانوبس مذكرة عن الموضوع، يبدو أنها أعجبت نهرو إلى حد تكليف معهد الإحصاء الهندي مسئولية صياغة الخطة الخمسية الثانية.
وقد تعامل مهالانوبس مع المهمة بجدية بالغة؛ ففي نهايات صيف عام 1954، ذهب في جولة طويلة في أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية؛ فقد أقر بمعاناته «عقدة نقص فيما يتعلق بأمور الاقتصاد». ومن ثم فقد كانت رحلته إلى الخارج تثقيفية - لتحسين معرفته الشخصية بالموضوع - وإن كانت أيضا دعائية دون مواربة؛ فهو كان يأمل أن يمكنه التقرب إلى الاقتصاديين الأجانب من إقناع نظرائهم الهنود بوجهة نظره. فكما أخبر صديق له: «وراء كل شيء ثمة هدف أوحد في ذهني؛ وهو المساعدة الفعالة التي يمكن أن نحصل عليها في وضع خططنا وتنفيذها.»
18
ذهب مهالانوبس إلى الولايات المتحدة أولا، وفيها جمع معلومات عن معاملات المدخلات والمخرجات، التي تنطوي عليها مجموعة مكونة من 40 ألف بطاقة من بطاقات هوليريث المثقوبة. وتحدث إلى صاحب ذلك العمل (فاسيلي ليونتييف، الذي حصل على جائزة نوبل في وقت لاحق)، قبل أن يعبر المحيط الأطلنطي ليقابل أساتذة جامعة كامبريدج. كانت «ألمعهم» جوان روبنسون، التي كانت آنذاك عائدة لتوها من رحلة إلى الصين (حيث «أعجبت كثيرا بالتقدم الذي يحرزونه»). وكانت ترى أن قطاع الاستيراد والتصدير في الهند يلزمه مزيدا من الضوابط الحكومية. وافقها مهالانوبس الرأي، وطلب بدوره إلى روبنسون زيارة الهند في ضيافة معهد الإحصاء الهندي. وقال لها إن تلك الزيارة «يمكن أن تكون مصدر عون كبيرا لنا لأن تأييدها يمكن أن يقنع الناس بأن نهجنا إزاء التخطيط التنموي ليس أحمق؛ فتبسمت وقالت: «نعم، أظن أنني قد أستطيع بث بعض المنطق في عقول اقتصاديي بلادكم».»
ثم عبر مهالانوبس بحر المانش، ليتحدث مع الماركسيين الفرنسيين. ثم حان وقت الانتقال إلى الجانب الآخر من الستار الحديدي؛ فوصل إلى موسكو عن طريق براج، وانبهر على الفور بوتيرة البناء «المذهلة»؛ إذ رأى مباني أكبر بكثير، وتشيد أسرع بكثير مما رأى في حياته كلها. وقد أجرى محادثات مطولة مع الأكاديميين السوفييتيين، الذين قالوا إن الهند إن أرادت «القيام بأي نوع من التخطيط الجاد، فلا بد من الاستعانة بجهود نشطة، ليس لعشرات بل لمئات التكنولوجيين والعلماء والمهندسين». وقد وافقهم مهالانوبس الرأي، ودعاهم لزيارة بلاده، التي كانت في أمس الحاجة إلى «مختصين وخبراء في الجوانب الاقتصادية لعملية التخطيط».
19
وأخيرا آتت تلك الرحلات والمحادثات ثمارها في ورقة بحثية طويلة قدمت إلى لجنة التخطيط في مارس 1954. وفيها حدد مهالانوبس ثمانية أهداف للخطة الخمسية الثانية. تمثل الهدف الأول في «تحقيق نمو سريع للاقتصاد القومي عن طريق توسيع نطاق القطاع العام وزيادة أهميته ومن ثم المضي قدما صوب نمط اشتراكي للمجتمع». والهدف الثاني تمثل في «تطوير صناعات ثقيلة أساسية من أجل تصنيع سلع منتجة بغية تعزيز قاعدة الاستقلال الاقتصادي». كما شملت الأهداف الأخرى والأقل أهمية (كما لنا أن نفترض) إنتاج السلع الاستهلاكية من خلال قطاع المصانع والقطاع العائلي على حد سواء، وزيادة الإنتاجية الزراعية، وتوفير مرافق سكنية وصحية وتعليمية أفضل.
وقد برر التركيز على السلع الرأسمالية بأسلوبين رئيسيين؛ أولا: أنه سوف يصون الاستقلال الاقتصادي - ومن ثم السياسي - لتلك المستعمرة السابقة. وثانيا: أن من شأنه أن يساعد على حل مشكلة البطالة الملحة؛ فقد كان رأي مهالانوبس أن: «البطالة مشكلة مزمنة بسبب عدم توافر السلع الرأسمالية»، وهي لا تحدث «إلا عندما تتعطل وسائل الإنتاج». فكانت أسرع طريقة لخلق الوظائف هي بناء السدود والمصانع.
20
قدمت مسودة خطة مهالانوبس إلى فريق من الخبراء الاقتصاديين؛ فكلهم - عدا واحدا منهم - أيدوا التركيز على السلع الرأسمالية ودور القطاع العام. لا شك أنه كان ثمة بعض التحذيرات؛ فقد حث بعض الاقتصاديين على زيادة التكامل بين الإنتاج الزراعي والإنتاج الصناعي، بينما أبدى آخرون قلقا حيال كيفية توفير تمويل الخطة؛ فزيادة الضرائب لن تكفي بمفردها، وتمويل العجز قد يسفر عن ارتفاع معدل التضخم. ولكن بصفة عامة، أيد الاقتصاديون البارزون في الهند ما بات يدعى بالفعل «نموذج مهالانوبس للتخطيط».
21
مثل ذلك النموذج، من بين أشياء أخرى، استرجاعا للنموذج القومي القديم للسوادشي (الاكتفاء الذاتي)؛ فذات يوم أحرق المتظاهرون أتباع غاندي الأقمشة الأجنبية تشجيعا للمنسوجات المحلية، والآن قرر أتباع نهرو من التكنوقراط صناعة الصلب وآلات التشغيل بأنفسهم عوضا عن شرائها من الخارج. وكما جاء في الخطة الخمسية الثانية، فقد كان التخلف «ناجما في الأساس عن عدم كفاية التقدم التكنولوجي».
22
ومن هذا المنطلق، أصبح الاكتفاء الذاتي هو المؤشر «الوحيد» للتطور والتقدم؛ فمن الصابون إلى الصلب ومن الكاجو إلى السيارات، صار الهنود يوفرون احتياجاتهم من المواد باستخدام الأراضي الهندية والعمالة الهندية والخامات الهندية، وفي المقام الأول، التكنولوجيا الهندية.
يقارن جدول
10-1
بين النفقات القطاعية في كل من الخطة الخمسية الأولى والخطة الخمسية الثانية. من الناحية النسبية، احتفظت قطاعات الطاقة والنقل والاتصالات والخدمات الاجتماعية بالأهمية ذاتها تقريبا. أما التحول الحاسم فكان من قطاع الزراعة إلى قطاع الصناعة، الذي أضيف إليه تضاؤل أهمية الري.
على الرغم من أن الصناعات الثقيلة ستصبح مملوكة للدولة، بقيت مساحة كبيرة للشركات الخاصة؛ وذلك لأنه في ظل «توسع الاقتصاد يحظى القطاع الخاص بسوق أكيدة». ويأتي الإسهام الرئيسي للشركات الخاصة في صورة سلع استهلاكية، تنتجها الوحدات الكبيرة والصغيرة على حد سواء.
23
جدول 10-1: النفقات القطاعية في أول خطتين خمسيتين (المصدر: جمعت الأرقام من كتاب إيه إتش هانسون «عملية التخطيط: دراسة في الخطط الخمسية الهندية، 1950-1964» (لندن: مطبعة جامعة أكسفورد، 1966)، الجدول
21-1 ).
القطاع
النفقات في الخطة الأولى
النفقات في الخطة الثانية
الإجمالي *
بالنسبة المئوية
الإجمالي *
بالنسبة المئوية
الزراعة والتنمية المجتمعية
372
16
530
11
الري
395
17
420
9
الطاقة
266
11
445
10
الصناعات والمعادن
179
7
1075
24
النقل والاتصالات
556
24
1300
28
الخدمات الاجتماعية، الإسكان، إلخ
547
25
830
18 *
بالكرور روبية (الكرور = 10 ملايين).
أصدرت الحكومة قرارا عام 1956 صنف الصناعات الجديدة إلى ثلاث فئات: كانت الفئة الأولى هي «المسئولية الخالصة» للدولة، وشملت: الطاقة الذرية، والصناعات ذات الصلة بالدفاع، والطائرات، والحديد والصلب، وتوليد الكهرباء ونقلها، والمعدات الكهربائية الثقيلة، والهواتف، والفحم وغيره من المعادن المهمة. والفئة الثانية اشترك فيها القطاع العام والقطاع الخاص على حد سواء، وتضمنت: المعادن الأقل أهمية، والمواد الكيميائية، والمستحضرات الدوائية، والأسمدة، والورق وعجين الورق، ووسائل المواصلات. أما الفئة الثالثة فشملت الصناعات المتبقية كافة، والتي تكفلت بها «عادة مبادرات القطاع الخاص ومشروعاته».
24
هل كان نموذج مهالانوبس مقدرا له النجاح؟ كان ذلك الظن السائد لدى هنود كثر، وأمل معظمهم بالتأكيد، وكذلك أمل كثير من المتعاطفين معهم في أنحاء العالم أجمع. من النماذج الممثلة لذلك الرأي: جيه بي إس هالدين، عالم الأحياء البريطاني العظيم، الذي كان يخطط آنذاك للانتقال إلى الهند والالتحاق بمعهد الإحصاء الهندي. فعندما عرضت عليه مسودة الخطة التي وضعها مهالانوبس، كان تعليق هالدين هو الآتي:
حتى إن كان المرء متشائما، ووضع في اعتباره احتمال فشل قدره 15٪ نتيجة تدخل الولايات المتحدة (عن طريق باكستان أو غيرها)، واحتمال تدخل من جانب الاتحاد السوفييتي والصين قدره 10٪، واحتمال قدره 20٪ للتعارض مع نزعة دائرة الخدمة المدنية إلى التمسك بالتقاليد ووضع العراقيل السياسية، واحتمال قدره 5٪ للتدخل من جانب النزعة التقليدية الهندوسية، فسيتبقى لدينا احتمال نجاح قدره 50٪ من شأنه أن يغير مسار التاريخ العالمي بأكمله إلى الأفضل.
25
3
إذا كان مهالانوبس هو كبير فنيي التخطيط الهندي، فقد كان نهرو أكبر المبشرين به؛ فقد كان رئيس الوزراء مؤمنا بأنه في السياق الهندي، كانت عملية التخطيط تنطوي على ما هو أكثر بكثير من مجرد إعمال للاقتصاد الرشيد، فقد انطوت على إعمال السياسة السليمة أيضا. وفي حين أن الخطة الخمسية كانت قائمة على عمل الاقتصاديين والإحصائيين، فإن تحقيق أهدافها يتطلب «تحلي الناس بحس الشراكة في إطار مشروع هائل، وكونهم رفقاء سفر في السعي وراء الهدف الذي وضعناه نحن وهم نصب أعيننا». فقد كانت المشاركة الشعبية هي السبيل الوحيد لتحويل «هذه الخطة - الواردة في نص جامد - إلى كيان حي، نابض بالحيوية والديناميكية، يأسر خيال الناس».
26
ومن ثم مثلت عملية التخطيط «جهدا تعاونيا هائلا لشعب الهند كله». كان نهرو يأمل في أن تعالج المشروعات الجديدة الانقسامات الطبقية والدينية والمجتمعية والإقليمية. وإذ طرح الخطة الأولى على رؤساء وزارات الولايات، كتب: «كلما فكرنا في هذه الصورة المتوازنة للهند ككل وأنشطتها المتعددة الجوانب - الشديدة التداخل بعضها مع بعض - تناقص احتمال انحرافنا إلى المسارات الملتوية للنعرات الإقليمية والطائفية والطبقية وسائر النزعات الأخرى المفضية إلى الاضطراب والتفكك.» وعندما طرح الخطة الثانية، أطلق عليها «محاولة شجاعة لصياغة مستقبلنا»، سوف «تتطلب كل ما أوتينا من قوة وطاقة». فقد كان يعتقد أنه «في نهاية المطاف سيكون ذلك هو السبيل الوحيد لمعالجة النزعات الانفصالية والإقليمية والطائفية التي يتعين علينا محاربتها».
27
وعلى الصعيد الاقتصادي، حدد نهرو نشاطين باعتبارهما يوفران «الأساسين الضروريين» للتخطيط، وهما: إنتاج الطاقة وإنتاج الصلب.
28
عندما نالت الهند الاستقلال، لم يكن لديها سوى مصنعين للصلب، كلاهما مملوكان لأشخاص، كانا ينتجان ما يربو قليلا على مليون طن في العام؛ وهي كمية لم تكن كافية لاقتصاد في طور التوسع، لا سيما اقتصاد التزم بإقامة صناعة ثقيلة.
منع القطاع الخاص من إقامة مشروعات جديدة في مجال صناعة الصلب، الذي اعتبر - إلى جانب الفحم وصناعة السفن والطاقة الذرية وإنتاج الطائرات - أهم من أن يخضع لدافع الربح. وقد كان حزام الغابات الممتد عبر وسط الهند غنيا بخام الحديد والفحم، وكذلك جرت فيه أنهار كثيرة؛ فبدأت على الفور منافسة نشطة بين الولايات في ذلك الحزام؛ حيث سعت كل منها لإقامة أول مصنع صلب حكومي داخل حدودها. وقامت بالتوازي منافسة بين البلدان الصناعية في الغرب، التي رغب كل منها في الحصول على عقد بناء أول مصنع.
29
وضعت الخطة الثانية هدفا قدره 6 ملايين طن من الصلب. كان ذلك الناتج مطلوبا لتوفير مدخلات صناعات أخرى مخطط لها. ولكنه كان وسيلة أيضا لتعزيز الادخار القسري؛ فحسب التعبير الشهير لأحد الاقتصاديين: «لا يمكنك أكل الصلب.» وأثناء وضع اللمسات الأخيرة على الخطة الثانية، وقعت الحكومة الهندية ثلاث اتفاقيات منفصلة لبناء مصانع صلب؛ فكان من المزمع أن يبني الألمان مصنعا في روركيلا بأوريسا، ويبني الروس آخر في بيلاي بولاية ماديا براديش، بينما تقرر بناء المصنع البريطاني في دورجابور بغرب البنغال. أما الأمريكيون فكان من دواعي أسفهم أنهم خسروا تلك الفرصة؛ فكان اقتناص اثنين من بلدان أوروبا التي مزقتها الحرب عقدين لبناء مصانع أمرا سيئا بما فيه الكفاية، وزاد الأمر سوءا حصول خصم الولايات المتحدة البغيض في الحرب الباردة على العقد الثالث. وبعد مرور سنوات، ذكر صديق أمريكي كيف أذاع المذيع الشهير إد مورو خبر قرار حصول روسيا على عقد بناء المصنع في بيلاي بنبرات يشوبها حزن ملموس.
30
لا شك أن روسيا سرها ذلك الخبر أيما سرور؛ فقد زار نيكيتا خروتشوف بيلاي ووصفها بأنها «ماجنيتاجورسك الهند» (مدينة ماجنيتاجورسك هي مقر أكبر مصنع للحديد والصلب في روسيا). ونشرت صحيفة «برافدا» الروسية مقالات مصورة وافرة تشيد ببيلاي باعتبارها رمزا للتعاون الهندي السوفييتي.
31
وكانت الهند أكثر حماسا؛ فقد ذكر كيميائي بنغالي كان يعمل في بيلاي أن رئيسه الروسي أصبح - مع مرور السنين - صديقا حميما له أيضا. وعندما حان وقت رحيل الخبير الأجنبي، لم يستطع مرءوسه الهندي أن يتمالك عبراته. احتفظ الخبير الروسي برباطة جأشه، ولكن دموع التعاطف ترقرقت في عيني زوجته. بالنسبة إلى الكيميائي البنغالي، تلك العبرات «لم تكن بالنسبة إلي سوى قطرات من مياه نهر الفولجا المقدسة، تغلغلت في مجرى نهرنا، نهر الجانج، وفاضت على أخوتنا وصداقتنا الباقية».
في بيلاي، عمل الروس والهنود جنبا إلى جنب؛ في إخلاء الأراضي، وتشييد الطرق والمساكن، وإقامة المصنع. وإن المشاركين في تلك الجهود ليذكرونها بمودة دافئة؛ فقد ذكر أحد المشاركين فيها أنها كانت «جهدا محموما غير مذعور، ونسقا مقترنا بخطة. كان فريق البناء شديد الزهو بالمصنع الجديد الذي أتى به إلى الحياة وراضيا عنه، بينما انتابت فريق العمل لهفة قلقة لرعايته حتى يبلغ كامل طاقته ... فكل منا كان يساعد على بناء المستقبل - مستقبل كاد المرء يراه ويلمسه ويتحسسه». وأخيرا، في فبراير 1959، أمام عيني رئيس الهند الحانيتين، خرج أول حديد مصهور من فرن لافح في بيلاي؛ فسالت دموع الفرحة والحبور في جميع الأنحاء. ولفترة طويلة ظل من حضروا ذلك الحدث يذكرونه بأنه «أكثر لحظات حياتهم تشويقا».
32
وقد وصف أحد كبار المسئولين صناعة الصلب الهندية بأنها «مدرسة فنية، وفي الوقت نفسه المحرك الرئيسي للأنشطة الصناعية الأخرى».
33
والحقيقة أنها كانت أكثر من ذلك؛ فمصنع الصلب دحض الاعتقاد بأن الهنود غير منتجين وغير مواكبين للعلم الحديث، أو باختصار: متخلفون.
4
أثناء عملية التحديث الاقتصادي للهند، شغلت السدود الكبيرة مكانة خاصة إلى حد كبير؛ فهي من ناحية كانت ستتيح تحرير الزراعة من استبداد الأمطار الموسمية، ومن ناحية أخرى توفر الطاقة الكهربائية اللازمة لتشغيل الصناعات الجديدة الواردة في الخطط الخمسية. كانت السدود تثير انبهار جواهر لال نهرو، وأطلق عليها «معابد الهند الحديثة». وشاركه انبهاره ملايين من أبناء بلده، الذين صاروا ينظرون بعين الإجلال والتوقير إلى تلك الصروح الشامخة الجديدة المبنية بالطمي والأسمنت.
كان المثقفون الهنود بالغي الإعجاب بهيئة وادي تينيسي، المشروع المتكامل الذي مثل الركيزة الأساسية لبرامج الصفقة الجديدة التي طرحها فرانكلين روزفلت. ولكنهم أعجبوا أيضا بالمشروعات العملاقة المتعددة الأهداف التي أقامها الاتحاد السوفييتي؛ ففي أربعينيات القرن العشرين، في الفترة السابقة على الاستقلال، سافر العلماء والمهندسون الهنود إلى الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لاكتساب معرفة مباشرة بكيفية بناء السدود؛ فانبهروا بشدة بما رأوه؛
34
فعلى جانبي الستار الحديدي على حد سواء، مثلت تلك المشروعات «انتصارا للعلوم والتكنولوجيا والبصيرة والحكومة المركزية على السياسة والسلطات والقوى المحلية الضيقة الأفق وعلى الجهل والخرافة والرجعية». ومثلت فعليا «خلاص الأمة عبر المنطق الرشيد والقوة».
35
وعلى غرار أمريكا وروسيا، كانت شبه القارة الهندية تتمتع بأنهار كبيرة عدة؛ فكانت إقامة السدود على تلك الأنهار، وترويضها، من شأنها أن تضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: تولد الطاقة، وتوفر مياها للري، وتمنع إغراق الفيضانات للأراضي؛ فبعد نوبة فيضان فتاكة بحق لنهر جودافاري عند هطول الأمطار الموسمية عام 1953، كتب مهندس بارز إلى سياسي بارز أن ذلك نهر:
ينطوي على احتمالات منفعة هائلة. إلا أن الدمار الذي أحدثته الفيضانات هذا العام أثبت أن مياه الفيضانات تلك إن لم تسخر لاستخدام نافع، فسوف تشكل خطرا محتملا على رفاه الناس. وإن اتبعت معها أساليب الحفظ السليمة، فيمكن أن تلبي كافة احتياجات حوض نهر جودافاري وتخلف احتياطات وفيرة، سوف تتيح عند دمجها مع مياه نهر كريشنا منافع من الري والطاقة يمكن مدها وصولا إلى مدراس وجنوبها ... لذا يتعين علينا ألا ندخر وسعا في سبيل تطويع مياه نهر جودافاري، وإحداث الاندماج الأمثل بينها وبين مياه نهر كريشنا، وكذلك لا ينبغي السماح لأي أسباب خارجية بأن تعطل إتمام هاتين العمليتين أو تعرضهما للخطر.
36
كان ذلك أحد الدعاة التكنوقراط، أثناء حديثه إلى معتنقي فكره. ففي حين أن نهر جودافاري كان لم يزل خاليا من السدود، فمعظم الأنهار الكبرى الأخرى كانت خاضعة بالفعل للسيطرة. ومن بين مشروعات بناء السدود الكبرى الجارية آنذاك كانت مشروعات بناء السدود على أنهار ماهانادي وريهاند وتونجابهادرا ودامودار وسوتليج.
وفي منتصف خمسينيات القرن العشرين، كتب عالم السياسة هنري هارت في أحد كتبه وصفا حماسيا للتحول الذي حدث في أنهار «الهند الجديدة». رأى هارت أن تلك المشروعات هي «أعظم صروح الهند الحرة»؛ فإليها «يأتي الناس رجالا ونساء، في وفود متنامية موسما بعد موسم، ليروا بأنفسهم السدود والقنوات ومحطات الطاقة». وقد أورد هارت أيضا في كتابه وصفا دقيقا إلى حد بعيد لعملية بناء سد تونجابهادرا؛ فعند الانتهاء منه، كان ذلك السد سيجسد 32 مليون قدم مكعب من أحجار البناء، التي وضعت بمعدل 40 ألف قدم مربع في اليوم، يوميا لمدة خمسة أعوام؛ فلا يمكن التعبير عن حجم ذلك العمل إلا بالتشبيه، وقد كتب عنه هارت الآتي: «تخيل الأحجار التي استخدمت في بناء سد تونجابهادرا موضوعة لإقامة طريق سريع، عرضه 20 قدما، وسمكه 6 بوصات. مثل ذلك الطريق سيمتد من لكنو إلى كلكتا، أو من بومباي إلى مدراس.»
37
لا شك أن أرفع تلك المشروعات مقاما كان مشروع سد باكرا-نانجال في شمال الهند. ومرة أخرى، فإن خير وسيلة للتعبير عن حجمه هي الأرقام. ذلك السد - الذي بلغ ارتفاعه 680 قدما - كان ثاني أعلى سد في العالم؛ حيث لم يفقه ارتفاعا سوى سد كولي الكبير، القائم على نهر كولورادو. وبلغت تقديرات كمية الأسمنت والأحجار التي ستستخدم فيه في نهاية المطاف 500 مليون قدم مكعب؛ أي «أكثر من ضعف حجم سبعة من الأهرامات المصرية العظيمة بالأقدام المكعبة». وكان من المتوقع أن يولد ذلك المشروع قرابة مليون كيلوواط من الكهرباء سنويا، بينما يمكن للمياه المتجمعة في الخزان أن تروي 7,4 ملايين فدان من الأراضي. وكان من المفترض أن تنتقل مياه الري عبر القنوات، التي استلزم حفرها إزالة 30 مليون ياردة مكعبة من الطمي والحجارة.
38
مثل ذلك المشروع نوعا من التعويض للمزارعين اللاجئين من غرب البنجاب، وبديلا عن «مستعمرات القنوات» التي تركوها وراءهم على الجانب المقابل من الحدود. هؤلاء الفلاحون - الذين كان معظمهم من السيخ - استشعروا «توقا بلغ حد الاستماتة لأن يعيدوا في حياتهم الرخاء الذي حرموا منه بقسوة». فقد منحهم سد باكرا- نانجال «الحقول والموارد التي يمكن استغلالها في إعادة البناء وإعادة توطين أنفسهم». وفي الواقع، فقد منحهم ذلك السد ما هو أكثر من ذلك؛ إذ أمدهم بالطاقة إضافة إلى المياه، التي أصبح بإمكان أهل البنجاب - إن شاءوا - أن يبنوا بها مستقبلا صناعيا لهم لأول مرة.
ورد وصف مفصل بدقة لمشروع باكرا-نانجال في عدد خاص من مجلة «إنديان جورنال أوف باور آند ريفر فالي ديفلوبمنت»: افتتح العدد بمجموعة مكونة من أربع صور عظيمة الدلالة. عرضت الصورة الأولى الموقع الكثيف الأشجار قبل البدء في العمل، وأسفلها التعليق التالي: «نهر سوتليج في باكرا في رونقه البدائي - الموقع كما كان.» وعرضت الصورة الثانية هياكل شبيهة بالرافعات في المياه وجسرا منخفضا ممتدا عبر الوادي الضيق، وكان التعليق الوارد أدناها هو: «حفر استطلاعي في قاع النهر باستخدام حفارات مثبتة على جسور عائمة - الغزو الأول.» أما الصورة الثالثة - التي أخذت في موسم الجفاف على ما يبدو - فظهرت فيها جوانب التلال التي كانت آنذاك شبه جرداء، والشاحنات والجرافات جاثمة على قاع النهر، وكتب أسفلها: «بدء صب الأسمنت لتشييد السد - إرساء الإنسان قواعد تغيير الطبيعة.» وفي الصورة الأخيرة، كان السد قد بدأ يعلو، بالاستعانة بآلات ذات أشكال وأحجام لم تسبق رؤيتها في الهند، وجاء التعليق بالأسفل كالآتي: «جار الحفر بالآلات الثقيلة في منطقة الحفر - الصراع مع الطبيعة.»
39
كان جميع الرجال والنساء العاملين في باكرا هنودا، باستثناء واحد. كان ذلك الاستثناء أمريكيا يدعى هارفي سلوكم. لم ينل سلوكم حظا كبيرا من التعليم الرسمي، وإنما بدأ مساره المهني عاملا في مصنع للصلب، ثم ارتقى إلى منصب مشرف البناء في سد كولي الكبير. انضم سلوكم إلى فريق باكرا بوصفه كبير المهندسين عام 1952، وطبعه ببصمته المميزة في العمل؛ فقد أمر الموظفين والعاملين من كافة المستويات بارتداء زي موحد. وكان سلوكم نفسه يأتي إلى الموقع في تمام الساعة الثامنة صباحا، ويبقى فيه حتى ساعة متأخرة من المساء . ولما كان صارما في فرضه النظام والانضباط، لم يقبل بالكسل والتقصير المتفشيين من حوله؛ فذات مرة، عندما حدث عطل في شبكة الاتصالات الهاتفية، كتب إلى رئيس الوزراء يخطره أن: «الرب وحده، وليس سلوكم، هو القادر على بناء سد باكرا في الموعد المقرر.»
40
في الأسبوع الأول من يوليو 1954، زار نهرو باكرا ليفتتح المشروع رسميا. وإذ نقر بإصبعه مفتاح تشغيل محطة الطاقة، مالت طائرات داكوتا التابعة للقوات الجوية الهندية بجناحها في السماء. وبعد ذلك فتح نهرو بوابات السد. عندما رأى أهل القرى أسفل النهر اندفاع المياه نحوهم، أطلقوا مئات الألعاب النارية المنزلية الصنع. ومثلما كتب أحد الشهود العيان، فإنه «على مدى 150 ميلا، انتشرت الاحتفالات الصاخبة كالتفاعلات المتسلسلة على طول القناة العظيمة وفروعها وقنوات التوزيع حتى أطراف صحراء راجستان، قبل وصول المياه إليها بزمن».
41
5
في إطار الدفع بالهند تجاه التصنيع، وجب اضطلاع التكنولوجيا ومختصيها بدور رئيسي؛ فقد كان جواهر لال نهرو منبهرا بالعلوم الحديثة منذ أيام دراسته في جامعة كامبريدج. وكتب يقول: «إن العلم هو روح العصر والعامل المسيطر في العالم الحديث.» وكان نهرو يرغب في أن يشكل ما سماه «المزاج العلمي» كافة مجالات النشاط الإنساني، بما في ذلك مجال السياسة. وعلى نحو أكثر تحديدا، ففي بلد متخلف مثل الهند، لم يكن بد من تسخير العلم لخدمة التقدم الاقتصادي، مع تكريس العلماء عملهم لزيادة الإنتاجية والقضاء على الفقر.
42
وقت نيل الهند استقلالها كانت نسبة الإنفاق على البحث العلمي لا تتجاوز 0,1٪ من الناتج الوطني الإجمالي. وفي غضون عقد من الزمان قفزت تلك النسبة إلى 0,5٪، وفي مرحلة لاحقة تجاوزت 1٪. وتحت إدارة نهرو النشطة، أنشئت سلسلة من المعامل البحثية الجديدة، مستقلة عن الجامعات القائمة، سيرا على النموذج الفرنسي. وشمل نطاق اختصاص مجلس البحوث العلمية والصناعية نحو أربعة وعشرين معهدا قائما بذاته. كان ثمة أجندة نفعية قوية قيد العمل؛ إذ شجع العلماء في تلك المعامل على ابتكار منتجات جديدة للهنود عوضا عن نشر الأبحاث الأكاديمية في الدوريات الأجنبية.
43
ومن العلماء الهنود الذين حظوا بدعم نهرو المبكر والمتواصل : الفيزيائي النابغة خريج جامعة كامبريدج، هومي بهابها. أسس بهابها صرحين علميين كبيرين وتولى إدارتهما؛ الصرح الأول: كان معهد تاتا للبحوث الأساسية في بومباي، الذي كان موجها - كما يتضح من اسمه - إلى البحوث الأساسية في المقام الأول. حوى ذلك المعهد قسمين عالميي المستوى للفيزياء والرياضيات، وكذلك ضم - بعد فترة - أول كمبيوتر مركزي في الهند. أما الصرح الثاني: فكان مؤسسة الطاقة الذرية، التي أوكلت إليها مهمة بناء مفاعلات الطاقة النووية الهندية وإدارتها. تلقت تلك المؤسسة تمويلا سخيا من الحكومة؛ إذ وصلت ميزانيتها السنوية - عام 1964 - إلى نحو 100 مليون روبية.
44
كذلك افتتح عدد كبير من كليات الهندسة، منها المعاهد الهندية للتكنولوجيا ذات المكانة الرائدة، التي دشن خمسة منها بين عامي 1954 و1964. وعلى غرار المعامل الجديدة، كان الهدف المرجو من الكليات الجديدة هو زيادة القدرات الفنية الوطنية؛ فقد كان كل من نهرو وبهابها عازما على الحد من اعتماد الهند على الغرب من أجل الحصول على الخامات العلمية والخبرات؛ فقد كانا يريان أنه «إذا استوردت إحدى المعدات من الخارج، لا ينال المرء سوى تلك الأداة. أما إذا صنعها بنفسه، فسيتعلم درسا بالغ الأهمية في الخبرة أيضا».
45
6
خففت مجموعة من البرامج المشجعة على النهوض بالزراعة حدة التحيز الصناعي للتخطيط الهندي؛ ففي صباح يوم 2 أكتوبر 1952 (ذكرى مولد المهاتما غاندي)، دشن رئيس الهند - عبر بث إذاعي على الراديو - برنامجا للتنمية المجتمعية على مستوى الدولة. أطلق في ذلك اليوم خمسة وخمسون مشروعا في مختلف أنحاء الهند، بتمويل مشترك من حكومتي الهند والولايات المتحدة الأمريكية. وكان من المخططات التي شجعها برنامج التنمية المجتمعية: طرق وآبار وبرامج بيطرية وأساليب زراعة محسنة.
انطلقت تلك المشروعات على يد وزراء ورؤساء وزراء ولايات ومندوبين حكوميين؛ حيث ساعد هؤلاء الأشخاص الرفيعو المقام على إزالة التراب من أجل بناء الطرق، وأرسوا قواعد المدارس والمستشفيات. وفي قرية أليبور، أخذ جواهر لال نهرو يحفر التراب، على بعد اثني عشر ميلا خارج حدود دلهي على الطريق إلى كارنال، للمساعدة في تمهيد الطريق. وقيل إنه «انخرط في العمل بحيوية وحماس، بعدما خلع سترته». وحمل رفيقه - السفير الأمريكي - بعض سلال التراب أيضا. ولكن لم يكن الجميع بمثل لياقتهما؛ فعندما حاول مسئول متأنق أن يحذو حذو رئيس الوزراء، هتف به أهل القرية قائلين ما معناه: «احمل السلال على رأسك أيها الأحمق، لا بيديك!» وإذ تحدث نهرو إلى أهل القرى، قال إن التنمية المجتمعية من شأنها أن تأتي بثورة ريفية، بالسبل السلمية، وليس بتهشيم الرءوس، كما في أنحاء أخرى.
46
كيف كان سير تلك الخطط عمليا؟ بعد مرور عامين على بدئها، تناول عالم الأنثروبولوجيا إس سي دوبيه بالدراسة مشروعا للتنمية المجتمعية في غرب أوتر براديش. نظر إليه من منظور «العاملين على مستوى القرية»، وهم موظفون حكوميون كلفوا بتوصيل الأفكار الجديدة إلى الفلاحين.
وفقا لرواية دوبيه، كان «عملاء التغيير» هؤلاء يتحلون بالطاقة والمغامرة بلا شك؛ فقد كانوا يستيقظون عند مطلع الفجر وينكبون على العمل طوال اليوم. تضمنت مهامهم توضيح مزايا البذور والأسمدة الكيميائية الجديدة لأهل القرى، فكانوا يجربونها على رقع من الأراضي استخدمت كعينات؛ حيث راح الفلاحون يراقبون عملهم بينما كانوا يشرحون الأساليب العلمية لغرس الزروع بالمحفار؛ فجربت محاصيل مختلفة، كذلك توليفات متنوعة من الأسمدة. كذلك فقد قدم «العمال على مستوى القرية» أسمدة عضوية إنجليزية إلى الفلاحين مجانا لكي يستخدموها في حقولهم.
ويبدو أن فلاحي أوتر براديش كانوا متأرجحين إلى حد ما إزاء التقنيات الجديدة. وإليكم نص حوار دار بين أحد العاملين على مستوى القرية (كيو) ومزارع يشار إليه بالأحرف الأولى من اسمه (إم إس):
كيو :
ما رأيك في البذرة الجديدة؟
إم إس :
وماذا يمكن أن يكون رأيي؟ إذا كانت الحكومة تظن أنها جيدة، فلا بد أنها جيدة.
كيو :
هل تظنها أفضل من النوعية المحلية؟
إم إس :
نعم، إنها مقاومة للأمراض بدرجة أكبر بكثير. ويمكنها الصمود أمام الصقيع والأمطار، والطلب عليها أكبر في السوق.
كيو :
وماذا عن الغلة؟
إم إس :
لست أدري. البعض يقولون إنها أكثر، وآخرون يقولون إن ذلك غير صحيح.
كيو :
البعض يقولون إنها ليست طيبة المذاق كالبذور المحلية.
إم إس :
إنهم محقون؛ فمذاقها لا يرقى إلى نصف مستوى مذاق البذور المحلية. إذا قدم الخبز ساخنا يظل مذاقه كما هو تقريبا، ولكننا إذا أبقيناه ساعة أو نحوها يصير قاسيا كالجلد. لا، إنها ليست طيبة المذاق. والناس يقولون إننا جميعا يصيبنا هزال شديد إذا تناولنا هذا القمح.
كيو :
وما خبرتك في هذا الصدد؟
إم إس :
عدد المصابين باضطرابات الهضم أكبر بكثير هذه الأيام. وأطفالنا يعانون السعال ونزلات البرد. ربما كان ذلك يعزى إلى البذرة الجديدة وقصب السكر. وربما أفسدت الحروب الهواء.
كيو :
وماذا عن السماد الجديد؟
إم إس :
إنه يزيد الإنتاجية، وهذا مما لا شك فيه. ولكنه على الأرجح يدمر حيوية الأرض وحيوية الحب أيضا.
47
انتابت الفلاحين الهنود مشاعر متضاربة حيال البذور والأسمدة الجديدة. ولكنهم رحبوا بشدة بإمدادات المياه الجديدة. وبينما كان إس سي دوبيه يدرس التنمية المجتمعية في أوتر براديش، كانت عالمة الأنثروبولوجيا البريطانية سكارليت إبستاين تعيش في ونجالا، وهي قرية في جنوب ميسور كان قد دخلها في الآونة الأخيرة الري بالقنوات؛ فقبل مجيء الماء، كانت مثل أي قرية صغيرة أخرى في المحيط الداخلي للدكن، تزرع الدخن لاستهلاكها المحلي. ومع دخول الري، جاءت محاصيل جديدة مثل الأرز وقصب السكر، بيعت خارج القرية نظير ربح لا بأس به؛ فبلغت أرباح بيع الأرز بعد خصم النفقات 136 روبية في الفدان، بينما بلغت أرباح قصب السكر 980 روبية في الفدان. وتمخضت تلك التغيرات التي طرأت على الأوضاع الاقتصادية المحلية عن تغيرات في نمط الحياة أيضا؛ فقبل وصول القنوات، كان سكان قرية ونجالا يرتدون ملابس رثة ونادرا ما يبارحون قريتهم. ولكن «رجال ونجالا صاروا الآن يرتدون القمصان وبعضهم يرتدي المئزر الهندي أيضا، بينما ترتدي زوجاتهم أردية الساري الزاهية الألوان التي اشترينها بالمال، وجميعهم ينفقون ببذخ على حفلات الزفاف. وأصبح رجال ونجالا يكثرون من زياراتهم إلى المدينة؛ حيث يرتادون المقاهي ومحلات التودي (عصارة النخيل المخمرة المحلاة)، وأصبح الأرز هو غذاءهم الأساسي عوضا عن الدخن الإصبعي».
تلك التغيرات وغيرها لم تكن لتصير في الإمكان لولا مد قنوات الري. وكما تكشف لإبستاين، فقد مثل مجيء مياه القنوات نقطة تحول في تاريخ تلك القرية؛ فصارت الأحداث البارزة - مثل الزفاف، والوفيات، وجرائم القتل - تؤرخ حسب حدوثها قبل دخول الري أو بعده.
48
7
أدت كفالة الري والأسمدة الكيميائية إلى زيادة الإنتاجية الزراعية، ولكنها لم تتمكن من حل مشكلة جوهرية في ريف الهند، وهي: التفاوت في حيازة الأراضي. ومن ثم، فقد حث الفلاحون المعدمون على استيطان مناطق لم تسبق زراعتها؛ ففي العقد الأول من الاستقلال، استوطن ما يقرب من 500 ألف هكتار من الأراضي، معظمها من غابات الملاريا شمالي منطقة تيراي، وتلال الهند الوسطى، وسلسلة جبال الجات الغربية. قبل ذلك، لم يسكن تلك المناطق سوى قبائل مقاومة جينيا لمرض الملاريا. ثم تسنى للدولة إزالة الغابات بعد اختراع المبيد الحشري دي دي تي. كانت تلك الأراضي ذات طبيعة خصبة، وغنية بالكالسيوم والبوتاسيوم والمواد العضوية (وإن كانت فقيرة في الفوسفات). وعلى أي حال، فإنه لم يكن ثمة نقص في الفلاحين الراغبين فيها.
49
تمثل سبيل آخر للتعامل مع مسألة عدم امتلاك أراض زراعية في إقناع كبار ملاك الأراضي بالتنازل طواعية عن جزء من ممتلكاتهم. كانت تلك وسيلة ابتدعها أحد تلاميذ غاندي، هو: فينوبا بهافي؛ ففي عام 1951، قام بهافي بجولة سيرا على الأقدام عبر أنحاء تيلانجانا التي كانت آنذاك تحت سيطرة الشيوعيين؛ ففي قرية بوشمبالي، أقنع أحد كبار ملاك الأراضي الزراعية - رامتشاندرا ريدي - بالتبرع بمائة فدان من أرضه، وهو ما شجع بهافي على تحويل جهوده إلى حملة على مستوى البلاد، عرفت بحملة بهودان. توغل بهافي في قلب الهند، ملقيا الخطب أينما يذهب؛ فقطع مسافة ربما تصل إلى 50 ألف ميل، حصل خلالها على أكثر من 4 ملايين فدان. في البداية، اعتبرت حملته ناجحة؛ فهي مثل التنمية المجتمعية، كانت بديلا غانديا نبيلا عن الثورة العنيفة. ولكن الآراء التي صدرت بعد ذلك في حقه كانت أقل كرما؛ فلا شك أن بهافي تحلى بشيم القديسين، ولكنه مثل بعض القديسين الآخرين كان يفضل البادرات العظيمة على التفاصيل الرتيبة؛ فقد أشار منتقدوه إلى أن معظم الأراضي التي تبرع بها أصحابها إلى بهافي لم توزع قط على المعدمين، وإنما ردت مع مرور السنين إلى ملاكها الأصليين شيئا فشيئا. وإضافة إلى ذلك، فكثير من الأراضي التي بقيت ضمن نطاق حركة بهودان كانت صخرية ورملية، وغير ملائمة للزراعة. وكانت الأماكن التي نظم فيها المستفيدون المستهدفون لكي يفلحوا الأراضي التي وهبت لهم قليلة جدا؛ فبوضع جميع العوامل في الاعتبار، لا بد أن تحسب حملة بهودان فاشلة، وإن كان فشلها اجتذب اهتماما كبيرا.
50
جدول 10-2: حيازة الأراضي الزراعية في الهند، 1953-1960 (المصدر: نريبن بانديوبادهيايا، «قصة الإصلاحات الزراعية في عملية التخطيط الهندية»، في العمل الذي حرره أميا كومار باجتشي، «الاقتصاد والمجتمع والكيان السياسي: مقالات في الاقتصاد السياسي للتخطيط الهندي على شرف الأستاذ بهاباتوش داتا» (كلكتا، مطبعة جامعة أكسفورد، 1988)).
فئة الحجم (بالهكتار)
النسبة المئوية للحيازة
النسبة المئوية للمساحة المشغلة
1953-1954
1959-1960
1953-1954
1959-1960
أقل من 1
56,15
40,70
5,58
6,71
1 إلى 2
15,08
22,26
10,02
12,17
2 إلى 4
14,19
18,85
18,56
19,95
4 إلى 10
10,36
13,45
29,22
30,47
أكثر من 10
4,22
4,74
36,62
30,70
تمثل سبيل ثالث للقضاء على انعدام ملكية الأراضي لدى البعض في استخدام ذراع الدولة؛ فالتشريعات المعنية بالإصلاحات الزراعية لطالما كانت مدرجة على جدول أعمال حزب المؤتمر. وبعد الاستقلال، مررت الولايات المختلفة تشريعا أبطل نظام الإقطاع، الذي منح ملاك الأراضي الغائبين - في ظل الاستعمار البريطاني - حقوق ملكية نافذة؛ فحرر إبطال ذلك النظام رقعا كبيرة من الأراضي الزراعية لإعادة توزيعها، بينما حرر أيضا المستأجرين من الضرائب والإيجارات التي كانت تحصل منهم سابقا.
بعد انتهاء نظام الإقطاع، ركزت الدولة حقوق الملكية في أيدي المستأجرين، الذين كانوا ينتمون عادة إلى الطوائف الاجتماعية الوسطى. أما الفئة التي لم تطلها يد التغيير فكانت الفئة التي احتلت قاع السلم الطائفي، مثل العمال والمزارعين المستأجرين من الطوائف الدنيا؛ فقد كان رفاههم يستلزم مرحلة ثانية من الإصلاحات الزراعية، يفرض فيها حد أقصى على الحيازة، وتسلم الحيازات الزائدة إلى المعدمين. وتلك كانت مهمة عجزت الحكومة أو امتنعت عن الاضطلاع بها.
51
وحتى بعد عقد من التخطيط، ظلت حيازة الأراضي متفاوتة للغاية، كما يتبين من جدول
10-2 .
جدول 10-3: التغيرات في تفاوت حيازة الأراضي في الهند، 1953-1960
فئة المزارعين
النسبة المئوية للحيازة
النسبة المئوية للأراضي المشغلة
1953-1954
1959-1960
1953-1954
1959-1960
صغار وهامشيون
85,42
81,81
34,16
38,83
متوسطون وكبار
14,58
18,19
65,84
61,17
إذا عرفنا مالكي أقل من أربعة هكتارات بأنهم مزارعون «صغار وهامشيون»، ومالكي أكثر من أربعة هكتارات بأنهم «مزارعون متوسطون وكبار»، فسوف يتسنى ضغط هذا الجدول في آخر أصغر منه (انظر جدول
10-3 ).
يكشف جدول
10-3
عن انخفاض طفيف في معدل التفاوت؛ إذ انخفض عدد المزارعين «الصغار والهامشيين» بمعدل 3,6٪، بينما ارتفعت نسبة الأراضي في حيازتهم بمعدل 4,6٪. والكلمة المحورية هنا هي «طفيف»؛ فهو طفيف إلى حد يكاد يكون غير ملحوظ، وببساطة غير مقبول في ظل دولة ديمقراطية ملتزمة ب «نمط اشتراكي للمجتمع».
8
ركز نموذج نهرو ومهالانوبس على الصناعات الثقيلة، وسيطرة الدولة، وفي نهاية المطاف: دور تابع للقطاع الخاص. استند ذلك النموذج إلى إجماع واسع النطاق، وليس في الهند فحسب؛ فقد كان الاعتقاد في ضرورة احتلال الدولة في ظل الاقتصاد الحديث المركب «قمم القيادة» اعتقادا سائدا لدى الحكومات والمنظرين في جميع أنحاء العالم.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، نجح تدخل الحكومة الهادف في إخراج البلاد من الكساد العظيم. وفي بريطانيا، طبقت حكومة حزب العمل التي تسلمت مقاليد السلطة عام 1945 مبادئ الاقتصاد الكينزي بحماس. كذلك فقد ازداد تقدير دور الدولة بوصفها عاملا إيجابيا في عملية التغيير الاقتصادي إثر الإنجازات الأخيرة للاتحاد السوفييتي؛ ففي وقت الحرب العالمية الأولى كانت روسيا دولة زراعية متخلفة، وبحلول الحرب العالمية الثانية كانت قد أصبحت قوة صناعية جبارة. وكان المبهر بصفة خاصة هو انتصاراتها العسكرية على ألمانيا، التي كانت تتمتع بتاريخ أطول منها بكثير في التنمية التكنولوجية والصناعية؛ فبالنسبة إلى الدول الديمقراطية الغربية، أبرزت الإنجازات السوفييتية أهمية توجيه الدولة للتنمية الاقتصادية.
52
لا شك أنه كان ثمة أصوات معارضة. في الغرب كان فريدريش هايك، الذي دعا إلى تراجع دور الدولة في ساحة النشاط الاقتصادي. إلا أن أفكاره عوملت بازدراء حميد، وأحيانا أقل من حميد. (فهو لم يستطع حتى أن يحصل على منصب في قسم الاقتصاد في جامعة شيكاجو، وإنما عين في اللجنة المعنية بالفكر الاجتماعي.) وفي الهند كان بي آر شينوي الاقتصادي الوحيد ضمن لجنة الخبراء الذي عارض النهج الذي تبنته الخطة الخمسية الثانية من أساسه؛ فحسبما كتب أحد المعلقين، شينوي «بدا ملتزما بأساليب الاقتصاد الحر على نحو عقائدي بحت إلى حد حال دون التفات أحد - خارج بعض دوائر الأعمال - لانتقاداته».
53
في الحقيقة، كانت الحجج التي دفع بها شينوي تتجاوز مجرد إيمان بالاقتصاد الحر؛ ففي حين أنه كان يعارض «التوسع العام في التأميم من حيث المبدأ»، فقد كان الانتقاد الرئيسي الذي وجهه إلى الخطة هو أنها مفرطة الطموح؛ فقد رأى أنها بالغت في تقدير معدل الادخار في الاقتصاد الهندي بدرجة خطيرة. وسيلزم تعويض نقص الأموال بتمويل العجز؛ مما سوف يساهم في زيادة معدل التضخم.
54
كان الاقتصادي ميلتون فريدمان من جامعة شيكاجو معارضا آخر؛ فعند زيارته الهند في عام 1955 بناء على دعوة من حكومتها، كتب مذكرة قدم فيها اعتراضاته على نموذج مهالانوبس. كان يراه نموذجا مفرط الاعتماد على الأرقام؛ إذ استحوذت عليه نسب رأس المال إلى الناتج، عوضا عن تنمية رأس المال البشري. وأدان تركيز السياسة الصناعية على حالتين متطرفتين: المصانع الكبيرة التي تستخدم العمالة أقل من اللازم والصناعات المنزلية التي تستخدمها أكثر من اللازم. ومن وجهة نظره كانت «الشروط الأساسية» للسياسة الاقتصادية في البلدان النامية هي «إطار نقدي ثابت وتوسعي باعتدال، وفرصا أوسع بكثير للتعليم والتدريب، ومرافق محسنة للنقل والاتصالات ليس من أجل تعزيز حركة السلع فحسب، بل الأهم من ذلك هو تعزيز حركة الأشخاص، وتهيئة بيئة توفر أوسع نطاق ممكن لمبادرات المزارعين ورجال الأعمال والتجار وطاقاتهم».
55
وقد أشار اقتصادي هندي شاب إلى أحد جوانب هذا النقد، بمعزل عن فريدمان، وهو جانب إهمال التعليم؛ فقد نص الدستور على مجانية التعليم وإلزاميته للأطفال حتى الرابعة عشرة من عمرهم. إلا أن المبالغ المالية المخصصة لهذا الغرض في الخطة الخمسية الثانية كانت - حسبما كتب بي في كريشنامورتي - «منخفضة إلى حد غير معقول». ودعا إلى «زيادة ملموسة» في مخصصات التعليم، وموازنة الميزانية عن طريق إحداث «خفض ملائم في الإنفاق على الصناعات الثقيلة». كذلك كان الانتباه إلى التفاصيل أمرا فائق الأهمية؛ بتعزيز المكانة الاجتماعية لمعلمي المدارس، وزيادة رواتبهم ، وتوفير مبان وساحات لعب أفضل للأطفال. وكان مما قاله كريشنامورتي عن ذلك:
لا شك أن بذل جهود متضافرة على هذا النحو بغية تثقيف عامة الشعب - لا سيما في المناطق الريفية - من شأنه أن يأتي بمنافع بعيدة المدى ذات طبيعة تراكمية توسعية. وهذا من شأنه أن يخفف إلى حد هائل المهمة الملقاة على عاتق الحكومة في إطار تحقيق تنمية اقتصادية سريعة؛ ففي خلال فترة معقولة، يمكن للمرء أن يتوقع تهاوي جهل الناس وخمولهم ونشأة دافع ملح لتحسين ظروف المرء المادية عن طريق استغلال الفرص المتاحة. وإن قدر لذلك أن يحدث، فسوف تحل مشكلة البطالة من تلقاء ذاتها. وسيبدأ شعب هذا البلد في السير في ركب البلدان الديمقراطية المتقدمة مثل بريطانيا العظمى وسويسرا.
56
لو كان بي في كريشنامورتي أستاذا جامعيا في مركز القوة - دلهي - آنذاك عوضا عن محاضر متواضع في بومباي، لربما وجد آذانا مصغية. وفي حالة فريدمان، كان ما عوض منصبه الرفيع ومكانته المرموقة وجود اقتصاديين أجانب مكافئين له في المكانة ومعارضين له في آرائه؛ فقد كان فريدمان بالنسبة إليهم مثل بي آر شينوي بالنسبة إلى الاقتصاديين الهنود؛ مناصرا وحيدا للاقتصاد الحر اكتسحته جموع الديمقراطيين الاشتراكيين واليساريين.
57
وجه الماركسيون نقدا مختلفا؛ إذ ظنوا أن نموذج مهالانوبس منح السوق أهمية أكبر من اللازم، وليس أقل من اللازم؛ فقد شعروا أن الخطة الثانية كان ينبغي أن تفرض عملية تأميم شاملة، لا تقتصر على شروع الدولة في صناعات جديدة فحسب، بل أن تأخذ المؤسسات الخاصة العاملة فعلا تحت جناحها أيضا؛ فقد كانوا يرغبون في إشراك الطبقة العاملة في عملية التخطيط، سيرا على نموذج «الديمقراطيات الشعبية» لأوروبا الشرقية.
58
وإضافة إليهم كان أتباع غاندي، الذين قدموا انتقادا إيكولوجيا سابقا لأوانه للتنمية الحديثة. كان اثنان من تلامذة المهاتما المقربين في طليعة تلك «الحركة البيئية المبكرة»؛ هما: جيه سي كومارابا وميرا بهن (مادلين سليد). وعلى مدار خمسينيات القرن العشرين، مثلت تلك الفئة انشقاقا حادا على الفكر السائد بشأن السياسة الزراعية؛ فقد ذهبا إلى أن منظومات الري الصغيرة أكثر فاعلية من السدود الكبيرة، وأن السماد العضوي وسيلة منخفضة التكلفة ومستدامة لزيادة خصوبة التربة (مقارنة بالمواد الكيميائية التي دمرت الأراضي وراكمت الديون الأجنبية)، وأن الغابات ينبغي إدارتها من منظور الحفاظ على المياه وليس تعظيم العائد (بحماية الغابات الطبيعية المتعددة الكائنات الحية عوضا عن اتخاذ المواقف الأحادية الثقافة التي تفضلها الدولة). وقد مثلت تلك الانتقادات بعينها جزءا من الفهم الأشمل لعالم الطبيعة؛ فكتبت ميرا بهن عام 1949 تقول:
المأساة في يومنا هذا هي أن الطبقات المثقفة الثرية تعيش في معزل تام عن الأساسيات الحيوية للبقاء: الكوكب، والكائنات الحيوانية والنباتية التي تعيش فيه؛ فهذا العالم الذي خططته الطبيعة يتعرض للنهب والتدنيس والتخريب في ضراوة على يد الإنسان متى واتته الفرصة؛ فعلومه وآلاته يمكن أن تجلب له أرباحا هائلة بعض الوقت، ولكن في النهاية سيحل الدمار. علينا أن نتمعن في ميزان الطبيعة، ونطور حياتنا في إطار قوانينها، إذا كان لنا أن نبقى نوعا سليم البدن كريم الخلق.
59
ومن وسائل التكنولوجيا الحديثة التي كان لأتباع غاندي تحفظات عميقة بشأنها السدود الكبيرة؛ فقد كانوا يرون أن السدود الكبيرة مكلفة وتدمر الطبيعة. وسرعان ما اكتشف الهنود أن السدود تدمر المجتمعات البشرية أيضا؛ فبحلول أوائل خمسينيات القرن العشرين، بدأت تظهر قصص عن معاناة الأشخاص المهجرين بفعل السدود. ففي صيف 1952، عندما أصدرت سلطات هيراكود إنذارات بالإخلاء لسكان 150 قرية كان المشروع سيغمرها بالمياه، قوبلت بمقاومة قوية. وقد لخص صحفي الواقعة قائلا: «سوف يبنى ازدهار هيراكود على التضحية بالأشخاص الذين تشردهم حكومة أوريسا الآن دون تعويض ولا إعادة تأهيل.» وبعد مرور ثلاثة أعوام، برزت قصة أخرى عن سكان القرى في هيماجل براديش، الذين اضطروا إلى إفساح الطريق أمام خزان سد باكرا؛ فقد كان عام كامل قد مر على تدشين نهرو لمحطة الطاقة، إلا أن «التهاون واللامبالاة بدوا هما الأساس الموجه لمستشاري مجلس متابعة سد باكرا، ولا سيما لجنة إعادة التأهيل». وحتى «مسألة التعويض الأساسية، وحيثياته ودواعيه وكيفيته، لم تحسم بعد بما يرضي الأشخاص المعنيين».
60
9
الانتقادات القائمة على حرية السوق، والقائمة على رأس المال البشري، والقائمة على البيئة؛ كلها موضوعات رائعة للقراءة في يومنا هذا. ولكن آنذاك كانت تلك الملحوظات المعارضة متناثرة، وضعيفة من الناحية السياسية؛ فقد كان ثمة إجماع طاغ آنذاك لصالح نموذج التنمية الموجه إزاء الصناعات الثقيلة والمدعوم من الدولة. كان ذلك الإجماع في أوساط المثقفين؛ فما لا يقل عن ثلاثة وعشرين من أصل أربعة وعشرين خبيرا اقتصاديا طلب إليه التعليق على خطة مهالانوبس أقروها من حيث المبدأ.
61
وشاركهم ذلك الإجماع قطاعات كبيرة من الطبقة الحاكمة أيضا؛ فرجال الصناعة الرائدون طلبوا في «خطة بومباي» التي وضعوها «توسيع نطاق الوظائف الإيجابية للدولة». ونقلوا مستحسنين رأي الاقتصادي إيه سي بيجو من جامعة كامبريدج القائل بالتوافق التام بين الحرية والتخطيط. بل إن رجال الأعمال الكبار هؤلاء بلغوا حد أن قالوا: «إن التمييز بين الرأسمالية والاشتراكية فقد جزءا كبيرا من أهميته من الناحية العملية؛ فمن عدة نواح توجد الآن أرضية مشتركة كبيرة بينهما والهوة الفاصلة بينهما آخذة في الانكماش باستمرار مع إبداء كل منهما بوادر تعديل نفسها اقترابا من الأخرى. ومن وجهة نظرنا، لا يمكن لتنظيم اقتصادي أن يعمل بفاعلية ولا أن يتمتع بسمات باقية ما لم يقر أساسا مكونا من توليفة حكيمة من المبادئ ذات الصلة بكل من هاتين المدرستين الفكريتين.»
62
وختاما لحديثنا عن رومانسية عملية التخطيط في الهند وسحرها، ندير دفة الحديث إلى صحفي مغمور غطى أحد أبرز مشروعاتها. كان ذلك هو مشروع بوكارو، موقع مشروع للطاقة الحرارية وكذلك خزان كبير؛ فعند زيارة الصحفي للمكان في سبتمبر 1949، قال: «إن بوكارو تقف وسط أرض قاحلة صخرية، تطل على نقطة التقاء نهرين رمليين. وكان المأوى الوحيد هناك هو مكتب المهندس التنفيذي الذي يعمل به ستة أشخاص، دون أي مرافق سكنية أو غيرها من المرافق عدا ذلك. ولم يكن بإمكان المرء الوصول إلى بوكارو إلا بسيارات جيب، وكان علينا أن نحمل طعامنا بأنفسنا.»
وبعد مرور ثلاثة أعوام ونصف، عاد الصحفي إلى بوكارو، ليشهد تدشين رئيس الوزراء لمحطة الطاقة والسد؛ فحينها أعرب عن سعادته البالغة قائلا : «يا لاختلاف المشهد الذي رأته عيناي.» فعند اقترابه من وادي بوكارو على «طريق أسفلتي من الطراز الأول» رأى «الكتل الثلاث المتينة المتراصة لمحطة الطاقة ومن ورائها خلفية التلال الرمادية». وما كان «قاع نهر جاف عام 1949 تحول إلى بحيرة متوسطة الحجم» يمتد سد أسمنتي عبرها. وبالنسبة إلى العاملين في السد والمحطة، أصبح ثمة «منطقة سكنية حديثة ذات طرق مغطاة بالقار، وإنارة كهربائية، ومدرسة ثانوية، ومستشفى، ومياه صالحة للشرب، وجميع وسائل الراحة التي يمكن للمرء أن يتوقعها في يومنا هذا».
63
كتب جواهر لال نهرو يقول: «كلما أرى تلك الأعمال الهندسية العظيمة، أشعر بالإثارة والبهجة؛ فهي رموز مرئية لبناء الهند الجديدة وتوفير الحياة والغذاء لشعبنا.»
64
ويبدو أن مشاعر الإثارة والبهجة تلك كانت سائدة لدى هنود كثيرين آخرين أيضا.
الفصل الحادي عشر
القانون والدين
بعض هذه الحركات التقدمية كانت منبهرة بشدة بنهرو؛ فطالما راق له أن ينظر إليه باعتباره شخصا حديثا؛ فهو يريد أن يكون مثل لوحة لبيكاسو معلقة في الأكاديمية الملكية، فينظر إلى كل الأشكال الكلاسيكية المحيطة به بنوع من التعالي.
الصحفي دي إف كاركا، كتب عام 1953
إنها حقيقة ثابتة أن كل بلد، وكل أمة، له شخصيته الخاصة، اللصيقة به والفطرية، والتي لا يمكن تغييرها؛ فشكسبير وكاليداسا كل منهما شاعر وكاتب مسرحي عظيم ... والهند ... لا يمكنها أن تنجب شخصا من نوعية شكسبير كما أن إنجلترا لا يمكنها أن تنجب أحدا من نوعية كاليداسا. وأسأل رعاة الإصلاح، بكل قوة وثقة بالنفس، ما ضرورة «إضفاء الطابع الأوروبي على القانون الهندوسي»؟ ... فبتقنينه ينشأ خطر إحداث ضرر كبير لحساسيات ملايين الأشخاص ومشاعرهم الدينية.
محام هندوسي، كتب عام 1954
1
سأل الكاتب الفرنسي أندريه مالرو جواهر لال نهرو ذات مرة عن «أكبر الصعوبات التي واجهها منذ الاستقلال»، فأجابه نهرو قائلا: «إقامة دولة عادلة بوسائل عادلة.» ثم أضاف: «وربما أيضا: إقامة دولة علمانية في بلد ديني.»
1
فالحقيقة أن فكرة العلمانية كانت هي الفكرة التي ارتكزت عليها أساسات الهند الحرة ذاتها؛ فقد رفضت الحركة القومية الهندية تعريف نفسها من منطلق ديني. وأصر غاندي على إمكانية وضرورة تعايش الديانات المتعددة في الهند في سلام في إطار دولة حرة. وقد شارك غاندي ذلك الاعتقاد أبرز أتباعه - نهرو - وكذلك جوبال كريشنا جوخال، الذي اعتبره غاندي معلما له.
وقد تعرضت قومية حزب المؤتمر الهندي لضربة موجعة عند الاستقلال؛ فقد جاء الاستقلال، ليس لدولة واحدة - كما كان غاندي ورفاقه يأملون - بل لدولتين. وحينذاك أصبحت العلمانية تواجه مجموعة جديدة من التحديات. كان أحدها يتعلق بمجال قوانين الأحوال الشخصية؛ ففي زمن الاستعمار، خضعت الهند كلها لقانون جنائي موحد، صاغه المؤرخ توماس بابنجتون ماكولي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. إلا أنه لم تجر محاولة للاستعاضة عن قوانين الأحوال الشخصية للطوائف والأديان المختلفة بقانون عقوبات موحد؛ فقد رأى البريطانيون في هذه الحالة أن دور الدولة الاستعمارية يقتصر على التحكيم بين التأويلات المختلفة للشرائع الدينية.
وبعد الاستقلال، كان ممن فضلوا وضع قانون مدني موحد رئيس الوزراء جواهر لال نهرو، ووزير القانون الدكتور بي آر أمبيدكار؛ فكل منهما كان ذا عقلية نازعة إلى الحداثة، وكل منهما كان مدربا حسب التقاليد القانونية الغربية. وبالنسبة إليهما، أصبح إصلاح قوانين الأحوال الشخصية بمنزلة اختبار لحقيقة التزام الهند بالعلمانية والحداثة.
2
تنص المادة 44 من دستور الهند على الآتي: «تسعى الدولة إلى توفير قانون مدني موحد للمواطنين في جميع أنحاء أراضي الهند.»
أثناء مناقشة تلك المادة في الجمعية التأسيسية، أثارت اضطرابا كبيرا، لا سيما فيما بين الأعضاء المسلمين؛ فطوال القرنين اللذين استغرقهما الحكم البريطاني، كان تدخله محدودا في قوانين الأحوال الشخصية؛ فلماذا لا تحذو الدولة التي خلفته حذوه؟ وأشار أحد الأعضاء إلى أنه «فيما يتعلق بالمسلمين، فإن قوانينهم المنظمة لأمور الملكية، والميراث، والزواج، والطلاق «تعتمد اعتمادا كليا» على دينهم». وشعر آخر بأن «السلطة التي منحت للدولة لتوحيد القانون المدني سابقة لأوانها». ورأى ثالث أن ذلك البند يتعارض مع بند آخر في الدستور: حرية نشر الدين وممارسته.
2
فند بي آر أمبيدكار تلك الحجج بقوة؛ فقد رأى أن «الإبقاء على قوانين الأحوال الشخصية ... سيوصلنا إلى طريق مسدود في المسائل الاجتماعية». ففي المجتمعات التقليدية، يفترض الدين تمتعه «بنطاق اختصاص واسع وشامل بحيث يغطي الحياة كلها». إلا أنه لا بد من الحد من هذه الرخصة في النظم الديمقراطية الحديثة، ولو حتى «بغية إصلاح منظومتنا الاجتماعية، المليئة بأوجه الإجحاف والتمييز وغير ذلك مما يتعارض مع حقوقنا الأساسية». وتهدئة للمخاوف، قال أمبيدكار إن الدولة يمكنها أن تختار تطبيق قانون مدني موحد بالاتفاق؛ أي، ألا تطبقه إلا على الأشخاص الذين يختارون الخضوع له طواعية.
3
والواقع أنه خلال السنوات الأخيرة من الحكم البريطاني، بدأ البريطانيون متأخرين في صياغة قانون موحد للهندوس. كان ذلك القانون يسعى إلى التوفيق بين قواعد مدرستي الفكر القانوني الرئيسيتين - ميتاكشارا وديابهاجا - وأشكالهما المحلية المتعددة؛ فأنشئت لجنة عام 1941، برئاسة السير بي إن راو، الذي اضطلع أيضا بدور محوري في صياغة دستور الهند. طافت لجنة راو بأنحاء الهند، لاستطلاع آراء طائفة واسعة من الهندوس بشأن التعديلات التي اقترحها الأعضاء. وقد اعترضت الحرب طريق عمل اللجنة، ولكن بحلول عام 1946 كان أعضاؤها قد أعدوا مسودة قانون للأحوال الشخصية يطبق على الهندوس كافة.
4
كان اختصاص الهندوس دون غيرهم يعزى جزء منه إلى كونهم أكبر جماعة سكانية، وجزء آخر إلى حركة الإصلاح المتحمسة الدائرة فيما بينهم. المهاتما غاندي تحديدا كان قد انتقد أشكال التمييز على أساس الطائفة الاجتماعية والنوع، وسعى إلى إلغاء ممارسة النبذ وإشراك المرأة في الحياة العامة. وعلى الرغم من بقاء قطاع متزمت مؤثر فيما بين الهندوس، فقد قاد الهندوس المحدثون حملات قوية في سبيل وضع قوانين تلغي الفوارق بين الطوائف الهندية وتعزز حقوق المرأة.
وفي عام 1948، شكلت الجمعية التأسيسية لجنة مختارة لمراجعة مسودة القانون الهندوسي الجديد. رأس تلك اللجنة بي آر أمبيدكار، بصفته وزير القانون. راجع أمبيدكار القانون الذي صاغته لجنة راو بنفسه، قبل إخضاعه لعدة قراءات متمعنة من جانب اللجنة المختارة.
وعلى الرغم من أن هذا القانون كان موجها بالأساس للهندوس، فقد تقرر تطبيقه على السيخ والبوذيين والجاينيين، إلى جانب كافة الطبقات والطوائف الاجتماعية. وعندما طرح أمبيدكار مشروع القانون الجديد، أخبر الجمعية أنه يهدف إلى «تقنين قواعد القانون الهندوسي المبعثرة في عدد لا حصر له من الأحكام الصادرة عن المحاكم العليا والمجلس الخاص، والتي تشكل خليطا متنافرا يحير الرجل العادي وتسفر عن منازعات قضائية مستمرة». وكان لذلك التقنين غرضان؛ أولا: الارتقاء بحقوق المرأة الهندوسية ومكانتها، وثانيا: التخلص من أوجه التفاوت والانقسام المرتبطة بالطوائف الاجتماعية. وقد تضمنت السمات البارزة للتشريع المقترح الآتي: (1)
تخصيص «النصيب ذاته كالابن» للأرملة والابنة في أملاك المتوفى دون أن يترك وصية (التي كانت في الماضي تئول إلى الورثة الذكور فقط). وبالمثل، صارت ملكية المرأة الهندوسية - التي كانت مقيدة فيما سبق - مطلقة، ويحق لها التصرف فيها كيفما شاءت. (2)
توفير نفقات الإعاشة للزوجة التي تختار العيش بعيدا عن زوجها إن كان مصابا ب «مرض كريه»، أو يقسو عليها، أو اتخذ خليلة، أو غير ذلك. (3)
الاستغناء عن القواعد الحاكمة للطوائف الرئيسية والفرعية في إقرار مشروعية الزواج؛ فجميع الزيجات المعقودة بين الهندوسيين تتساوى في قدسيتها فضلا عن قانونيتها، «بصرف النظر» عن الطائفة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأزواج. وأصبح من الممكن إتمام مراسم الزواج بين الطوائف الاجتماعية المختلفة بما يتماشى مع الأعراف والطقوس المتبعة لدى «أي» من الطرفين. (4)
السماح لأي من الطرفين بطلب الطلاق والحصول عليه لأسباب معينة؛ مثل: القسوة والخيانة الزوجية والأمراض المستعصية وما إلى ذلك. (5) «الإلزام» بالزواج الأحادي. (6)
السماح بتبني أطفال ينتمون إلى طائفة اجتماعية مختلفة.
قطعت تلك التغييرات شوطا كبيرا باتجاه إقامة العدل بين الجنسين. بعد فترة طويلة، قالت باحثات نسويات إن تلك التغييرات لم تبلغ حدا كافيا؛ فقد استثنت الملكية الزراعية - على سبيل المثال - أو إن المزايا التي منحتها القوانين الجديدة للوريثات كانت أكبر في حالة الملكية المكتسبة ذاتيا مقارنة بالملكية الموروثة.
5
ولكن من وجهة نظر الاتجاه الأصولي الهندوسي كانت التغييرات قد قطعت شوطا كبيرا بالفعل؛ فقد مثلت خروجا جذريا عن المتن الرئيسي للقوانين الهندوسية، حيث يكون للابن نصيب أكبر بكثير من الزوجة والابنة في تركة والده، وحيث يعد الزواج رباطا مقدسا ومن ثم لا يجوز حله، وحيث يسمح للرجل باتخاذ عدة زوجات ، وحيث يخضع الزواج للقواعد الطائفية الصارمة.
أحيانا كان أمبيدكار يتخذ موقفا دفاعيا إلى حد ما عند تقديمه الحجج المساندة لتلك التغييرات؛ فقد قال إن نصوص شسترا - النصوص الهندوسية المقدسة - لم تمنح الزوج «حقا غير مقيد أو مشروط للزواج المتعدد». فقد «قيد المشرع القديم كوتيليا الحق في الزواج مرة ثانية بدرجة كبيرة». وكذلك طالما أبيح الطلاق بموجب القانون العرفي للطوائف الاجتماعية الدنيا المتنوعة، أو الشودرا (المنبوذين). أما عن حق النساء في الملكية، فقد أجازت بعض مدارس الفكر القانوني لها نصيب الربع من تركة أبيها؛ فكل ما فعله أمبيدكار كان أن «رفع نصيب الابنة بين الورثة»، بمساواة نصيبها بنصيب الابن.
6
كان أمبيدكار بذلك يضفي أفضل «مظهر» ممكن - أو الأكثر ليبرالية - على النصوص والتقاليد الهندوسية. إلا أنه كان ثمة تأويلات بديلة ممكنة، وأكثر معقولية بالتأكيد؛ فلا عجب في أن تكون اقتراحات أمبيدكار أثارت أيضا «استنكارا مدويا» من جانب الأصوليين، الذين رأوا فيها «إبطالا كاملا للأعراف والتقاليد الهندوسية»، وتدخلا غير مقبول في القواعد الحاكمة للطوائف الاجتماعية والعلاقات التقليدية بين الجنسين.
7
كان من المعارضين المقدامين للقانون رئيس الجمعية التأسيسية، راجندرا براساد؛ ففي يونيو من عام 1948 - بعد فترة قصيرة على تكوين اللجنة المختارة - حذر راجندرا براساد رئيس الوزراء من أن إدخال «تغييرات أساسية» على قانون الأحوال الشخصية معناه فرض «الأفكار التقدمية» التي تمتلكها «أقلية ضئيلة جدا» على المجتمع الهندوسي ككل؛ فأجاب نهرو بأن مجلس الوزراء نفسه أعلن تأييده للقانون، وأضاف: «أنا شخصيا أؤيد كليا المبادئ العامة المتجسدة فيها.» وقال إن نبذ القانون الآن من شأنه أن يثير شكوكا حيال كون حزب المؤتمر «كيانا رجعيا محافظا جدا»، كما أنه لن يلقى صدى طيبا «في أذهان الأجانب خارج الهند». فرد براساد بسرعة وحنق قائلا إن آراء «الكتلة الكبيرة من جموع الهندوس» أهم من آراء الأجانب.
8
اشتملت الجمعية التأسيسية على معارضين آخرين أيضا. وكلهم عملوا على المماطلة في فعاليات الجلسات وعرقلتها، حتى قال لهم نهرو - في امتعاض بالغ - إنه بالنسبة إليه يعد تمرير القانون ذاك مسألة هيبة. وردا عليه ، أعد براساد خطابا يحذر فيه رئيس الوزراء من أن ذلك «يتنافى مع العدل والديمقراطية»، إذ إن ذلك «التشريع الجوهري والخلافي» لم يطرح على جمهور الناخبين الهندي قط. ومن حسن حظ براساد أنه طلب المشورة من فالابهاي باتيل قبل إرسال الخطاب لنهرو. وقد كان عامل الوقت ذا أهمية محورية في تلك المسألة؛ إذ كان ذاك شهر ديسمبر من عام 1949، وكان من المزمع أن يختار حزب المؤتمر عما قريب أول رئيس للهند، من بين قائمة قصيرة تتألف من راجندرا براساد وسي راجا جوبالاتشاري؛ فإذ وضع باتيل تلك المسألة نصب عينيه، نهى براساد عن إرسال انتقاداته للقوانين الهندوسية إلى رئيس الوزراء، حتى لا «يؤثر ذلك على موقفك داخل الحزب».
9
ومن ثم فقد لزم براساد الصمت (وانتخب كما كان متوقعا أول رئيس لجمهورية الهند). ولكن خارج إطار المجلس التشريعي تعالت حدة النداءات. وفي مارس 1949، كانت لجنة عموم الهند المناهضة لمشروع القانون الهندوسي قد تشكلت بالفعل. ورأى أعضاؤها أن الجمعية التأسيسية «لا يحق لها التدخل في قوانين الأحوال الشخصية للهندوس القائمة على نصوص الدارما». وأصدر ستون عضوا في نقابة المحامين بدلهي بيانا معارضا لتعديل قوانين الأحوال الشخصية الهندوسية، على أساس أن «عددا كبيرا من الهندوس يؤمنون بألوهية منشأ قوانين أحوالهم الشخصية».
حظيت تلك اللجنة بمساندة المحامين المحافظين وكذلك رجال الدين المحافظين. وأصدر ابن مدينة دواركا صاحب النفوذ، شنكراتشاريا، «منشورا» معاديا للقانون المقترح، قال فيه إن الدين هو «النور الأسمى، ومصدر الإلهام والدعم للبشر، وحمايته أسمى مهمة موكلة للدولة».
عقدت لجنة عموم الهند المناهضة لمشروع القانون الهندوسي مئات الاجتماعات في جميع أنحاء الهند، أدان فيها كهنة متعددون التشريع المقترح. وقدم المشاركون في تلك الحركة أنفسهم باعتبارهم محاربين دينيين في حرب دينية. وألقت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج ثقلها وراء الاضطرابات؛ ففي يوم 11 ديسمبر من عام 1949، نظمت راشتريا سوايامسيفاك سانج مؤتمرا شعبيا في ساحة رام ليلا بدلهي، حيث راح متحدث تلو الآخر يندد بمشروع القانون؛ فأطلق عليه أحدهم «قنبلة ذرية ستسقط على المجتمع الهندوسي». وشبهه آخر بقانون رولات مفرط التعسف لدولة الاستعمار؛ فمثلما أفضت الاحتجاجات المناهضة لذلك القانون إلى سقوط بريطانيا، قال إن محاربة مشروع القانون من شأنها أن تشير إلى سقوط حكومة نهرو. وفي اليوم التالي نظم مجموعة من العاملين في منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج مسيرة إلى محيط مقر الجمعية التأسيسية، وسط هتافات: «يسقط مشروع القانون الهندوسي» و«الموت للبانديت نهرو». وأحرق المتظاهرون صورا لرئيس الوزراء والدكتور أمبيدكار، ثم خربوا سيارة الشيخ عبد الله.
تزعم الحركة المناوئة للقانون الجديد السوامي كرباتريجي-مهاراج. لا نعرف الكثير عن ماضيه، سوى أنه جاء من شمال الهند وبدا ضليعا في اللغة السنسكريتية. تأثر موقفه بشأن مشروع القانون وتعمق بحقيقة أنه صدر تحت توجيه أمبيدكار؛ فقد بدرت منه عدة إشارات واضحة إلى الطائفة الاجتماعية التي ينتمي إليها وزير القانون، مشيرا إلى أنه لا ينبغي لشخص كان من المنبوذين فيما مضى أن يتدخل في شئون كانت في المعتاد حكرا على البراهمة.
وتحدى السوامي كرباتريجي أمبيدكار - في خطب في دلهي وغيرها من المناطق - لإجراء مناظرة عامة بشأن تأويلاته لنصوص شسترا. وردا على ادعاء وزير القانون الخاص بأن نصوص شسترا لم تستحسن تعدد الزوجات فعلا، اقتبس السوامي نصا ليجنافالكيا جاء فيه: «إذا كانت الزوجة امرأة سكيرة أو تعاني عجزا أكيدا أو لئيمة أو عقيمة أو مسرفة، أو إذا كانت سليطة اللسان أو إذا كانت تلد إناثا فقط ولا تلد ذكورا، أو إذا كانت تكره زوجها، فحينها يمكن للزوج أن يتخذ زوجة أخرى حتى في حياة الأولى.» وقدم السوامي الموضع الدقيق لذلك الأمر، وهو: المقطع الثالث في الفصل الثالث في الجزء الثالث من نصوص ليجنافالكيا عن الزواج. إلا أنه لم يخبرنا بما إذا كان النص يبيح للزوجة أيضا اتخاذ زوج آخر إذا كان زوجها سكيرا أو سليط اللسان أو مسرفا، وما إلى ذلك.
ومن وجهة نظر السوامي، كان الطلاق محرما في التقاليد الهندوسية، في حين أن «السماح بتبني ولد من أي طائفة اجتماعية فيه تحد لنصوص شسترا ولفكرة الملكية». وحتى وفقا لأكثر التأويلات تحررا، كان ميراث المرأة قاصرا على الثمن، وليس النصف مثل ما سعى أمبيدكار لتحقيقه؛ فقد مثل مشروع القانون ككل انتهاكا للنصوص الهندوسية المقدسة، وكان قد أثار بالفعل «معارضة ضارية»، ولم يعد بإمكان الحكومة الدفع به إلا بوضع نفسها على المحك. وأصدر السوامي تحذيرا شديدا مفاده: «كما هو مبين بوضوح في نصوص الدارما، فإن تحدي القوانين الإلهية والدارما عادة ما يترتب عليه ضرر بالغ للحكومة والبلاد، وكلاهما سيندم على حماقته العنيدة تلك.»
10
3
في ديسمبر 1949، بعد الاتفاق على الدستور، حل برلمان مؤقت محل الجمعية التأسيسية، كان من المزمع بقاؤه لحين إجراء أول انتخابات عامة. خلال عامي 1950 و1951، أجرى نهرو وأمبيدكار عدة محاولات لتمرير مشروع القانون الهندوسي الخاص بالأحوال الشخصية ليصير قانونا. ولكن المعارضة كانت كبيرة، داخل البرلمان وكذلك خارجه؛ فنقلا عن جيه دي إم دريت: «جمعت كل حجة يمكن أن تساق ضد مشروع القانون، بما في ذلك حجج كثيرة أبطلت بعضها بعضا.» و«عرض الطلاق على جميع الأزواج المقهورين أصبح الهدف الرئيسي للهجوم، وتعالت صيحات بأن الدين في خطر ممن كان اعتراضهم الحقيقي على مشروع القانون هو مسألة تساوي نصيب البنات مع الأبناء.»
11
وفي داخل البرلمان المؤقت، زعم أعضاؤه الأصوليون أن القوانين الهندوسية ظلت ثابتة لم تتغير من قديم الأزل. وقال رام نارايان سينج: «إن قواعد السلوك والواجبات الخاصة بالبشر في بلدنا محددة في نصوص فيدا.» وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها على مر العصور - من قبل البوذية والإسلام والمسيحية - «لم تندثر الديانة الفيدية ... فالديانة الفيدية لا تزال حية». ولكن الآن «صار لدينا إدارة البانديت نهرو التي يرغب ممثلها الدكتور أمبيدكار في إلغاء كل تلك القواعد القائمة منذ بداية العالم بجرة قلم».
كان بعض أعضاء البرلمان يرون أن الحكومة ينبغي لها صياغة قانون هندي وتمريره عوضا عن قانون هندوسي على وجه التحديد. وعن ذلك قال إندرا فيديا فتشاسباتي: «لا أظن أن النساء الهندوسيات هن وحدهن المقهورات.» وبتمرير مشروع القانون بصورته الحالية، ستكون الدولة بصدد «تشجيع ... الشر المتمثل في الطائفية». وأصر فيديا فتشاسباتي على أن عدم تطبيق القانون على جميع القطاعات السكانية سوف يفضي إلى «بروز المشاعر الطائفية إلى السطح وتحول ما كان يفترض أن يكون نعمة إلى نقمة».
إلا أنه كان ثمة أعضاء آخرون مسرورون بمشروع القانون كما هو؛ فقد قال تهاكور داس بهارجافا: «مع إعجابي بالمطالبين بقانون مدني موحد للهند كلها، فإنني لا أراه اقتراحا عمليا أن نضع قانونا مدنيا موحدا للمسلمين والمسيحيين واليهود، إلخ.» وكان الأعضاء المسلمون قد أعربوا بالفعل عن معارضتهم لأي تغيير في قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم، الذي كانوا مؤمنين بأن أحكامه كلام منزل من الله. وقد اعتبرت المطالبة بقانون مدني موحد في تلك المرحلة تكتيكا للمماطلة، بصرف الانتباه عن الإصلاح المطلوب بدرجة ملحة لدى مجتمع الأغلبية؛ فعلى حد تعبير الدكتور أمبيدكار: «أولئك الذين كانوا من أشد المعارضين بالأمس لهذا القانون وأعظم المناصرين للقانون الهندوسي العتيق في حالته المعاصرة» يزعمون الآن أنهم «مستعدون لقانون مدني لعموم الهند». وذلك يعزى إلى أملهم في أنه في حين أن «صياغة مشروع القانون الهندوسي استغرقت بالفعل من أربعة إلى خمسة أعوام، فمن المرجح أن تستغرق صياغة قانون مدني عشرة أعوام».
كان أمبيدكار يعي أنه في حين كان ثمة عدد كاف من الشخصيات الهندوسية المؤثرة - مثل جواهر لال نهرو - المؤيدة لذلك التشريع التقدمي، فاحتمالات النزعة التحررية فيما بين المسلمين أضعف بكثير. وقال إن الحكومة لا يمكن أن تكون من «الحماقة» بحيث «تعجز عن إدراك مشاعر الجماعات المختلفة في هذا البلد». ولهذا السبب كان ذلك القانون معنيا آنذاك بالهندوس فحسب.
12
ولكن مما لا شك فيه أن الهندوس لم يكونوا جميعا متحررين؛ فتحفظات الأصوليين - كما أعرب عنها في البرلمان - حملها أتباع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج إلى الشارع؛ فقد جلبوا متطوعين من دلهي ليهتفوا بشعارات مضادة لمشروع القانون الهندوسي معرضين أنفسهم لاحتمال القبض عليهم. وكان من أهدافهم الكبرى: تفكيك باكستان، وإقالة نهرو من منصبه.
وكان المتحدث الرئيسي في تلك الاحتجاجات التي أعدتها المنظمة هو السوامي كرباتريجي في المعتاد. وأثناء حديثه في أحد الاجتماعات في 16 سبتمبر 1951، تحدى رئيس الوزراء أن يجري معه مناظرة حول مشروع القانون المقترح. وقال: «إذا نجح البانديت نهرو وزملاؤه في إثبات تماشي أي جزئية من القانون الهندوسي المقترح مع نصوص شسترا، فسوف أقر القانون الهندوسي بأكمله.» وفي اليوم التالي، خرج السوامي وأتباعه - تنفيذا لذلك التحدي - في مسيرة إلى البرلمان؛ فمنعتهم الشرطة من الدخول. وقد ورد عن إحدى الصحف الهندوسية الأسبوعية، أنه في المشاجرة التالية لذلك: «دفعتهم الشرطة إلى الوراء وكسرت عصا السوامي، التي تعادل الخيط المقدس، الشعار الديني للنساك.»
13
كان من قبيل المصادفة أنه قبل يومين فحسب من مسيرة السوامي كرباتريجي، كان رئيس الجمهورية قد كتب خطابا طويلا إلى رئيس الوزراء احتجاجا على مشروع القانون؛ فكما عامي 1948 و1949، كان راجندرا براساد يشعر في ذلك الحين أيضا بأن البرلمان القائم - المستند كسابقه إلى انتخابات مقيدة - ليس «مؤهلا لتطبيق إجراء جوهري من هذا القبيل». وقال إن مشروع القانون «تمييزي للغاية»؛ إذ إنه ينطبق على جماعة سكانية واحدة، وهي: الهندوس؛ فإما أن تطبق القوانين ذاتها الحاكمة للزواج والملكية على الهنود جميعا، أو أن تترك القوانين العرفية الحاكمة للجماعات المختلفة دون المساس بها. وكتب براساد منذرا أنه: «ينوي متابعة تطور الأوضاع بالنسبة إلى ذلك الإجراء داخل البرلمان يوما بعد يوم.» فإذا أجيز مشروع القانون رغم ذلك، فسوف يتمسك «بحقه في النظر في الأسس الموضوعية لمشروع القانون ... قبل أن تصدر موافقته».
14
وكتب نهرو في رده أنه يرى «تأييدا هائل النطاق في أنحاء البلاد لمشروع القانون». ولكن معارضة الرئيس أقلقته؛ إذ إنها كانت نذيرا بمواجهة محتملة بين الحكومة ورئيس الدولة. وقد عرض خطاب براساد على عدة خبراء دستوريين؛ فأكدوا له أن الرئيس ملزم بالتصرف «بمساعدة مجلس الوزراء ومشورته ولا يمكنه التصرف دون اللجوء إلى تلك المشورة». وحسب رؤيتهم، فقد كان منصب رئيس الهند حتى أضعف من منصب ملك بريطانيا.
15
على الرغم من تلك النصيحة، فقد اختار نهرو عدم تحدي الرئيس. وعلى أي حال، فقد كان تقدم مشروع القانون داخل البرلمان المؤقت بطيئا جدا؛ فقد تطلب تمرير أربعة بنود فقط أكثر من نصف عام . وفي النهاية «انتهت الدورة البرلمانية، وقد أعاقت كثرة النقاشات تمرير مشروع القانون، حتى تلاشى».
16
كان أكثر المتضررين من ذلك الفشل هو وزير القانون؛ فالدكتور أمبيدكار كان وضع سمعته على المحك في إطار سعيه إلى تمرير مشروع القانون ذاك، وواجه الانتقادات والافتراءات بحزم متساو؛ لذا سبب له قرار نهرو في النهاية الاستسلام للمعارضة ألما بالغا. وفي أكتوبر 1951 استقال من وزارة الاتحاد. كان ينوي إعلان الاستقالة في مقر المجلس التشريعي، ولكن عندما طلب نائب رئيس الجلسة نسخة من خطابه قبل أن يلقيه، خرج غاضبا، وأصدر إعلانه للإعلام عوضا عن المجلس.
قدم أمبيدكار عدة أسباب لقرار الاستقالة؛ أولا: كانت حالته الصحية على غير ما يرام. وثانيا: عجز رئيس الوزراء عن أن يودع ثقته فيه بالدرجة الكافية؛ فعلى الرغم من كونه حائزا لدرجة الدكتوراه في الاقتصاد (من كلية لندن للاقتصاد)، فقد استبعد من النقاشات الدائرة بشأن التخطيط والتنمية. وكان السبب الثالث هو: تحفظاته المتزايدة على السياسة الخارجية للحكومة، لا سيما فيما يتعلق بمسألة كشمير. والسبب الرابع: كان أن حالة أشقائه في الطوائف المجدولة لم تزل متردية؛ فعلى الرغم من الاستقلال السياسي للبلد، ووجود دستور يحمي حقوق تلك الطوائف، فقد واجهوا «الاستبداد المعتاد ذاته، والقهر ذاته، وكذلك التمييز القديم ذاته ضدهم».
وأنهى أمبيدكار أسبابه بالقضية التي حثته في النهاية على تقديم استقالته؛ فقال إنه كان عاقد العزم على تمرير مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي قبل انتهاء دورة البرلمان. وكان قد حاول جاهدا إقناع رئيس الوزراء بالأهمية الملحة التي ينطوي عليها ذلك الأمر. ولكن نهرو لم يمنحه نوع الدعم الذي كان يرجوه. وشكا أمبيدكار من أن رئيس الوزراء إذ واجه معارضة من داخل حزبه، كان يفتقر إلى «الجدية والإصرار» اللازمين للتغلب على تلك المعارضة.
17
4
في الشهور الأولى من عام 1952 أجرت الهند انتخاباتها العامة الأولى، التي كان للنقاشات الأخيرة الدائرة بشأن مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي أن تلقي عليها بظلالها؛ فلما شعر الدكتور أمبيدكار بأن حزب المؤتمر خذله، أنشأ حزبا معارضا تحت اسم «اتحاد الطوائف المجدولة». أما عن رئيس الوزراء، فقد واجه منافسة في دائرته الانتخابية ببلدته الله أباد من زعيم اللجنة المناهضة لمشروع القانون الهندوسي، التي كانت شهرتها قد بلغت الآفاق آنذاك.
كان ذاك هو برابهو دات براهماتشاري، الذي كان رجلا زاهدا وعازفا عن الزواج، ويرتدي ثيابا بلون الزعفران إشارة إلى ذلك. كان ترشيح براهماتشاري يحظى بدعم حزب جانا سانج ومنظمة هندو ماهاسابها ومنظمة رام راجيا باريشاد. كان جدول أعمال حملته الانتخابية يقتصر على نقطة واحدة، وهي: عدم العبث بالتقاليد الهندوسية؛ فقد طبع منشورات مفصلة عن محاولات رئيس الوزراء الرامية إلى التدخل في شأن تلك التقاليد، وتحدى نهرو لإجراء مناظرة مفتوحة في هذا الصدد.
18
وكان نهرو من الحكمة بحيث رفض. ثم ربح مقعده بهامش كبير، بينما حصل حزب المؤتمر على أغلبية كبيرة إجمالا. رأى نهرو في ذلك تفويضا إلى حد ما لحملته ضد الطائفية. وبعد انعقاد البرلمان سرعان ما أعاد إحياء مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي.
وحيث كانت الاعتراضات السابقة على مشروع القانون لم تزل واقرة في الذهن، فقد فتت مشروع القانون إلى عدة أجزاء؛ فكان ثمة مشروعات قوانين منفصلة معنية بزواج الهندوس وطلاقهم، وأخرى للقصر الهندوس ووصايتهم، ومواريث الهندوس، وتبني أطفال الهندوس وإعالتهم. واحتفظت تلك المكونات بالمنطق والقوة الدافعة لمشروع القانون الأصلي الموحد. كان الاتجاه العام الرئيسي يتلخص في القضاء على أهمية الطائفة الاجتماعية بالنسبة إلى الهندوس فيما يتعلق بالزواج والتبني، وتجريم تعدد الزوجات، وإتاحة الطلاق وحل الزواج استنادا إلى أسس محددة، وزيادة حصة المرأة من أملاك زوجها ووالدها بدرجة كبيرة.
19
وكان رئيس الوزراء في طليعة الحركة المناصرة لمشروع القانون؛ فقد أخبر البرلمان أن «التقدم الحقيقي للبلاد معناه التقدم لا على الصعيد السياسي فحسب، ولا الصعيد الاقتصادي فحسب، بل على الصعيد الاجتماعي أيضا». فقد تحالف البريطانيون مع «القطاعات الأكثر محافظة التي استطاعوا إيجادها في المجتمع». وكان ضم التقاليد والاستعمار يعني أن «قوانيننا، وأعرافنا اشتدت وطأتها على معشر النساء»، ومن ثم «تطبق معايير أخلاقية مختلفة على الرجال والنساء». فالرجل يسمح له باتخاذ أكثر من زوجة، ولكن المرأة حينما ترغب في الطلاق تواجه تحديا من الرجال، وذلك لا لشيء إلا «لأن الرجال صادف أنهم يتبوءون مراكز السيطرة. أرجو ألا يستمروا في تلك المراكز إلى الأبد».
كانت الأعراف والقوانين الهندوسية منافقة إلى جانب كونها ظالمة؛ فقد حثت النساء على الاقتداء بشخصيات أسطورية تجسد التفاني والإخلاص، ولكن - على حد قول نهرو - «لا يتبادر إلى ذهني تذكير مماثل للرجال براماتشاندرا وساتيافان، وحثهم على الاقتداء بهم؛ فالنساء فقط هن اللائي ينبغي لهن الاقتداء بسيتا وسافيتري، بينما يسمح للرجال بالتصرف كما يحلو لهم».
20
عمل نهرو جاهدا لإقناع زملائه بأهمية تلك التدابير؛ فقد كتب إلى أحد كبار وزرائه - رجل برهمي كان يميل إلى الأصولية - قائلا: «علينا أن نتذكر أن القوانين والممارسات الاجتماعية المتعارف عليها في الهند - وفق الصورة التي كانت وما زالت عليها - لم تخل من الجنوح الأخلاقي وكذلك التعاسة البالغة؛ فقد كان ثمة قانونان ساريان، أحدهما للرجل والآخر للمرأة. ولطالما كانت المرأة هي الأتعس حظا.» وكتب نهرو إلى أحد الأعضاء الشباب المستجدين في البرلمان: «علينا أن نركز اهتمامنا على تمرير مشروعات القوانين المعنية بالزواج والطلاق والمواريث من خلال البرلمان؛ فتلك هي مشروعات القوانين الأهم. أما مشروعات القوانين المعنية بالتبني والوصاية وغيرهما، فغير مهمة نسبيا.»
21
بحلول ذلك الوقت، كانت اللجنة المناهضة لمشروع القانون قد فقدت زخمها؛ فعقب انتخابات عام 1952، لم يعد اسما السوامي كرباتريجي وبرابهو دات براهماتشاري يظهران في الصحف أو سجلات الشرطة. واختفت التظاهرات من الشوارع، وإن ظلت الانتقادات وفيرة في البرلمان؛ فقد رأى نواب البرلمان الأصوليون أن مشروعات القوانين الجديدة مصممة بهدف تدمير الثقافة الهندوسية؛ فبالنسبة إليهم، كانت قوانين مانو ويجنافالكيا ثابتة وغير قابلة للتغيير، ولها عام 1950 ميلاديا الأهمية ذاتها التي كانت تنطوي عليها عام 950 قبل الميلاد.
22
ولكن إضافة إلى ذلك، كان ثمة معارضة أخرى أقل فجاجة أوليت اعتبارا أكبر، مثلت ما يمكن أن نسميه الاتجاه الهندوسي المحافظ، عوضا عن الاتجاه الهندوسي الرجعي؛ فلننظر في آراء المؤرخ المتميز رادها كومود موكرجي، الذي انتابه إحساس بأن المقترحات الجديدة - لا سيما الأحكام التي تبيح الطلاق - كانت:
منافية للروح الهندوسية في حد ذاتها ... مشروع القانون مستلهم من الرؤية الغربية للحياة التي تعلي رومانسية العلاقات الزوجية والحياة الزوجية على الأبوة التي تتأتى بها ثمار الزواج؛ فالمنظومة الهندوسية تعتبر الأبوة شيئا دائما ثابتا لا مساس به ... ومشروع القانون يسعى إلى تغيير رؤية علم النفس الشعبي حيال قدسية الزواج والعائلة وإرخاء الروابط الأسرية التي تمثل عماد المجتمع؛ فهو يفكر في الزوج والزوجة أكثر مما يفكر في الأب والأم اللذين ينبغي أن يندمجا معا بصفة دائمة من أجل حماية الأطفال ومستقبل البشرية.
23
إلا أنه لم يكن ثمة إجماع على تلك الحجة؛ فإحدى النائبات في البرلمان أعربت عن شعورها بأن «التأثير الناجم عن تفكك الأسرة أقل ضررا من التأثير الناجم عن انعدام الانسجام داخل الأسرة؛ فالأطفال يتحلون بذهن ذي قدرة كبيرة على الاستيعاب، ومشاهد التجاهل والشجار التي قد يرونها بين الوالدين ... من المحتم أن تخلف أثرا فيهم». وحسب تعليق عضو آخر، فإنه إذا «فقد الزوج والزوجة السلام فيما بينهما»، فلا جدوى من «إكراههما على العيش معا». فالأفضل هو إتاحة «الانفصال بصورة محترمة».
24
في مجلس الشعب الهندي، تزعم تيار معارضة الإصلاحات المحامي البارع من منظمة هندو ماهاسابها - إن سي تشاترجي - الذي ذهب إلى أنه إن كانت الهند دولة علمانية بالفعل، فما الحاجة إلى سن تشريع لزواج «الهندوس» وطلاقهم؟ لم لا يسن قانون واحد يسري على المواطنين جميعا؟ ومن ثم، فإذا كانت الحكومة تؤمن مخلصة بمناقب الزواج بواحدة، وأنه «نعمة وتعدد الزوجات نقمة، فلم لا تنقذ أخواتنا المسلمات من تلك النقمة ومن تلك المعاناة؟» وقال لوزير القانون: «أنتم لا تجسرون على التحلي بالمنطقية والاتساق.»
25
وبالمثل كان الاشتراكي جيه بي كريبالاني يشعر بأن الحكومة منافقة بفرضها الزواج الأحادي على الهندوس فحسب. وقال: «لا بد أن تطبقه على المجتمعات المسلمة أيضا. صدقوني فإن المجتمع المسلم مستعد لتقبله ولكنكم لا تتحلون بالشجاعة الكافية لفعل ذلك.» إلا أن زوجته نفسها - النائبة البرلمانية عن حزب المؤتمر، سوتشيتا كريبالاني - كانت ترى أن المسلمين غير مستعدين لذلك بعد . وذلك لأننا «نعلم الماضي القريب لبلدنا. ونعلم كم المتاعب التي واجهناها بسبب مشكلة الأقليات؛ ولذا أظن أن الحكومة ليست مستعدة اليوم لطرح قانون مدني موحد. ولكني آمل أن يأتي في المستقبل القريب اليوم الذي يتسنى لنا فيه التمتع بقانون مدني موحد».
26
كانت انتخابات عام 1952 قد أمدت البرلمان بمجموعة من النائبات المتسمات بفصاحة اللسان والثقة بالنفس، اللاتي رأين - بطبيعة الحال - أن معارضة التشريع تأتي من جانب الرجعيين. وقد شنت سوبهادرا جوشي حملة شرسة باللغة الهندية ضد تقليد الزيجات المدبرة، التي تباع النساء بموجبها فعليا لحياة الخزي والمهانة. وذكرت شيفراجفاتي نهرو أنه في حين يتحدث الساسة من الرجال حديثا مثيرا للإعجاب عن الإصلاح الاقتصادي والسياسي، فإنهم غير مستعدين لإحداث تغير واحد في مجال الحياة والأعراف الاجتماعية؛ ففي المجتمع الهندوسي كان الرجل حرا سيدا، ولكن المرأة كانت مكبلة - به. وحتى الآن، نجد الرجل ميالا لمعاملة زوجته مثل زوج من النعال، يخلعه من قدميه متى شاء.
27
كان ثمة عدة أعضاء من الطوائف المجدولة يؤيدون تلك الإصلاحات، وهم كانوا خير العارفين بأن «الأعراف» الهندوسية تواري آثاما متعددة. وقال أحدهم إن الأصوليين لو كان لهم ما يريدون، فسوف:
يشرعون في تعديل الدستور بغية التخلص من جميع الشرور التي أتت بها حكومة حزب المؤتمر، وإضافة بعض الحقوق الأساسية الجديدة. أولها سيكون نيل جميع النساء الهندوسيات الحق الرائع والعظيم في إحراق أنفسهن على المحرقة الجنائزية لأزواجهن. وثاني حق أساسي سوف يتمثل في إعلان البقرة كائنا إلهيا ... وجميع الهنود - بمن فيهم المسلمون والمسيحيون وما إلى ذلك - سيرغمون على عبادة البقر.
28
الشيوعيون، من جانبهم، اعتبروا القوانين الجديدة غير جذرية بالقدر الكافي؛ ففي مجلس الشعب الهندي، أطلق عليها بي سي داس «محاولة مخففة معتدلة للإصلاح الاجتماعي تحمل سمتي التردد والوجل المعهودتين في جميع التدابير الاجتماعية المتخذة برعاية هذه الحكومة». إلا أن معارضي تلك «التدابير المعتدلة» كانت «عقلياتهم ترجع إلى القرن السابع عشر». وفي مجلس الولايات، أشار بوبيش جوبتا إلى تأخر طرح التشريع، الذي يعزى إلى حقيقة أن «حزب المؤتمر ... كثيرا ما يكون كسولا جدا غير مدرك لما يحدث حوله من تطورات».
29
وأخيرا، لا بد للمرء أن يأخذ في حسبانه أولئك الأعضاء المسلمين الذين أجزلوا الشكر للحكومة؛ فقد أثنى عليها أحدهم - متحدثا باللغة الهندوستانية - لعدم مساسها بقوانينهم وعدم سماحها بإدخال أي تغيير طفيف. وشكر آخر الحكومة «لإيلاء اهتمام كبير لآراء مجتمع المسلمين ومشاعرهم، وإعفائهم من مجريات مشروع قانون الزواج ذاك؛ لأن لديهم قانونا للأحوال الشخصية، قائما على دينهم ويمثل جزءا لا يتجزأ منه، وإنهم يعتبرون دينهم الشيء الأكثر قداسة وقيمة في حياتهم».
30
5
بعد معركة مريرة دامت نحو عشرة أعوام، مرر مشروع القانون الذي طرحه بي آر أمبيدكار وصار قانونا؛ ليس دفعة واحدة كما كان يأمل، بل على عدة دفعات: قانون الزواج الهندوسي عام 1955، والقوانين الهندوسية المعنية بالمواريث، والقصر والوصاية، والتبني والإعالة عام 1956.
صدرت تلك القوانين من خلال البرلمان تحت توجيه وزير القانون الجديد، إتش في باتاسكر. كان باتاسكر يفتقر إلى المكانة والمعرفة اللتين تحلى بهما سابقه؛ فذات مرة، حينما أشار إلى أن الزواج المقدس الهندوسي يبيح الطلاق، قال إن سي تشاترجي معلقا إن تلك العبارة لا أساس لها من الصحة، وأضاف: «لو كان السيد باتاسكر دخل امتحانا في القانون الهندوسي في أي جامعة لكان رسب وحصل على صفر.»
31
كان ذلك كلاما دقيقا على الأرجح، وإن كان غير ذي أهمية أيضا؛ فكما أقر أحد المعارضين، كانت مشروعات القوانين تلك تشكل «هجوما مباشرا على نصوص شسترا الهندوسية والأعراف الهندوسية».
32
فقد كان حق المرأة في أن تختار شريك حياتها أو ترث الأملاك «متنافيا مع الهندوسية» ولكن لم يكن متنافيا مع الديمقراطية؛ إذ إن الرجال لطالما كانوا يتمتعون بتلك الحقوق. وكما لاحظ باتاسكر، فقد كانت القوانين الجديدة تستند إلى إقرار الدستور بتحقيق «كرامة الشخص، بصرف النظر عن أي تمييز على أساس الجنس».
33
وأعرب عضو آخر في حزب المؤتمر عن ذلك الرأي بوضوح أكبر؛ فقال: لا بد أن تتمتع المرأة بالحق في اختيار زوجها (والطلاق منه)؛ لأننا:
نحن الهنود نناضل في سبيل الحرية؛ فبعد تحرير بلادنا، ووطننا الأم، نحن مسئولون عن تحرير أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا. سيكون ذلك أعظم تتويج للحرية التي حصلنا عليها.
34
وفي الواقع فقد قدمت القوانين الجديدة إسهاما ملحوظا تجاه تحقيق هذا الهدف؛ فقد ضم نطاق اختصاصها ستين مليون امرأة هندوسية، وكانت التغييرات كبيرة من الناحية الأخلاقية وكذلك العددية؛ فحسبما كتب الخبير الأمريكي النابغ في القانون الهندي مارك جالانتر، كان ذلك «إصلاحا شاملا جذريا، حل محل شسترا كليا كمصدر للقانون الهندوسي». وتابع ذلك الباحث البريطاني البارز المختص بتلك المسألة قائلا إن سلسلة القوانين محل الدراسة هنا «من حيث سعة نطاقها وجرأتها الخلاقة لا يمكن مقارنتها إلا بقانون نابليون».
35
كانت التغييرات الجذرية ذات الصلة بمسألتي الزواج والملكية في القوانين الهندوسية صنيعة رجلين بالأساس: جواهر لال نهرو وبي آر أمبيدكار. ولكن للأسف فقد كان أمبيدكار متفرجا في المراحل الأخيرة المهمة من المعركة؛ فهو بعد أن خسر في الانتخابات البرلمانية المباشرة لعام 1952، دخل مجلس الولايات، وفيه لاذ بالصمت أثناء مناقشة مشروعات القوانين تلك وتمريرها بين عامي 1954 و1956.
36
كان مريضا جدا بالفعل، ويعاني مرض السكر ومضاعفاته. ثم توفي في ديسمبر 1956. وقد ألقى جواهر لال نهرو الذي كان زميلا له لبعض الوقت كلمة في البرلمان إشادة به؛ فقال رئيس الوزراء إن أهم ما سوف يذكر به أمبيدكار هو كونه «رمزا للثورة على جميع ملامح القمع في المجتمع الهندوسي». ولكنه «سيذكر أيضا للاهتمام الكبير والمتاعب التي تكبدها في سبيل مسألة إصلاح قانون الأحوال الشخصية الهندوسي. ويسرني أنه شهد تحقق ذلك الإصلاح إلى حد بعيد جدا، ربما ليس في صورة الكيان الضخم الذي صاغه بنفسه، وإنما في صورة أجزاء منفصلة».
37
كانت تلك إشادة سخية، لا سيما حينما ننظر فيما انطوت عليه استقالة أمبيدكار عام 1951 من مرارة؛ فآنذاك كان أمبيدكار يظن نهرو أضعف من أن يحارب المعارضة داخل حزبه وخارجه؛ فمن وجهة نظره كان رئيس الوزراء يمضي ببطء شديد، ولكن - بالطبع - من وجهة نظر الهندوسيين المتشددين كان نهرو يمضي بخطى وثابة. وخلال عامي 1949 و1950 - عندما طرح مشروع القانون لأول مرة - لم يكن نهرو فعليا يملك زمام حزب المؤتمر من الأساس؛ فهو لم يتول إدارة الحزب فعليا إلا بعد وفاة فالابهاي باتيل؛ إذ تغلب على الاتجاه المحافظ داخل حزب المؤتمر وقاد حزبه لنصر محقق في الانتخابات العامة؛ فعندما حصل على تأييد الحزب والبلاد، صار مستعدا لطرح التشريع الذي اقترحه أمبيدكار ذات مرة وتمريره.
38
كان نهرو عازما على إحداث تغييرات في القوانين الحاكمة لإخوانه الهندوس، وإن كان مستعدا للتمهل قبل معاملة المسلمين بالمثل؛ فالأحداث اللاحقة على التقسيم كانت قد أشعرت المسلمين الباقين في الهند بالضعف والارتباك؛ ففي تلك المرحلة، كان المساس بما يعدونه سنة مقدسة - كلمة الله - يزيد شعورهم بعدم الأمان. لذا عندما سئل نهرو في البرلمان عن سبب إحجامه عن إدخال قانون مدني موحد فورا، أجاب بأنه في حين أن ذلك القانون يحظى ب «تأييد كامل» منه، فهو لا يرى أنه قد «آن الأوان في الوقت الحالي لكي أحاول الدفع به؛ فأنا أود أن أمهد له الطريق، ومثل هذا الإجراء أحد أساليب تمهيد الطريق».
39
نظر آخرون إلى ذلك التحوط بتشكك أكبر؛ فكما أشار الدكتور شياما براساد موكرجي في البرلمان المؤقت: «لا أحد يرى أن الزواج الأحادي أمر محمود للهندوس فقط أو البوذيين فقط أو السيخ فقط.» فلم لا يطرح مشروع قانون منفصل يفرض الزواج الأحادي على المواطنين كافة؟ وإذ ألقى الدكتور موكرجي ذلك السؤال، رد عليه بنفسه قائلا: «لن أتطرق إلى تلك المسألة لأنني أعلم مواطن ضعف المروجين لمشروع القانون ذاك؛ فهم لا يجرءون على المساس بالأقلية المسلمة؛ فالمعارضة في جميع أنحاء الهند ستكون شديدة لدرجة لن تجرؤ معها الحكومة على المضي قدما. ولكن طبعا يمكنك المضي قدما في شأن المجتمع الهندوسي على أي نحو يطيب لك وأيا كانت العواقب المحتملة .»
في تلك اللحظة قاطعه سي راجا جوبالاتشاري قائلا: «لأننا نحن المجتمع.»
40
كانت «نحن» المقصود بها حزب المؤتمر، لا سيما الجناح الإصلاحي منه، ممثلا في نهرو وفي راجا جوبالاتشاري بدرجة كبيرة من الاقتدار أيضا. يمكننا تقدير ترددهما في التطرق لشئون أناس من ديانات أخرى غير ديانتهما ؛ فقد استغرقا ما يقرب من عشر سنوات حتى تسنى لهما «المضي قدما في شأن المجتمع الهندوسي على أي نحو» يطيب لهما؛ أي على نحو من شأنه أن يساعدهما على تقريب قوانين الأحوال الشخصية الهندوسية بعض الشيء من المفاهيم الحديثة للعدالة بين الجنسين.
41
الفصل الثاني عشر
تأمين وضع كشمير
هل نؤمن بدولة قومية تضم أناسا من كافة الأديان وضروب الرأي وتقوم على أسس علمانية ... أم أننا نؤمن بالتصور الديني الثيوقراطي للدولة الذي يعتبر أصحاب الديانات الأخرى خارج النطاق المشمول برعايتها؟ هذا سؤال عجيب؛ إذ إن العالم تخلى عن فكرة الدولة الدينية أو الثيوقراطية منذ بضعة قرون مضت ولم تعد تحتل مكانا في مخيلة إنسان العصر الحديث. إلا أنه لا بد من طرح هذا السؤال في الهند اليوم؛ لأن كثيرين منا حاولوا العودة إلى عهد بائد.
جواهر لال نهرو
1
كان إصلاح قوانين الأحوال الشخصية أحد الاختبارات التي خضعت لها العلمانية الهندية. وتمثل اختبار آخر أعظم فيما يتعلق بمستقبل كشمير؛ فهل يمكن لولاية ذات أغلبية مسلمة أن توجد - دون لغط أو خلاف مفرط - في إطار دولة الهند ذات الأغلبية الهندوسية، وإن كانت «علمانية» على ما يبدو؟
كما رأينا في الفصل الرابع، بحلول عام 1949 كان الشيخ عبد الله متحكما تماما في مقاليد جامو وكشمير. إلا أن وضع ذلك الإقليم ظل محل خلاف؛ فدعت الأمم المتحدة إلى إجراء استفتاء شعبي، وحاولت إقناع الهند وباكستان باستيفاء الشروط اللازمة لإجرائه.
ففي فبراير من عام 1950، طلب مجلس الأمن إلى البلدين سحب جيشيهما من الولاية. وكما سبق، عمد الطرفان إلى المماطلة؛ فقد طلبت الهند سحب باكستان لقواتها أولا، بينما طالبت باكستان بإقالة حكومة حزب المؤتمر الوطني الكشميري من منصبها. كانت الهند قد بدأت تندم على رفع المسألة إلى الأمم المتحدة من الأساس. وبحلول عام 1950 كانت مستعدة إلى حد بعيد للتشبث بالجزء التابع لها من الولاية، والسماح لباكستان بأخذ الجزء الخلفي. كان دستور الهند - الذي دخل حيز النفاذ في يناير 1950 - يعتبر كشمير جزءا لا يتجزأ من الاتحاد الهندي. إلا أنه منح الولاية ضمانا بقدر من الاستقلال؛ ومن ثم نصت المادة 370 على تشاور الرئيس مع حكومة الولاية في المسائل غير المتعلقة بالدفاع والشئون الخارجية والاتصالات.
1
أما عن باكستان، فقد رأى ساستها أن مطلبهم لا يستلزم توثيقا بواسطة تصويت شعبي؛ ففي سبتمبر 1950، أصر رئيس وزراء سابق على أن «تحرير كشمير معتقد جوهري لدى كل باكستاني ... وستظل باكستان غير مكتملة حتى تتحرر كشمير كاملة». وبعد أسبوعين علق رئيس الوزراء الذي كان في الخدمة آنذاك قائلا: «بالنسبة إلى باكستان، تمثل كشمير ضرورة حيوية، أما الهند فتمثل لها مغامرة إمبريالية.»
2
وعلى جانبي الحدود، رددت وسائل الإعلام موقف الحكومة وأسهبت فيه؛ ففي صيف عام 1950، زار المذيع البريطاني ليونيل فيلدن شبه القارة الهندية. وبصفته رئيسا سابقا لإذاعة «أول إنديا راديو»، كان لفيلدن أصدقاء كثر في كل من الهند وباكستان؛ فبزيارتهم وحديثه أيضا مع أصدقائهم، وجد أنه على جانبي الحدود الدولية بين البلدين، «يطارد الزائر بوابل من الحجج والخطب الرنانة الرامية إلى إثبات ليس خطأ البلد الآخر فحسب، بل أيضا إمعانه في الخطأ إلى حد شيطاني ومؤذ». وأشار إلى أن «لهجة الإعلام الهندي تنزع إلى الاستعلاء إلى حد ما، والمنطق المعسول، وإن كانت لا تخلو من العند وبعض الاعتداد الزائد بالنفس عن وعي». وفي المقابل، «تنزع لهجة الإعلام الباكستاني والزعماء الباكستانيين نحو الامتعاض والغطرسة والعدوانية في بعض الأحيان». وقد تفاقمت النزعة العدائية لباكستان إثر التخوف من أن ترغب القوى المؤثرة في الهند في إعادة غزو أرضها وإعادة استيعابها في «هند واحدة» متحدة.
لخص فيلدن وجهتي النظر في الآتي: «تريد الهند بتمسكها بكشمير إضعاف عملية التقسيم، بينما ترغب باكستان بمطالبتها في تأمين تلك العملية.» وفيما يتعلق بمسألة كشمير، كان موقف الطرفين جامدا تماما. ومن ثم فقد كان «القتال حتى الرمق الأخير من أجل كشمير شعار الباكستانيين جميعا، وثمة اتجاه متسارع لأن يصبح عدم التخلي عن كشمير هو الفكرة الثابتة في الهند».
وأنهى فيلدن تحليله بتحذير؛ فأشار إلى أنه على المدى البعيد، «أهم شيء» فيما يتعلق بنزاع كشمير هو «تكلفة التسليح الذي يسعى إليه كل من البلدين؛ فهذا معناه إعاقة الخدمات الاجتماعية في البلدين على حد سواء، وبما أن البلدين يحويان - إلى جانب اللاجئين إليهما - ملايين من أفقر الشعوب في العالم، فمن اليسير أن نرى كيف يمكن أن يفضي ذلك الوضع إلى كارثة».
3
كانت الأمم المتحدة قد حاولت حل النزاع وفشلت؛ فهل يمكن لطرف ثالث النجاح؟ في يناير 1951، في اجتماع انعقد في مقر الحكومة البريطانية، اقترح رئيس الوزراء الأسترالي السير روبرت منزيس إجراء استفتاء شعبي تحت رعاية دول الكومنولث. وقد بدا رئيس الوزراء البريطاني كليمنت أتلي محبذا للفكرة. ولكن نهرو قال إن أي تسوية لا بد أن تحظى بقبول حكومة الولاية ممثلة في الشيخ عبد الله، وهي الحكومة التي وصفها رئيس الوزراء الباكستاني مستهزئا بأنها «دمى يعينها نهرو ويمكن أن يغيرها في أي وقت». فرد نهرو مشيرا إلى أن «الإعلام الباكستاني حافل بتلك المناشدات الدينية والدعوات إلى الجهاد؛ فإذا كان هذا هو ما سوف يحدث أثناء الاستفتاء الشعبي، فلن يكون ذلك استفتاء شعبيا وإنما قلاقل مدنية، ليس في كشمير فحسب، بل في سائر أنحاء الهند وباكستان أيضا».
4
2
في عام 1950، اتخذت خرائط حكومة الهند ولاية جامو وكشمير بأكملها جزءا من أراضيها. وقد استند زعم نيودلهي بأحقيتها في الولاية كلها إلى حقيقة أنه في أكتوبر من عام 1947 كان المهراجا هاري سينج قد وقع وثيقة انضمام إلى الهند. وفي الوقت نفسه استند زعمها بأحقيتها في الجزء الذي تسيطر عليه بالفعل إلى المشاعر العلمانية للشيخ محمد عبد الله.
كان عبد الله معارضا لباكستان، ولكن هل كان مؤيدا للهند؟ كان ذلك سؤالا لم يأت الرجل نفسه بجواب مباشر عنه. ويمكن تبين تردده ذاك في سلسلة من الخطابات الساخطة التي كتبها نهرو لشقيقته فيجايا لاكشمي بانديت، وفيما يأتي مقتطفات منها: (10 مايو 1950): يؤسفني أن أقول إن الشيخ عبد الله يتصرف بأسلوب غير مسئول بالمرة. أصعب شيء في الحياة هو أن يحدد المرء كيف يتعامل مع أصدقائه. (18 يوليو 1950): في الوقت نفسه، فإن إدارة الشيخ عبد الله في كشمير سيئة للغاية فيما يتعلق بالشئون الداخلية، ويبدو أنه عازم على ضمان الدخول في نزاع معنا؛ فهو يعمل مع الأشخاص الخاطئين هناك ويجري تضليله. (10 أغسطس 1950): لقد اقتنع الشيخ عبد الله إلى حد ما وهو في مزاج ذهني أكثر مطاوعة. وإني لأتساءل إلى متى سيظل الوضع على تلك الحال؛ فثمة قوى كثيرة جدا تعمل في كشمير، تجذبها في اتجاهات متباينة.
5
كانت نبرة التشكك الظاهرة في ذلك الخطاب الأخير مبررة، إذ إن عبد الله سرعان ما عاد إلى التصرف ب «أسلوب غير مسئول بالمرة»؛ أي، إنه بدأ يفكر في سبل لفصل كشمير عن الهند. وفي يوم 29 سبتمبر 1950 التقى عبد الله السفير الأمريكي لوي هندرسون. وأثناء مناقشة مستقبل كشمير، قال لهندرسون:
إنه يرى أنها ينبغي أن تكون مستقلة؛ فالغالبية العظمى من السكان ترغب في الاستقلال، وأنه ثمة أسباب تدفعه لاعتقاد أن بعض زعماء حكومة آزاد كشمير يرغبون في الاستقلال ومستعدون للتعاون مع زعماء حزب المؤتمر الوطني الكشميري إن كان ثمة فرصة لا بأس بها في أن يسفر ذلك التعاون عن الاستقلال. وقد عجز أهل كشمير عن فهم سبب إصرار الأمم المتحدة على إغفال الاستقلال حلا محتملا لمسألة كشمير؛ فأهل كشمير يمتلكون خلفيتهم اللغوية والثقافية الخاصة؛ فالهندوس فيها يختلفون عن الهندوس في الهند اختلافا شاسعا من حيث العادات والتقاليد، وخلفية مسلميها مختلفة عن خلفية مسلمي باكستان. والحقيقة أن سكان كشمير كانوا متجانسين رغم وجود الأقلية الهندوسية.
6
ثم مضى عبد الله سائلا السفير الأمريكي عما إذا كانت الولايات المتحدة من شأنها أن تساند كشمير إذا استقلت. ولكن للأسف، ليس في السجلات المنشورة لوزارة الخارجية الأمريكية ما يطلعنا على ماهية الإجابة التي حصل عليها؛ فهل سبق للولايات المتحدة أن فكرت جديا في دعم كشمير كدولة تابعة لها، علما بأن موقعها يمكن أن يكون ذا أهمية هائلة في المعركة ضد الشيوعية؟
حتى الآن، لا نعرف إجابة هذا السؤال. ويبدو أن عبد الله آنذاك لم يكن يعرف أيضا؛ فحينذاك عاد يطرق باب حكومة الهند، ليتفاوض معها على شروط منح كشمير الحكم الذاتي؛ فتقرر أن تحظى الولاية بجمعية تأسيسية خاصة بها، لتضع اللمسات الأخيرة على شروط ارتباطها بالهند. وفي يناير 1951، كتب عبد الله خطابا إلى وزير الولايات يخبره أنه - حسب فهمه - سوف تناقش الجمعية التأسيسية لجامو وكشمير «مسألة انضمام الولاية للاتحاد، ومسألة الاحتفاظ بالحاكم أو إقالته من منصب الرئيس الدستوري للولاية، ومسألة صياغة دستور للولاية يتضمن مسألة تحديد نطاق ولاية الاتحاد على الولاية». وأضاف أن تلك الجمعية التأسيسية سوف «تتخذ قرارات بشأن جميع القضايا الواردة أعلاه»، وهي قرارات لا بد أن تتعامل معها حكومة الهند باعتبارها «ملزمة لجميع الأطراف المعنية». كان في ذلك تلميح إلى أنه حتى مسألة انضمام كشمير إلى الهند لم تكن مسألة نهائية. ومثلما ذكر الوزراء المنزعجون في هامش الخطاب، فتأويل الشيخ عبد الله «ربما تجاوز ما قلناه».
7
افترض الشيخ - كالمعتاد - أنه يتحدث بلسان ولاية جامو وكشمير بأكملها. وفي الحقيقة، ففي حين أنه كان لا يزال محل توقير في الوادي، فقد أخذت شعبيته تنخفض إلى حد بعيد فيما بين الهندوس في منطقة جامو، الذين كانوا متلهفين إلى الإسراع بضم جزئهم من الولاية إلى الاتحاد الهندي. وفي عام 1949، تشكل حزب براجا باريشاد (حزب الشعب) لتمثيل مصالح هندوس جامو، بقيادة السياسي المحنك الذي كان في السبعين من عمره، بريم نات دوجرا. وكما هو خليق به، فقد وصف الشيخ المعارضين في جامو مستهزئا بأنهم «قوى رجعية».
8
وفي أكتوبر 1951، أجريت انتخابات من أجل جمعية كشمير التأسيسية. قرر حزب براجا باريشاد الترشح، ولكن في مرحلة مبكرة لم تقبل أوراق ترشح عدد كبير من مرشحيه؛ فقرر الحزب مقاطعة الانتخابات احتجاجا على ذلك. وربح حزب المؤتمر بقيادة عبد الله المقاعد الخمسة والسبعين كلها؛ حيث ربح جميع مرشحي حزب المؤتمر الوطني كلهم، عدا ثلاثة مقاعد، بالتزكية.
9
امتد الخطاب الافتتاحي للشيخ عبد الله في الجمعية التأسيسية تسعين دقيقة كاملة. وبالقراءة من نص مطبوع باللغة الإنجليزية، ناقش الشيخ الخيارات المطروحة أمام شعب كشمير، واحدا واحدا. كان الخيار الأول هو الانضمام إلى باكستان، الدولة الدينية «الحافلة بأصحاب الأطيان » و«الإقطاعية». والخيار الثاني كان هو الانضمام إلى الهند، التي ربط بينها وبين الولاية «تقارب في المثل»، وحكومتها «لم تحاول قط التدخل في حكمنا الذاتي الداخلي». لا بد من الإقرار بأنه «كان ثمة ميول توطد أقدامها في الهند يمكن أن تحولها في المستقبل إلى دولة دينية تتعرض فيها مصالح المسلمين للخطر». وفي المقابل، من شأن «استمرار ضم كشمير إلى الهند» أن يعزز التناغم بين الهندوس والمسلمين، ويهمش القوى الطائفية. وقال الشيخ: «غاندي لم يخطئ، عندما تلفظ بكلمات قبل وفاته قال فيها ما معناه: «أرفع عيني إلى التلال، التي يأتي منها العون».»
وفي النهاية وصل عبد الله إلى «خيار أن نجعل من أنفسنا سويسرا شرقية، وننأى بأنفسنا عن البلدين على حد سواء، مع الاحتفاظ بعلاقات ودية مع كل منهما». كان ذلك خيارا جذابا ولكنه لم يبد عمليا؛ فكيف كان يمكن لبلد صغير غير ساحلي أن يصون سيادته؟ ومثلما ذكر الشيخ جمهوره، كانت كشمير ذات يوم «مستقلة» عن كل من الهند وباكستان، فيما بين 15 أغسطس و22 أكتوبر 1947. ثم دمر الغزو القبلي استقلالها؛ فماذا كانت الضمانة على أن كشمير ذات السيادة «لن تقع ضحية اعتداء مماثل؟»
10
ومن ثم رفض الشيخ خيار الاستقلال باعتباره خيارا غير عملي، وخيار الانضمام إلى باكستان باعتباره خيارا غير أخلاقي؛ فقد رأى أنه حري بكشمير الانضمام إلى الهند، ولكن وفق شروط من اختيارها. تضمنت تلك الشروط الاحتفاظ بعلم الولاية وتعيين رئيس حكومتها رئيسا لوزرائها. إلا أن أيا من هذين الشرطين لم يكن مقبولا لدى حزب براجا باريشاد في جامو، الذي طالب بالاندماج الكامل في الهند، وكان قد تبنى شعار «دستور واحد، رئيس واحد، علم واحد».
وفي يناير 1952، قبيل الموعد المزمع لحديث عبد الله في بلدة جامو، تظاهر طلاب هندوس احتجاجا على رفع علم حزب المؤتمر الوطني إلى جوار العلم الهندي الثلاثي الألوان؛ فقبض عليهم، وطردوا من كليتهم فيما بعد؛ مما أثار تعاطف زملائهم، وأسفر عن مسيرة إلى أمانة الولاية، حيث اقتحم المتظاهرون المكاتب وراحوا يحطمون الأثاث ويحرقون السجلات. وكان رد فعل الشرطة صارما؛ إذ فرضت حظر تجول مدته اثنتان وسبعون ساعة، وقبضت على مئات من أعضاء حزب براجا باريشاد. وكان ممن سجنوا أيضا قائد الحزب المسن - بريم نات دوجرا - رغم أنه لم يشارك بنفسه في التظاهرات.
وخوفا من ردة فعل هندوسية عنيفة في جميع أنحاء البلاد، أقنعت الحكومة في دلهي حكومة كشمير بإطلاق سراح زعماء حزب براجا باريشاد؛ فوافق عبد الله، ولكن على مضض. وفي يوم 10 أبريل ألقى خطابا قال فيه إن حزبه سوف يقبل دستور الهند «كاملا ما إن نتحقق من أن مسامير نعش الطائفية قد دقت أخيرا». وأضاف بوجوم: «هذا ما لم نتأكد منه بعد.» وقال الشيخ إن الكشميريين «يخشون مما قد يحدث لهم ولوضعهم، مثلا، إذا حدث شيء للبانديت نهرو».
11
كان التوقيت والمكان اللذان ألقي فيهما خطاب عبد الله مهمين؛ فقد ألقاه في بلدة رانبير سينج بورا، التي تبعد أربعة أميال فقط عن الحدود مع باكستان. كذلك كانت الهند قد خرجت لتوها من انتخابات عامة بدت نصرا لجواهر لال نهرو وسياساته. ترددت أصداء الخطاب على نطاق واسع، وتسبب في انزعاج كبير؛ فما بال الرجل الذي كثيرا ما كان يصدر مذكرات يشيد فيها بالهند لعلمانيتها صار متشككا فجأة هكذا؟
تزامن تغير رأي الشيخ مع زيارة الصحفي البريطاني إيان ستيفنز لكشمير. كان ستيفنز - محرر صحيفة «ستيتسمان» في كلكتا أثناء اضطرابات 1946-1947 - معروفا بدعمه القوي لباكستان. كان يرى أن وادي كشمير بأغلبيته السكانية المسلمة ينبغي أن ينتمي إلى ذلك البلد. إلا أنه كان مدركا لمشكلات زعيمه. كان قد أجرى محادثات مطولة مع الشيخ عبد الله، الذي رأى فيه «رجلا مقداما متنورا، يدافع عن مبادئ حميدة في حد ذاتها، ضحية - مثل كثيرين منا - لتغيرات عام 1947 الفريدة في نطاقها وسرعتها وما أحدثته من اضطراب، ويتبوأ حاليا منصبا ربما كان متفردا فيما ينطوي عليه من وحدة وحيرة». وقد كان نظام عبد الله يستند إلى «حراب هندية، أي حراب هندوسية بالأساس». ومن المسلم به أنه «كان نظاما جيدا من نواح عدة؛ إذ كان نظاما نشطا ، مليئا بالأفكار، وحازما في معاداته للطائفية، وتقدميا للغاية في مجال الإصلاح الزراعي». ولكن ستيفنز اختتم حديثه مستدركا: «ولكنه قد يبدو نظاما شاذا في نظر التاريخ.»
12
3
في وقت ما كان عبد الله رجل نهرو في كشمير، ولكن بحلول صيف عام 1952، كان الأقرب إلى الصحيح هو أن نهرو كان رجل عبد الله في الهند؛ فقد أفصح الشيخ عبد الله عن رأيه المتمثل في أن رئيس الوزراء هو الشيء الوحيد الذي يقف بين الهند والنصر النهائي للنزعة الطائفية الهندوسية.
وفي ذلك الوقت، استمرت النقاشات المعنية بوضع كشمير تحديدا في مواجهة الاتحاد الهندي. وفي يوليو، التقى الشيخ عبد الله نهرو في دلهي، وكذلك عقد مجموعة من الاجتماعات مع وزراء آخرين؛ فتوصلوا إلى تسوية عرفت باسم «اتفاقية دلهي»، اكتسب الكشميريون بموجبها صفة المواطنة الهندية الكاملة، مقابل درجة استقلال أكبر كثيرا من التي تمتعت بها الولايات الأخرى في اتحاد الهند؛ ومن ثم تقرر رفع علم الولاية الجديد (الذي صممه حزب المؤتمر الوطني الكشميري) إلى جانب العلم الوطني «لأسباب تاريخية وغيرها من الأسباب». ولم تسمح الاتفاقية لدلهي بإرسال قوات لاحتواء «الاضطرابات الداخلية» دون موافقة سريناجار. وعلى الرغم من أنه فيما يخص الولايات الأخرى كانت السلطات المتبقية (من القوائم الثلاث لتوزيع السلطات بين الولايات والدولة) تمنح للحكومة المركزية، في حالة كشمير ظلت تلك السلطات تحت سيطرة الولاية. ومن المهم أنها حظرت على غير سكان الولاية شراء أراض أو عقارات داخلها. وكان ذلك التدبير يستهدف إحباط محاولات تغيير النمط السكاني للوادي عن طريق الهجرة إليه على نطاق واسع.
13
كانت تلك تنازلات عظيمة، إلا أن الشيخ عبد الله ظل يضغط للحصول على المزيد من السلطات؛ ففي خطاب شديد اللهجة ألقاه في الجمعية التأسيسية لولاية جامو وكشمير، قال إن الولاية وحدها هي التي يمكن أن تقرر السلطات التي سوف تتنازل عنها لاتحاد الهند، أو نطاق ولاية المحكمة الهندية العليا على كشمير. ثم إنه أخبر يوفراج كاران سينج - رئيس الولاية الرسمي - أنه إن لم يساير تلك الرؤية فسوف يسلك مسلك أبيه، هاري سينج. وقال الشيخ عبد الله إن الأمير الشاب يجب أن «يقطع صلاته بالعناصر الرجعية» ويتوحد عوضا عن ذلك مع «مسرات الرجل العادي وأحزانه». وذلك لأنه «إذا كان متوهما أنه يمكنه أن يحتفظ بمنصبه بمساعدة أعوانه القلائل، فهو مخطئ».
14
كانت «العناصر الرجعية» التي أشار إليها الشيخ عبد الله هي هندوس جامو؛ فقد كانوا قد استأنفوا ثورتهم، حاملين شعارا معدلا أخاذا كسابقه، مفاده: «دستوران، رئيسان، علمان؛ لن نقبل بذلك في دولة واحدة، لن نقبل.» وازدادت وتيرة المظاهرات والمسيرات، وكذلك الصدامات مع الشرطة. ومرة أخرى بدأت سجون جامو تمتلئ بمتطوعي حزب براجا باريشاد.
احتفظ الهندوس في جامو بتعلق عميق بالأسرة الحاكمة، وبالمهراجا هاري سينج على وجه الخصوص؛ فقد كانوا ممتعضين من تنحيته من منصبه، ومستائين من ابنه لكونه «خائنا» إذ رضي بالحلول محله. إلا أن تخوفاتهم كان جزء منها اقتصاديا؛ إذ كانوا يخشون أن الإصلاحات الزراعية التي طبقت حديثا في وادي كشمير سوف يعاد تطبيقها في جامو؛ ففي الوادي، كانت الأراضي الزائدة عن الحد المفروض قد انتزعت من يد ملاكها. وبما أن ذلك الحد كان ثابتا عند اثنين وعشرين فدانا للأسرة الواحدة، فقد كانت خسائر ملاك الأراضي كبيرة. منحت معظم الأراضي التي صادرتها الدولة إلى الفلاحين المنتمين المتوسطي الحال، في حين لم تنتفع طبقة العمال الزراعيين بالقدر ذاته. ولكن رغم ذلك كانت الإصلاحات الزراعية هناك قد تجاوزت مثيلاتها في سائر أنحاء الهند وفاقتها نجاحا.
15
وفي الواقع، جميع كبار الملاك الزراعيين في الوادي تقريبا كانوا هندوسيين؛ مما أضفى صبغة دينية مؤسفة على ما كان في الأصل مشروعا لإعادة التوزيع الاشتراكية. ربما كان ذلك أمرا محتما؛ فعلى الرغم من صدق العلمانية التي زعم الشيخ عبد الله اعتناقها، فهي لم يكن من الممكن أن تلغي موروثات التاريخ؛ فيوما ما كانت تلك الولاية يحكمها آل دوجرا من جامو، الذين كانوا هندوسا، ثم صار يحكمها حزب المؤتمر الكشميري الذي يقع مقره في الوادي، والذي كان زعيمه ومعظم أعضائه مسلمين.
16
4
خلال الأعوام 1950-1952، بينما كانت بقية الهند آخذة في التعرف على دستورها الجديد وتجري انتخاباتها الأولى، كانت ولاية جامو وكشمير تعاني عدم اليقين على جبهتين؛ أولا: العلاقات غير المستقرة بين الولاية واتحاد الهند. وثانيا: الصراع المتنامي بين الأغلبية المسلمة في وادي كشمير ومنطقة جامو التي كان يسيطر عليها الهندوس. كان ذلك موقفا مثاليا لأي سياسي يبحث عن قضية يتبناها. وقد وجد مثل ذلك الشخص.
كان ذاك هو الدكتور شياما براساد موكرجي، الذي حول معركة آل دوجرا في جامو إلى معركته الخاصة. كان الدكتور موكرجي قد ترك وزارة جواهر لال نهرو لكي يؤسس حزب بهاراتيا جانا سانج ويتولى رئاسته. كان أداء حزبه الجديد ضعيفا في الانتخابات العامة لعام 1952؛ إذ لم ينتخب في البرلمان سوى ثلاثة من أعضائه؛ فجاءت متاعب كشمير في الوقت المناسب للدكتور موكرجي وحزبه جانا سانج؛ فقد مثلت فرصة لرفع معنويات الكوادر المحبطة، ونسيان خيبة الأمل التي أسفرت عنها الانتخابات، وإعادة تقديم الحزب من أجل المرحلة القومية.
بدأ موكرجي هجومه في البرلمان، بسلسلة من الهجمات الشرسة على الحكومة؛ حيث سأل ساخرا: «من نصب الشيخ عبد الله ملك الملوك في كشمير؟» على ما يبدو كان الشيخ عبد الله قد قال إن الكشميريين سوف يعاملون العلم الإقليمي والعلم القومي «على قدم المساواة»؛ فقال موكرجي إن ذلك يبدي «ولاء مقسما» غير مقبول في بلد ذي سيادة. وحتى إن كان الوادي يرغب في انضمام محدود، فلا بد من السماح لجامو ومنطقة لاداخ البوذية بانضمام كامل إن كانت تلك رغبتهما. ولكن الحل الأفضل سيظل هو جعل الولاية كلها جزءا من الهند، دون امتيازات خاصة؛ فهذا من شأنه أن يمنحها المكانة ذاتها كسائر الولايات الأميرية، التي وافقت في النهاية على الخضوع لأحكام الدستور الهندي كاملة، رغم الوعود بالحكم الذاتي التي قطعت لها في البداية. عبد الله نفسه كان عضوا في الجمعية التأسيسية الهندية، إلا أنه كان «يطلب معاملة خاصة. ألم يوافق على القبول بهذا الدستور فيما يتعلق ببقية الهند، بما في ذلك الولايات البالغ عددها 497 ولاية؟ إذا كان ذلك ملائما لها جميعا، فلم لا يلائمه في كشمير؟»
17
في خريف عام 1952، زار موكرجي جامو وألقى عدة خطب دعما لحركة براجا باريشاد؛ فقال إن مطالبها «عادلة ووطنية»، ووعد بأن «يؤمن» لها دستور الهند. ثم ذهب بعد ذلك إلى سريناجار، حيث اجتمع بالشيخ عبد الله في لقاء خلافي.
18
تشجع آل دوجرا بالدعم الذي تلقوه من حزب قومي وزعيم قومي. وفي نوفمبر 1952، انتقلت حكومة الولاية إلى جامو لقضاء موسم الشتاء. وكان كاران سينج - بصفته رئيس الولاية - أول الوافدين. وبعد مرور سنوات، ذكر «الشعارات المستهزئة والعدائية» والأعلام السوداء التي استقبله بها حزب براجا باريشاد؛ فعلى الرغم من أن «حزب المؤتمر الوطني الكشميري كان قد حاول إعداد استقبال ما؛ فقد اكتسحته موجة العداء العميق من قبل الجموع الموالية لآل دوجرا». وقد كتب إلى حكومة الهند مشيرا إلى أن «أغلبية كاسحة من مقاطعة جامو تبدو بالغة التعاطف مع تلك القلاقل ... لا أظنه سيكون حكما صائبا أن نغض الطرف عن المسألة كلها باعتبارها صنيعة عصبة رجعية».
19
كان ذلك بالطبع هو الحكم الذي كان الشيخ عبد الله ميالا إلى إصداره. وخلال شتاء 1952-1953 ظل حزب براجا باريشاد وحكومة الولاية في حالة صراع محتدم؛ فراح المتظاهرون ينزلون علم الولاية من على البنايات الحكومية، ويضعون علم الهند مكانه؛ فكانت الحكومة تقبض عليهم، ولكن سرعان ما كان آخرون يأتون محلهم. وقد تلقت الحركة دفعة هائلة عندما أطلقت الشرطة النار على ميلا رام، أحد أعضاء حزب باريشاد، بالقرب من الحدود الباكستانية؛ ففي جامو - على الأقل - كانت سمعة عبد الله في الحضيض؛ إذ كان قد اكتسب شهرته من كونه ممثلا للشعب في مواجهة حاكم مستبد؛ فإذا به يتحول هو نفسه إلى حاكم طاغية.
20
في يناير، كتب موكرجي خطابا طويلا إلى جواهر لال نهرو أعرب فيه عن تأييده لحزب براجا باريشاد وكفاحه «البالغ الوطنية والمشحون بالمشاعر» في سبيل «الاندماج الكامل مع الهند». وأضاف تحديا غير مبرر بخصوص «استعادة» الجزء المنتمي إلى ما كان سابقا ولاية موحدة، والذي أصبح الآن تحت سيطرة باكستان. وسأل موكرجي: «كيف تنوي الهند استعادة تلك الأرض؟» وأردف : «لطالما تهربت من الإجابة عن هذا السؤال. وقد آن الأوان لكي نعرف ما الذي تنوي فعله تحديدا في هذا الشأن؛ فإن فشلنا في استرجاع تلك الرقعة المفقودة من أرضنا، فسيكون ذلك بمنزلة عار ومذلة قوميين.»
تجاهل نهرو ذلك التقريع الساخر. أما فيما يتعلق ببراجا باريشاد، فقد رأى نهرو أنه «يحاول تسوية مسألة دستورية بالغة الصعوبة والتعقيد بإعمال أساليب الحرب». أما الشيخ عبد الله (الذي كان موكرجي قد كتب له خطابا منفصلا) فكان أكثر جرأة؛ فحسب رأيه كان حزب «براجا باريشاد عازما على فرض حل لقضية كشمير بأكملها قائم على أسس طائفية».
ثم طلب موكرجي إلى نهرو وعبد الله إطلاق سراح قيادات حزب براجا باريشاد وعقد مؤتمر لمناقشة مستقبل كشمير. ومرة أخرى تحدى موكرجي نهرو لدخول حرب مع باكستان. وألح قائلا: «لطالما تهربت من تلك المسألة. رجاء لا تحول الأنظار عن تلك القضية ودع عامة الشعب الهندي يعلمون كيف ومتى سنسترد تلك الرقعة من أرضنا الغالية، إن كان لنا أن نستردها.»
21
في النهاية وصلت المعاملات بينهما إلى طريق مسدود بدافع الكبرياء؛ فقد رأى نهرو أن حزب باريشاد ينبغي أن يوقف نشاط الحركة أولا، قبل أن تقبل الحكومة الدخول في محادثات معه، بينما كان موكرجي يريد أن تعرض الحكومة المحادثات، ثم تستجيب الحركة بوقف معركتها؛ فعندما رفضت الحكومة أن تلين، قرر موكرجي النزول بالمسألة إلى شوارع دلهي. بدءا من الأسبوع الأول من مارس، أعرب متطوعون من جانا سانج تأييدهم لمطالب براجا باريشاد، مخاطرين بالتعرض للاعتقال؛ فكان المتظاهرون يتجمعون خارج قسم الشرطة ويهتفون بشعارات معادية للحكومة ورئيس الوزراء، ويخالفون بذلك المادة 188 من قانون العقوبات الهندي.
نسق موكرجي حملة المقاومة من مكتبه في مقر البرلمان. وكان المشاركون ممن سمتهم الشرطة «الأحزاب الطائفية الهندوسية»: جانا سانج وهندو ماهاسابها ورام راجيا باريشاد. وبحلول نهاية أبريل 1953، كان 1300 شخص قد قبض عليهم. وتشير التقارير الاستخباراتية إلى أنهم أتوا من جميع أنحاء الهند وكانت أغلبيتهم من الطوائف العليا: من طوائف البراهمة والأعيان (التهاكور) والتجار (البانيا).
22
كان الصيف قد حل ، وهو موسم السياحة في الوادي. كان من أوائل الزوار الوافدين - في نهايات أبريل - السياسي الأمريكي أدلاي ستيفنسون. كان قد جاء إلى كشمير للإبحار في بحيرة دال ومشاهدة الثلوج، وكذلك بغية التقاء الشيخ عبد الله. وقد التقيا مرتين، لساعتين أو أكثر في كل مرة. لم يكشف أي من الطرفين فحوى تلك المحادثات، ولكن بعض الهنود افترضوا أنها كانت تنحصر في مسألة الاستقلال. وزعمت صحيفة في بومباي معروفة بتأييدها الولايات المتحدة في غير تلك الواقعة أن ستيفنسون طمأن عبد الله إلى نيله ما هو أكثر كثيرا من مجرد الدعم المعنوي؛ فكان سيحصل على قرض قيمته 15 مليون دولار بمجرد أن تنال كشمير استقلالها، إلى جانب أن تكفل الولايات المتحدة أن «يستقر في الوادي سكان دائمون يتألفون من 5 آلاف أسرة أمريكية على أقل تقدير، وأن تمتلئ المنازل العائمة جميعها والفنادق بأقصى سعة من النزلاء، وأن يشتري الأمريكيون جميع الأعمال الفنية والحرفية التي يصنعها الحرفيون الكشميريون المهرة، وأنه في غضون ثلاثة أعوام ستصل الكهرباء إلى كل قرية في كشمير، وهكذا».
23
فيما بعد نفى ستيفنسون كونه شجع عبد الله على ذلك؛ فعندما قدم الشيخ «في معرض الحديث اقتراح أن يكون الاستقلال حلا بديلا». لاذ ستيفنسون بالصمت، وزعم أنه لم يقدم «تشجيعا ولو غير مباشر بخصوص الاستقلال، الذي لم يبد لي منطقيا ... كنت أستمع، ولم أتكلم».
24
إذا فقد عادت خواطر الاستقلال تراود الشيخ عبد الله. ولكن استقلال ماذا؟ من المستبعد أن يكون يقصد استقلال ولاية جامو وكشمير كاملة؛ فجزء منها (الشمال) كان تحت سيطرة باكستان، وجزء آخر (جامو) كان نهبا لقلاقل طال أمدها. مكاتبات عبد الله نفسه غير متاحة للباحثين، كما أنه لم يتحدث عن ذلك الأمر في مذكراته، ولكن يمكننا أن نتكهن بقدر من المصداقية بأنه كان يسعى لاستقلال الوادي بالتأكيد، والوادي وحده دون غيره، فذلك كان النطاق المشمول بسيطرته؛ إذ كان السكان يؤيدونه إلى حد بعيد، وكان ذاك هو المكان الذي يأتيه السائحون ويغذون أحلامه عن «سويسرا الشرق».
25
5
لم يمر وقت طويل على مجيء ستيفنسون حتى جاء سياسي آخر يسعى إلى الصيد في الماء العكر؛ ففي يوم 8 مايو، استقل الدكتور شياما براساد موكرجي قطارا إلى جامو، في طريقه إلى سريناجار؛ فاستباقا للمتاعب التي من الممكن أن يتسبب بها أصدرت حكومة الولاية قرارا بمنعه من الدخول؛ فتجاهل موكرجي ذلك الأمر وعبر الحدود صباح يوم 11 مايو. طلبت منه الشرطة أن يعود أدراجه، وعندما رفض، قبضت عليه ورحلته إلى سجن سريناجار.
قبل حركة براجا باريشاد، كان موكرجي طول عمره من أنصار الالتزام بالدستور؛ فقد كان نبيلا بنغاليا من الفكر القديم، يجد راحته في ارتداء الحلة وربطة العنق، واحتساء كأس من الويسكي. وطوال الفترة التي دامتها الحركة القومية كلها، لم يلجأ قط إلى حملات المقاومة ولا أمضى ليلة واحدة في الحبس. بل إنه طالما آمن - حسب كلام مدون سيرته الذاتية - بأن «الهيئات التشريعية هي المنتدى الوحيد المناسب للتعبير عن الآراء المتباينة حيال السياسات الحكومية»، وهو الاعتقاد الذي لم يتماش مع دعم موكرجي للتظاهرات التي نظمتها حركة براجا باريشاد. ثم إنه أصبح يجيز التظاهرات في الشوارع ويقودها بنفسه.
فلم لجأ موكرجي إلى أساليب لم تكن مألوفة لديه؟ لقد أخبر تابعه (ومدون سيرته الذاتية في المستقبل) بلراج مادهوك أنه على قناعة بأن تلك هي اللغة الوحيدة التي يفهمها رئيس الوزراء. وقال: «كان يشعر أن البانديت نهرو، بصفته رجلا مهيجا للثورات طوال حياته، تكونت لديه عقدة إزاء أساليب التهييج الثورية؛ فأصبح من الممكن أن يلين أمام القوة والثورات، ولكن ليس أمام الحق أو المنطق ما لم يدعمهما بأس.»
26
وعندما أودع سجن سريناجار - أثناء صياغة الاتهامات الموجهة إليه - أمضى موكرجي وقته في قراءة الفلسفة الهندوسية ومكاتبة أصدقائه وأقربائه.
27
ثم وقع فريسة المرض في بدايات شهر يونيو؛ فشعر بألم في ساقيه مصحوب بحمى، وهو ما شخصه الأطباء بمرض التهاب الغشاء المحيط بالرئتين، ولكنه أصيب بأزمة قلبية يوم 22 يونيو، وتوفي في اليوم التالي.
28
في يوم 24 يونيو، نقلت طائرة من القوات الجوية الهندية جثمان موكرجي لتعيده إلى مسقط رأسه، كلكتا. كان الشيخ عبد الله قد غطى الجثمان بوشاح، في حين ساعد نائبه - باكشي غلام محمد - في نقل المحفة إلى الطائرة. وفي كلكتا، اصطفت حشود هائلة على الطريق البالغ ثلاثة عشر ميلا من مطار دم دم إلى منزل العائلة في بهوانيبور؛ فكتب نهرو إلى صديق له في مدراس قائلا: «لقد أوقعتنا وفاة الدكتور موكرجي في متاعب جمة؛ فالمناخ العام في دلهي سيئ، وأسوأ في كلكتا.»
29
كان الوضع أسوأ من ذلك أيضا في جامو؛ فعندما وصلت الأنباء المدينة، هاجمت الجماهير الغاضبة مركزا حكوميا للفنون ونهبته، وأضرمت النيران في مكاتب حكومية.
30
وفي ذلك الوقت، تجمع حشد من الناس في دلهي عند بوابة أجمير، مرتدين شارات سوداء، وملوحين بأعلام سوداء، وهاتفين: «الدم بالدم.» استمرت حالة الغضب لأيام. وفي يوم 5 يوليو وصل العاصمة جزء من رماد جسد الدكتور موكرجي، وحمل في موكب مهيب، شكله حزب جانا سانج، بينما راح السائرون في الموكب يهتفون بشعارات الانتقام ويرددون في إصرار: «كشمير لنا.»
31
في نهايات شهر يونيو، علقت ملصقات في بعض أنحاء دلهي، محذرة الشيخ عبد الله من أنه سوف يقتل إن جاء إلى العاصمة. لم يكن من الممكن الاستخفاف بتلك التهديدات لأنها صدرت في مناخ مشحون مشابه للمناخ الذي اغتيل فيه غاندي. والآن مرة أخرى بدا أن «الطبقة الوسطى بأكملها في دلهي واقعة تحت سيطرة الطائفيين الهندوس». وكان ثمة مخاوف من أنه ليس فقط الشيخ عبد الله، وإنما كذلك «السيد نهرو قد يواجه المصير نفسه كغاندي نظرا للدعاية المكثفة التي يروج لها أنصار الطائفية». فأعطيت الشرطة أوامر بالتنبه «لأي دعاية ذات طبيعة خطيرة، أو أي خطط، أو مخططات يمكن أن تكون تلك الجماعات الحزبية قد دبرتها ضد رئيس الوزراء».
32
6
زرعت الحركة الشعبية التي قادها الدكتور موكرجي خواطر الاستقلال في رأس الشيخ عبد الله، وبدا أن موجة السخط الهائلة التي تبعت وفاة موكرجي أكدت تلك الخواطر. وإذ استشعر نهرو ذلك، كتب له رسالتين طويلتين مشبعتين بالمشاعر استحضر فيهما ذكرى صداقتهما القديمة وروابط الهند بكشمير. وطلب إلى عبد الله المجيء إلى دلهي لمقابلته. ولكن الشيخ عبد الله لم ينصع لرغبته. ثم أرسل نهرو مولانا أبو الكلام آزاد (أقدم عضو في مجلس الوزراء) إلى سريناجار، غير أن ذلك لم يجد نفعا أيضا؛ فحينذاك بدا الشيخ مقتنعا بأمرين: أنه يحظى بدعم الولايات المتحدة، وأنه «حتى نهرو لا يمكنه إخماد القوى الطائفية [الهندوسية] في الهند». وفي يوم 10 يوليو ألقى خطابا أمام أعضاء الحزب في «مجاهد منزل»، مقر حزب المؤتمر الوطني الكشميري في سريناجار. وبعدما أوجز مظالم كشمير، ومظالمه، لدى حكومة الهند، قال: «سيأتي وقت أودعها فيه.»
33
انتاب رئيس الوزراء شعور بالانزعاج البالغ إثر التحول الشامل في موقف الشيخ عبد الله؛ ففي رسالة كتبها نهرو إلى أحد زملائه، قال إن التطورات الجارية في كشمير مؤسفة للغاية؛ لأن «أي شيء يحدث هناك تترتب عليه تبعات أكبر وأوسع نطاقا». وأضاف: «مشكلة كشمير ترمز إلى أمور كثيرة، منها سياستنا العلمانية في الهند.»
34
آنذاك كانت حكومة كشمير قد أصبحت منقسمة على نفسها، وكان من المرجح (حسبما أشار نهرو) «أن يسير أعضاؤها في اتجاهات مختلفة ويعلنون سياسات مختلفة تماما». كان ذلك يعزى في جزء كبير منه إلى عمل حكومة مكتب الاستخبارات الهندي؛ فضباط ذلك المكتب كانوا يعملون مع حزب المؤتمر الوطني الكشميري، فأشاعوا الفرقة بين قياداتها والارتباك في صفوفها؛ فبعض القادة - مثل جي إم صديق - كانوا يساريين معادين للولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا رافضين للمباحثات التي خاضها الشيخ عبد الله مع ستيفنسون. وآخرون - مثل باكشي غلام محمد - كانوا يطمحون إلى تولي مقاليد الحكم في كشمير هم أنفسهم.
35
آنذاك كان ثمة صدع مفتوح داخل حزب المؤتمر الوطني الكشميري، بين الجماعة الموالية للهند والجماعة الموالية للاستقلال. تزعم الأخيرة شخص وثيق الصلة بالشيخ عبد الله؛ هو: ميرزا أفضل بيج. أما الجماعة الأولى فكانت على اتصال وثيق بصدري رياست، كاران سينج. وقد أشيع أن الشيخ عبد الله سوف يعلن الاستقلال يوم 21 أغسطس - يوم احتفال العيد الكبير - وأنه سيطلب آنذاك حماية الولايات المتحدة من «العدوان الهندي»؛
36
فقبل أسبوعين على ذلك التاريخ، أقال عبد الله أحد أعضاء مجلس وزرائه مما منح الآخرين في الفصيل الموالي للهند عذرا للتحرك ضده؛ فكتبوا إلى الشيخ رسالة - بقيادة باكشي غلام محمد - يتهمونه فيها بتشجيع الطائفية والفساد. وأرسلوا نسخة من الرسالة إلى كاران سينج أيضا؛ فأقال هو بدوره عبد الله من منصبه ودعا باكشي غلام محمد إلى تشكيل حكومة عوضا عن عبد الله.
أقيل عبد الله في الساعات المبكرة من الصباح. وعندما أوقظ وسلم ورقة إقالته، اشتاط غضبا، وصاح: «من يظن نفسه ذاك الصدري رياست ليقيلني؟ أنا الذي صنعت من ذلك الصبي التافه صدري رياست.» بعدئذ أبلغته الشرطة بأنه لم يقل فحسب، بل هو موضوع قيد الإقامة الجبرية أيضا. ومنحته الشرطة ساعتين لأداء صلاته وحزم أمتعته قبل أخذه إلى محبسه.
لم تعرض عبد الله لتلك المهانة؟ هل كان لا بد من إقالته في جوف الليل، وهل لزم حبسه بعدها؟ قال كاران سينج مسترجعا ذكرياته فيما بعد أن سبب فعل ذلك كان أن «باكشي غلام محمد أوضح تماما أنه لا يمكنه تولي مسئولية إدارة الحكومة إذا ترك الشيخ عبد الله وبيج أحرارا لنشر آرائهما». هذا يعني أن الشيخ عبد الله كان مأمون الجانب وساكنا في السجن، ولكنه إذا ظل حرا طليقا، بعد إقالته من منصبه، فسرعان ما سيعبئ المشاعر الشعبية لصالحه.
37
وفي ذلك الوقت، وفيما بعد، كان ثمة اعتقاد واسع الانتشار في أن القبض على عبد الله كان فكرة رافي أحمد كيدواي. كان كيدواي عضوا يساريا في مجلس الوزراء، وصديقا مقربا لنهرو. وفي دلهي كان الظن السائد هو أنه أراد إذلال الشيخ عبد الله لأن الأخير كان يحابي الأمريكيين. إلا أن الرأي السائد في كشمير كان هو أن ذلك كان عملا انتقاميا خالصا، وإن استند إلى أسس خاطئة؛ ففي عام 1947، كان شقيق كيدواي قد اغتيل في مدينة مسوري الجبلية، على يد أحد أبناء كشمير؛ فكانت الإطاحة بالشيخ عبد الله من قبيل تصفية الحسابات.
38
هل أقر جواهر لال نهرو نفسه القبض على صديقه الشيخ عبد الله؟ يرى مدون سيرة نهرو أنه لم يعرف بالأمر مسبقا، ولكن مدير جهاز الاستخبارات المعاصر له يلمح إلى معرفته المسبقة. إلا أن الشيء الوحيد الواضح هو الآتي: بمجرد أن تم الفعل، لم يفعل نهرو شيئا لإلغائه.
39
كان لرئيس وزراء كشمير الجديد شخصية مهيبة كسابقه، وشاعت مناداته ب «الباكشي» مثلما كان سابقه يعرف ب «الشيخ». ولد غلام محمد عام 1907 لأسرة رقيقة الحال، وبدأ مشواره السياسي بتنظيم اتحاد لسائقي عربات الخيول في سريناجار. وكان ذلك - بالإضافة إلى قضائه أربع فترات في سجون هاري سينج - هو ما أمده بالمؤهلات المتميزة للانضمام إلى الحركة القومية. إلا أنه كان مختلفا عن الشيخ عبد الله إلى حد بعيد من حيث المزاج والتوجه؛ فأحدهما كان رجل أفكار ومثالية، والآخر كان رجل أفعال وتنظيم؛ فعندما هجم الغزاة في أكتوبر 1947، كان عبد الله هو من ألقى الخطب الرنانة، بينما وزع الباكشي المتطوعين على مواقعهم وراح يرتقب العناصر التي يحتمل انتماؤها إلى طابور خامس. وبعد عام 1947، بينما كان عبد الله منشغلا بالتعامل مع نهرو ودلهي، كان الباكشي من «أبقى على سلامة هيكل الولاية، في وقت انهيار الحكومة وزوالها من الوجود». وحسبما كتب باحثان أكاديميان من كشمير في عام 1950، فإنه «لكونه نموذجا للانضباط الصارم هو نفسه، فإنه لا يقبل بعدم الانضباط وتكتيكات المماطلة. وهو لا يحب الروتين والرتابة الحكوميين؛ فهو يؤمن بالتصرف السريع السليم». وكانت النتيجة التي خلصت إليها الهند حتما في ذلك الوقت هي: «في الواقع، الباكشي يمثل لعبد الله ما مثله السردار باتيل لنهرو.»
40
ذلك التشبيه غير دقيق، رغم جاذبيته؛ لأن باتيل لم يشته منصب رئيسه، في حين أن الباكشي، عندما وصل إلى ذلك المنصب، كان ينوي الإبقاء عليه. وكان ذلك يتطلب - مثلما أدرك هو جيدا - إبقاء دلهي في صفه؛ فزار جامو بعد عشرة أيام من تسلمه زمام السلطة، وهناك ألقى خطبة أمام جمهور كبير، أكد لهم فيها أن «الروابط التي تجمع بين كشمير والهند لا تنفصم. ولا يمكن لقوة على الأرض أن تفرق بينهما». ثم إنه ألقى خطابا في سريناجار أمام اجتماع للأعضاء العاملين في حزب المؤتمر الوطني الكشميري، وفيه قال : «إن الشيخ عبد الله عمل لمصلحة الغزاة الغربيين مباشرة بنظره في فكرة استقلال كشمير.» وقال إن تلك «لعبة خطيرة، محفوفة بالتبعات الكارثية على كشمير والهند وباكستان». فبما أن كشمير تعوزها الموارد اللازمة للدفاع عن نفسها، كانت فكرة الاستقلال «فكرة عبثية»، يقدر أنها لن تأتي بنتيجة سوى جعل الولاية مركزا لتدابير القوى العظمى؛ فقد كانت فكرة «يمكن أن تدمر الناس».
41
وعندما تولى الباكشي غلام محمد منصب رئيس الوزراء، اتبع طرازا جماهيريا؛ فكان يعقد مجلسا رسميا كل جمعة للاستماع إلى مظالم العامة. وكانت من الخطوات المبكرة التي اتخذها رفع سعر شراء الأرز. ثم إنه جعل التعليم مجانيا، وأجاز كليات جديدة للهندسة والطب، وأبطل الحواجز الجمركية بين جامو وكشمير من ناحية وبقية الهند من ناحية أخرى.
في أكتوبر 1954، عقد مؤتمر رؤساء تحرير الصحف في عموم الهند في سريناجار. استضافت حكومة الولاية الضيوف في أفضل فنادق وأقامت حفلات قدم فيها ما لذ وطاب من الأطباق الكشميرية. وكتب أحد رؤساء تحرير الصحف معربا عن امتنانه أن النظام الجديد جاء منذ سنة فحسب، «إلا أنه يمكننا أن نقول بكثير من الثقة أن حكومة الباكشي أدخلت - في بعض المجالات - إصلاحات أكثر من الإصلاحات التي أتى بها الشيخ عبد الله في سنوات حكمه الست». وبعد العامة والإعلام، جاء دور الرئيس؛ ففي أكتوبر 1955، وصل الدكتور راجندرا براساد سريناجار وسط «حماس شعبي بذل جهد لإثارته»؛ حيث اصطفت الحشود على جانبي الطريق من المطار، وانطلق موكب من المراكب في نهر الجيلوم. كان الرئيس قد أتى لتدشين مشروع للطاقة الكهرمائية، أحد عدة مخططات تنموية بدأ العمل فيها في ظل الإدارة الجديدة.
42
وطوال ذلك الوقت، كان الشيخ عبد الله مرغما على البقاء قيد الإقامة الجبرية. في البداية أقام في قصر قديم في أودهامبور، في السهول، قبل أن ينقل إلى منزل من طابق واحد أقل حرارة في الجبال، بقرية كوت؛ حيث انشغل بتربية الدواجن وقيل عنه إنه أصبح «شديد المعاداة للهند».
43
كان الباكشي ينظر إليه داخل كشمير وخارجها بصفته انقلابيا بصورة أو بأخرى. ما يعنينا هنا هو فحوى تقريرين سريين للشرطة عن صلوات الجمعة في المسجد الجامع بدلهي؛ ففي يوم 2 أكتوبر من عام 1953، حضر الصلاة عضوان في البرلمان من كشمير؛ فعندما طلب أحد رجال الدين إليهما تنظيم اجتماع لحديث عن الوضع في كشمير، أجابا بأن الوقت ليس مناسبا لأنهما يعملان في السر على إطلاق سراح الشيخ عبد الله. وقالا أيضا إن «جميع أبناء كشمير سوف يظلون مع الهند ويبذلون حياتهم من أجلها»، ولكن إن ظل الشيخ في محبسه، فربما تعرض الولاية آنذاك لخطر «اللجوء إلى باكستان وهو ما لن يكونا مسئولين عنه».
بعد ثلاثة أشهر، حضر الباكشي غلام محمد بنفسه الصلاة في المسجد الجامع. كان هذا من قبيل التماس الشرعية؛ لأن ذلك المسجد - الذي بناه شاه جهان في القرن السابع عشر - كان المسجد الأعظم في شبه القارة الهندية والأكثر تبجيلا. استقبله خدم المحراب - إذ أدركوا صلة الباكشي الوثيقة بحاكم الهند - باحترام كاف. ولكن، مثلما جاء في تقرير الشرطة، «المسلمون المجتمعون هناك - ومنهم أبناء كشمير - كانوا يتهامسون بأحاديث معادية للباكشي غلام محمد؛ فكانوا يقولون إنه أصبح رئيس وزراء كشمير بعد أن وضع «معلمه» - الشيخ عبد الله - خلف القضبان».
44
7
خلال خمسينيات القرن العشرين، كما في أربعينياته، عانى وادي كشمير اضطرابات وقلاقل. كان السبب الكامن وراء متاعب الأربعينيات هو عجز المهراجا عن اتخاذ قرار - إذ رفض الانضمام إلى أي من الهند وباكستان بينما كانت الفرصة لا تزال سانحة - وطمع القبائل المغيرة التي غزت القرية وحماستها. أما السبب الكامن وراء متاعب الخمسينيات فكان طموح كل من الشيخ عبد الله وإس بي موكرجي؛ فكل منهما لم يكن راغبا في التقيد بقواعد الديمقراطية الدستورية. وكل منهما بالغ في المخاطرة السياسية، وكل منهما أيضا دفع ثمن مخاطرته بصورة مأساوية.
ولم تكن تطورات الأوضاع في كشمير مقلقة للهنود فحسب؛ فالجنرال البريطاني الذي كان مسئولا عن الجيش الهندي عام 1947 رأى أنها من المحتمل جدا أن «تؤدي إلى تدهور العلاقات الهندية الباكستانية». فأثناء دفاعه عن كشمير أتيحت له فرصة تكوين معرفة وثيقة بكل من الشيخ عبد الله والباكشي؛ فرأى أنه رغم أن عبد الله «لم يكن رجلا عظيما قط»، فقد كان «مخلصا - في رأيي - في حبه لبلده». وفي المقابل، كان الباكشي «غير مخلص إلى حد بعيد»، وكان «شخصية عديمة الثقل».
45
في الواقع، كان الباكشي موهوبا إلى حد ما في التنظيم، وفي الإثراء من منصبه؛ فقد استغل قربه من دلهي لضخ تدفق ثابت من الأموال المركزية في ولايته، واستخدمها للإنفاق على السدود والطرق والمستشفيات والأنفاق والفنادق؛ فشيد العديد من المباني الجديدة في سريناجار، منها: أمانة جديدة، واستاد رياضي جديد، ومجمع سياحي جديد. إلا أن المشروعات التنموية التي اضطلعت بها حكومة الباكشي اشتملت دائما على «نسبة للأهل والأصدقاء»؛ فسرعان ما أصبح نظامه يعرف بمؤسسة الباكشي وإخوته.
46
أثارت التطورات التي حدثت في 1952-1953 أسئلة حادة بشأن حق الهند الأخلاقي في الوادي؛ فقد انقضت ستة أعوام على غزو عام 1947، وهو ما كان وقتا كافيا لكي ينسى العالم ذلك الغزو، ولا يتذكر سوى أن الوادي مسلم مثله مثل باكستان. وإضافة إلى ذلك، كانت الحكومة الهندية قد سجنت الزعيم الكشميري الذي طالما تباهت بكونه رجلها المخلص.
هل كان من الممكن أن تتكشف الأمور بصورة مختلفة؟ ربما، لو كان الشيخ عبد الله وشياما براساد موكرجي تصرفا على نحو مسئول وتحليا بضبط النفس. وربما كان ذلك سيحدث أيضا لو كان جواهر لال نهرو والحكومة الهندية استمعا لصحفي مغمور من أصول إنجليزية كان آنذاك رئيس تحرير مجلة أسبوعية ليبرالية محدودة الانتشار في بنجالور؛ ففي 1952-1953، عندما كان الدكتور موكرجي يطالب بأن تغزو الهند باكستان ومن ثم «استعادة» شمال كشمير، كان هذا الصحفي ويدعى فيليب سبرات يقترح حلا مختلفا بصورة جذرية؛ فقد قال إن الهند ينبغي أن تتخلى عن مطالبتها بالوادي، وأن تمنح الشيخ عبد الله حلم الاستقلال الذي يراوده. وينبغي أن تسحب جيوشها وتسقط القروض التي منحتها لحكومة جامو وكشمير. وكتب: «دعوا كشمير تمضي وحيدة مغامرة في طريق استكشافها لنظام الدولة العلمانية. سوف نراقب بادرة الثقة بالتعاطف اللازم ولكن من مسافة آمنة، حتى يتحرر شرفنا ومواردنا ومستقبلنا من الأوضاع المتشابكة المنهكة التي تنقش الأكاذيب في أرواحنا.»
كان الحل الذي قدمه سبرات مشوبا بلمحة أخلاقية، ولكن بدرجة أكبر نزعة الاقتصاد والحرص؛ فقد رأى أن السياسة الهندية قائمة على «اعتقاد خاطئ في نظرية الوطن الأوحد والطمع في امتلاك وادي سريناجار الجميل ذي الأهمية الاستراتيجية». ولا يمكن تقدير تكاليف تلك السياسة، سواء في الحاضر أو المستقبل؛ فعوضا عن منح كشمير امتيازات خاصة وإثارة مشاعر الاستياء في مناطق أخرى من الهند، كان الأجدر بالدولة أن تتخلى عن تلك الولاية. إلا أن واقع الأمر آنذاك كان أن كشمير:
وقعت فريسة جيشين متربصين كل منهما بالآخر. ربما يلائم بضعة أفراد رؤية استمرار ذلك الوضع الرهيب لأجل غير مسمى. ولكن دافعي الضرائب الهنود يدفعون مبالغ باهظة نظير ميزة محفوفة بالمخاطر، متمثلة في اعتبار كشمير جزءا من الهند على أساس كم العطاء المبذول من جانب الهند والأخذ من جانب كشمير.
47
كانت ضرورة تغليب المصالح المادية على المصالح الأيديولوجية حجة يسيرة القبول بالنسبة إلى ماركسي سابق مثل سبرات. إلا أنها لم تكن حجة يرجح أن تكتسب مؤيدين كثرا في الهند في خمسينيات القرن العشرين.
الفصل الثالث عشر
مشاكل قبلية
تلك القبائل ... لا تدافع عن نفسها بعزم عنيد فحسب، بل تهاجم أعداءها أيضا بشجاعة وجرأة منقطعتي النظير ... فهي تتميز بصمود فكر يتغلب على الشعور بالخطر أو الخوف من الموت.
مسئول بريطاني يتحدث عن قبائل ناجا، نحو عام 1840
1
خلال خمسينيات القرن العشرين، بينما كانت حكومة الهند تسعى إلى إحكام قبضتها على وادي كشمير، واجهت سلطتها ومشروعيتها تحديا آخر من الطرف المقابل لجبال الهيمالايا. كانت تلك «مشكلة ناجا»، وهي مشكلة أقل شهرة بكثير من مشكلتها مع كشمير، على الرغم من أنها لا تقل عنها قدما - بل إنها أقدم منها في الواقع - كما أنها كانت مستعصية على الحل بالقدر ذاته.
كانت ناجا مجموعة من القبائل تعيش شرقي الهيمالايا، بمحاذاة الحدود مع بورما. تلك القبائل إذ انطوت بين جنبات جبالها الحصينة، كانت معزولة عن التطورات الاجتماعية والسياسية الحادثة في بقية الهند. كان دور بريطانيا في إدارة المنطقة محدودا؛ إذ عملت على إبعاد سكان السهول وعدم المساس بالقوانين والممارسات القبلية، عدا واحدة، وهي: صيد الرءوس، إلا أن المعمدانيين الأمريكيين نشطوا في المنطقة منذ منتصف القرن التاسع عشر؛ فحولوا قبائل عدة هناك إلى المسيحية.
في ذلك الوقت كانت تلال ناجا جزءا من آسام، وهي مقاطعة شديدة التباين في تكوينها، حتى بالمعايير الهندية؛ تشترك في حدود مع الصين وبورما وباكستان الشرقية، وتنقسم إلى مناطق مرتفعة وأخرى منخفضة، وتسكنها مئات الجماعات السكانية المتباينة. وفي السهول، عاش سكان هندوسيون يتحدثون اللغة الآسامية، تربطهم أواصر الثقافة والدين بالوسط الهندي الأكبر. وكان من الجماعات القبلية المهمة هناك: الميزو والخاسيون والجارويون والجانتيون، وهي القبائل التي استمدت أسماءها من سلاسل الجبال التي تعيش فيها (أو منحتها إياها). كذلك اشتملت المنطقة على إمارتين - تريبورا ومانيبور - اتسمتا أيضا بامتزاج سكانهما، ما بين هندوس وقبليين.
ومن بين القبائل التي سكنت شمال شرقي الهند ربما كانت قبائل ناجا هي الأكثر استقلالا؛ فقد كانت أرضهم واقعة على الحدود الهندية البورمية، وفي الواقع فقد كانت قبائل ناجا في بورما لا تقل عددا عن مثيلتها في الهند. بعض قبائل ناجا كانت على اتصال بالقرى الهندوسية في آسام، التي كانت القبائل تبيعها الأرز مقابل الملح. إلا أن قبائل ناجا كانت خارج مجال نفوذ الحركة القومية بقيادة حزب المؤتمر الوطني تماما؛ فلم تحدث فيها حملات مقاومة ولا قلاقل مدنية، وفي الواقع، لم يأت زعيم واحد من أتباع غاندي ذوي القبعات البيضاء لزيارة تلك التلال قط. بعض القبائل خاضت معارك شرسة مع البريطانيين، ولكنها مع مضي الزمن توصلت مع الراج البريطاني إلى علاقة احترام متبادل. من جانبها، تذرعت بريطانيا بنوع من الأبوية ، إذ رغبت في «حماية» تلك القبائل الموضوعة تحت وصايتها من أوجه الفساد المدمرة للعالم الحديث.
ترجع مسألة ناجا في الحقيقة إلى عام 1946، وهو العام الذي كان مصير الهند البريطانية يحسم في اثنين من مراكز السلطة الإمبريالية، وهما: نيودلهي وسيملا. وعندما أجريت الانتخابات في جميع أنحاء الهند ، وجاءت البعثة الوزارية البريطانية ورحلت، ودخل نائب الملك اجتماعا سريا مع قائدي حزب المؤتمر الوطني والعصبة الإسلامية، بدأ بعض أفراد قبائل ناجا في ركنهم الخفي من شبه القارة الهندية ينتابهم القلق بشأن مستقبلهم. وفي يناير 1946، شكلت مجموعة منهم من «المسيحيين المتعلمين القادرين على التعبير عن أنفسهم باللغة الإنجليزية» مجلس ناجا الوطني. كان ذلك المجلس يتسم بالمظاهر التقليدية للحركات القومية، في طور تكونها؛ إذ تزعمه مثقفون من الطبقة الوسطى، روجوا لأفكارهم في صحيفة خاصة بهم، تدعى «ناجا نيشن»، التي صنع منها 250 نسخة على آلة النسخ ووزعت في جميع أنحاء أرض ناجا.
1
كان مجلس ناجا الوطني يدافع عن وحدة قبائل ناجا كافة، ومنحها «حق تقرير المصير»، وهو مصطلح قابل - في هذا الموضع وغيره - لتحميله دلالات متعددة وأحيانا متناقضة بعضها مع بعض. كانت قبائل أنجامي ناجا، بتقاليدها القتالية الجديرة بالاحترام وسبقها في قتال جميع الدخلاء (بما فيهم البريطانيون)، ترى أن حق تقرير المصير ينبغي أن يعني دولة مستقلة تماما: «حكومة ناجا، من أجل ناجا، بيد ناجا.» وفي المقابل، كانت قبائل الآو - الأكثر اعتدالا - ترى أنه يمكنهم العيش بكرامة باعتبارهم جزءا من الهند، ما دامت أرضهم وأعرافهم تحظى بالحماية، وما داموا يتمتعون باستقلالية في سن قوانينهم الخاصة وفرضها.
شهدت الاجتماعات الأولى لمجلس ناجا الوطني نقاشا عنيفا بين الفصيلين، ترددت أصداؤه على صفحات صحيفة «ناجا نيشن»؛ فقد كتب أنجامي شاب أن «ناجا أمة لأننا نشعر بأننا أمة. ولكن، إذا كنا أمة، فلم لا نختار السيادة لأنفسنا؟ نحن نريد الحرية. نريد أن نعيش حياتنا كما يحلو لنا ... ولا نرغب في عيش أناس آخرين معنا». فرد طبيب من الآو قائلا إن ناجا يفتقرون إلى الأموال والأفراد والبنية التحتية اللازمة لكي يصيروا أمة. وكتب: «في الوقت الحاضر، يبدو لي أن فكرة الاستقلال بعيدة المنال لنا أهل ناجا؛ فكيف يمكن لنا أن ندير حكومة مستقلة الآن؟»
وفي ذلك الوقت دخل الجناح المعتدل في مفاوضات مع قيادة حزب المؤتمر؛ ففي يوليو 1946، كتب الأمين العام لمجلس ناجا الوطني - تي صخري - رسالة إلى جواهر لال نهرو، وتلقى ردا طمأنه إلى أن أهل ناجا سيحصلون على حكم ذاتي كامل، ولكن داخل إطار الاتحاد الهندي. وقال نهرو إنهم سوف يتسنى لهم إقامة نظام قضائي خاص بهم، ليقيهم شر «اجتياحهم من قبل أشخاص آتين من أنحاء أخرى من البلاد قد يستغلونهم لتحقيق مصالحهم الخاصة». فحينذاك أعلن صخري أن أهل ناجا سيستمرون في صلتهم بالهند، «ولكن بصفتهم مجتمعا له خصوصيته ... ولا بد كذلك من أن نتطور وفقا لميولنا وأذواقنا الخاصة؛ فسوف نتمتع بالحكم المحلي داخل بلادنا ولكننا سنكون على صلة بالهند فيما يتعلق بالقضايا الأشمل».
2
إلا أن الراديكاليين ظلوا ثابتين على موقفهم انتظارا للاستقلال التام، وساعدهم في ذلك بعض المسئولين البريطانيين، الذين كرهوا وقوع تلك القبائل تحت سيطرة النفوذ الهندوسي. وأوصى أحد المسئولين بتنصيب المناطق التي تسكنها القبائل في الشمال الشرقي مستعمرات تابعة للتاج، تحكم من لندن مباشرة، ولا تربطها أي صلة بما كانت لتصبح عما قريب دولة الهند المستقلة.
3
ونصح مسئولون آخرون بالسعي إزاء الاستقلال فورا؛ إذ إن دولة الهند سوف تتفكك عما قريب على أي حال. وقد كتب المشرف على جبال لوشاي (التي أصبحت تسمى فيما بعد جبال ميزو) في مارس 1947 الآتي:
نصيحتي لأهل لوشاي - منذ البداية المبكرة لسياسة لوشاي في نهاية الحرب - كانت حتى وقت قريب جدا هي ألا ينشغلوا بعد بمشكلة علاقتهم المستقبلية ببقية الهند؛ إذ إنه ما من أحد يمكنه أن يتنبأ بما ستكون عليه الهند بعد عامين حتى من الآن، أو حتى ما إذا كان سيكون هناك دولة هندية بالمعنى السياسي الوحدوي؛ فأنا ما كنت لأشجع ابنتي الصغرى على إلزام نفسها بعدم الزواج طوال حياتها، ولكني أراها جريمة أسوأ أن أخطبها في مهدها لصبي لم يزل هو نفسه غير مكتمل النمو.
4
في يونيو 1947، التقى وفد من مجلس ناجا الوطني حاكم آسام - السير أكبر حيدري - لمناقشة شروط انضمام قبائل ناجا إلى الهند؛ فوافق كلا الطرفين على عدم نقل حيازة أراضي ناجا للغرباء عنها، وعدم المساس بممارستها الدينية، ومشاركة مجلس ناجا الوطني في تعيين الموظفين الحكوميين. ثم ذهب وفد بعد ذلك إلى دلهي؛ حيث التقى أعضاؤه نهرو، الذي أخبرهم مرة أخرى أنهم يمكنهم الحصول على الحكم الذاتي ولكن ليس الاستقلال. وقد زاروا أيضا المهاتما غاندي، في لقاء تعددت القصص المترددة عنه على مر السنين؛ فذهبت إحدى الروايات إلى أن غاندي أخبر أهل ناجا أنهم يمكنهم أن يعلنوا استقلالهم إذا شاءوا، وأنه ما من أحد يمكنه إجبارهم على الانضمام إلى الهند، وأنه إذا أرسلت نيودلهي جيشها، فسيأتي غاندي بنفسه إلى تلال ناجا لمقاومته. وحسبما يظهر من الرواية فقد قال: «سوف أطلب إليهم أن يطلقوا علي النار قبل أن يطلقوا النار على فرد واحد من قبائل الناجا.»
5
أما الرواية المطبوعة في «مجموعة أعمال المهاتما غاندي» فكانت أقل درامية؛ ففيها نقل عن غاندي قوله: «أنا شخصيا أعتقد أنكم جميعا تنتمون إلي، إلى الهند. ولكنكم إذا كنتم ترون غير ذلك، فلا يمكن لأحد أن يرغمكم.» كذلك نصح المهاتما زواره بأن أفضل برهان على الاستقلال هو الاكتفاء الذاتي الاقتصادي؛ حيث ينبغي لهم زراعة غذائهم بأنفسهم وغزل ملابسهم بأنفسهم. وقال المهاتما: «تعلموا الحرف كافة. ذلك هو سبيل الاستقلال السلمي. أما إذا استخدمتم البنادق والمدافع والدبابات، فستكون هذه حماقة.»
6
كان أكثر المطالبين بالاستقلال جرأة قبيلة أنجامي في قرية خونوما، الذين حاربوا البريطانيين حتى أوصلوهم إلى طريق مسدود في 1879-1880 والتي كان أهلها «معروفين ومرهوبين» في جميع أنحاء تلال الناجا.
7
وراح فصيل يسمي نفسه رابطة الاستقلال الشعبية يعلق ملصقات تدعو إلى الاستقلال الكامل، بألفاظ مستعارة (وقد أقر بذلك) من أمريكيين حاربوا من أجل الحرية؛ مثل: «إنه شعوري في حياتي، وسيكون بمشيئة الرب شعوري عند مماتي: الاستقلال الآن وإلى الأبد» (جون آدامز)، و«هذه الأمة برعاية الرب ستشهد مولدا جديدا للحرية» (أبراهام لينكولن)، و«أعطني الحرية أو أعطني الموت!» (باتريك هنري).
8
في ذلك الوقت، رحل الراج البريطاني عن نيودلهي، وبدأت الدولة الهندية الجديدة توطد أقدامها؛ فأخبر سكرتير حاكم آسام قبائل ناجا أن عددهم أقل من أن يسمح لهم بتمرد ناجح على دولة قوامها 300 مليون نسمة. وكتب في صحيفة «ناجا نيشن» راويا قصة كلب يحمل عظمة في فمه وينظر في الماء فيري كلبا يحمل عظمة أكبر يتطلع إليه، فأخذ يطارد السراب حتى أوقع العظمة التي كانت في حوزته وضاعت منه. واختتم المسئول حديثه قائلا: «لماذا تخسرون عظمة «الحكم الذاتي» سعيا وراء عظمة «الاستقلال» التي لا يمكن الحصول عليها؟»
لم تلق تلك الحكاية الرمزية قبولا حسنا لدى أبناء ناجا المتعلمين؛ فقد قال أحد أعضاء مجلس ناجا الوطني معلقا: «عظام، عظام، أيظننا كلابا؟» إلا أن التحذير نفسه أصدره بصورة مستساغة أكثر تشارلز بوزي، نائب المفوض الذي كان في سبيله إلى إخلاء منصبه، وهو أحد المسئولين الذين نالوا حب أهل ناجا واحترامهم؛ فقد كتب هو الآخر في صحيفة «ناجا نيشن» مؤكدا على أن الحكم الذاتي داخل الاتحاد الهندي هو المسار الأحوط اتباعه. وقال: «الاستقلال سيكون معناه نشوب حروب بين القبائل، وعدم وجود مستشفيات ولا مدارس، ولا الملح ولا تجارة مع سكان السهول، وشقاء عاما.»
9
2
بينما انخرطت النخبة المثقفة لقبائل ناجا في مهمة تعريف «الاستقلال» بالنسبة إليها، كانت جلسات الجمعية التأسيسية منعقدة في نيودلهي. وكان من الموضوعات المطروحة للنقاش: وضع الجماعات القبلية في ظل دولة الهند الحرة الديمقراطية. وفي يوم 30 يوليو من عام 1947، أبلغ جيبال سينج الجمعية بأنه «ثمة تطورات مؤسفة للغاية» تعتمل في تلال ناجا. كان جيبال يتلقى «برقية يوميا» عن الوضع هناك حيث «أخذت كل برقية تزداد تخبطا على سابقتها. وكل منها تزداد توغلا في طريق الفوضى». وكان يرى أن أهل ناجا «ضللوا» باعتقاد أن وضعهم مشابه لوضع الأمراء، وأنهم مثلهم مثل الأمراء يمكنهم استعادة سيادتهم بمجرد أن يرحل البريطانيون. وعندما جاء وفد ناجا إلى دلهي لمقابلة نهرو وغاندي ، التقوا جيبال أيضا، الذي أخبرهم «الحقيقة المؤلمة» التي مفادها أن «تلال ناجا ما دامت جزءا من الهند؛ فمسألة الانفصال غير واردة».
10
طبعا كان جيبال سينج قبليا هو نفسه، أحد عدة ملايين يسكنون حزام الجبال والغابات الذي يطوق قلب الهند. كانت قبائل الهند الوسطى المعروفة بالأديفاسي (السكان الأصليين) مختلفة إلى حد ما عن القبائل التي تعيش في الشمال الشرقي؛ فمثلها، كان الأديفاسي مزارعي كفاف بالأساس، يعتمدون على الغابات اعتمادا كبيرا في غذائهم. ومثلها لم يكن لدى تلك القبائل منظومة طوائف اجتماعية منسقة في صورة عشائر، ومثلها أيضا معدل عدم العدالة بين الجنسين فيها أقل بكثير من معدله في أجزاء يفترض أنها «متقدمة» في البلاد. إلا أن قبائل وسط الهند - خلافا لقبائل ناجا وجيرانها - كانت تربطها علاقات طويلة الأمد بمجتمع الفلاحين الهندوسي؛ فقد تبادلوا معه السلع والخدمات، وأحيانا ما كانوا يعبدون آلهة واحدة، وكانوا تاريخيا جزءا من ممالك واحدة.
إلا أن تلك العلاقات لم تخل من الخلافات؛ ففي ظل الحكم البريطاني، فتحت المناطق التي يسكنها القبائل أمام التجارة والاستعمار. واكتسبت الغابات التي تعيش فيها قيمة سوقية فجأة، وكذلك الأنهار التي تجري في تلك الغابات والمعادن الكامنة في باطنها. ظلت بعض المناطق بكرا لم تمس، ولكن في أماكن أخرى حرم أهل القبائل دخول الغابات، وانتزعت منهم أراضيهم، وصاروا مدينين للمقرضين. وتزايدت رؤية «الغريب» باعتباره شخصا يسعى إلى الاستيلاء على موارد قبائل الأديفاسي؛ ففي هضبة تشوتاناجبور - على سبيل المثال - كان غير القبليين يعرفون بلقب «ديكو» (أي، أجنبي)، وهو لفظ أثار في الناس مشاعر الخوف وكذلك الاستياء.
11
أدركت الجمعية التأسيسية تلك النقطة الحساسة، وقضت أياما في نقاش حول ما ينبغي فعله. وفي النهاية، قررت أن تدرج نحو 400 مجتمع تحت اسم «القبائل المجدولة»، والتي شكلت نحو 7٪ من تعداد السكان، وحجزت لها مقاعد في المجالس التشريعية وكذلك في الإدارات الحكومية. كان الجدول الخامس من الدستور معنيا بالقبائل التي تعيش وسط الهند، وقد سمح بإنشاء مجالس استشارية للقبائل ووضع ضوابط على مسألة إقراض المال وبيع أراضي القبائل للأشخاص من غير القبائل. أما الجدول السادس فعني بقبائل الشمال الشرقي، وقد قطع شوطا أكبر على طريق الحكم الذاتي المحلي؛ إذ شكل مجالس للمناطق ومجالس للأقاليم، وحمى الحقوق المحلية في الأراضي والغابات والمجاري المائية، وأصدر تعليمات لحكومات الولايات بتقاسم عوائد التعدين مع المجالس المحلية، وهو امتياز لم يمنح في أي مكان آخر من الهند.
كان جيبال سينج يرى أن تلك الأحكام لن تصير واجبة النفاذ ما لم تتمكن القبائل من تشكيل ولاية منفصلة داخل الاتحاد الهندي. وأطلق على تلك الولاية المفترضة «جهارخاند»، التي كانت ستدمج في رؤيته مسقط رأسه هضبة تشوتاناجبور - التي كانت جزءا من بيهار آنذاك - مع مناطق قبلية متاخمة تقع في مقاطعتي البنغال وأوريسا. وكان من المفترض أن تغطي الولاية المقترحة 48 ألف ميلا مربعا وتضم تعدادا قوامه 12 مليون نسمة.
12
تلك الفكرة سلبت لب شباب تشوتاناجبور؛ ومن ثم كتبت منظمة أديباسي سابها (مجلس السكان الأصليين) بمدينة جمشيدبور في مايو 1947 إلى كل من نهرو وغاندي والجمعية التأسيسية لحثهم على اقتطاع جهارخاند من بيهار. وجاء في مذكرة المنظمة الآتي: «نريد أن تصون مقاطعة جهارخاند حضارة الأديباسي ولغتهم وتنميهما، وأن تعلي قوانيننا العرفية، وتجعل أراضينا غير قابلة للتصرف، وفي المقام الأول تنقذنا من الاستغلال المستمر.»
13
في فبراير 1948، ألقى جيبال سينج الخطاب الرئاسي على منظمة أديفاسي ماهاسابها لعموم الهند، التي تزعمها منذ إنشائها قبل عقد من الزمان. وتحدث في ذلك الخطاب عن أنه بعد الاستقلال حلت «الإمبريالية البيهارية» محل «الإمبريالية البريطانية» باعتبارها أكبر مشكلة يواجهها الأديفاسي. وقد حدد الأرض باعتبارها المسألة الأهم، وحث على سرعة إنشاء ولاية جهارخاند. ومن الجدير بالذكر أنه شدد أيضا على التزامه بالاتحاد الهندي بالحديث بانفعال عن «حادث اغتيال غاندي المأساوي»، وتقديمه شعارا مزج بين الكبرياء المحلية والقومية الهندية الأشمل، هو: «تحيا جهارخاند! يحيا الأديباسي! تحيا الهند!»
14
وحينذاك أعيدت تسمية منظمة أديباسي ماهاسابها إلى حزب جهارخاند، وبعد سنوات عدة من الحملات المستمرة، خاض المعركة الانتخابية تحت ذلك الاسم في الانتخابات العامة الأولى لعام 1952. لقي ذلك الحزب - برمز الديك المصارع - نجاحا يفوق خياله؛ إذ ربح ثلاثة مقاعد في البرلمان وثلاثة وثلاثين مقعدا في مجلس الولاية. تركزت تلك الانتصارات كلها في مناطق القبائل في بيهار، حيث ألحقت بحزب المؤتمر الحاكم هزيمة نكراء؛ ففي مراكز الاقتراع على أي حال، ثبتت قضية جهارخاند.
3
عرض جيبال سينج وحزب جهارخاند الذي أسسه طريقا واحدا محتملا أمام أبناء القبائل، وهو: حكم ذاتي داخل حدود الاتحاد الهندي، تكفله قوانين تحمي أراضيهم وأعرافهم، كما تكفله إقامة مقاطعة في المناطق التي تمثل فيها القبائل أغلبية. أما العناصر الراديكالية بين قبائل ناجا فعرضت طريقا آخر؛ يتمثل في دولة مستقلة ذات سيادة، مقتطعة من الهند ومميزة عنها. كان أكثر المصرين على ذلك الرأي بين قبائل ناجا قبيلة أنجامي، ومنها أحد أبناء قرية خونوما، الذي كان إحدى العلامات البارزة الأخرى التي صنعت تاريخ الهند، والذي لم تدون سيرته بعد.
كان ذاك هو أنجامي زابو فيزو، الذي ارتبط اسمه بقضية ناجا لما يقرب من نصف القرن بعدئذ. ولد فيزو عام 1913، وكان ذا بشرة فاتحة اللون، ضئيل البنية، يشوب وجهه تشوه رهيب إثر نوبة شلل أصابته في طفولته. تلقى تعليمه على يد المعمدانيين، وكان شاعرا إلى حد ما - من ضمن ما ألف «نشيد وطني للناجا» - وكان يكسب عيشه ببيع وثائق التأمين قبل أن يهاجر إلى بورما. كان يعمل على أرصفة موانئ رانجون عندما غزا اليابانيون بورما، وقد انضم إليهم في مسيرتهم إلى الهند، مقابل وعد على ما يبدو باستقلال ناجا إذا ما نجحت اليابان في كسب حربها ضد بريطانيا.
15
عاد فيزو إلى الهند بعد الحرب، وانضم إلى مجلس ناجا الوطني وسرعان ما خلف فيه بصمته بدعواته المتقدة إلى السيادة، والتي كثيرا ما كانت تأتي في صيغة عبارات اصطلاحية مسيحية. وقد كان أحد أعضاء وفد مجلس ناجا الوطني الذي التقى المهاتما غاندي في نيودلهي في يوليو 1947. وبعد ثلاثة أعوام انتخب رئيسا للمجلس، فألزم أهل ناجا بالمطالبة ب «الاستقلال الكامل»، وهدأ روع المشككين والمعترضين، الذين رغبوا في الوصول إلى تسوية مع الهند. وقد كان كثير من شباب ناجا مستعدا للمضي مع فيزو حتى نهاية الطريق. وأثناء سفر هوراس ألكسندر عضو جماعة الكويكرز في المنطقة في ديسمبر 1950، التقى عضوين من مجلس ناجا الوطني كانت «كلمة «الاستقلال» مستحوذة على ذهنيهما، ولا أظن أن أي قدر من الجدال أو الاحتكام إلى الدستور الهندي - ناهيك عن التهديد - يمكن أن يصرفها عن ذهنيهما».
16
كان فيزو رجلا ذا طاقة وقدرات تحفيزية هائلة؛ فطوال عام 1951 طاف مع رجاله بأنحاء تلال ناجا، وحصلوا على بصمات وتوقيعات على وثيقة تؤكد دعم إنشاء دولة مستقلة للناجا. وفيما بعد، زعموا أن رزمة البصمات كانت تزن ثمانين رطلا، وأن ذلك كان استفتاء شعبيا شاملا كشف أن «99,99٪ صوتوا لصالح استقلال ناجا».
17
تلك الأرقام أرجعت للأذهان ممارسات مشابهة في الدول الشمولية؛ حيث كان يقال - مثلا - أن 99,99٪ من الشعب الروسي أيدوا ستالين قائدا أعلى. ولكن لا شك في أن فيزو نفسه كان يريد الاستقلال، وكذلك كثير من أتباعه.
كانت الهند ذاتها آنذاك قد أمضت أربعة أعوام مستقلة؛ فحل موظفون هنود محل البريطانيين، ولكن فيما عدا ذلك لم يكن للدولة الجديدة أثر يذكر على تلال ناجا؛ فالنخبة السياسية في نيودلهي، إذ انشغلت بمداواة جروح التقسيم وتوطين اللاجئين ودمج الولايات الأميرية وصياغة الدستور، لم تعر تلك القبائل انتباها كبيرا. إلا أنه خلال الأسبوع الأخير من عام 1951 كان رئيس الوزراء بمدينة تزبور في آسام، يروج لحزبه في الانتخابات العامة؛ فجاء فيزو وثلاثة من أبناء ناجا للقائه؛ فعندما قال فيزو إن قبائل ناجا تريد الاستقلال، وصف نهرو ذلك بأنه طلب «سخيف»، يسعى إلى «الرجوع بالزمن إلى الوراء». وأخبرهم أن «أبناء ناجا يتمتعون بالحرية كأي هندي آخر» وأنهم بموجب الدستور «يتمتعون بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي في إدارة شئونهم الخاصة». ثم دعا فيزو والآخرين إلى «تقديم مقترحات لتوسيع نطاق الحكم الذاتي في المجالات الثقافية والإدارية والمالية في أرضهم». وقال إن اقتراحاتهم سوف ينظر إليها بعين العطف، ويمكن تعديل الدستور نفسه إن لزم الأمر. إلا أن استقلال ناجا أمر غير وارد بالمرة؛
18
فرد مجلس ناجا الوطني بمقاطعة الانتخابات العامة. وبعد تولي حكومة حزب المؤتمر المنتخبة مهامها، طلب فيزو اجتماعا آخر مع رئيس الوزراء في نيودلهي؛ ففي الأسبوع الثاني من فبراير 1952، التقى هو واثنان آخران من زعماء مجلس ناجا الوطني بنهرو. وأخبرهم رئيس الوزراء مجددا بأنه في حين أن الاستقلال ليس خيارا مطروحا، يمكن منح قبائل ناجا قدرا أكبر من الحكم الذاتي. ولكن فيزو ظل مصرا على موقفه. وقال في مؤتمر صحفي: «إننا سنواصل سعينا المستميت إلى الاستقلال، ويوما ما سوف نلتقي نهرو مجددا من أجل الوصول إلى تسوية ودية» (كممثلين لدولة منفصلة). وكان من المفترض بالدولة الحرة التي ارتآها أن تجمع شمل 200 ألف من أبناء ناجا في الهند، و200 ألف آخرين فيما سماه الأراضي «غير التابعة لأحد»، و400 ألف كانوا آنذاك من مواطني بورما.
19
وفيما بعد استضاف جيبال سينج زعيم حزب جهارخاند فيزو وجماعته على الغداء؛ فوصف أحد الصحفيين الحاضرين فيزو بأنه «رجل قصير القامة، رشيق القوام يبدو منغوليا، ويرتدي نظارة تخفي وراءها عينين متقدتين بالتصميم». كذلك فقد سمع ذلك الصحفي جيبال يقول إنه رغم تعاطفه مع قضايا أرض ناجا، فإنه «يكره أن يحدث أي تفتت زائد للهند في صورة باكستان جديدة». وقد نصح جيبال فيزو بألا يطالب بدولة منفصلة ذات سيادة، وإنما أن يقاتل في سبيل إقامة مقاطعة قبلية في الشمال الشرقي، تكون نظيرة لجهارخاند التي يقاتل هو نفسه في سبيلها؛ فكان جواب الضيف الآتي: «قبائل ناجا منغولية؛ ومن ثم فهي لا تربطها صلة عرقية بشعب الهند.» وقال فيزو إنه يأمل في توحيد قبائل ناجا المقيمة على هذا الجانب والقبائل المقيمة على الجانب البورمي حتى تكون بلدا خاصا بها. إلا أنه، حسبما أشار الصحفي: «وفقا لوجهة النظر الرسمية لدلهي، مثل تلك الدولة لا يمكن أن تقوم، ونظرا لأن تلك التلال المهيبة تمثل حدودا استراتيجية بين دول، فمن الخطر أن يطلق العنان لقبائل ناجا فيها.»
20
4
في أكتوبر 1952، أمضى رئيس الوزراء نهرو أسبوعا في جولة بمنطقة الحدود الشمالية الشرقية. كان لديه بالفعل بعض الدراية بقبائل شبه الجزيرة، التي أعجب كثيرا بتقاليدها الفنية وحماسها للحياة؛ ففي شهر يونيو من ذلك العام، أدان نهرو في مؤتمر خاطب فيه الأخصائيين الاجتماعيين في نيودلهي الراغبين في جعل أهل القبائل «نسخا رديئة من أنفسهم». فقد كان يرى أن العالم المتحضر يمكنه أن يتعلم الكثير من الأديفاسي، الذين كانوا «أناسا بالغي الانضباط، وأكثر ديمقراطية في أغلب الأحيان من معظم سكان الهند الآخرين؛ فهم في المقام الأول أناس يغنون ويرقصون ويحاولون الاستمتاع بالحياة، وليسوا أناسا يجلسون في حجرات تداول الأوراق المالية، يتصايحون ويظنون أنفسهم متحضرين».
21
وعند أول انكشاف مطول على الشمال الشرقي تجدد تقدير نهرو للقبليين؛ فمثلما كتب إلى صديق له في الحكومة، كانت زيارته «مبهجة للغاية». وكان يتمنى لو كانت تلك المناطق «معروفة أكثر بكثير مما هي معروفة لدى سائر الشعب الهندي؛ فمثل ذلك الاتصال يمكن أن يكون فيه نفع كبير لنا». وقد وجد نهرو نفسه «مذهولا أمام المهارات الفنية لهؤلاء الذين يدعون قبليين ... وبمنسوجاتهم اليدوية البديعة». إلا أن تلك الصناعة كانت معرضة لخطر الدخول في منافسة مع سلع أكثر قبحا، وإن كانت أرخص ثمنا، تنتجها المصانع في السهول. ورجع نهرو «بانطباع قوي مفاده أنه ينبغي لنا بذل قصارى جهدنا لمساعدة هؤلاء القوم القبليين في ذلك الصدد».
22
كتب رئيس الوزراء تقريرا مطولا عن رحلته، أرسله إلى رؤساء وزراء الولايات كافة، ذكر فيه أنه ثمة حركة ساعية إلى «دمج ... أهل القبائل في أهل آسام». وكان نهرو يرى أن الأجدر توجيه الجهود صوب «الحفاظ على ثقافتهم المتفردة»، وإشعارهم «بأن لديهم الحرية الكاملة في عيش حياتهم كما يحلو لهم وتطوير أنفسهم وفقا لرغباتهم وميولهم؛ فينبغي أن تمثل الهند لهم قوة محررة إلى جانب كونها قوة حامية».
كانت المنطقة التي عبرها نهرو - منطقة الحدود الشمالية الشرقية - ملاصقة لمنطقة ناجا، بل كان فيها كثير من أبناء قبائل ناجا. وفي حين أن نهرو وصف طلب إقامة دولة مستقلة لناجا بأنه «من قبيل السخف»، فقد كان لديه «شعور بأن الوضع في تلال ناجا كان يمكن أن يكون أفضل بكثير لو كان المسئولون المحليون تعاملوا معه بكفاءة أكبر قليلا، ولولا وجود بعض المسئولين المشهورين بقلة شعبيتهم. وإضافة إلى ذلك فإن أي محاولة لفرض أساليب وأعراف جديدة على أبناء ناجا لا تفلح إلا في إثارة حفيظتهم وجلب المتاعب».
23
وبينما كان نهرو يحث المسئولين على اتخاذ سلوك أكثر تعاطفا تجاه قبائل ناجا، كان مجلس ناجا الوطني بصدد إصدار إنذار نهائي له، حملته رسالة موجهة إلى نيودلهي يوم 24 أكتوبر، بينما كان رئيس الوزراء لا يزال في منطقة الحدود الشمالية الشرقية. في ذلك الخطاب، أصر فيزو ورجاله على «أنه ليس ثمة قاسم مشترك واحد بين الهنود وشعب ناجا ... وبمجرد أن نرى الهنود، يتسلل إلى أذهاننا شعور كئيب بالظلمة».
24
بعد مرور ستة أشهر، زار نهرو كوهيما عاصمة ناجا في صحبة رئيس وزراء بورما أو نو؛ فعندما طلب وفد من ناجا مقابلة نهرو لتقديم مذكرة، رفض المسئولون المحليون السماح لهم بمقابلته. ذاع خبر الرفض، حتى إن رئيس الوزراء وضيفه البورمي عندما جاءا لحضور مؤتمر شعبي عقد على شرفيهما، شاهدا الحضور ينصرفون لدى مجيئهما. ووفقا لإحدى الروايات فقد كشف أهل ناجا عن مؤخراتهم أثناء رحيلهم كأسلوب للاحتجاج. ووفقا لرواية أخرى، قالت ابنة نهرو - إنديرا غاندي - لوالدها في ميكروفون قيد التشغيل: «أبي، هؤلاء الناس يرحلون جميعا.» فأجاب هو في ضجر: «نعم يا بنيتي، أراهم يرحلون.»
25
قيل لاحقا إن ذلك الانسحاب زاد شدة موقف نهرو ضد أهل ناجا. وفي الواقع فقد كان فيزو ومجلس ناجا الوطني قد عقدا العزم على نيل الاستقلال على أي حال. وكانا عاكفين بالفعل على جمع السلاح وتنظيم «حرس وطني» في القرى. ومن جانبها أخذت الولاية تنقل فصائل من قوة «بنادق آسام» شبه العسكرية إلى المنطقة.
بحلول صيف عام 1953 كانت القيادات العليا لمجلس ناجا الوطني قد نقلت نشاطها تحت الأرض؛ فداهمت الشرطة معاقل الأنجاميين بحثا عنهم؛ مما زاد نفور أهل القرى. وإلى جانب تمتع المتمردين بميزتي الدراية بالمنطقة ودعم أهلها، كان لديهم ميزة عظيمة أخرى، وهي: تضاريس المنطقة. كان جمالها يفوق الوصف؛ إذ علق زائر بريطاني عليها قائلا : «المناظر الطبيعية من أروع ما شاهدت؛ سلاسل من التلال المتلاحقة التي تغطيها الغابات والتي تغير تجمعاتها باستمرار مع استمرارنا في الصعود. وقممها تبزغ من بين الضباب كجزر وسط بحر أبيض.»
26
إلا أنها كانت أيضا مثالية لحروب العصابات؛ فمثلما ذكر أحد أفراد الحملة اليابانية المحنكين، ذلك «بلد يمكن لفصيلة تحسن الاختباء أن تتصدى لفرقة، ويمكن لسرية أن تتصدى لفيلق».
27
كانت تلك حربا دارت رحاها كاملة بعيدا عن أنظار العالم بنطاقه الواسع؛ فلم يسمح للصحفيين أو لأحد من غير سكان المنطقة بدخولها. وإن إعادة تصور تاريخ تلك الحرب لمهمة عسيرة تستلزم الاعتماد بالأساس على روايات نقلت فيما بعد عن صحفيين وباحثين. ومن تلك الروايات يتضح أن الوضع تدهور بوضوح عام 1954؛ ففي ربيع ذلك العام، صدم ضابط جيش أحد المارة خطأ بدراجته البخارية في كوهيما؛ فتجمعت حوله جمهرة من الناس احتجاجا على ما بدر منه؛ فأطلقت الشرطة النار في ذعر، وتسببت في مقتل قاض موقر كان أيضا عضوا في مجلس ناجا الوطني.
أسفرت تلك الواقعة عن سخط بالغ بين أهل ناجا؛ «فقد زادت عمق كراهيتهم «للهنود غير المرغوب فيهم» وكانت إيذانا بالثورة». فقد سيطر المتطرفون على مجلس ناجا الوطني، ونبذت العرائض والتظاهرات، وبدأ الإعداد لانتفاضة مسلحة؛ فبدأ المتمردون في نقل الأسلحة إلى ملاذ آمن في منطقة تونسانج. وفي يونيو من عام 1954 هاجمت قوة «بنادق آسام» قرية اعتقد أنها متعاطفة مع العصابات المسلحة. وفي شهر سبتمبر أعلن بعض العناصر المتمردة «حكومة ناجالاند الفيدرالية».
بحلول ذلك الوقت كانت أعمال القتل والقتل المضاد تجري بصفة منتظمة؛ فكان المتمردون يستهدفون القرى الموالية للحكومة، فيما تهاجم السلطات القرى المتعاطفة مع النضال من أجل الحرية. واستدعيت فرقة من الجيش الهندي لإخماد الثورة، إضافة إلى كتائب قوة «بنادق آسام» الخمس والثلاثين التي نزلت ساحة المعركة بالفعل. وفي مارس 1955 اندلعت معركة مريرة في منطقة تونسانج، وعندما انتهى إطلاق النيران وانقشعت سحب الدخان، تبين حرق ستين بيتا وعدة صوامع.
28
وعلى الرغم من الحرب الأهلية، فقد ظلت بعض قنوات الاتصال مفتوحة؛ ففي سبتمبر 1955، ذهب فيزو بنفسه مع اثنين من زملائه لمقابلة رئيس وزراء آسام. لا يوجد في متناول أيدينا تفاصيل عن ذلك الاجتماع، وعقب انتهائه عاد فيزو إلى دياره. إلا أن أحد كبار معاونيه - تي صخري - كان قد اقتنع بأن قبائل ناجا لا يمكنها أن تأمل أبدا في هزيمة الجيش الهندي . وكان يرى أن مجلس ناجا الوطني؛ إذ أوضح موقفه، ينبغي له أن يلقي سلاحه، ويسعى إلى الوصول إلى تسوية شريفة مع الحكومة في نيودلهي.
في المقابل، كان فيزو قد تعهد بشن «حرب لا تعرف الهدنة ولا التقهقر ولا التسوية». وقد شعر بإهانة بالغة من اقتراح التفاوض، لا سيما وأن صخري كان مثله أنجاميا من خونوما، بل من العشيرة ذاتها: مرهوما. «كان فيزو غاضبا جدا من لين موقف صخري»، الذي جاء مع انضمام شباب كثر إلى ركب المتمردين، وبلوغ جيشهم أعلى قوام له، وهو: 15 ألف فرد. ولكن صخري كان مقتنعا بأنه رغم ذلك لا مجال أمامهم للصمود أمام الأمة الهندية الجبارة؛ فبدأ يطوف القرى، ويعظ الناس بمخالفة تطرف فيزو، ويحذر من أن العنف لن يجلب سوى مزيد من العنف.
29
ففي يناير من عام 1956 جر تي صخري من سريره، وأخذ إلى الغابة ليعذب ثم يقتل. ساد ظن واسع النطاق بأن فيزو كان من أمر بقتله، وإن كان هو أنكر ذلك. وعلى أي حال، فقد وصلت الرسالة؛ أن ذلك هو مصير من يخون القضية. وفي مارس أعلنت مجددا «حكومة ناجالاند الفيدرالية»، وصمم علم وطني جديد، وعين قادة جدد للمناطق المختلفة من الوطن المحدد. ثم وقع في شهر يوليو حادث قتل ألحق بصورة الهند ضررا مساويا للضرر الذي أحدثه مقتل صخري بصورة مجلس ناجا الوطني؛ فقد كانت مجموعة من الجنود قد تغلبت لتوها على كمين نصبه المتمردون، وعائدة أدراجها إلى كوهيما. كان حظر التجوال مفروضا على المدينة، ولم يكن من المفترض بأحد الوجود في الشوارع. لكن كان ثمة رجل عجوز وحيد في الشارع، فعندما رآه الجنود أمروه بالابتعاد عن الطريق؛ فعندما احتج الرجل، ضربه الجنود بأعقاب البنادق ثم ألقوه في النهاية من حافة جرف.
كان ذاك الرجل الذي قتله الجنود دون اكتراث طبيبا يدعى تي هارالو. وكان في الواقع أول من مارس الطب الإخلافي في تلال ناجا؛ ومن ثم كان معروفا وموقرا في أنحاء كوهيما وما حولها. وبدد مقتله أي ميزة دعائية قد يكون الهنود حصلوا عليها إثر مقتل صخري؛ فلو كان مقتل ذلك الأخير «ضاعف الارتداد عن مجلس ناجا الوطني إلى نيودلهي، فقد حدث العكس تماما بمقتل الدكتور هارالو».
30
وفي الوقت نفسه فقد تزايد وجود الجيش بوضوح؛ فكانت القوة المسماة حديثا «قوة تلال ناجا» تتألف من وحدة واحدة من سلاح المدفعية الجبلية، وسبع عشرة كتيبة مشاة، وخمسين فصيلا من قوة «بنادق آسام». كذلك كان للمتمردين هيكل عسكري خاص بهم، يرأسه قائد أعلى (خبير استراتيجي لامع يدعى كايتو) يعمل تحت إمرته أربعة قادة، قواتهم مقسمة إلى كتائب وسرايا. كان عتاد قبائل ناجا يتمثل في البنادق البريطانية واليابانية، ومدافع ستن ومدافع آلية، وكلها جزء من البقايا المتخلفة عن الحرب العالمية الثانية. كذلك كان المتمردون يستخدمون بنادق محلية الصنع تعبأ من الفوهة، وعند الالتحام المباشر كانوا يستخدمون السيف التقليدي لقبائل ناجا؛ أي، الداو.
وإضافة إلى قوات ناجا النظامية كان ثمة جماعات غير نظامية عالية الفاعلية، مقسمة إلى «فرق متطوعين» و«فرق مراسلة» و«منظمات تطوعية نسائية». تمثلت الأخيرة في ممرضات أثبتن جدارة فائقة في القتال عند استدعائهن للحرب. وإضافة إلى ذلك كله كان الدعم الصامت للقروي العادي. وضمن عمليات محاربة التمرد، ضم الجيش الهندي قرى صغيرة معزولة في «قرى مجمعة»، كان على سكانها المبيت فيها ليلا، والذهاب للعمل في الحقول نهارا. تلك الاستراتيجية التي كان القصد منها كسر سلسلة المعلومات الممتدة من الفلاحين إلى المتمردين، لكنها لم تفلح إلا في زيادة تدني شعبية الجيش بين أبناء قبائل ناجا.
31
وبحلول منتصف عام 1956، اشتعلت حرب شاملة في تلال ناجا. وأقر وزير الداخلية - جوفند بالاب بانت - في بيان ألقاه على البرلمان في الأسبوع الأخير من يوليو، بأن الجيش الهندي فقد ثمانية وستين رجلا، وقتل 370 رجلا من «القوات المعادية». واتهم بانت فيزو بقتل صخري - الذي سماه «قائد مجموعة المتعقلين والوطنيين» - و«الإلقاء بأبناء ناجا في التهلكة». أما الحديث عن استقلال ناجا فاستهزأ به باعتباره «محض هراء». كما أعرب عن أمله «في أن يثوب أبناء ناجا إلى رشدهم ويدركوا أننا جميعا ننتمي إلى الهند».
32
لم ينل النزاع تغطية من الصحافة الهندية (ولا الدولية)، ولكننا يمكن أن نستشعر نطاقه من رسائل كتبها طبيب من ناجا إلى نائب المفوض البريطاني الأخير في منطقة تلال ناجا، تشارلز بوزي؛ ففي رسالة كتبها في يونيو 1956 وصف جولة في المحيط الداخلي للمنطقة قائلا: «كنا نرفع أنظارنا كل ليلة لنرى قرى مشتعلة بين التلال، ولا أحد يعلم من أضرم النار فيها: المتمردون أم الجيش.» أما عن زعيم المتمردين، فقال:
فيزو يصنع فظائع رهيبة بأي موظف في حكومة ناجا يقع في يديه، بل أفظع من ذلك بأي أحد من أبناء ناجا كان في صفه ثم انصرف عنه - كما فعل الكثيرون - لأساليبه المتطرفة ... فكثير من شيوخ القبائل اختفوا ولا أحد يعلم ما إذا كانوا مختبئين أم أن فيزو قد نال منهم. لا شك أنهم في موقف عصيب؛ فهم إن انضموا إلى صف الحكومة نال منهم فيزو، وإن لم يفعلوا نالت منهم الحكومة.
وبعد مرور شهرين، كتب الطبيب إلى بوزي قائلا:
حسبما أرى، فإن 0,5٪ من أبناء ناجا في صف فيزو، و1٪ أكثر اعتدالا، ويريدون الانفصال عن آسام والدخول تحت مظلة دلهي، في حين أن 98,5٪ لا يرغبون إلا في أن يتركوا وشأنهم ... لا شك أن السلوك الذي كان الجيش - ولا يزال - يتبعه يعني انعدام الأمل في نشأة تعاون طوعي الآن بين أبناء ناجا وأي حكومة.
وأضاف أن أساليب الجيش بلغت حدا «سوف يؤثر على العلاقات بين الهند وقبائل ناجا حتى 50 إلى 100 عام».
33
وفي أغسطس من عام 1956 دار نقاش مطول داخل مجلس الشعب الهندي حول الوضع في تلال ناجا. وحكى عضو ميتي في مانيبور عن زيارة للمنطقة في الآونة الأخيرة، هاجم فيها المتمردون قافلة المركبات التي كان مسافرا فيها. واستنادا إلى تحرياته، اتضح أنه «من الصعب أن نقنعهم بطريقة تفكيرنا وأسلوب حياتنا، وفيزو على وجه التحديد يصعب استمالته». ووافق ذلك العضو على أن قبائل ناجا لا يمكن «أن تحظى باستقلال منفصل»، إلا أنه رأى أنه ينبغي منحها ولاية منفصلة فورا داخل الاتحاد الهندي.
كان المتحدث التالي هو الاشتراكي ريشانج كيشينج، الذي هاجم الجيش بشراسة لإقدامه على حرق القرى وقتل الأبرياء. (كيشينج ذاته كان من قبيلة تانجكول ناجا بمانيبور.) فقال: «لقد أبدى الجيش استهانة تامة بمشاعر قبائل ناجا المحلية، فقد حاول إثارة ذعرهم بحمل الجثث العارية لمن قتلوهم من أبناء ناجا.» وقال كيشينج إنه عندما التقى فيزو بنهرو عامي 1951 و1952، «لم يحاول أي من الطرفين فهم عقلية الآخر وسرعان ما تعكر صفو الجو وفقد كل منهما أعصابه». وكان يتمنى «لو كان رئيس الوزراء أبدى في ذلك الموقف القدر ذاته من الصبر والبصيرة النفسية اللذين اشتهر بهما في ميدان الدبلوماسية الدولية». وفي السنوات التالية على ذلك اللقاء، استخدم الجانبان أساليب وحشية. وسأل كيشينج: «من يمكن أن يتباهى بسجل نظيف؟ من يجرؤ أن يلقي الحجر الأول مؤكدا أنه ليس بآثم؟ هذا سؤال أوجهه للقوات المعادية في ناجا وللحكومة على حد سواء.» وأوصى بإصدار «إعلان فوري للعفو العام»، وإرسال وفد برلماني من الأحزاب كافة إلى منطقة الاضطرابات، وعقد اجتماع بين الحكومة ومجلس ناجا الوطني. وقد ناشد رجال فيزو أيضا القبول بعقد هدنة؛ «لأن استمرار الأعمال العدائية يعني هلاك المواطنين الأبرياء».
ردا عليه، أقر رئيس الوزراء بحدوث بعض عمليات القتل - بما في ذلك مقتل الدكتور هارالو «الذي أثار بالغ ضيقنا» - ولكنه زعم «أن القوات المعادية في ناجا أحرقت أكثر منا بكثير». وقال إن الحكومة تبتغي تعاون قبائل ناجا، وأن نيودلهي - كما كان قد أخبر فيزو مرارا وتكرارا - مستعدة للنظر في الاقتراحات المتعلقة بتعديل الجدول السادس بالدستور، الذي سمح للمناطق القبلية بدرجة كبيرة من الاستقلال في إدارة أرضها ومواردها. إلا أنه لم ير الوقت مناسبا لإرسال وفد برلماني إلى تلال ناجا . وقد أصر على أنه «لا فائدة من التحدث إلي عن الاستقلال ... فأنا أراه أمرا عجيبا أن يدعى ذلك الركن الصغير الواقع ما بين الصين وبورما والهند - وجزء منه في بورما - دولة مستقلة».
34
وفي ديسمبر 1956، أعلن منشور أصدرته البعثة الدبلوماسية الهندية في لندن عن «نجاح» العمليات العسكرية في تلال ناجا. وزعم أن الجيش قد حطم صفوف المتمردين، ثم «انخرط في عمليات تمشيط». ويبدو أن ذلك الزعم كان له مصداقية كاملة؛ إذ لم تكد تمر بضعة أسابيع حتى نشرت صحيفة «مانشستر جارديان» خبرا بعنوان «نهاية تمرد ناجا تقريبا». وجاء في الخبر أن الحكومة الهندية بصدد اتخاذ خطوات «للوصول إلى اتفاق ما مع المعتدلين في ناجا، الذين تتزايد أعدادهم بانتظام». إلا أنه لم يكن ثمة دليل على وجود أي دليل مستقل على ذلك الفجر الجديد الذي قيل إنه أوشك على الطلوع.
35
5
طوال خمسينيات القرن العشرين واصلت حركة جهارخاند حملتها من أجل إقامة مقاطعة داخل الهند تحت إدارة الأديفاسي وترعى مصالحهم؛ فعندما زارت لجنة إعادة تنظيم الولايات المنطقة في يناير 1955، قوبل أعضاؤها بمتظاهرين في كل مكان يهتفون بشعار «جهارخاند ولاية منفصلة!» وفيما استرجع أحد المحتجين ذكرياته عن تلك الفترة، قال: «ارتسم مطلب ولاية جهارخاند جليا على وجه كل فرد من الأديفاسي.»
36
وفي الجهة المقابلة من البلاد، درات معركة في مانيبور في سبيل إعلان تلك المشيخة السابقة ولاية مكتملة الأركان ضمن الاتحاد الهندي. وفي عام 1949، قامت حركة شعبية أجبرت المهارجا على عقد مجلس منتخب على أساس حق الاقتراع العام للبالغين. ولكن المجلس انحل عندما اندمجت مانيبور في الهند. ومن ثم صارت المنطقة تندرج تحت فئة ولايات «الجزء جيم»؛ أي إنها لم يكن بها هيئة منتخبة شعبيا وحكمها مفوض يتبع دلهي مباشرة.
كانت مانيبور ممتدة على مساحة 8600 ميل مربع، غطى الوادي 700 ميل مربع منها فقط، وسكنه 380 ألف فرد من الميتيين، الذين يعتنقون التقاليد الفايشنافية الهندوسية. أما القطاع الجبلي الأكبر فكان موطن 180 ألفا من قبائل ناجا وكوكي. وقد كان أحد هؤلاء القبليين - ريشانج كيشينج المذكور سابقا - هو من أشعل فتيل حركة في عام 1954 للمطالبة بإقامة حكومة نيابية في مانيبور؛ فكان كيشينج وزملاؤه الاشتراكيون يرابطون يوميا أمام مكتب المفوض في إمفال. وقبض على آلاف المتظاهرين السلميين، كثير منهم من النساء. ولكن الحكومة لم ترضخ؛ فقد تحدث وزير الداخلية في البرلمان، قائلا إن الوقت لم يحن بعد لتشكيل مجالس تشريعية في ولايات «الجزء جيم» مثل مانيبور وتريبورا. وقال: «هاتان الولايتان تحتلان موقعين استراتيجيين على حدود الهند. وشعباهما لا يزالان متخلفين سياسيا نسبيا، والجهاز الإداري في هاتين الولايتين لا يزال ضعيفا.»
37
لا أحد يعلم ما إذا كان مجلس ناجا الوطني كان على دراية بالصراع الدائر في جهارخاند ومانيبور، أو بامتناع نيودلهي عن الرضوخ؛ فعلى أي حال، كان فيزو ورجاله يطمحون إلى هدف أكبر بكثير؛ ليس مجرد مقاطعة داخل الهند، وإنما دولة خارجها. ربما كان ذلك المطلب «سخيفا» ولكنه ألهم أعدادا كبيرة من قبائل ناجا بهجر قراهم والانضمام إلى صفوف المقاتلين.
في ذلك الوقت - منتصف خمسينيات القرن العشرين - بلغ تعداد سكان قبائل ناجا المقيمين بالمنطقة التي تحمل اسمها 200 ألف، إضافة إلى عدد مقارب في منطقة الحدود الشمالية الشرقية، و80 ألفا آخرين في مانيبور؛ فكان تعداد سكان قبائل ناجا نصف مليون إجمالا، نحو 10 آلاف منهم متفرغون للقتال. إلا أن قوة الإرادة عوضت ضعف العدد بما فيه الكفاية؛ فتلك الجماعة الصغيرة من المتمردين أجبرت الدولة الهندية على إرسال قوات عسكرية كبيرة لقمعها.
كان الهنود الملمون بنزاع ناجا خارج المنطقة الشمالية الشرقية آنذاك قلة، في حين لا أحد تقريبا من غير الهنود كان على دراية به. إلا أن النزاع كان له عواقب وخيمة على وحدة الدولة، واستمرار الديمقراطية فيها، ومشروعية حكومتها؛ فلم يحدث في أي مكان آخر من الهند - ولا حتى كشمير - أن أرسل الجيش لإخماد تمرد أشخاص يعدون مواطنين رسميا في دولة الهند.
واجهت الهند في عقدها الأول مشكلات كثيرة؛ منها حركات معارضة على أساس الطبقة والدين واللغة والمنطقة. وقد عوملت تلك الحركات بالعقل والحوار، أو - في حالات نادرة - بالاستعانة بقوات الشرطة النظامية . أما النزاع الذي نشب في تلال ناجا فلم يفسح المجال أمام مثل تلك الحلول؛ فقد كان ثمة تعارض جوهري بين ما كان مجلس ناجا الوطني يطالب به وما كانت حكومة الهند مستعدة لمنحه. كان ذلك جدالا لا يمكن حله - على ما يبدو - إلا بتغلب أحد الطرفين على الآخر عسكريا.
فهم جواهر لال نهرو تماما الطبيعة الفريدة للموقف في منطقة ناجا؛ فعندما كتب إلى مجلس وزرائه في مارس من عام 1955، نبههم إلى «المشكلة الصعبة إلى حد بعيد في المناطق القبلية بشمالنا الشرقي ... حيث فشلنا في استمالة سكان تلك المناطق؛ فالواقع أنهم ما برحوا يبتعدون عنا؛ ففي منطقة تلال الناجا، انتهج السكان طوال الأعوام الثلاثة والنصف المنصرمة سياسة عدم التعاون، وبقدر كبير من الالتزام والنجاح».
38
وبعد مرور عام، كتب نهرو إلى رئيس وزراء آسام قائلا إنه في حين أن الجيش سيظل منتشرا ما دام المتمردون حاملين السلاح ومتأهبين لاستخدامه، «لن تقتصر المسألة على النهج العسكري». وقال إنه على الرغم من أنه «ما من شك في أن الثورة المسلحة لا بد من مواجهتها بالقوة، فماضينا كله ونظرتنا الحالية قائمة على أن القوة في حد ذاتها ليست علاجا؛ فقد رددنا ذلك فيما يتعلق بمشكلات العالم الكبرى. لا بد أن نتذكر هذا بدرجة أكبر حينما نتعامل مع أبناء وطننا الذين لا بد من استمالتهم لا مجرد قمعهم».
39
كان تمرد ناجا متواريا عن أعين العالم، ومجهولا حتى لمعظم الهنود، إلا أنه على الرغم من ذلك تسبب في صداع موجع لحكومة الهند. فيما عدا ذلك، بدا نظام نهرو راسخا مستقرا؛ فقد كان منتخبا ديمقراطيا، بأغلبية كبيرة، وكانت سياسته الخارجية والداخلية تستند إلى توافق وطني واسع النطاق. ولكن عما قريب، كان مقدرا لتحديات جديدة أن تنشأ، ليس على أطراف الهند، بل في مناطق تعتبر جزءا لا يتجزأ منها.
الجزء
خلخلة الوسط
الفصل الرابع عشر
التحدي الجنوبي
جواهر لال يستمد قوته من الشعب؛ فهو يحب الحشود الكبيرة. وشعبيته تقوده إلى الاعتقاد بأن الشعب راض عن إدارته، إلا أن هذا الاستنتاج لا يجد دائما ما يبرره.
الاشتراكي ناريندرا ديفا، كتبه عام 1949
مع مرور السنين، بدأت الدعائم ذاتها التي قامت عليها مكانة نهرو وسمعته تثقل كاهله؛ ففيما مضى، كان يملك حلا لكل الصعوبات، واليوم صار يواجه صعوبات في كل حل.
رسام الكاريكاتير آر كيه لاكشمن، كتبه في 1959
1
خلد التاريخ الهندي ذكرى العامين 1757 و1857؛ ففي عام 1757، هزمت شركة الهند الشرقية حاكم البنغال في معركة بلاسي، مهيئة بذلك أول موطئ قدم لبريطانيا في شبه القارة الهندية. وفي عام 1857، تصدت بريطانيا للانتفاضة الشعبية الهائلة، المعروفة لدى البعض باسم تمرد سيبوي، ولدى آخرين بحرب الاستقلال الهندي الأولى، وتغلبت عليها في النهاية.
ومثل عامي 1757 و1857، كان عام 1957 عاما شديد الأهمية في تاريخ الهند الحديثة. ففي عام 1952 أجرت الهند انتخاباتها العامة الثانية. بعد الحرب العالمية الثانية، نالت عشرات الدول الأفريقية والآسيوية حريتها من المستعمرين الأوروبيين. وعند قيام تلك الدول الوليدة - أو بعيد نشأتها مباشرة - تحول معظمها إلى نظم استبدادية يحكمها الشيوعيون أو العسكريون أو حكام دكتاتوريون غير منتمين لتيار بعينه. إلا أن الهند كانت من الاستثناءات القليلة جدا، ونظرا لحجمها وتركيبتها الاجتماعية المعقدة، مثلت استثناء مميزا للغاية. قبل مقامرة عام 1952 وبعدها أجريت سلسلة من الانتخابات على مستوى الأقاليم، واحترمت فيها نتيجة الاقتراع. إلا أنه كي تنضم الهند إلى مصاف الدول الديمقراطية بنحو مؤكد، تحتم إجراء انتخابات ثانية عقب الأولى، وهي التي أجريت على مدى ثلاثة أسابيع في ربيع عام 1957.
استمر سوكومار سين رئيسا للجنة الانتخابية. كانت الاستمرارية مهمة في تلك الحالة، حتى يتمكن الرجل الذي صمم نظم الانتخابات من اختبار كيفية سيرها من جديد. تشير الأدلة إلى أنها سارت على خير ما يرام، وقد كلفت تلك الانتخابات العامة خزانة الدولة 45 مليون روبية أقل من سابقتها؛ فقد كان سين الحصيف قد خزن صناديق الاقتراع التي استخدمت في المرة الأولى، والبالغ عددها 3,5 ملايين صندوق، في مكان آمن؛ بحيث اقتصر عدد الصناديق الجديدة اللازم صنعها على 500 ألف صندوق فحسب.
قبل الانتخابات، أذاعت وزارة الإعلام والبث فيلما بعنوان «إنه صوتك »، ذلك الفيلم الذي دبلج إلى ثلاث عشرة لغة، والذي «حرص كل الحرص ... على تحاشي أي مادة يمكن تأويلها على أنها دعاية في صالح أي حزب سياسي». عرض هذا الفيلم في 74 ألف دار عرض سينمائي في جميع أنحاء البلاد. وكان ممن شاهده نساء كثر أصبحن - حسبما ذكر رئيس اللجنة الانتخابية - «يقدرن كثيرا حقهن في الانتخاب». فقد أصبح 94٪ من النساء البالغات مدرجات في سجل الناخبين.
في المجمل، كان عدد الهنود المسجلين في سجل الناخبين 193 مليونا، فيما كان الذين صوتوا فعليا منهم أقل قليلا من نصف ذلك العدد. واستهلكت أوراق الاقتراع التي سجلوا أصواتهم فيها 197 طنا من الورق إجمالا. وتولى الإشراف عليهم 273762 شرطيا، بمساعدة 168281 خفيرا قرويا.
كانت اللجنة الانتخابية قد أوصت بإغلاق أكشاك الخمور طوال أيام الاقتراع، حتى «لا تتوافر مشروبات كحولية للعناصر المشاغبة في المناطق الانتخابية». إلا أن الانتخابات كانت حافلة بالأحداث رغم ذلك؛ فقد أصر أحد المرشحين في نيودلهي على تقديم أوراق ترشحه تحت اسم «الرب يسوع المسيح»، بينما رفض رجل في مدراس إعطاء صوته لأحد غير «السيد الموقر سوكومار سين، رئيس اللجنة الانتخابية». وفي أوريسا، حمل قزم - لا يتعدى طوله قدمين ونصف - مقعدا صغيرا معه إلى مقصورة الاقتراع. وفي كل مكان، حوت صناديق الاقتراع أشياء كثيرة بخلاف أوراق الاقتراع؛ كرسائل مسيئة موجهة للمرشحين، وصور لممثلين سينمائيين. بل اكتشف في بعض الصناديق أوراق نقدية وعملات معدنية، «أودعت - بالطبع - في خزانة الدولة».
1
2
كما كان الحال عام 1952، كانت تلك الانتخابات في جوهرها استفتاء شعبيا على رئيس الوزراء وحزبه؛ فمرة أخرى كان نهرو هو أكبر مخطط ودعائي وحاصد أصوات لحزب المؤتمر. وكان من ساعده من وراء الكواليس ابنته الوحيدة، إنديرا غاندي. كانت منفصلة عن زوجها فيروز، وتقيم بصحبة ابنيها مع والدها الأرمل في مقر إقامته الرسمي الرحب، تين مورتي.
2
وفي أغلب الأحيان كانت السيدة غاندي هي آخر شخص يراه رئيس الوزراء في المساء وأول شخص يراه في الصباح. وإذ احتلت مركز المضيفة الرسمية في منزله، فقد تسنى لها مقابلة أكابر الهند وغيرها من البلاد والتعامل معهم. وقد ظهر تحسن ملحوظ على صحتها، التي كانت معتلة فيما مضى؛ فصورها المعاصرة يتبين منها أن قوامها الذي كان هزيلا يوما ما قد امتلأ، وبدا التحسن لا على مظهرها فحسب وإنما على سلوكها أيضا. أرجع أحد مدوني سيرتها ذلك التحسن لظهور عقاقير جديدة - مثل البنسلين - داوت آثار مرض السل الذي يعتقد أنها كانت مصابة به.
3
يستند ما نعرفه عن الحالة الصحية للسيدة غاندي على التكهنات المنطقية. إلا أنه ثمة أدلة ملموسة على أنها أصبحت شخصية أكثر استقلالية في الفترة ما بين الانتخابات العامة الأولى والثانية؛ ففي مارس 1955 عينت ضمن لجنة حزب المؤتمر العاملة من أجل «تمثيل اهتمامات المرأة». وعقب ذلك التعيين بدأت تطوف البلاد متحدثة إلى النساء عن حقوقهن ومسئولياتهن. ولم تقتصر دائرة اهتماماتها على بنات جنسها فحسب؛ فقد رأست اجتماعات عقدت في بومباي للتعجيل بتحرير جوا من الحكم البرتغالي.
كانت إنديرا غاندي تتظاهر أحيانا أمام معارفها في أيام ما قبل النشاط السياسي بالترفع عن دورها الجديد؛ فقد شكت لأحد أصدقائها قائلة: «صرت أقضي وقتي كله الآن في اللجان وما شابهها.»
4
إلا أنه ثمة أدلة أخرى تشير إلى أن ذلك الدور الجديد راق لها إلى حد بعيد؛ فقد كتب والدها الذي كان أكثر الناس معرفة بها عن مشاركتها النشطة في الحملة الانتخابية لعام 1957 قائلا:
عندما انتهى التصويت اليوم، توافدت أعداد كبيرة من موظفي حزب المؤتمر إلى أناند بهافان [منزل الأسرة]، منهم نساء كثيرات؛ فقد أحدثت إندو [إنديرا غاندي] هزة في صفوف النساء تحديدا، وحتى النساء المسلمات حضرن. والحقيقة أن إندو كبرت ونضجت كثيرا خلال العام المنصرم، ولا سيما خلال هذه الانتخابات؛ فقد كان عملها مؤثرا في جميع أنحاء الهند، ولكن مجال اختصاصها كان مدينة ومنطقة الله أباد، التي نظمتها كأنها جنرال يستعد للمعركة. وقد أصبحت بطلة في الله أباد الآن، لا سيما في أعين النساء.
5
3
في عام 1952، تمثل أقوى التحديات الأيديولوجية أمام نهرو وحزبه في حزب جانا سانج في اليمين والاشتراكيين في اليسار. إلا أن هذين اللاعبين أصبحا الآن في حالة اضطراب، يعزى جزئيا إلى رحيل زعيميهما الكاريزميين؛ فإس بي موكرجي كان قد توفي، بينما هجر جايا براكاش نارايان السياسة لكي يتفرغ لخدمة المجتمع؛ فلم يواجه حزب المؤتمر معارضة تذكر في شمال الهند، وربح 195 مقعدا في الشمال (من أصل 226 مقعدا ترشح لها)، وقد مثلت تلك الهيمنة جزءا كبيرا من إجمالي عدد المقاعد البالغ 371 مقعدا التي حصل عليها، مما حقق له أغلبية كبيرة في البرلمان.
6
إلا أنه رغم انتصاره في المجمل، فقد ظهرت علامات مقلقة بالنسبة له، رغم أنه الحزب الذي قاد المعركة من أجل الحرية وتولى قيادة الدولة الهندية منذ نيلها الاستقلال؛ فخارج حدود سهل الجانج الهندي، بدأت تحديات متنوعة في التشكل. في أوريسا واجه حزب المؤتمر معارضة من جانب حزب جناتنترا باريشاد، الذي أسسه مجموعة من أعيان المنطقة، وهو الذي خفض - إلى جانب الأحزاب اليسارية - عدد المقاعد التي حصل عليها حزب المؤتمر إلى سبعة مقاعد من أصل عشرين. وفي مقاطعة بومباي، التي كانت معقل الحركة القومية الهندية فيما مضى، ربح حزب المؤتمر ثمانية وثلاثين مقعدا من إجمالي ستة وستين. وآل معظم المقاعد المتبقية إلى حركة ساميوكتا مهاراشترا ساميتي أو حركة مهاجوجارات باريشاد، اللتين كانت كل منهما تكافح من أجل الحصول على ولاية منفصلة. (فيما مثل فعليا استفتاء شعبيا على إنشاء ولاية تتحدث اللغة الماراثية عاصمتها بومباي، حصدت حركة ساميوكتا مهاراشترا ساميتي 5,5 ملايين صوت مقابل 5,3 ملايين صوت حصدها حزب المؤتمر.) وتكررت تلك الخسائر في الانتخابات المحلية التالية، إذ وضعت ساميتي يدها على المجالس البلدية للمدينتين التاريخيتين العظيمتين، بونا وبومباي.
كذلك كان ثمة تحد إقليمي يختمر في الجنوب، في شكل حزب درافيدا مونيترا كازاجام، المنبثق عن الحركة الدرافيدية التي أنشأها إي في راماسوامي. كان ذلك الرجل المعروف ببريار (أي الرجل العظيم)، معارضا شرسا لهيمنة الشمال على السياسة والثقافة والدين في الهند. وكان يأمل في إنشاء دولة قومية في جنوب الهند، تدعى «درافيدا نادو». وقد أسس حزب درافيدا مونيترا كازاجام على يد مجموعة من أتباعه السابقين، الذين سعوا لاستخدام السياسة البرلمانية للتعبير عن مطالبهم الانفصالية. كانت انتخابات عام 1957 أول انتخابات يشارك فيها ذلك الحزب. وعلى الرغم من أن المقاعد التي فاز بها كانت قليلة - معظمها في المجالس المحلية - فقد كانت نجاحاته التدريجية مدعاة للقلق؛ إذ إن الحزب لم يكن يطالب بمجرد إنشاء مقاطعة جديدة على أساس عرقي أو لغوي، وإنما طالب بإنشاء دولة قومية منفصلة من الأساس.
7
إلا أن أخطر تحد لزعم حزب المؤتمر بتمثيل الهند كافة كان في الولاية الواقعة في أقصى الجنوب. كانت تلك هي ولاية كيرالا، التي بعث فيها الحزب الشيوعي الهندي من جديد ليكون بديلا شعبيا قويا للحزب الحاكم. فاز ذلك الحزب بتسعة مقاعد في الانتخابات البرلمانية من أصل المقاعد الثمانية عشر التي سعى إلى الفوز بها (لم يفز حزب المؤتمر إلا بستة مقاعد). وفي انتخابات المجالس المحلية، التي أجريت في الوقت نفسه، فاز الحزب الشيوعي الهندي بستين مقعدا من أصل 126، بينما كفل له تأييد خمسة أعضاء مستقلين أغلبية ضئيلة.
مثل انتصار الحزب الشيوعي الهندي في انتخابات المجالس المحلية تأكيدا مذهلا على الاحتمالات التي ينطوي عليها المسار الذي وصفه لينين ذات مرة مستهزئا بوصف «البلاهة البرلمانية». كان ثمة بلدة في إيطاليا قد انتخبت في تلك الآونة عمدة شيوعيا، ولكن حالة كيرالا تميزت بشيء جديد من الناحية النوعية؛ إذ مثلت أول فرصة للشيوعيين لحكم مقاطعة كاملة من بلد كبير جدا. ونظرا للعلامات المنذرة بتحول الحرب الباردة إلى حرب حقيقية، اكتسب ما يحدث في كيرالا أهمية عالمية. إلا أنه طرح أيضا أسئلة مهمة بشأن مستقبل الفيدرالية الهندية؛ ففي الماضي كانت بعض الوزارات الإقليمية تقودها أحزاب معارضة أو عناصر منشقة عن حزب المؤتمر. ولكن ما واجهته نيودلهي آنذاك كان مسألة مختلفة تماما؛ ولاية يحكمها حزب كان يعمل في السر حتى فترة قريبة، ولا يزال يدين بولاء نظري لفكرة الثورة المسلحة، وكان من المعروف عن قياداته وأعضائه أنهم كانوا يتلقون في بعض الأحيان أوامرهم من موسكو.
4
كيرالا - الواقعة في أقصى جنوب غرب الهند - ولاية رائعة الجمال، بساحلها الطويل وجبالها الشامخة . تأتي الرياح الموسمية فيها مبكرة غزيرة الأمطار، وغطاؤها النباتي مبهر في تنوعه؛ فما من بقعة تفوقها اخضرارا في الهند قاطبة. وما من بقعة تفوقها في تنوعها الثقافي؛ فالهندوس يشكلون نحو 60٪ من تعداد سكانها، بينما يشكل المسلمون والمسيحيون النسبة المتبقية؛ أي 40٪. ومن المهم القول إن هاتين الأقليتين لهما تاريخ طويل جدا؛ فمسيحيو الطائفة «السريانية » في كيرالا يدعون أنهم اعتنقوا تلك الديانة على يد القديس توما في القرن الأول من العصر المسيحي. وفي عصور تالية، حظي أيضا المبشرون البروتستانتيون والكاثوليكيون بنجاح ظاهر هناك. وكان المسلمون الأوائل بها نتاج التجارة مع العرب، ويرجعون إلى القرن الثامن ميلاديا على أقل تقدير. وهاتان هما أقدم جماعات المسيحيين والمسلمين في شبه القارة الهندية. وهما مثل الهندوس في كيرالا كانتا تتحدثان اللغة المحلية؛ المالايالامية. إلا أن عددهما الكبير نسبيا أكسب الولاية نوعا من التميز، كما يتبين من جدول
14-1 .
جدول 14-1: التكوين الديني لكيرالا مقارنة بالهند ككل (المصدر: كيه جي كريشنا مورتي وجي لكشمانا راو، «التفضيلات السياسية في كيرالا»، (نيودلهي: رادها كريشنا، 1968)).
النسبة المئوية من إجمالي تعداد السكان
الهندوس
المسيحيون
المسلمون
كيرالا
60,83
21,22
17,91
الهند
83,51
2,44
10,69
منذ أواخر القرن التاسع عشر، عاشت كيرالا حالة من التغير الاجتماعي. وكان ثمة أربعة أطراف فاعلة توجه ذلك التغيير؛ أولا: المبشرون، الذين وجدوا العمل في كيرالا أيسر من سائر أنحاء الهند البريطانية؛ نظرا للنفوذ المسيحي فيها. وقد عززت كنائسهم التعليم الحديث عبر شبكة واسعة متشابكة من المدارس والكليات. ثانيا: المهراجات المتعاقبون لكوتشن و(لا سيما) ترافنكور، الذين كانوا أكثر تقدمية من أغلب نظرائهم، ونافسوا المبشرين بفتح مدارس جيدة مملوكة لهم. ثالثا: الجمعيات النشطة الخاصة بطوائف اجتماعية معينة؛ مثل جمعية خدمة مجتمع الناير - التي مثلت طائفة ملاك الأراضي المسيطرة - وجمعية شري نارايانا دارما باريبالانا، المسماة تيمنا بنارايانا جورو، الزعيم الأسطوري للإزهافا؛ وهي طائفة صانعي نبيذ النخيل، الملقبين بجامعي عصارة النخيل، والذين احتلوا مرتبة متدنية في الهرم الاجتماعي التقليدي. وتلك الجمعيات أيضا أدارت مؤسسات تعليمية خاصة بها، فضلا عن جمعيات مخصصة لخدمة المجتمع والأعمال الخيرية. وأخيرا، الأحزاب السياسية ، ومنها حزب المؤتمر وكذلك الحزب الشيوعي الهندي بالطبع.
8
كان لوحدة الحزب الشيوعي الهندي في كيرالا جذور قوية في التربة المحلية. وكان زعماؤها الأشد تأثيرا قد بدءوا حياتهم المهنية في حزب المؤتمر، ثم خرجوا منه واتجهوا لليسار؛ فأنشئوا نقابات للفلاحين للمطالبة بتأمين وضع المستأجرين، وأنشئوا اتحادات عمالية للمطالبة بتحسين أجور الأجراء المعدمين وظروف عملهم . وأسسوا «حجرات قراءة» نقل فيها المثقفون أفكارهم الراديكالية لجمهورهم من الفئات المغبونة. كذلك سخر المسرح والرقص لخدمة الدعاية اليسارية؛ فإبان أواخر ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها، حقق الشيوعيون مكاسب متتالية، وراقت أفكارهم ومثاليتهم الظاهرة لذلك المجتمع المنقسم الذي ازداد وضعه ترديا بفعل الكساد والحرب.
في بلد يسوده التفاوت بصفة عامة، اتسمت كيرالا بوضع خاص من فرط ظلم نظام الطوائف فيها؛ ففيها لم تكن الطوائف الاجتماعية الدنيا منبوذة فحسب (بمعنى أنها لا يجوز لمسها أو مخالطتها)، وإنما كانت أيضا «لا تجوز رؤيتها». فعند اقتراب أحد أفراد طائفة نامبوديري البرهمية، كان على العامل من طائفة البارايار أن يرفع عقيرته بالصياح مسبقا، حتى لا يتلوث سيده برؤياه. إلا أن الجهود المتضافرة للمبشرين، والأمراء، والجمعيات الخاصة بالطوائف، والشيوعيين قوضت هياكل النفوذ التقليدية؛ ففي غضون نصف قرن فحسب - بين عام 1900 وعام 1950 - حل التحدي محل الإذعان باعتباره أسلوبا للمعاملات الاجتماعية في ريف كيرالا.
9
عندما وصل حق الاقتراع العام إلى ولاية كيرالا عام 1947، كان الشيوعيون في وضع يسمح لهم باستغلاله تماما، إلا أنهم عوضا عن ذلك اتجهوا إلى العمل السري، تنفيذا للأوامر الصادرة عن موسكو. ثم عاد الحزب الشيوعي الهندي إلى الظهور في الوقت المناسب لدخول انتخابات عام 1952، وأبلى بلاء لا بأس به. وإبان الخمسينيات ظل يعمل بثبات على توسيع نطاق نفوذه. وفي فبراير 1956، أي قبل الانتخابات العامة الهندية بأقل من عام، عقد الحزب الشيوعي السوفييتي مؤتمره العشرين. وفيه ندد خروتشوف بستالين في خطابه الشهير، وأيد في معرض الحديث احتمالية التحول السلمي إلى الاشتراكية. وحسبما قال، فإن «الفوز بأغلبية برلمانية مستقرة تدعمها حركة ثورية جماهيرية من البروليتاريا وكافة العاملين يمكن أن يهيئ للطبقة العاملة في عدد من البلدان الرأسمالية والمستعمرات السابقة الظروف اللازمة لضمان حدوث تغييرات اجتماعية جوهرية».
10
بالطبع، لم تجر انتخابات في الاتحاد السوفييتي، ولكن «الأخ الأكبر» لم يعد يمانع في مشاركة الرفاق من البلاد الأخرى في الانتخابات، بل ربما أقر تلك المشاركة. (يعزى ذلك التغيير في جزء منه إلى مقتضيات السياسة الخارجية؛ فالروس نظرا لتنافسهم مع قوة عظمى أخرى على اجتذاب حلفاء، اضطروا إلى استمالة نظم استعمارية سابقة كانت في كثير من الأحيان غير متعاطفة مع الشيوعية الثورية.) حينذاك تسنى للحزب الشيوعي الهندي إلقاء ثقله بحماس أكبر في حملته الانتخابية؛ فأعلن بيان الحزب أن الحزب لا يرغب إلا في جعل تلك «الولاية ولاية ديمقراطية ومزدهرة»؛ بإنشاء صناعات جديدة، وزيادة إنتاج الغذاء، ورفع أجور العمال في المصانع والمزارع، وتأميم المزارع، وبناء المساكن، وتحديث المدارس؛ فكان الحزب المحتج يسعى إلى أن يصير حزبا حاكما، وهو التحول الذي قال أعضاؤه للناخبين إن الإشراف على الأجهزة المحلية قد أعدهم له؛ فحسبما أعلن بيان الحزب:
يعلم الشعب أيضا أن إدارة الكثير من المجالس البلدية ومجلس منطقة مالابار أصبحت أفضل مما كانت عليه من قبل تحت قيادة الحزب الشيوعي، وأن المجلسين القرويين اللذين منحهما رئيس الوزراء نهرو جوائز لحسن الإدارة يعملان تحت قيادة الحزب الشيوعي؛ فقد أوضحت تلك الخبرات أن الحزب الشيوعي قادر ليس فقط على توحيد الناس للقيام بثورة، بل قادر أيضا على تولي الإدارة وتسييرها بنجاح.
11
5
كان رئيس وزراء كيرالا الشيوعي المنتخب حديثا هو إي إم إس نامبوديريباد، وكان معروفا لدى العدو والصديق بالأحرف الثلاثة الأولى من اسمه؛ إي إم إس. كان رجلا ضئيل البنية، لا يتعدى طوله الخمسة أقدام، وكان لديه التزام راسخ بعقيدته، مقترن بذكاء حاد. كان ينتمي إلى عائلة برهمية وتبرع بالمنزل الذي ورثه عن أجداده للحزب. كان قارئا نهما وكاتبا بارعا، تضمنت أعماله العديدة سردا متعمقا لتاريخ كيرالا. كان إي إم إس - مثله في ذلك مثل الشيخ عبد الله والمعلم تارا سينج وإيه زي فيزو - يعتبر مجرد زعيم «إقليمي» في ذلك البلد الضخم. إلا أنه لا يزال شخصية تحمل أهمية تاريخية لا يستهان بها، وذلك بسبب حجم مقاطعته وكذلك بسبب ممارسته المميزة للسياسة.
12
كان أول عمل فعلي للحكومة الجديدة هو تخفيف عقوبات السجناء المحكوم عليهم بالإعدام. وبعد ذلك سحبت الدعاوى المرفوعة ضد الأشخاص المتورطين في منازعات العمل أو «الصراعات السياسية» من هذا القبيل. وتبعت ذلك تدابير ملموسة أكثر، مثل: فتح آلاف متاجر «الأسعار العادلة» (متاجر التموين)، للمساعدة في توزيع الأغذية للمعوزين في تلك الولاية التي عانت نقص الغذاء.
13
خلف الوزراء الشيوعيون انطباعا حسنا بكفاءتهم، التي بدا التناقض صارخا بينها وبين تراخي نظرائهم في حزب المؤتمر؛ فقد أشادت مجلة شهرية ليبرالية بإي إم إس «لسجله الجدير بالحسد في مجال الخدمة العامة»، ولاختياره رفقاء «يتحلون بالخصلة العظيمة المتمثلة في تفكيرهم الجماعي أثناء التخطيط؛ فهم لن يكونوا مجرد آكلي أموال عامة».
14
وذلك صحيح، ومن ثم فقد أبدت صحيفة أسبوعية معادية للشيوعية بطبيعتها بالغ إعجابها حينما استجاب وزير الري - في آر كريشنا آير - على الفور لاستغاثة واردة من إحدى القرى الصغيرة المنعزلة؛ حيث كان أحد السدود الحجرية الصغيرة قد تشقق؛ فالوزير «قطع برنامج جولته على الفور، وزار المكان بنفسه، حيث أصدر أوامر فورية بترميمه دون إبطاء، وأشرف بنفسه على إتمام المهمة». وإضافة إلى ذلك، وعد بالتحقيق في سلوك أولئك المسئولين الذين تعرض محصول الأرز للخطر بسبب إهمالهم.
15
كان الشيوعيون بتوليهم السلطة قد تعهدوا بالعمل في إطار الدستور الهندي، وبقبولهم أموال الحكومة الفيدرالية تعهدوا بالعمل وفقا لتوصيات لجنة التخطيط. إلا أنه كان لا يزال ثمة الكثير مما يمكن أن يفعلوه في نطاق تلك الحدود؛ فأولا: كان بإمكانهم إصلاح نظام حيازة الأراضي البالي، معدوم الكفاءة، القائم على التفرقة الفادحة. وهم في هذا الشأن لم ينالوا دعم لجنة التخطيط والدستور فحسب، وإنما دعم وثائق سياسات متعاقبة صادرة عن حزب المؤتمر نفسه أيضا. نصت تلك الوثائق على الالتزام بالإصلاح الزراعي، وهو الالتزام الذي - مثلما ذكر رونالد هرينج - «لم ينفذ في ظل أي نظام لحزب المؤتمر ولكن اصلاحات الحزب الشيوعي الهندي في كيرالا اقتربت منه».
16
كانت أهداف مشروع قانون العلاقات الزراعية الذي طرحته حكومة إي إم إس بسيطة؛ فتلخصت ليس في الملكية المشتركة أو الجماعية للأراضي، ولا حتى منح صكوك ملكية الأراضي للمعدمين، وإنما في مجرد منح عقود إيجار مستقرة لجمهور الفلاحين زارعي الأراضي الصغيرة المملوكة لأشخاص غائبين. سعى مشروع القانون إلى الحد من صلاحيات الطرد الواسعة التي تمتع بها ملاك الأراضي فيما مضى، وخفض الإيجارات وإسقاط المتأخرات، ووضع حد للملكية، وإعادة توزيع الأراضي الفائضة الناتجة عن تحديد الملكية. كانت تلك تدابير مهمة، ساعدت مئات الآلاف من الفلاحين الفقراء، ولكنها لم ترق لما نصت عليه التعاليم الشيوعية. وقد حل ذلك التناقض باللجوء إلى نظرية «المراحل» في الماركسية الكلاسيكية؛ فقد قيل إن الهند الريفية لم تزل «شبه إقطاعية»، وإنه ينبغي حشد جميع الطبقات غير الإقطاعية لدعم الإصلاحات المقترحة، التي من شأنها - حال تطبيقها - أن تطلق عنان الرأسمالية الزراعية، وهي النقطة التالية التي لا مفر منها في الطريق الممهد نحو الاشتراكية.
17
يحمل السرد التأريخي القياسي للشيوعية في كيرالا العنوان الفرعي: «دراسة في التكيف السياسي» (أي، للديمقراطية البرجوازية). يمثل المذهب الإصلاحي في الزراعة أحد مظاهر ذلك التكيف، والمظهر الثاني - الذي من المؤكد أنه تسبب لكوادر الحزب في ارتباك أكبر - كان تشجيع مشروعات القطاع الخاص. كان بيان الحزب قد هدد بتأميم المزارع، التي كان كثير منها مملوكا لأجانب. ولكنه تخلى عن تلك الفكرة بهدوء بعد الانتخابات. ثم دعت حكومة كيرالا أكبر العائلات الرأسمالية في الهند - عائلة بيرلا - لإنشاء مصنع للحرير الصناعي في مافور، وذلك خلال الأشهر الأولى بعد توليها مهام منصبها. وطمأنت أصحاب المشروع المقترح إلى تزويدهم بإمدادات مدعمة من البامبو؛ بحيث يسلم الطن إلى آل بيرلا مقابل روبية واحدة، في حين أن السعر السائد في السوق ربما كان ألف روبية للطن آنذاك. مثل ذلك المشروع خروجا عن العرف السائد من جانب الرأسمالي؛ إذ إن طبقة المصنعين الهنود كانت تمقت الشيوعيين، وكانوا يأملون في أن تشاركهم الحكومة المركزية انزعاجهم من «التهديد الأحمر»، وأن «يضرب وزير الداخلية بانت ورفاقه في نيودلهي [من حزب المؤتمر] الشيوعيين في كيرالا بيد من حديد ويطيحوا بهم».
18
إلا أن آل بيرلا البراجماتيين تصرفوا استجابة لحقيقة أن حزب الهند الشيوعي كان يسيطر على الاتحادات العمالية في مراكز صناعية مهمة خارج كيرالا؛ فكان فتح مصنع في هذه المنطقة يستلزم شراء السلام فيها، كما هو الحال في سائر المناطق. وكما علق أحد الصحفيين؛ فقد كان من الصعب تصديق أن الزعيم الأبوي لتلك العشيرة - جانشيام داس بيرلا - قد استسلم «لسحر رئيس الوزراء نامبوديريباد الآسر»، وإنما الأرجح أنه كان «يستعد لانتصار الشيوعيين في البنغال، حيث تتركز مصالحه».
19
اجتذب الشيوعيون عندما كانوا في سدة الحكم - كما فعلوا عندما كانوا في صفوف المعارضة - مجموعة متنوعة من ردود الأفعال، التي تتراوح بين الموافقة المتحمسة والعداوة السافرة؛ فكان ثمة من يكتبون عن طلوع فجر جديد، بألفاظ تذكرنا بالصفحات الافتتاحية من كتاب جورج أورويل «الحنين إلى كاتالونيا»، بتحية مخلصة لروح الإنسان في ظل الاشتراكية؛ ففي الذكرى السنوية الأولى لوصول حكومة إي إم إس إلى سدة الحكم، ذهب صحفي إلى متجر للشاي حيث كانت:
الشخصية المحورية فيه هي الصبي مقدم الشاي. كانت معظم النقاشات قائمة على الإشاعات. ولكن الصبي كان واثقا دائما من معلوماته كما ترويها الصحيفة الشيوعية اليومية، «جانايوجم». كان من الأمور الباعثة على السرور مشاهدة ذلك الصبي ذي الستة عشر عاما يجادل معلما يبدو أنه تجاوز الأربعين من العمر، وموظفا حكوميا في العشرينيات من العمر، وغيرهم، في وجود رئيسه، صاحب متجر الشاي، دون أن يعطل النقاش أداءه مهام عمله في الوقت نفسه. هذا شيء لا يمكن أن يحدث إلا في كيرالا.
20
وعلى الجانب الآخر، كان ثمة حديث عن «الإرهاب الأحمر»، وكتبت صحيفة في كيرالا بلهجة تشاؤمية عن حرب طبقية تستمر حتى النهاية، وتنحاز فيها الدولة لصف الطوائف الاجتماعية الدنيا:
إذا نشب نزاع بين العمال وإدارات الشركات، فويل لإدارات الشركات؛ فالشرطة سوف تنحاز للعمال.
وإذا قاد مالك أرض طيشه للتشاجر مع المزارعين العاملين لديه، فتعسا لمالك الأرض؛ فستعرف الشرطة ما ينبغي لها فعله ...
وإذا حاصرت الحشود الصاخبة كلية أو قصر أحد الأساقفة، فستسمى انتفاضة شعبية سلمية ودستورية لطلاب مظلومين.
21
6
في شتاء 1957-1958، طاف الكاتب المجري جورج مايكس بأنحاء الهند. وبصفته لاجئا من الشيوعية - استقر في لندن بأمان - وجد «مسألة كيرالا» شديدة الغرابة. وسأل: «كيف لحكومة مركزية ديمقراطية أن تتصرف مع ولاية شيوعية؟ ماذا يمكن أن تفعل الإدارة الأمريكية إن تحولت كاليفورنيا أو ويسكونسن فجأة - وعلي أن أقر بأن ذلك سيكون أمرا غير متوقع إلى حد ما - إلى الشيوعية؟ وأيضا، كيف يمكن أن تتصرف الحكومة الشيوعية نفسها مع وجود أعباء الديمقراطية على عاتقها؟»
22
لا يمكن للمرء أن يتخيل كيف كان يمكن لرئيس أمريكي أن يتصرف في موقف مشابه - هل كان من الممكن أن يرسل قوات مشاة البحرية الأمريكية؟ - ولكن في الهند كان رئيس الوزراء آنذاك ميالا إلى الانتظار ورؤية ما سوف يسفر عنه الأمر، وذلك نظرا لأن الإصلاحات الزراعية التي اقترحتها حكومة إي إم إس لم تزد عن الإصلاحات التي وعدت بها حكومات حزب المؤتمر، ولأن النزاهة الشخصية التي تحلى بها وزراء كيرالا لم تكن غائبة عن خيرة رجال حزب المؤتمر، من قبيل جواهر لال نهرو نفسه.
أما أكثر الأشياء إثارة للجدل فكانت المبادرات التعليمية لحكومة كيرالا؛ فقد طرحت في صيف عام 1957 مشروع قانون للتعليم يستهدف تقويم الانحرافات التي شابت المدارس والكليات الخاصة. كانت المدارس والكليات الخاصة هي القاعدة في كيرالا؛ إذ كانت المدارس تعمل تحت إدارة الكنيسة وجمعية خدمة مجتمع الناير وجمعية شري نارايانا دارما باريبالانا؛ فكان مشروع القانون يسعى إلى تحسين أوضاع المعلمين بتقليص صلاحيات الإدارة في تعيين المعلمين وفصلهم متى أرادت، وبوضع قواعد للتعيين، وتحديد الرواتب وظروف عمل آدمية. ومنح مشروع القانون الولاية أيضا سلطة تولي إدارة المدارس التي لا تلتزم بأحكام مشروع القانون.
23
تزعمت الكنيسة تيار معارضة مشروع القانون؛ إذ كانت سلطتها - الأخلاقية وكذلك المادية - تعتمد بقوة على سيطرتها على المؤسسات التعليمية؛ فقد كان رجال الدين شديدي المعاداة للشيوعية، وهو شعور استطاعوا غرسه في رعاياهم؛ ففي انتخابات عام 1957 - على سبيل المثال - لم يفز الحزب الشيوعي الهندي إلا بثلاثة مقاعد من أصل ثمانية عشر مقعدا في منطقة كوتايام، معقل الطائفة المسيحية السريانية.
24
والحقيقة أن وزير التعليم في كيرالا، جوزيف مونداسيري، كان قد أمضى عقودا في التدريس في كلية كاثوليكية بتريتشور؛ فكان ملما بأوجه فساد تلك المنظومة، ومثل مشروع القانون الذي طرحه محاولة شجاعة في بعض نواحيه لتصحيح ذلك الفساد. إلا أن حكومته سعت إلى ما هو أكثر من تحديث الإدارة؛ فقد كانت ترغب أيضا في إدخال تغييرات على المنهج؛ فأعدت كتب دراسية جديدة، سعت - سعيا سافرا أحيانا - لتقديم التاريخ من منظار شيوعي. وكان المنظار الذي استخدمه المعلمون المسيحيون من منظار مختلف تماما؛ فلتنظروا إلى هاتين الروايتين المتباينتين عن الثورة الروسية، اللتين كانتا متداولتين في مدارس كيرالا خلال تلك الأعوام: (الرواية الجديدة):
أسست حكومة جمهورية برئاسة جيورجي لفوف، أحد أعضاء العائلة الملكية. وفشلت تلك الحكومة في نيل الدعم الشعبي وأثبتت عجزها عن إنهاء الحرب أو إحداث إصلاحات اجتماعية واقتصادية. وفي ذلك الحين، جاء لينين إلى روسيا، ومثل مجيئه قوة دفع للشعب الروسي؛ فنشأت حكومة جديدة برئاسة لينين. وأبرم لينين معاهدة بريست-ليتوفسك مع ألمانيا. بعد ذلك أممت الأراضي وغيرها من السلع الرأسمالية؛ فأخذت الأراضي الزراعية كافة من ملاكها وقسمت بين الفلاحين. وأصبحت المصانع كافة ملكا للدولة. وألغيت امتيازات رجال الدين والنبلاء. وسيطرت الحكومة على المناجم والسكك الحديدية والبنوك. وبذلك - وسط ذهول الجميع - تشكل عالم جديد في روسيا، قائم على الاشتراكية، وهكذا تحققت أحلام كارل ماركس. (الرواية القديمة):
أسس لينين حكومة عمالية. ولكن الانتخابات الأولى أثبتت أن البلاشفة لم يحققوا أغلبية. إلا أنهم - لكي يحتفظوا بزمام السلطة - حلوا الدوما بحجة أنه رجعي، وكذلك حلوا المجالس المحلية السوفييتية غير المؤيدة للبلاشفة. وأوقفوا المدارس الخاصة عن العمل وتولت الدولة إدارة التعليم. كذلك حرم النبلاء ورجال الكنيسة حق الاقتراع. الشيوعية تشجع على العنف، ولا تؤمن بوجود إله قدير. الشيوعيون نسوا أن الإنسان يمتلك روحا بداخله. الحكومة السائدة في روسيا الشيوعية حكومة حزب واحد، وليس فيها حرية رأي ولا حرية دينية. وكذلك ثمة عيوب كثيرة في ذلك النظام يمكن أن تلفت نظر الناقد المتنبه.
25
كانت هاتان رؤيتين متباينتين لنوع المجتمع الذي ينبغي أن تصيره كيرالا، متنكرتين في صورة قراءتين متباينتين للثورة الروسية. ويمكن للمرء تخيل مدى السخط الذي من شأن الرواية المسيحية أن تثيره لدى الشيوعيين، والعكس صحيح. على أي حال، فقد أجج الجدل الدائر بشأن الكتب المدرسية نيران الفتنة. وفي ذلك الوقت، كان المسيحيون المعارضون لمشروع القانون قد انضم إليهم الناير، وهم الطائفة الأخرى التي احتلت مكانة رئيسية في الحياة الاقتصادية لولاية كيرالا. وفي حين أن المسيحيين لطالما دعموا حزب المؤتمر، كان الناير منقسمين؛ حيث صوت نصفهم تقريبا لصالح الحزب الشيوعي الهندي، بينما صوت النصف الآخر ضده. إلا أنه نظرا لأن جمعية خدمة الناير كانت تدير بعض المدارس والكليات أيضا؛ فقد ساعد مشروع القانون الجديد على دفعها في اتجاه معاد للشيوعيين، وإلى تحالف انتهازي إلى حد ما مع المسيحيين.
26
أما الأكثر انتهازية فكان حزب المؤتمر المحلي؛ فقياداته بعد هزيمتهم في الانتخابات، رأوا في مشاعر السخط على مشروع القانون المعني بالتعليم فرصة لاستعادة زمام السلطة؛ فاقترحوا إقامة «جبهة شعبية» مناهضة للشيوعية، وهو ما كان فكرة جذابة بالنسبة إلى «الكنيسة الكاثوليكية الرجعية، وملاك الأراضي، وأصحاب المزارع، وغيرهم من العناصر الناقمة»، وإن بدت خيانة للفلسفة الاشتراكية التي اعتنقها قيادات حزبهم.
27
وخلال الجزء الأخير من عام 1958 قامت سلسلة من الإضرابات والمسيرات الاحتجاجية في كيرالا. وتضمنت الأحداث في تريتشور إطلاق الشرطة النار على حشد من رجال حزب المؤتمر، وقتل ستة منهم.
28
وإذ شعر إي إم إس نامبوديريباد بأنه محاصر، اضطر إلى عرض قضيته على صفحات أكثر مجلة إخبارية أسبوعية شعبية في الهند، التي كانت تصدر باللغة الإنجليزية؛ فقال: «خصومي صدموا» لأن حكومته سعت أحيانا إلى اتخاذ إجراءات ضد ملاك الأراضي، حتى وإن كان ذلك مع الالتزام التام بأحكام الدستور؛ فرد عليه أحد قيادات حزب المؤتمر، متحدثا في الأعمدة نفسها عن تنامي «الخروج على القانون وانعدام الأمن في كيرالا»، الناتجين عن ميل الشيوعيين إلى اعتبار أنفسهم فوق القانون حين يأتون بأفعالهم الانتقامية ضد معارضيهم.
29
بعدما رفضت المحكمة العليا طعنا على مشروع القانون في فبراير 1959، حصل مشروع القانون على موافقة رئيس الهند. وفي الشهر نفسه انتخبت السيدة إنديرا غاندي رئيسا لحزب المؤتمر الهندي. كانت أول امرأة تشغل ذلك المنصب طوال ستة وعشرين عاما. وعندما سئلت السيدة غاندي إن كان ذلك سوف يؤثر سلبا على مهامها المنزلية، ردت بحدة قائلة: «أعمالي المنزلية لا تستغرق أكثر من عشر دقائق.»
30
في ذلك الوقت، كان حزب المؤتمر «يتحدث بثلاثة أصوات: صوت أعضاء الحزب في كيرالا المنخرطين في إثارة القلاقل العنيفة، وصوت القيادة المركزية التي تسمح بتلك الأنشطة دون إجازتها، وصوت نهرو الرافض لها دون أن يتخذ إجراء لوقفها».
31
في الوقت نفسه تفاقمت القلاقل بدخول زعيم الناير - مانات بادمانابهان - أحد مؤسسي جمعية خدمة الناير، وصاحب نشاط طويل في مدارسها وكلياتها. كان مانات رجلا زاهدا متقشفا يرتدي المئزر الهندي ولا يتحدث سوى اللغة المالايالامية. وقد قيل إنه انقلب على الشيوعيين عندما رفضوا منحه تصريحا بافتتاح كلية هندسة في بلجات؛ فحينذاك عقد العزم على طرد «هؤلاء الشيوعيين نهائيا، ليس من كيرالا فحسب، وإنما من الهند والدفع بهم إلى موطنهم، روسيا». وعندما سأله أحد المحاورين إن كان عمره لا يسعفه (كان في الثمانين من عمره)، ذكره مانات ببيشما بيتاما، المحارب الذي كان في العقد التاسع من العمر وقاد الباندافا في حربهم المقدسة.
32
ربما يمكن الوصول لأفضل فهم للصدام في كيرالا من خلال تحديد دبليو إتش موريس-جونز «للسمات» الثلاث للسياسة الهندية. كانت السمة الأولى هي «الحداثة»، القائمة على أفكار جامعة عن الحرية والعدالة، والمعبر عنها في البرلمان والمحاكم والصحافة الصادرة باللغة الإنجليزية. أما الثانية فكانت «التقليد»، وهي السمة التي شددت على الولاءات الأولية ومصالح الطائفة الاجتماعية أو الدين الذي ينتمي إليه المرء. والثالثة كانت «الورع»، الذي رأى موريس-جونز أنه كان سمة قائمة «على هامش» السياسة الهندية، كما في العمل الاجتماعي لفينوبا بهافي.
كان مشروع القانون المعني بالتعليم في مرحلته الأولى - مثله في ذلك مثل أشياء أخرى كثيرة في الهند الحديثة - يتضمن مجرد صدام بين سمة الحداثة وسمة التقليد. إلا أن مانات، جمع بين السمة الثالثة والسمتين الأخريين، تماما مثلما فعل مهاتما غاندي قبل ذلك بزمن طويل، بنتائج أكثر إبهارا. وقد اتبع أهل كيرالا مانات للأسباب التي حدت بشعب الهند إلى اتباع غاندي نفسها تقريبا؛ وهو أنه كان لا غبار على نزاهته الشخصية، كما أنه لم يكن قد شغل منصبا سياسيا أو سعى إلى ذلك قط.
33
مثل ظهور مانات على الساحة دفعة هائلة للحركة، التي سرعان ما شملت - حسبما قال مانات الزعيم الأبوي للناير - «كل من هو غير شيوعي في كيرالا». وفي 1 مايو من عام 1959، انعقد مؤتمر للمنظمات الأهلية في شنجناشيري بهدف تشكيل لجنة تحرير، تحت قيادة مانات. وخلال الشهر التالي، حمل أعضاؤها رسالتهم إلى المدراس والكليات، والكنائس والمعابد، وديار الصيادين والفلاحين والتجار والعمال.
وبحلول أوائل شهر يونيو، كان ثمة آلاف المتطوعين المستعدين للتعرض للاعتقال. وحينذاك بدأت سلسلة من الإضرابات المقترنة بإغلاق المتاجر، أفضت إلى إغلاق المدارس والمستشفيات والمصالح الحكومية والمصانع. وخرجت مسيرات كبيرة، بقيادة مانات في أغلب الأحيان، الذي سمح - رغم ادعائه الورع - بحمله على ظهر حصان أبيض وفوقه مظلة حريرية، بينما سار شباب من الناير أمامه حاملين سيوفهم في مشية لاح فيها الوعيد.
أما الشيوعيون فقد «ردوا بوحشية منظمة». فقد ذهب أحد التقديرات إلى شن الشرطة 248 هجوما بالهراوات الهندية (اللاثي) لتفرقة المتظاهرين، وكذلك أطلق الرصاص بغزارة، مما أسفر عن مقتل عشرين شخصا على الأقل وجرح كثيرين، منهم أطفال ونساء. وكان كل هجوم بالعصي يفضي إلى زيادة أعداد المتظاهرين. وقد قبض على 150 ألف محتج، ربعهم من النساء.
34
7
من الصعب أن نجزم أي الزعيمين كان أكثر استياء من الموقف: إي إم إس نامبوديريباد، بصفته رئيس «حكومة شعبية» كانت تأمر آنذاك بشن هجمات يومية بالهراوات الهندية واعتقال الآلاف من عامة الشعب، أم جواهر لال نهرو الديمقراطي الدستوري الذي شهد نزول حزبه إلى الشوارع للإطاحة بحكومة منتخبة وفق القانون. في حالة نهرو تفاقمت المعاناة إثر كونه متفقا إلى حد بعيد مع السياسات الزراعية والتعليمية لحكومة كيرالا.
35
وإذ تشجع رجال حزب المؤتمر في كيرالا بنجاح القلاقل التي أثاروها، راحوا يضغطون على الحكومة المركزية لكي تحتكم إلى المادة 356 من الدستور، التي يجوز للرئيس بمقتضاها إقالة حكومة إحدى الولايات بدعوى انهيار القانون والنظام. كانت تلك المادة قد استخدمت أربع مرات في الماضي، عادة بغرض الدعوة إلى إجراء انتخابات في منتصف المدة في حالة خسارة الحزب الحاكم أغلبيته في البرلمان نتيجة انقسامه أو انشقاق بعض أعضائه عنه.
وقد زار نهرو كيرالا في الأسبوع الأخير من يونيو 1959، لكي يشاهد الوضع بنفسه؛ فانزعج لرؤية «جدران الكراهية الجماعية السميكة»؛ فقد رأى أن الطرفين كادا يشبهان بلدين متعاديين في حرب.
36
ولكنه ظل متحرجا من أن يطلب إلى الرئيس إقالة حكومة إي إم إس. إلا أن ابنته إنديرا لم تشاركه تردده، إذ رأت تلك خطوة طال انتظارها؛ فقد قالت السيدة غاندي في خطاب ألقته في دلهي: «عندما توشك كيرالا على الاحتراق، يصير من واجب الحكومة المركزية أن تهب لنجدة الشعب؛ فسوء حكم الحكام الشيوعيين لتلك الولاية أفضى إلى وضع غير مسبوق في تاريخ بلادنا. «ومثل ذلك الموقف لا يحتمل مراوغة قانونية».»
37
كان مانات ومحاربوه يستعدون آنذاك لمواجهة أخيرة. وكانت العصبة الإسلامية قد انضمت إلى المعركة، مكسبة إياها مزيدا من الشرعية. وطوال شهر يوليو خرجت مسيرات يومية، استفز فيها المتظاهرون الشرطة لاستخدام العنف. ومن الأحداث المروعة التي وقعت آنذاك مداهمة الشرطة قرية صيادين صغيرة وإطلاقها النار على المارة، وقتلها امرأة حبلى وشخصين آخرين كانا واقفين بالقرب منها.
38
أعلنت لجنة التحرير يوم 9 أغسطس «يوم الصفر»، الذي تقرر فيه نزول 50 ألف متطوع - ممثلين عن الطبقات والمجتمعات كافة - على تريفاندروم بهدف شل الإدارة. ويوم 26 يوليو بدأت المجموعات تزحف في اتجاه العاصمة من جميع أنحاء الولاية، حاشدة المزيد من الزخم والرجال في طريقها. «كانت ساعة إجبار الشيوعيين على الاختيار بين المذبحة والهزيمة تقترب.»
39
ثم جاءت رسالة من حاكم الولاية، تناشد الحكومة المركزية التدخل، ازدادت بها ثقة رئيسة حزب المؤتمر، إنديرا غاندي. وفي النهاية رضخ رئيس الوزراء - والدها - وكتب إلى نامبوديريباد يوم 30 يوليو ليخبره أن أمر الإقالة بصدد الصدور، نظرا لأنه «لم يعد من الممكن السماح للوضع بالتدهور، مفضيا لاستمرار الصراعات والمعاناة الإنسانية؛ فلقد شعرنا أنه - حتى من وجهة نظر حكومتك - سيكون من الأفضل أن تتدخل الحكومة المركزية الآن».
40
بعد مرور ستة أشهر خرجت كيرالا إلى الانتخابات مرة أخرى. وطلب حزب المؤتمر - في تحالف مع الاشتراكيين والعصبة الإسلامية - إلى الناخبين أن يختاروا ما بين «الديمقراطية والشيوعية». وقاد نهرو زمرة من أعمدة الحزب الكبرى في حملة تصدرتها ملصقات «فلوري ماتا» الصيادة الحبلى التي أردتها رصاصات الشرطة قتيلة أثناء «معركة التحرير». بلغ إقبال الناخبين نسبة غير مسبوقة، هي: 84٪. وفي مجلس مكون من 127 مقعدا، لم يفز الشيوعيون إلا بستة وعشرين مقعدا، بينما فاز حزب المؤتمر بستين مقعدا، وفاز حلفاؤه بواحد وثلاثين مقعدا؛
41
فبدا أن النتائج بررت قرار إقالة حكومة نامبوديريباد. إلا أن ذلك القرار - حسبما أشار سارفبالي جوبال - «شوه سمعة نهرو من حيث سلوكه الأخلاقي في السياسة، وأضعف موقفه على المدى البعيد».
42
8
في السنوات الأولى بعد الاستقلال، واجه حزب المؤتمر تحديات من جانب نوعين من التطرف؛ فالشيوعيون، إذ ادعوا أن تلك حرية زائفة، أشعلوا ثورة دامية على الدولة الهندية الوليدة، وطفقت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج تحشد قوى الرجعية في محاولة لإقامة باكستان هندوسية. إلا أن التيار الوسطي صمد، ونجح حزب المؤتمر في ترويض هذين الخطرين؛ بصياغة دستور ديمقراطي، والفوز في انتخابات ديمقراطية، وإرساء الدعائم الأولية لدولة حديثة تتسم بالتعددية.
ثم إنه بعد مرور عقد من الزمان، تعرض حزب المؤتمر للهجوم مرة أخرى من قبل طرفي الطيف السياسي. كان التحدي اليساري ديمقراطيا هذه المرة، ومن ثم انطوى على خطورة أكبر؛ فإذا ما نجحت حكومة إي إم إس في تنفيذ الإصلاح الاجتماعي، عن طريق إعادة توزيع الأراضي على الفقراء وبناء المدارس للجميع، فكان يمكن أن تتولد عنها مجموعة من التفاعلات التسلسلية؛ بمعنى فوز أحزاب غير حزب المؤتمر في ولايات أخرى من الاتحاد الهندي.
وفي الواقع كان ثمة تحد جديد أيضا من اليمين، تمثل في سي راجا جوبالاتشاري (راجا جي)، رجل حزب المؤتمر المخضرم الذي سبق أن شغل منصب حاكم البنغال، ومنصب الحاكم العام للهند، وكذلك منصب وزير داخلية الاتحاد الهندي. عام 1952 طلب حزب المؤتمر من راجا جي تولي منصب رئيس وزراء مقاطعة مدراس. وظل في ذلك المنصب حتى أبريل 1954، حين أشار الحزب إلى رغبته في الاستعاضة عنه بزعيم الطوائف المتخلفة القوي كيه كامراج؛ فعندها استقر راجا جي في بيت صغير ليقضي أيامه - على حد قوله - في القراءة والكتابة. (كان بارعا في كتابة القصص القصيرة في مسقط رأسه تاميل، كما أنه كتب رواية تاميلية رائعة لملحمتي «رامايانا» و«مهابهاراتا».)
إلا أن الفلسفة والأدب لم يقدما بديلا كافيا عن الشئون العامة. ومن ثم وجد راجا جي نفسه مدفوعا للتعليق من حين لآخر على سباق التسلح النووي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، الذي اتخذ منه موقفا مشابها لموقف نهرو إلى حد بعيد. ثم بدأ يعلق على الشئون الداخلية أيضا عندما ألزمت الخطة الخمسية الثانية الهند بنظام اقتصادي اشتراكي. إلا أنه دخل في خلاف متفاقم مع رئيس الوزراء في هذا الصدد.
كانت الخلافات سياسية في جزء منها؛ فقد شعر راجا جي بأن حزب المؤتمر أصبح راضيا تماما عن أدائه وغير راغب في تطوير نفسه نظرا لعدم وجود معارضة قوية. وفي أكتوبر 1956 أعلن عن اعتقاده بأنه ينبغي أن يكون ثمة فئة معارضة «داخل» حزب المؤتمر؛ فقد كان يخشى أنه دون تلك الفئة فإن الحزب «سوف يتحول ببساطة إلى مرتع لجميع أنواع الطموح والسعي وراء الذات».
43
ولكن الاقتراح قوبل بالرفض، ومن ثم تحول راجا جي إلى تشجيع نشأة معارضة من خارج حزب المؤتمر عوضا عن ذلك. وفي مايو 1958، نشر مقالا بالعنوان الموحي: «مطلوب: فكر مستقل». وفي ذلك المقال قال إنه «من المرجح أن السبب الرئيسي لانهيار الفكر المستقل» في الهند هو «طول مدة حكم فئات مفضلة لدى الشعب دون وجود معارضة قوية». إلا أن الديمقراطية السليمة تقتضي «معارضة تفكر بطريقة مختلفة ولا ترغب في تحقيق المزيد من الشيء ذاته فحسب، فتكون مجموعة من المواطنين نشطي الفكر تستهدف الرفاه العام، وليس مجموعة تقدم للمعدمين أشياء أكثر مما قدم الحزب الحاكم بغية الحصول على المزيد من الأصوات، وإنما مجموعة تخاطب العقل».
44
كذلك كانت الخلافات القائمة بين نهرو وراجا جي اقتصادية؛ فقد كان راجا جي متخوفا من أن تفضي الخطة الخمسية الثانية إلى مركزية مفرطة في سلطة الدولة. وكان منزعجا من الزيادات الكبيرة في الضرائب، التي فرضت لصالح القطاع العام، ولكنها قد لا تفلح إلا في «تثبيط المواطنين وإحباطهم وتدمير القطاع الخاص». وكان يرى أن الخطة لا بد من «فهمها على أنها مكملة لاقتصاد السوق لا بديلة عنه».
45
وفي مايو 1959، إذ بلغ راجا جي عامه الثمانين، أنشأ حزبا سياسيا جديدا؛ حزب سواتنترا. ركز ذلك الحزب انتقاداته على مظاهر «عبادة الفرد» المحيطة بشخص رئيس الوزراء، وعلى السياسات الاقتصادية لحزب المؤتمر الحاكم؛ فقد طالب بيانه التأسيسي بتحقيق «توزيع لامركزي سليم للصناعة» عن طريق تعزيز «المشروعات التنافسية». وفي مجال الزراعة، طالب بتشجيع «المالك الفلاح الذي يعمل لحسابه الخاص، والذي يعبر عن روح المبادرة والحرية». ورفض البيان «أساليب الاشتراكية المزعومة» و«إخراج مذهب «الدولانية» (سيطرة الدولة) إلى حيز الوجود».
46
الديمقراطية التي يديرها حزب واحد تصبح تلقائيا نظاما استبداديا؛ كان ذلك هو المنطق الذي استند إليه راجا جي في إنشاء حزب سواتنترا. إذ إن «حزب المؤتمر عمل حتى الآن دون معارضة حقيقية؛ فقد مضى في طريقه بأقصى سرعة دون أن يوجد من يستطيع إيقافه».
47
وسرعان ما تنامت قوة الدفع لدى ذلك الحزب الذي نشأ على يد رجل في العقد التاسع من عمره. كان ممن انضموا إليه أباطرة الصناعة - بطبيعة الحال - ولكن أعضاءه شملوا أيضا زعماء الفلاحين الذين انتابهم القلق إزاء تهديد حزب المؤتمر بتشجيع «الزراعة التعاونية». وعلى الرغم من أن حزب سواتنترا عادة ما يوصف بأنه حزب «محافظ»، فقد مثل في واقع الأمر مزيجا غريبا من أنصار ليبرالية السوق الحر والزعماء الزراعيين الباحثين عن بديل لحزب المؤتمر.
48
لم يلق مشجعو حزب المؤتمر بالا لحزب سواتنترا معتبرين إياه حزب «الرجعية اليمينية». ورئيس الوزراء نفسه تظاهر بالترفع المشوب باللامبالاة تجاهه. وعندما سئل في مؤتمر صحفي عن حزب راجا جي الجديد، اكتفى بالرد مازحا: «إنه يحب العهد القديم، أما أنا فأحب العهد الجديد.»
49
9
تفاقمت التحديات التي طرحها الحزب الشيوعي الهندي على يسار الطيف السياسي وحزب سواتنترا على اليمين، إثر اتهامات خطيرة وجهت للحكومة في نيودلهي بارتكاب مخالفات مالية منافية للقانون؛ ففي سبتمبر 1957، أثيرت تساؤلات في البرلمان بشأن مدى صحة استثمارات كبيرة قامت بها الشركة الهندية للتأمين على الحياة المملوكة للدولة في شركة خاصة بكانبور، مملوكة لرجل الصناعة هاريداس موندرا. وعندما قدم وزير المالية - تي تي كريشناماتشاري - ردا ملتبسا، بدأ أعضاء حزب المؤتمر المعارضون في البرلمان يطرحون تساؤلات أكثر حدة. وكان من الشخصيات البارزة في ذلك النقاش فيروز غاندي، صهر رئيس الوزراء المنفصل عن ابنته إنديرا؛ فقد ادعى أن الهدف من شراء تلك الأسهم في شركة موندرا كان هو رفع سعرها عن قيمتها السوقية الحقيقية بدرجة كبيرة. وأبدى تعجبه من «قبول الشركة الهندية للتأمين على الحياة أن تكون طرفا في تلك الصفقة المشبوهة مع الرجل الغامض لعالم الأعمال السفلي بالهند». واختتم فيروز غاندي حديثه مشيرا إلى أنه ثمة «مؤامرة لسلب أموال تلك الشركة».
50
رضخت الحكومة للانتقادات، وأعلنت تشكيل لجنة لتقصي تلك المسألة. وانتهى الأمر إلى إجراء تحقيقين منفصلين متعاقبين، كل منهما بقيادة قاض بارز. ولم تأت النتائج التي توصلا إليها مرضية لحكومة حزب المؤتمر؛ فقد كان لدى الشركة الهندية للتأمين على الحياة سياسة معلنة بصدد «الأسهم الممتازة»، تلزمها بعدم استثمار أموال إلا في المؤسسات التي تتمتع بسمعة رفيعة وإدارة حكيمة، وهما شرطان لم يتوافرا في شركات موندرا. إلا أن الشركة الهندية للتأمين على الحياة رأت أنه من الصواب توجيه أكبر استثماراتها إلى أسهم تلك الشركات. ولم يستطع المسئولون الذين استجوبهم القاضيان تقديم تبريرات مرضية لقرارهم، ولا استطاع وزيرهم.
عقدت فعاليات اللجنتين في دلهي وبومباي، وكانت مفتوحة للعامة؛ فاجتذبتا اهتماما كبيرا ، معظمه ناقد؛ فقد توافد الناس لجلسات التحقيق، لمشاهدة تخبط الوزير ومرءوسيه أثناء الاستجواب، أو مناقضة أحدهم للآخر. وقد جاء تقريرا القاضيين الختاميان بالإدانة، وفرض جزاء؛ فقد أجبر كل من الوزير وسكرتيره على تقديم استقالته.
51
عن التحقيق القضائي في استثمار الشركة الهندية للتأمين على الحياة، كتبت صحيفة «هندوستان تايمز» أنه «أحدث هزة اقتصادية شاملة ، لم نتعرض لمثلها منذ الاستقلال». فما «بدا زوبعة في فنجان عند طرح المسألة للنقاش في البرلمان أول الأمر، أصبح عاصفة عاتية».
52
وما عرف في البداية باسم «مسألة موندرا» سرعان ما أعيدت تسميته إلى «فضيحة موندرا». وحتى تفجر تلك الفضيحة، كان الاعتقاد الشائع عن وزراء حكومة نهرو هو أنهم محبون للسلطة، ولكنهم لا غبار عليهم من الناحية المالية؛ فقد كانت هالة التقشف التي أحاطت بغاندي ما زالت محيطة بهم. وكانت مسألة موندرا هي التي أحدثت أول هزة لتلك الصورة. وكانت هزة تضاهي في عمقها - وضررها - الهزات التي أحدثتها الأحزاب السياسية اليسارية واليمينية.
الفصل الخامس عشر
تجربة الهزيمة
انقسام الهند ليس نذير سوء للشعب الهندي فحسب، وإنما لآسيا قاطبة وللسلام العالمي.
أونج سان البورمي، يونيو 1947
1
في اليوم الأخير من شهر مارس لعام 1959، عبر الدلاي لاما خط مكماهون إلى أراضي جمهورية الهند؛ فلسنوات كان الحاكم العظيم للتبت يجلس قلقا على عرشه في قصر بوتالا بلاسا، بينما راح الصينيون يزيدون إحكام قبضتهم على بلده. زعم أحد المصادر المعاصرة له أنه كان ثمة 500 ألف جندي صيني في التبت. وجاء في أعقابهم عشرة أضعاف ذلك العدد على الأرجح من مستوطني الهان.
1
من المؤكد أن تلك الأعداد مبالغ فيها. إلا أن الصينيين كان عددهم أكبر مما يود أهل التبت. وفي عام 1958، بدأ شعب الكامبا في شرق التبت انتفاضة مسلحة ضد المحتلين. إلا أنه بعد إحراز بعض النجاحات في البداية، أخمدت الصين الثورة. وهددت الأعمال الانتقامية التالية بالمساس بالدلاي لاما نفسه؛ فعندما قبلت نيودلهي منحه حق اللجوء السياسي، فر من لاسا تحت جنح الظلام، بصحبة مجموعة صغيرة من المرافقين المختارين بعناية.
قضى الدلاي لاما ليلته الأولى على الأراضي الهندية في دير بوذي بتاوانج. ثم نزل إلى السهول، إلى بلدة تزبور في آسام، حيث استجوبه مسئولون هنود. وبعد ثلاثة أسابيع نقل إلى نيودلهي لمقابلة رئيس الوزراء.
بدأت المحادثة بإخبار الدلاي لاما نهرو عن تمرد كامبا. كانت المعركة شرسة، والخسائر فادحة على الجانبين. وفي جميع أنحاء التبت، سادت مشاعر سخط عميقة إزاء دعاية الشيوعيين المضادة للدين. وعندما دعا الصينيون الدلاي لاما إلى بكين لحضور «مناسبة ثقافية»، حذره مستشاروه من أن يكون ذلك مخططا يستهدف أسره واحتجازه. وعندما رفض الحضور، لجأ الصينيون إلى التهديد؛ لذا قرر الرحيل إلى الهند.
وقال الدلاي لاما لنهرو إن أي إصلاحات تجرى في التبت ينبغي أن تتم على أيدي أهلها بما يتماشى مع دينهم وتقاليدهم؛ فالطريقة الصينية ستجعل منهم «شعبا بلا روح». كان يأمل هو نفسه في نيل التبت استقلالها، بمساعدة الهند. كذلك فقد كان معلمه القديم هاينريش هارر (مؤلف الكتاب الكلاسيكي «سبعة أعوام في التبت») يحثه على التماس الدعم من الغرب.
رد عليه نهرو قائلا إن الهند لا يمكنها الدخول في حرب مع الصين من أجل حرية التبت. بل إن «العالم أجمع لا يمكنه جلب الحرية للتبت ما لم يتمزق نسيج الدولة الصينية بالكامل». وقال نهرو للدلاي لاما إنه إن لجأ إلى الغرب، فسوف «يبدو سلعة». فالأمريكيون أو الأوروبيون لا يكنون تعاطفا حقيقيا مع شعبه أو قضيته؛ وإنما «كل ما يريدونه هو استغلال التبت في حربهم الباردة مع الاتحاد السوفييتي».
وكان شعور نهرو هو أن اتخاذ موقف «إما الاستقلال أو لا شيء» لن يوصل شعب التبت لشيء، وإنما يجب عليهم أن يبقوا الباب مفتوحا أمام التفاوض على تسوية مع الصين. ويمكن للهند أن تساعد في ذلك، ولكن ليس قبل أن تصلح علاقاتها هي نفسها مع بكين. فعلى حد تعبير نهرو، «في الوقت الحالي علاقتنا بالصين سيئة، وعلينا أن نعيدها إلى سابق عهدها، وهو ما لن يتحقق بإصدار التهديدات للصين أو التنديد بها».
2
2
وقت فرار الدلاي لاما، كانت العلاقات بين الهند والصين سيئة جدا بالفعل؛ ففي صيف عام 1957، زار الراهب البوذي اللاداخي وعضو البرلمان كوشاك بكولا التبت ولاحظ دلالات كثيرة على بناء طريق تجاه شينجيانج. ثم إنه في يوليو 1958، طبعت مجلة رسمية - «تشاينا بيكتوريال»، التي تنشر في بكين - خريطة ظهرت عليها أجزاء كبيرة من منطقة الحدود الشمالية الشرقية ولاداخ على أنها أراض صينية. ويوم 21 أغسطس، استدعي مستشار في السفارة الصينية إلى وزارة الخارجية، حيث سلمه أحد سكرتارية الخارجية الهندية المساعدين مذكرة احتجاج على الخريطة. ثم تصاعدت حدة المراسلات، وازداد التوتر في العلاقات.
3
وفي يوم 18 أكتوبر، كتب سكرتير الخارجية الهندية إلى السفير الصيني معربا عن احتجاجه على مرور جزء من الطريق السريع بين شينجيانج والتبت «عبر الجزء الشرقي من منطقة لاداخ في ولاية جامو وكشمير، التي تمثل جزءا من الهند».
4
وبحلول نهاية عام 1958، كان رئيسا وزراء البلدين - جواهر لال نهرو وتشو إن لاي - يتبادلان الرسائل، في حوار استمر لبضع سنوات تالية، اتسم في البداية بالألم والحيرة وفي النهاية بالغضب والاستياء.
لا تزال الرسائل المتبادلة بين نهرو وتشو ذات أهمية رئيسية في فهم النزاع الحدودي. ربما صيغت على يد مسئولين آخرين، لكن المؤكد أن الشخصين الذين وقعا عليها راجعاها بعناية من حيث اللهجة والمحتوى. كان هذان الرجلان سياسيين لديهما اهتمام عميق بالتاريخ. وكل منهما مشرب - ويمكن أن نقول إنه كان مدفوعا - برسالة، ورغبة في نقل بلاده التي طال استعبادها إلى المرتبة العليا في العالم الحديث.
في إطار الترتيب الهرمي للحركة القومية الصينية المعاصرة، احتل تشو إن لاي المرتبة الثانية بعد ماو. وقد كان يرضخ في معظم الأمور - مثله في ذلك مثل نحو ثمانمائة مليون آخرين - لإرادة الربان الأكبر، بل لأهوائه. لكن فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، ترك لتشو حرية التصرف؛ فمن بين كبار القادة الصينيين، كان هو الوحيد الذي عاش ودرس في الغرب. ونظرا لبلوغه مرحلة النضج - الفكري - في باريس، فقد كان يتحدث الفرنسية بطلاقة، وكذلك بعض الإنجليزية. وكان يفتعل توجها عالميا في سلوكه؛ فحينما سئل عن أثر الثورة الفرنسية، رد قائلا: «لا يزال الوقت مبكرا للحكم.»
كما كتب ستيوارت شرام، فإنه عند عقد مؤتمر باندونج عام 1955، كان تشو قد خلف انطباعا بأنه «دبلوماسي مهذب وبارع»، وقف «جنبا إلى جنب مع نهرو بصفته أحد الممثلين الرئيسيين للعالم غير الأوروبي، وقد فرقتهما الأيديولوجية، لكن وحدتهما حقيقة أنهما آسويان».
5
في عام 1955 ربما كانت الأيديولوجية السياسية وحدها هي التي فرقت بين تشو ونهرو. ولكن عام 1958، فرقت بينهما أيضا المصلحة الوطنية. في ديسمبر 1958، كتب رئيس الوزراء الهندي أول رسالة ضمن سلسلة طويلة من الرسائل إلى تشو. بدأ نهرو رسالته بالإعراب عن إعجابه بالتقدم الاقتصادي الذي أحرزته الصين، قبل أن يحول دفة الحديث - بحذر ولطف - إلى مسألة الحدود؛ فقال مذكرا إنهما حين التقيا عام 1956، كان تشو يرى أن خط مكماهون تركة الإمبريالية البريطانية، ولكنه أشار إلى أنه «نظرا للعلاقات الودية» بين الصين والهند، فإن الحكومة الصينية سوف تعترف به، بعد التشاور مع السلطات المحلية في التبت؛ فحينذاك أكد تشو انطباع نهرو بأنه «ليس ثمة خلاف حدودي ذو شأن بين الصين والهند». ثم ظهرت تلك الخريطة في مجلة «تشاينا بيكتوريال»، والتي رسمت حدودها «فوق الأراضي الهندية مباشرة».
بعد مرور شهر رد تشو، قائلا إنه «تاريخيا لم تبرم معاهدة أو اتفاق بشأن الحدود الصينية الهندية قط». وخط مكماهون كان «نتاج عدوان السياسة البريطانية على منطقة التبت الصينية» و«لا يمكن اعتباره قانونيا». فكان تشو يرى أن الهنود يحتجون على طريق شق في منطقة «كثيرا ما كانت تحت الولاية الصينية». «كل ذلك يثبت أنه [خلافا لادعاء نهرو] ثمة خلافات حدودية قائمة بالفعل بين الصين والهند.» كان ذلك هو السياق الذي ينبغي النظر فيه إلى الخريطة المنشورة في مجلة «تشاينا بيكتوريال». وقد اقترح تشو أن يحافظ الطرفان على الوضع الراهن مؤقتا، لحين التوصل إلى «تسوية ودية» لمسألة الحدود.
كتب نهرو رده يوم 22 مارس 1959، فقال إنه قد «فوجئ بعض الشيء» لمعرفة أن بكين لم تقبل الحدود المرسمة بين الهند و«منطقة التبت الصينية»؛ إذ إن تلك الحدود تعكس عدة اتفاقات محددة، منها: اتفاقات عقدت بين كشمير ولاسا عام 1842، وخط مكماهون في الشرق، الذي اتفق عليه عام 1913-1914. هذا بالإضافة إلى أنه ثمة تضاريس طبيعية واضحة - مستجمعات أمطار وقمم جبال - تعرف الحدود بين البلدين. وقال نهرو إنه ربما كان ثمة فجوات في بعض المناطق، ولكن بالنسبة إلى «الجزء الأكبر من حدودنا مع الصين، ثمة مرجعية كافية للحدود المبينة في خرائطنا المنشورة ، استنادا إلى الجغرافيا والتقاليد وكذلك المعاهدات». واختتم نهرو الرسالة معربا عن أمله في «الوصول إلى تفاهم في هذا الصدد عما قريب».
قبل أن يتسنى لتشو الرد، فر الدلاي لاما إلى الهند، وهو ما عقد الأمور بدرجة هائلة؛ إذ كان الصينيون بالغي الاستياء من الترحيب الذي ناله من قطاعات كبيرة من الشعب الهندي. ولاموا نيودلهي على ذلك. أفلم يؤد التقاء زعيم التبت بنهرو شخصيا إلى منحه مشروعية في غير محلها؟ كانت بكين ترى أن ثورة التبت ليست انتفاضة شعبية على الإطلاق، وإنما هي من عمل «عناصر رجعية فارة تنتمي إلى الطائفة العليا» استمدت العون من «الإمبرياليين الأمريكيين» و«عصبة شيانج كاي- شيك». وقد بلغ الأمر ببعض وسائل الإعلام الصينية حد ادعاء أن بلدة كاليمبونج الهندية هي «مركز قيادة الثورة»، وأن الحكومة في دلهي تتأثر «بالدعاية والمكائد الإمبريالية»، وأن علاقة الصداقة القائمة بين الصين والهند «تهدم من الجانب الهندي».
6
كان ثمة بعض الدعاية من جانب لاجئي التبت في كاليمبونج، ولكن الصينيين بالغوا كثيرا في تقدير أهميتها. وفي الواقع صدرت احتجاجات أعلى صوتا بكثير عن مصادر هندية، لا سيما السياسي الذي تحول إلى الخدمة الاجتماعية: جايا براكاش نارايان (جيه بي). كان جيه بي نصيرا متحمسا لقضية استقلال التبت، وهي القضية التي حظيت بدعم عناصر أخرى أقل حيادية على ساحة السياسة الهندية؛ مثل حزب جانا سانج، الذي كان يرغب في دخول نيودلهي في تحالف صريح مع الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الباردة والاستعانة بها في «تحرير» التبت.
7
إلا أنه، مثلما أكد سكرتير الخارجية الهندية للسفير الصيني بعد شهر من فرار الدلاي لاما إلى المنفى، فإن «الهند لا رغبة لديها - في الماضي أو الحاضر - في التدخل في مجريات الشئون الداخلية في التبت»، وأن الدلاي لاما «سوف يعامل باحترام في الهند، ولكن لا يتوقع منه مباشرة أي أنشطة سياسية من هذا البلد». كان ذلك هو الموقف الحكومي، الذي عارضه بعض الهنود بطبيعة الحال؛ فكما أشار سكرتير الخارجية الهندية: «يكفل القانون والدستور الحرية الكاملة في التعبير عن الرأي في البرلمان والصحافة وغيرهما من الميادين في الهند. وكثيرا ما يعرب عن الآراء في إطار شديد الانتقاد لسياسات الحكومة الهندية.»
لم يكن ذلك الفارق سهل الفهم على بكين، لأنه في الصين - في المجال العام على الأقل - لم يكن من الممكن انتقاد سياسات الحكومة. وقد انعكس الفرق بين هذين النظامين السياسيين - فلنسمهما الشمولية والديمقراطية - بنحو واضح على محادثة دارت بشأن حادثة وقعت في بومباي يوم 20 أبريل؛ فوفقا لرواية الجانب الصيني - التي عبرت عنها بكين لنيودلهي في رسالة بتاريخ 27 أبريل - رفعت مجموعة من المتظاهرين شعارات وألقت خطبا:
وصمت إخماد الصين للتمرد الذي وقع في نطاق أرضها - منطقة التبت - بأنه عمل إمبريالي وتقولوا عليها بشتى الافتراءات. والأخطر من ذلك أنهم ألصقوا صورة لماو تسي تونج، رئيس جمهورية الصين الشعبية، على جدار القنصلية العامة الصينية واقترفوا إهانة جسيمة بقذف الصورة بالطماطم والبيض الفاسد. وبينما كان أولئك الهمج يسيئون إلى الصورة، وقفت الشرطة الهندية متفرجة دون تدخل، وأبعدت الجمهور المحيط بهم حتى تتيح للمراسلين التقاط الصور.
من وجهة نظر بكين، مثلت واقعة بومباي «إهانة بالغة لرئيس دولة جمهورية الصين الشعبية والزعيم المحترم والمحبوب للشعب الصيني». فكانت تلك إهانة «لا يمكن لجماهير الشعب الصيني البالغ تعدادها ستمائة وخمسين مليون نسمة تحملها بالمرة». وجاء في الشكوى أنه «إن لم يتم التوصل إلى تسوية معقولة» بخصوص تلك المسألة، وإذا «لم يكن رد الحكومة الهندية مرضيا»، فإن «الجانب الصيني لن يهدأ أبدا دون التوصل إلى تسوية مرضية للمسألة، أي إنه لن يهدأ أبدا ولو بعد مائة عام».
وردا على الشكوى، أعربت الحكومة الهندية «عن عميق أسفها على التعامل بأسلوب يفتقر إلى اللطف مع صورة الرئيس ماو تسي تونج، الرئيس المحترم لدولة تربطها بالهند أواصر الصداقة». ولكن الهند نفت تقديم رجال الشرطة الذين كانوا في الخدمة ذلك اليوم أي مساعدة للمتظاهرين، بل على العكس، هم «وقفوا أمام الصورة لإنقاذها من التعرض لمزيد من التدنيس». واستأنفت الحكومة الهندية ردها واصفة سلوك المتظاهرين بأنه «مؤسف» ولكن:
الحكومة الصينية تدرك بلا شك أنه وفقا لقانون الهند لا يجوز حظر المسيرات ما دامت سلمية ... حتى إنها تنظم في أحيان غير قليلة بالقرب من مقر البرلمان ويستخدم المتظاهرون شتى الشعارات المناوئة لشخصيات رفيعة المستوى في الهند. وقد حدث في الماضي أن أخذ بعض الأشخاص غير المسئولين صورا للمهاتما غاندي ورئيس الوزراء وتعاملوا معها بأسلوب مهين؛ فالقانون والدستور في الهند يقران مساحة كبيرة من الحرية للناس ما لم ينخرطوا في عنف فعلي.
3
في الأسبوع الأول من سبتمبر لعام 1959، أصدرت حكومة الهند «ورقة بيضاء» تحتوي على مراسلات خمسة أعوام مع نظيرتها الصينية. تضمنت تلك الرسائل نزاعات تافهة، ناتجة عن توغل دوريات مسلحة في أراض يدعي الطرف الآخر أحقيته فيها، ومسائل أكبر بشأن وضع الحدود في الغرب وفي الشرق، وخلافات بشأن دلالة التمرد في التبت.
كان أعضاء البرلمان المعارضون - بقيادة أتل بهاري فجبايي الزعيم الشاب فائر الحماس لحزب جانا سانج - يطالبون منذ فترة بأن تعرض الحكومة مراسلاتها مع الصين على البرلمان. وقد عجلت سلسلة من الأحداث الحدودية في أغسطس إصدار الورقة البيضاء؛ فقد حدثت صدامات بين الدوريات الصينية والدوريات الهندية في مواضع عدة من منطقة الحدود الشمالية الشرقية، وتعرضت إحدى النقاط الحدودية الهندية في لونج جو لهجوم عنيف من الصينيين، الذين تغلبوا عليها في النهاية.
ولسوء حظ الحكومة، فقد تزامن ظهور الورقة البيضاء مع وقوع خلاف مرير بين وزير الدفاع ورئيس أركان جيشه. كان الوزير هو صديق نهرو القديم في كيه كريشنا مينون، الذي شغل ذلك المنصب عام 1957 تعويضا له على إبعاده عن المهام الدبلوماسية. وقد رحب الجيش بتعيينه في البداية؛ فسابقوه في ذلك المنصب كانوا يفتقرون إلى الجاذبية والبراعة، أما هو فكان أبعد ما يكون عن ذلك، هذا إلى جانب أنه كان مقربا إلى رئيس الوزراء. ولكن مينون ما إن بدا عليه الاستقرار في وظيفته الجديدة، حتى دخل في خلاف مع رئيس أركان جيشه، الجنرال كيه إس تيمايا (تيمي)، وهو رجل لا يقل عنه بأسا.
كان تيمايا ابن صاحب مزارع قهوة في كورج، طوله ستة أقدام وثلاث بوصات وتمتع بشخصية مبهرة وسجل عسكري أكثر إبهارا. عندما كان ضابطا شابا في الله أباد، التقى رجلا مسنا في دار عرض سينمائي، سأله: «بم تشعر وأنت هندي ترتدي زي الجيش البريطاني؟» فأجابه تيمي بكلمة واحدة: «بالحر.» كان الرجل المسن هو موتيلال نهرو، والد جواهر لال وهو نفسه أحد رجال الحركة القومية المشاهير. وفيما بعد، عندما أصبحا صديقين، سأله تيمايا إن كان حريا به أن يستقيل من منصبه في الجيش وينضم إلى الحركة القومية؛ فنصحه موتيلال بالبقاء فيه، قائلا إنه بعد نيل الحرية سوف تكون الهند بحاجة إلى ضباط مثله.
8
حارب تيمايا ببسالة في الحرب العالمية الثانية قبل أن يخدم بشرف في العام الأول المليء بالاضطرابات بعد نيل الهند حريتها. وأثناء عملية التقسيم، أشرف على حركة اللاجئين في البنجاب، ثم أرسل إلى كشمير، حيث طهرت قواته الوادي من الغزاة. وفيما بعد، قاد فريق هدنة تابع للأمم المتحدة في كوريا، حيث أشرف على تدبير أمر 22 ألف أسير حرب شيوعي. وقد حظيت قيادته بالثناء من طرفي الطيف الأيديولوجي، الصينيين وكذلك الأمريكيين.
كان تيمي حتى ذلك الوقت أقرب شيء لفكرة البطل العسكري الأصيل لدى الهنود الرافضين للعنف والحرب.
9
إلا أنه لم يكن على وفاق مع وزير الدفاع الذي يرأسه؛ فقد كان تيمايا يرى أن قواته ينبغي أن تكون أكثر تأهبا لاشتباك محتمل مع الصين. ولكن كريشنا مينون أصر على أن التهديد الحقيقي آت من باكستان، ومن ثم فقد نشر الجزء الأكبر من القوات الهندية على الحدود مع باكستان. كذلك كان تيمايا قلقا من قدم الأسلحة التي يحملها جنوده آنذاك، وكانت تتضمن بنادق إنفيلد عيار 303 بوصة، التي كانت تستخدم في الحرب العالمية الأولى؛ فعندما اقترح الجنرال على الوزير أن تصنع الهند البندقية الآلية البلجيكية إف إن 4 بترخيص من الشركة الأصلية، «قال كريشنا مينون في غضب إنه لن يسمح بأسلحة حلف شمال الأطلنطي في البلاد.»
10
في الأسبوع الأخير من أغسطس 1959 وقع خلاف بين تيمايا ومينون بسبب قرار مينون تعيين ضابط يدعى بي إم كاول في رتبة فريق، متخطيا بذلك أكثر من اثني عشر ضابطا يفوقونه في الأقدمية. كان لدى كاول ميول دعائية؛ فقد كان يحب التمثيل في المسرحيات، على سبيل المثال. وكان قد أشرف على إنشاء مجمع سكني جديد، لقي إعجاب وزير الدفاع باعتباره مثالا للكيفية التي يمكن بها للعسكريين أن يسهموا في المصلحة العامة. وإضافة إلى ذلك فقد كان كاول معروفا لدى جواهر لال نهرو، وهي حقيقة كان يروق للجنرال إذاعتها.
11
لم يكن كاول معدوم الفضائل؛ فقد وصفه زميل مقرب بأنه «مفعم بالحيوية؛ فهو سريع البديهة وقوي ومغامر». إلا أنه «يمكنه أيضا أن يكون غير موضوعي ومتقلبا وانفعاليا».
12
كان تيمايا قلقا من قلة خبرة كاول القتالية، إذ إنه أمضى جزءا كبيرا من حياته المهنية في سلاح الخدمة العسكرية، وهي خلفية لا تؤهله فعليا لشغل منصب مهم في الجيش. وقد استفزت ترقية كاول - عندما أضيفت إلى الإساءات الأخرى من جانب الوزير - الجنرال تيمايا إلى تقديم استقالته؛ ففي 31 أغسطس 1959، كتب إلى رئيس الوزراء قائلا إنه «يستحيل علي وعلى رئيسي الأركان الآخرين الاضطلاع بمسئولياتنا تحت إمرة وزير الدفاع الحالي». وقال إن الظروف لا تسمح له بالاستمرار في منصبه.
13
تسرب خبر استقالة رئيس أركان الجيش إلى الساحة العامة؛ فنوقشت المسألة في البرلمان، وفي الصحافة أيضا. كان الشيوعيون هم الطرف غير الموالي لتيمايا؛ مثل إي إم إس نامبوديريباد، الذي قال إن تيمايا ينبغي أن يمثل أمام محاكمة عسكرية، وكذلك الشيوعيون المتخفون مثل صحيفة بومباي الأسبوعية «بليتز»، التي زعمت أن تيمايا أصبح أداة «اللوبي الأمريكي» دون أن يدري. أما من انحازوا إليه في مواجهة وزير الدفاع فكان منهم منافسة «بليتز» العظيمة (والموالية للولايات المتحدة بلا شك) - صحيفة «كارنت» الأسبوعية - إلى جانب قطاعات كبيرة من الصحف غير الأيديولوجية. وصحيفة «هندوستان تايمز» الموالية للحكومة قالت إن «كريشنا مينون يجب أن يرحل» عوضا عن تيمايا. واتهمت الصحيفة ذلك الوزير بإيصال القوات المسلحة إلى «حالة قريبة من تحطيم الروح المعنوية» بمحاولة تكوين خلايا من الضباط الموالين له شخصيا، في أعلى المستويات.
14
كان البعض يأملون في أن تضطر نوبة الاحتجاجات العنيفة على استقالة تيمايا كريشنا مينون أيضا إلى تقديم استقالته. وإذ كتب أحد المحامين البارزين إلى الجنرال، وصف الوزير بصاحب «العبقرية الشريرة في السياسة الهندية»، وأضاف: «إذا أجبر تصرفك مينون على التقاعد، فسوف تتنفس الهند الصعداء، وتكسب أنت امتنان الأمة الخالص.» ثم استدعى نهرو تيمايا إلى مكتبه، وأقنعه بسحب استقالته بعد جلستين طويلتين. وأكد لرئيس الأركان أنه سوف يتم التشاور معه في جميع القرارات المهمة المتعلقة بالترقيات. وكتب زميل قديم لتيمي - لواء متقاعد آنذاك في بلدة دهرادون الجبلية - إلى صديقه قائلا له إنه كان ينبغي أن يتمسك بموقفه، لأن «الحل الذي تم التوصل إليه غير مجد؛ إذ لم يجر طرد أحد أو استبعاده. وشهر العسل لا يمكن أن يدوم طويلا، كما سوف تكتشف عما قريب».
15
زاد إصدار الورقة البيضاء الخاصة بالمراسلات مع الصين - الذي تزامن مع سلسلة الأحداث المرتبطة باستقالة الجنرال - حدة المشاعر العدائية تجاه وزير الدفاع؛ فحتى نواب البرلمان لم يكونوا على دراية بمدى السيطرة الصينية على الأراضي الهندية. وارتؤي في إقامة نقاط حراسة صينية وشق طريق سيارات عبر أراض تنتمي - على الخرائط على الأقل - إلى «الهند»، تهاون غير معقول من جانب الجهات المسئولة عن حراسة الحدود. وبطبيعة الحال انتهز السياسيون المعارضون فرصة «حرب الخرائط [التي شنتها الصين] على الهند». وعلى حد تعبير أحد نواب البرلمان الاشتراكيين، فربما كانت نيودلهي لا تزال مؤمنة بشعار: «الهنود والصينيون إخوة»، ولكن بكين تتبع مقولة لينين: «الوعود، مثل قشرة الفطيرة، صنعت لتكسر.»
16
ربما كان ينبغي تحميل رئيس الوزراء المسئولية، ولكن في ذلك الحين وجهت أصابع الاتهام إلى وزيره المدلل، كريشنا مينون. وقالت إحدى الصحف إنه لو كانت البلاد «غير مستعدة بالمرة للتصدي للعدوان الصيني»، فالخطأ خطأ الشخص «الممسك بدفة وزارة الدفاع الهندية»؛ أي وزير الدفاع. وحتى أعضاء حزب المؤتمر أصبحوا يطالبون برأس مينون. وقد نصح وزير الداخلية جوفند بالاب بانت - أحد الجنود المخضرمين في معركة الحرية ورفيق نهرو القديم - رئيس الوزراء بتغيير حقيبة مينون الوزارية؛ بمعنى أن يبقيه في مجلس الوزراء، مع تكليفه بوزارة أخرى غير الدفاع.
17
وكتب الصحفي المحترم بي شيفا راو - ونائب البرلمان في ذلك الوقت - إلى نهرو معربا عن «انزعاج بالغ لإصرارك على الإبقاء على كريشنا مينون في مجلس الوزراء. إننا نواجه خطرا محدقا من جانب قوة شيوعية. وكما تعلم، ثمة مخاوف واسعة الانتشار من مشاعره الموالية للشيوعيين». وأردف شيفا راو قائلا: «إنه لم يكن يسيرا علي أن أكتب هذه الرسالة، وأنا أعلم أن ذلك سيكون قرارا شديد الصعوبة عليك.» إلا أن «تلك ظروف طارئة لا يمكن لأحد التنبؤ بنهايتها».
18
إلا أن نهرو تمسك بموقفه، وبكريشنا مينون. وفي الوقت نفسه، استمرت المراسلات «الدبلوماسية» مع الصين؛ ففي 8 سبتمبر 1959، رد تشو إن لاي أخيرا على رسالة نهرو التي أرسلها بتاريخ 22 مارس، والتي كانت قد عرضت موقف الهند؛ فأبدى تشو دهشته من أن تطلب الهند من الصين «منح الاعتراف الرسمي للوضع الناجم عن إعمال سياسة العدوان البريطانية ضد منطقة التبت الصينية». وقال: «إن الحكومة الصينية لا تعترف مطلقا بخط مكماهون المزعوم»، وتصر على أن «الحدود بين الصين والهند بأكملها غير مرسمة»، ودعا إلى عقد تسوية جديدة «منصفة ومقبولة للطرفين». واختتم الرسالة بإشارة إلى التوتر المتصاعد نتيجة التمرد الحادث في التبت، الذي شرعت القوات الهندية بعده في «حماية قطاع طرق مسلحين من التبت» وبدأت «تتوغل باطراد في أنحاء القطاع الشرقي من الحدود الصينية الهندية».
رد نهرو في الحال تقريبا، قائلا إن الهنود «مستاءون للغاية من ذلك الزعم» القائل بأن «حكومة الهند المستقلة تسعى إلى الاستفادة» من الإمبريالية البريطانية. وأشار إلى أنه فيما بين عام 1914 وعام 1947 لم تبد أي حكومة صينية اعتراضا على خط مكماهون. وأعرب عن رفضه اتهام الهند بحماية مسلحين من التبت، كما أعرب عن شعوره «بصدمة كبيرة» من لهجة تشو، مذكرا إياه بأن الهند كانت من أوائل البلدان التي اعترفت بجمهورية الصين الشعبية وما فتئت تسعى لصداقتها.
19
في ذلك الوقت، كان الحوار بين الهند والصين يشمل تبادل الرصاصات إلى جانب الرسائل؛ ففي أغسطس 1959، وقع اشتباك بالأسلحة في لونج جو، بمحاذاة خط مكماهون في القطاع الشرقي. وفي أواخر أكتوبر 1959 هجمت كتيبة صينية على دورية حراسة هندية في منطقة ممر كونج كا في لاداخ؛ فقتلت تسعة جنود هنود، وأسرت مثلهم. أكد الجانب الصيني أن جنود الهند دخلوا أرضهم عمدا، ورد الجانب الهندي بأن كل ما فعلوه كان تسيير دورية حراسة على جانبهم من الحدود لا أكثر.
قادت تلك الاشتباكات نيودلهي إلى مراجعة سياستها الحدودية؛ فمن الجدير بالملاحظة أنه حتى تلك اللحظة لم تكن الحدود مع الصين مسئولية الجيش وإنما كانت مسئولية مكتب الاستخبارات؛ فكانت النقاط القائمة تخدم فيها كتائب شبه عسكرية: قوة «بنادق آسام» في الشرق وقوات الشرطة الاحتياطية المركزية في الغرب. أما قوات الجيش النظامية فكانت محتشدة على طول الحدود مع باكستان، التي كانت تعتبر الخطر الرئيسي وربما الوحيد الذي يتهدد الهند. ولكن بعد حادثتي لونج جو وممر كونج كا، سحبت الفرقة الرابعة من البنجاب وأرسلت إلى منطقة الحدود الشمالية الشرقية. مثل ذلك تغييرا لا يستهان به؛ فالفرقة الرابعة المدربة على حروب الدبابات في الأراضي المنبسطة أصبح عليها العمل في تضاريس مختلفة تماما.
كانت حكومة الهند تهدف من استخدام «سياسة التقدم إلى الأمام» الجديدة هذه إلى التوسع في تلك الأرض غير المأهولة، بإقامة سلسلة من نقاط الحراسة الصغيرة على طول الحدود أو على مقربة منها. نالت تلك العملية حظا وافرا من الاهتمام في دلهي، حيث بسطت الخرائط في مكاتب وزارة الدفاع وثبتت عليها دبابيس زرقاء صغيرة لتمييز مواقع تلك النقاط. لكن تلك الخرائط لم تبين المحاولات المقابلة من جهة الصين لملء الفراغات؛ إذ راحت تعمل من جانبها فيما أصبحت آنذاك حدودا متنازعا عليها بشدة.
20
4
بحلول عام 1959 على الأقل، اتضحت استحالة التوفيق بين موقفي الهند والصين؛ فقد أصر الهنود على أن الحدود - في معظمها - أقرتها وأكدتها المعاهدات والأعراف، فيما قال الصينيون إنها لم ترسم قط. استندت ادعاءات الحكومتين إلى تركة الإمبريالية؛ الإمبريالية البريطانية (بالنسبة إلى الهند) والإمبريالية الصينية (على التبت) بالنسبة إلى الصين. ومن هذا المنطلق، ادعت كل منهما السيادة على أراض مكتسبة بسبل غير مشروعة تماما.
بالنظر إلى الماضي، يكتشف أن الهند استخفت باستياء الصين من «الإمبريالية الغربية». ففي النصف الأول من القرن العشرين، عندما كانت الصين ضعيفة، ذاقت شتى ضروب الإذلال على يد القوى الأوروبية. وكان خط مكماهون أحد صور ذلك الإذلال. وبعد أن أصبحت الصين قوية، في ظل حكم الشيوعية، عقدت العزم على رفع مظالم الماضي. وعندما زار المحامي الهندي دانييل لطيفي بكين في نوفمبر 1959 قال له زملاؤه الصينيون إن «خط مكماهون ليس له سند قانوني». وبدا أن الرأي العام في الصين «بلغ حدا كبيرا من الانفعال» بشأن مسألة الحدود. وإذ نقل لطيفي المحادثات التي أجراها إلى جواهر لال نهرو، قرنها بملحوظة كاشفة: «كما تعلم - أكثر من اللازم على الأرجح - فإنه من الصعب «في أي بلد» تقديم تنازلات عندما يقال لعامة الشعب إن الأرض المتنازع عليها تشكل جزءا من تراب الوطن.»
21
ويسهل علينا أن نرى أيضا إذا نظرنا إلى الماضي أنه بعد فشل ثورة التبت، كان ينبغي لحكومة الهند أن تتخذ أحد الإجراءين التاليين أو كليهما: تعزيز دفاعاتها على طول الحدود الصينية، مع استيراد أسلحة من الغرب إذا لزم الأمر، والعمل بجدية على التوصل إلى تسوية جديدة للحدود مع الصين. إلا أن التزام نهرو بعدم الانحياز حال دون اتخاذ الإجراء الأول، بينما حالت قوة الرأي العام دون الثاني؛ ففي أكتوبر 1959، شكت صحيفة «تايمز أوف إنديا» من أن رئيس الوزراء أبدى «اهتماما مبالغا فيه بمشاعر الصينيين ولامبالاة نسبية إزاء الغضب والامتعاض اللذين اتسم بهما رد فعل الشعب الهندي».
22
وأشارت صحيفة أخرى إلى أن نهرو «يقف وحيدا في مواجهة مد متصاعد من مشاعر السخط الوطنية على الصين».
23
وكما أشار ستيفن هوفمن، فإن سياسة إصدار الأوراق البيضاء قلصت الخيارات المتاحة أمام نهرو؛ فلو كان النزاع الحدودي بقي في طي الكتمان، لكان رئيس الوزراء استطاع اللجوء إلى أكثر القنوات الخلفية هدوءا، المتمثلة في التسوية الدبلوماسية. ولكن عندما انكشفت المسألة للعلن، وأثارت الكثير من التعليقات الغاضبة، لم يكن أمامه سوى «انتهاج السياسات التي يمكن تصور أن تلقى قبولا لدى البرلمان والصحافة الغاضبين». فقد قضت سياسة الأوراق البيضاء على روح الأخذ والعطاء، وأججت في المقابل المشاعر الوطنية. وحادثة ممر كونج كا على وجه التحديد أسفرت عن صدور دعوات انتقام محنقة من قبل الطبقة السياسية بالهند.
24
بعد وقوع الاشتباكات الحدودية في سبتمبر وأكتوبر من عام 1959، كتب تشو إن لاي مقترحا انسحاب الطرفين 20 كيلومترا خلف خط مكماهون في الشرق، وخلف خط السيطرة الفعلية في الغرب. رد نهرو بتجاهل الاقتراح باعتباره مجرد وسيلة لإضفاء المشروعية على التعديات الصينية في القطاع الغربي، وللحفاظ «على سلامة ممتلكاتكم المكتسبة بالقوة». وأصر على أن «سبب المتاعب الأخيرة هو الإجراءات المتخذة من جانبكم على الحدود». وحينذاك أشار تشو إلى أن الصين رغم إيمانها بعدم قانونية خط مكماهون، تمسكت بسياسة «عدم السماح مطلقا لقواتها المسلحة بعبور هذا الخط مع انتظار تسوية ودية لمسألة الحدود». ومن ثم:
فالحكومة الصينية حتى هذه اللحظة لم تقدم أي طلب فيما يتعلق بالمنطقة الواقعة جنوب خط مكماهون المزعوم على سبيل الشرط المسبق أو التدبير المؤقت، وما أجده عسيرا على الاستيعاب هو سبب مطالبة حكومة الهند بالانسحاب أحادي الطرف للجانب الصيني من منطقة حدوده الغربية.
كان ذلك اقتراحا مثيرا للاهتمام، يمكن ترجمته - عند تجريده من الشفرة الدبلوماسية - إلى الآتي: فلتحتفظوا بأراضيكم (التي يحتمل أن تكونوا قد حصلتم عليها عن طريق الاحتيال) في الشرق، فيما نحتفظ نحن بأراضينا (التي يحتمل أن نكون قد حصلنا عليها عن طريق الاحتيال) في الغرب.
25
لخص عالم الثقافة الصينية أوين لاتيمور المعضلة الهندية بدقة في مجلة «إكونوميك ويكلي» في يناير 1960؛ فكتب أنه نظرا لكونه جليا أن الحدود مع الصين تركة الإمبريالية البريطانية، فإن «التنازل عن جزء كبير من الأرض المتنازع عليها ... ما كان ليمثل مسألة كرامة وطنية للهند لولا أسلوب الصينيين في محاولة رسم الحدود بالقوة، دون تفاوض؛ فما يمكن للسيد نهرو التنازل عنه عن طريق المفاوضات الرشيدة بين طرفين متساويين لا يمكنه أن يتنازل عنه أبدا بالاستسلام الذليل».
26
في العدد نفسه من تلك الدورية، حث كاتب آخر يسمي نفسه «البراجماتي» على تنفيذ برنامج قوي من الاستعداد الدفاعي. وكتب في حدة أن القيادة في بكين «ربما كان ظنها بالقوات المسلحة الهندية ليس أفضل من ظن ستالين بالقوات المسلحة للفاتيكان». فقد كانت قوة الجيش الصيني تعادل قوة نظيره الهندي خمس مرات، وكان مجهزا بأحدث الأسلحة السوفييتية؛ فصار لزاما على الفكر الاستراتيجي الهندي - الذي انشغل لفترة طويلة جدا بباكستان - أن ينظر بجدية في شأن التهديد الصيني، لأن الصداقة بين البلدين «انتهت قطعا». وتحتم أن تكون «الأولوية الأولى في تخطيطنا الدفاعي إبقاء الجيش الصيني على الجانب الشمالي من الحدود». وينبغي أن تدرب الهند وحدات على القتال في المناطق الجبلية، وتزودهم بمعدات محمولة. ويجب توفير دعم احتياطي في صورة قوة مكونة من طائرات هليكوبتر وطائرات قاذفة مقاتلة. وقال «البراجماتي»: «إن الشيء الأهم هو بناء قوة، في غضون عامين إلى أربعة أعوام، صلبة بما يكفي للتصدي بنجاح لأي حرب خاطفة تشن على حدود الهيمالايا.»
27
إلا أن المعارضة السياسية لم تكن على استعداد للانتظار لحين حدوث ذلك؛ ففي الأسبوع الأخير من يناير لعام 1960، تردد صوت رئيس حزب جانا سانج مدويا في قوله: «مصالح الأمة الذاتية وشرفها يتطلبان اتخاذ إجراء سريع وفعال لتحرير الأرض الهندية من العدوان الصيني.» والحكومة الحالية «أبقت الشعب والبرلمان في جهل تام بشأن حقيقة العدوان ذاتها»، والآن «لا تزال تقف موقف المتفرج، عاجزة، بينما يتقدم العدو موطدا أقدامه تدريجيا في المناطق المحتلة».
28
إلا أن الشك في الصينيين لم يكن مقصورا على الأحزاب اليمينية فحسب بأي حال؛ ففي فبراير 1960 علق رئيس الجمهورية راجندرا براساد على «السخط والغضب» السائدين فيما بين الطلاب في مسقط رأسه بيهار. وقال إن هؤلاء الشباب أرادوا أن تزيل الهند «العدوان الصيني» عن «كل شبر من أرضنا». وهم «لن يحتملوا أي خطوة خاطئة أو ضعيفة تتخذها الحكومة».
29
مع زيادة تصلب موقف الطرفين، دعت نيودلهي تشو إن لاي لاجتماع بشأن مسألة الحدود. كان من المقرر عقد الاجتماع في أواخر شهر أبريل، وفي الأسابيع السابقة عليه جرت محاولات عديدة لإفشاله؛ ففي يوم 9 مارس ناشد الدلاي لاما العالم قائلا: «لا تنسوا معركة التبت، ذلك البلد الصغير المستقل الذي اغتصبته قوة متعصبة توسعية.» وبعد ثلاثة أيام حث أحد الأعضاء القدامى في حزب جانا سانج رئيس الوزراء على «عدم المساومة بمشاعر مئات الملايين من أبناء بلده» و«اتخاذ كافة الخطوات اللازمة لصد أي تعديات أخرى من جانب الصينيين». أما ما جاء مفاجئا بدرجة أكبر فكان البيان الصادر عن مجموعة دراسة الهيمالايا التابعة للجناح البرلماني لحزب المؤتمر، والذي حث رئيس الوزراء على اتخاذ «موقف صارم بشأن مسألة الحدود».
30
في الأسبوع الأول من أبريل، أرسل قادة المعارضة غير الشيوعية مذكرة إلى رئيس الوزراء مذكرين إياه «بالمشاعر الشعبية» إزاء الصين، وطالبين منه تأكيدا على أنه في إطار محادثاته مع تشو إن لاي «لن يحدث شيء قد يؤول على أنه تنازل عن أي رقعة من أرض الهند».
31
فإذ وجد رئيس الوزراء نفسه محاصرا من كافة الجهات، التمس الدعم من جانب فينوبا بهافي الحكيم، أحد تلاميذ غاندي، الذي كان يطوف ريف البنجاب سيرا على الأقدام آنذاك. انفرد نهرو ببهافي ساعة في معسكره بالقرية، وعلى الرغم من أن أيا منهما لم يبح بفحوى تلك المحادثة، فقد اتضح إلى حد بعيد في خطب ألقاها فينوبا فيما بعد؛ ففي يوم 5 أبريل، خطب بهافي في مجلس في كوروكشترا، التي شهدت في أزمنة الأساطير حربا ملحمية بين أبناء العم الباندافا والكاورافا؛ فقد أدى صلاة على ساحة المعركة تلك من أجل نجاح المحادثات بين نهرو وتشو. وقال: «التشكك كان من شيم العصر السياسي البائد. أما العصر الجديد فقائم على أساس الثقة وحسن النوايا.» وكان بهافي يأمل أن تخلو المحادثات مع الزائر الصيني من الغضب والمرارة والريبة.
إلا أن رسالته لم تلق قبولا ولا انتشارا؛ فقبل التاريخ المقرر لمجيء تشو إن لاي بخمسة أيام، نظم حزب جانا سانج مظاهرة كبيرة أمام مقر إقامة رئيس الوزراء، ورفع المتظاهرون لافتات تذكر نهرو بألا ينسى شهداء اللاداخ وألا يتنازل عن الأراضي الهندية. وفي اليوم التالي، عقدت المعارضة غير الشيوعية مؤتمرا شعبيا حاشدا في دلهي، محذرة رئيس الوزراء من أنه إذا عقد صفقة مع الصينيين، «فسيكون حلفاؤه الوحيدون هم الشيوعيون والشيوعيون المستترون». في ظل تلك الأجواء، رأى المحرر المحترم فرانك مورايس أن المحادثات محكوم عليها بالفشل. وكتب أن الصدع بين البلدين «لا يمكن رأبه»، وأضاف: «إذا أصر السيد تشو على الاحتفاظ بنقاط المراقبة القديمة كلها، فكل ما سيتسنى للسيد نهرو أن يقوله له بلطف هو أن يرجع إلى بكين ويعيد التفكير.»
إلا أن نهرو أصر على أن رئيس الوزراء الصيني «سوف ينال ترحيبا كريما يليق بالتقاليد الرفيعة لهذا البلد». كان تشو في زيارة لبورما آنذاك، فذهب فيكونت هندي لكي يقابله ويستقل طائرة معه إلى دلهي. عندما جاء عام 1956، كان قد نال استقبالا شعبيا مؤثرا، ولكن هذه المرة - رغم آمال نهرو - وصل تشو «وسط استعدادات أمنية غير مسبوقة»، وركب سيارة مغلقة في طريقه من المطار. أعدت منظمة هندو ماهاسابها مظاهرة احتجاجية «بالأعلام السوداء» ضد تشو، وكذلك عارضت زيارته الأحزاب الأكثر تعبيرا عن الاتجاه السياسي السائد. وقد عبرت دعابتان كانتا سائدتين آنذاك عن المزاج في دلهي؛ كانت الأولى مفادها أن مقولة: «الهنود والصينيون إخوة» صارت بالأحرى: «الهنود والصينيون أعداء»، وفي الدعابة الأخرى سئل عن سبب عدم وجود كريشنا مينون ضمن الوفد الهندي في المحادثات، وكانت الإجابة: «لأنه حاضر ضمن وفد السيد تشو.»
32
قضى تشو إن لاي أسبوعا في نيودلهي، كان يلتقي نهرو فيه يوميا، في حضور المساعدين وغيابهم. وبدا في صورة نشرت في صحيفة «إنديان إكسبريس» بعد انتهاء اليوم الثاني من المحادثات أن المحادثات لم تكن تسير على ما يرام؛ فقد ظهر تشو في الصورة وهو يشرب نخب الصداقة الهندية الصينية، قارعا كأسه بكأس إنديرا غاندي. بدت السيدة غاندي أنيقة في الساري الهندي، ولكنها كانت تنظر إلى والدها في تساؤل. وعلى الجانب الآخر من المائدة وقف نهرو، خالعا قبعته، منهمكا في احتساء الخمر من كأس في وجوم، متحاشيا النظر إلى تشو إن لاي. الهندي الوحيد الذي بدا عليه الاهتمام كان نائب الرئيس، إس رادها كريشنان، الذي ظهر في الصورة مادا كأسه ليقرعه بكأس تشو.
قضى تشو إن لاي ونهرو نحو عشرين ساعة في المحادثات. لا يزال نص محادثتهما سرا رسميا، إلا أن مؤلف هذا الكتاب استعان بنسخ منها احتفظ بها مسئول يقظ (أو خارق للقانون). تبرز تلك النسخ بجلاء مبلغ الألم والعداوة اللذين تخللا الحوار. بدأ نهرو بالتذكير بكل ما فعلته الهند من أجل الصين، مثل تقديم زعمائها إلى المؤتمر الآسيوي الأفريقي في باندونج، والدفع بقضيتها أمام الأمم المتحدة. وفي ضوء تلك اللفتات الطيبة، مثل «التعدي» الصيني على الحدود الهندية «صدمة هائلة». فرد تشو بشكوى من جانبه أيضا؛ إذ قال إنه في ضوء الصداقة التي بين الهند والصين - في الماضي والحاضر - فقد «تجاوزت أنشطة الدلاي لاما وأتباعه حدود اللجوء السياسي بكثير».
راح نهرو وتشو يتبادلان الاتهامات طوال يومين؛ فعندما كان نهرو يصر على أن الهيمالايا كثيرا ما اعتبرت الحدود الطبيعية وكذلك الثقافية للهند، كان تشو يصف خط مكماهون بالتركة الخبيثة للإمبريالية. وقد أبدى رئيسا الوزراء كلاهما إلماما ممتازا بالتفاصيل، إذ دافع كل منهما عن قضيته بدقة مثيرة للإعجاب؛ حيث ذكر كل منهما قرى وأودية وتلالا وأنهارا ونقاطا أمنية ومعاهدات بعينها، لعرض دعاوى بلده أو تعضيدها. وفي النهاية، اقترح تشو أن يحاولا «التوصل إلى حل» بدلا من «تكرار الحجج». وتمثلت التسوية المناسبة - من وجهة نظره - في «امتناع الطرفين عن المطالبة بأراض لم تعد واقعة تحت إشرافهما الإداري». وبعد بضع ساعات تحدث بصراحة أكبر، فقال:
في القطاع الشرقي، نحن نقر بأن ما تعتبره الهند حدودها قد بلغته الإدارة الفعلية للهند. ولكننا نرى بالمثل أن الهند ينبغي أن تقبل أن الجهاز الإداري الصيني قد بلغ الخط الذي يعتبره حدوده في القطاع الغربي.
مرة أخرى - بعد فك الشفرة بالشكل المناسب - نجد أنه قصد الآتي: حجتكم أقوى في الغرب ولكن حاجاتنا فيه أكبر. وفي حين أن حجتنا أقوى في الشرق، فربما كان جزء أكبر من مصالحكم على المحك هناك. أي إن تشو كان يطلب من الهند الاحتفاظ بتاوانج ومحيطها، لأن كل ما تريده الصين هو أكساي تشين والطريق الممتد بين شينجيانج والتبت.
كان تشو يدعو إلى الحفاظ على الوضع الراهن والاعتراف به، إلا أنه - مثلما أشار نهرو في رده - فإن لفظ «الوضع الراهن» موضع خلاف في حد ذاته؛ فقد سأل: «السؤال هو: ما الوضع الراهن؟» وأردف قائلا: «الوضع القائم اليوم مختلف عن الوضع القائم منذ عام أو عامين. والحفاظ على الوضع القائم اليوم من شأنه أن يكون غير منصف بالمرة إذا كان مختلفا عن الوضع القائم في وقت سابق.» فالحل الذي اقترحه تشو من شأنه أن يبرر المكاسب التي حققتها الصين - من وجهة نظر نهرو والهند - خلسة وبسبل غير شرعية.
33
التقى تشو إن لاي أيضا بوزير الداخلية جي بي بانت ونائب رئيس الجمهورية الدكتور إس رادها كريشنان، اللذين شكا كل منهما - في لهجة طغى الأسف فيها على الغضب - عدم تقدير الصين لكل ما فعلته الهند لإكساب حكومة الصين الشيوعية المشروعية في أعين العالم. وواجه تشو تحديا أقوى حجة من جانب وزير المالية النابغ قوي الآراء، مورارجي ديساي؛ فعندما سأل الزعيم الصيني كيف يسمح الهنود باستغلال منشقي التبت أرضهم، رد ديساي قائلا: «في بلدنا يعقد الجميع مؤتمرات؛ الجزائريون يعقدون مؤتمرات وكذلك الهنود أحيانا ضد حكومتهم.» ثم أضاف بذكاء (ربما شابه لؤم): «رئيس الوزراء الصيني على دراية بأن لينين طلب اللجوء إلى المملكة المتحدة ولكن أحدا لم يقيد نشاطه السياسي. ونحن في الهند لا نشجع أحدا على التآمر على الصين، ولكننا لا نستطيع منع الناس من التعبير عن آرائهم؛ فحرية التعبير هي أساس ديمقراطيتنا.»
34
فيما نقل نهرو إلى البرلمان الهندي بشأن محادثاته مع تشو إن لاي، قال في سخرية جافة: «الجملة الأكثر أهمية في البيان [المشترك] هي أنه رغم كافة المحاولات لم يتم التوصل إلى حل.» كذلك قدم فرانك مورايس مرثاة ملائمة لزيارة تشو قائلا: «يبدو أن المحادثات الصينية الهندية قد وصلت لطريق مسدود منذ زمن بعيد.» وكان ذلك ما حدث؛ فقد تبع الاجتماع الفاشل محادثات بين مسئولين على درجة أدنى، في بكين في شهري يونيو ويوليو من عام 1960، ثم في نيودلهي في أغسطس وأكتوبر، وأخيرا في العاصمة البورمية رانجون في نوفمبر وديسمبر. وقدم كل جانب كما هائلا من المذكرات والخرائط والوثائق والرسائل لدعم حجته. وقد أشار تعليق معاصر على ذلك الجبل من الأدلة إلى أنه «من الواضح إلى حد بعيد أنه من حيث الاتساق - وطول مدة المطالبة - كفة حكومة الهند هي الراجحة». فلم تتوافر أي خرائط صينية تظهر أكساي تشين باعتبارها جزءا من الصين قبل عشرينيات القرن العشرين، وقد تبين من خريطة لإقليم شينجيانج من ثلاثينيات القرن العشرين أن جبال كونلون كانت هي الحدود المتعارف عليها - كما زعمت الهند طوال الوقت - وليس جبال كاراكورام؛ ففي القطاع الغربي على الأقل (الذي حدثت فيه التعديات الصينية) بدا أن حجة الهند أقوى؛ فقد «توخت الحكومة الهندية الدقة والحرص في عرض قضيتها»، في حين أن عرض الصينيين للقضية تميز بتضمنه «متاهة من أوجه عدم الاتساق الداخلية، والمقولات المنزوعة من السياق، بل الأكاذيب الصريحة التي يسهل فضحها».
35
ولكن حتى لو كانت حجة نيودلهي أقوى بصفة عامة، فقد ظل الموقفان الهندي والصيني غير متوافقين؛ فأي أدلة واردة عن مصادر غربية - حتى المسافرين معدومي الانتماءات والقساوسة اليسوعيين الرحالة - كان يغض الطرف عنها باعتبارها ملوثة بصبغة «الإمبريالية»؛ فكان الصينيون يقدمون أدلة مضادة وصولا إلى حد معين، ولكنهم في النهاية كانوا يتراجعون قائلين إن الحدود لم ترسم بين البلدين بصفتهما دولتين ذاتي سيادة، وأن الهند لا يجوز لها المطالبة بتركة الهند البريطانية (غير المشروعة)، وأن جمهورية الصين الشعبية لا تدعم أي معاهدات تفاوض عليها أي طرف كان يزعم تمثيل التبت أو الصين قبل عام ثورة عام 1949.
36
الجدير بالذكر أن الصين كانت ترغب في الحفاظ على مكاسبها في القطاع الغربي، حيث كان سندها التاريخي ضعيفا. وفي المقابل، كانت مستعدة للتخلي عن حقها الأقوى بكثير في الشرق. وكان من الواضح أن ذلك يعزى إلى حاجتها لوجود إمكانية وصول سريع إلى التبت. وفي أكتوبر 1960، بعد فشل قمة تشو إن لاي مع نهرو وعجز اجتماعات المسئولين عن التوصل إلى شيء، أعرب تشو إن لاي عن حنقه في ذلك الشأن للصحفي الأمريكي إدجار سنو؛ فقد زعم تشو أن النزاع الحدودي لم «يبرز إلى السطح» إلا بعد «هروب الدلاي لاما وبدء الإصلاحات الديمقراطية في التبت». واتهم الهند بأنها تريد أن «تحول منطقة التبت الصينية إلى «منطقة عازلة»». وشكا من أنها «لا تريد للتبت أن تصير اشتراكية، مثلما حدث في مناطق أخرى من الصين». ثم توصل إلى استنتاج بعيد الاحتمال، مفاده أن «الجانب الهندي ... يستخدم مسألة الحدود الصينية الهندية أداة ضد القوى التقدمية في الداخل وكرأس مال يتيح لها الحصول على «معونة أجنبية» من الخارج».
37
5
كانت خريطة الهند الإقليمية تواجه تحديا خارجيا من جانب الصينيين، وكذلك تحديا داخليا من جانب جماعات لغوية عدة أرادت إعادة رسم الخريطة؛ إذ لم ترضها التوصيات الصادرة عن لجنة إعادة توزيع الولايات عام 1956؛ فقد واصل المهاراشتريون الضغط على الحكومة لكي تمنحهم مدينة بومباي. عرض رئيس وزراء ولاية بومباي الشاب المفعم بالحيوية، واي بي تشافان، قضية المهاراشتريين ببراعة؛ إذ قال إن حزب المؤتمر يمكنه أن يعوض بهذه الطريقة خسائر انتخابات عام 1957، حين فاز تنظيم ساميوكتا مهاراشترا ساميتي ببعض مقاعد حزب المؤتمر. وفي النهاية، دخلت ولايتا جوجارات ومهاراشترا حيز الوجود يوم 1 مايو من عام 1960، ومنحت بومباي لولاية مهاراشترا.
أسفر إنشاء ولاية مهاراشترا عن تهدئة السخط في غرب الهند، مع إعطاء دفعة للتوقعات غير المتحققة في الشمال؛ فمتحدثو البنجابية كانوا هم الجماعة اللغوية الرئيسية الوحيدة التي ظلت دون ولاية خاصة بها؛ فطلبهم لم يلب، استنادا إلى أن اللغة في تلك الحالة كانت مرتبطة ارتباطا خطيرا بالدين، وأن ما قدم باعتباره «مقاطعة بنجابية» كان في الواقع «مقاطعة سيخية»، وذريعة لما قد يصبح فيما بعد دولة سيخية منفصلة. ولكن خلال عامي 1960 و1961، أثار المعلم تارا سينج الذي لا يعرف الكلل سلسلة من القلاقل للمطالبة بإقامة ولاية بنجابية اللغة. ورافقه في مسعاه رجل دين سيخي آخر - سانت فاتح سينج (أو «الحكيم ») - كان نائبا للمعلم تارا سينج قبل أن يصير فيما بعد خصما له؛ فبقيادة هذين الرجلين بدأ متطوعو حزب أكالي دال يثيرون القلاقل بين الجماعات. وفي الوقت نفسه كان تارا سينج والحكيم يصومان عن الطعام دوريا، معلنين في كل مرة أنهما سينقطعان عن الطعام «حتى الموت»، ولكن صيامهما كان يكسر في كل مرة قبل بلوغ تلك التضحية العظيمة.
38
تصدى نهرو بصلابة لحزب أكالي دال، وفاقه صلابة رئيس وزراء مقاطعة البنجاب المنتمي لحزب المؤتمر، براتاب سينج كايرون؛ فقد اتخذ كايرون إجراءات صارمة ضد القلاقل التي أثارها حزب أكالي دال، وأودع آلاف المتظاهرين السجن. كان قد تلقى تعليمه في الولايات المتحدة الأمريكية وتميز بالحيوية والطموح، وهما سمتان كانتا غائبتين لدى رؤساء وزارات الولايات والمقاطعات الأخرى آنذاك. وظن نهرو أنهما تعبران أيضا عن جاذبية شعبية؛ فكما كتب لأحد أصدقائه: «تكمن قوة السردار براتاب كايرون في البنجاب في أنه يمثل أهل الريف، ويتمتع بثقة جانب كبير منهم؛ فعادة ما يكون منتقدوه من أهل المدن، سواء من السيخ أو الهندوس. وأثناء نوبة صوم المعلم تارا سينج عن الطعام الأخيرة، كان عدم تأثر المناطق الريفية مذهلا؛ فقد كان سكانها منشغلين بانتخابات مجالس القرى وغيرها من الأنشطة.»
39
كان كايرون ملك البنجاب غير المتوج طوال الأعوام الثمانية التي قضاها في منصبه؛ فقد كان يتمتع بالحيوية والرؤية، وقد أنشأ جامعة زراعية، وكان رائد ثورة الآبار الأنبوبية، وأقنع الفلاحين بتوسيع نطاق نشاطهم إلى المجالات المربحة مثل تربية الدواجن. وأخرج المرأة البنجابية من عزلتها، وأقنعها بالدراسة والعمل، بل المشاركة في الرياضات التنافسية، نظرا لاهتمامها بالرياضة. وكان يسهل عليه التعامل مع عامة الشعب؛ فكان يمكن لأي أحد أن يدخل مكتبه في أي وقت. ومن ناحية أخرى، كان صارما حاسما في تطبيق العدالة. ومن ثم فقد أصدر أوامر لرجال الشرطة بفرض غرامات على الفلاحين المتظاهرين عوضا عن اعتقالهم، لكونهم لا يتورعون عن التضحية بأنفسهم في موسم الركود، ولكنهم «لا يمكنهم تحمل خسارة إيراداتهم». ولكن رجل الحضر الذي يخرق القانون لا بد من سجنه «لأنه لا يطيق الابتعاد عن مباهج الحياة الأسرية».
40
والحقيقة أنه كان ثمة مباهج لم يستطع كايرون نفسه مفارقتها بسهولة؛ فقد عاث ولداه في الأرض فسادا خلال فترة توليه رئاسة وزارة الولاية؛ فبنى كل منهما إمبراطورية تجارية عملاقة بمساعدة أجهزة الولاية، مستهينين بقوانين الملكية ومواد تقسيم الأراضي؛ فقد اتهم كايرون «بإساءة استغلال جسيمة لمنصبه من أجل دعم المصالح التجارية لابنيه اللذين جنيا عشرات الملايين من الروبيات في الأعوام الأخيرة». وتلقى موظفو الخدمة المدنية تعليمات بغض الطرف عن تلك المخالفات؛ فطرحت تساؤلات حادة في البرلمان. وحث عدة أعضاء من حزب المؤتمر - من بينهم إنديرا غاندي - رئيس الوزراء على إقالة كايرون. ولكن نهرو ساند رجله، مبديا إعجابه بحيوية كايرون وموقفه الصامد أمام المطالبات بإقامة مقاطعة بنجابية، إلا أنه وافق على تأسيس لجنة، بقيادة أحد قضاة المحكمة العليا، للتحقيق في الادعاءات الموجهة لكايرون.
41
وكما كتب إيه جي نوراني: «كان ثمة أوجه تشابه كثيرة جدا بين السردار براتاب سينج كايرون [في البنجاب] وباكشي غلام محمد [في كشمير]»؛ فكلاهما «كان صريحا في كلامه، مباشرا في أسلوبه، قليل الصبر أمام التعطيل البيروقراطي، مستهينا بآداب الحياة العامة. وكان كل منهما يمثل رجل المهام القذرة»، و«كلاهما حظي بدعم رئيس الوزراء نهرو».
42
كان ثمة دعاية سلبية ضد رئيس الوزراء في إحدى الولايات الحدودية - البنجاب - نجمت عن قلاقل أكالي دال والمخالفات التي ارتكبتها إدارة الولاية. وكان ثمة دعاية أكثر سلبية في منطقة حدودية أخرى - تلال ناجا - نجمت عن الظهور الدرامي لزعيم المتمردين، إيه إن فيزو، في لندن؛ ففي وقت ما من عام 1956 كان فيزو قد عبر الحدود إلى بورما ثم إلى باكستان الشرقية، ومنها واصل توجيه حركة المقاومة في منطقة ناجا. وبعد ثلاثة أعوام من القيادة عن بعد، قرر أن قضيته بحاجة إلى دعم العالم الغربي؛ فسافر بواسطة جواز سفر سلفادوري مزور، وبلغ سويسرا، حيث اتصل بالأب مايكل سكوت، القس الأنجليكاني الراديكالي الذي سبق له العمل مع الحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وبمساعدة الأب سكوت، استطاع فيزو الوصول إلى المملكة المتحدة.
43
وفي لندن، عقد فيزو سلسلة من المؤتمرات الصحفية، اتهم فيها الجيش الهندي - بينما كان مايكل سكوت واقفا إلى جواره - بالإبادة الجماعية لأهل ناجا. وبمساعدة سكوت أيضا، طبع نشرة تحدث فيها عن «حريتنا القديمة قدم الدهر التي كانت ولا زالت تتعرض لتدمير منهجي على يد الجيش الهندي ... فقد حاول إخضاع أمتنا ومحوها من وجه البسيطة». ووصفت حملة الجيش بأنها «خطة للإبادة العرقية في أسوأ صور طبقها الفاشيون الأوروبيون». وزعم فيزو أن القوات الهندية كانت «تطلق الرصاص على القساوسة المسيحيين وزعماء الكنيسة، وتحرق الرجال والنساء أحياء، وتحرق الكنائس». ودعت النشرة إلى وقف «المذبحة»، وطالبت باعتراف حكومة الهند «بدولة ناجالاند المستقلة ذات السيادة». وقال فيزو إن ناجالاند المستقلة سوف «تود البقاء في كنف الأمم المسيحية والكومنولث ... فدولة ناجالاند بالغة الصغر يسرها أن تكون من أتباع المسيح يسوع، الذي صرنا نؤمن بأنه مخلصنا».
44
كان فيزو يخاطب حب بريطانيا للمستضعفين، وذكريات الحرب الأخيرة ضد الفاشية (حيث وضعت قبائل ناجا محل اليهود، والحكومة الهندية محل النازيين)، والمشاعر المسيحية لدى جمهوره في وقت واحد. كان خطابه يفتقر إلى الكياسة شيئا ما، ولكنه لقي نجاحا غير متوقع؛ فقد تبنى قضيته ديفيد أستور، مالك صحيفة «ذي أوبزرفر» الليبرالي، الذي كان له دور رائد في المعركة ضد النازيين؛ فأفردت تلك الصحيفة مساحة واسعة لاتهامات فيزو، وكذلك مطبوعات دورية أخرى عدة.
45
ونظرا لحساسية الحكومة الهندية الدائمة إزاء آراء الصحافة البريطانية، فقد ردت بمنشور دعائي خاص بها: جاء فيه أنه على الرغم من أن رئيس الوزراء طمأن قبائل ناجا إلى حصولها على «الحد الأقصى من الحكم الذاتي»، فما حدث تحت قيادة فيزو هو أن «حركة ناجا بدأت تتسم بالعنف». فلم ينف المنشور وقوع عنف ومعاناة المدنيين، ولكنه أرجعهما إلى المتمردين. وظل موقف الحكومة ثابتا على أنها «مستعدة لمنح قبائل ناجا أكبر حد ممكن من الحكم الذاتي في شئونها الداخلية بالإضافة إلى جميع مزايا المواطنة الهندية - مثل التمثيل في البرلمان - ولكنها لا يمكن أن تقبل بإقامة دولة مستقلة لها».
كان الكلام منطقيا، ولكن وقعه اختل إثر تذييل ألحق به صور فيزو وغدا مدفوعا بالإحباط والفشل لا أكثر؛ فقد قالت حكومة الهند: «تشكل توجه فيزو الذهني عبر سلسلة من الإحباطات والانتكاسات؛ فقد رسب في امتحان القبول بالجامعة. ولم تنجح محاولاته إثبات نفسه أولا في تجارة قطع غيار المركبات ثم في مجال التأمينات. وقد أصيب بنوبة شلل، شوهت وجهه وأورثته عقدة نفسية شديدة ... ومن المعروف عنه أنه يعاني شعورا قويا بالذنب لزجه برجاله في طريق العداوة والعنف، مما أسفر عن وفاة كثير منهم وتردي أوضاع آخرين كثر أيضا.»
46
وفي حقيقة الأمر، توسط بين حكومة الهند وزعيم مجلس ناجا الوطني عدد من أبناء ناجا «المعتدلين». هؤلاء اتحدوا معا في «مؤتمر شعوب ناجا»، الذي شرع منذ عام 1957 في السعي إلى التوصل إلى تسوية سلمية للمشكلة. احتلت قبائل الآو مركز الصدارة بين صانعي السلام هؤلاء، وكان معهم ممثلون عن قبائل أخرى أيضا. وفي يوم 30 يوليو 1960، قدم مؤتمر شعوب ناجا مذكرة إلى رئيس الوزراء للمطالبة بإنشاء ولاية ناجالاند منفصلة داخل الاتحاد الهندي، يكون لها حاكم خاص بها، ورئيس وزراء، ومجلس وزراء، ومجلس تشريعي. وإضافة إلى ذلك، لا يكون لبرلمان الاتحاد الهندي سلطة التدخل في دين منطقة ناجا أو ممارساتها الاجتماعية أو قانونها العرفي.
47
واجهت مطالب إقامة ولاية داخل الهند لشعوب ناجا مقاومة من جانب النخبة الآسامية، التي كانت كارهة لفكرة التنازل عن أي جزء من مقاطعتها. ولكن بعد نجاح أبناء ناجا في تدويل قضيتهم، ارتأى نهرو حصافة تقديم ذلك التنازل؛ ففي الأسبوع الأول من أغسطس 1960، أعلن في البرلمان اعتزامه اقتطاع ولاية ناجالاند من آسام. أثار قرار إنشاء الولاية الصغرى في الاتحاد سلسلة من ردود الأفعال كانت مثيرة للاهتمام ومتباينة، ولكنها كانت متوقعة تماما؛ فقد رأى حزب جانا سانج اليميني في إنشاء ناجالاند «تصرفا مشحونا بالاحتمالات المنبئة بالانفجار»، وإذعانا للإرهاب، «يعادل مكافأة العنف والتمرد»، وتشجيعا مستهترا «للنزعات الإقليمية وضيق الأفق» من شأنه أن يهدد «وحدة البلاد وسلامة أراضيها». وعقدت قبائل أخرى في آسام - الخاسيون والجارويون والجانتيون - العزم على الكفاح في سبيل إنشاء ولاية لهم أيضا، تحت اسم «الحدود الشرقية».
48
كذلك كان رد فعل رجال فيزو متوقعا؛ فقد رأى بعض مثقفي ناجا أن إنشاء ولاية لهم داخل حدود الهند لم «يكن كل ما يمكن أن يأملوا في الحصول عليه فحسب، وإنما هو أيضا كل ما يحتاجونه لحماية هويتهم الاجتماعية والسياسية». ولكن كيف يمكن إقناع القروي العادي بذلك؟ فحسبما أشارت إحدى الصحف: «يمكن للمتمردين المسلحين الخروج من الأدغال في أية ليلة قائلين إن الفئة المنادية بالولاية متواطئة مع العدو، وعقاب من يخالفهم الرأي بالرصاص أو الحراب.»
49
6
بعد مرور عقد من الزمان، حين بدت حكومة جواهر لال نهرو واثقة من سيطرتها، اعتراها فجأة اضطراب شديد؛ فقد واجهت معارضة في الجنوب - في كيرالا وتاميل نادو - وفي منطقة الحدود، في البنجاب وتلال ناجا. وفي الوقت نفسه حذر تقرير صادر عن مؤسسة فورد من «التهديد الصارخ» الذي تشكله «أزمة رهيبة» يمكن أن تحدث في القطاع الزراعي. وزعم ذلك التقرير أنه ما لم يتضاعف إنتاج الغذاء في العقد المقبل ثلاث مرات، فسيعم قحط ومجاعة كبيران أنحاء الهند.
50
والأكثر إثارة للقلق - من وجهة نظر نهرو على الأقل - كان عودة الصراع الطائفي إلى الساحة بعد عقد من السلام الاجتماعي النسبي؛ ففي يونيو 1960، تفجرت أعمال شغب عنيفة ضد البنغال في آسام. كان الضحايا لاجئين من مرحلة ما بعد التقسيم آتين من شرق البنغال، اتهموا بسلب الآساميين وظائفهم وبعدم تحدثهم بلغتهم؛ فدمرت آلاف المساكن وقتل بنغاليون كثر، بينما هرب آخرون عبر الحدود إلى معسكرات اللاجئين في غرب البنغال؛ فسافر وزير الداخلية لال بهادور شاستري إلى آسام لإرساء سلام غير يسير، دعم الآسامية باعتبارها اللغة الرسمية للولاية مع السماح باستخدام اللغة البنغالية في المنطقة التي يغلب عليها المهاجرون.
51
ثم اندلعت أعمال شغب دينية في يناير 1961 في مدينة جبل بور بوسط الهند؛ فقد انتحرت فتاة هندوسية، وعزي ذلك إلى اعتداء رجلين مسلمين عليها. وقدمت صحيفة محلية تابعة لحزب جانا سانج دعاية صارخة لذلك الزعم، مما أسفر عن اجتياح الطلاب الهندوس البلدة في حالة من الهياج؛ فهاجموا منازل المسلمين وأحرقوا المتاجر. وفي المقابل أحرقت مجموعة من المسلمين هندوسيا حيا. استمر الشغب أياما، وامتد نطاقه إلى الريف أيضا. كانت تلك أخطر حادثة من ذلك النوع منذ التقسيم، ووقعت المعاناة الكبرى فيها على فقراء المسلمين، من النساجين وصانعي لفائف التبغ بالأساس.
52
أثارت المتاعب الحدودية مع الصين، وتفاقم الصراع الاجتماعي داخل البلاد، مخاوف جديدة بشأن مستقبل الهند الديمقراطية؛ ففي عام 1960 نشر باحث أمريكي كتابا ثريا إلى حد مبهر حمل عنوانا بسيطا - «الهند» - مع عنوان فرعي غني بالدلالة: «العقود الأكثر خطورة». كذلك كانت عناوين الفصول والأجزاء كاشفة؛ فكان أحدها: «هل سيصمد الاتحاد؟» وكان آخر: «توازن شمولي». كان الكاتب منزعجا من الانقسامات الطبقية والإقليمية والدينية واللغوية، ومن صعود موجة الطائفية الهندية. وكان يشعر بوجود «ما يبدو أنه دوافع قهرية لا يمكن مقاومتها في طبيعة الاتحاد الهندي لإجراء تجارب شمولية من نوع أو آخر».
53
في العام التالي - 1961 - زار الكاتب ألدوس هكسلي الهند بعد فترة غياب دامت خمسة وثلاثين عاما؛ فهاله ما رأى: «توقعات الزيادة السكانية ونقص التشغيل والاضطرابات المتنامية.» وكتب إلى أحد أصدقائه قائلا: «الهند مثيرة للاكتئاب إلى أبعد حد؛ إذ لا يبدو أنه ثمة حل لمشكلاتها على أي نحو يمكن لأي منا في الغرب أن يعتبره مقبولا.» وكتب هكسلي إلى أخيه جوليان قائلا: «عندما يرحل نهرو، سوف تتحول الحكومة إلى دكتاتورية عسكرية، كما هو الحال في كثير من الدول حديثة الاستقلال؛ لأن الجيش على ما يبدو هو مركز القوة الوحيد الذي يتمتع بدرجة عالية من النظام.»
54
وقد ردد الصحفيون العاديون الحكم الصادر عن ذلك المثقف البريطاني؛ فقد رأى مراسل صحفي من الصحيفة اللندنية «ديلي ميل» زار الهند بعد هكسلي بفترة قصيرة أنه «حتى الآن مثل نهرو وحده القوة الموحدة الرابطة وراء حكومة الهند وسياستها الخارجية». ولكن بعد رحيل نهرو، فإن «القوى الطبقية والدينية لليمين واليسار ... يمكن أن تقسم البلاد من شمالها إلى جنوبها في نهاية المطاف، وتعيدها 100 سنة إلى الوراء».
55
7
خلال عامي 1960 و1961، إذ انغمس بعض الهنود في أعمال الشغب والبعض الآخر في التظاهر، واصلت حكومتهم مراسلاتها مع الصين. لم تعد تلك المراسلات خليقة برجال الدولة، ولا تجرى على أيديهم، وإنما تألفت من مذكرات يرسلها موظفون مجهولون يتهم كل منهم الآخر بتعديات من نوع أو آخر؛ فقد أحصت إحدى المذكرات الواردة من الصين خمسة عشر انتهاكا للمجال الجوي الصيني من جانب طائرات هندية، بينما عددت مذكرة هندية حوادث كثيرة لإساءة معاملة مواطنين هنود في التبت.
56
أدت المراسلات - المنشورة في أوراق بيضاء متعاقبة صادرة عن الحكومة الهندية - إلى تجدد الدعوات المطالبة بإقالة كريشنا مينون. تزعم فريق الهجوم جيه بي كريبالاني، النائب الاشتراكي في البرلمان من سيتامارهي ببيهار. كان كريبالاني، الباحث والمعلم وعامل غزل الخادي والمتمرد، بطلا أصيلا من أبطال الكفاح الهندي في سبيل الحرية. كانت سلطته الأخلاقية مستمدة - جزئيا - من تقربه إلى غاندي أثناء مساعدته في المسيرة السلمية بشمباران عام 1917، أي قبل سنوات من تعرف نهرو نفسه على غاندي. كذلك فقد سبق لكريبالاني رئاسة حزب المؤتمر، كما أنه قضى - بالطبع - سنوات طويلة في السجن دفاعا عن قضيته.
يوم 11 أبريل 1961، ألقى كريبالاني ما وصف آنذاك بأنه «ربما كان أعظم خطاب قدم على أرض ذلك المجلس منذ الاستقلال». كان ذلك الخطاب هجوما كاسحا على وزير الدفاع؛ فقد قال كريبالاني إنه تحت رعاية كريشنا مينون «خسرنا 12 ألف ميل مربع من أرضنا دون تسديد ضربة واحدة». وزعم أن ترقيات الجيش لا تستند إلى الجدارة وإنما تتم «وفقا لأهواء وزير الدفاع ونزواته أو ما يتواءم مع أغراضه السياسية والأيديولوجية»، فمينون «ألف عصبا وخفض الروح المعنوية لقواتنا». وفي إدانة جارحة، اتهم كريبالاني وزير الدفاع بأنه «يبدد أموال هذه الأمة الفقيرة الجائعة» إثر «إهماله دفاعات البلاد» و«دعمه نظما شمولية ودكتاتورية خلافا لرغبة الشعب في الحرية».
اختتم كريبالاني خطابه بمناشدة ضمير أعضاء الحزب الحاكم؛ فإذ استحضر كيف أرغم النواب المحافظون في البرلمان البريطاني - عام 1940 - رئيس وزرائهم على تقديم استقالته، ناشد «أعضاء حزب المؤتمر الذين لم يخشوا رصاص البريطانيين وحرابهم أن يعلوا مصلحة الأمة على مصلحة الحزب ». وبعدما سدد كريبالاني طلقته الأخيرة تلك، جلس وسط تصفيق حار من صفوف المعارضة.
57
خلال النصف الثاني من عام 1961، شهد البرلمان الهندي سلسلة من النقاشات المريرة بشأن النزاع مع الصين. وتعرض رئيس الوزراء نفسه للمضايقات والأذى من قبل مجموعة من المطاردين الذين تعقبوه بإصرار. كان ثلاثة منهم أشد ضراوة من غيرهم؛ هم: أتل بهاري فجبايي من حزب جانا سانج، وهم باروا من حزب براجا الاشتراكي، وإن جي رانجا من حزب سواتنترا؛ فقد اتهم نهرو بغض الطرف عن «احتلال» الصين لأراضي هندية ونأيه بنفسه عن الجدل في وقار؛ فقال أحد النواب: «فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية يميل رئيس الوزراء إلى التصرف كحكم مباراة كريكيت وليس طرفا تتأثر مصالحه بتلك النزاعات.» اتسمت الانتقادات بطابع شخصي وجدلي بصورة عدوانية، لأن نهرو كان يشغل منصب وزير الخارجية أيضا، وكان من المعروف أن سياسة الصداقة مع الصين كانت مشروعه الخاص. ولما كان رئيس الوزراء غير معتاد على تلك اللهجة العدائية، فقد أصبح سريع الغضب بصورة متزايدة، وبلغ في إحدى المرات حد الإشارة لمنتقديه بوصف «الطفولية والصبيانية».
58
بحلول ذلك الوقت، كانت بعض العناصر في حزبه ذاته قد أعربت عن استصوابها اتخاذ رئيس الوزراء موقفا أكثر تشددا إزاء الصين؛ فعندما انتقد أحد نواب المعارضة نهرو بشأن قوله إن أكساي تشين أرض جدباء، لا يكسوها عشب، أضاف أحد أعضاء المؤتمر تلك العبارة المكملة الدالة؛ إذ قال: «رأسي لا يكسوه شعر. هل معنى ذلك أن ذلك الرأس بلا قيمة؟» ورأى كثيرون أن تلك كانت سخرية من نهرو، الذي كان هو نفسه أصلع الرأس تماما.
59
8
في الأسبوع الثالث من ديسمبر 1961، أرسلت وحدة عسكرية من الجيش الهندي إلى حدود المستعمرة البرتغالية جوا؛ فطوال عقد من الزمان سعت نيودلهي - بالحوار والسبل السلمية - لإقناع البرتغال بالتخلي عن تلك الأرض. وعندما فشلت تلك التدابير، قررت حكومة نهرو «تحرير» جوا بالقوة.
صبيحة يوم 18 ديسمبر، دخلت القوات الهندية جوا من ثلاثة اتجاهات: سافنتفادي في الشمال وكاروار في الجنوب وبلجاوم في الشرق. في ذلك الوقت، أسقطت الطائرات منشورات تهيب بأهل جوا «التحلي برباطة الجأش والشجاعة» و«الاستمتاع بالحرية وتعزيزها». وبحلول مساء ذلك اليوم، كانت العاصمة بانجيم قد طوقت. تلقت القوات المساعدة من الأهالي، الذين أرشدوهم إلى المواضع التي زرع فيها البرتغاليون الألغام. وأطلق المستعمرون بضع طلقات قبل أن ينسحبوا. أما في مستوطنتي دامن وديو الأصغر حجما فكانت المقاومة أكثر صلابة إلى حد ما. في المجمل فقد نحو خمسة عشر جنديا هنديا حياته، وربما ضعف ذلك العدد من البرتغاليين. وبعد ست وثلاثين ساعة على بدء الغزو، وقع الحاكم العام البرتغالي وثيقة استسلام غير مشروطة.
60
وجدت الصحافة الغربية فرصة ذهبية للنقد باستعراض ذلك «النفاق الهندي»؛ فإذ استمعت طويلا إلى محاضرات نهرو وكريشنا مينون في الأخلاق، ردت آنذاك الصاع صاعين بمهاجمة استخدام القوة من دولة تزعم «نبذ العنف». وصورت ذلك الإجراء أيضا على أنه خرق للقانون الدولي، والأسخف من ذلك أنها صورته على أنه تهديد للمسيحيين والمسيحية في جوا.
61
في الواقع كان الهندوس يمثلون 61٪ من تعداد سكان جوا، كما أن مسيحيي جوا البارزين - مثل الصحفي فرانك مورايس ورئيس الأساقفة الكاردينال جراسياس - حظوا بمكانة مرموقة في الحياة العامة الهندية. كانت الحركة التحررية الأهلية قائمة في جوا منذ زمن، وكثير من سكانها - ربما معظمهم - رحبوا بالغزو الهندي. وعلى أي حال، فقد بات أهل جوا آنذاك أحرارا في اختيار زعمائهم بأنفسهم، وهو الخيار الذي كثيرا ما حرمهم إياه البرتغاليون.
لم يكن ثمة خلاف على أن جوا تنتمي إلى الهند قانونيا. وكذلك كان من الجلي أن الهند قد انتظرت بما فيه الكفاية قبل أن تشرع في الحركة. إلا أن توقيت ما سمي «عملية النصر» كان مثارا للتساؤلات؛ فلماذا جرت في ديسمبر 1961، وليس ديسمبر 1960 أو ديسمبر 1962؟ ربما ظن نهرو أنه قد انتظر جلاء البرتغاليين بما فيه الكفاية؛ أربعة عشر عاما. كما كان يتعرض لضغوط من اليسار وكذلك اليمين؛ فحزب جانا سانج والشيوعيون - في بادرة اتفاق نادرة الحدوث - كانا يحثانه على استخدام الجيش لتحرير مستعمرة جوا. رغم ذلك فقد استمر الشك في أن التوقيت الدقيق لذلك الغزو ارتبط بالاحتياجات الانتخابية لزميله كريشنا مينون؛ فقبل دخول القوات عاينها وزير الدفاع على الحدود. وكما جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» فقد جاء «يجري حملة مزدوجة»، واحدة للحرب الموشكة على البدء، والأخرى للانتخابات العامة التي كان قد تقرر عقدها في فبراير 1962.
62
في تلك الانتخابات، كان خصم كريشنا مينون هو عدوه اللدود في البرلمان، أتشاريا كريبالاني، الذي كان قد أعلن أنه سيبرح مقعد سيتامارهي الآمن وينافس وزير الدفاع على الدائرة الانتخابية التي يمثلها؛ أي شمال بومباي. وأعلنت أحزاب المعارضة كافة (عدا الشيوعيين) دعمها لكريبالاني؛ فكانت معركة هيبة في طور التحضير؛ إذ كان رئيس الوزراء قد رفض إقالة مينون من مجلس الوزراء، فصارت المعارضة تأمل في استبعاد الناخبين له.
بعد أقل من شهرين على دخول القوات جوا، كان مينون في بومباي يحارب من أجل مقعده في الانتخابات العامة لعام 1962. وتمثل فريق دفاعه في رئيس وزراء مهاراشترا القوي واي بي تشافان، والأعضاء الكبار في وزارة الاتحاد. حتى الأشخاص المعروفون بانتقاد مينون في الحكومة - مثل مورارجي ديساي وجاجيفان رام - تلقوا أوامر بالخروج والمشاركة في حملته الانتخابية. أما كريبالاني فوقف في صفه أعمدة من قبيل سي راجا جوبالاتشاري، إلى جانب الكثير من الرجال المميزين غير الحزبيين؛ من محامين ومثقفين ورجال صناعة.
مثلت تلك المنافسة ضمن ما مثلت شهادة على الطبيعة العالمية لمدينة بومباي؛ إذ تنافس فيها مرشح مالايالي وآخر سندي على مشاعر أهل ولاية لا ينتمي أي منهما إليها. وقد كانت تلك الدائرة الانتخابية فائقة التنوع؛ إذ اشتملت على كثير من متحدثي الماراثية والجوجاراتية، وكذلك على متحدثين كثر بالهندية من أوتر براديش وجوا والسند وتاميل. وقد حاول المتنافسون نيل ود تلك الشرائح المتباينة، واتسمت الحملة الانتخابية بضراوة تتناسب مع مكانة الطرفين المتنازعين فيها وأهمية نزاعهما.
على مدار تاريخ الانتخابات الهندية الثري الذي أصبح طويلا حاليا، ربما لم يسبق أن نالت منافسة واحدة هذا القدر من الاهتمام؛ فقد أطلقت عليها مجلة «لينك» - المتعاطفة مع مينون - وصف «الانتخابات الأهم في تاريخ ديمقراطيتنا». وقال الأخصائي الاجتماعي جايا براكاش نارايان، صديق كريبالاني، إن «مستقبل الديمقراطية الهندية وقيمنا الروحانية موضوعان على المحك» في تلك المنافسة.
كانت الحملة الانتخابية مشوقة، ومليئة بالملصقات المثيرة للمشاعر والشعارات القوية؛ فقد شنت الصحيفة اليسارية الأسبوعية «بليتز» حملة شرسة ضد رجل اختارت تسميته «كريبل-لوني» (الأحمق الأعرج). وعلى صعيد مقابل سلط ناظمو الشعر ألسنتهم الساخرة على مينون بمختلف اللغات؛ فجاء في مقطع شعري الآتي: «الصين تتقدم/ومينون نائم/دعوه نائما إن أراد/ولكن ائتوا بكريبالاني.» وأعربت قصيدة شعرية بالإنجليزية عن المشاعر نفسها، لكن بأسلوب منمق أكثر: «لا أتفق مع كل هذا التهكم والسخرية/من كريشنا مينون؛ فإلى فضائله أود أن أركن. انظروا مثلا إلى براعته مع الآنية: فما عسى أن يكون أرق/من حرصه المحب في تعامله مع الصيني؟»
اعتبر رئيس الوزراء تحدي مينون تحديا له شخصيا؛ فدشن نهرو حملة حزب المؤتمر في بومباي، وأوجد سببا لدعم رجله في أماكن أخرى أيضا؛ ففي سانجلي وبونا وبارودا، قال إن هزيمة مينون ستشير لهزيمة سياسات الاشتراكية وعدم الانحياز التي ينتهجها هو نفسه. مثل الدعم الذي تلقاه مينون من معلمه مصدر عون هائل له، وكذلك تحرير جوا، الذي لقي صدى طيبا لدى عامة الشعب في شمال بومباي، وليس فقط لدى أبناء جوا هناك.
وفي النهاية هزمت حملة كريبالاني أمام خطب نهرو والتدخل العسكري في جوا وقوة حزب المؤتمر؛ فقد خسر بفارق يربو على 100 ألف صوت.
63
9
في الانتخابات العامة لعامي 1952 و1957 أفاد حزب المؤتمر كثيرا بكونه الحزب الذي قاد المعركة من أجل الحرية. إلا أن حملته عام 1962 ركزت أكثر على ما فعلته منذ نيل الحرية؛ فقال إن سياساته زادت الإنتاج الزراعي والصناعي، وارتقت بالتعليم ومعدلات الأعمار، وعززت وحدة البلاد. أما المعارضة التي لم يسبق لها الإمساك بزمام الحكم قط، فلم يكن بوسعها مواجهة تلك الادعاءات بادعاءات مضادة من جانبها.
64
ومن ثم فقد حافظ حزب المؤتمر على أغلبيته في البرلمان؛ إذ ربح 361 مقعدا من أصل 494. أما الشيوعيون ففازوا بتسعة وعشرين مقعدا، في حين فاز حزب سواتنترا المعارض الجديد بثمانية عشر مقعدا، وهو رقم جدير بالاحترام. وفي ولاية مدراس نشأ تحد عن حزب درافيدا مونيترا كازاجام شبه الانفصالي، الذي فاز بسبعة مقاعد في البرلمان (وخمسين مقعدا في المجلس التشريعي للولاية). ولكن بصفة عامة تأكدت ريادة حزب المؤتمر، وبدأ جواهر لال نهرو فترته الرابعة في رئاسة الوزارة.
كانت المعارضة داخل الحزب قد حجمت، ولكن المعارضة خارجه ظلت قائمة؛ فخلال ربيع وصيف عام 1962 استمرت الاشتباكات على الحدود. وفي شهر يوليو، عقدت مجلة «سمينار» في دلهي ندوة عن السياسة الدفاعية للهند، أصر أحد الأشخاص المساهمين فيها على أن «جمهورية الصين الشعبية لا تشكل أي تهديد عسكري لبلدنا»، في حين شكك مساهم آخر في ذلك الرأي. كان ذلك المتشكك هو الجنرال تيمايا، الذي كان متقاعدا آنذاك، والذي أشار إلى وجود تهديدات نابعة من باكستان والصين على حد سواء. وفي حين أن الهند كانت مؤهلة إلى حد معقول لمواجهة هجوم من الأولى، فقد قال تيمايا: إنني أعجز «حتى بصفتي عسكريا عن تصور مواجهة الهند بمفردها للصين في صراع مفتوح؛ فقوة الصين الحالية من حيث الموارد البشرية والمعدات والطائرات تفوق مواردنا مائة مرة مع توافر الدعم الكامل من الاتحاد السوفييتي، ولا يمكننا أن نأمل في مواكبة الصين في المستقبل المنظور؛ فلا بد أن توكل كفالة أمننا إلى الساسة والدبلوماسيين». وأضاف الجنرال: «إن القوة الحالية لجيش الهند وقواتها المسلحة أقل حتى من «الحد الأدنى من التأمين» الذي يمكن أن نوفره لشعبنا.»
65
كان المعنى المتضمن في حديثه واضحا؛ فإما أن يسعى الدبلوماسيون إلى إبرام معاهدة مع الصين، أو أن يلتمس الساسة المساعدة العسكرية من المعسكر الغربي، إلا أن المد المتنامي للمشاعر الوطنية حال دون اللجوء إلى الخيار الأول، في حين حالت سياسة عدم الانحياز التي انتهجها رئيس الوزراء - والتي عضدتها معاداة وزير الدفاع للولايات المتحدة الأمريكية - دون اللجوء إلى الخيار الثاني.
في الأسبوع الثالث من يوليو 1962، حدثت اشتباكات بين القوات الهندية والقوات الصينية في وادي جلوان بلاداخ. ثم نشب نزاع في أوائل شهر سبتمبر بشأن سلسلة جبال دولا-تاجلا، في وادي نهر نامكا تشو، على بعد نحو ستين ميلا غربي تاوانج. كانت تلك منطقة التقاء حدود كل من الهند والتبت وبورما، وكان الترسيم الدقيق لخط مكماهون فيها محل خلاف؛ فقد زعم الهنود أن سلسلة الجبال تلك تقع جنوب خط مكماهون، فيما رأى الصينيون أنها تقع في جانبهم من الحدود.
66
في وقت سابق، في شهر يونيو، كانت فصيلة من قوة «بنادق آسام» قد أقامت نقطة حراسة في دولا، ضمن سياسة التقدم إلى الأمام المستمرة؛ ففي يوم 8 سبتمبر أقام الصينيون نقطة حراسة خاصة بهم في تاجلا، كانت تطل على دولا (وتهددها)؛ فتبادلت بكين ونيودلهي رسائل غاضبة. كانت القيادات الهندية منقسمة فيما بينها بشأن كيفية التصرف؛ فقال البعض بضرورة إبعاد الصينيين من تاجلا، فيما قال آخرون إن ذلك أمر صعب، حيث إن تضاريس تلك المنطقة كانت في غير صالح الهنود (كانت تاجلا تقع على ارتفاع أعلى من دولا بنحو ألفي قدم). وفي ذلك الوقت، بدأت القوات الصينية تستخدم مكبرات الصوت مصدرة تحذيرات بالهندية، كان أحدها مفاده: «الهنود والصينيون إخوة، لكن هذه الأرض أرضنا؛ فارحلوا عنها.»
استمرت الأزمة ثلاثة أسابيع، وقفت خلالها قوات الدولتين متواجهة عبر نهر ضيق، غير عالمة إن كان قادتها بصدد الصلح أم التأهب للحرب. وأخيرا، في يوم 3 أكتوبر، حل بي إم كاول - الذي طار من دلهي لتولي قيادة منطقة الحدود الشمالية الشرقية - محل الفريق أومراو سينج، الذي كان ينصح بالتروي، قائدا للقوات. ورفضت جميع الآراء الموصية بتوخي الحذر؛ فقد «قدم كاول تأكيدات كاسحة غير واقعية لدحض جميع الاعتراضات، استنادا إلى افتراض تقديم دلهي الدعم اللوجستي اللازم في المستقبل لأي مقامرة قد يقدم عليها الآن».
67
فبغية اقتلاع الصينيين من تاجلا، حرك كتيبتين إلى أعلى من السهول. صعدت القوات محملة بأسلحة خفيفة وزاد لا يكفي سوى ثلاثة أيام؛ فهي لم تكن مزودة بمدافع هاون ولا قاذفات صواريخ، ولا شيء سوى الوعود بمجيء الإمدادات ولحاقها بها.
وصل الجنود الهنود وادي نامكا تشو عصر يوم 9 أكتوبر، عقب المسير عبر «الأوحال والجبال والأمطار»، «تلك القوات المنهكة بفعل أيام من السير على ارتفاعات شاهقة وفي ظروف جوية رهيبة، كانت في حاجة ماسة إلى الراحة والتزود بأدوات الحرب».
68
في ذلك المساء أقاموا نقطة حراسة في كوخ أحد الرعاة يمكنهم منه محاولة طرد العدو، عندما تصلهم التعزيزات. لكن الفرصة لم تسنح أمامهم لذلك؛ إذ بادر الصينيون بالهجوم صبيحة يوم 10 سبتمبر. قاتل جنود الهند ببسالة، لكنهم كانوا مستنزفين بسبب طول المسافة التي قطعوها للصعود إلى ذلك المكان. كذلك فقد فاقهم العدو عددا وعتادا؛ إذ لم يكن لأسلحتهم الخفيفة قبل بمدافع الهاون الثقيلة التي استخدمها الصينيون.
منذ عام 1959، انخرط الصينيون والهنود في لعبة القط والفأر، في لاداخ ومنطقة الحدود الشمالية الشرقية، إذ راح الجانبان يرسلان القوات لاحتلال الأراضي غير التابعة لأحد، ويشتبكان هنا وهناك، فيما راح قادتهم يتبادلون الرسائل، بل يلتقون من حين لآخر. ثم تصاعد الموقف إلى مستوى غير مسبوق؛ فتمركز الهنود في دولا قابله الصينيون بالمجيء إلى تاجلا، فوق دولا مباشرة؛ الأمر الذي استفز بدوره الهنود إلى محاولة زحزحتهم؛ فعندما باءت تلك المحاولة بالفشل، أخبر نهرو الصحافة بأن الجيش تلقى تعليمات بمحاولة إخراج «العدو» مرة أخرى.
ولكن العدو أمسك بزمام المبادرة؛ فالحرب الزائفة التي دامت ثلاثة أعوام كاملة أصبحت حقيقة ليلة 19-20 أكتوبر، عندما غزت القوات الصينية القطاعين الشرقي والغربي في وقت واحد؛ فقد حلت «الحرب الخاطفة» عبر جبال الهيمالايا، كما كان «البراجماتي» قد تنبأ. وكما كان يخشى، لم يكن الهنود مستعدين. تلك الليلة، جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» أن «الجذوة تحولت إلى شعلة متأججة»؛ إذ «نشبت معارك طاحنة في المنطقتين المتنازع عليهما على حد سواء. ودفعت حشود القوات الصينية الهنود تحت غطاء من قذائف الهاون المتفجرة إلى التقهقر على الجبهتين». كان الجانبان قد حشدا قواتهما على الحدود، لكن «المراقبين المستقلين عزوا الهجوم إلى الجانب الصيني». وقد شن الصينيون هجومهم على دفعات، متسلحين بمدافع آلية متوسطة الحجم تدعمها مدافع هاون ثقيلة. اشتركت في الغزو فرقتان صينيتان، اشتملتا على قوات بلغ قوامها خمسة أمثال نظيرتها لدى الهنود.
69 «غلبت المفاجأة» الهنود؛ لأن الصينيين سرعان ما احتلوا كثيرا من المواقع، وعبروا وادي نامكا تشو، وتوجهوا إلى الدير في تاوانج، بينما توجهت وحدة عسكرية أخرى إلى الجزء الشرقي من منطقة الحدود الشمالية الشرقية. وراحت القوات الصينية تتوغل أكثر فأكثر في الأراضي الهندية؛ فسجل سقوط ثمان نقط حراسة في لاداخ، وقرابة عشرين نقطة في منطقة الحدود الشمالية الشرقية. ووقعت تاوانج نفسها تحت سيطرة الصين.
70
لم يكن ثمة ما يستدعي الدهشة في سهولة استحواذ الصينيين على نقاط الحراسة الهندية؛ فقد كانت قواتهم مرابطة على هضبة التبت بكامل قوتها منذ منتصف خمسينيات القرن العشرين، إما منخرطة في قتال متمردي كامبا أو التأهب لقتالهم. وخلافا للهنود، كان الصينيون معتادين على القتال في المرتفعات الشاهقة. وإضافة إلى ذلك كان الدخول أيسر بكثير من جانب التبت، حيث كانت الأرض منبسطة نسبيا، مما يسهل إنشاء الطرق وتحريك القوات. وكانت الميزة الجغرافية في صالح الصينيين تماما؛ فمن آسام حتى خط مكماهون كان طريق الصعود شديد الانحدار، وكانت التلال مكسوة بالنباتات والمناخ رطبا وممطرا في كثير من الأحيان. وكانت نقاط الحراسة الهندية الأمامية تفتقر إلى التجهيز إلى حد مروع؛ فهي إذ لم تتوافر لها طرق صالحة، كانت «تعيش على المعونات الجوية»، وتعتمد في بقائها على الإمدادات والطلعات الجوية لطائرات الهليكوبتر.
71
تضاعفت مشكلات الجانب الهندي بغياب القيادة؛ ففي يوم 18 أكتوبر تعرض الجنرال كاول لآلام حادة في صدره، ونقل إلى دلهي، فبقي فيلقه دون قائد خمسة أيام، سقطت تاوانج خلالها.
في 24 أكتوبر أوقف الصينيون توغلهم، فيما كتب تشو إن لاي إلى نهرو طالبا التوصل إلى طريقة «لوقف الاشتباكات الحدودية» و«إعادة فتح المفاوضات الحدودية». فكتب كل منهما رسالتين للآخر على مدار الأسبوعين التاليين، لكن رسائلهم لم تأت بشيء. قال تشو إن الصين والهند أمام عدو مشترك، وهو: «الإمبريالية». ورغم الصراع الجاري، رأى أنه من الممكن لهما «إعادة العلاقات الصينية الهندية إلى نمطها السابق المتسم بالدفء والصداقة، بل الارتقاء بذلك النمط». وكان الحل الذي اقترحه هو انسحاب الطرفين عشرين كيلومترا إلى ما وراء خط السيطرة الفعلي، وفض الاشتباك .
تكشفت جروح نهرو جلية للجميع في ردوده؛ فقد قال: «لم يؤلمني شيء في تاريخي السياسي الطويل ويحزنني» أكثر من «التطورات العدائية وغير الودية التي طرأت على العلاقات الهندية الصينية» في السنوات الأخيرة، التي بلغت أوجها في «ما مثل فعليا غزوا صينيا للهند»، في «تناقض صارخ» مع زعم أن الصين ترغب في حل مسألة الحدود «سلميا». كانت بكين قد اتخذت «قرارا مدروسا وبدم بارد بأن تفرض حقوقها الحدودية المزعومة قسرا عن طريق غزو الهند عسكريا». وكتب أن عرض تشو كان يهدف إلى تعزيز مكاسب ذلك العدوان والحفاظ عليها. أما الحل الذي اقترحه نهرو فكان مفاده أن تنسحب القوات الصينية إلى ما وراء خط مكماهون في الشرق، وتعود في الغرب إلى موقعها حتى 7 نوفمبر 1959، لتلغي بذلك حصيلة ثلاثة أعوام من المكاسب المطردة التي حققتها بإقامة نقط حراسة على أراض متنازع عليها.
72
في ذلك الوقت أضيفت خسارة حدثت في دلهي إلى الخسائر المتكبدة على الجبهة؛ فإذ انكشفت نقاط الضعف الهندية تماما آنذاك، أقيل في كيه كريشنا مينون أخيرا من منصب وزير الدفاع. (نقل أولا إلى وزارة الإنتاج الدفاعي، ثم استبعد من مجلس الوزراء بأكمله.) وصاحب خروج مينون من الحكومة طلب دلهي لأسلحة غربية؛ ففي يوم 28 أكتوبر ذهب السفير الأمريكي لمقابلة رئيس الوزراء. وقال إن نهرو «كان ضعيفا وهشا وبدا ضئيلا ومسنا. كان من الواضح أنه متعب جدا». وقال نهرو إنهم لا بد أن يحصلوا على معونة عسكرية من الغرب.
73
وسرعان ما كانت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ترسل طائرات نقل محملة بالأسلحة والذخيرة. ووافقت كل من فرنسا وكندا أيضا على توريد السلاح.
74
في 8 نوفمبر، طرح رئيس الوزراء قرارا في البرلمان يندد «بخيانة» الصين روح معاهدة بانشيل و«بوادر حسن النية والصداقة الدائمة» من جانب الهند بشنها «غزوا واسع النطاق». وقال إن ألمنا ملموس؛ إذ «أصبحنا نحن في الهند ... الذين ... سعينا إلى كسب صداقة الصين ... ودافعنا عن قضيتها في مجالس العالم، نجد أنفسنا الآن ضحية النزعة الإمبريالية والتوسعية الجديدة لبلد يقول إنه ضد الإمبريالية بجميع أشكالها». وقال نهرو إن الصين قد تصف نفسها بأنها «شيوعية»، ولكنها كشفت أنها «بلد توسعي ذو ميول إمبريالية يغزو بلدا آخر عمدا».
قد يؤول خطاب نهرو على إنه أقرار متأخر بصحة تحذير فالابهاي باتيل عام 1950، حين قال إن الشيوعية في الصين ليست إبطالا للنزعة القومية، وإنما هي تعبير متطرف عنها. استغرق النقاش التالي على ذلك الخطاب أسبوعا كاملا، تحدث خلاله 165 نائبا برلمانيا، وهو ما يمثل رقما قياسيا على ما يبدو.
75
وعلى الحدود، كسرت الصين فترة الهدوء المؤقت بهجوم ثان شنته يوم 15 نوفمبر؛ حيث هاجمت جبهة طولها 500 ميل في منطقة الحدود الشمالية الشرقية. دارت معركة مريرة في والونج، حارب فيها جنود من كتيبتي دوجرا وكوماون - وكلهم من أبناء الجبال الأشداء - ببطولة، وكادوا ينتزعون إحدى سلاسل الجبال الرئيسية من قبضة الصينيين.
76
كذلك شوهدت مقاومة قوية في لاداخ، التي لم يكن القائد الميداني فيها عرضة للإشارات المتضاربة من دلهي؛ ففيها صمدت القوات، و«أجبرت الصينيين على دفع ثمن باهظ نظير الأرض التي حصلوا عليها».
77
ولكن في معظم أنحاء منطقة الحدود الشمالية الشرقية كان الأداء ضعيفا بحق؛ ففيها تمزق الهنود أشتاتا؛ إذ تقهقرت فصائل وكتائب بأكملها في جماعات متفرقة. وتملك القادة الهنود اضطراب شديد عندما اجتاحت الصين تلك المناطق؛ فأين كان يجدر بهم تنظيم مواجهتهم الأولى، وربما الأخيرة؟ فكروا في خيار تاوانج ثم استبعدوه. ورأى أحد الجنرالات بومديلا الخيار الأنسب؛ إذ كانت على بعد ستين ميلا إلى الجنوب، ومن ثم يسهل إرسال الإمدادات إليها من السهول. وأخيرا تقرر وقف تقدم القوات الصينية في سلا، على بعد خمسة عشر ميلا فحسب من تاوانج.
كان كاول هو صاحب قرار ترتيب المواجهة في سلا؛ فعندما سقط مريضا، حل محله الفريق هرباكش سينج، القائد الموقر ذو الخبرة الميدانية الواسعة. ولكن قبل أن يتسنى لسينج إعادة تنظيم الدفاعات على النحو اللائق، كان كاول قد عاد من دلهي لتولي القيادة من جديد.
كان الصينيون قد احتلوا تاوانج يوم 25 أكتوبر؛ فعندما توقفوا هناك، استدرج الهنود إلى حالة من التراخي، لكن الصينيين كانوا في الواقع يعملون على تحسين الطريق إلى سلا. ويوم 14 نوفمبر، شرع الهنود في هجوم مضاد مقترح، مختارين نقطة حراسة للعدو بالقرب من والونج هدفا لهم. وفي الوقت نفسه، نشب قتال شمالي سلا، كان للصينيين الغلبة فيه مرة أخرى. أمر قائد الحامية بالانسحاب - وقد انتابته حالة من الذعر - وبدأ اللواء الذي يعمل تحت إمرته في التقهقر صوب بومديلا. وهناك وجد الجنود أن الصينيين قد طوقوا سلا بالفعل وقطعوا عليهم الطريق من الخلف. حصدت أرواح عدد كبير من الجنود أثناء فرارهم، بينما ألقى آخرون سلاحهم وفروا فرادى أو في جماعات صغيرة. وبذلك سقطت سلا بسهولة، وسرعان ما تلتها بومديلا.
78
أثار سقوط بومديلا نوبة ذعر في آسام؛ فوجدها مراسل صحفي هندي، لدى بلوغه تزبور يوم 20 نوفمبر، «مدينة أشباح». كانت الإدارة قد انسحبت إلى جوهاتي، بعد حرق الأوراق في مقرها والأوراق النقدية في البنك المحلي. وقبل رحيل الإدارة «فتحت أبواب مصحة الأمراض العقلية لتطلق سراح نزلاء ذاهلين».
79
في دلهي وبومباي، راح الشباب يصطفون للانضمام إلى الجيش. كانت مراكز التجنيد تلك أماكن تتسم بالخمول في المعتاد، حيث لا تفتح أبوابها سوى يوم أو يومين في الأسبوع، و90٪ من الرجال الذين يأتون إليها يرسبون في الاختبار الأول. ولكن في ذلك الوقت أصبحت تلك المجمعات «محاصرة بآلاف المجندين المحتملين». كان بعضهم من العمال اليدويين وعمال المصانع، والبعض الآخر من الخريجين العاطلين عن العمل. وجميعهم كانوا يأملون في أن الجيش في ظل تلك الظروف الطارئة سوف «يخفض الشروط البدنية اللازمة للالتحاق به ويوفر لهم الطعام والمأوى ويعطي لحياتهم هدفا».
80
يبدو مستبعدا أن يكون أداء هؤلاء الرجال أفضل ممن حاربوا وهزموا بالفعل . وعلى أي حال فهم لم تتح لهم فرصة الحرب؛ فإذ وقف الصينيون متأهبين لدخول سهول آسام، أعلنوا عوضا عن ذلك وقف إطلاق النار من جانب واحد يوم 22 نوفمبر. وفي منطقة الحدود الشمالية الشرقية تراجعوا إلى شمال خط مكماهون. وفي قطاع لاداخ تراجعوا أيضا إلى مواقعهم قبل بدء القتال الأخير.
ما الذي دفع الصينيين إلى حزم أمتعتهم والعودة إلى ديارهم؟ رأى بعض المعلقين أن احتشاد الأحزاب جميعا - بما فيها الحزب الشيوعي - حول الحكومة الهندية هو الذي ردعهم عن مواصلة المضي في الطريق الذي بدءوه. وكانت القوى الأوروبية قد تعهدت بمساندة الهند، وشرعت بالفعل في إرسال طائرات محملة بالأسلحة والذخيرة إليها.
81
وكانت حقائق الطبيعة على القدر ذاته من الأهمية كتلك الاعتبارات السياسية؛ فقد كان الشتاء على الأبواب، وسرعان ما كان الجليد سيغطي جبال الهيمالايا. وبالتوغل إلى عمق الهند، كان الصينيون يزيدون خطوط إمداداتهم طولا والحفاظ عليها صعوبة.
في حين يمكن تفسير نهاية الحرب على هذا النحو، فإن منشأها أصعب على الفهم. فالجانب الصيني لم تصدر عنه أوراق بيضاء، وسجلاته غير متاحة للناس، ومن المرجح أنها لن تفتح أبدا؛ فجل ما يمكن للمرء أن يقوله هو إن ذلك الهجوم محكم التنسيق لا بد أن تكون سبقته أعوام من التحضير. أما عن توقيته الدقيق، فكانت التكهنات المقدمة آنذاك - التي لا تزال تبدو منطقية - مفادها أن القوتين العظميين؛ أي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، كانتا منشغلتين بأزمة الصواريخ الكوبية، مما سمح لبكين بتنفيذ مغامرتها الصغيرة دون خوف من انتقام.
أبرزت الحرب الحدودية تفوق الصين من حيث «الأسلحة والاتصالات والاستراتيجية والخدمات اللوجستية والتخطيط».
82
فوفقا للإحصاءات الواردة من وزارة الدفاع، قتل 1383 جنديا هنديا، وأسر 3968، وكان 1696 لا يزالون في عداد المفقودين.
83
كانت تلك الخسائر قليلة بمعايير الحرب الحديثة، إلا أن تلك الحرب مثلت هزيمة نكراء في المخيلة الهندية. وبطبيعة الحال بدأت عملية البحث عن كباش الفداء. على مر السنين، نشر الجنرالات الميدانيون سلسلة من المذكرات لتبرئة أنفسهم، سعى كل منهم فيها لدرء التهمة عن نفسه وإلقائها على عاتق قائد آخر، أو على عاتق الساسة الذين تجاهلوا تحذيراته وأصدروا أوامر مستحيلة التنفيذ. ويشير اللواء دي كيه باليت - الذي شغل منصب المدير العام للعمليات العسكرية وقت الحرب - في إسهامه الشخصي لذلك النوع من المؤلفات أن تلك المذكرات تشتمل على «تناقضات صارخة؛ فكل منهم يحاول حماية موقفه». وقال مضيفا: «عادة ما يوجد التفكير بأثر رجعي منطقا في أحداث كانت في الواقع خالية من الاتساق أو التسلسل المنطقي.»
84
في أوساط عامة الشعب الهندي، كان الشعور المسيطر هو الإحساس بالخيانة، وأن جارا معدوم الضمير والمبادئ غرر بهم بعد أن حدت بهم سذاجتهم إلى اختياره محلا لثقتهم ودعمهم. وقد أعرب نهرو في رسائله إلى تشو إن لاي عن تلك المشاعر مثله مثل غيره. ولكن؛ ابتغاء لمعرفة الأسباب العميقة للنزاع، لا بد للمرء من الرجوع إلى كتاباته السابقة، وتحديدا لمقابلة تحدث فيها ليس بصفته زعيم الهند وإنما بصفته دارسا لتاريخ العالم؛ ففي عام 1959، أخبر نهرو إدجار سنو أن «السبب الرئيسي للنزاع الصيني الهندي هو أن كلتيهما «دولة جديدة»، بمعنى أن كلتيهما حديثة الاستقلال وتحكمها «قيادة قومية ديناميكية»، وكانتا نوعا ما تشهدان أول «لقاء» لهما في التاريخ عند حدودهما». ففي الماضي «كان البلدان تفصل بينهما مناطق عازلة، وكان كلا الطرفين «بعيدا» عن الحدود». ولكنهما في ذلك الحين، «التقتا على الحدود بصفتهما «دولتين حديثتين»». ومن ثم فقد «كان من الطبيعي أن تنشأ بينهما درجة من الصراع قبل أن يتسنى لهما إرساء حدودهما على نحو مستقر».
85
إذن فقد مثل الصراع بين الهند والصين صداما بين الخرافات القومية والذوات القومية والمخاوف القومية وأخيرا وحتما الجيوش القومية. من هذا المنطلق، على الرغم من أن ذلك الصراع بدا للهنود فريدا من نوعه (ومزعجا بصورة غير معهودة)، فقد كان مثالا نموذجيا على الصراعات من ذلك النوع؛ فتضارب المطالبات بالأرض مصدر شائع جدا للصراع في العالم الحديث. وكان ذلك تقريبا ما قاله نهرو لإدجار سنو. ولكن دعونا نعطي الكلمة الأخيرة لمصدر غير متوقع، وهو: الشاعر الوجودي ألن جينزبرج؛ ففي مارس 1962 شرع جينزبرج في رحلة مدتها عامان حول شبه القارة الهندية، هام فيها على وجهه وارتاد العشوائيات بحثا عن النيرفانا (السعادة القصوى في البوذية). وفي أغسطس، مع بدء تصعيد الاشتباكات القائمة على الحدود، سجل في دفتر يومياته خواطر وضعت ذلك النزاع الحدودي في نصابه:
معارك عام 1962
الولايات المتحدة في مواجهة روسيا في العموم/الصين في مواجهة فورموسا بشأن التبعية/الهند في مواجهة الصين بشأن أراض حدودية/الهند في مواجهة باكستان بشأن كشمير؛ معركة دينية/الهند في مواجهة البرتغال بشأن جوا/الهند في مواجهة قبائل ناجا بشأن الاستقلال/مصر في مواجهة إسرائيل بشأن نزاع على الأرض والدين/ألمانيا الشرقية في مواجهة ألمانيا الغربية بشأن السيادة/كوبا في مواجهة الولايات المتحدة بسبب الأفكار/كوريا الشمالية في مواجهة كوريا الجنوبية بشأن السيادة/إندونيسيا في مواجهة هولندا بشأن الأرض/فرنسا في مواجهة الجزائر بشأن الأرض/الزنوج في مواجهة البيض في الولايات المتحدة الأمريكية/كاتانجا في مواجهة ليوبولدفيل/أتباع ستالين في مواجهة أتباع خروتشوف في روسيا/حزب التحالف الثوري الشعبي الأمريكي في مواجهة العسكريين في بيرو/العسكريون في مواجهة البرجوازيين في الأرجنتين/قبائل النافاهو البيوتية في مواجهة مجلس نافاهو القبلي؛ صراع قبلي/الأكراد في مواجهة العراق/الزنوج في مواجهة البيض في جنوب أفريقيا؛ صراع عرقي/السنغال من المعسكر الأمريكي في مواجهة مالي من المعسكر الشيوعي بشأن الأرض/غانا في مواجهة توجو بشأن الأرض/الواتوسي في مواجهة الباهوتو في رواندا بشأن النفوذ القبلي/الاتحاد الديمقراطي الأفريقي الكيني في مواجهة الاتحاد الوطني الأفريقي الكيني بشأن النفوذ القبلي/الصومال في مواجهة إثيوبيا وكينيا وأرض الصومال الفرنسي/كهنة التبت في مواجهة علمانيي التبت الصينيين/الهند في مواجهة باكستان الشرقية بشأن الحدود وتريبورا/الجزائر في مواجهة المغرب بشأن الصحراء الكبرى.
86
الفصل السادس عشر
السلام في زمننا
نحن نمر بوقت عصيب، من حيث الطقس والمشاكل التي ما تفتأ تظهر؛ فكشمير تحديدا تتسبب لنا في صداع رهيب.
فالابهاي باتيل لجي دي بيرلا، مايو 1949
1
إلى جانب سقوط عدة آلاف من الجنود الهنود ما بين قتيل وجريح، تضمنت خسائر الحرب مع الصين رئيس أركان الجيش الجنرال بي إن تابار (الذي قدم استقالته، متعللا بسوء حالته الصحية)، والمفكر الاستراتيجي الفاشل الفريق بي إم كاول (الذي أحيل إلى التقاعد المبكر)، ووزير الدفاع في كيه كريشنا مينون (الذي أقيل من منصبه). وتمثلت إحدى الخسائر الأخرى في سمعة جواهر لال نهرو؛ فقد كانت الحرب الحدودية الفشل الأقوى أثرا لنهرو ، طوال الأعوام الخمسة عشر التي قضاها رئيسا للوزراء. صحيح أن العجز عن تحقيق إصلاحات زراعية جذرية أثر على فقراء الريف، كما أن استبعاد الشيوعيين في كيرالا أغضب أناسا كثيرين في تلك الولاية، وكذلك كان لقطاعات أخرى من الشعب مظالم ضد الحكومة، إلا أن الفشل في حماية أراضي الدولة كان شأنا آخر كليا؛ فالإذلال الناجم عنه استشعرته الأمة بأكملها، كما هو الحال دائما في الهزائم العسكرية.
لقد تم التضحية بكريشنا مينون وقادة الجيش، ولكن رئيس الوزراء كان يعي في قرارة نفسه أنه في النهاية هو المسئول عن تلك الكارثة؛ بصفة عامة لكونه رئيس الحكومة، وبصفة خاصة جدا لكونه الشخص الذي وجه وحدد مواقف الهند وسياساتها إزاء الصين.
وصار يجب إعادة النظر في تلك المواقف والسياسات؛ فقد أصبح بإمكان نهرو أن يرى أخيرا ما استشعره فالابهاي باتيل منذ زمن، وهو: أن الشيوعية في الصين ليست أكثر من إحدى صور القومية الأكثر ولعا بالقتال. وأحدثت الحرب الحدودية لدى نهرو ميلا مترددا تجاه الولايات المتحدة، التي أمدته بالسلاح بينما ظل الاتحاد السوفييتي واقفا على الحياد. وكان السفير الأمريكي في نيودلهي - جون كينيث جالبريث - طرفا رئيسيا في ذلك التحول؛ فنظرا لكون جالبريث أستاذ اقتصاد في جامعة هارفرد متشككا إزاء فكرة السوق الحرة، وباحثا في تاريخ الفن، ومعروفا بحسن ذوقه وخفة ظله، فقد كان أمريكيا غير تقليدي بالمرة من وجهة نظر الهنود. (كان كندي المولد في الواقع.) كانت الأوضاع تتغير في واشنطن، حيث سعى رئيس شاب جديد - هو جون إف كينيدي - إلى تبديل الصورة اللصيقة بالحكومة الأمريكية بصفتها غير مبالية في الداخل ومتغطرسة في الخارج. وقد كانت رياح الليبرالية تلك هي التي حملت جالبريث إلى الهند.
فمنذ وقت توليه المسئولية في السفارة في أبريل 1961، كان على علاقة جيدة جدا برئيس الوزراء؛ فكانا يتناقشان في أمور الفن والموسيقى والأدب، وهو ما مثل لنهرو تسلية مرحبا بها عن المتاعب اليومية، ولكنه مثل من جانب جالبريث استمالة حصيفة لعقلية كثيرا ما اتسمت بالتحامل على بلده. وفي مارس 1962، جاءت السيدة الأولى - جاكلين كينيدي - في رحلة عبر الهند، زارت فيها تاج محل وحصون الراجبوت، وأجرت محادثات مطولة مع رئيس الوزراء.
أخذ نهرو بجمال السيدة كينيدي، مثلما أخذ بذكاء سفيرها. إلا أن لين موقفه تجاه الولايات المتحدة لم يكن ليتحول إلى ميل لولا الحرب مع الصين؛ ففي يوم 9 نوفمبر، بعد النوبة الأولى من الهجمات، طلب من جالبريث مقابلة رئيس الوزراء. وقال إن نهرو كان «منهكا وتلوح عليه أمارات الانهزام إلى حد ما». (في وقت سابق من ذلك اليوم، كان نهرو قد ألقى خطابا في البرلمان «غير حماسي بالمرة».) وفي المقابلة، طلب السلاح من الولايات المتحدة، وهو ما جاء بتكلفة لا يمكن أبدا قياسها بالنقود وحدها، لأن نهرو - مثلما كتب جالبريث للرئيس كينيدي - طوال حياته:
سعى إلى تجنب الاعتماد على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة؛ فمعظم تحرجه الشخصي من طلب المعونة (أو شكر مانحها) كان نابعا من كبريائه ... والآن لا شيء أهم لديه - على الصعيد الشخصي أكثر من الصعيد السياسي - من الحفاظ على مظاهر ذلك الاعتماد؛ فعمره لم يعد يسمح بإعادة التكيف. وأشعر أننا يمكن أن نكون كرماء في هذا الصدد إلى حد ما.
1
بحلول نهاية شهر نوفمبر بدأت الأسلحة في الوصول، على متن طائرات محملة بجنود في زيهم العسكري. ومثلما كتب أحد الصحفيين الأمريكيين، فقد كان ذلك يعني «انهيار سياسة عدم الانحياز التي انتهجها نهرو». وبالنسبة إلى كثيرين، حمل ذلك الزي العسكري ذو اللون الأزرق الداكن «دلالة خاصة»، تعبر عنها كلمة واحدة: «الفشل».
2
إلا أنه بالنسبة إلى السفير الأمريكي، فقد كان يدل على كلمة «الفرصة»؛ فقد كان من الممكن أن يمثل ذلك بداية وفاق لاحتواء قوة شيوعية يحتمل أن تشكل تهديدا أكبر من الاتحاد السوفييتي ذاته؛ فمثلما كتب جالبريث للرئيس كينيدي:
إن الصينيين لا يتجادلون مع السوفييت بشأن بعض النقاط الأكاديمية في عقيدتهم؛ فعلينا أن نفترض جديتهم بخصوص ثورتهم؛ فمنطقة التوسع الطبيعية تقع ناحيتهم. والبلد الآسيوي الوحيد الذي يقف في طريقهم فعلا هو الهند، وبالمثل، فالبلد الغربي الوحيد الذي سيتحمل المسئولية هو الولايات المتحدة؛ فيبدو جليا لي أنه ينبغي أن يكون ثمة شيء من التفاهم بين البلدين؛ فينبغي أن نتوقع الاستفادة من وضع الهند السياسي أو موقعها الجغرافي أو قوتها السياسية أو قوتها البشرية أو غير ذلك.
3
2
استجابة لطلب الهند، سمح الرئيس كينيدي بإمدادها بمليون طلقة للمدافع الآلية، و40 ألف لغم أرضي، و100 ألف قذيفة هاون.
4
كانت تلك المنحة أقل بكثير من التحالف العظيم الذي كان السفير الأمريكي يوصي به، ولكنها كانت أكثر بكثير مما رأى بقية الأمريكيين أن نيودلهي تستحقه. كان من المعارضين الشرسين لمسألة إمداد الهند بالأسلحة نائب مجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا، السناتور ريتشارد بي راسل، الذي رأس لجنة مجلس الشيوخ للقوات المسلحة فترة طويلة. كان راسل رجلا رجعيا فظا كبير السن - شديد المعارضة للأفكار من قبيل إلغاء التمييز العنصري - وقد وصف الهند قبلا بأنها «صديق لا يعتمد عليه» ونهرو بأنه «غوغائي ومنافق». وآنذاك أخبر وكالة أنباء أسوشيتد برس أنه «ضد إعطاء الهند أيا من أسلحتنا الحديثة بالأساس؛ لأننا سنكون بذلك نسلمها للشيوعيين الصينيين». وأضاف السناتور أن الهنود «قدموا مشهدا مخزيا بسماحهم لأنفسهم بأن يطردوا مما كانت ينبغي أن تكون معاقل حصينة لهم على الجبال الحدودية؛ فهم يبدون عاجزين عن القتال، وإذا أمددناهم بالأسلحة، فسوف تقع في أيدي الشيوعيين بكل بساطة». وأردف قائلا إنه في حين أنه في ذلك الوقت ضد إعطاء «نظير سنت واحد من الأسلحة للهند»، فهو ربما يعيد النظر في المسألة إذا أبدى حكام الهند القدامى - أي البريطانيون - استعدادا «لتولي مسألة إعادة تنظيم قواتها المسلحة وإعادة تدريبهم».
5
انتشرت تعليقات راسل على نطاق واسع في الولايات المتحدة وكذلك الهند. وتقدم المراسلات العاصفة التي تولدت عنها عدسة فريدة يمكن للمرء رؤية العلاقات بين الولايات المتحدة والهند من خلالها. قد يتوقع المرء أن يكون هذان البلدان حليفين، ولو لكون كلتيهما دولة ديمقراطية كبيرة ومتنوعة ثقافيا. إلا أن فقدان الثقة عكر صفو علاقتهما؛ فقدان الثقة بسبب عدم انحياز الهند من ناحية، وإزاء المعونة العسكرية الأمريكية لباكستان من ناحية أخرى. ولم يجد أن البلدين كانا يقدمان أنفسهما على أنهما نموذجان للديمقراطية، حيث دائما ما كانت سياستهما الخارجية ودبلوماسيتهما تبالغان في ادعاء ذلك؛ ففي حين أن المثل الديمقراطية لهذين البلدين قربت بينهما، فقد باعدت بينهما الكبرياء والنزعة الوطنية.
ومن ثم ففي حين قد يكون كينيدي وجالبريث قد استنكرا موقف السناتور راسل، فقد نال دعما كبيرا من معظم أنحاء أمريكا؛ فقد كتب له أحدهم من ويتشيتا بكنساس يشكره على تحذيره من أنه «من الخطورة بمكان أن تذعن الولايات المتحدة لبلد لم يبد زعماؤه أي اهتمام بالولايات المتحدة أو أي دعم لها يذكر إلا لأخذ النقود والمعونة منا ثم تشويه صورتنا في كل مكان». وأقرت سيدة من لوميس في كاليفورنيا بأنه «لا ينبغي إرسال شيء لذلك السياسي المنافق المناصر للشيوعية نهرو ووزرائه الشيوعيين». ورأى رجل من مدينة بلانتيشن بفلوريدا أن متاعب الهنود كانت «وليدة تصرفاتهم ومن صنع أيديهم»، ولا سيما نتيجة «السياسة المحايدة» التي انتهجوها بينما «راح الشيوعيون ينتهبون ملايين الناس» في العالم أجمع. وساند رجل من مؤيدي الحزب الديمقراطي في الخامسة والثمانين من عمره من منطقة جنوبي سان جابرييل راسل في «معارضته تحميل هذا البلد ودافعي ضرائبه عبء الإنفاق على أربعمائة مليون جاهل جائع في الهند، يتسم زعماؤهم بمن فيهم نهرو بموالاتهم الصارخة للشيوعية وعدائيتهم لشكل حكومتنا ... إن حيادية نهرو المزعومة ... ينبغي أن تجعلنا ندع الهند تكوى بنيران تخلفها وجهلها».
وتلقى راسل من مواطنيه عشرات من رسائل الدعم، ورسالة معارضة واحدة. كتب تلك الرسالة باحث تابع لبرنامج فولبرايت مقيم في مدراس، وقال فيها إنه آن أوان إلغاء سياسة تسليح الولايات المتحدة لباكستان وحرمان الهند من المعونة. وقال الباحث إن الهند «ديمقراطية شعبية» في حين أن باكستان دكتاتورية عسكرية «يقوم كيانها السياسي على مشاعرها العدائية إزاء الهند ليس إلا». وإضافة إلى ذلك لم يكن صحيحا أن القوات الهندية لاذت بالفرار ببساطة؛ فقد قاتلت باستماتة في بعض المناطق، ولو كانت أفضل تسليحا لاستطاعت الصمود. وقال إن الهند في الوقت الحالي «تعمل على تجنيد قوات جديدة، وأرى أنه من مصلحتنا أن تحظى تلك القوات بالتسليح المناسب».
كذلك وردت للسناتور رسائل من الهنود، الذين شعروا بالغضب والألم بطبيعة الحال؛ فقد أقر أحد من راسلوه من بومباي بأن نهرو «كان تفكيره ضبابيا فيما يتعلق بالنوايا الصينية»، ولكنه رفض تلميح راسل إلى أن «سمتي الشجاعة والتحدي كانتا حكرا على ذوي البشرة البيضاء». فجنود الهند لا يقلون شجاعة ولا رباطة جأش عن الجنود الأمريكيين، كما تجلى بوضوح في بطولة جنود الهند في المعارك الحاسمة للحربين العالميتين. ولكن في هذه المرة «كانت آلية الحرب دون المستوى (بسبب السيد مينون)؛ فقد اضطر أبناؤنا للعمل دون رفاهية الغطاء الجوي، والبنادق الآلية، وسدادات الأذن، وحصص الإعاشة الميدانية، وبوب هوب ليسري عنهم في الخطوط الأمامية القاسية».
رد الروائي وكاتب السيناريو كيه إيه عباس، أحد أبرز مثقفي الهند المتعاطفين مع الشيوعية، على أسلوب راسل الناقم بالمثل؛ قائلا إنه على الرغم من التاريخ الطويل للتعليقات الغبية الواردة من أوروبيين عن الهند، فإن حوار راسل «فاز بالجائزة الأولى للافتراء غير المبرر والأذى الخالص». وكتب عباس: «ولكن لا شك يا سناتور راسل أنك إذا كنت تبحث عن «مشاهد مخزية» للفشل العسكري الذريع، فستجد مخزونا وفيرا منها أقرب إليك»؛ في بيرل هاربور، وفي الانتكاسات المبكرة أثناء الحرب الكورية، وفي خليج الخنازير. ودعا راسل إلى الرجوع إلى إشادة الجنرال أيزنهاور بالجنود الهنود، الذين ساهموا في صد روميل في العلمين، وحاربوا في مناطق أخرى من أوروبا وأفريقيا «من أجل إنقاذ السناتور راسل و«عالمه الحر» من تهديد هتلر».
ألقت تعليقات السناتور راسل الضوء على مواضع سوء التفاهم بين الهنود والأمريكيين كما كانت حتى عام 1962 وما بعده . وقد كمن وراء سوء التفاهم ذاك رؤى متباينة للسياسة الخارجية والمصلحة الوطنية، وكذلك بعض التعارض بين ثقافة البلدين؛ فقد كان الشعبان مختلفين في طعامهما وشرابهما وغنائهما وملبسهما وفكرهما. وكما كتب أحد المعجبين من جاكسونفيل إلى السناتور، فإن: «نهرو هذا، القوقازي من الناحية الفعلية، والبعيد كل البعد عن ذلك من الناحية السياسية ... كيف يمكن أن ينشأ «تلاق ذهني» مع رجل يقف على رأسه؟» وكان يشير في ذلك إلى حب جواهر لال نهرو لليوجا، وهو أسلوب علاج كان غريبا تماما على أسلوب الحياة الأمريكي آنذاك.
6
3
أسفرت الهزيمة التي ألحقتها الصين بالهند عن خسارة رئيس الوزراء ماء وجهه إلى حد ما على الساحة الدولية، وكذلك قوضت وضعه محليا؛ إذ تزايدت حدة الانتقادات الموجهة إلى قيادته؛ ففي صيف عام 1963، خسر حزب المؤتمر سلسلة من الانتخابات الفرعية المهمة، مما أسفر عن دخول ثلاثة من كبار رموز المعارضة إلى البرلمان؛ هم: مينو ماساني، وجيه بي كريبالاني، ورامانوهار لوهيا.
في يونيو 1963 عقد نهرو مؤتمرا صحفيا، لأول مرة من أشهر عديدة. دام المؤتمر تسعين دقيقة وتميز بغضب رئيس الوزراء الموجه إلى الصينيين؛ فقد تحدث عن «فيض الأكاذيب الشرير الذي يصدر عن بكين» وعن «سجلهم المتميز في المهاترة». وفي شرح نهرو للحرب وهزيمة الهند، زعم أن «الصين دولة ذات عقلية عسكرية، دائما ما تشدد على الطرق العسكرية والتأهب العسكري ... فمنذ بداية حكم النظام القائم فيها الآن، ركز على تقوية الجهاز العسكري. إنه في الواقع استئناف للحروب الأهلية الماضية. ومن ثم فالصين قوية بطبيعة الحال».
7
وقال نهرو أيضا إن الصينيين بهجومهم على شخصه «يشتركون في ذلك مع بعض زعماء المعارضة لدينا هنا». ثم أضاف دون داع: «أما زعماء المعارضة لدينا، فهم معتادون على الاتحاد مع أي جهة وكل جهة بصرف النظر عن المبادئ، وقد يأتي وقت يتحد فيه بعضهم مع الصينيين تحقيقا لأغراضهم.» وسرعان ما اتحد زعماء المعارضة رسميا لطرح اقتراح «سحب الثقة» في البرلمان، وهو تصرف جريء ما كان يمكن تصوره في أي وقت خلال الفترة ما بين أغسطس 1947 ونوفمبر 1962. كان عدد أعضاء حزب المؤتمر يتيح لهم الغلبة في التصويت بسهولة، ولكن النقاش دام أربعة أيام، عرضت خلالها سلسلة من النقاط الدالة ضد رئيس الوزراء وحزبه وحكومته.
8
أثارت الانتقادات داخل البرلمان وخارجه إعادة تفكير جادة بين قيادات حزب المؤتمر؛ فقضاء خمسة عشر عاما في السلطة كان قد أورث الحزب حالة من التراخي، والانفصال عن الواقع إلى حد ما ، كما ثبت في هزائم الانتخابات الفرعية وتنامي قوة الأحزاب الإقليمية من قبيل حزب درافيدا مونيترا كازاجام؛ فرئيس وزراء مدراس - كيه كامراج - كان هو نفسه أكثر من تعرض لتهديد خطير من جانب ذلك الحزب. وبغية تحجيم هذا الحزب واجتثاث آثار التحلل داخل حزب المؤتمر، أوصى كامراج بترك كبار وزراء حزب المؤتمر مناصبهم للمساعدة على تجديد دماء الحزب. وسيرا على «خطة كامراج»، استقال ستة من رؤساء وزراء الولايات من مناصبهم بغية العمل لصالح الحزب، منهم: باكشي غلام محمد رئيس وزراء كشمير وكامراج نفسه. وكذلك فقد استقال ستة من كبار وزراء الاتحاد، منهم: جاجيفان رام ومورارجي ديساي ولال بهادور شاستري.
9
بقي رئيس الوزراء في منصبه، ولكنه أصبح واهنا على نحو ملحوظ، جسديا وكذلك ذهنيا؛ ففي سبتمبر 1963، شاهد النائب البرلماني الاشتراكي إتش في كامات نهرو وهو يذهب ليجلس في مقعده: «رجلا عجوزا، يبدو ضعيفا متعبا، منحنيا بوضوح في مشيته، نازلا الممشى المقابل بخطوات بطيئة مرتعشة، مستندا إلى ظهور المقاعد في نزوله.» عاد كامات بمخيلته إلى مشاهده السابقة لرجل كان يجله يوما؛ إلى إحدى جلسات حزب المؤتمر في مدراس، حيث وقف نهرو «متدفق النشاط، رشيقا، منتصب القامة»، وإلى منزله في الله أباد، حيث كان نهرو «يرتقي درجات السلم اثنين اثنين، وأنا أقلده، لاحقا إياه إلى أعلى».
10
في حين أن الهنود ما كان يمكن أن يتناولوا أمر وفاة نهرو على الملأ، لم يكن لدى المشاهدين الغربيين مثل ذلك التحرج؛ ففي عام 1963، نشر الصحفي الأمريكي ولز هانجن كتابا بعنوان «من بعد نهرو؟» ذكر ثمانية خلفاء محتملين، أفرد لكل منهم فصلا قائما بذاته. خمسة منهم كانوا من أعضاء حزب المؤتمر، وهم: مورارجي ديساي، وفي كيه كريشنا مينون، وواي بي تشافان، ولال بهادور شاستري، وإس كيه باتيل. كان المرشح السادس إحدى نساء حزب المؤتمر، وهي: إنديرا غاندي. والمرشح السابع كان جايا براكاش نارايان، المصلح الاجتماعي الذي كان رجلا ثوريا اشتراكيا لبعض الوقت. أما المرشح الأخير على القائمة فكان جنرالا في الجيش وهو بي إم كاول.
11
لم يكن السؤال المطروح آنذاك هو «من بعد نهرو؟» فحسب، وإنما كذلك «ماذا بعد نهرو؟» فبعيد نشر كتاب هانجن، قضى مراسل للصحيفة اللندنية «صنداي تايمز» أسابيع عدة متنقلا في أنحاء الهند؛ فقابل رئيس الوزراء، ووجد أن «نهرو العجوز تدهورت حالته الصحية بسرعة كبيرة في الآونة الأخيرة». كان وهن الرجل انعكاسا لوهن بلده؛ فعلى النقيض من «طموح الصين الشابة الجامحة القوي والعصي على الإدراك»، كانت الهند أرض «فقر لا يوصف» و«حكومة معدومة الإرادة». فما الذي يمكن أن يحدث بعد وفاة نهرو؟ فكر المراسل أن المعركة «ستكون بين الشيوعيين والجيل الجديد من الأفاقين السياسيين الناشئين في الولايات». واللاعب الثالث كان هو الجيش؛ فحتى ذلك الوقت، ظل جنرالات الجيش بمنأى عن السياسة، ولكن «هل سيقفون مكتوفي الأيدي بينما تسقط الهند في بئر الفوضى أو تجتاحها الشيوعية؟» كانت تلك هي آفاق المستقبل. وفي ذلك الوقت، «كان يجب على العالم الحر أن يعتاد على فكرة افتقار عضوه الأكثر تعدادا إلى قيادة متماسكة، بحيث يبتلع المعونة والأسلحة دون أثر يذكر، فيكون لقمة سائغة في فم العقليات المفترسة، وإدانة لوسيلة الترقي الحرة الديمقراطية في أعين الأفارقة والآسيويين، حيث الحاجة ماسة إلى وجود سلطة ناضجة».
12
تؤكد الصور الفوتوغرافية الملتقطة في تلك الفترة أن حالة نهرو البدنية كانت في تدهور: بكتفيه المتدليتين، والنظرة المتعبة - بل الخاوية - البادية على وجهه، والبروز غير المألوف حول خصره. وفي الأسبوع الأول من سبتمبر 1963، كتبت إنديرا غاندي إلى صديقة لها أنه صار يلزم أخذ قراءات أسبوعية لضغط دم والدها ووزنه وبوله. وكتبت قائلة: «الضغط البدني والذهني والعصبي هائل، ومن المحتم أن يبدو عليه الإرهاق. الدواء الوحيد الذي يمكن أن يساعده هو الراحة والاسترخاء.»
13
وبالطبع لم ينل أيا منهما؛ فقد كان لا يزال عليه الاضطلاع بمهام رئيس الوزراء ووزير الخارجية، والمساهمة ولو بقدر ضئيل في إعادة إحياء حزب المؤتمر. وبصفته الوجه الوحيد المعروف في الحزب والحكومة، ظل نهرو يعمل وفق جدول عمل منهك، ويقطع الهند من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها ليخطب في المؤتمرات الشعبية، ويفتتح المدارس والمستشفيات ، ويتحدث إلى موظفي الحزب؛ ففي ديسمبر 1963 - على سبيل المثال - اضطر إلى زيارة مدراس ومادوراي وتشانديجار وكلكتا وبيهار وبومباي (مرتين).
14
أما المكان الذي كان من الممكن أن يزوره رئيس الوزراء لكنه آثر ألا يزوره، فهو ناجالاند؛ فقد نشأت ولاية بذلك الاسم أخيرا يوم 1 ديسمبر من عام 1963. في ظروف أخرى كان نهرو سيحرص على افتتاحها بنفسه. ولكن الرحلة إلى كوهيما كانت طويلة وشاقة، وربما يكون تذكر أيضا الاستقبال العدائي الذي لاقاه هناك عام 1953. ومن ثم فقد حظي رئيس الجمهورية الجديد - سارفبالي رادها كريشنان - بذلك الشرف. إلا أن رئيس الوزراء الجديد للولاية وزملاءه الوزراء اعتبروا «خونة» من جانب الحركات السرية، التي ظلت باسطة نفوذها على أجزاء كبيرة من الولاية.
15
وفي يناير 1964، سافر نهرو عبر البلاد مرة أخرى، لحضور الاجتماع السنوي لحزب المؤتمر، الذي عقد ذلك العام في عاصمة أوريسا، ببوبانيشوار؛ فانهار على المنصة وساعده بعض الحضور على الوقوف على قدميه ثم رجعوا به بسرعة إلى دلهي، حيث شخص بسكتة دماغية خفيفة في الجانب الأيسر. وجاء في أحد عناوين الصحف الرئيسية أن: «سحابة من الكآبة خيمت على اجتماع بوبانيشوار إثر مرض السيد نهرو.»
16
4
أضعفت الحرب مع الصين موقف نهرو ليس في الهند أو في العالم فحسب، وإنما داخل حزب المؤتمر نفسه أيضا؛ فقد تحولت بؤرة صنع القرار من منزل رئيس الوزراء إلى الجناح البرلماني لحزب المؤتمر. ولم يعد بإمكان نهرو إقناع الحزب بتنفيذ أوامره لا في كبائر الأمور ولا صغائرها؛
17
فعلى سبيل المثال، لم يكن نهرو مرحبا بخطة كامراج؛ على أساس أنها من شأنها أن تستنزف الخبرات والمواهب من حكومته.
وبعد مرض نهرو، استطاع إقناع الحزب بإعادة لال بهادور شاستري إلى مجلس الوزراء. كان شاستري يحمل رسميا لقب وزير بلا وزارة، ولكنه في الواقع كان نائب رئيس الوزراء الفعلي. كان الاثنان يتحدثان بلغة واحدة وينتميان إلى ولاية واحدة وجمعهما تاريخ واحد في السجون ذاتها نحو الأوقات ذاتها؛ فكان نهرو يثق بشاستري ويحبه، بشخصيته الهادئة البسيطة شديدة التناقض مع شخصية نهرو نفسه.
كانت أول مهمة يعهد بها إلى شاستري متعلقة بولاية جامو وكشمير؛ ففي 27 ديسمبر 1963، اشتعل فتيل أزمة بسبب سرقة أثر مقدس - شعرة من شعر النبي محمد - من مسجد حضرة بال في سريناجار. وبعد أسبوع من اختفائها، ظهرت في المسجد مرة أخرى في ظروف غامضة. لم يكن أحد يعلم كيف رجعت، مثلما لم يعرف أحد كيف اختفت من الأصل. ولم يكن أحد يعلم إن كان الأثر الموجود آنذاك أصليا أم مزيفا.
طوال شهر يناير قامت احتجاجات وتظاهرات في الوادي، وترددت أصداؤها في أرجاء العالم الإسلامي؛ ففي باكستان الشرقية البعيدة حدثت أعمال شغب دينية استهدفت الأقلية الهندوسية، التي فر مئات الآلاف منها إلى الهند. ومن ثم لاح خطر وقوع أعمال شغب مقابلة ضد المسلمين في الهند ذاتها.
في الأسبوع الأخير من يناير، أرسل نهرو لال بهادور شاستري إلى كشمير. وبعد أن تحدث إلى المسئولين وتشاور مع الساسة المحليين، قرر شاستري تنظيم جلسة «رؤية» خاصة للتأكد من أصالة الأثر المرتد. وتشكلت لجنة من كبار رجال الدين لرؤية الأثر؛ فتجمعوا يوم 3 فبراير لذلك الغرض، وقرروا أنه أصلي، مما أورث الجميع ارتياحا ملموسا. عاد الهدوء إلى الوادي. وبغية استدامة السلام، عينت الحكومة الهندية في منصب رئيس وزراء الولاية جي إم صديق، السياسي المعروف بتوجهاته اليسارية ولكن أيضا بنزاهته.
18
مرة أخرى أكدت حادثة حضرة بال على حقيقة أن وقوع المتاعب في كشمير يخلف تداعيات في شبه القارة الهندية قاطبة. وبعد الفشل الذي شهده نهرو مع الصين أصبح أكثر تنبها لضرورة السعي وراء حل نهائي للنزاع على كشمير؛ فالهند لم يكن بإمكانها تحمل جبهتين عدائيتين. ولقي نهرو تشجيعا في أسلوب تفكيره ذاك من جانب صديقه القديم اللورد ماونتباتن؛ ففي أبريل 1963، قال ماونتباتن لنهرو: «لو كان مجده جلب الثناء للهند ذات يوم» حول العالم، فإن بلده، وهو نفسه الآن، أصبحت «صورتهما مشوهة»، بسبب الفشل في حل مسألة كشمير بالأساس. وكان ماونتباتن يشعر أن هذا الوضع يمكن «تصحيحه» بقيام «الهند ببادرة بطولية»، من قبيل «منح وادي كشمير الاستقلال بصرف النظر عن موقف باكستان ».
19
والحقيقة أن عامي 1962 و1963 شهدا عدة جولات من المحادثات مع باكستان بشأن القضايا التي اختلف عليها البلدان؛ مثل حكومة الهند فيها السياسي المخضرم السردار سواران سينج، بينما مثل باكستان الشاب الطموح ذو الفقار علي بوتو. ولم يمثل أحد كشمير في تلك المحادثات. ولكن مثلما ثبت في واقعة حضرة بال، فإنه لم يكن من الحصيف أن تهمل مشاعر الأشخاص المعنيين بالنزاع بالأساس. ومن خير من الشيخ عبد الله يمكن أن يعبر عن نبضهم؟! بحلول نهاية عام 1963، كان نهرو يفكر بالفعل في إطلاق سراح الشيخ، الذي قضى عشرة أعوام في السجن حتى ذلك الحين؛ فالسكتة الدماغية التي أصابت نهرو في بوبانيشوار، وما أثارته في نفسه من إشارات الموت دفعته إلى المضي بتفكيره قدما في هذا الصدد؛ فلم لا يطلق سراح عبد الله ويحاول حل مشكلة كشمير للمرة الأخيرة قبل رحيله عن العالم؟
5
قد نذكر أن الحكومة الهندية قبضت على الشيخ عبد الله في أغسطس 1953. لم توجه إليه اتهامات، وأطلق سراحه فجأة في يناير 1958؛ فاتجه إلى وادي كشمير، حيث لقي استقبالا مهيبا. خطب في مؤتمرات شعبية في سريناجار أمام جماهير عريضة، منها مؤتمر عقد في مسجد حضرة بال. ويبدو أن ذلك أزعج أعداءه في الإدارة؛ فقرب نهاية شهر أبريل قبض عليه مرة أخرى. وفي تلك المرة أرسل إلى السجن في جامو واتهم بالتآمر مع باكستان لتفكيك الهند. وكان من بين التهم الموجهة إليه تهمة محاولة «تيسير ضم باكستان أراضي الولاية عن غير حق، وبث الأحقاد الطائفية والتنافر بين الطوائف في الولاية وتلقي معونة سرية من باكستان في صورة أموال وقنابل، وما إلى ذلك».
20
وإذا تحدثنا بصراحة، فقد كانت تلك التهم ملفقة؛ فعلى الرغم من أن الشيخ كانت تراوده فكرة الاستقلال، فإنه لم يرغب في الانضمام إلى باكستان قط. وعلى الرغم من أن فكرة كونه حاكم كشمير الحرة راقت له، فقد اعتبر سكان الولاية كلهم رعاياه، بصرف النظر عن ديانتهم. وكما أقر حتى خصومه السياسيون، فإنه لم يكن يحوي بداخله ذرة طائفية.
تحدث الشيخ عبد الله في محاكمته قائلا إنه متمسك بهدف واحد فقط، وهو: حق تقرير المصير لشعب جامو وكشمير، الذي أصر أنه «ليس قطيعا من الأغنام والماعز يساق بالقوة يمنة ويسرة». ورغم ذلك، فقد كرر تأكيده على التزامه بالعلمانية وإعجابه بالمهاتما غاندي، وصداقته التي كانت قوية يوما بجواهر لال نهرو. وقال مذكرا إن نهرو نفسه أقر بأن «شعب الولاية هو سيد مصيره في النهاية»، وأضاف إضافة ذات مغزى قائلا: «لا أظنه - حتى في هذه اللحظة - ينكر علينا ذلك الحق.»
21
بعد شهرين من اعتقال الشيخ أول مرة - عام 1953 - كتب نهرو أن «مجرد فكرة احتجازه تسبب لي بالطبع ضيقا شديدا».
22
ثم تحولت الشهور إلى سنين، ليزداد إحساسه بالذنب عمقا. وكانت إحدى الطرق التي وجه فيها هذا الشعور هو إبداء اهتمام وثيق بتعليم أبناء صديقه (الذي قيل إنه ساعد حتى في تحمل نفقاته). وفي يوليو 1955، قام ابن عبد الله الأكبر - فاروق، الذي كان طالبا آنذاك في كلية طب بجايبور - بزيارة نهرو؛ فأخبر فاروق رئيس الوزراء أن زملاءه في الفصل كانوا ينعتون أباه «بالخائن» بصفة مستمرة، وهو ما دفع نهرو إلى أن يكتب إلى أحد وزراء حكومة ولاية راجستان؛ ليطلب منه التأكد من أن يوفر للصبي «سكن لائق وصحبة ودودة»، حتى لا تصيبه أي «عقد نفسية أو شيء من هذا القبيل». وعلى حد تعبير نهرو: «بعض الناس يتخيلون عن حماقة أنه نظرا لاختلافنا مع الشيخ عبد الله، فإننا لا ننظر بعين العطف إلى ابنه وأسرته. قطعا هذا ليس سخفا محضا فحسب وإنما هو أيضا عكس شعورنا تماما. أنا شخصيا - نظرا لوجود الشيخ عبد الله في السجن - أشعر بمسئولية خاصة نوعا ما عن محاولة مساعدة أبنائه وأسرته.»
23
بحلول عام 1964 كان الشيخ عبد الله قد أمضى الجانب الأكبر من العقد السابق في السجن. وإذ أيقظت الحرب مع الصين نهرو، ووضعته في حالة التأهب القصوى بشأن صحته المتدهورة، قرر أن يضع حدا لتلك المسألة؛ فتحدث إلى رئيس وزراء ولاية جامو وكشمير، وبعد نيل موافقته، قرر إطلاق سراح الشيخ عبد الله . ونقل ذلك الخبر إلى العالم على لسان لال بهادور شاستري، كاتم أسرار نهرو؛ فقال شاستري إن احتجاز عبد الله كان «من دواعي ألم الحكومة، ولا سيما رئيس الوزراء».
24
صبيحة يوم 8 أبريل، خرج الشيخ عبد الله من سجن جامو، ليصبح حرا مرة أخرى. فاستقل سيارة مكشوفة طاف بها شوارع البلدة، متلقيا أطواق وباقات الزهور. وفي اليوم التالي ألقى أول خطاب له على الملأ؛ فوفقا لما ورد عن إحدى الصحف، «قال الشيخ عبد الله: إن المشكلتين الملحتين اللتين تواجهان شبه القارة الهندية - أي، القلاقل الطائفية وكشمير - ينبغي حلهما في حياة رئيس الوزراء نهرو. ووصف نهرو بأنه آخر الرجال البواسل الذين تعاونوا مع السيد غاندي وقال إن التوصل إلى حل لهاتين المشكلتين سيكون صعبا بعده.»
كان نهرو قد دعا عبد الله للبقاء معه في نيودلهي؛ فقال الشيخ إنه سيذهب أولا إلى الوادي، ليتشاور مع أصدقائه وأعوانه، ثم يذهب للقاء رئيس الوزراء بعد احتفالات العيد (الموافق يوم 23 أبريل). ويوم 11 أبريل انطلق بسيارة إلى سريناجار، في رحلة كانت تستغرق بضع ساعات في المعتاد. ولكن الشيخ مضى في رحلته على مهل، وتوقف في البلدات والقرى التي قابلته على الطريق. وأينما توقف كان يخطب في الناس أيضا. حضر آلاف الناس لرؤيته والاستماع إليه، قاطعين أميالا من قراهم الصغيرة النائية. وفي تلك التجمعات، كان النساء يفقن الرجال عددا.
وصف عبد الله ولايته في خطبه بالعروس الأثيرة لدى زوجين - الهند وباكستان - اللذين لم «يبال أي منهما بتبين ما يرغب به الكشميريون». وقال إنه سوف يقابل جواهر لال نهرو بعقلية متفتحة، وطلب إلى الهنود ألا يتخذوا قرارات مسبقة أيضا. وكما ذكر صحفي أجرى حوارا معه، فإن الشيخ لم يبد «مرارة شخصية، ولا ضغينة» - وإنما كان مفعما «بحس قوي بأن لديه رسالة»، ورغبة ملحة في السعي وراء حل لمسألة كشمير. سئل في أحد المؤتمرات عن شعوره الحالي تجاه نهرو؛ فأجاب عبد الله بأنه لا يحمل له ضغينة، لأن «سوء التفاهم يحدث حتى فيما بين الأشقاء. لن أنسى المحبة التي أغدقها علي السيد نهرو في الماضي ... سأقابله كصديق ورفيق قديم».
في يوم 18 أبريل، بعد أسبوع من ترك الشيخ عبد الله جامو، استقل سيارة جيب مكشوفة من أنانتنج إلى سريناجار عاصمة كشمير. وعلى طول الطريق البالغ ثلاثين ميلا اصطفت «حشود من الناس في حالة شبه هستيرية» بلغ عددهم حوالي 500 ألف شخص. وفرش الطريق بزهور الأقحوان والزنبق المقطوفة لتوها، وزين بالأقواس والرايات الملونة. وعندما دخل البلدة أخيرا «تزاحم أهالي سريناجار كلهم في الشوارع المتشابكة التي كانت من فرط زينتها لا تنفذ أشعة الشمس حتى من بين الحرائر والبسط والشيلان الكشميرية المعلقة كالغصون المتشابكة».
وفي ذلك الوقت، في دلهي، أثارت المحادثات المرتقبة بين نهرو وعبد الله انزعاج كثير من أعضاء حزب المؤتمر الحاكم. وأدلى كبار الوزراء بتصريحات أصروا فيها على أن قضية كشمير «أغلقت»، وأنها كانت - وستظل - جزءا لا يتجزأ من الهند. أما أعضاء حزب جانا سانج فكانوا أكثر شراسة؛ فقد ندد الأمين العام للحزب - دين ديال أوباديايا - بخطب الشيخ عبد الله الأخيرة، التي بدا فيها وكأنه «يشكك حتى في الحقائق المسلم بها في قضية كشمير» (مثل انضمامها النهائي إلى الهند). وقال أوباديايا متبرما: «عوضا عن الوصول بوضع الولاية السياسي إلى حالة من الاستقرار، حاول الشيخ عبد الله زعزعة استقرار كل قضية.»
كانت معارضة اليمين الهندوسي متوقعة. إلا أن ما كان مفاجئا في الواقع كان إبداء اليسار تشككا في عبد الله ونواياه؛ فقد ظن الحزب الشيوعي أن عبد الله معرض لخطر الوقوع في «فخ إمبريالي» نصب بهدف فصل كشمير عن الهند؛ فيبدو أنه في إطار المؤسسة السياسية، كان ذهن نهرو هو وحده الذي ظل متفتحا . إلا أنه تلقى مساندة غير متوقعة من جانب رجلين هنديين عملا مع المهاتما غاندي هما أيضا. الأول كان جايا براكاش نارايان، المشهور بالأحرف الأولى من اسمه: جيه بي، الاشتراكي الراديكالي السابق الذي كان من الأعلام البارزين لحركة سارفودايا طوال العقد السابق. كان جيه بي صديقا قديما للشيخ، كما أنه كان يجاهر بتأييد تحسين العلاقات مع باكستان؛ ففي عام 1962، أنشأ مجموعة الوفاق الهندي الباكستاني، التي تضمنت مساعيها إيجاد حل «منصف وشريف» لنزاع كشمير.
25
وإذ رحب جيه بي بإطلاق سراح الشيخ عبد الله في مقال موقع بصحيفة «هندوستان تايمز»، ندد بالتلميحات الواردة ضد الشيخ عبد الله من جانب السياسيين داخل حزب المؤتمر وخارجه، الذين هددوا بأنه سيودع السجن مجددا إذا «تمادى» فيما يفعله؛ فعلق جيه بي على كلامهم بحدة قائلا: «ما أعجب رؤية من كانوا يحاربون من أجل الحرية بالأمس وقد بدءوا يقلدون لغة الإمبرياليين بكل سهولة.»
كان ما أزعج السياسيين في دلهي هو حديث الشيخ عن التحقق من رغبات الشعب الكشميري مرة أخرى. كان جيه بي يرى ذلك الحديث منطقيا إلى حد بعيد؛ فانتخابات عامي 1957 و1962 كانت أبعد ما تكون عن الحرية والنزاهة. وعلى أي حال، فإذا كانت الهند «واثقة تمام الثقة من قرار الناس، فلم كل تلك المعارضة من جانبنا لإعطائهم فرصة تأكيد ذلك القرار؟!» كان الوصول إلى تسوية مرضية لمسألة كشمير من شأنه أن يحدث تحسنا هائلا في العلاقات بين الهند وباكستان؛ فكان جيه بي يأمل أن يبدي زعماء الهند «الرؤية والحنكة السياسية اللتين تتطلبهما هذه اللحظة التاريخية». وأضاف: «من حسن الحظ أن صوت العقل الوحيد في الحزب الحاكم هو صوت رئيس الوزراء نفسه.»
26
أما الأكثر مفاجأة فكان الدعم الذي تلقاه نهرو من سي راجا جوبالاتشاري («راجا جي»)، رجل الدولة البارع الذي كان يوما رفيقا حميما لرئيس الوزراء قبل أن يتحول إلى خصمه السياسي في الآونة الأخيرة. كان راجا جي، بصفته مؤسس حزب سواتنترا، قد انتقد سياسات رئيس الوزراء الاقتصادية بشراسة، وكانت انتقاداته في بعض الأحيان مشوبة بصبغة شخصية حادة. إلا أنه فاجأ أتباعه بتأييده القوي لمبادرة نهرو المتمثلة في إطلاق سراح عبد الله. وعلى غرار جيه بي، أدان هو أيضا التهديدات بإعادة الشيخ إلى السجن، ومن ثم «إجباره على السكوت والخضوع». ولحسن الحظ، «ربما كان رئيس الوزراء مريضا ولكنه كان محتفظا باتزانه، ورفض على ما يبدو أن يتخذ أي خطوة حمقاء يحط بها من قدر الهند».
وقال راجا جي إن إطلاق سراح عبد الله ينبغي أن يكون توطئة للسماح «لشعب كشمير بممارسة حقه الإنساني في حكم نفسه على أفضل نحو ممكن له». بل إن فض الاشتباك على كشمير من شأنه أن يمهد الطريق أمام حل أكبر للنزاع القائم بين الهند وباكستان. لذا، كتب راجا جي عن ضرورة:
محاولة التفكير في جوهر الأزمة الحالية؛ فهل يجدر بنا الرضوخ للمشاعر المتعصبة للجماعات المناهضة لباكستان لدينا؟ هل يبقى أي أمل للهند أو باكستان، إذا استمرت كراهية أحدنا للآخر وشك أحدنا في الآخر والاقتراض من أجل تسليح كل منا نفسه ضد الآخر؛ بحيث نبني منزلينا، بينما يقف كلانا على رمال المعونة الأجنبية المستمرة في مواجهة مستقبل دام كساحة كوروكشترا؟ من المؤكد أننا سنلقي بأنفسنا إلى التهلكة الأبدية لو بقينا على هذا المنوال ... وسنحول كل آمال الازدهار المستقبلية إلى مجرد سراب، إذا واصلنا سباق التسلح هذا القائم على أحقاد عتيقة والمخاوف والشكوك المنبثقة عنها.
27
6
في ذلك الوقت، كان الشيخ عبد الله في كشمير يتحدث إلى زملائه ورفاقه؛ فاكتشف أنه أثناء الفترة التي قضاها في السجن، حول إلى شريك للجانب الباكستاني. في محاكمة عبد الله، كان الأخير قد أصر على أنه لم يعرب قط عن رغبته في انضمام كشمير إلى باكستان. إما الهند أو الاستقلال؛ كان هذان هما الخياران الوحيدان المقبولان لديه. إلا أن محضر الجلسات لم يبلغ عامة الشعب في الوادي قط؛ فكل ما عرفوه هو أنه يحاكم بتهمة التآمر ضد الدولة الهندية. ألا يجعله ذلك، بالتبعية، صديقا لباكستان؟
تعززت اعتقادات عامة الناس بدعاية حكومة باكشي غلام محمد، التي صورت الشيخ محرضا على إجراء استفتاء شعبي، ومن ثم عدوا للهند. وإضافة إلى ذلك، فإن ممارسات التدليس والفساد التي انخرط فيها نظام باكشي شوهت صورة الهند لدى الكشميريين. ووجد عبد الله أن العناصر الموالية لباكستان أصبحت هي الأغلبية على الأرجح، وهو ما لم يرضه. إلا أنه لتفهمه المزاج العام، عمل على استمالة الناس تدريجيا إلى وجهة نظره؛ فقابل رجل الدين واسع النفوذ مولوي فاروقي، وحثه على دعم التوصل إلى حل «واقعي»، عوضا عن ادعاء أن كشمير ينبغي أن تنضم إلى باكستان تماشيا مع نظرية الدولتين.
28
في يوم 23 أبريل، بعد مرور أسبوعين على إطلاق سراح الشيخ عبد الله، خطب الشيخ في اجتماع للصلاة في سريناجار. وقال فيه إن أي حل لنزاع كشمير لا بد أن يضع في الاعتبار تبعاته المرجحة على 50 مليون مسلم في الهند، و10 ملايين هندوسي في باكستان الشرقية. وبعد مرور ثلاثة أيام، في خطابه الأخير قبل أن يغادر إلى دلهي، حث أهل كشمير على الحفاظ على الوحدة الوطنية ليكونوا بذلك قدوة لكل من الهند وباكستان. وأعلن أنه «لن يرفع مسلم في كشمير يده على الأقليات أبدا».
في يوم 28 أبريل، اليوم السابق على الموعد المقرر لوصول عبد الله في دلهي، قاد حزب جانا سانج مسيرة كبيرة في شوارع العاصمة. وراح المشاركون فيها يهتفون بشعارات مضادة لعبد الله ونهرو، ويطالبون باحتكام حكومة الهند إلى المادة 370 وإعلان كشمير جزءا «أصيلا لا يتجزأ» من الهند. وفي مؤتمر شعبي عقد في اليوم ذاته، طالب إيه بي فجبايي رئيس الوزراء بإخبار عبد الله أن ولاية جامو وكشمير «اندمجت بالفعل في الاتحاد الهندي ولا مجال للنقاش في هذه المسألة».
في يوم 29 أبريل، وصل عبد الله إلى مطار بلام مع نخبة من رفاقه. واستقلت المجموعة سيارة إلى قصر نهرو، حيث كان رئيس الوزراء في انتظار عبد الله. كان تلك أول مرة يلتقي فيها الرجلان منذ سجنت حكومة نهرو الشيخ عبد الله في أغسطس 1953. فكما كتب أحد شهود العيان: «تعانق الرجلان بحرارة. كانا يلتقيان بعد فراق 11 عاما، ولكن أسلوب تحيتهما لم يعكس أي آثار حرج، ولا مرارة، بسبب ما حدث في الفترة التي تخللت اللقاءين.» ووقف الاثنان أمام عدسات مجموعة من المصورين الصحفيين قبل أن يدخلا إلى المنزل.
كانت تلك مصالحة بين زعيم أمة ورجل كان ينظر إليه حتى وقت قريب على أنه خائن. وسبقت تلك المصالحة - بنحو ثلاثين عاما - مصالحة لا تقل عنها روعة بين رئيس جنوب أفريقيا وسجينه السياسي واسع الشهرة . ولكن إف دبليو دي كليرك لم يصل إلى حد دعوة نيلسون مانديلا للإقامة في قصره.
في تلك الزيارة، قضى عبد الله خمسة أيام مع نهرو في قصر تين مورتي، كانا يلتقيان خلالها على الأقل مرة أو مرتين يوميا، عادة دون مساعديهما. وفي أوقات انشغال رئيس الوزراء عنه، استطلع الشيخ عبد الله آراء طائفة واسعة من الهنود؛ فتحدث إلى وزراء من حزب المؤتمر، وإلى زعماء المعارضة، وإلى شخصيات بارزة من خارج الساحة السياسية، مثل: جايا براكاش نارايان. ووضع طوقا من الزهور على قبر غاندي في راج جات، وخطب في اجتماع للصلاة بمسجد دلهي الأكبر، المسجد الجامع.
لم يرق تحدث نهرو إلى عبد الله لحزب جانا سانج. ومن الجدير بالذكر أنه أحدث اضطرابا أيضا فيما بين أعضاء مجلس وزراء نهرو، الذين كانوا قلقين من «إعادة فتح» قضية كشمير؛ فبغية استباق ذلك الاحتمال، قال أحد كبار الوزراء للبرلمان: «إن الحفاظ على الوضع الراهن في كشمير من مصلحة شبه القارة الهندية.» وأصدر سبعة وعشرون نائبا برلمانيا من حزب المؤتمر بيانا ينص على الآتي: «لا يمكنك الحديث عن تقرير المصير في حالة كشمير بأكثر مما يمكنك في حالة بومباي أو بيهار مثلا.»
فبدا أن الوحيد بين الأعضاء الكبار داخل حزب نهرو، الذي أبدى تعاطفا مع جهوده كان هو لال بهادور شاستري. إلا أن بعض السياسيين المعارضين استوعبوا أهمية الحديث الجاد مع عبد الله؛ فقد أرسل مينو ماساني زعيم حزب سواتنترا برقية عاجلة إلى راجا جي قال فيها:
أفهم أن نهرو ولال بهادور يحاولان إيجاد حل مع الشيخ عبد الله، لكنهما يواجهان تفكيرا متخبطا داخل حزب المؤتمر إلى جانب جبهة جانا سانج والشيوعيين. إذا كنت ترى أن إرسال برقية أو رسالة منك إلى جواهر لال لتشجيعه على اتخاذ الخطوة الصحيحة وتأكيد دعمك الشخصي سيساعد، فرجاء تدخل في الأمر.
29
آثر راجا جي ألا يكتب إلى نهرو، ربما لفرط كبريائه، أو لخوفه من الصد. ولكنه كتب إلى لال بهادور شاستري، يحثه على منح كشمير نوعا من الحكم الذاتي ؛ فقد كان يرى ما يلي: «منح كشمير حق تقرير المصير في رأينا قضية أقل أهمية من هدف خفض التوتر الهندي الباكستاني.» وظن أن «فكرة أننا إذا «أطلقنا سراح كشمير»، فسنكون بذلك نشجع الانفصال في كل مكان ليس لها أي أساس من الصحة». وكتب راجا جي إلى شاستري قائلا: «آمل أن يسدد القدر خطاكما أنت ونهرو وتستخلصا من هذه الفرصة العظيمة نتيجة محمودة.»
30
أعرب عبد الله بعيد إطلاق سراحه عن رغبته في «أن أقدم تحياتي لراجا جي شخصيا، وأستفيد من نصائحه الناضجة».
31
فبعد محادثاته مع نهرو، مضى جنوبا لمقابلة راجا جي، صديق رئيس الوزراء الذي تحول إلى خصم ثم حليف. كان ينوي التوقف في طريقه عند وارذا، ليسلم على فينوبا بهافي، الزعيم السائر على خطا غاندي؛ فكما قال لأحد الصحفيين مازحا، كان سوف يناقش «الأمور الروحانية» مع فينوبا وأمور «السياسة العملية» مع راجا جي.
في يوم 4 مايو، كتب لال بهادور شاستري إلى راجا جي يحثه على أن «يقترح على الشيخ عدم اتخاذ أي مسار متطرف ... فالشيخ قد خرج لتوه من السجن، وسيكون من مصلحته أن يفكر مليا في الجوانب المختلفة لقضية كشمير وأن يصل إلى حكم بعد التأمل والتفكر في المسألة على نحو واف وناضج؛ فسيكون أمرا مؤسفا للغاية أن تتم الأمور في عجالة أو تسرع».
32
أرسلت تلك الرسالة بالبريد الجوي، ولكننا لا نعلم إن كانت بلغت مدراس قبل يوم 5 مايو، عندما التقى عبد الله راجا جي أخيرا. دام حديثهما ثلاث ساعات ونصف الساعة، واحتل لقاؤهما عنوانا رئيسيا في الصفحة الأولى من صحيفة «هندوستان تايمز»، جاء فيه: «عبد الله وسي راجا يطوران الصيغة الكشميرية: طرح مقترح للنقاش مع رئيس الوزراء.» لم يدل راجا جي بأي كلمة للصحافة، لكن عبد الله كان أكثر ميلا إلى الحديث بدرجة طفيفة؛ فقال إن حديثه إلى العجوز الحكيم «ساعد على تصفية ذهنه بشأن ما يمكن أن يكون الحل الأمثل الذي من شأنه أن يستأصل هذا السرطان من الجسد السياسي للهند وباكستان». وعند الإلحاح عليه لتقديم بعض التفاصيل، قال إن عليه انتظار مزيد من المحادثات مع رئيس الوزراء. إلا أنه صرح بأنه توصل بالتعاون مع راجا جي إلى «حل مشرف لن يشعر أيا من الجانبين الهندي والباكستاني بالنصر، وفي الوقت نفسه يكفل مكانة كريمة لشعب كشمير».
بينما كان عبد الله في مدراس نمى إلى علمه أن الرئيس أيوب خان دعاه لزيارة باكستان؛ فعند عودته إلى دلهي يوم 6 مايو، ذهب إلى قصر تين مورتي من فوره. وقضى هناك تسعين دقيقة مع نهرو، أطلعه خلالها على ما أشير إليه - على نحو يتسم بالغموض إلى حد ما - باسم «صيغة راجا جي». بعد ذلك وجه رئيس الوزراء عبد الله إلى لجنة غير رسمية من المستشارين تألفت من سكرتير الخارجية الهندية واي دي جوندفيا، والمفوض السامي لباكستان جي بارتاساراتي، ونائب رئيس جامعة عليكرة الإسلامية بدر الدين طيابجي.
على مدار يومين طويلين، قتل عبد الله ومستشاري رئيس الوزراء قضية كشمير بحثا. وناقشوا شتى أنواع البدائل. تضمنت تلك البدائل: إجراء استفتاء شعبي لولاية جامو وكشمير كاملة مكتملة مثلما كانت قبل عام 1947، والحفاظ على الوضع الراهن، وإجراء تقسيم جديد للولاية؛ بحيث تتبع جامو ومناطق لاداخ الهند، بينما تتبع آزاد كشمير أو شمال كشمير باكستان، ويقام استفتاء شعبي في الوادي وحده لحسم مصيره. وأخبر عبد الله المستشارين أنه يثق في أنه سيكون بإمكانهم أن يضعوا تفاصيل الحل، الذي كان يريد أن: يعزز الصداقة الهندية الباكستانية، ولا يضعف المثل العلمانية للدستور الهندي، ولا يضعف موقف الأقليات في أي من البلدين. وطلب إليهم أن يعطوه أكثر من خيار، يمكنه أخذهن معه إلى باكستان.
استبعدت الشروط التي وضعها الشيخ تقريبا احتمال إقامة استفتاء شعبي، تتسبب نتيجته - أيا كانت - في عدم رضا أحد البلدين ووضع الأقليات على الجانبين في موقف أضعف. وماذا عن صيغة راجا جي؟ الظاهر أن تلك الصيغة تمثلت في تمتع الهند وباكستان بسيادة مشتركة على كشمير، بحيث يكون الدفاع والشئون الخارجية مسئولية مشتركة بين الحكومتين. (كان النموذج الذي استند إليه في تلك الصيغة هو أندورا، تلك المنطقة المحصورة الصغيرة جدا التي يكفل أمنها جارتاها الكبيرتان: فرنسا وإسبانيا.) وتمثل احتمال آخر في تشكيل اتحاد كونفيدرالي بين الهند وباكستان وكشمير.
33
اختير مستشارو نهرو الثلاثة لمقدرتهم ومعرفتهم، ولكن من الجدير بالذكر أيضا لأنهم جاءوا من ثلاثة مذاهب دينية مختلفة، كما أن جميعهم كانوا مسئولين حكوميين. دعونا نذكر هنا بأنه عندما كانت الفرصة سانحة لتسوية النزاع مع الصين، أجبرت النزعة الشوفينية لدى رجال السياسة نهرو على اتخاذ مواقف أكثر تشددا مما كان يمكن أن يفعل لولاهم. والآن وفي إطار السعي وراء الوصول إلى تسوية مع باكستان، سعى نهرو إلى العمل مع مسئوليه، عوضا عن وزرائه. وقد اتضحت حكمة هذا النهج في رسالة من الكاتب والبرلماني بي شيفا راو إلى راجا جي، جاء فيها:
توجد محاولة واضحة من داخل مجلس الوزراء وكذلك من داخل البرلمان لمنع رئيس الوزراء من الوصول إلى اتفاق مع الشيخ عبد الله إذا كان ذلك سوف يعني إعادة فتح مسألة الانضمام. وقد أدلى كثير من أولئك الوزراء ببيانات علنية بينما كانت المباحثات مستمرة بين الطرفين. وإن تجرؤهم على ذلك لعلامة على تضاؤل مكانة رئيس الوزراء ونفوذه.
كان ذلك الحديث مثيرا للاهتمام، وكان الرد عليه أكثر إثارة للاهتمام. فصل ذلك الرد «صيغة راجا جي»، مع عرض معضلة نهرو بحجمها الحقيقي. كتب راجا جي يقول:
إن مطالبة أيوب خان بتقديم التزام مسبق بشأن آزاد كشمير الآن سوف يقضي على الخطة بأسرها؛ فهو لن يقبل ولن يستطيع أن يقدمه؛ فوضعه أسوأ من نهرو من حيث الضغوط الشعبية والقيود العاطفية ... ومن ثم ينبغي لأي خطة ألا تمس بغنائم الحرب ... على الأرجح سيكون أفضل إجراء هو تركيز الشيخ على الوادي مع ترك جامو كثقل موازن لآزاد كشمير، بحيث يفترض اندماجها في الهند دون شك.
هذا الشكل المصغر للمشكلة يكفي - إن حل كما نأمل - لتحسين العلاقة بين الهند وباكستان. ونظرا لصغر حجمه، فإنه سيكون موضعا ملائما لوصاية الأمم المتحدة سواء الجزئية أو الكاملة.
34
على الجانب الهندي، كان أكبر أمل للسلام هو جواهر لال نهرو . ويبدو أن الشيخ عبد الله رأى أن نهرو هو أيضا الأمل الأخير؛ ففي يوم 11 مايو قال الشيخ للصحافة: «لا أقصد الدفاع عن نهرو ولكنه رمز الهند رغم ضعفه. ولا يمكنك أن تجد رجلا مثله.» وأضاف أنه «بعد نهرو لا يمكنه تخيل معالجة شخص آخر لهذه المشكلات بسعة الأفق ذاتها».
ومن جانبه، كان نهرو مستعدا بدرجة كبيرة أيضا لأن يشهد بخلق رفيقه القديم وخصمه لبعض الوقت؛ ففي حديثه أمام لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بومباي يوم 16 مايو، قال رئيس الوزراء إن الشيخ عبد الله متمسك تماما بمبادئ العلمانية، وإنه لا يؤمن أيضا بنظرية الدولتين. وكان هو ونهرو على حد سواء يأملان في «أن تستطيع الهند - دون التخلي عن مبادئها - أن تعيش في سلام وصداقة مع باكستان ومن ثم تضع نهاية لمسألة كشمير بالتبعية». وقال رئيس الوزراء: «لا أستطيع أن أجزم بنجاحنا في ذلك، ولكن من الواضح أننا ما لم ننجح فستتحمل الهند عبء الصراع مع باكستان بكل ما ينطوي عليه من تبعات.»
7
في يوم 20 مايو، عاد الشيخ عبد الله إلى دلهي، للإقامة في قصر تين مورتي ودخول جولة محادثات أخيرة مع نهرو قبل السفر إلى باكستان. وفي مؤتمر صحفي عقد في 22 مايو، رفض نهرو البوح بالتفاصيل، قائلا إنه لا يريد أن يعرض مهمة الشيخ للخطر. ولكنه أشار إلى أن حكومته «مستعدة للوصول إلى اتفاق مع باكستان على أساس احتفاظها بذلك الجزء الذي احتلته من كشمير».
35
أوراق نهرو نفسه في هذا الصدد غير متاحة للباحثين، ولكن ثمة رسالة بعثها إلى سكرتير خارجيته تشير إلى مسار تفكيره في ذلك الوقت ؛ فالظاهر أن رئيس الوزراء طلب إلى الخبراء القانونيين دراسة تبعات تشكيل اتحاد كونفيدرالي بين الهند وباكستان وكشمير، «بصفته حلا محتملا لمتاعبنا الحالية». مثل ذلك الترتيب لا يعني «إلغاء» التقسيم؛ فسوف تظل كل من الهند وباكستان بموجبه دولة منفصلة ذات سيادة، وتكون كشمير جزءا من الاتحاد الكونفيدرالي، حيث يتحدد وضعها الدقيق من خلال الحوار. ربما ينشأ اتحاد جمركي بين الوحدات الثلاث، وإحدى صور التكامل المالي، وأحكام خاصة لحماية الأقليات.
36
وبغية الإبقاء على استمرار ذلك النقاش، كانت الهند مستعدة للإقرار بسيطرة باكستان على آزاد كشمير وجلجيت، وهما الجزءان اللذان خسرتهما الهند من تلك الولاية في حرب 1947-1948؛ فهل تتنازل الهند بدورها عن أي شيء؟ بينما كان عبد الله يتأهب للرحيل إلى روالبندي، كتب مينو ماساني إلى إيه كيه بروهي، الذي كان المفوض السامي الباكستاني في الهند لفترة من الزمن قبل أن يصبح محاميا بارزا في كراتشي، وعضوا معتمدا في المؤسسة الباكستانية يوليه الرئيس أيوب خان آذانا مصغية؛ فقال ماساني لبروهي: «طبيعة الاستجابة التي يمكن للشيخ استثارتها من الرئيس أيوب سيكون لها تأثير حاسم من حيث تعزيز موقف المؤيدين للتآلف الهندي الباكستاني هنا أو إضعاف موقفهم.» فقد قوبلت مبادرة نهرو تجاه باكستان بمعارضة شرسة داخل حزبه وخارجه. وحتى تحرز المبادرة تقدما، ويعقد اجتماع قمة بين رئيس الوزراء نهرو والرئيس أيوب خان، كان «من المهم أن يرجع الشيخ عبد الله بشيء يمكن أن ترتكز عليه أي مباحثات مستقبلية». وحث ماساني بروهي على إعمال نفوذه مع أيوب وغيره من الزعماء، حتى تأتي مباحثاتهم مع عبد الله «بنتائج مثمرة في صالح كلا البلدين».
37
في ذلك الوقت، مضى عبد الله إلى باكستان. كان يأمل في قضاء أسبوعين هناك، بدءا بالعاصمة روالبندي، مرورا بآزاد كشمير، وانتهاء بباكستان الشرقية، حيث كان ينوي - ضمن أمور أخرى - أن يستطلع مشاعر الأقلية الهندوسية. في يوم 24 مايو وصل مدينة روالبندي، ليجد استقبالا صاخبا؛ فقد ركب سيارة مكشوفة من المطار إلى المدينة، واصطف آلاف الباكستانيين مهللين على طول الطريق. وقال أحد المراسلين الصحفيين إن الترحيب الذي لاقاه «فاق الذي ناله السيد تشو إن لاي في فبراير من حيث شدته وعمقه».
38
وفيما بعد، أثناء حديث عبد الله إلى المراسلين، وصف زيارته بأنها «بعثة سلام ذات طبيعة استطلاعية». وناشد الصحافة أن تساعد على تنمية الصداقة بين الهند وباكستان. بالإضافة إلى ذلك، «قال إنه خلص إلى استنتاج مؤكد مفاده أنه لا بد من فض الاشتباك بين القوات المسلحة للبلدين المتواجهين على خط وقف إطلاق النار وأن صرح كشمير السعيدة المزدهرة لا يمكن بناؤه إلا على أساس صداقة دائمة بين الهند وباكستان». وكما في نيودلهي، أكد في كراتشي أيضا على أن أي حل للنزاع يجب ألا يسفر عن شعور بالهزيمة لدى الهند أو باكستان، وألا يضعف العلمانية الهندية أو يقوض مستقبل 60 مليون مسلم فيها، ويجب أن يلبي طموحات الكشميريين أنفسهم.
في اليوم التالي، يوم 25، التقى الشيخ عبد الله بأيوب خان لثلاث ساعات. لم يخض الشيخ في التفاصيل، مكتفيا بقوله إنه وجد في روالبندي «الاستجابة المشجعة ذاتها كما في دلهي. يوجد حرص متساو على الجانبين على الوصول إلى تفاهم حقيقي».
وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، خطب عبد الله في مؤتمر شعبي كبير في روالبندي. وفيه «هلل الحضور أكثر من مرة أثناء خطابه الذي دام ساعتين حذر الهنود والباكستانيين خلالهما صراحة من اقتراف أخطاء تعرض حياة الأقليات في البلدين للخطر». وقال عبد الله إنه آن أوان تسوية الهند وباكستان خلافاتهما، لأنه إذا «استمرت مرحلة التوتر والتشكك وسوء التفاهم الحالية، فسيعاني البلدان وتتعرض حريتهما للخطر».
في يوم 26 مايو التقى عبد الله أيوب خان مجددا، لمدة أربع ساعات هذه المرة، وخرج من الاجتماع مشرق الوجه. وقال في مؤتمر صحفي حاشد إن الرئيس الباكستاني قد وافق على مقابلة رئيس الوزراء نهرو في منتصف يونيو. كان من المزمع عقد الاجتماع في دلهي، ووجود عبد الله في المدينة آنذاك أيضا، جاهزا لتقديم المشورة. وقال الشيخ: «من بين العوامل المهيجة كافة التي تسبب التوتر بين الهند وباكستان، كشمير هي الأهم. وما إن يتم التخلص من ذلك العامل المهيج، فلن يمثل حل المشكلات الأخرى صعوبة كبيرة.»
إلا أنه بحلول ذلك الوقت كان التأثير الآسر للشيخ يتضاءل في أوساط النخبة الباكستانية؛ فقد كتب البوق المعبر عنهم - صحيفة «دون» - أن تصريحات عبد الله «لا سيما إشاراته إلى علمانية الهند المزعومة، أثارت قدرا من الإحباط لدى عامة الشعب في المجمل والنخبة المثقفة على وجه الخصوص». ورأت الصحيفة أن الشيخ «استدرجته العلمانية الهندية الظاهرية، لينسى كما يبدو واضحا المعاملة غير الإنسانية التي لاقاها 60 مليون مسلم في تلك الدولة التي تدعي العلمانية». كذلك كان لدى الصحيفة شكوى أكثر جوهرية، وهي أن عبد الله «تبوأ مقعد رائد السلام والصداقة بين الهند وباكستان، عوضا عن مقعد الزعيم الكشميري، الذي «ينبغي أن يكون هدفه الرئيسي هو السعي وراء تحريرها من أسر الهند».»
39
في يوم 27 مايو مضى عبد الله إلى مظفر أباد، وهي بلدة لم يرها منذ تقسيم كشمير عام 1947. لم يكن لديه فكرة عن رد فعل الكشميريين على هذا الجانب من خط وقف إطلاق النار إزاء مقترحاته. وقبل أن يتسنى له أن يعرف، بلغته أنباء من نيودلهي بأن نهرو قد توفي؛ فعلى الفور «اغرورقت عيناه بالدموع وأجهش بالبكاء». وفي صوت مكتوم قال للصحفيين المتجمعين حوله: «لقد مات. لن أستطيع أن أقابله.» وعندما طلب منه مزيدا من التوضيح، انسحب إلى إحدى الغرف، لينفرد بأحزانه.
ثم استقل عبد الله سيارة إلى روالبندي، وركب أول طائرة إلى دلهي. وعندما وصل إلى تين مورتي ورأى جثمان نهرو «بكى كالأطفال». واستغرق بعض الوقت حتى «يتمالك نفسه ويضع طوق الزهور على جثمان صديقه ورفيقه القديم». وإلى جانب هذا الوصف المقدم من جانب صحفي كان موجودا في الموقع، لا بد أن نضيف شهادة دبلوماسي رافق جثمان نهرو حتى حرقه؛ فبينما كانت النيران تلتهم الجسد لتحيله ترابا نفخ البوق العسكري للمرة الأخيرة؛ «فكان هذا رمزا للرابطة التي لا تنفصم بين الهند وإنجلترا في حياة نهرو». ثم، قبل أن تخمد النيران نهائيا «قفز الشيخ عبد الله على المنصة، وألقى زهورا بين ألسنة اللهب ودموعه تنهمر دون توقف؛ فكان هذا رمزا لرابطة العالم الإسلامي التي لا تنفصم بحياة نهرو ومرثاة لقضية كشمير».
40
8
مما يؤسف له أن الباحثين أغفلوا أحداث أبريل-مايو 1964، ومنهم مدونو سيرة نهرو ومحللو النزاع على كشمير.
41
وقد تناولتها بالنقاش هنا لأنها تلقي ضوءا جديدا على تلك المشكلة المستعصية لأقصى درجة - ذلك «الصداع الممض» كما سماها فالابهاي باتيل؛ هذا «السرطان في الجسد السياسي للهند وباكستان » كما وصفها الشيخ عبد الله - ولأنها تمثل تتمة مؤثرة بصورة خاصة لحياة جواهر لال نهرو وعمله.
يظل السؤال هو: ماذا كان مدى جدية الأطراف الثلاثة في حملة سلام أبريل- مايو 1964؟ الشخص الذي لم يكشف عن خبايا فكره مطلقا - في العلن على الأقل - كان هو المشير أيوب خان؛ فنحن لا نعرف شيئا عما كان يدور بفكره فعلا آنذاك، وإن كان جادا بالفعل بشأن التفاوض على تسوية بشأن كشمير، وإن كان قادرا في تلك الحالة على إقناع شعبه باتفاق مع الهند. في المقابل، كان الشيخ عبد الله صريحا في آرائه؛ إذ أعرب عنها للصحافة وفي مؤتمرات شعبية وخطب لا حصر لها. رأى بعض الناس في كلماته قناعا يخفي وراءه طموحا شخصيا. وكتب أحد المعلقين في مجلة «إكونوميك ويكلي» زاعما أنه «حتى الدراسة السطحية لسلوكه السياسي تقنع القائم بها بأنه مقدم على خطة متشعبة لأبعد حد للفوز بدولة مستقلة عن طريق الاستغلال البارع للأحقاد والأحكام المسبقة - الواعية وغير الواعية - والاشتباكات السياسية للقوة، التي تمثل كلها خلفية العلاقات الهندية الباكستانية».
42
يبدو ذلك الرأي مسرفا في التشاؤم؛ فأقوال عبد الله - وأفعاله بدرجة أكبر - توضح بجلاء التزامه بالعلمانية، واهتمامه بالأقليات في الهند وباكستان على حد سواء. لا شك أنه كان طموحا، ولكن في حين أنه عام 1953 تخيل نفسه ملك كشمير غير المتوج على ما يبدو، فإنه عام 1964 رأى نفسه صانع سلام جليل، والرجل الوحيد القادر على جلب الطمأنينة والازدهار لشبه القارة الفقيرة المنقسمة.
فيما يتعلق بدوافع جواهر لال نهرو فلا ينبغي أن يكون ثمة شك بالمرة؛ فقد كان يشعر بالذنب حيال طول مدة سجن عبد الله، وكان قلقا بشأن مشاعر النفور المستمرة في كشمير، وكذلك مدركا لتكاليف النزاع على كل من الهند وباكستان على المدى البعيد. إذن فالسؤال ليس عن دوافعه، وإنما عن تأثيره؛ فهل كان زملاؤه سيصغون إليه؟ ولو كان توصل بالفعل إلى تسوية مع أيوب خان - بقليل من المساعدة من جانب الشيخ عبد الله - فهل كانت ستحظى بقبول حزب المؤتمر أو البرلمان الهندي؟
من المحتمل أنها لم تكن ستقبل. وحتى لو قبلت، فهل كانت ستنجح على المدى البعيد؟ الخبير القانوني الذي استشاره مكتب نهرو بشأن فكرة الاتحاد الكونفيدرالي أشار في كياسة إلى أنه «على مدار التاريخ، كانت الاتحادات الكونفيدرالية يسيطر عليها عضو واحد أو تتحد تحت ضغط».
43
ومن حيث الحجم الصرف كانت الهند عملاقا بالنسبة إلى باكستان وكشمير؛ فهل كانت ستتصرف مثل أخ أكبر؟ ثمة رسم كاريكاتيري ذو صلة هنا، رسمه راجيندر بوري وظهر في صحيفة «هندوستان تايمز» يوم لقاء عبد الله بأيوب خان. صور الرسم المشير أيوب خان يقف متأملا، واضعا إصبعه على ذقنه، بينما الشيخ يقول له ملوحا بحماس: «هل تخشى محاولة الهند بسط سيطرتها على بندي (روالبندي)؟ يا ولدي العزيز، إن كانت دلهي عاجزة عن بسط سيطرتها على لكنو أو تشنديجار ...»
44
إذن لدينا هنا مجموعة من الأمور التي نعجز عن سبر أغوارها: دوافع أيوب، ومعتقدات عبد الله، وقوة نهرو، وقابلية السيادة المشتركة أو الاتحاد الكونفيدرالي للاستمرار. في النهاية كانت قوة نهرو هي التي خارت، بالمعنى الحرفي للكلمة. وكما ذكرت إحدى الصحف الباكستانية، فقد كانت وفاته تعني «نهاية فكرة التفاوض على تسوية بشأن قضية كشمير». فأيا كان من سيخلف نهرو فلن يتحلى «بالمكانة والشجاعة والدعم السياسي اللازمين للسير عكس التيار الانفعالي الجارف للرأي العام في الهند الذي يفضل الحفاظ على الوضع الراهن في كشمير».
45
الفصل السابع عشر
الأقليات
أولى قواعد اللياقة هي الحفاظ على حرية الآخرين.
فريدريش شيلر
1
عصر يوم 27 مايو 1964، إذ ذاع نبأ وفاة جواهر لال نهرو في أرجاء نيودلهي، كان ممن بلغهم النبأ طالب دراسات عليا أمريكي يدعى جرانفيل أوستن. كان أوستن يعد أطروحة عن عملية وضع الدستور الهندي، ومن ثم كان مهتما أكثر من العادي بالرمز الذي يمثله نهرو؛ فتوجه إلى قصر تين مورتي، لينضم إلى حشد كبير أصلا من الهنود الآتين لتشييع الجثمان. وكما كتب أوستن في دفتر مذكراته في اليوم التالي: «كان الجميع يرغبون في الدخول، ولكنهم كانوا مستعدين للانتظار.» وقف الحشد «في نظام وهدوء»، بينما قاد موظفو رئيس الوزراء الدبلوماسيين والوزراء إلى الداخل. كان من الشخصيات المهمة الحاضرة الدكتور سيد محمود، محارب من أجل الحرية كان زميلا لنهرو في جامعة كامبريدج وفي السجن. ومثله مثل الآخرين، اضطر إلى النزول من سيارته والصعود على أرض الحديقة شديدة الانحدار أمام منزل رئيس الوزراء؛ فرأى أوستن محمود يسير باكيا وهو مستند إلى جاجيفان رام، عضو حزب المؤتمر القديم وعضو مجلس الوزراء، الذي كان ينتمي لطائفة اجتماعية دنيا. كان ذلك حقا «مشهدا يرمز إلى الهند في عهد نهرو: مسلم يسير بمعاونة أحد المنبوذين في طريقه إلى منزل هندوسي من الطوائف الاجتماعية العليا».
1
كان المسلمون والمنبوذون يشكلون ربع تعداد السكان في الهند الحرة. قبل عام 1947، أبدى زعيمان تشككا بالغا في زعم حزب المؤتمر تمثيله الهند كافة. كان أحدهما مسلما؛ هو محمد على جناح، الذي قال إن حزب غاندي ونهرو لا يمثل سوى الهندوس. والآخر كان ينتمي سابقا إلى طائفة المنبوذين؛ وهو بي آر أمبيدكار، الذي أضاف إلى ما سبق تعقيبا رهيبا مفاده أن حزب المؤتمر لا يمثل الهندوس جميعا حتى، وإنما الطوائف الاجتماعية العليا منهم فقط.
قوبل هذان الادعاءان بمقاومة قوية؛ فغاندي نفسه خاض معركة ضد ممارسة النبذ قبل دخول أمبيدكار الساحة السياسية بزمن. وقد ضحى بحياته في سبيل قضية الانسجام بين الهندوس والمسلمين؛ فمن وجهة نظر المهاتما غاندي، لم يكن للحرية معنى إلا إذا أتت للهنود كافة، بصرف النظر عن الطائفة أو العقيدة (أو الجنس).
وكانت تلك التزامات اشترك فيها نهرو مع غاندي. في أمور أخرى، ربما كان تلميذا غير مطيع إلى حد ما؛ فقد قرر بالاتفاق مع زملائه المثقفين قيادة الهند على طريق التحديث الصناعي، عوضا عن تنمية الاقتصاد المرتكز على القرى (كما كانت رغبة غاندي). ولكنه فيما يتعلق بالحفاظ على حقوق الأقليات، وقف جنبا إلى جنب مع المهاتما؛ فقوميته بالمثل كانت مركبة إلى جانب كونها تقوم على المساواة.
فبإلهام من غاندي، وتوجيه من نهرو، ألغى الدستور الهندي ممارسة النبذ وأعلن حيادية الدولة في الأمور الدينية. كان ذلك هو القانون، فماذا عن الممارسة العملية؟ من بين كافة الاختبارات التي واجهتها الدولة الجديدة، ربما كان ذلك هو الأصعب؛ فنظرا لتمثيل الهندوس أغلبية عددية وتصدرهم الساحة السياسية، فلم تكن فكرة الهند لتصمد أمام الدراسة المدققة ما لم يحترموا حقوق الهنود المختلفين عنهم وحرياتهم.
2
كانت فكرة باكستان مبررة بضرورة تحرر الأقليات من الخوف من السيطرة الهندوسية. إلا أنه من قبيل التناقض أن دولة باكستان تشكلت من المناطق ذات الأغلبية المسلمة حيث لم تكن تلك المشكلة قائمة من الأساس.
بعد عام 1947 كان ثمة أعداد كبيرة من المسلمين مبعثرة في جميع أنحاء شبة جزيرة الهند، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ؛ فقد هاجرت عدة ملايين من المسلمين عبر الحدود إلى باكستان الشرقية والغربية، ولكن عددا أكبر منهم بكثير فضل البقاء في الهند. وأدى قيام دولة باكستان إلى إضعاف موقفهم بشدة. من المفارقة أن تلك كانت رؤية رجلين اضطلعا بدورين حيويين في تشكيل باكستان؛ هما: إتش إس سهروردي من العصبة الإسلامية البنغالية ونظيره في المقاطعات الاتحادية، تشودري خليق الزمان. ففي 10 سبتمبر 1947 - بعد أقل من شهر على الاستقلال والتقسيم - كتب سهروردي إلى خليق الزمان، في فزع قائلا: «إن المسلمين في الاتحاد الهندي تركوا بلا شفيع ولا نصير.» كانت المشاعر العدائية الناجمة عن تشكيل دولة باكستان قد تفاقمت بفرار اللاجئين من الهندوس والسيخ إلى الهند؛ فبات سهروردي يخشى من أنه «قد ينشب صراع عام كفيل بسحق الأقلية المسلمة في الاتحاد الهندي». أما عن خليق الزمان، فقد خلص إلى نتيجة حزينة مفادها أن «تقسيم الهند أثبت ضرره القطعي على مسلمي الهند، وعلى المسلمين في كل مكان على المدى البعيد».
وبغية حماية مصالحهم - وحياتهم - صاغ سهروردي «إعلان تعاون ومساعدة مشتركة بين الدومنيونين»، يلزمهما بحماية أقلياتهما وعدم الإدلاء بتصريحات مستفزة من أحدهما في حق الآخر. استطاع سهروردي إقناع غاندي بدعم الإعلان، ولكنه فشل في إقناع جناح بالموافقة عليه، رغم توسله إليه لكي يوافق، «من أجل مسلمي الاتحاد الهندي البائسين الذين لا حول لهم ولا قوة».
2
كما رأينا، أعطى قيام دولة باكستان دفعة للنزعة الطائفية الهندوسية؛ فقد بات في إمكان راشتريا سوايامسيفاك سانج والجماعات المشابهة الدفع بأن المسلمين خونة قسموا الأمة. وفي وجهة نظر الهندوسي المتطرف، كان ينبغي لهؤلاء المسلمين إما الذهاب إلى باكستان أو مواجهة العواقب. نمت قوة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج بعد التقسيم على الفور، وعلى الرغم من أن مقتل غاندي في يناير 1948 أبطأ وتيرة صعودها، فقد ظلت المنظمة تمارس نفوذا لا يستهان به في شمال الهند وغربها.
الحق يقال إن حزب المؤتمر نفسه ضم بين أعضائه شوفينيين؛ رجالا لم يكونوا على اقتناع كامل بأن المسلمين سيكون ولاؤهم للدولة الجديدة. وبعض هؤلاء الشوفينيين كانوا يحتلون مناصب رفيعة؛ فقد حذر محافظ بيهار ملاك مصنع الصلب الضخم في جمشيدبور من أن موظفيه المسلمين سوف يغادرون إلى باكستان، ويدمرون الماكينات قبل رحيلهم. وراجت أقاويل أخرى من هذا القبيل في أنحاء البلدة، ولكن ملاك المصنع ظلوا ثابتين على موقفهم، وأصدروا مذكرة مفادها أنهم لا نية لديهم لفصل موظفيهم المسلمين من العمل ولا لتعزيز الانقسام الطائفي بين العاملين.
3
احتل الشعور العميق بعدم الأمان لدى المسلم الهندي موقع الصدارة في مسح أجراه عالم نفس أمريكي عام 1950. وكان المجيبون على المسح من المسلمين - من بلدات في شمال الهند وغربها - ملاحقين بالخوف والشك. وقال أحدهم: «إنهم ينظرون إلينا على أننا جواسيس باكستانيون.» وقال ثان: «العيش في منطقة هندوسية خطر لأنهم قد يختطفون نساءنا ويغتصبونهن.» وقال ثالث: «الهندوس يفرضون أسعار السوق السوداء الباهظة للبضائع التي يبيعونها للمسلمين.»
4
3
كان من الأشخاص الذين لم يثقوا تماما في المسلمين فالابهاي باتيل، وزير داخلية الهند؛ فباتيل لم ينس أن أغلبية المسلمين صوتوا للعصبة الإسلامية عام 1946، حتى في المناطق التي لم تشكل فيما بعد جزءا من باكستان. وبعد قيام الدولتين ظل باتيل متشككا في المسلمين الذين قرروا البقاء في الهند. وفي خطاب ألقاه في لكنو بأوتر براديش في مطلع يناير عام 1948، ذكر جمهوره بأن «أساس نظرية الدولتين أرسي» هناك؛ فقد كان مثقفو أوتر براديش هم من ادعوا أن «المسلمين أمة منفصلة». وبالنسبة إلى من فضلوا عدم الذهاب إلى باكستان، فلم يكن كافيا أن يعطوا «مجرد إعلان بالولاء للاتحاد الهندي»، وإنما «يجب عليهم تقديم «دليل عملي» على إعلانهم».
5
وفي وقت لاحق من هذا العام، كتب سكرتير وزارة الداخلية التي يرأسها باتيل إلى نظرائه في الوزارات الأخرى كافة، لافتا انتباههم:
إلى أن أحد الجوانب الأمنية الذي اكتسب إلحاحا وأهمية في ظل السياق الحالي للعلاقات مع باكستان؛ فثمة أدلة متزايدة على أن قطاعا من المسلمين في الهند غير متعاطف مع حكومة الهند، لا سيما بسبب سياستها تجاه كشمير وحيدر أباد، ويبدي تعاطفا نشطا مع باكستان. من المرجح أن يمثل موظفو الخدمة المدنية من ذلك القبيل قنوات مفيدة للمعلومات، وسيكونون عرضة لتأثير أقربائهم بصفة خاصة.
من المرجح أن بعض موظفي الحكومة من المسلمين يندرج تحت تلك الفئات. ومن البديهي أنهم يمثلون عنصرا خطرا في نسيج الإدارة، ومن الضروري ألا يعهد إليهم بأي عمل سري ولا أن يسمح لهم بتبوؤ مناصب مهمة. لهذا الغرض أود أن أطلب إليكم إعداد قوائم بأسماء الموظفين المسلمين في وزارتكم والمكاتب التابعة لكم، المشكوك في ولائهم لدومنيون الهند أو الذين يرجح أن يشكلوا تهديدا للأمن. وينبغي لرؤساء الوزارات أو غيرهم من أصحاب المناصب الرفيعة إعداد تلك القوائم والتدقيق فيها بعناية، وأن تستخدم القوائم للأغراض المحددة المتمثلة في استبعاد أشخاص من المناصب الرئيسية أو من التعامل مع أعمال سرية.
لا داعي لأن أضيف أنني واثق من أنكم سوف تتأكدون من عدم ممارسة الاضطهاد دون وجه حق، وأن الحالات الحقيقية وحدها ستدرج في القائمة. أما الأشخاص ذوو الولاء والأداء المرضي في العمل فينبغي بالطبع أن يشعروا بأن حقوقهم لا تقل عن حقوق الرجال المنتمين إلى طائفة الأغلبية.
6
كانت تلك رسالة غير معتادة، أطلقت، إن لم يكن عملية لاضطهاد الموظفين المسلمين في حكومة الهند دون وجه حق، فهي محاولة نشطة للبحث عن آثار للخيانة بينهم. انظروا لهيئة المسح الأثري للهند، التي تضمنت موظفين مسلمين كثرا، مكلفين بصيانة مباني الهند المهيبة التي ترجع إلى العصور الوسطى؛ فعندما نقل سكرتير التعليم تلك الرسالة إلى المدير العام للهيئة، كتب ذلك الأخير إلى رؤساء الدوائر طالبا منهم إعداد قوائم بأسماء الموظفين المسلمين، الموالين منهم لدومنيون الهند والذين «يرجح أن يشكلوا تهديدا للأمن»؛ فعندئذ شرع رؤساء الدوائر في تحريات سرية في صفوف العاملين لديهم، وأبلغوا المقر الرئيسي بنتائجها. وعند قراءة تقاريرهم بعد مرور نصف قرن من الزمان، نجد فيها مادة مثيرة تقشعر لها الأبدان في بعض الحالات.
لقد رد عدة مديرين للدوائر قائلين إنهم لم يتشككوا في أي من موظفيهم على المستوى الشخصي، إلا أنهم تعرضوا لضغوط من أجل نقل الأشخاص الذين يرجح أن يكونوا في موقف اشتباه؛ فقد نصح رائد وحدة مشاة في بيجابور هيئة المسح الأثري قائلا إن حارس مزار جول جمباز «لا يعتبر قابلا للاعتماد عليه»؛ لأنه على ما يبدو كان لديه أقارب في حيدر أباد، وهي ولاية كانت ترفض الانضمام إلى الاتحاد الهندي؛ فحينئذ نقل الحارس إلى كهوف كانهيري في بومباي.
ورد أكثر التقارير تفصيلا عن رئيس الدائرة الشمالية، التي كان مقرها في أجرا وتضمن نطاق اختصاصها تاج محل وفاتح بور سكري؛ فقد أدرج رئيس تلك الدائرة أسماء ثمانية وعشرين موظفا لهم أقارب هاجروا إلى باكستان. ومن هؤلاء، حدد خمسة على أنهم «أشخاص قد لا يكون ولاؤهم لدومنيون الهند فوق مستوى الشبهات»، و«قد يشكلون تهديدا للأمن إذا أتيحت لهم فرصة مواتية». كان أحدهم موظف بيع تذاكر في قلعة أجرا، له أخ وابن وأم في حيدر أباد (السند)، وآخر كان حارسا في تاج محل زوجته في كراتشي. وكان ثمة حارس آخر في تاج محل لديه ابنان وابنة في كراتشي. وأدرج رئيس الدائرة أسماء سبعة موظفين آخرين لم «يبدوا مؤذين بالفطرة، ولكنهم قد يصيرون قنوات مفيدة لنقل المعلومات تحت تأثير أقاربهم في باكستان».
في يوم 20 أكتوبر، أرسل سكرتير الداخلية رسالة أخرى بنفس المضمون، لكن تستهدف الموظفين الذين لديهم أقارب مقربون في باكستان. وقال إنه إذ مرت أشهر عدة على التقسيم، «لم يعد ثمة سبب لإبقاء الموظفين الحكوميين أسرهم في باكستان. على العكس، فإنه بوضع العلاقات المتوترة بين الدومنيونين في الاعتبار سيمثل ذلك دليلا ظاهرا على عدم الولاء لدومنيون الهند». فالموظفون الذين تقيم أسرهم في باكستان عليهم إعادتهم في غضون شهر. وطلبت وزارة الداخلية قائمة بأسماء المخالفين، حتى تقرر دراسة كل حالة على حدة إن كانت «مصلحة البلاد» تستدعي اتخاذ إجراء تأديبي ضدهم.
مرة أخرى مرر المدير العام لهيئة المسح الأثري للهند رسالة سكرتير الداخلية إلى رؤساء الدوائر التابعين له كافة. ومرة أخرى ورد أكثر التقارير تفصيلا عن رئيس دائرة أجرا، الذي بدا فعلا أنه نظر إلى الأمر - بشيء من الاستمتاع - على أنه عملية اضطهاد للمسلمين. وقد اختص بسخطه «خدام» تاج محل - أي، حراسه بالوراثة - البالغ عددهم ثمانية عشر، الذين عينهم الإمبراطور شاه جهان في ذلك المنصب في القرن السابع عشر، وأكد البريطانيون تعيينهم فيما بعد؛ ففي أعين رئيس الدائرة، بدوا جميعا عملاء للعدو، و«غير مستعدين للبوح بحقيقتهم الكاملة». وستة منهم على الأقل كان لا يزال لهم أسر في باكستان. أمضى خادم منهم فترة أطول من اللازم مع أقربائه على الجانب الآخر من الحدود؛ فأوقف عن العمل، وتلقى أوامر بأن «يسلم الزيين الصيفي والشتوي وسائر المتعلقات الحكومية التي في حوزته». وكان رئيس الدائرة يريد وقف خادم آخر عن العمل، شك في نيته بيع البيت الذي يملكه في أجرا قبل الهجرة «إلى باكستان سرا». واستهدف ذلك المسئول أيضا رجلا ثالثا «يبدو أنه بذل جهدا - وإن لم يكن متحمسا بالقدر الكافي - لإعادة أفراد أسرته إلى الهند».
كانت أجرا في أوتر براديش، التي ضرب انقسام المسلمين فيها بجذوره عميقا ؛ فقد هاجر مسلمو البنجاب في جماعات عبر الحدود، بينما هاجر العديد من المثقفين طواعية من بومباي والجنوب إلى باكستان، إلا أن المسلمين من الطبقة العاملة ظلوا في الهند؛ فقد كانت باكستان بعيدة وغريبة عليهم إلى حد لم يستطيعوا معه التفكير في بدء حياة جديدة في مكان جديد. إلا أن مسلمي أوتر براديش كانوا يتحدثون الأردية - اللغة الرسمية في باكستان - كما أنهم كانوا قريبين بما فيه الكفاية لأن يستقلوا قطارا ويذهبوا إلى هناك. وقد ذهب كثيرون، لكن كثيرين غيرهم بقوا حيث كانوا.
كانت كل أسرة مسلمة تقريبا في أوتر براديش مقسمة، ولم يكن موظفو هيئة المسح الأثري مستثنين من ذلك. إلا أن رئيس دائرة أجرا لم يبد أي تعاطف مع موظفين كان لديهم أقارب فيما اعتبره أرضا «معادية»؛ فأخبر مرءوسيه بأنهم إما أن يعيدوهم أو يواجهوا العواقب. كان خادم لتاج محل يدعى شمس الدين قد أثار شكوك رئيسه ببيع منزله، بينما كانت عائلته كلها في باكستان؛ ففي عريضة مثيرة للشفقة إلى حد ما مقدمة بتاريخ 8 ديسمبر 1948، قال شمس الدين: «إنني لا نية لدي مطلقا للذهاب إلى باكستان أبدا.» فقد كان ثمة أربعة أسباب لبيعه ذلك المنزل؛ أولا: سداد دين لأقاربه، وثانيا: «بنتاي على وشك الزواج، ويجب أن أدبر مالا من أجلهما»، وثالثا: المستأجرون اللاجئون الذين سكنوا في منزله كانوا يسيئون استخدامه، وصار من الأفضل أن يبيع مسكنه قبل أن تتدهور حالته أكثر، ورابعا: «لا بد أن أعد للمراسم الأخيرة في حياتي لأن أبنائي تخلوا عني».
لم يقتنع رئيس الدائرة وطالب بتقديم برهان أكثر قطعا على ولاء شمس الدين للاتحاد الهندي. وأعلمتنا مذكرة بتاريخ 13 يونيو 1949 أن الخادم سافر إلى باكستان ورجع بابنتيه غير المتزوجتين، وحفيدين من ابنة متوفاة «كان لديه سيطرة عليهما».
7
وإذا فتحت سجلات الحكومة الهندية لتلك الأعوام على الملأ يوما، لوجد المرء أن التعهدات بالولاء من ذلك القبيل، المقطوعة تحت ضغط كبار المسئولين، كانت تحدث في كل مكان تقريبا. وقد عثر باحث مؤخرا على بيان صادر عام 1951 عن رعاة مسلمين من كوتش، المنطقة شبه القاحلة من ولاية جوجارات على حدود مقاطعة السند في باكستان، أكدوا فيه للمفوض أن «ولاءنا للحكومة الهندية، وإذا هاجمت الحكومة الباكستانية الحكومة الهندية، فسوف نبذل حياتنا فداء لأمن الهند».
8
4
ليس من الواضح إن كان رئيس الوزراء أقر محاولات التحقق من ولاء بعض الموظفين في حكومة الهند. ولكن ما نعلمه هو أن رؤيته لوضع المسلمين كانت مغايرة إلى حد ما لرؤية نائبه؛ فهو كما كتب لباتيل، يستنكر «المطالبات المستمرة بالانتقام وعقاب مسلمي الهند كما يعاقب الباكستانيون الهندوس. هذه الحجة لا تروق لي مطلقا. وأنا واثق من أن سياسة الانتقام والعقاب بالنيابة هذه ستجلب الدمار على الهند وكذلك باكستان».
9
وفي حين أن وزير الداخلية طالب المسلمين بإثبات ولائهم، فقد حمل رئيس الوزراء الدولة الهندية المسئولية، الملزمة لها دستوريا والتي تتمثل في إشعار مواطنيها جميعا - لا سيما المسلمون منهم - بالأمان.
أعرب نهرو عن تلك الآراء لباتيل،
10
وفي سلسلة من الرسائل كتبها لرؤساء وزارات المقاطعات المختلفة؛ فبعد مرور ثلاثة أشهر على التقسيم، ذكرهم بأن «لدينا أقلية مسلمة عددها كبير جدا بحيث يتعذر عليها الذهاب إلى أي مكان، حتى إن أرادت. تلك حقيقة أساسية لا مجال للجدل فيها؛ فمهما استفزتنا باكستان وأيا كانت الإهانات والفظائع التي يتعرض لها غير المسلمين هناك، فلا بد لنا من التعامل مع هذه الأقلية بأسلوب متحضر. ويجب علينا أن نمنحهم الأمن والحقوق التي يتمتع بها المواطنون في الدول الديمقراطية. أما إذا فشلنا في ذلك، فسيتكون لدينا قرح متقيح سوف يسمم الكيان السياسي كله في نهاية المطاف ويدمره على الأرجح». وفي جزء لاحق من الرسالة ذاتها، لفت الانتباه إلى «الأهمية القصوى التي يتسم بها حماية الهيئات العامة من فيروس السياسة الطائفية».
11
كان ذلك موضوعا لزم على نهرو التطرق إليه مرة أخرى؛ فقد تمثل أحد صور الاستفزاز في الخلافات بشأن الملكيات العقارية؛ إذ طلب مسئولون مفرطو الحماس من المسلمين في بعض الأماكن التنازل عن منازلهم للاجئين الهندوس والسيخ؛ فانتهز رئيس الوزراء فرصة ذكرى مولد غاندي للتحذير من «خلق مناخ من انعدام الثقة والأمن في أذهان أعداد كبيرة من أبناء بلدنا المسلمين». فهذا من شأنه أن يخلف «تبعات بعيدة الأثر ليس على الهند فحسب وإنما على كشمير أيضا. وهو يؤثر على سمعتنا في الخارج؛ فالحجز على بضعة منازل أو متاجر أو نزع ملكيتها لا يحدث فرقا كبيرا. ولكنه إن حدث دون وجه حق فإنه يؤثر فعلا على سمعتنا ومن ثم يضرنا ».
أقر رئيس الوزراء بأن «باكستان تنتهج سياسة شديدة القسوة في هذا الشأن». إلا أنه أصر على أنه «لا يمكننا محاكاة الأساليب أو المثل التي تتبعها باكستان؛ فقد أعلنت نفسها صراحة دولة إسلامية مؤمنة بنظرية الدولتين. أما نحن فنرفض تلك النظرية وندعو أنفسنا دولة علمانية توفر حماية كاملة لجميع الأديان. وعلينا أن نرتقي بأفعالنا إلى مستوى مثلنا وبياناتنا. وفي هذا اليوم خاصة - ذكرى مولد غاندي - ينبغي أن نتذكر ما علمنا إياه غاندي وما مات في سبيله».
12
كان نهرو قد جعل من التنظيمات الطائفية خصمه الرئيسي في الحملة الانتخابية عام 1951-1952؛ فقد خاض الانتخابات وفاز بها على أساس مبدأ الحيلولة دون أن تصير الهند «باكستان هندوسية». إلا أن نهرو ظل قلقا بشأن حقوق الهنود الذين أبقتهم ثقافتهم وعقيدتهم بمنأى عن الأغلبية. وكان قلقا بصفة خاصة من النسبة بالغة الانخفاض للمسلمين في مناصب السلطة؛ فمؤسسات الدفاع لم يعد فيها موظفون مسلمون تقريبا، وكذلك لم يعد في الحكومة مسلمون كثر؛ فشعر أن ذلك الوضع ناجم عن فشل في بث «روح مشاركة سليمة داخل كل جماعة وكل فرد في البلاد؛ حس المشاركة الكاملة في المزايا والفرص المتاحة». وقال لرؤساء وزارات الولايات إن الهند لو كان لها أن تصير «دولة علمانية مستقرة وقوية»؛ إذن «ينبغي أن يكون أول ما نوليه اهتمامنا هو التعامل مع أقلياتنا «بإنصاف مطلق»، حتى نشعرهم «بالانتماء الكامل» إلى الهند».
13
5
كان زعيم المسلمين المعترف به الذي بقي في الاتحاد الهندي هو مولانا أبو الكلام آزاد؛ فخلافا لمنافسه العتيد محمد علي جناح، كان آزاد يؤمن بأنه من الممكن لغير الهندوس العيش بسلام وشرف داخل هند متحدة؛ فحسب صياغة نهرو البليغة كعادته، كان مولانا آزاد «ممثلا خاصا للغاية ومميزا يحتل درجة رفيعة في تلك الثقافة المركبة العظيمة التي نمت تدريجيا في الهند». فقد كان يجسد «توليفة ثقافات متنوعة توافدت على الهند واحدة تلو الأخرى، كأنهار تدفقت فيها وذابت في محيط الحياة الهندية».
14
أحدث التقسيم جرحا عميقا في نفس آزاد؛ فهو إذ ارتأى فيه فشلا لرسالة حياته ، انسحب من عالم السياسة الحزبية. (على أي حال كثيرا ما كان توجهه أقرب لتوجه طالب العلم من الزعيم الشعبي.) وقد شغل منصب وزير التعليم في وزارة الاتحاد، وساعد في ذلك المنصب على تشجيع إنشاء أكاديميات جديدة لتنمية الأدب والرقص والموسيقى والفن الهندي. إلا أن عمره وطبعه أبقاه في دلهي معظم الوقت.
أما العضو الأصغر سنا في حزب المؤتمر الذي سعى إلى الاضطلاع بدور سياسي أكثر نشاطا فكان سيف طيابجي، سليل عائلة مشهورة في الحركة القومية. ولما كان طيابجي حفيد أحد الرؤساء الأوائل لحزب المؤتمر، وهو نفسه مهندس تخرج في جامعة كامبريدج؛ فقد كان مؤهلا للاضطلاع بدور جسر الحداثة بين حزب المؤتمر وجمهور المسلمين. وفي عام 1955 كتب سلسلة من المقالات في الصحيفة الأردية واسعة الأثر «انقلاب»، وترجمت المقالات فيما بعد إلى الإنجليزية ثم نشرت بعنوان «مستقبل المسلمين في الهند». في انتخابات عام 1952، صوت المسلمون بأعداد كبيرة لحزب المؤتمر، الذي شعروا بأنه - تحت قيادة نهرو - يمكنهم الثقة به أكثر من خصومه.
15
إلا أن طيابجي كان يشعر أن المسلمين ينبغي لهم أن يفعلوا ما هو أكثر من التصويت للحزب الغالب في الهند؛ فينبغي لهم أن ينضموا إليه، ويؤثروا في سياساته.
وأشار سيف طيابجي إلى أن حزب المؤتمر مؤسسة ديمقراطية؛ إذ يتألف مجلسه الوطني من ممثلين منتخبين مرسلين من الولايات، مختارين بدورهم من لجان المناطق والتعلقات؛ فالانضمام إلى حزب المؤتمر لم يكن يكلف سوى دفع رسوم اشتراك قيمتها ربع روبية؛ فكان بإمكان المسلمين المنتشرين في أنحاء الهند الالتحاق بالحزب بأعداد كبيرة في جميع المناطق، ومن ثم يتسنى لهم التأثير على عملية اختيار قيادات حزب المؤتمر في المستويات العليا من ذلك التنظيم. كانت تلك هي الاستراتيجية السياسية لطيابجي، ولكنه حث أبناء ملته أيضا على الانخراط في الحياة الثقافية للبلاد بصورة أكمل؛ فهو بصفته «هنديا وطنيا» كان يتمنى أن تكون «الثقافة الهندية الجديدة» الناشئة «على أكبر قدر ممكن من الثراء والتنوع والحيوية، وهذا لا يتأتى إلا بأن تستمد غذاءها من جميع المصادر المحتملة». فمثل سائر الهنود ، لا بد للمسلمين من «الاضطلاع بدور نشط في تشكيلها». ولكن «إذا جلس المسلمون مكتوفي الأيدي، فيمكننا أن نتأكد من أن الثقافة الهندية الجديدة لن تكون لها صلة تذكر بالإنجازات التي تحققت في هذا البلد فيما بين القرن الحادي عشر ومجيء البريطانيين. هذا سيجلب المعاناة على الهنود جميعا، ولكن مسئولية الخسارة سيتحمل أكثر وطأتها المسلمون من الهنود».
كان من اقتراحات طيابجي الأخرى أن يطلب المسلمون العلم في المجالات الفنية والتجارية، عوضا عن الاكتفاء بدراسة العلوم الإنسانية والانضمام إلى صفوف العاطلين المتعلمين. وحتى فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية، فقد استنكر محاولات «إبقاء ثقافتنا الإسلامية ... في حالة من النقاء المتحجر». فعوضا عن بكاء المسلمين على أطلال لغتهم الأردية المنحسرة، عليهم أن يدركوا أن اللغة الهندية بالأبجدية الديفاناجارية جاءت لتبقى. واللغة الأردية ستصير أكثر عصرية بإتاحة أدبياتها بالأبجدية الديفاناجارية، وباقتراح كلمات وتعبيرات اصطلاحية جديدة ملائمة لإثراء اللغة الهندية الحديثة الجديدة والناشئة.
16
وفي حين أن مولانا آزاد وسيف طيابجي - على سبيل المثال - سعيا إلى ضم المسلمين إلى حزب المؤتمر، كان ثمة آخرون يرون أن مجتمع المسلمين يمكنه تمثيل نفسه بصورة أفضل من خلال تنظيمات خاصة به؛ ففي أكتوبر 1953، التقت مجموعة من المثقفين والمهنيين في عليكرة، لمناقشة فكرة تأسيس حزب سياسي من شأنه أن «يحمي حقوق الأقلية المسلمة، وتمكينهم من العيش بشرف في هذا البلد». وكان من أهم ما يقلقهم انخفاض نسبة تمثيل المسلمين في المجالس التشريعية، ومناصب الخدمة المدنية العليا.
17
رأس ذلك المؤتمر عمدة سابق لكلكتا، زعم أنه إذا استمرت الاتجاهات الحالية، فلن يحمل المستقبل سوى «الشلل الاقتصادي، والموت أو التفتت الثقافي والعبودية السياسية للمسلمين».
18
وبعد مرور ستة أشهر، في خطبة ألقيت في المسجد الجامع بدلهي، هاجم الأمين العام لجمعية علماء الهند براديش حكومة الهند ناعتا إياها بالمعادية للديمقراطية والمناصرة للهندوس. وقال: «آن الأوان لمسلمي الهند أن يتحدوا وينظموا أنفسهم تحت قيادة واحدة لمواجهة مستجدات الأمور في المستقبل.»
19
في ذلك الوقت، اتخذت خطوات معينة في هذا الصدد في جنوب الهند؛ ففي سبتمبر 1951 نشأ حزب العصبة الإسلامية للاتحاد الهندي في مدراس، وقد ميزه اسمه وميثاقه عن حزب ما قبل التقسيم الذي قد يظن البعض أنه يشبهه. سعى ذلك الحزب إلى «تأمين وحماية وصون الحقوق والمصالح» الدينية والثقافية والاقتصادية وغيرها من الحقوق والمصالح «المشروعة للمسلمين وغيرهم من الأقليات»، ولكنه تعهد أيضا بالحفاظ على «استقلال وحرية وشرف» الاتحاد الهندي والدفاع عنها.
20
وبعد أعوام عدة، تشكل حزب في حيدر أباد لتمثيل مسلمي المدينة، هو: «مجلس اتحاد المسلمين». كان لذلك الحزب عدة مرشحين في انتخابات عام 1957، ولكنه لم يفز إلا بمقعد واحد في المجلس التشريعي. أما حزب العصبة الإسلامية للاتحاد الهندي فقد حقق نجاحا أكبر في معقله - كيرالا - حيث فاز بعشرة مقاعد في الانتخابات النصفية لعام 1960.
21
6
ذكر دبليو سي سميث في كتاب له عام 1957 أنه في تاريخ الإسلام، كان مسلمو الهند مميزين، نظرا لأن عددهم كبير جدا ولكنهم لا يعيشون في دولة خاصة بهم؛ فخلافا لمسلمي إيران أو العراق أو باكستان أو تركيا شارك مسلمي الهند مواطنتهم في الجمهورية الهندية الجديدة «عدد هائل من الأشخاص الآخرين. وهم يشكلون الكيان الإسلامي الكبير الوحيد في العالم الذين ينطبق عليهم هذا الوضع الآن أو في أي وقت مضى».
22
كان مسلمو الهند أقلية كبيرة العدد، إلى جانب أن موقفها كان ضعيفا؛ فقد كانت معرضة لتهديد الطائفية الهندوسية والاستفزاز الباكستاني؛ فقد نزع الزعماء الباكستانيون إلى السخرية من العلمانية الهندية و«افتراض وتشجيع عدم ولاء المسلمين الهنود لدولتهم». كان المسلمون رهينة العلاقات الهندية الباكستانية بصفة عامة، ورهينة معاملة باكستان لأقلياتها بصفة خاصة. ومن ثم «كل هندوسي ساخط جديد يفر من باكستان الشرقية، وكل حادث جديد على الحدود أو تفاقم لنزاع على مياه القنوات أو مسألة ملكية للاجئين، كان لها تبعات على حياة المسلمين في الهند».
23
تمثلت مشكلة أخرى - ذات صلة بالتقسيم أيضا - في عدم وجود طبقة وسطى يعتمد عليها؛ ففي وقت التقسيم أو بعده بفترة قصيرة، هاجرت أعداد كبيرة من موظفي الخدمة المدنية والمحامين والباحثين والأطباء ورجال الأعمال المسلمين إلى الدولة الإسلامية الجديدة، لبدء حياة عملية جديدة متحررين من منافسة الهندوس. أما المسلمون الباقون في الهند فكانوا من الطبقة العاملة الفقيرة: من الفلاحين والعمال والحرفيين، الذين صاروا آنذاك في حاجة ماسة إلى قيادة مستنيرة ليبرالية؛ فمثلما كتب موظف بريطاني فطن: كان «أحد مساوئ التقسيم» في البنغال أن الموظفين المسلمين فضلوا جميعا الذهاب إلى باكستان، بحيث «ستفتقر الأقليات المسلمة في غرب البنغال إلى التمثيل في الجهات الخدمية أو أي جهة أخرى يمكن أن يلجئوا إليها طلبا للمساعدة أو الحماية».
24
كانت كشمير استثناء جزئيا في ذلك، حيث شجع نظام الشيخ عبد الله المسلمين بين عام 1947 وعام 1953 على تملك الأراضي، واتخاذ المهن، وتثقيف أنفسهم في المقام الأول. وكان من الإصلاحات الأبعد نظرا إنشاء مدارس وكليات للفتيات، حيث نالت كلية البنات في سريناجار عن جدارة سمعة ممتازة على مستوى البلد كله.
25
وفي سائر الأنحاء، ظل المسلمون يعملون في وظائف دونية مع انخفاض نسبة تمثيلهم في التعليم والمهن والمجالس التشريعية والإدارة.
26
من ناحية أخرى، بذلت القيادة السياسية الهندية جهدا في إنشاء دولة علمانية، وغرس الإحساس بالانتماء بين الأقليات. كان نهرو هو الشخصية الرئيسية في هذا الصدد، ولكنه استمد العون من أعضاء آخرين في حزب المؤتمر ممن تربوا على يدي غاندي؛ فعندما هددت اشتباكات في الشوارع بالتصاعد إلى مستوى الشغب في أحمد أباد عام 1956، صام رئيس وزراء الولاية - مورارجي ديساي - عن الطعام لأجل غير مسمى في سبيل إعادة السلام.
27
كانت تلك التصرفات نابعة في جزء منها من قناعة حقيقية، وفي جزء آخر من المواءمات الدبلوماسية، بترك أفضل انطباع ممكن عند الدفع بقضية كشمير؛ فتعرض المسلمين لهجمات من شأنه أن يضعف موقف الهند في المطالبة بالوادي.
28
على الرغم من ذلك فإنه لم يكن «بالأمر الهين أن كبح زعماء الأمة الهندوس - باسم العلمانية والإنسانية - جماح الدافع الطبيعي الذي يحتمل تحوله إلى الضراوة لدى الأغلبية الهندوسية للانتقام من جماعة المسلمين».
29
كان بعض مراقبي الموقف - بعد التقسيم مباشرة - يخشون نشوب صراع يدمر الأقلية المسلمة في الهند. ولكن كما ذكر مشير الحسن، فإنه عوضا عن ذلك: «ظلت درجة الحرارة الطائفية في خمسينيات القرن العشرين منخفضة نسبيا؛ فقد كان ثمة فترة سكون بعد العاصفة العاتية، واتجاه واضح تنازلي في وتيرة الأحداث الطائفية.»
30
كان ثمة تشكك وتوتر وأحداث عنف متفرقة، ولكن لم تقع أحداث شغب على النطاق المشهود في عشرينيات القرن العشرين أو ثلاثينياته أو أربعينياته. كانت صراعات الخمسينيات قائمة على أساس اللغة والعرق والطبقة والطائفة الاجتماعية عوضا عن الدين.
ثم كسرت الهدنة باندلاع أحداث الشغب في جبلبور في مطلع عام 1961، التي فقد فيها نحو خمسين هنديا - معظمهم من المسلمين - حياتهم. إلا أن ذلك كان عراكا صغيرا مقارنة بما حدث في شتاء 1963-1964؛ فحينئذ أثارت سرقة شعرة النبي محمد من مسجد حضرة بال في سريناجار سلسلة من الهجمات على الهندوس في باكستان الشرقية. وفر آلاف اللاجئين إلى الهند، حيث أدت قصصهم إلى رفع درجة الحرارة الطائفية وإلى عنف انتقامي ضد المسلمين؛ ففي كلكتا ومحيطها قتل 400 شخص في أعمال الشغب الدينية، 300 منهم مسلمون. كان بعض العنف ناشئا عن انتهاز تجار الفرصة لهدم مستعمرات القاطنين بوضع اليد وتطويرها من أجل بيعها. كذلك حدثت أعمال شغب خطيرة في مدينتي جمشيدبور وروركيلا المشهورتين بصناعة الصلب، التي ربما بلغ عدد القتلى فيها ألف شخص، معظمهم من المسلمين.
31
بحلول ذلك الوقت كان التقسيم قد مضى عليه نحو عقدين من الزمان، إلا أن آثاره ظلت باقية. وكما علق أحد الزعماء المسلمين في مدراس بمرارة، فإن عنف 1963-1964 عزز «الخوف من أن أي شيء يحدث في باكستان سيخلف تبعات على المسلمين في الهند، لا سيما عندما تظهر تقارير مبالغ فيها في الصحافة الهندية، ويقف الأشخاص والأحزاب المعادون للمسلمين على استعداد لاستغلال الفرصة».
32
7
مثل المسلمين، كان المنبوذون منتشرين في جميع أنحاء الهند. ومثلهم أيضا، كانوا فقراء موصومين وكثيرا ما يتعرضون للعنف على يد الطوائف الهندية العليا. كان المنبوذون يعملون في القرى، في المهن الدنيا؛ كخدم في المزارع، وعمال زراعيين، وأساكفة وجامعي قمامة. وحسب التعاليم الهندوسية المتشددة فإن لمسهم نجس عند الطوائف الاجتماعية العليا، وحتى رؤيتهم في بعض المناطق. وكان محرما عليهم دخول الأراضي والوصول إلى مصادر المياه، وحتى مساكنهم كانت تقام بعيدا عن القرية الرئيسية.
في ظل الحكم البريطاني، سنحت الفرصة أمام بعض المنبوذين للفكاك من طغيان القرية؛ فهؤلاء إما حصلوا على وظائف في الجيش، أو عملوا في المصانع أو المجمعات السكنية الحضرية. وهناك أيضا كانوا يكلفون عادة بأدنى الأعمال وأكثرها إذلالا، مثل جمع القمامة.
كان غاندي قد أعاد تسمية المنبوذين باسم الهاريجان؛ أي «أبناء الرب». وقضى الدستور الهندي على ممارسة النبذ، وأدرج المجتمعات التي كانت منبوذة سابقا في جدول منفصل؛ فاكتسبوا اسمهم الجماعي الجديد: الطوائف المجدولة. إلا أن الدراسات الإثنوغرافية التي أجريت على القرى في خمسينيات القرن العشرين أكدت أن ممارسة النبذ استمرت كسابق عهدها؛ فقد ظلت ملكية الطوائف المجدولة للأراضي محدودة، إن وجدت، وظل أبناء تلك الطوائف معرضين لإساءة المعاملة الاجتماعية، والجنسية في بعض الحالات. ولكن تلك الدراسات الإثنوغرافية كشفت أيضا أن الأمور كانت في سبيلها للتغير في القاع، وإن كان تغيرها بطيئا؛ ففي بعض المناطق أصبحت الطوائف الهندية الدنيا ترفض تأدية المهام التي ارتأت فيها تدنيسا لها؛ فأفرادها لم يعودوا يقبلون حمل الأشياء دون مقابل، ولا السماح لرجال الطوائف الاجتماعية العليا بانتهاك أعراض نسائهم وهم صاغرون. والأكثر جرأة من ذلك أنهم بدءوا يطلبون أجورا أعلى وأراضي يزرعونها، تحت حماية نشطاء شيوعيين في بعض الأحيان.
33
وفي المدن، اتخذ حضور الطوائف الهندية الدنيا شكلا أكثر تنظيما؛ فبتشجيع من الحزب الشيوعي الهندي، شكل كناسو البلدية في دلهي - المنتمين إلى طائفة بالميكي - اتحادا خاصا بهم. وفي أكتوبر 1953 قدم ذلك الاتحاد ميثاقا تضمن أحد عشر مطلبا إلى هيئة البلدية، تركزت حول رفع الأجور وتحسين ظروف العمل. وخرج الكناسون في مسيرات وعقدوا مؤتمرات شعبية، ونظموا مسيرة إلى مجلس البلدية لاستعراض قوتهم. كذلك حدثت سلسلة من حالات الصيام عن الطعام، ومواجهة كبيرة واحدة على الأقل مع الشرطة. ويشير مؤرخ تلك المسيرات الاحتجاجية إلى أنها «لم تكن معنية بالأجور فحسب، وإنما بالكرامة أيضا، وقيمة العمل الذي تؤديه طائفة بالميكي».
34
8
يتبين أيضا من العدد المتنامي للسير الذاتية للمنبوذين إلى أن الخمسينيات كانت عقدا اتسم بالتقلبات؛ فقد تفشى فيها اضطهاد الطوائف الهندية الدنيا والتمييز ضدها، ولكنهما لم يعودا مقبولين برضا كسابق عهدهما؛ فقد لاحت بوادر حركة، تكشفت في صورة احتجاجات اجتماعية واستفادت من السبل الجديدة للحراك الاجتماعي.
35
كان أول تلك السبل هو التعليم؛ فبعد الاستقلال حدث توسع ضخم في التعليم المدرسي والجامعي. وبمقتضى القانون، كانت نسبة محددة من الأماكن في المؤسسات التعليمية تحجز للطوائف المجدولة. وبمقتضى السياسات، قدمت حكومات ولايات عدة منحا دراسية لأبناء الأسر المحرومة. وكانت تلك الأسر تستفيد من تلك الفرص متى أمكن؛ فنشأ جيل كامل مثل أفراده أول جيل متعلم في أسرهم. ووفقا لأحد التقديرات، ففي حين زاد عدد تلاميذ المدارس إلى الضعف في العقد الأول بعد الاستقلال، فإن عدد المنبوذين السابقين في المدارس زاد ثمانية أو عشرة أضعاف. وكذلك زاد كثيرا عدد طلاب الجامعات من الطوائف المجدولة عن أي وقت مضى.
36
تمثل السبيل الثاني في الوظائف الحكومية؛ فبمقتضى القانون، حجز 15٪ من جميع الوظائف في مؤسسات الدولة والمؤسسات المدعومة من الدولة للطوائف المجدولة. وهنا أيضا حدث توسع هائل بعد عام 1947، حيث توافرت مناصب جديدة لهم في الإدارة وفي المدارس والمستشفيات والمصانع ومشروعات البنية التحتية الحكومية. وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، فمن المرجح أن عدة ملايين من الوظائف أتيحت للطوائف المجدولة في القطاع الحكومي خلال أول عقدين بعد الاستقلال. كانت تلك مناصب دائمة، يحتفظ بها حتى التقاعد، ولها معاش ومزايا صحية. نظريا، كانت تلك المناصب المحجوزة متوافرة في جميع مستويات الحكومة، ولكن عمليا كانت الوظائف في المستويات الدنيا هي أولى وأسرع الوظائف التي تشغل عادة؛ فحتى عام 1966، في حين أن 1,77٪ من المناصب الإدارية الكبرى شغلها هنود ترجع أصولهم إلى الطوائف الهندية الدنيا، فإن تلك النسبة ارتفعت إلى 8,86٪ في الأعمال المكتبية، وبلغت 17,94٪ في وظائف القائمين بالخدمة والسعاة.
37
كذلك حجزت لهم مقاعد في البرلمان ومجالس الولايات، حيث شغل مرشحو الطوائف المجدولة 15٪ من المقاعد كافة. وإضافة إلى ذلك، كان منح حق الاقتراع للجميع معناه أنه يمكنهم التأثير على نتيجة الانتخابات في الفئة «غير المحجوزة» أيضا. وفي أماكن كثيرة، أسرعت الطوائف المجدولة باقتناص الفرص التي أتاحتها لهم أصواتهم؛ فكما أشار أحد رجال السياسة من طائفة اجتماعية دنيا في أجرا، فإن الناخبين في دائرته «قد لا يفهمون أمور السياسة المعقدة»، ولكنهم «يفهمون قوة الصوت الانتخابي ويريدون استغلالها».
38
وقد كانوا يفهمون تلك القوة في جميع السياقات؛ الوطنية والإقليمية والمحلية. وبحلول مطلع الخمسينيات، سجلت حالات لتشكيل الطوائف المجدولة تحالفات بغية منع ملاك الأراضي من الطوائف الاجتماعية العليا من الفوز في انتخابات مجالس القرى؛
39
فسرعان ما أصبح ينظر إلى الصوت الانتخابي على أنه أداة للمساومة. على سبيل المثال، في إحدى قرى أوتر براديش، أخبر صانعو الأحذية مرشحا من طائفة اجتماعية عليا أنهم سيدعمونه إذا وافق على نقل الساحة التي تلقى فيها الحيوانات النافقة من مجمعهم السكني إلى موقع آخر خارج القرية.
40
أتى التمييز الإيجابي بمنافع حقيقية لعدد كبير من الطوائف المجدولة؛ فقد أصبح بإمكان أبناء عمال المزارع أن يصيروا أعضاء في البرلمان، وقد كان. وصار بإمكان من التحقوا بالعمل الحكومي بصفتهم موظفين بسطاء من «الدرجة الرابعة» أن يروا أبناءهم ينضمون إلى دائرة الخدمة المدنية الهندية التي تضم أهل النخبة. إلا أن التمييز الإيجابي جلب أيضا وصمة من نوع جديد؛ فهو وإن نوى القضاء على التمييز الطبقي الهندوسي، أدى إلى تثبيت المستفيدين منها في طبقتهم الأصلية على نحو أكثر رسوخا من أي وقت مضى. وقد نشأت مشاعر الشك والسخط بين أبناء الطوائف الاجتماعية العليا، وكذلك ظهرت في بعض الأحيان نزعة بين المستفيدين من التمييز الإيجابي للاستعلاء على أبناء طبقتهم، بل حتى نسيانهم؛ فكما كتب أحد الباحثين في سخرية، أنتجت ممارسة حجز المقاعد «كتلة من الأشخاص المنشغلين بذاتهم الذين يرضون بسرعة ويسر بالمكاسب الصغيرة التي يمكنهم تحقيقها لأنفسهم».
41
تمثل السبيل الأخير للحراك الاجتماعي في النمو الاقتصادي بصفة عامة؛ فقد استتبع التصنيع والتوسع العمراني خلق فرص جديدة بعيدا عن حدود القرية، حتى لو أن الطوائف المجدولة - كما في القطاع الحكومي - لم تشغل سوى الوظائف الأقل مهارة وإدرارا للربح؛ فعيش أبناء تلك الطوائف بعيدا عن منبتهم ساعد على توسيع آفاق ذهنهم، كما في حالة عامل زراعي من أوتر براديش الذي أصبح عامل مصنع في بومباي وتعلم حب متاحف المدينة، وخاصة مجموعات غانذارا الفنية.
42
وأحيانا كانت تتحقق مكاسب اقتصادية؛ فجماعة الجاتاف مثلا في أجرا هي طائفة من الأساكفة وصانعي الأحذية تغير عالمها لدى نمو سوق منتجاتها في الشرق الأوسط والاتحاد السوفييتي؛ فقد أصبح أفراد هذه الجماعة من «صغار ملاك الأراضي في الحضر»، وأصبح بإمكانهم بناء مساكنهم وامتلاكها. وفي حين ظل كثير منهم يعملون في صناعة الأحذية لحسابهم الخاص، فكثير من هذه الطائفة تمكنوا من إنشاء مصانع خاصة بهم، وكانت الأجور التي يدفعونها لعمالهم فيها أعلى بكثير مما كانوا يأملون هم أنفسهم في جنيه في الماضي؛ ففي عام 1960 كان رئيس العمال الحرفيين يجني 250 روبية في الشهر، ويجني عامل المصنع نحو 100 روبية، وحتى هذا المبلغ الأصغر كان يضاهي ما يجنيه العمال غير المهرة أضعافا مضاعفة. وعلى الرغم من أن توزيع المكاسب لم يكن متساويا بأي حال، فقد ساعد السوق على الارتقاء بأوضاع طائفة الجاتاف الاقتصادية وكذلك الاجتماعية؛ فالوضع نحو عام 1960 كان «بعيدا كل البعد عنه أيام ما قبل أوائل القرن العشرين، حين لم يكن الجاتاف أكثر من عمال وخدم في المدن».
43
9
مثل المسلمين، شكلت الطوائف المجدولة جمهور ناخبين مهما بالنسبة إلى حزب المؤتمر؛ فهم أيضا كانوا يميلون إلى الثقة بمهاتما غاندي أكثر من منافسيه؛ ففي انتخابات عام 1957 - على سبيل المثال - فاز حزب المؤتمر بأربعة وستين مقعدا من المقاعد الستة والسبعين المحجوزة للطوائف المجدولة في البرلمان، وما بلغ 361 مقعدا من أصل 469 مقعدا محجوزا لهم في المجالس التشريعية المحلية.
عندما أضيفت المقاعد المحجوزة لأعضاء الطوائف المجدولة، أصبح نحو ربع نواب البرلمان يأتون من خلفية «محرومة». إلا أن معظم الوزراء في مجلس وزراء جواهر لال نهرو كانوا من الطوائف الاجتماعية العليا، وهو ما أثار قلقه؛ فقد قال لأحد زملائه القدامى: «أحد الصعوبات الكبرى التي أواجهها هو العثور على أشخاص مناسبين من غير البراهمة.» وطلب نهرو من ذلك الزميل أن يقترح عليه مرشحين، لكنه وجد مرشحا مناسبا بنفسه آنذاك، وهو: السيدة تشاندراسيخار من مدراس، إحدى بنات الطوائف المجدولة المتعلمات، التي قلدها منصب نائبة وزير.
44
أما الوزير رفيع المستوى، الذي انتمى إلى الطوائف المجدولة في مجلس الوزراء الهندي، فكان جاجيفان رام من بيهار. ولد جاجيفان رام لأسرة من طائفة الأساكفة، وكان أول صبي في قريته يذهب إلى المدرسة الثانوية ومنها إلى جامعة باناراس الهندوسية. وعند تخرجه التحق بحركة غاندي. وكوفئ عمله المثابر بعد عام 1947 بتعيينه في سلسلة من المناصب الوزارية. وكان من الوزارات التي تولاها وزارة العمل، والاتصالات، والمناجم، والسكك الحديدية. كان لجاجيفان رام سمعة طيبة بصفته إداريا من الدرجة الأولى، رغم أنه لم يعش الحياة الشريفة ناصعة البياض التي ربما تطلبتها خلفيته الغاندية.
45
إلا أن الزعيم الأكثر كاريزمية من الطوائف المجدولة ظل خارج نطاق حزب المؤتمر. كان ذلك هو بي آر أمبيدكار، الذي انضم إلى وزارة نهرو بصفته عضوا مستقلا وترك الحكومة عام 1951 لإعادة إحياء حزبه المدعو اتحاد الطوائف المجدولة. كان أداء حزبه كارثيا في انتخابات عام 1952، على الرغم من أن أمبيدكار نفسه انتخب فيما بعد في مجلس الولايات، الهيئة التشريعية العليا في الهند. بحلول ذلك الوقت كان ذلك العدو القديم للهندوسية يسعى إلى الخروج من عباءة أجداده؛ ففكر في التحول إلى السيخية، ثم الإسلام، ثم المسيحية. وفي النهاية استقر على البوذية، العقيدة ذات الأصول الهندية التي بدت الأكثر تواؤما مع طبعه النازع إلى العقلانية والمساواة.
بعدما ترك أمبيدكار الوزارة، انغمس في قراءة الأدبيات المعنية ببوذا؛ فأصبح عضوا في جماعة مهابودهي، وطاف أنحاء البلدان البوذية في جنوب شرق آسيا. وفي مؤتمر شعبي عقد في بومباي في مايو 1956، أعلن أمبيدكار أنه سوف يعتنق البوذية قبل نهاية العام. كانت دراسته العملاقة - «بوذا والدارما» - في المطبعة بالفعل. فكر أمبيدكار في إقامة مراسم التحول إلى البوذية في بومباي - حيث ستكون الدعاية هائلة - أو في مركز البوذية العريق، مدينة سارنات. وفي النهاية اختار ناجبور، وهي مدينة في وسط الهند كان له فيها أتباع كثر مخلصون؛ فانضم إليه كثيرون في اعتناق البوذية، في مراسم زاهية حظيت بحضور كبير أقيمت يوم 15 أكتوبر من عام 1956. وبعد ستة أسابيع توفي أمبيدكار فجأة؛ فأحرق جثمانه في بومباي، ووضعت أيقونة لبوذا تحت رأسه. وشارك مليون شخص في موكب الجنازة.
46
قبيل وفاة أمبيدكار كان قد قرر تأسيس حزب جديد، يدعى «حزب الهند الجمهوري». بدأ ذلك الحزب عمله رسميا عام 1957، وكانت قياداته وأعضاؤه - مثل أمبيدكار نفسه - من طائفة المهار. كذلك كان أبناء المهار بالأساس هم من تبعوا زعيمهم في اعتناق البوذية. كان أمبيدكار شخصية موقرة بين أبناء المهار في منطقة ناجبور؛ ففي حياته كانوا يحتفلون بعيد ميلاده بحماس، منظمين مسيرات تحمل فيها صورته عاليا. وعندما كان يأتي ليدلي بخطب في المدينة، كان عمال المصانع يتزاحمون للاستماع إليه، وحتى «النساء كن يذهبن في تلك المسيرات وكأنها حفلات زفاف». وقد ألهم أمبيدكار أبناء المهار لتكوين فرق مسرحية مثلت الطقوس الهندوسية وسلوك الطوائف الاجتماعية العليا تمثيلا هزليا. وغنوا أيضا أغنيات على شرفه؛ فكانت افتتاحية إحدى الأغنيات كالتالي: «منذ لحظة وقوع نظر بيم [راو أمبيدكار] على الفقراء، منذ ذلك اليوم وقوتنا في نماء.»
47
ولكن أمبيدكار لم يكن يحظى بالاحترام في معاقل المهار فحسب، بل في جميع أنحاء شمال الهند، كان محط إعجاب لإنجازاته الأكاديمية - فقد كان حاصلا على درجة الدكتوراه من جامعة كولومبيا وجامعة لندن - وإنجازاته السياسية عديدة، ولا سيما صياغته دستور الهند. وبالنسبة إلى الطوائف المجدولة التي حظيت ببعض التعليم - ممن تلقوا التعليم الثانوي أو سافروا خارج قريتهم - كان أمبيدكار مثالا يحتذى به وكذلك رمزا؛ فهو رجل اخترق قلعة الطوائف الاجتماعية العليا الحصينة وحث رفاقه على الاحتذاء به.
كان شعار أمبيدكار لأتباعه هو «علم، حرك، نظم». وأنشأ جمعية تعليمية شعبية أدارت مدارس وكليتين جيدتين على الأقل؛ فكان أبناء الطوائف المجدولة الذين يذهبون إلى تلك المدارس وغيرها يتطلعون جميعا إلى أمبيدكار باعتباره معلمهم. وفي أوساط النخبة المثقفة للطوائف المجدولة، أصبحت كتب أمبيدكار أو كتيباته من قبيل القراءة الإلزامية، التي يتبادلونها بحب.
48
وهكذا بدأ ابن عامل المرفأ، الذي أرسلته منحة الحكومة إلى كلية سيدهارت في بومباي، يكتب في المجلات ويشارك في جلسات النقاش، حيث «كان موضوع تلك الكتابات والخطب كافة هو دائما بابا صاحب [أمبيدكار] وحركة الداليت التي أنشأها».
49
يبرز وجود بي آر أمبيدكار اختلافا كبيرا بين الطوائف المجدولة والأقلية الأخرى التي قارنتها بها؛ فالمسلمون لم تحجز لهم مقاعد في الحكومة ولا البرلمان، ولا كان لهم في الهند المستقلة زعيم في مقام أمبيدكار ليلهمهم ويوجههم في حياته أو بعد مماته.
10
في مارس من عام 1949، سارت مجموعة من الطوائف المجدولة من القرى المحيطة بدلهي إلى نصب المهاتما غاندي التذكاري في المدينة. كان السائرون قد طردوا من منازلهم على يد ملاك أراض من طائفة الجات، غضبوا من أن هؤلاء الخدم الذين كانوا مستعبدين سابقا بلغت بهم الوقاحة حد المشاركة في الانتخابات المحلية ورعي ماشيتهم في أراضي القرية العامة؛ ففي قلب العاصمة، بدأ هؤلاء المنبوذون إضرابا عن الطعام؛ حيث اجتذبوا بجلوسهم عند النصب التذكاري لأبي الأمة واستخدامهم أساليب الاحتجاج التي ابتكرها، اهتماما واسع النطاق؛ تضمن زيارات تضامنية من شخصيات بارزة من أتباع غاندي ووزراء في الاتحاد.
50
ننتقل بعد ذلك إلى حالة من الهند الحضرية، وهي: حالة نائب برلماني منتخب حديثا من الطوائف المجدولة تقدم بطلب انضمام إلى نقابة المحامين في مسقط رأسه، سيتابور. ظل طلبه معلقا أربعة أشهر، قيل له بعدها إنه يمكنه الانضمام، لكن لا يحق له استخدام دورة المياه، ولا يمكن إلا لمسلم أن يقوم على خدمته؛ فرفع المشرع المسألة إلى رئيس الوزراء، الذي تدخل ليكفل قبوله دون أي شروط.
51
ولكن في أماكن أخرى، لم يكن أبناء الطوائف المجدولة الذين تمسكوا بمواقفهم محظوظين مثله؛ فقد جمع عالم الاجتماع إن دي كامبل نماذج لمئات «الفظائع» المرتكبة في حق الطوائف المجدولة في الهند المستقلة. وإليكم بضعة نماذج مختارة - إن جاز التعبير - من البحث الذي أجراه كامبل:
أبريل 1951: معسكر عمال في ماتونجا، بومباي.
مجموعة من عمال المصانع يمثلون مسرحية يوم عيد ميلاد أمبيدكار. شباب من طائفة اجتماعية عليا يقاطعون العرض، ويعتدون على الممثلين، ويدمرون المسرح.
يونيو 1951: قرية في هيماجل براديش.
ملاك أراض من الراجبوت يهاجمون مؤتمرا للطوائف المجدولة. فيضربون أعضاء المؤتمر بالعصي، ويقيدون زعماءه بالحبال ويحبسونهم في حظيرة للماشية.
يوليو 1951: مدرسة ريفية في منطقة جلجاون بولاية بومباي.
معلم برهمي يسيء إلى أمبيدكار لطرحه مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية الهندوسي في البرلمان. صبي من الطوائف المجدولة يحتج؛ فيضرب ويخرج من المدرسة.
يونيو 1952: قرية في منطقة مادوراي بولاية مدراس.
شاب من الطوائف المجدولة يطلب الشاي في كوب زجاجي بمتجر محلي. التقاليد تنص على أنه لا يحق له الشرب إلا في كوب من قشر جوز الهند يستعمل مرة واحدة؛ فعندما يلح في طلبه، يركله هندوس من الطوائف الاجتماعية العليا ويضربونه على رأسه.
يونيو 1957: قرية في منطقة برباني بولاية ماديا بهارت.
أشخاص اعتنقوا البوذية حديثا يرفضون سلخ ماشية نافقة. ملاك الأراضي الهندوس يقاطعونهم، ويحرمونهم أي عمل آخر، ويهددونهم بالانتقام البدني.
مايو 1959: قرية في منطقة أحمد ناجار بولاية بومباي.
قافلة زفاف بوذية لا يسمح لها بدخول القرية من أبوابها. وعند إصرار أفراد القافلة، يهاجمهم هندوس من الطوائف الاجتماعية العليا بالأحجار والسيوف.
أكتوبر 1960: قرية في منطقة أورانج أباد بمهاراشترا.
هندوس من الطوائف الاجتماعية العليا يدخلون قرية خاصة بالطوائف المجدولة ويحطمون تمثالا لبوذا ولا يتبقى منه سوى قطع صغيرة.
52
ما تكشفه تلك الحالات - وحالات كثيرة أخرى مثلها - هو منظومة تتعرض لاضطراب عميق؛ ففي جميع أنحاء الهند، جعلت رياح السياسة الديمقراطية أبناء الطوائف المجدولة أكثر استعدادا للمطالبة بحقوقهم؛ فبمساعدة المقاعد المحجوزة لهم في المدارس والوظائف والمصانع والمجالس التشريعية، والإلهام الذي استمدوه من نموذج قائدهم بي آر أمبيدكار، والتشجيع الذي تلقوه من الأحكام الدستورية المؤيدة للمساواة الاجتماعية، مال كثير منهم إلى نبذ أسلوب الإذعان القديم مفضلين طريق التحدي الأكثر وعورة. وهذا بدوره أثار ردود أفعال مؤذية في بعض الأحيان ممن ظلوا يظنون أنفسهم في مكانة اجتماعية أسمى.
11
في شتاء 1925-1926، قام الكاتب ألدوس هكسلي برحلة طويلة في أرجاء الهند البريطانية؛ فحضر جلسة حزب المؤتمر الهندي في كنبور، واستمع إلى خطب مطالبة بالحرية. كان هكسلي متعاطفا مع تلك التطلعات إلى حد ما، ولكنه كان قلقا من أنها لا تعبر إلا عن مصالح الطوائف الاجتماعية العليا من الهندوس. وقد كتب عن أسفاره في كتاب فقال:
يبدو أمرا شبه قطعي أن جماهير الطوائف الهندية الدنيا سوف تعاني على أي حال في البداية، عند استقلال الهند؛ فحيث يمثل سمو الطوائف الاجتماعية العليا فوق الطوائف الاجتماعية الدنيا مسألة عقيدة دينية، يتعذر توقع أن تكون الأقلية الحاكمة حريصة بنحو خاص على حقوق الأكثرية، كما أن السماح لهم بحقوق يعد بالنسبة لهم من قبيل الهرطقة.
53
بعد مضي عقدين من الزمان نالت الهند استقلالها، وأسبغ الدستور حقوق المساواة على المواطنين جميعا، بصرف النظر عن الطائفة الاجتماعية أو العقيدة أو السن أو الجنس. بل إن الطوائف الاجتماعية الدنيا منحت حقوقا خاصة، وفرصا خاصة في الالتحاق بالمدارس والوظائف، تعويضا عن التفرقة التي عانوها على مر القرون السابقة. إلا أنه مثلما أشار أحد الأعضاء المنتمين للطوائف المجدولة في الجمعية التأسيسية للدستور، فإن قانون الدولة شيء والممارسة الاجتماعية شيء آخر تماما؛ فقد عارض مصلحون مثل جوتاما بوذا والمهاتما غاندي الاضطهاد الواقع على الطوائف الهندية، إلا أنهم جميعا «وجدوا صعوبة بالغة في طرد شبح ممارسة النبذ». فقد سنت قوانين لرفع التمييز ضد المنبوذين، فيما يتعلق بدخول المعابد على سبيل المثال؛ فقال أحد الأعضاء سائلا: «ما أثر تلك القوانين؟» ثم قدم الإجابة:
تلك القوانين لم تزحزح النبذ مثقال ذرة ... إذا كان لشبح النبذ أو وصمته أن ينصرفا عن الهند يوما، فلا بد من تغيير عقول عشرات الملايين من الهندوس، وما لم تتغير قلوبهم فلا أمل لدي يا سيدي في القضاء على ممارسة النبذ؛ فالأمر منوط بالمجتمع الهندوسي الآن ألا يمارس النبذ بأي شكل من الأشكال.
54
ساد مناخ تشاؤمي بشأن وضع المنبوذين في الهند الحرة، وأيضا بشأن مستقبل تلك الأقلية الأخرى الكبيرة غير الآمنة؛ المسلمين. وعندما تنقل آغا خان - الزعيم المؤثر للطائفة الإسماعيلية - في أنحاء الهند وباكستان عام 1951، وجد «خوفا رهيبا» لدى المسلمين على جانبي الحدود، ولكن بدرجة أكبر في الهند؛ فكتب إلى جواهر لال نهرو رسالة حدثه فيها عن «التخوف السائد بين المسلمين الذي أشاركهم شخصيا فيه إلى حد بعيد». كان ذلك التخوف من أنه «بعد خمسة أو عشرة أعوام من الآن قد تنشأ حكومة من هندو ماهاسابها تجعل من الاتحاد بين ما يمثل باكستان الآن - شرقا وغربا - مع بهارت [الهند] هدفا رئيسيا معلنا للسياسة الخارجية والسياسات العليا». وكان ذلك الزعيم المسلم يرى أنه ما إن يتولى حزب هندوسي شوفيني زمام السلطة، فسوف يستخدم قنابل ذرية لتحويل مجرى الأنهار المتدفقة عبر كشمير إلى باكستان، ومن ثم يجبر باكستان على الخضوع. وشبه الوضع بالحالة في العالم العربي، حيث يستعد السودان - حسب زعمه - لوقف تدفق مياه النيل إلى مصر. وكان آغا خان يرى أن الهند الهندوسية كانت لباكستان المسلمة مثلما كان السودان المسيحي لمصر المسلمة. وعلى حد تعبيره، فقد قال: «لقد شعرت بذلك المناخ التشاؤمي مخيما على المسلمين بسبب مسألة المياه تلك ذاتها ... إنه مطابق للتخوف المشابه في مصر.»
55
تلك الرسالة جديرة بالاهتمام لثلاثة أسباب على الأقل؛ أولا: إنها تعبير مبكر عن الخوف واسع الانتشار الآن من تعرض المسلمين للاضطهاد في جميع أنحاء العالم. وثانيا: هي تساوي بين مصالح الهنود المسلمين ورفاه باكستان. وثالثا، وهو السبب الأكثر دلالة على الأرجح: هي تتنبأ بأن جمهورية الهند ستصبح دولة هندوسية في غضون عشرة أعوام.
كان آغا خان وألدوس هكسلي محقين ومخطئين في تشككهما؛ محقين فيما يتعلق باستمرار الاضطهاد الاجتماعي، ومخطئين فيما يتعلق بنوايا القيادة السياسية العليا. ذلك لأن «الأقلية الحاكمة » كانت في الواقع حريصة كل الحرص على حقوق الأكثرية؛ ففي عام 1959 - أي بعد أكثر من عقد على الاستقلال - كتب محرر هندي معارض بشدة لجواهر لال نهرو، مضطرا، عن أعظم إنجازين لنهرو، وهما: إقامة دولة علمانية، ومنح المنبوذين حقوقا متساوية مع باقي الهنود. وإذ تذكر المحرر «القوى الرجعية التي ظهرت على الساحة بعد التقسيم»، قال معلقا: «لو كان نهرو أبدى أدنى قدر من الضعف، لكانت تلك القوى حولت هذا البلد إلى دولة هندوسية ... لم تكن الأقليات لتستطيع العيش فيها بأي قدر من الأمن أو السلامة.» وإضافة إلى ذلك، يعود «الفضل الدائم» إلى نهرو في إصراره على منح المنبوذين حقوقا كاملة، بحيث «تصان المساواة بين الناس بكل صرامة في الحياة العامة وفي جميع تصرفات الحكومة في دولة الهند العلمانية».
56
لا شك أن الفجوة بين السياسة العامة والممارسة الشعبية ظلت قائمة؛ فقد كان ثمة قوانين سارية تعزز العلمانية والمساواة الاجتماعية، ولكن معظم المسلمين والطوائف المجدولة ظلوا فقراء مهمشين. ولم يكن خطر العنف بعيدا أبدا. ولكن على الرغم من ذلك، فإنه نظرا لميلاد الأمة الدامي، والاستفزاز المستمر من باكستان، فلم يكن رفض الحكومة الهندية مزج الدين بالدولة أمرا هينا. وعلما بصلابة المؤسسات الاجتماعية عامة، والتاريخ العريق المقدس لمنظومة الطوائف الهندية خاصة؛ فقد كان تغير تلك المنظومة بهذا القدر أمرا لافتا للنظر. كان التقدم المحرز سواء في القضاء على ممارسة النبذ أو كفالة المساواة بين المواطنين في الحقوق متعثرا وبطيئا جدا، بمقاييس المصلحين الذين يمكن تفهم قلة صبرهم. إلا أن التقدم المحرز خلال الأعوام السبع عشرة التالية على استقلال الهند كانت أكثر على الأرجح من المحرز خلال 1700 عام سابق في المجمل.
الجزء
صعود الشعبوية
الفصل الثامن عشر
الحرب وخلافة نهرو
لا مجال للشك في أن نهرو لم يحاول إنشاء أسرة حاكمة خاصة به؛ فذلك لا يتسق مع شخصيته وسيرته المهنية.
الصحفي فرانك مورايس، عام 1960
1
توفي جواهر لال نهرو صبيحة يوم 27 مايو من عام 1964. ونقل الخبر للعالم في نشرة الساعة الثانية ظهرا عبر إذاعة «أول إنديا راديو». وبعد ساعتين أدى وزير الداخلية، جولزاري لال ناندا، اليمين الدستورية ليصير القائم بأعمال رئيس الوزراء. وبعد ذلك مباشرة، بدأ البحث عن خلف دائم.
كانت الشخصية المحورية في عملية اختيار رئيس الوزراء الجديد هي رئيس حزب المؤتمر، كيه كامراج. ولد كامراج عام 1903 في أسرة من طائفة اجتماعية دنيا في ريف تاميل، وترك المدرسة ليلتحق بالحركة القومية. قضى قرابة ثمانية أعوام في السجن، متفرقة على مدار عقدين من الزمان وست فترات سجن. وتعززت مكانته بين الناس بأسلوب حياته؛ فقد عاش حياة متقشفة ولم يتزوج قط. تدرج في مناصب الحزب باطراد، وشغل منصب رئيس حزب المؤتمر في تاميل نادو وكذلك رئيس وزراء مدراس قبل أن يتولى رئاسة الحزب على المستوى الوطني.
1
كان كامراج رجلا قصيرا ممتلئا له شارب أبيض، وحسب وصف أحد الصحفيين، فقد كان شكله «مزيجا بين سوني ليستون والفقمة»؛ فمثل الملاكم ليستون (ولكن خلافا لشخصية الفقمة في قصيدة لويس كارول) كان ذلك رجلا قليل الكلام. وكان الصحفيون يقولون مازحين إن إجابته على أي سؤال يطرحونه كانت كلمة واحدة باللغة التاميلية: «باركالام» (سوف نرى). وقد أفاده تحفظه كثيرا، لا سيما بعد وفاة نهرو، حينما صار عليه الاستماع إلى ما لدى رجال حزبه؛ فمنذ يوم 28 مايو، بدأ كامراج يتشاور مع رؤساء وزراء الولايات وزعماء الحزب («النقابة»، كما كان يطلق عليهم) بشأن الشخص الأمثل لخلافة نهرو. كان مورارجي ديساي من الأسماء المطروحة في البداية، وهو الإداري الممتاز من جوجارات، الذي أعرب بوضوح عن رغبته في تبوؤ ذلك المنصب.
في غضون أربعة أيام التقى كامراج اثني عشر رئيس وزراء للولايات و200 نائب في البرلمان. وتبين من تلك المحادثات أن ديساي من شأنه أن يكون خيارا مثيرا للجدل؛ إذ كان أسلوبه شديد الفظاظة. أما الشخص الذي بدا أنه يحظى بتفضيل معظم الأعضاء فكان لال بهادور شاستري، الذي كان رجلا إداريا لا غبار عليه أيضا، ولكن التعامل معه أسهل، إلى جانب أنه كان من قلب الهند. وإضافة إلى ذلك فقد اعتمد نهرو في أيامه الأخيرة على شاستري بصورة متزايدة. وتلك العوامل كلها كان لها ثقل كبير لدى كامراج، الذي كان معنيا بأن تمثل عملية الخلافة إشارة للاستمرارية.
فأقنع ديساي بسحب ترشحه، وفي يوم 31 مايو أقرت اللجنة العاملة لحزب المؤتمر اختيار لال بهادور شاستري. وفي اليوم التالي صدق الجناح البرلماني لحزب المؤتمر على الاسم، وفي اليوم الذي بعده أدى شاستري قسم رئاسة الوزراء. وسرعان ما بدأ رئيس الوزراء الجديد في العمل على توطيد سلطته؛ فقد استبعد ديساي من الوزارة لأنه أصر على يكون الرجل الثاني بعد رئيس الوزراء. وثارت ضجة من أجل إدخال ابنة نهرو، إنديرا غاندي، في الوزارة، فامتثل شاستري لتلك الرغبة، ولكنه خصص لها حقيبة وزارية غير ذات أهمية، هي: وزارة الإعلام والبث. والسيدة غاندي بدورها استبقت أي تحرك لشاستري إزاء الانتقال إلى قصر تين مورتي (الذي عاش فيه نهرو رئيسا للوزراء) باقتراحها تحويله إلى متحف تذكاري لوالدها.
2
عندما أعلن كامراج اختيار شاستري للصحافة، قال إن الحكم غير المتنازع عليه لرجل عظيم سوف يحل محله الآن نوع من القيادة الجماعية. ولكن شاستري كان له رأي آخر. كان من ابتكاراته الأولى إنشاء أمانة منفصلة لرئيس الوزراء، حيث يعمل مسئولون مختارون بعناية على إعداد الأوراق المعنية بمسائل السياسة. كان الهدف من ذلك هو ملء الفجوات في معلومات رئيس الوزراء - فجوات أكبر بكثير مما في حالة نهرو - وكذلك لإمداده بمصدر مستقل غير حزبي للنصيحة، يحرره من الاعتماد الزائد على مجلس الوزراء.
3
قبيل وفاة نهرو، وقعت المملكة المتحدة في مأساتها الخاصة، إذ وقع انقسام عميق بين أعضاء حزب المحافظين بشأن اختيار خليفة هارولد ماكميلان؛ فكان التعليق الجذل لصحيفة «ذا جارديان» التي جرت العادة على معاداتها لحزب المحافظين: «رئيس الوزراء الهندي الجديد اختير، رغم كافة النذر التشاؤمية، بسرعة أكبر - وكرامة أكبر بكثير - من رئيس وزراء بريطانيا الجديد.»
4
والتقى مراسل الصحيفة في نيودلهي بخليفة نهرو، ليجده «شديد الثقة بنفسه» و«رجلا قويا جدا لا مراء»، تحدث في جمل قصيرة ومحددة «دون إطناب».
5
أما موظفو الاستعمار القدامى فكانوا أقل تفاؤلا؛ فقد كتب أحد رجال دائرة الخدمة المدنية الهندية لآخر يقول إن وفاة نهرو جعلت مستقبل الهند مليئا بالشك، وأضاف: «لا يخيل لي أن شاستري يتمتع بالمكانة اللازمة لإبقاء الأمور تحت السيطرة، وكل مشاغب من كشمير إلى كومورين سيعمل على الاصطياد في الماء العكر، ناهيك عن الصين وباكستان؛ فهل سنكون قبرص ولكن بصورة مكبرة؟ يا له من زمن بغيض ذلك الذي نعيش فيه!»
6
2
بموت نهرو ، ماتت أيضا مبادرته الخاصة بكشمير. إلا أنه على الجانب المقابل من البلاد، اتخذت خطوات لتسوية النزاع بين متمردي ناجا وحكومة الهند؛ فكنيسة ناجالاند المعمدانية إذ آلمتها الدماء المراقة طوال عقد من الزمان، شكلت «بعثة سلام» مكونة من أفراد يتمتعون بثقة الجماعات المتمردة السرية وكذلك حكومة الهند. كان الأعضاء الثلاثة المتفق عليهم هم رئيس وزراء آسام، بي بي تشاليها، وزعيم حركة سارفودايا الذي حظي باحترام واسع النطاق، جايا براكاش نارايان، والقس الأنجليكاني مايكل سكوت، الذي ساعد على تأمين ملجأ في لندن لزعيم الناجا إيه زي فيزو.
طوال صيف عام 1964، تنقلت بعثة السلام في المنطقة، حيث التقت أعضاء في حكومة الولاية و«جمهورية ناجالاند الفيدرالية». ووقع الطرفان اتفاقية وقف إطلاق نار، دخلت حيز التنفيذ يوم 6 سبتمبر، وكانت إشارة بدئها هي دق أجراس الكنيسة. وبعد أسبوعين بدأت الجولة الأولى من المحادثات بين حكومة الهند والمتمردين.
7
من كوهيما، كتب جايا براكاش نارايان إلى صديق له يخبره أنه في حين لا يزال من الصعب التنبؤ بنهاية الموقف، فإن «الرغبة العارمة لدى جميع أبناء ناجا تقريبا في الوقت الحالي هي إقامة سلام باق على ما يبدو؛ فشعب ناجا لا يخشى شيئا أكثر من استئناف القتال». ثم أضاف، بنبرة أقل تفاؤلا: «إلا أنني لا أجد مفرا من أن أقول إنه فيما يتعلق بالمحادثات بين حكومة الهند وزعماء الحركة السرية، لم يحرز تقدم يذكر حتى هذه اللحظة.»
8
تكشف السجلات المطبوعة للمحادثات بين الحكومة والمتمردين عن تعارض جوهري في الموقفين؛ فقائد مجلس ناجا الوطني - إيساك سو - بدأ بقوله: «نقف هنا اليوم أمتين متجاورتين: أمة ناجا والأمة الهندية.» فرد وزير الخارجية واي دي جوندفيا قائلا: «نحن لا نعيش كأمتين متجاورتين؛ فالتاريخ يخبرنا أن ناجالاند كانت جزءا لا يتجزأ من الهند.» وبين هذين الموقفين المتعارضين، حاول بي بي تشاليها وجايا براكاش نارايان بجسارة إيجاد أرضية مشتركة؛ فأثنى تشاليها على أبناء ناجا باعتبارهم «شعبا ذا شيم نادرة رفيعة» وأمل في أن «يجد الطرفان وسيلة لسد الفجوة» بينهما. وقال نارايان إنه «يمكن الوصول إلى حل وسط لأننا نظن أن الطرفين على جانب من الحق؛ فإذا كان أحدهما محقا 100٪ أو مخطئا 100٪، فسيستحيل الوصول إلى حل وسط».
9
كان في المطالبة باستقلال ناجا تحد لفكرة الهند. وظهر تحد آخر مختلف اختلافا ما عندما أجرت الصين اختبارا لسلاح نووي في أكتوبر 1964؛ فعلى الفور تعالت دعوات المطالبة بتطوير الهند قنبلة ذرية بدورها. وفي 24 أكتوبر، تحدث مدير هيئة الطاقة الذرية - الدكتور هومي جيه بهابها - عن المسألة النووية عبر إذاعة «أول إنديا راديو»؛ فتحدث عن الحاجة إلى النزع الشامل للسلاح النووي، ولكنه أشار إلى أنه حتى حدوث ذلك، يمكن للهند أن تبتكر رادعا نوويا خاصا بها. وقال الدكتور بهابها إنه ما من طريقة ناجحة لوقف هجمة نووية في الجو، وأضاف: «الدفاع الوحيد ضد هجمة من هذا النوع هو على ما يبدو القدرة على الرد بالمثل والتهديد به.» وأردف: «الأسلحة الذرية تمنح الدولة التي تمتلك كمية كافية منها قوة رادعة ضد هجمات دول أقوى منها بكثير.» وفي نقطة تالية من حديثه، تطرق الدكتور بهابها إلى تكلفة إنشاء مخزون ذري؛ فوفقا لحساباته، كانت الخمسون قنبلة تكلف نحو 100 مليون روبية، وهي تكلفة «صغيرة مقارنة بالميزانيات العسكرية لدول كثيرة».
10
كان حديث ذلك العالم وقودا لحماس السياسيين - من حزب جانا سانج بالأساس - الذين كانوا يدعون منذ زمن لاختبار الهند قنابل ذرية هي الأخرى. وطرح النائب البرلماني هكم تشاندرا كشواي من دواس مشروع قرار في هذا الشأن في مجلس الشعب الهندي؛ فقد عرف الصين في خطاب بليغ على أنها عدو الهند الرئيسي وقال: «أيا كانت الأسلحة التي يمتلكها العدو، فلا بد أن نمتلكها نحن أيضا.» واستحضر ذكريات حرب عام 1962 قائلا إن الأمة ينبغي ألا يهدأ لها بال حتى تسترجع كل شبر أرض فقدته أو سرقته منها الصين. وقال إن امتلاك مخزون ذري من شأنه أن يرفع مكانة الهند عالميا أيضا.
تبع خطابه نقاش محتدم، أيد فيه بعض الأعضاء كشواي بينما عارضه آخرون بسبب سمعة الهند باعتبارها قوة داعية إلى السلام. حينئذ ادعى رئيس الوزراء أن أنصار القنبلة أخطئوا تأويل قصد الدكتور بهابها؛ فقد كان بهابها يدعو لنزع السلاح، وتكاليف الإنتاج التي ذكرها قصد بها الولايات المتحدة، التي تتيح البنية التحتية الذرية المتطورة لديها صنع قنابل إضافية بنفقات محدودة. أما في الهند، فالتكاليف - على حد قول شاستري - ستكون باهظة، وعلى أي حال، فإن تصنيع تلك الأسلحة الفتاكة سيكون فيه ابتعاد عن تراث غاندي ونهرو. ومن الجدير بالذكر أن رئيس الوزراء لم يتحدث من المنطلق الوطني الضيق وإنما من منظور الجنس البشري؛ فقد قال إن تلك القنابل تشكل تهديدا لبقاء العالم، وإهانة للبشرية بأكملها.
اتسم حديث شاستري بلهجة دفاعية إلى حد ما، وكان أقل إثارة للمشاعر بلا شك من خطاب المتحدث الرئيسي على الجهة المقابلة. إلا أن الأغلبية الكبيرة لحزب المؤتمر في مجلس الشعب كفلت هزيمة مؤكدة للقرار المطروح لمطالبة الهند بسلوك المسار النووي.
11
3
يقام احتفال سنوي بعيد الجمهورية الهندي يوم 26 يناير في نيودلهي، بانطلاق مسيرة تحت رعاية الحكومة في طريق راج باث (كينجزواي سابقا)، تتنافس فيها العربات المكشوفة بزينتها الزاهية التي تمثل الولايات المختلفة على انتباه المشاهدين مع الدبابات والغواصات المحمولة على مركبات. وفي عام 1965، كان من المفترض أن يكون عيد الجمهورية أكثر من استعراض رمزي للكبرياء الوطني؛ فيكون تأكيدا على الوحدة الوطنية. عام 1949، كانت الجمعية التأسيسية للدستور قد اختارت اللغة الهندية لغة رسمية للاتحاد الهندي. ودخل الدستور الذي صدق على هذا الاختيار حيز التنفيذ يوم 26 يناير عام 1950. إلا أنه تقرر ترك مهلة مدتها خمسة عشر عاما تستخدم فيها اللغة الإنجليزية إلى جانب الهندية للتواصل بين الحكومة المركزية والولايات؛ ففي عام 1965 كانت تلك المهلة على وشك الانتهاء، وبذلك تكون اللغة الهندية وحدها السائدة.
كان السياسيون في الجنوب قلقين منذ فترة طويلة حيال التغيير الخاص باللغة؛ ففي عام 1956، مررت أكاديمية الثقافة التاميلية قرارا يحض على «استمرار الإنجليزية لغة رسمية للاتحاد ولغة للتواصل بين الاتحاد وحكومات الولايات وفيما بين حكومات الولايات». كان من الموقعين على ذلك القرار سي إن أنادوراي، وإي في راماسوامي «بريار»، وسي راجا جوبالاتشاري. وكان المنظم الرئيسي للحملة هو حزب درافيدا مونيترا كازاجام، الذي عقد عدة اجتماعات للاحتجاج على فرض اللغة الهندية.
12
في أعقاب الحرب مع الصين تخلى حزب درافيدا مونيترا كازاجام عن نزعته الانفصالية؛ فهو لم يعد يرغب في دولة مستقلة، ولكنه رغب في حماية ثقافة التاميليين ولغتهم. كان الزعيم المعترف به للحزب هو سي إن أنادوراي، المعروف بأنا («الأخ الأكبر»). كان خطيبا مفوها قدم الكثير من أجل بناء حزبه حتى يصير قوة يعتد بها في الولاية. وكان أنا يرى أن اللغة الهندية مجرد لغة إقليمية مثل سائر اللغات في الهند، وليس لها «ميزة خاصة». بل إنها في الواقع أقل تطورا من اللغات الأخرى في الهند، وأقل تواؤما مع زمن حافل بالتطورات السريعة في العلوم والتكنولوجيا. ورد أنا ساخرا على الحجة القائلة بأن الهندية يتحدث بها عدد أكبر من الهنود من أي لغة أخرى، فقال: «لو كان علينا تقبل مبدأ التفوق العددي أثناء اختيار طائرنا الوطني، لوقع اختيارنا على الغراب العادي عوضا عن الطاووس.»
13
كان جواهر لال نهرو حساسا تجاه مشاعر أهل الجنوب، التي شاركهم فيها أهل الشرق والشمال الشرقي؛ ففي عام 1963 قاد مشروع قانون للغات الرسمية، نص على أنه بدءا من عام 1965 «يمكن» أن تظل الإنجليزية مستخدمة إلى جانب اللغة الهندية في الاتصالات الرسمية. وقد اتضح أن ذلك التنبيه يمثل إشكالية؛ ففي حين أن نهرو فسر «يمكن» على أنها تعني «سوف»، ظن أعضاء آخرون في حزب المؤتمر أنها تعني في الواقع «لا يمكن».
14
مع اقتراب تاريخ 26 يناير 1965، تأهب معارضو اللغة الهندية للتحرك؛ فقبل عيد الجمهورية بعشرة أيام، كتب أنادوري إلى شاستري ، قائلا إن حزبه سيعتبر يوم التحول للغة الهندية «يوم حداد». ولكن من المثير للاهتمام أنه أضاف في رسالته طلبا بتأجيل فرض اللغة الهندية أسبوعا. وحينئذ سوف يمكن لحزب درافيدا مونيترا كازاجام أن ينضم بحماس لسائر الأمة في احتفالها بعيد الجمهورية.
تمسك شاستري وحكومته بقرار جعل الهندية اللغة الرسمية يوم 26 يناير. وفي المقابل، شرع حزب درافيدا مونيترا كازاجام في حملة احتجاج على مستوى الولاية كلها؛ فأحرقت دمى شيطانية تمثل اللغة الهندية في قرى متعددة، وكذلك أحرقت كتب باللغة الهندية والصفحات ذات الصلة في الدستور، وفي محطات السكك الحديدية ومكاتب البريد أزيلت العلامات المكتوبة باللغة الهندية أو طليت كلها باللون الأسود. ونشبت معارك شرسة وقاتلة في بعض الأحيان بين الشرطة وطلاب غاضبين في بلدات الولاية قاطبة.
15
كانت الاحتجاجات جماعية في المعتاد، وجاءت في صورة إضرابات ومسيرات؛ إضرابات عامة جبرية وطوعية واعتصامات سلمية. وتروي العناوين الرئيسية في صحيفة «ذا هندو» جانبا من القصة:
إضراب عام شامل في كويمباتور
المحامون يضربون عن العمل
الطلاب يضربون عن الطعام في جماعات
إضراب سلمي في مادوراي
هجوم بالعصي في فيلوبورام
استخدام الغاز المسيل للدموع في أوتامباليام
وكان أحد أشكال الاحتجاج الاحتجاح الفردي، والذي كان مفزعا، هو: الانتحار. ففي عيد الجمهورية، أضرم رجلان النار في نفسيهما في مدراس. وترك أحدهما رسالة قال فيها إنه أراد تقديم نفسه قربانا لتاميل. وبعد ثلاثة أيام، قتل شاب في العشرين من عمره في تيروشي نفسه بتناول مبيد حشري. وترك رسالة هو الآخر قال فيها إنه انتحر في سبيل قضية تاميل. وقد أشعلت تلك «العمليات الاستشهادية» فتيل المزيد من الإضرابات وحملات المقاطعة.
ورد وصف حي للثورة عن أحد رجال الشرطة الذين أرسلوا لإخمادها؛ فعندما دخلت مجموعة من رجال الشرطة بلدة تيروبور، وجدوا أن:
أعمال الشغب انتهت ولكن الحشود ظلت باقية في فضول أو وجوم. وكانت شاحنات الشرطة وسياراتها الجيب ما بين محترقة ومشتعلة في الشوارع وفي المجمع الذي ضم مكتب التعلقة. كان قسم الشرطة ... حطاما، فيه جهاز إرسال احتياطي مقلوب، وقد تهشم زجاج القسم كله، وتهدم سور شرفته. كان رجال الشرطة المصابون يستريحون بالداخل بينما استلقى المفتش على ظهره متأثرا بجرح في بطنه. وتناثرت جثث القائمين بالشغب في الأرجاء؛ حيث تمددت إحداها على سلم القسم، وأخرى في شارع خلفي، بينما كانت جثة ثالثة أصيب صاحبها بطلق ناري في منتصف بطنه بالضبط مسجاة على ضفة نهر قريب، ومن خلفها حشد عدواني كانت مجموعة من رجال الشرطة المحملين بالبنادق لا تزال تصد محاولاته للتقدم.
وكتب ذلك الشرطي أن «الخطأ الحقيقي» كان هو «الفشل في تقدير عمق المشاعر» التي أثارها فرض اللغة الهندية؛ فما اعتبره بعض الناس في نيودلهي «استعراضا للتعصب ضيق الأفق لا أكثر» كان في الواقع «حركة قومية محلية».
16
أثارت شدة الاحتجاجات المناهضة للغة الهندية قلق الحكومة المركزية. وسرعان ما اتضح أن حزب المؤتمر الحاكم كان منقسما إلى نصفين؛ ففي اليوم الأخير من شهر يناير، التقت جماعة من رجال حزب المؤتمر البارزين في بنجالور لتوجيه نداء إلى «محبي اللغة الهندية ألا يحاولوا فرض الهندية على سكان المناطق غير المتحدثة بها». وقالوا إن التعجل في فرض اللغة الهندية من شأنه أن يعرض وحدة البلاد للخطر.
تضمن الموقعون على هذا النداء إس نيجالنجابا (رئيس وزراء ميسور)، وأتوليا جوش (زعيم حزب المؤتمر البنغالي)، وسانجيفا ريدي (أحد وزراء الاتحاد القدامى)، وكيه كامراج (رئيس حزب المؤتمر). وفي اليوم نفسه، تلقوا ردا من القيادي رفيع المستوى في حزب المؤتمر، مورارجي ديساي؛ ففي حديث إلى الصحافة في تيروباتي، زعم ديساي أن تعلم الهندية سيزيد في الواقع نفوذ التاميليين في الهند قاطبة. وقال إن زعماء حزب المؤتمر في مدراس ينبغي أن «يقنعوا الناس بخطئهم [بمعارضة اللغة الهندية] ويستميلوهم إلى صفهم». وأعرب ديساي عن أسفه لعدم جعل الهندية اللغة الرسمية في خمسينيات القرن العشرين، قبل أن تتبلور الاحتجاجات عليها؛ فالهندية وحدها هي التي يمكن أن تكون لغة الوصل في الهند، والبديل - اللغة الإنجليزية - «ليس لغتنا». وأصر ديساي على أنه «لا ينبغي لأي نعرات إقليمية أن تعترض طريق هذه الخطوة التي تعتزم الحكومة اتخاذها لزيادة توطيد وحدة البلاد».
17
أصبح رئيس الوزراء - لال بهادور شاستري - في موقف لا يحسد عليه؛ فقد كان قلبه مع المتحمسين للغة الهندية، لكن عقله حثه على الإصغاء للأصوات الأخرى. وفي 11 فبراير، أجبرته استقالة وزيرين اتحاديين من مدراس على الاستماع إلى صوت العقل؛ ففي مساء اليوم ذاته أعرب رئيس الوزراء عبر إذاعة «أول إنديا راديو» عن «شعور عميق بالضيق والصدمة» إزاء تلك «الأحداث المأساوية ». وبغية تبديد أي «سوء فهم» أو «سوء تأويل»، قال إنه سوف يلتزم تماما بتأكيد نهرو على أن اللغة الإنجليزية ستظل مستخدمة ما دام الناس يرغبون في ذلك. ثم قدم أربعة تأكيدات خاصة به، هي:
أولا:
كل ولاية سيكون لها حرية كاملة ومطلقة في الاستمرار في إجراء المعاملات الخاصة بها بلغة تختارها، يمكن أن تكون اللغة الإقليمية أو الإنجليزية.
ثانيا:
الاتصالات بين ولاية وأخرى ستكون إما بالإنجليزية أو ستصحبها ترجمة موثقة إلى اللغة الإنجليزية.
ثالثا:
سيكون للولايات غير المتحدثة بالهندية حرية مراسلة الحكومة المركزية باللغة الإنجليزية، ولن يتم تغيير هذا الترتيب دون موافقة الولايات غير المتحدثة بالهندية.
رابعا:
سيستمر استخدام اللغة الإنجليزية في إجراء المعاملات على المستوى المركزي.
وفيما بعد، أضاف شاستري تأكيدا خامسا بالغ الأهمية، وهو أن اختبار العمل في دوائر الخدمة المدنية لعموم الهند سوف يستمر إجراؤه باللغة الإنجليزية وليس اللغة الهندية فحسب (كما كان أنصار اللغة الهندية يريدون).
18
بعد أسبوع من حديث رئيس الوزراء في الإذاعة، دارت مناقشة طويلة حامية في البرلمان عن أعمال الشغب التي اندلعت في ريف تاميل؛ فأصر أنصار اللغة الهندية على أن معارضيها معادون للدستور وللوطنية في واقع الأمر، وزعموا أيضا أن الحكومة برضوخها للعنف سوف تشجع زيادة وتيرته. ورد الأعضاء التاميليون قائلين: «لقد قدمنا بالفعل تضحيات كافية من أجل شيطان اللغة الهندية.» وساندهم عضوان من البنغال؛ هما: هيرن موكرجي اليساري، الذي اتهم المتحمسين للهندية «بالاستخفاف المزدري» بمن لا يتحدثون لغتهم، وإن سي شاترجي اليميني الذي أشار إلى أن «القوة الموحدة الكبرى الآن هي الوحدة القضائية والقانونية للهند»، التي أتاحتها حقيقة أن المحكمة العليا ومحاكم القضاء العالي تتعاملان باللغة الإنجليزية. واستهجن النائب الهندي البريطاني فرانك أنتوني «التعصب والنزعة الظلامية والشوفينية المتزايدة لمن يزعمون التحدث باسم اللغة الهندية». ورأى جي بي كريبالاني - في حديث أهدأ نبرة - أن شوفينية اللغة الهندية لا أمل لها البتة؛ فحتى الأطفال الرضع الهنود - حسبما أشار - «لم يعودوا ينادون والديهم بالكلمات الهندية وإنما بالإنجليزية. وإننا نحدث كلابنا بالإنجليزية أيضا». وقال كريبالاني معلقا: «السيد أنتوني منفعل دون أي داع بشأن لغته الأم؛ فهي قد تزول في إنجلترا، و[لكنها] لن تزول في الهند.»
19
إن نظائر مسألة اللغة في الخمسينيات مذهلة؛ فآنذاك أيضا قادت حركة اجتماعية شعبية رئيس الوزراء إلى إعادة النظر في كل من الموقف الرسمي المعلن وتفضيلاته الشخصية؛ فقد كان نهرو معارضا لفكرة الولايات اللغوية، وكان شاستري مؤمنا بأن اللغة الهندية ينبغي أن تكون اللغة الرسمية الوحيدة المعمول بها في الاتحاد الهندي. ولكن عندما تدفقت الاحتجاجات إلى الشوارع، وعندما أبدى المحتجون استعدادا لبذل حياتهم (بوتي سريرامولو عام 1953 واثنا عشر شابا تاميليا عام 1965) اضطر رئيس الوزراء إلى إعادة النظر في الأمر. وفي الحالتين بدا أن صغار موظفي حزب المؤتمر انحازوا إلى صف المعارضة عوضا عن حكومة حزبهم. وكما كان الحال مع نهرو، كان تغير فكر شاستري متأثرا باعتبارات الحفاظ على وحدة الحزب بقدر تأثره باعتبارات الحفاظ على وحدة الأمة ذاتها.
4
من جنوب الهند، دعونا نعد إلى البقعة القديمة المليئة بالمتاعب في الشمال؛ أي كشمير. في مارس 1965، ذهب الشيخ عبد الله لأداء فريضة الحج في مكة؛ فقطع إليها الطريق الطويل، عبر لندن، حيث أقام أحد أبنائه. كان شاستري قد أخبر الشيخ عبد الله، عن طريق سودير جوش - نائب برلماني من مجلس الولايات كان قد تعاون مع المهاتما غاندي ذات مرة - أن أكبر أمل له هو الحصول على واد مستقل داخل الاتحاد الهندي. وظن جوش أن «أسد كشمير» كان في سبيله إلى تقبل تلك الفكرة، ولكن ببطء؛ فكتب إلى هوراس ألكسندر عضو جماعة الكويكرز - صديق الهند القديم - طالبا منه إبقاء عبد الله تحت ناظريه في لندن؛ إذ إن الحل المخطط لكشمير من شأنه أن «يتدمر إذا أدلى الشيخ عبد الله ببعض التصريحات غير الحكيمة في لندن، تحت ضغط من الصحفيين البريطانيين زائدي الحماس ... فبضعة تصريحات خاطئة سوف تعطي عناصر حزب المؤتمر المتلهفة لإغماد سكينها في ظهر الشيخ الدفعة اللازمة لإحباط احتمال التوصل إلى أي تسوية».
20
ويبدو أن عبد الله لم يفه بأي قول أهوج في المملكة المتحدة؛ فقد مضى في طريقه إلى مكة وتوقف في العاصمة الجزائرية في طريق العودة إلى الوطن. وهناك فعل شيئا أسوأ بكثير من التحدث بطيش إلى صحفي بريطاني؛ فقد التقى رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي، الذي تصادف وجوده في العاصمة الجزائرية أيضا. لم يكشف عن فحوى محادثتهما، ولكن كان كافيا أنه تناول العشاء مع العدو؛ فقد افترض أن الشيخ عبد الله - كما عام 1953، عندما التقى أدلاي ستيفنسون - ناقش احتمالية استقلال كشمير. عام 1953 اقتضى الأمر حبس الشيخ عبد الله أربعة أشهر. ولكن في هذه المرة قبض عليه عند نزوله من الطائرة في مطار بلام في نيودلهي. وأخذ إلى منزل تابع للحكومة في العاصمة، ثم نقل بعد فترة قليلة إلى الطرف المقابل من البلاد، إلى بلدة كودايكانال الجبلية في الجنوب. وهناك خصص له كوخ رائع، ذو إطلالة بديعة على جبال ليست بعظمة جبال كشمير، ولكنه منع من تجاوز حدود البلدية أو مقابلة الزوار دون تصريح رسمي.
استقبلت أنباء القبض على عبد الله بالتهليل في مجلسي البرلمان؛ فقد اعتبر خائنا للهند ليس لمجرد حديثه مع الزعيم الصيني، وإنما لحديثه معه بينما العدو الآخر - باكستان - لا يفتأ يقتطع أجزاء من الحدود؛ فبينما كان عبد الله في الحج نشب نزاع بشأن صحراء الران، تلك المستنقعات المالحة الموجودة في كوتش، التي ادعت كل من الهند وباكستان أحقيتها فيها؛ ففي الأسبوع الأول من أبريل، تبادلت قوات البلدين إطلاق النار في صحراء الران. واستخدم الباكستانيون دباباتهم الأمريكية لقصف المواقع الهندية، وكلل هجومهم بالنجاح؛ إذ اضطر الهنود إلى التراجع نحو أربعين ميلا حتى الأراضي الجافة. وتبادل الطرفان برقيات تلغرافية غاضبة، قبل أن يوافقا على اللجوء إلى تحكيم دولي تحت رعاية بريطانيا.
21
كان هوراس ألكسندر أحد المنزعجين من تصاعد المشاعر الشوفينية؛ فكتب إلى إنديرا غاندي عن ذلك وتلقى منها ردا وضع المشاعر المتأججة في سياقها الصحيح؛ فقالت السيدة غاندي: «ما لا يستوعبه سيادة الشيخ هو أن الغزو الصيني والتحركات الأخيرة لباكستان وداخلها، غيرتا وضع كشمير تماما.» فقد كانت حدود الولاية ملامسة للصين والاتحاد السوفييتي فضلا عن الهند وباكستان. و«في إطار الوضع العالمي الحالي، من شأن كشمير إن استقلت أن تصير مرتعا للدسائس والمؤامرات، وإلى جانب البلدان المذكورة أعلاه، فإنها سوف تجتذب الجاسوسية أيضا وغيرها من الأنشطة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة».
22
كان اعتقال عبد الله والاشتباكات التي جرت في كوتش قد أنبتا فكرة في مخيلة الرئيس الباكستاني أيوب خان، مؤداها: التحريض على قيام تمرد في الجزء الهندي من كشمير، يفضي إما إلى حرب تنتهي بضم الولاية إلى باكستان، أو إلى تحكيم دولي يأتي بالنتيجة ذاتها؛ ففي أواخر صيف عام 1965، شرع الجيش الباكستاني في وضع خطة «عملية جبل طارق»، المسماة تيمنا بانتصار عسكري شهير للموريين في إسبانيا إبان العصور الوسطى؛ فدربت الجماعات القتالية الكشميرية على استخدام الأسلحة الصغيرة، وسميت وحداتها على أسماء محاربين أسطوريين من الماضي الإسلامي: سليمان وصلاح الدين وما إلى ذلك.
23
في الأسبوع الأول من أغسطس، عبرت مجموعات غير نظامية خط وقف إطلاق النار إلى كشمير. وراحوا يفجرون الجسور ويقذفون المنشآت الحكومية بالقنابل الحارقة. كانوا يهدفون إلى إثارة التخبط، وكذلك الاضطراب. وأعلنت إذاعة «راديو باكستان» قيام انتفاضة شعبية في الوادي. في الواقع كان سكان المنطقة غير مبالين في معظمهم، بل إنهم سلموا بعض الدخلاء إلى الشرطة.
24
فعندما لم يتحقق التمرد المأمول، تحولت باكستان إلى خطتها البديلة، التي حملت اسم: «عملية جراند سلام». عبرت قوات باكستانية خط وقف إطلاق النار في قطاع جامو، وتقدمت سريعا باستخدام المدفعية الثقيلة ومدافع الهاون. قاومت القوات الهندية، وفي قطاع أوري نجحت في استرداد السيطرة على ممر حجي بير، وهو موقع استراتيجي يمكنهم استطلاع دخول المتسللين منه.
25
يوم 1 سبتمبر شن الجيش الباكستاني هجوما كبيرا في شامب، حيث عبرت الحدود فرقة مشاة مصحوبة بكتيبتين من دبابات باتون الأمريكية. واستغل الباكستانيون عنصر المفاجأة واحتلوا ثلاثين ميلا مربعا خلال أربع وعشرين ساعة. كان هدفهم هو الاستحواذ على الجسر عند أخنور ومن ثم قطع الصلات بين جامو وكشمير وبين ولاية البنجاب. حينذاك استدعى المدافعون قواتهم الجوية، ومن ثم أقبل نحو ثلاثين طائرة ممطرة قوات العدو بوابل من القنابل. وتصدت طائرات سابر النفاثة الباكستانية لطائرات فامبير الهندية.
بحلول يوم 5 سبتمبر كان وضع الهند يقترب من مرحلة اليأس، مع تقدم القوات الباكستانية الحثيث تجاه أخنور؛ فبغية تخفيف الضغط، أمرت نيودلهي الجيش بفتح جبهة جديدة؛ ففي صبيحة يوم 6 سبتمبر، عبرت عدة كتائب من الدبابات - مدعومة بقوات مشاة - الحدود الدولية التي تقسم البنجاب. كانت متجهة إلى مدينة باكستان الأولى مباشرة، لاهور؛ فأعيد نشر القوات والدبابات الباكستانية المستخدمة في عملية كشمير سريعا. وآنذاك بدأت معركة بالدبابات ربما كانت هي الأشد ضراوة في أي مكان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ فقد تقاتل الجانبان بلا هوادة، أحيانا على أراض جدباء، وأحيانا أخرى وسط حقول قصب السكر؛ فقد أجبرت القوات الهندية القوات الباكستانية على العدول عن مسارها تجاه أسل أوتر ولكنها هوجمت مرة أخرى أثناء محاولتها استعادة خم كاران. وقال القائد الهندي، الذي كان من مقاتلي الحرب العالمية الثانية المحنكين: «لم يسبق لي رؤية هذا الكم من الدبابات المدمرة، ملقاة في ساحة المعركة مثل لعب مهملة.»
26
دوى هدير الطائرات في السماء إذ انطلقت لمهاجمة قواعد العدو، وألقى الجانبان حمولات كبيرة من القنابل، ولكن - مثلما كتب مؤرخ هندي لذلك الحدث فيما بعد - «لحسن الحظ أو لسوء الحظ لم تنفجر بعض القنابل؛ فقد كانت قديمة ومعظمها حصل عليه الجانبان المتقاتلان من مصدر واحد».
27
إذ احتدمت المعارك، أدلت الصين بدلوها مناصرة للباكستانيين؛ ففي يوم 4 سبتمبر، أدان المشير تشن يي - في زيارة لكراتشي - «الإمبريالية الهندية لانتهاكها خط وقف إطلاق النار» وتحدث مؤيدا «الإجراءات العادلة التي اتخذتها حكومة باكستان لصد استفزازات الجيش الهندي». وبعد ثلاثة أيام أصدرت بكين بيانا ادعت فيه أن الهند كانت «لا تزال معتدية» على قطاعات كبيرة من الأراضي الصينية. وفي اليوم التالي صرح تشو إن لاي بأن «الأعمال العدوانية الهندية تشكل تهديدا للسلام في هذه البقعة من آسيا».
28
في نيودلهي، تملكت الشعب دفقة من المشاعر الوطنية؛ ففي جلسة الإحاطة الصحفية اليومية، كان الصحفيون يسألون المتحدثين باسم الحكومة: «هل سقط مطار لاهور؟» و«هل أصبحت محطة الإذاعة تحت سيطرتنا؟» ولكن لاهور لم تسقط، وإن كان سبب ذلك ظل مسألة خلافية؛ فقد زعم الهنود أن الاستحواذ على المدينة لم يكن في نيتهم مطلقا؛ فلم يقحمون أنفسهم في عملية في عقر دار العدو وسط شعب معاد؟! وزعم الباكستانيون أن رئيس أركان الجيش الهندي تفاخر بأنه سيحتسي شرابه المسائي في نادي جيمخانة بلاهور، ولكن حماة المدينة البواسل لم يسمحوا له بذلك قط.
29
أثار تصعيد الأعمال القتالية انزعاج القوتين العظميين، وفي يوم 6 سبتمبر اجتمع مجلس الأمن بالأمم المتحدة لمناقشة الأمر. واستقل الأمين العام للأمم المتحدة - يو ثانت - طائرة إلى شبه القارة الهندية، وبعد اجتماعه بزعماء في العاصمتين أقنعهم بالموافقة على وقف إطلاق النار. وكان اتخاذ ذلك القرار أيسر لأن الجانبين كان القتال قد بلغ بهما طريقا مسدودا في البنجاب. وفي يوم 22 سبتمبر، توقفت الأعمال القتالية أخيرا.
وقعت المعارك في قطاعين بالأساس من المنطقة الشمالية الغربية، هما: كشمير والبنجاب. وحدثت بعض الاشتباكات في السند، ولكن الحدود الشرقية - التي تفصل بين شطري البنغال - ظلت هادئة. وكما هو شائع في الحالات المماثلة، ادعى كل من الجانبين النصر، مبالغا في تقدير خسائر العدو ومقللا من خسائره الشخصية. والحقيقة أنه لا بد من إعلان أن نتيجة الحرب كانت متكافئة للطرفين؛ فوفقا لمصدر مستقل إلى حد معقول، فقدت باكستان من 3 آلاف إلى 5 آلاف جندي ونحو 250 دبابة وخمسين طائرة، بينما بلغت الخسائر على الجانب الهندي من 4 آلاف إلى 6 آلاف جندي ونحو 300 دبابة وخمسين طائرة. إلا أن الهند لضخامة تعداد سكانها وكبر جيشها مقارنة بباكستان، كانت أكثر قدرة على استيعاب تلك الخسائر.
30
وبالنسبة إلى الغرب، قدمت مجلة «ريدرز دايجست» هذا الملخص الشيق لتلك الحرب البعيدة:
لوثت دماء جنود باكستان والهند حقول القمح في البنجاب ومرتفعات كشمير الصخرية، بينما حلقت الطيور الجارحة فوق الجثث على طريق جراند ترانك - ذلك الطريق السريع الذي خلدته رواية «كيم» للشاعر والروائي كبلنج - وتجمع اللاجئون مستندين إلى عربات مائلة تجرها الثيران، مترددين في الشروع في رحلة العودة إلى ديارهم.
31
5
قبل الحرب كان شاستري وأيوب خان قد التقيا مرة، في كراتشي، في أكتوبر 1964، عندما توقف فيها الزعيم الهندي في طريق عودته من القاهرة. وثمة صورة لهما معا، وقف فيها أيوب، ذلك الرجل العسكري بقامته الفارعة مرتديا بذلة، إلى جوار شاستري، تلميذ غاندي الضئيل الذي وقف مرتديا المئزر الهندي. كان أيوب غير معجب بالرجل بالمرة، وقال لأحد مساعديه: «إذن هذا هو خليفة نهرو!»
32
من شبه المؤكد أن القيادة الباكستانية استخفت بالعزيمة القتالية الهندية إلى حد خطير؛ فقد أجريت عملية جبل طارق في ظل «النشوة التالية» لصراع كوتش، الذي «أظهر الهنود في موقف ضعيف».
33
ففي الأسبوع الأول من يونيو 1965، حملت صحيفة «دون» مقالا موقعا باسم مستعار لمسئول رفيع، حلل انتشار القوات الهندية قبل أن يوصي بأن الاستراتيجية الباكستانية ينبغي «بداهة أن تسدد ضربة قاضية على طريقة محمد على كلاي».
34
وصرح الجيش بثقة في أمر رسمي بأنه «كقاعدة عامة لن تحتمل الروح المعنوية الهندوسية أكثر من ضربتين قويتين تسددان في الوقت والمكان المناسبين».
35
وبالفعل كانت توجد سمة دينية لا لبس فيها مرتبطة بعملية أقدم عليها المسلمون الباكستانيون للذود عن إخوتهم في كشمير. واستحضرت ذكريات حروب خاضها المسلمون وانتصروا فيها منذ عشرة قرون؛ فكانت العناصر الراديكالية في باكستان تؤمن بأن الكفار سيهزمون بمزيج الحماسة الإسلامية والأسلحة الأمريكية.
36
وكان الأمل هو أنه بعد أن ينهض الكشميريون، سوف يقطع إخوانهم اتصالات العدو و«يبدءون النزهة الطويلة المتوقعة على طريق جراند ترانك إلى دلهي»، ليرغموها على استسلام مهين.
37
وكانت الأنشودة المترددة على شفاه المحاربين هي: «نلنا باكستان هزلا، وسنأخذ الهند حربا.»
ولكن الهجوم في واقع الأمر وحد صفوف الهنود؛ فكثير من الكشميريين وقفوا في صف الجيش ضد الغزاة. وقد نال جندي مسلم من كيرالا أعلى وسام شرف عسكري في الهند؛ وسام بارام فير شاكرا. ومسلم آخر من راجستان - يدعى أيوب خان على سبيل المفارقة - أتلف دبابتين باكستانيتين. وفي جميع أنحاء الهند، أدلى المثقفون ورجال الدين المسلمون بتصريحات تدين باكستان وتعرب عن رغبتهم في التضحية بحياتهم في سبيل وطنهم.
38
تشجع أيوب وأبناء بلده بالهزيمة النكراء التي ألحقتها الصين بالهند عام 1962. إلا أن تلك الهزيمة وقعت في منطقة الهيمالايا الرطبة الزلقة، بينما كانت تضاريس تلك منطقة الحرب مع باكستان معروفة للهنود أكثر بكثير؛ فقد أثبت قادة الجيش الهندي براعتهم في معارك جرت على أراض منبسطة في الحرب العالمية الثانية. وإضافة إلى ذلك، فقد تزودوا منذ عام 1962 بمعدات أكثر (وأفضل)؛ فوزير الدفاع الجديد - واي بي تشافان - ذهب في رحلة تسوق عام 1964، زار فيها عواصم غربية ودول الكتلة السوفييتية لشراء الدبابات والطائرات والبنادق والغواصات التي تحتاج إليها قواته.
39
وإضافة إلى ذلك، فوزير الدفاع هذا كانت قواته تحترمه أكثر من نظيره عام 1962؛ فتشافان لم يكن ككريشنا مينون، وكذلك لم يكن شاستري كنهرو فيما يتعلق بالحرب. لا شك أنه كان يفضل السلام؛ فقد كتب إلى أحد أصدقائه بعد النزاع في كوتش معربا عن رأيه في أن المشكلات بين الهند وباكستان ينبغي أن تحل وديا، تدريجيا. وكان يأمل ألا «يتخذ تقاتلنا ونزاعنا شكلا يجعل خيار المعركة حتميا».
40
ولكن عندما حان وقت الحرب كان حاسما، وأسرع بطلب النصح من قياداته وأمر بالضربة عبر الحدود البنجابية. (في وضع مشابه - عام 1962 - رفض نهرو الاستعانة بالقوات الجوية لتخفيف الضغط.) وعندما انتهى النزاع، لم يجد شاستري حرجا في أن تلتقط له صورة - بمئزره وزيه الكامل - فوق إحدى دبابات باتون التي استولت عليها القوات الهندية، وهي بادرة لم يكن سابقه ليعدها هينة.
إلا أن شاستري كان يشبه نهرو من ناحية واحدة في الواقع، وهي رفضه المزج بين شئون الدين والدولة ؛ فبعد أيام على وقف إطلاق النار، بينما كانت المشاعر الوطنية متأججة، تحدث شاستري في مؤتمر شعبي بساحة رام ليلا في دلهي؛ فأبدى اعتراضه على تقرير صادر عن إذاعة بي بي سي، ادعى أنه «بما أن رئيس وزراء الهند لال بهادور شاستري هندوسي، فهو مستعد لدخول حرب مع باكستان». وقال شاستري إنه في حين أنه هندوسي، فإن «مير مشتاق رئيس هذا المؤتمر مسلم. والسيد فرانك أنتوني الذي تحدث إليكم مسيحي. وثمة سيخ وبارسيون بيننا أيضا؛ فالسمة الفريدة لبلدنا هي أن لدينا هندوسا ومسلمين ومسيحيين وسيخا وبارسيين وأناسا من الديانات كافة. ولدينا معابد ومساجد ودور عبادة سيخية وكنائس. ولكننا لا نقحم ذلك كله في السياسة ... هذا هو الفرق بين الهند وباكستان؛ ففي حين أن باكستان تعلن نفسها دولة إسلامية وتستخدم الدين عاملا سياسيا، نتمتع نحن الهنود بحرية اتباع أي دين نختاره ونمارس عباداتنا كيفما يحلو لنا. وفيما يتعلق بالسياسة، كل واحد منا لا يقل هندية عن الآخر مثقال ذرة».
41
6
أثناء الحرب مع باكستان، صاغ رئيس الوزراء شعار «جاي جوان جاي كيسان» (يحيا الجندي، يحيا الفلاح)؛ فكانت تحية الجندي العادي (جوان) في دولة أخرجتها سلمية غاندي إلى النور بادرة مميزة، وكذلك كانت الإشارة إلى المزارع المتواضع - كيسان - في أمة تربت على الإعجاب بالأفران اللافحة والسدود الكهرمائية العالية.
والحقيقة أن أحد أول الإجراءات التي اتخذها شاستري بصفته رئيسا للوزراء كان زيادة المبالغ المخصصة للزراعة من الميزانية؛ فقد كان شديد القلق بشأن نقص إنتاج الغذاء في السنوات الأخيرة؛ فمعدل زيادة الحبوب الغذائية بالكاد واكب النمو السكاني. وإذا شحت الأمطار، حل الذعر، وطفق التجار يكنزون الحبوب بينما الدولة تحاول في استماتة نقل المخزونات من مناطق الفائض إلى مناطق العجز. وقد حدث جفاف عام 1964 وآخر عام 1965؛ فسعيا وراء حل بعيد المدى، عهد شاستري إلى سي سوبرامانيم بوزارة الأغذية والزراعة. ولد سوبرامانيم عام 1910 في أسرة من المزارعين، ونال درجتين علميتين في العلوم والقانون، ومارس القانون قبل انضمامه إلى المعركة من أجل الحرية. كان عضوا في الجمعية التأسيسية للدستور ، وحظي باحترام واسع النطاق عندما شغل منصب وزير في مدراس، قبل أن ينضم إلى وزارة الاتحاد. كان معروفا عنه الذكاء والإقدام، ولهذا كلفه نهرو بوزارة الصلب والمناجم المرموقة؛ فكان نقله من مجال صناعة الصلب إلى الزراعة إشارة إلى حدوث تغير كبير بحق.
42
أقبل سوبرامانيم على وظيفته الجديدة بهمة؛ فركز على إعادة تنظيم العلوم الزراعية، بتحسين أجور العلماء وظروف عملهم وحمايتهم من التدخلات البيروقراطية . واكتسب المجلس الهندي للبحوث الزراعية - الذي كان فيما مضى هيئة خاملة إلى حد ما - حياة وهوية جديدتين. وإلى جانب إعادة إحياء المجلس، شجع سوبرامانيم الولايات أيضا على إنشاء جامعات زراعية تركز الأبحاث فيها على المحاصيل الإقليمية، وافتتح مزارع تجريبية، وأنشأ هيئة بذور هندية لإنتاج كميات كبيرة من البذور عالية الجودة التي سوف تستلزمها برامج التكثيف الزراعي المقترحة.
كان اثنان من المساعدين الرئيسيين لسوبرامانيم مثله، من ريف تاميل؛ أحدهما سكرتير وزارة الزراعة القدير بي سيفارمان، والآخر العالم إم إس سواميناثان، الذي تولى توجيه الفرق البحثية التي تعمل على تكييف القمح المكسيكي مع الظروف الهندية؛ فالاستراتيجية الجديدة كانت مرتكزة حول ذلك النوع من المحاصيل. ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من أن القمح يزرع في شمال البلاد بالأساس، كان مهندسو السياسة الزراعية الهندية الثلاثة هؤلاء جميعا من (أقاصي) الجنوب.
43
وفي الوقت نفسه، استطاع سوبرامانيم إقناع الولايات المتحدة بتقديم معونة غذائية حتى يصير الهنود قادرين على زيادة إنتاجهم المحلي؛ فقد التقى الرئيس الأمريكي - ليندون جونسون - وخلف لديه انطباعا حسنا، وأقام علاقة شراكة وثيقة مع وزير الزراعة الأمريكي، أورفيل فريمان. وفي ديسمبر 1965 وقع سوبرامانيم وأورفيل اتفاقية في روما، ألزمت الهند نفسها بموجبها بزيادة الاستثمار في الزراعة بدرجة كبيرة، وبإصلاح منظومة الائتمان الريفي، والتوسع في إنتاج الأسمدة واستهلاكها. وفي المقابل، قدمت الولايات المتحدة سلسلة من القروض الميسرة ووافقت على إبقاء إمدادات القمح مستمرة لتغطية العجز لدى الهند في تلك الفترة.
44
بينما كان سوبرامانيم يوقع ما سمي «معاهدة روما» بصفة غير رسمية، كان رئيس الوزراء يتأهب للذهاب إلى موسكو لتوقيع اتفاقية هو الآخر ، مع نظيره الباكستاني أيوب خان؛ فبعدما وضعت الحرب أوزارها، عرض الاتحاد السوفييتي المساعدة في التوصل إلى تسوية سلمية. وفي الأسبوع الأول من يناير 1966، التقى شاستري وأيوب خان في طشقند، حيث اضطلع رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي - أليكسي كوسيجين - بدور الوسيط الرئيسي بينهما. وبعد أسبوع من المساومات الشاقة وافق الطرفان على التخلي عن أغلى شيء لديه؛ التحكيم الدولي لنزاع كشمير بالنسبة إلى باكستان، والإبقاء على نقط الحراسة الرئيسية المستحوذ عليها أثناء الحرب (مثل ممر حجي بير) بالنسبة إلى الهند. ونصت «اتفاقية طشقند» على انسحاب القوات إلى مواقعها قبل 5 أغسطس 1965، والنقل المنظم لأسرى الحرب، واستئناف العلاقات الدبلوماسية، ونبذ اللجوء إلى القوة في حل النزاعات المستقبلية.
45
وقعت الاتفاقية عصر يوم 10 يناير 1966. وفي تلك الليلة، توفي شاستري أثناء نومه، إثر سكتة قلبية. نقل جثمانه يوم 11 يناير على متن طائرة سوفييتية إلى نيودلهي. وفي صباح اليوم التالي وضع جثمانه على عربة مدفع، ونقل في موكب إلى ضفاف نهر يمنا، حيث أحرق على مقربة من مكان حرق جثماني غاندي ونهرو. جعلت مجلة «لايف» من ذلك الحدث قصة الغلاف، كما فعلت عند وفاة سلف شاستري قبل ذلك بعشرين شهرا. نشرت المجلة صورا حية لحشد من الناس بلغ مليون شخص جاءوا لتشييع رجل «شعر هنود كثر بتآلف معه أوثق من نهرو». وحسب ما ورد في المجلة، كان ما أعطاه شاستري للهند هو «مزاج بالأساس؛ صلابة جديدة وحس جديد بالوحدة الوطنية»؛ فالحرب الصينية كانت قد أوصلت البلاد إلى حالة شبه انهيار، ولكن هذه المرة، عندما جاءت الحرب، «سار كل شيء على خير ما يرام؛ فالقطارات مضت في مسارها، والجيش صمد، ولم تحدث أعمال شغب طائفية. وولى التكلف الأخلاقي القديم، وخيبة الأمل والنفور، والخوف والضيق».
46
كانت تلك إشادة كريمة، ولكن ربما كانت المجاملات الواردة عمن جعلتهم أواصر القرابة ميالين لاعتبار شاستري دخيلا هي الأجدر بالملاحظة؛ ففي الأشهر الأولى من حكم رئيس الوزراء الجديد، شكت إنديرا غاندي ابتعاده عن تراث والدها. ولكن في غضون سنة وجدت نفسها مضطرة إلى الإقرار بأن «السيد شاستري أصبح - على ما أظن - يشعر بمزيد من القوة والثقة بنفسه الآن».
47
وأيضا فيجايا لاكشمي بانديت، التي كانت أكثر تعصبا في إخلاصها لذكرى أخيها؛ فهي في يوليو 1964 كانت ترى أن الروح المعنوية للحكومة الهندية «منخفضة إلى حد لا يصدق»، وأنه «الآن لم يعد ثمة جواهر لال نهرو لكي ينهض ويعيد الثقة إلى أذهان الناس». إلا أنها عند وفاة شاستري شعرت «بحزن شديد» لأنه «كان قد بدأ ينضج وكلنا ظننا أنه سوف يضع الهند على الطريق الصحيح».
48
كان ذلك التسامح خليقا بها، ولكننا عندما ننظر إلى هوية كاتبة هذه الكلمات ووقت كتابتها، لا بد أن نعتبرها إشادة كبيرة.
ربما ينظر إلى لال بهادور شاستري مقارنة بجواهر لال نهرو مثلما ينظر إلى هاري ترومان مقارنة بفرانكلين ديلانو روزفلت؛ فنهرو وروزفلت كلاهما أتى من طائفة عليا، وتوليا مقاليد السلطة فترة طويلة، وأحدثا تغييرات جوهرية في مجتمعهما وأمتهما، وحظيا بإجلال كبير لدورهما ذاك. أما شاستري فكان مثل ترومان، فتى نشأ في بلدة صغيرة ومن خلفية بسيطة، أخفى ضعف كاريزمته وراءه إرادة راسخة وعقلية مستقلة. ومثل ترومان، كانت عقليته قد أمدته بحس عملي رفيع، على النقيض من أسلوب سلفه الذي اتسم بزيادة اعتماده الواعي على الفكر، بل الأيديولوجية. ولكن أوجه المقارنة تنتهي فيما يتعلق بطول مدة الخدمة؛ ففي حين أن ترومان شغل منصب رئيس الولايات المتحدة سبعة أعوام كاملة، توفي شاستري بعد قضائه أقل من عامين في منصب رئيس وزراء الهند.
7
عند وفاة شاستري، أدى جولزاري لال ناندا مرة أخرى القسم كرئيس وزراء مؤقت، ومرة أخرى بدأ كامراج رحلة البحث عن خلف دائم. ومرة أخرى أعرب مورارجي ديساي عن رغبته في المنصب، ومرة أخرى رفضه كامراج وآثر عليه مرشحا يحظى بقبول أوسع نطاقا.
كان الشخص الذي فكر فيه رئيس حزب المؤتمر خلفا لشاستري هو إنديرا غاندي. كانت شابة - أتمت لتوها عامها الثامن والأربعين - وجذابة، ومعروفة لدى زعماء العالم، وابنة أكثر رجال الهند شعبية؛ فمن أجل تهدئة روع أمة تعرضت لخسارتين متلاحقتين، بدت هي الخيار الأكثر بديهية. صحيح أن خبرتها في الإدارة كانت محدودة، لكن «نقابة» حزب المؤتمر اعتزمت التأكد من جعل قيادتها «جماعية» على النحو السليم.
وسرعان ما أيد رؤساء وزراء الولايات الذين طلب كامراج مشورتهم اسم إنديرا غاندي، حتى هذه اللحظة سارت الأمور على خير ما يرام، باستثناء أن مورارجي ديساي قرر المنافسة على القيادة. ومن ثم فإن نيودلهي «تحولت إلى بؤرة للجهود المتضافرة لالتماس الأصوات، وممارسة الضغوط واسعة النطاق، والمساومات المحمومة». فقد التقت السيدة غاندي ومورارجي ديساي بالزعماء الكبار، فيما انطلق مساعدوهم في إثر الأعضاء الصغار.
49
من حيث الخبرة وكذلك المقدرة كان ينبغي أن يحظى ديساي بالأفضلية؛ فقد كتب جواهر لال نهرو ذات مرة: «قليلون جدا هم الأشخاص الذين أكن لهم احتراما كبيرا لاستقامتهم ومقدرتهم وكفاءتهم وإنصافهم كمورارجي ديساي.»
50
وثمة شك في أن نهرو كان يمكن أن يكتب عن ابنته بالأسلوب ذاته. ومن المؤكد أنه لم يكن يأمل أن تخلفه إنديرا غاندي في رئاسة الوزارة أبدا. إلا أن الكلمات التي اقتبستها هنا وردت في رسالة خاصة، لم يطلع عليها ديساي ومؤيدوه. وحتى لو كانوا اطلعوا عليها، فمن المستبعد أن يكون ذلك قد حسن الموقف؛ فبالدعم القوي الذي قدمه كامراج ونقابة حزب المؤتمر للسيدة غاندي، والشكوك التي انتابت أعضاء آخرين في حزب المؤتمر حيال ديساي، حصلت ابنة نهرو على دعم أغلبية الأعضاء في الجناح البرلماني لحزب المؤتمر. وعندما صوت ذلك الكيان لاختيار رئيس وزراء يوم 19 يناير، ربحت 355 صوتا مقابل 169. وكما كتب أحد صحفيي دلهي ساخرا: كامراج «جمع حكام الولايات صفا وراء السيدة غاندي» لأن «زعماء الولايات ما كانوا ليرضوا إلا بشخص وديع ليشغل منصب رئيس الوزراء في الحكومة المركزية».
51
8
كانت إنديرا غاندي ثاني امرأة تنتخب لقيادة دولة حرة (كانت سيريمافو باندرانيكي في سيلان هي الأولى)، وثاني عضو يشغل منصب رئيس وزراء الهند في أسرتها. وإن جاز وصف الأشهر الأولى التي قضتها في منصبها بشيء فهو أنها كانت مضطربة مثل الأشهر الأولى لوالدها. لم يحدث الكثير في فبراير، ولكن في شهر مارس اندلعت ثورة كبرى في تلال ميزو. تلك التلال المتعرجة، التي مثلت منطقة قبلية متاخمة لباكستان الشرقية، بلغ تعداد سكانها 300 ألف فحسب. ولكنهم - كما في ناجالاند - كان بينهم بعض الشباب الطموحين العازمين على اقتطاع وطن خاص بهم.
ترجع أصول نزاع ميزو إلى مجاعة حدثت عام 1959، عندما أفضت نوبة ازدهار عظيمة لأشجار البامبو إلى زيادة هائلة في أعداد الفئران. أتت تلك الفئران على الحبوب المزروعة في الحقول وفي مخازن القرية، مسببة ندرة في الطعام للبشر؛ فتشكلت جبهة ميزو الوطنية للمجاعة، التي وجدت تهاونا في استجابة الدولة؛ فحينئذ أسقطت الجبهة لفظة «المجاعة» من اسمها، لتصبح «جبهة ميزو الوطنية». وطالبت في البداية بولاية منفصلة داخل الاتحاد الهندي، ثم ببلد مستقل.
كان زعيم جبهة ميزو الوطنية محاسبا سابقا يدعى لالدنجا؛ فإذ أحدثت فيه المجاعة تأثيرا عميقا، التجأ إلى الكتب؛ القصص البوليسية لبيتر تشيني في البداية، ثم تطور مع الوقت إلى قراءة أعمال ونستون تشرشل وكتب تمهيدية عن حروب العصابات. وفي شتاء 1963-1964، اتصل لالدنجا بالحكومة العسكرية لباكستان الشرقية، التي وعدته بإمداده بالأسلحة والأموال وقاعدة يطلق منها هجماته. وخزنت الأسلحة التي حصل عليها بهذه الطريقة في غابات محاذية للحدود.
52
بعد سنوات من التخطيط المتأني - جند خلالها كثيرا من شباب قبائل الميزو ودربهم على استخدام الأسلحة الحديثة - أشعل لالدنجا فتيل انتفاضة في اليوم الأخير من فبراير 1966؛ فهاجمت مجموعات من جبهة ميزو الوطنية المكاتب والمنشآت الحكومية، ونهبت البنوك، وعطلت الاتصالات. وسدت الطرق لمنع الجيش من تحريك قوات إلى المنطقة. وفي أوائل مارس أعلنت جبهة ميزو الوطنية انفصال المنطقة عن الاتحاد الهندي وتحولها إلى جمهورية مستقلة.
53
أسقطت الجبهة مدينة رئيسية واحدة، هي لونجلي، وزحفت زحفا حثيثا على إيزاول عاصمة المنطقة؛ فردت الهند باستدعاء الجيش والقوات الجوية. أمطرت القوات الجوية لونجلي بوابل من النيران حتى تجبر المتمردين على الخروج منها؛ فكانت تلك أول مرة تستخدم فيها الدولة الهندية قواتها الجوية ضد مواطنيها. وكما في ناجالاند، كان المتمردون يلوذون إلى الأدغال، ويزورون القرى ليلا. وبعد أسبوعين من القتال الشرس، تمكن مبشر من ويلز كان يعمل في المنطقة من تهريب التقرير الآتي إلى صديق له في إنجلترا:
صباح يوم السبت حزمنا ما استطعنا من أمتعة في صناديق ... وحزمنا حقيبة محمولة للذهاب إلى درلانج عبر الغابة ... وقبل الموعد المقرر لبدء مسيرتنا بخمس دقائق حلقت فوقنا طائرة فاتحة نيران مدافعها الرشاشة ... لم تكن تطلق النيران عشوائيا، وإنما حاولت تصويبها على مواقع المتمردين ... مكثنا هناك طوال اليوم وراح الرجال يحفرون خندقا، كنا نختبئ فيه كلما جاءت الطائرات مطلقة نيرانها. شاهد بكليرا بيته يحترق. طهونا بعض الأرز في بيت صغير، ولكننا قررنا أن النوم فيه لن يكون آمنا ومن ثم نمنا جميعا في شرفة في الغابة كانت لها حافة واقية. ولكنه كان نوما قلقا؛ فقد أفقنا في الليل على مرأى النيران مشتعلة في دوروبي كلها، من طرفها القصي حتى طريق الجمهورية. يقولون إن تلك كانت محاولة من أتباع لالدنجا لطرد أفراد قوة «بنادق آسام» من المدينة.
قدمت تلك الرسالة تصويرا حيا لخوف رجل الميزو العادي، الذي وقع في مرمى النيران بين المتمردين والدولة. ومضت الرسالة لتتحدث - بنبرة أكثر تأملا - عن أن النزاع:
سيمثل انتكاسة خطيرة جدا للبلاد ... فقد اضطرت الحكومة إلى إرسال مثل تلك القوات من الجيش حتى تئد هذه الحركة في مهدها تحسبا لتحولها إلى ما يشبه أرض ناجا. كل ما كنا نتمناه هو أن يستسلم المتمردون حتى تعود الأوضاع إلى طبيعتها بأسرع ما يمكن، ولكن التعليم سيظل في حالة فوضى عارمة لفترة؛ فامتحانات القبول بالجامعة ينبغي أن تبدأ الأسبوع المقبل. وجزء كبير جدا من المسئولية عن وضع البلاد في هذه الحالة المؤسفة يبوء بها رجال مثل لالدنجا وسكلاوليانا.
54
على النقيض من الاستسلام، واصل المتمردون القتال، واستمر النزاع بقية ذلك العام، وجزءا من العام التالي. وفي الوقت نفسه، كانت بعثة السلام في ناجالاند قد انهارت؛ ففي الأسبوع الأخير من فبراير 1966، استقال جايا براكاش نارايان من البعثة، قائلا إنه فقد الثقة في قبائل ناجا. كان قد أخبر جماعة المتمردين السرية أنه بعد الحرب الهندية الباكستانية صار ينبغي لها التخلي عن مطالبتها بالاستقلال، والاكتفاء بالتمتع بالحكم الذاتي داخل الاتحاد الهندي؛ ففي ظل النظام الفيدرالي، تتركز الشئون الخارجية وشئون الدفاع في يدي الحكومة المركزية، ولكن أكثر المسائل أهمية - التعليم والصحة والنمو الاقتصادي والثقافة - تقع تحت سيطرة الولايات. ومن ثم نصح جايا براكاش نارايان رجال فيزو بإلقاء السلاح والترشح للانتخابات، من أجل تولي زمام الإدارة سلميا.
55
في الوقت الذي أعرب فيه جيه بي عن خيبة أمله في المتمردين، فقد مايكل سكوت ثقة الحكومة الهندية؛ فقد اتهمته بالسعي إلى «تدويل» قضية ناجا من خلال اللجوء إلى الأمم المتحدة. وكان سكوت قد اقترح أن النماذج المرجحة لناجالاند كانت بوتان وسيكيم، وكلاهما بلد مستقل اسميا، له علم وعملة وحاكم، ولكنه تابع للهند عسكريا؛ ففي مايو 1966، طلبت نيودلهي من سكوت مغادرة البلاد، موضحة أنه لا يجدر به العودة.
56
لم يكن ثمة شك في التزام مايكل سكوت الراسخ تجاه قضية ناجا؛ ففيما بين عامي 1962 و1966 من المرجح أنه زار الهند نحو اثنتي عشرة مرة نيابة عن فيزو، لكنه عجز عن رؤية أن الاستقلال السياسي لقبائل ناجا لم يكن مقبولا بالنسبة إلى الحكومة الهندية. كانت الحكومة على استعداد لمنح فيزو العفو، وحق المرور الآمن إلى ناجالاند، وحتى منصب رئاسة وزراء الولاية إذا كانت تلك رغبته. إلا أن المتمرد العجوز ظل ينتظر المزيد في إصرار عنيد، وسانده سكوت في إصراره. استثار هذا الوضع رجلا انجليزيا آخر طويل العهد بالهند، هو الصحفي جاي وينت، الذي علق قائلا: «إن العقبة الرئيسية أمام إرساء السلام في تلال ناجا هي تعصب أشخاص من قبيل مايكل سكوت وديفيد أستور، اللذين سمح كل منهما لفيزو باستغلاله. وكلاهما لا يدرك إطلاقا الشيء الموضوع على المحك بقبول مطالبة قبائل ناجا بالانفصال الكامل.»
57
تمثل انهيار محادثات السلام في نوبة من الهجمات على أهداف مدنية؛ ففي يوم 20 أبريل فجرت قنبلة في قطار في آسام العليا، وراح ضحيتها خمسة وخمسون راكبا. وبعد ثلاثة أيام حصد انفجار على قطار آخر أرواح أربعين شخصا. كان الراديكاليون في قبائل ناجا آنذاك على اتصال ببكين ، التي التمسوا منها العون لاستئناف معركتهم.
58
خيم الاضطراب على القبائل الحدودية، وكذلك في أجزاء من قلب الهند؛ فقد أشعلت نوبات نقص الغذاء في منطقة بستار - في وسط الهند - فتيل حركة شعبية بقيادة المهراجا المخلوع، برافير تشاندرا بهانج ديو؛ فقد زعم برافير تشاندرا وأتباعه أن الرخاء لن يعود إلا عندما يعود هو - الوريث الشرعي - إلى كرسي الحكم. كان من المعتاد أن يعتبر المهراجا شبه إله ، والوسيط الرئيسي بين الناس وآلهتهم؛ فكان رجل مثل برافير تشاندرا، الذي بلغت غرابة أطواره حد الجنون - وكان ذلك سبب إحلال الحكومة شقيقه محله - يحظى بتبجيل شعبه رغم ذلك؛ فثارت سلسلة من التظاهرات المطالبة بإعادته إلى الحكم، ثم خرج عدة آلاف يوم 25 مارس في مسيرة إلى العاصمة القديمة، جاجدالبور. ودارت معركة بين القبائل التي استخدمت الأقواس والسهام من ناحية، وبين الشرطة التي استخدمت الغاز المسيل للدموع والرصاص من ناحية أخرى؛ فعندما انقشعت سحب الدخان عثر على نحو أربعين قتيلا، أحدهم شرطي والبقية من القبائل. وكان ممن قتلوا برافير تشاندرا نفسه. كانت تلك - نقلا عن رئيس وزراء ماديا براديش، في رسالة كتبها إلى وزير الداخلية في نيودلهي - «واقعة مأساوية»، «صادمة ومؤسفة».
59
تحولت رئيسة الوزراء الجديدة بارتياح من تلك التمردات إلى إقامة ولاية منفصلة للسيخ؛ ففي الحرب ضد باكستان، أبدى كثير من قواد الجيش وكذلك الجنود السيخ من ولاية البنجاب تميزا، وكذلك البنجابيون العاديون؛ فقد فتح المزارعون أكشاكا على جانب الطريق لإطعام الجنود ما لذ وطاب، وفتح آخرون منازلهم، بينما عكف البعض على تمريض الجرحى. وحسبما تذكر الجنرال القائد، فقد «هبت المقاطعة بأكملها هبة رجل واحد. ومدت يد العون للقضية دون تحفظات».
60
وقد أجبرت شجاعة السيخ في الحرب حكومة الهند على تلبية الطلب الذي ما فتئوا يدفعون به منذ زمن طويل؛ ففي مارس 1966، أوصت لجنة نواب في البرلمان بتقسيم ولاية البنجاب القائمة إلى ثلاثة أجزاء؛ بحيث تتبع المناطق الجبلية ولاية هيماجل براديش، بينما تؤلف المناطق الشرقية ذات الأغلبية الهندوسية ولاية جديدة، هي ولاية «هاريانا». وما تخلف بعد حذف تلك الأجزاء أصبح - أخيرا - ولاية البنجاب الناطقة بالبنجابية وذات الأغلبية السيخية أيضا.
61
9
في منتصف شهر مارس ذهبت رئيسة الوزراء في أول رحلة رسمية لها خارج البلاد؛ فمرت بباريس ولندن، لكن وجهتها الرئيسية كانت الولايات المتحدة، البلد الذي كان لدى الهند رغبة شديدة في نيل رضاه وحبوبه؛ لأن الاستراتيجية الزراعية الجديدة كانت ستستغرق بعض الوقت حتى تأتي بنتيجة. كان سي سوبرامانيم قد حرث الأرض المحيطة بمنزله في دلهي بهدف زراعة نوع جديد من القمح عالي الإنتاجية، ضمن سلسلة من التجارب التي أجريت لاختبار تلك البذور الجديدة في الظروف المحلية؛ ففي ذلك الوقت، اقتضت الضرورة على المزارعين الأمريكيين المساعدة في توفير الغذاء للهنود.
62
كان العنوان الرئيسي الذي تصدر وصف إحدى صحف ألاباما لزيارة السيدة غاندي هو: «زعيمة الهند الجديدة تأتي مستجدية». خلفت السيدة غاندي انطباعا أكثر إيجابية في الساحل الشرقي، إذ أحسنت التعامل مع الصحافة وأبهرت عامة الناس بأناقة ملبسها ورقي سلوكها. وكذلك بدا أنها راقت لليندون جونسون.
63
ولكن بعد عودتها، قرر جونسون التضييق على المستجدين؛ ففي حين طلبت الهند التزاما سنويا بالمعونة الغذائية، كان يرسل السفن شهريا. ووصف السفير الأمريكي في نيودلهي ممارسة جونسون في سياق شخصي بأنها «قسوة؛ إذ تجبر الهنود على الخضوع، وتضطرهم إلى التزلف، وتستوجب جرح كبريائهم». وإذ يئس جونسون من قدرة الهنود على ترتيب أمورهم، اقترح ذات مرة إرسال ألف مرشد زراعي لتعليمهم كيف يزرعون. رأى سفيره الفكرة «مفزعة»؛ فالمسألة ليست أن هؤلاء الأمريكيين لا يفقهون شيئا عن الزراعة في آسيا فحسب، وإنما أنهم إلى جانب ذلك سيجلبون معهم «950 زوجة، و2500 طفل، و3 آلاف مكيف هواء، وألف سيارة جيب، وألف ثلاجة كهربائية (كثير منها لن تعمل)، و800 أو 900 كلب وألفي أو 3 آلاف قطة».
64
خلال عامي 1965 و1966 استوردت الهند 15 مليون طن من القمح الأمريكي بموجب البرنامج بي إل 480، لإطعام 40 مليون شخص. وقد صرحت مذكرة من إعداد وزارة الزراعة الأمريكية دون مواربة بأن «الهند معدمة». وعندما شحت الأمطار مرة أخرى في عام 1966 كانت الآفاق المتوقعة أمام الهند هي «عام آخر من الجفاف، وعام آخر من الاعتماد الشديد على واردات برنامج بي إل 480، وعام آخر من الظهور أمام العالم بمظهر المتسولين».
65
رأى بعض الأشخاص في مؤسسة الحكم بواشنطن الهنود منافقين، لطلبهم المعونة بيد ومهاجمتهم السياسة الخارجية الأمريكية بالأخرى؛ فقد خلفت انتقادات نيودلهي لحرب فيتنام ضغائن عميقة الأثر. ولم يسر ليندون جونسون لإرسال الرئيس الهندي، إس رادها كريشنان، رسالة يحث فيها «الولايات المتحدة على وقف قصف فيتنام الشمالية من طرف واحد ودون أي شروط»، مضيفا أنه عندما يحدث ذلك، «سوف تأتي بقية دول العالم بالمفاوضات، من خلال قوة الرأي العام العالمي».
66
10
أسفر شراء الأسلحة والحبوب من الخارج، إلى جانب استيراد الماكينات والخامات اللازمة للتنمية الصناعية، عن هبوط خطير في احتياطيات العملة الأجنبية لدى الهند، التي انخفضت إلى 625 مليون دولار في مارس 1966؛ فقررت الحكومة مواجهة ذلك الهبوط بخفض قيمة الروبية في شهر يونيو؛ فسعر صرف الدولار الذي كان يعادل 4,76 روبية أصبح 7,50 روبية.
67
كان كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد أوصى بخفض قيمة العملة، وإن كان قدر التخفيض فاق حتى توقعاتهما. إلا أن تلك الخطوة قوبلت بعاصفة من الاحتجاج من جانب اليساريين؛ فقد زعم النائب البرلماني الشيوعي هيرن موكرجي أن تخفيض العملة فرض على الهند «من جانب مانحي المعونة الأمريكية المتآمرين»، فيما اعتبره اتحاد عمال شيوعي «خيانة وطنية مشينة».
عارضت قطاعات كبيرة من حزب إنديرا غاندي نفسه قرار خفض قيمة العملة؛ فكامراج - مثلا - رأى فيه تقويضا للسياسة الوطنية للاعتماد على الذات. إلا أن حزب سواتنترا المناصر لحرية السوق أيد الخطوة، وقال متحدثه الرئيسي في البرلمان، مينو ماساني، إنه: «إذا مثل خفض قيمة العملة خطوة أولى في إطار سياسة اقتصادية واقعية عوضا عن السياسات غير العملية التي تتبعها حكومة حزب المؤتمر، فسيأتي ببعض النتائج المستحسنة من حيث زيادة الصادرات وتشجيع تدفق رءوس الأموال الأجنبية.»
وكتبت رئيسة الوزراء إلى صديق لها قائلة إن قرار خفض قيمة العملة كان «قرارا صعبا ومؤلما إلى أقصى حد»، ولم يتخذ إلا «حين لم تأت إجراءات تلطيفية عدة أخرى جربت على مدار العامين الماضيين بنتائج مرضية».
68
وأضافت مجلة دلهي الليبرالية «ثوت» إلى ما سبق أن ذلك كان «أصعب قرار اتخذته الحكومة الهندية منذ استقلال هذا البلد». وكان محررو المجلة يأملون في أن يفضي القرار إلى إعادة توجيه السياسة الاقتصادية، إزاء إنتاج سلع تصديرية وتعزيز وضع الهند التجاري. وحسبما ورد في المجلة، فإن تخفيض قيمة العملة ينبغي أن «يستتبع منطقيا نهاية التوسع الهائل في جهودنا المبذولة لتنمية اقتصاد الدولة».
69
إلا أنه في نهاية الأمر لم يصاحب خفض قيمة العملة تحرير النظام التجاري؛ فقد ظلت الضوابط على تدفقات رءوس الأموال قائمة، ولم تحدث دفعة من أجل زيادة الصادرات؛ فالظاهر أن الانتقادات من داخل الحزب وخارجه أثنت السيدة غاندي عن تشجيع إجراء إصلاحات أكثر شمولية. ولم يكن تأييد حزب سواتنترا ليجدي نفعا أيضا، بل إنه - لو كان له أثر يذكر - فقد كان سيميل إلى دفع ابنة نهرو تجاه اليسار من جديد.
11
خلال عام 1966، كان المكان الذي خيم عليه سكون غير معتاد هو وادي كشمير؛ فقد كانت حرب 1965 قد أضعفت موقف الانفصاليين. وكانت إدارة رئيس وزراء الولاية - جي إم صديق - تتسم بالكفاءة والنزاهة، وبدا ذلك جليا مقارنة بنظام باكشي غلام محمد. وكان أداء قطاع السياحة حسنا، وكذلك سوق المصنوعات اليدوية الكشميرية.
وفي أواخر صيف عام 1966، كتب جايا براكاش نارايان رسالة مميزة إلى السيدة غاندي، سعى فيها إلى حل دائم لمشكلة «ابتلي بها هذا البلد طوال 19 عاما». وأضاف جيه بي: «لقد شوهت كشمير صورة الهند أمام العالم أكثر من أي شيء آخر.» وحتى في ذلك الوقت، حين خيم السلام على السطح، فقد قبع أسفله «سخط عميق الجذور واسع النطاق فيما بين الناس». ورأى أن السبيل الوحيد لإنهاء ذلك الوضع هو إطلاق سراح الشيخ عبد الله بعد التعهد «بالحكم الذاتي الداخلي الكامل؛ أي الرجوع إلى الشروط الأصلية للانضمام». وكان جيه بي يرى أن التوصل إلى تسوية مع عبد الله «قد يمنحنا الفرصة الوحيدة التي قد تتاح أمامنا لحل مشكلة كشمير». وذلك لأن «الشيخ عبد الله هو الزعيم الكشميري الوحيد القادر على استمالة الرأي العام لمسلمي الوادي إلى صفه».
كانت المحادثات التي خاضها الشيخ عبد الله مع تشو إن لاي قد أدت إلى نعته ب «الخائن»، ولكن جيه بي رأى أن ذلك التصرف - وإن كان أهوج - لم يكن يندرج تحت وصف الخيانة العظمى مطلقا. وعلى أي حال، فقد عاد الشيخ عبد الله إلى الهند للرد على منتقديه. وقد التقى رفيق جيه بي - نارايان ديساي - بالشيخ في كودايكانال، ووجده ميالا لفكرة الحكم الذاتي الكامل؛ ففي أعقاب الحرب الأخيرة مع باكستان، رأى عبد الله بجلاء استحالة استقلال كشمير. ومن ثم اقترح نارايان آنذاك أن تطلق الحكومة سراح عبد الله وتسمح له بالتنافس على الانتخابات العامة لعام 1967، بغية طمأنة الكشميريين إلى أنهم «سوف يتخلصون من الشرطة الهندية المتسلطة ويتمتعون بالحرية الكاملة في تنظيم حياتهم كما يحلو لهم». فإذا خاض الشيخ المعركة الانتخابية وفاز فيها، وإذا «أمكن إثبات أن الكشميريين اتخذوا ذلك القرار بحرية في إطار انتخابات أجريت تحت إدارة زعمائهم الأصليين، فلن يتبقى أمام باكستان مجال للتدخل في شئونهم».
وذكر نارايان أن «عقد انتخابات عامة في كشمير بينما الشيخ عبد الله في السجن يشبه أمر بريطانيا بإجراء انتخابات في الهند بينما جواهر لال نهرو في السجن؛ فلا يمكن لشخص منصف أن يعتبرها انتخابات منصفة». كان من المفترض أن تلقى تلك النقطة صدى عند السيدة غاندي، ولكن تحسبا لعدم حدوث ذلك، قدم جيه بي نبوءة حزينة مفادها الآتي:
إذا ضيعنا فرصة استغلال الانتخابات العامة المقبلة لكسب رضا الشعب الكشميري عن وضعه داخل الاتحاد، فلا يسعني أن أرى وسيلة أخرى أمام الهند لحل المشكلة. وسنكون واهمين إن ظننا أننا سوف نتمكن في النهاية من إنهاك هذا الشعب وإجباره على تقبل الاتحاد بسلبية على الأقل، فربما أمكن تصور حدوث ذلك لو كان موقع كشمير الجغرافي مغايرا لحقيقته. أما في موقعها الحالي، وفي ظل السخط الذي يعتمل في صدور الناس، فإن باكستان لن تدعها في سلام أبدا.
70
ردت رئيسة الوزراء برسالة موجزة، شكرت فيها جيه بي «على مشاركتك إيانا آراءك بشأن كشمير وسيادة الشيخ».
71
ولكن لم يتخذ أي إجراء عملا برسالته، وظل الشيخ عبد الله في محبسه. إلا أن رئيسة الوزراء زارت في أكتوبر 1966 وادي كشمير لأول مرة منذ توليها مهام منصبها، وتحدثت في الاستاد الرياضي في سريناجار عن «المحبة الخاصة» التي تكنها لكشمير والكشميريين. حضر حشد كبير من الناس لسماعها، بل إن السيدة غاندي أينما ذهبت في الوادي، كان الناس يصطفون في الطرقات لرؤيتها.
72
12
في ذلك الوقت بدت كشمير ساكنة، وشعبها هادئا. ولكن في الجنوب - في أندرا براديش - كان ثمة اضطرابات في طور التحضير. خرجت الحركة الاحتجاجية تحت قيادة طلاب، طالبوا بالتنفيذ الفوري لمقترح قدمته لجنة التخطيط لإقامة مصنع صلب في فيشاكاباتنام (فيزاج). كانت الموافقة على إنشاء المصنع قد صدرت منذ أعوام عدة، لكن الأزمة المالية التي تعرضت لها الحكومة أدت إلى إرجاء الشروع فيه.
تسبب قرار تأجيل إنشاء مصنع فيزاج للصلب في تعالي صيحات الاحتجاج في ريف أندرا. بالنسبة إلى الشباب، كانت فكرة المصنع الحكومي الضخم لا تزال تحمل سحرا؛ إذ انطوت على الأمل في توفير فرص عمل منتجة؛ فسد المتظاهرون الطرق، وأوقفوا القطارات، وهاجموا المتاجر ومكاتب الأعمال. وانتشرت الحركة في جميع أنحاء الولاية، وقال أحد المصادر: «يبدو أن مجتمع طلاب جونتور بأكمله في الشارع.» استدعيت الشرطة في عدة مدن، وفي فيزاج نفسها اضطلعت القوات البحرية بحماية المنشآت المهمة. أضرمت النيران في محطة قطار في أحد الأماكن، بينما أطلقت الشرطة النار على جمهرة من الناس في مكان آخر. وأتلف الطلاب المنارة في فيزاج وأجبروا محطة الإذاعة على إيقاف البث المباشر. وألغيت كافة القطارات المارة من الولاية.
73
وفي الوقت نفسه، لاحت المجاعة في الأفق تجاه الشمال، في بيهار. كانت المناطق القبلية هي الأكثر تضررا؛ ففي منطقة مونجر بلغ الأمر بقبائل الأديفاسي حد أكل جذور النباتات؛ فقد حدث نقص حاد في الغذاء والعلف، فراح الفقراء ينهبون الحبوب هنا وهناك، وأصبحت الطوائف الاجتماعية العليا في الريف تحيا في خوف من قيام تمرد أكثر شمولية .
74
وأضيف إلى جموع الطلبة المضربين والفلاحين الجياع طائفة معارضة أكثر إثارة للعجب، وهي: المتصوفون أو الرهبان الهندوس، أو «السادهو»؛ فالتيار الهندوسي المتشدد كثيرا ما طالب بوضع حد لقتل الأبقار المقدسة، ثم تحولت مطالبته آنذاك - بمساعدة حزب جانا سانج - إلى حركة اجتماعية.
ففي يوم 6 نوفمبر، خرجت مسيرة هائلة في شوارع العاصمة. وكان من بين 100 ألف سائر فيها كثير من الهندوس، ملوحين بالرماح العادية والرماح ثلاثية الشعب. وانتهت المسيرة بمؤتمر شعبي خارج مبنى البرلمان، كان المتحدث الأول فيه هو السوامي كرباتريجي (الشهير بمعارضة مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي). وازدادت الجماهير حماسة بفعل السوامي راميش وراناند، النائب البرلماني المنتمي إلى حزب جانا سانج الذي كان قد أوقف عن العمل في مجلس الشعب مؤخرا لسلوكه غير المنضبط. وقد طلب إلى السادهو أن يطوقوا مبنى البرلمان. ومن ثم «توجهت الحشود إلى مبنى البرلمان مباشرة، هاتفة: «يحيا السوامي راميش وراناند».» في تلك اللحظة ناشد أتل بهاري فجبايي، رئيس حزب جانا سانج، السوامي أن يسحب نداءه. ولكن فات الأوان؛ فقد هجم السادهو على أبواب البرلمان، فصدتهم شرطة الخيالة. وتبعت ذلك معركة طاحنة، بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي من ناحية، والعصي والحجارة من ناحية أخرى. وإذ تصاعدت أعمدة كثيفة من الدخان فوق مجلسي البرلمان، تراجعت الحشود، لتصب غضبها على ما وجدته في طريقها؛ فدمرت مبنى إذاعة «أول إنديا راديو» وأشعلت النار في منزل رئيس حزب المؤتمر (كيه كامراج). وكذلك دمرت 250 سيارة و100 دراجة بخارية و10 حافلات، حسب التقديرات. وبحلول المساء، كان الجيش يجوب الطرقات، لأول مرة منذ الأيام السوداء لعام 1947.
وعلقت إحدى المجلات بحدة قائلة إن اضطرابات بقيادة رهبان أسفرت عن «فورة من العنف والتخريب والبلطجة». وأصدر إيه بي فجبايي بيانا أدان فيه حقيقة أن «العناصر غير المرغوب فيها، التي لجأت إلى الأنشطة العنيفة في التظاهرة المناهضة لذبح الأبقار، ألحقت ضررا كبيرا بالقضية الدينية».
75
13
كان ثمة اتجاه فكري - سائد بدرجة كبيرة في الغرب - ارتأى أن شخصية جواهر لال نهرو والقدوة التي مثلها، وحدهما أبقيا على وحدة الهند وديمقراطيتها ؛ فسرعة التغييرات في القيادة بعد وفاته، ونوبات الجفاف المتلاحقة، والتمردات الصغيرة التي لا حصر لها، والحرب مع باكستان؛ كل تلك العوامل مجتمعة بدا أنها تؤكد تلك المخاوف؛ ففي ديسمبر 1965، أعربت صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد» عن قلقها بشأن مستقبل الديمقراطية في الهند. كان محررو الصحيفة يرون «صحوة كاسحة للروح القومية» في الهند، وهي روح كانت «معرضة لخطر التحول إلى الشوفينية، مع تزايد المرارة إزاء القوى الغربية». وبدا أيضا أن ذلك التعصب موجه إلى الداخل، «من أكثر ما يزعج مراقبي الموقف من الخارج هو أن حرية تعبير الهنود عن الآراء الليبرالية يبدو أنها أصبحت في خطر».
76
في العام نفسه - 1965 - نشر الكاتب رونالد سيجال كتابا كبيرا بعنوان «أزمة الهند»؛ فقد وجد في جولة دراسية للبلاد أن الهند تقف «على حافة هاوية اقتصادية»، و«الأرض ... تتداعى من تحتها». وفي الوقت نفسه، كانت «مكانتها الدولية تنخفض باستمرار». فمع تفشي الفقر ونقص المؤن والصراعات الإقليمية والفساد، كانت الهند تذكر سيجال أحيانا بألمانيا في عهد جمهورية فايمار، وفي أحيان أخرى بالصين في عهد حزب الكومينتانج. ولم يكن لديه أمل كبير في صمود الديمقراطية؛ فكان من «البدائل السلطوية المتاحة: الشيوعيون على اليسار، والطائفية المتشددة على اليمين» ومن المرجح أن ينجح أحدهما قبل مرور سنين طويلة.
77
كذلك كان القس مايكل سكوت من اليائسين من مستقبل البلاد أيضا؛ فقد وجده صديق له زاره في مايو 1966:
في حالة اكتئاب شديد، ليس بسبب فشله فيما يتعلق بتسوية ناجا، وإنما بسبب الهند بصفة عامة؛ فهو يرى أن الجيل الأكبر والأقدر يحتضر ويحل محله ذوو الهامات القصيرة الفاسدون غير الأكفاء بالمرة. وهو لديه شعور بأن الهند سوف تتفكك إن آجلا أو عاجلا، وأن الأمر بأكمله سيصبح مستنقعا شبيها بفيتنام تنجذب إليه بريطانيا والولايات المتحدة.
78
عندما شحت الأمطار الموسمية مجددا عام 1966، كان المتوقع حدوث مجاعة جماعية عوضا عن تفكك الهند أو إبطال الديمقراطية؛ فمن وجهة نظر العديد من أنصار البيئة الغربيين، بدت الهند تقدم برهانا صارخا على نبوءة مالتوس الزاعمة أن معدل النمو في تعداد السكان سيفوق إمدادات الغذاء يوما ما. وكتب عالم الأحياء المحترم باول إرليش من جامعة ستانفورد أنه بينما فهم «الانفجار السكاني فكريا منذ فترة طويلة»، فقد فهمه «معنويا ذات ليلة قائظة في دلهي منذ عامين تقريبا». فإذ مضت سيارة الأجرة التي ركبها في الشوارع ببطء، رأى من حوله «أناسا يأكلون ويغتسلون وينامون ويتزاورون ويتجادلون ويصرخون، وأناسا يدفعون بأيديهم من نافذة السيارة متسولين، وأناسا يتبرزون ويتبولون، وآخرين متعلقين بالحافلات، وآخرين يسوقون الماشية . وأناسا، وأناسا، وأناسا».
79
في عام كتابة إرليش هذه السطور، كان ثمة عالما أحياء أمريكيان آخران على وشك الانتهاء من كتاب زعما فيه أن «اليوم، أصبحت الهند أولى الدول الجائعة التي تقف على شفا المجاعة والكوارث». وغدا، «ستأتي المجاعات»، و«ستصحبها بلا شك أعمال شغب وغيرها من القلاقل المدنية التي ستكون الحكومة أضعف من السيطرة عليها». وكان عام 1975 هو العام المزمع أن تصير فيه «الاضطرابات المدنية، والفوضى، والدكتاتوريات العسكرية، والتضخم الجامح، وتعطل المواصلات، والاضطرابات الفوضوية، هي القاعدة».
80
وفي الحقيقة، حتى المراقبون المطلعون على الموقف من الهنود كان بعضهم قد بدأ تنتابه مخاوف بشأن مستقبل بلده؛ ففي الأسبوع الأول من نوفمبر 1966، نشرت صحيفة موالية لحزب المؤتمر الهندي في المعتاد مقالا افتتاحيا بعنوان «الموقف الأكثر قتامة على مدار 19 عاما». وأعزيت إضرابات الطلاب ونقص الغذاء إلى «الانهيار التقريبي للسلطة». وتنبأ المقال بأن «موجة العنف ستزيد حدتها» مع «تحول أجزاء أخرى من البلاد إلى نماذج أخرى من بيهار». وورد في صحيفة «هندوستان تايمز» أن «مستقبل البلاد مظلم لعدة أسباب، كلها يمكن إرجاعها بصورة مباشرة إلى فترة حكم حزب المؤتمر البالغة 19 عاما».
81
الفصل التاسع عشر
التحول إلى اليسار
لا تستهينوا أبدا، أبدا بحاجة السياسي إلى البقاء ... لن أقترف أبدا خطأ الاستهانة بالغريزة السياسية لكشميرية، هي بالإضافة إلى ذلك، ابنة جواهر لال نهرو.
صحفي هندي، مايو 1966
1
كانت الانتخابات العامة التي تقرر عقدها في مطلع 1967 هي الرابعة منذ الاستقلال، والأولى منذ وفاة جواهر لال نهرو؛ ففي الأسابيع الأخيرة من عام 1966، أرسلت مجلة أمريكية مراسلا صحفيا لدراسة الوضع على الطبيعة؛ فأذهلته «التوليفة العجيبة من المشكلات المحتقنة في الهند: من تعصب ديني، وحواجز لغوية، وضغائن إقليمية». وأضيف إلى الوضع المضطرب قلة الغذاء والتضخم و«انفجار سكاني مطرد يحول دون إحراز أي تقدم يذكر». والأشكال المتباينة من العنف قد «أثارت تكهنات حول احتمال عدم عقد الانتخابات». ورأى المراسل الصحفي أنه من المحتمل أن «ينهار القانون والنظام على نحو كامل بحيث يتولى الجيش زمام السلطة، كما حدث في باكستان وبورما المجاورتين». وكان ثمة احتمال أسوأ من ذلك أيضا، هو أن «انهيار النظام الحالي سيضيف عنصرا غير مستحب إلى الوظيفة التي اضطلعت بها الولايات المتحدة في فيتنام، وهو محاولة ضمان الاستقرار السياسي والقوة الاقتصادية في آسيا».
1
بالنسبة إلى الزائر الغربي العادي، كانت الهند - ولا تزال - مكانا غريبا، وربما أيضا مقلقا. وقد كان هذا الصحفي تحديدا يزورها لأول مرة، وعلى ما يبدو آخر مرة، لكن توقعه نال تأييد صحفي أكثر دراية بالهند دون شك، لكونه مقيما فيها منذ ستة أعوام آنذاك بالفعل.
كان ذلك هو نيفيل ماكسويل من صحيفة «ذا تايمز» اللندنية، الذي كتب سلسلة من المقالات في الأسابيع الأولى من عام 1967 تحت عنوان «ديمقراطية الهند المتآكلة». كان رأيه أن «المجاعة تهدد البلاد، والإدارة مضغوطة وثمة إجماع على فسادها، وقد فقدت الحكومة والحزب الحاكم ثقة الناس وإيمانهما بنفسيهما أيضا». وقد هيأت تلك الأزمات المتنوعة «استعدادا نفسيا لنبذ الديمقراطية البرلمانية». أما «الهنود ذوو الرقي السياسي» الذين تحدث إليهم ماكسويل فأعربوا عن «إحساس عميق بالهزيمة، وإدراك قلق بأن المستقبل ليس مظلما فحسب وإنما غير مؤكد بدرجة كبيرة أيضا».
أما ماكسويل فكان رأيه الشخصي هو أن «الأزمة سوف تضرب الهند»؛ فقد كان بإمكانه تبين «نسيج الأمة الآخذ في التآكل بالفعل»، إذ كانت الولايات «بدأت بالفعل في التصرف كأنها دول فرعية». وكان الاستنتاج الذي خلص إليه لا لبس فيه، وهو: في حين أن الهنود سوف يصوتون عما قريب في «الانتخابات العامة الرابعة، و«الأخيرة بالتأكيد»»، فقد «فشلت التجربة العظيمة المتمثلة في تنمية الهند في إطار ديمقراطي».
ورأى ماكسويل أن الانهيار الوشيك للديمقراطية في الهند سوف يستثير عملية بحث محمومة عن «ترياق بديل لمتاعب المجتمع». ومن وجهة نظره، فإنه «في الهند، مع استمرار الاتجاهات الحالية - تحت وطأة كلابة الغذاء والسكان متزايدة الإحكام - سيصير الحفاظ على كيان منظم للمجتمع أمرا بعيد المنال بالنسبة إلى الكيان المنظم للحكم المدني، وسيصبح الجيش هو «المصدر البديل الوحيد» للسلطة والنظام. فتبدو مسألة جر الجيش إلى دور مدني حتمية، ولكن الأمر الوحيد الملتبس هو كيف سيتحقق ذلك؟»
كان ماكسويل يظن أن «مدا متصاعدا من الاضطراب العام، ربما تغذيه بؤر المجاعة»، سوف يفضي إلى تعالي دعوات لتعزيز منصب رئيس الجمهورية، الذي سوف يطلب منه «فرض نفوذ مفض إلى الاستقرار على الحكومة المركزية والبلد بصفة عامة». وسيعضده الجيش، الذي سوف تزداد ممارسته «السلطة المدنية أكثر فأكثر». وفقا لهذا التصور، سيصبح الرئيس «إما المصدر الفعلي للسلطة السياسية، أو القائد الصوري لمجموعة ربما تتألف من ضباط جيش وبضعة سياسيين».
2
2
وردت بعض التوصيفات الإثنوغرافية المتميزة لانتخابات عام 1967، في صورة دراسات ميدانية لدوائر انتخابية مختلفة أجراها باحثون ملمون بثقافة تلك الدوائر وتكوينها الاجتماعي. تظهر تلك التوصيفات أن الانتخابات لم تعد مجرد إضافة مفروضة على تربة غير مواتية، وإنما أنها تغلغلت في المجتمع بصورة كاملة، وأصبحت جزءا من الحياة الهندية. كانت الانتخابات مهرجانا يحوي مجموعة فريدة من الطقوس، يجرى كل خمسة أعوام. وتجلت طاقة ذلك النموذج تحديدا مقارنة بأسلافه وشدته في مستوى الحضور المرتفع في التجمعات الحزبية وخطب القيادات، وفي الملصقات والشعارات المفعمة بالحيوية التي استخدمت لتعظيم حزب المرء أو تقويض خصومه. كانت المنافسة شديدة، على مستوى الولايات وكذلك على المستوى الوطني؛ فكانت الأحزاب المعارضة لحزب المؤتمر أحزابا يسارية، مثل: الأحزاب الشيوعية والاشتراكية الصغيرة المتعددة، وأحزابا يمينية، مثل: حزبي جانا سانج وسواتنترا. وفي بعض الولايات جاءت المنافسة من تجمعات إقليمية، مثل: حزب أكالي دال في البنجاب ودرافيدا مونيترا كازاجام في مدراس.
وكما كشفت تلك الدراسات الإثنوغرافية، فقد أدت أعوام التنمية الاقتصادية العشرين إلى زيادة عملية المنافسة السياسية عمقا وتعقيدا؛ ففي كثير من الأحيان كان المرشحون المنافسون يتدربون على الإدارة من خلال إدارة المدارس والكليات والتعاونيات قبل دخول انتخابات المجالس التشريعية أو البرلمانية؛ فتلك المؤسسات مثلت وسائط للمكانة والرعاية، ومثلت السيطرة عليها قيمة في حد ذاتها ووسيلة لحشد الدعم بين صفوف الناخبين.
3
وانتخابات عام 1967 هي أول انتخابات لدي أنا ذكريات عنها. أكثر ما أذكره هو ذاك الشعار، الذي نودي به في حماس في شوارع المدينة الصغيرة التي عشت فيها عند سفح مرتفعات الهيمالايا : «صوتوا لجانا سانج، وأقلعوا عن تدخين سجائر البيدي/فتلك السجائر فيها تبغ، ورجال حزب المؤتمر لصوص.»
أعضاء حزب المؤتمر لصوص، وسجائر البيدي الهندية تحوي تلك المادة الخطرة: التبغ؛ فبنبذ كل منهما واتباع حزب جانا سانج - حزب المعارضة الرائد في تلك المدينة - ينقي الناخب نفسه وكذلك الحكومة. كانت تلك هي الرسالة المنشودة من الشعار، والتي بدا أنها لاقت صدى لدى كثير من المواطنين. تلك هي النتيجة التي توصل إليها استطلاع لآراء الناخبين في ثلاث عشرة ولاية، أجري قبل الانتخابات مباشرة على يد رائد استطلاعات الرأي في الهند، إي بي دبليو دا كوستا من المعهد الهندي للرأي العام. وخلص ذلك الاستطلاع إلى أن حزب المؤتمر «فقد الكثير من كاريزمته»، وأقبل على الانتخابات في ثوب «الخسارة السياسية وليس الفوز المؤكد، لأول مرة».
وأشار الاستطلاع إلى أنه في حين أن حزب المؤتمر سوف يحتفظ بنفوذه في الحكومة المركزية، فإن نصيبه من الأصوات سينخفض بمعدل نقطتين مئويتين أو ثلاث، وسوف يخسر ربما خمسين مقعدا في مجلس الشعب، وأكثر من ذلك بكثير في الولايات. ووفقا لدا كوستا، فسوف تتشكل حكومات من غير حزب المؤتمر في ولايات كيرالا وماديا براديش وراجستان وربما أيضا أوريسا وغرب البنغال وبيهار وأوتر براديش والبنجاب.
لماذا انحسر دعم حزب المؤتمر؟ وجدت الدراسة الاستطلاعية أن الأقليات، التي مثلت جمهور ناخبين مخلص للحزب فيما مضى، خاب أملها فيه، وهكذا الحال بالنسبة لقطاعات كبيرة من الشباب والفئات الأقل تعلما. وعلى النقيض، كانت المعارضة أكثر اتحادا من ذي قبل؛ ففي معظم الولايات، كانت الأحزاب الأخرى غير حزب المؤتمر قد عدلت المقاعد، مما يعني أن حزب المؤتمر لم يعد بوسعه استغلال انقسام الأصوات إلى ثلاثة أو أربعة فرق بسهولة كما في الماضي.
رأى دا كوستا أن تلك الانتخابات العامة الرابعة سوف تستهل «ثورة سلمية ثانية في تاريخ الهند الحديث». بدأت الثورة السلمية الأولى على يد المهاتما غاندي عام 1919، وتوجت باستقلال الهند عام 1947. ومنذ ذلك الحين، احتفظ حزب المؤتمر بالسلطة في الحكومة المركزية وكذلك في الولايات كافة، ما عدا فترة قصيرة في كيرالا. أما الآن، فتلك الانتخابات ستمثل «تفتت ممارسة حزب المؤتمر الأحادية للسلطة». وكانت النتيجة التي خلص إليها دا كوستا جديرة بالاقتباس: «ربما تمثل هذه الانتخابات معركة على السلطة بالنسبة إلى المرشحين، ولكنها تمثل بالنسبة إلى عالم السياسة - كما كانت منذ نحو نصف قرن - بداية انسلاخ عن الماضي. إنها ليست انتفاضة بعد بأي حال من الأحوال، ولكنها قد تصير ثورة مع مرور الوقت.»
4
جدول 19-1: أداء حزب المؤتمر في الانتخابات الهندية، 1952-1967: الأصوات والمقاعد كنسبة مئوية من الإجمالي.
السنة
مجلس الشعب
مجالس الولايات
الأصوات
المقاعد
الأصوات
المقاعد
1952
45
74,4
42
68,4
1957
47,8
75,1
45,5
65,1
1962
44,5
72,8
44
60,7
1967
40,7
54,5
40
48,5
القائمون باستطلاعات الرأي معروف أنهم يخطئون، ربما في الهند أكثر من أي مكان آخر. ولكن عندما ظهرت النتائج، لا بد أن دا كوستا شعر بأنه أثبت وجهة نظره؛ ففي مجلس الشعب، كانت مقاعد حزب المؤتمر قد انخفض عددها من 361 إلى 283 مقعدا، وكانت خسائره في مجالس الولايات أعظم من ذلك. وقد لخص جدول
19-1
تدهور وضع الحزب.
3
كانت أكبر هزيمة مهينة تعرض لها حزب المؤتمر في ولاية مدراس الجنوبية؛ ففيها نجح حزب درافيدا مونيترا كازاجام باكتساح؛ إذ ربح 138 مقعدا من إجمالي 234 في مجلس الولاية، ولم يربح حزب المؤتمر سوى 50 مقعدا. وأدى زعيم حزب درافيدا مونيترا كازاجام، سي إن أنادوراي، قسم رئاسة وزراء الولاية.
لطالما كانت مدراس معقلا لحزب المؤتمر؛ إذ أتى كثير من الزعماء الوطنيين - في الماضي والحاضر - من تلك الولاية. ولكن في تلك المرة حتى كيه كامراج الموقر جرفته أمواج الهزيمة الانتخابية؛ فقد خسر في مسقط رأسه، فيرودوناجار، أمام أحد الطلبة الناشطين عمره ثمانية وعشرين عاما ويدعى بي سرينيفاسان؛ فعندما بلغت الأنباء مدراس، بحث أعضاء حزب درافيدا مونيترا كازاجام الفرحين عن شخص يحمل اسم المنتصر نفسه، وأركبوه حصانا، وطافوا به أرجاء المدينة. وكتبت مجلة أسبوعية محترمة عن خسارة رئيس حزب المؤتمر أنه «من حيث المكانة السياسية - هنا وفي الخارج - لا يوجد شك في أن تلك كانت أسوأ ضربة تعرض لها حزب السيد كامراج، سواء قبل الاستقلال أم بعده».
5
كان أداء حزب المؤتمر جيدا إلى حد بعيد في تلك الولاية؛ إذ كانت إدارته معروف عنها النزاهة والكفاءة؛ فرأى بعض المعلقين على الحدث أن حزب درافيدا مونيترا كازاجام استغل حركة مناهضة اللغة الهندية في 1965 لتحقيق النصر. إلا أن المعركة ضد اللغة الهندية ذاتها تسنت عبر العمل التنظيمي الصبور للحزب خلال العقد السابق؛ فقد انتشر حزب درافيدا مونيترا كازاجام في البلدات والقرى، وأنشأ نوادي محلية وفروعا له. وكانت النقطة المحورية في هذا الصدد هي صلات ذلك الحزب بصناعة الأفلام التاميلية ذات الشعبية الهائلة؛ فقد كان أحد قيادات الحزب - إم كارونانيدي - كاتب سيناريو ناجحا. والأهم من ذلك أن الحزب حظي بالدعم المادي والمعنوي للنجم السينمائي الشهير العظيم إم جي راماتشندران.
كان راماتشندران من كيرالا في الأصل، ولكنه ولد في أسرة من عمال المزارع في سريلانكا. وكان له أتباع متعصبون في ريف تاميل. كان يقهر قوى الشر في أفلامه، التي تمثلت في صور متنوعة من رجال الشرطة وملاك الأراضي والأجانب والدولة. وكانت أفلامه تعرض في دور عرض مزدحمة، ارتادها الناس لمشاهدة أفلامه مرارا وتكرارا. وكان أكثر أشد معجبيه إخلاصا نساء.
تشكلت نوادي معجبين لراماتشندران في جميع أنحاء مدراس، حيث ناقش أعضاؤها أفلامه وكذلك سياساته؛ فقد كان مؤيدا قديما لحزب درافيدا مونيترا كازاجام، ويموله، وكان دائما على استعداد لإلقاء الخطب في تجمعاته الحزبية ومؤتمراته.
قبل شهر من انتخابات 1967، أطلق نجم سينمائي منافس - إم آر رادها - الرصاص على راماتشندران وجرحه (حدثت وقيعة على ما يبدو بين الرجلين نتيجة ما يوقع بين الرجال في العموم وبين نجوم السينما الهندية على وجه الخصوص)؛ فاستخدمت صور النجم المصاب بكثرة في الحملة الانتخابية. وقرر راماتشندران نفسه الترشح للانتخابات؛ ففاز بسهولة، وكذلك حزبه.
6
عندما أمسك حزب درافيدا مونيترا كازاجام بزمام السلطة، مارس ما سماه أحد الباحثين «الشعبوية الحازمة والأبوية»؛ ففي حين جلب حزب المؤتمر مشروعات صناعية كبيرة إلى الولاية، ركز حزب درافيدا مونيترا كازاجام على البرامج التي قد تجلب له تأييدا فوريا. ومن ثم زاد الحزب نسبة الوظائف الحكومية المحجوزة للطوائف المتخلفة التي مثلت مصدر الدعم الرئيسي للحزب. وشدد الحزب الضوابط على تجارة الحبوب، ومنح دعما غذائيا لفقراء الحضر. وفي الوقت نفسه، بغية تعزيز الكرامة الإقليمية، نظمت الحكومة مؤتمرا دوليا عن الثقافة واللغة التاميلية، شارك فيه باحثون من عشرين بلدا، وأعرب فيه رئيس وزراء الولاية عن أمله في أن تصبح اللغة التاميلية لغة التواصل في الهند كلها.
7
4
خسر حزب المؤتمر في كيرالا أيضا، أمام ائتلاف من الأحزاب اليسارية؛ ففي عام 1963 كان الحزب الشيوعي الهندي قد انقسم إلى شطرين، أحدثهما يدعى الحزب الشيوعي الماركسي. حظي ذلك الحزب الجديد بأكثر القيادات ديناميكية، ومنهم إي إم إس نامبوديريباد؛ ففي تلك الانتخابات فاز الحزب باثنين وخمسين مقعدا من أصل 133 مقعدا في مجلس الولاية، بينما فاز حزب المؤتمر بثلاثين مقعدا، وفاز الحزب الشيوعي الهندي القديم بتسعة عشر مقعدا؛ فتحالف الشيوعيون معا لتشكيل الحكومة، وأدى إي إم إس قسم رئاسة الوزراء لفترة ثانية.
كان لحزب المؤتمر تجربة خسارة سابقة في كيرالا. ولكن في تلك المرة، كان مما زاد محنته أنه خسر زمام السلطة في غرب البنغال أيضا، الذي احتكره فيها دون منازع منذ عام 1947. كان الرابحون في غرب البنغال هم ائتلاف الجبهة المتحدة والجبهة اليسارية، التي تمثل أعضاؤها الرئيسيون في حزب المؤتمر البنغالي (فصيل منشق من الحزب الأصلي، كما يشير اسمه)، والحزب الشيوعي الماركسي؛ ففي انتخابات مجلس الولاية، حصل حزب المؤتمر على 127 مقعدا من أصل 280. فاز الحزب الشيوعي الماركسي بثلاثة وأربعين مقعدا وفاز حزب المؤتمر البنغالي بأربعة وثلاثين مقعدا؛ فتمكن هذان الحزبان، بالاشتراك مع توليفة من الجماعات اليسارية والأعضاء المستقلين، من تحقيق أغلبية بالكاد.
وأصبح أجوي موكرجي، زعيم حزب المؤتمر البنغالي، رئيس وزراء الولاية. أما نائب رئيس الوزراء فكان جيوتي باسو، محام مهذب تلقى تعليمه في لندن وكثيرا ما مثل الواجهة المتحضرة للشيوعية البنغالية. كان باسو وآخرون غيره يرون أن حزبهم يمكن أن يشكل سياسة الحكومة من الداخل، بينما رأى أعضاء آخرون في الحزب الشيوعي الماركسي - لا سيما كبير منظميه، برومود داسجوبتا - أن الحزب ما كان يجدر به الانضمام إلى الحكومة مطلقا.
8
ألفت كتب كاملة عن النزاعات الفكرية داخل الحركة الشيوعية الهندية. ويكفينا هنا أن نعرف أن الحزب الشيوعي الهندي انقسم عام 1693 بسبب نقطتي خلاف: إحداهما من خارج البلد، والأخرى من داخلها. وكانت القضيتان متصلتين؛ فالحزب الأصلي - الحزب الشيوعي الهندي - كان شديد التعلق بالحزب الشيوعي السوفييتي، ومن ثم نبذ الثورة المسلحة، حتى وإن كان ذلك لمجرد أن الاتحاد السوفييتي كان يرغب في الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الحكومة الهندية. والحزب الشيوعي الماركسي المنشق كان يؤمن بوجود علاقة أخوة بينه وبين الحزبين الشيوعيين لكل من الاتحاد السوفييتي والصين. وكان يرى أن الدولة الهندية يديرها ائتلاف من البرجوازيين وملاك الأراضي، وأن الديمقراطية البرلمانية ممارسة زائفة في معظمها، يستخدمها المرء عندما تتلاءم مع أغراضه، ويطرحها جانبا عندما لا تتلاءم معها.
9
سبق قرار انضمام الحزب الشيوعي الماركسي إلى الحكومة نقاش محتدم، انحاز فيه جيوتي باسو إلى الانضمام فيما عارضه برومود داسجوبتا. وفي النهاية انضم الحزب إلى الحكومة، مما أورث صغار أعضاء الحزب شعورا قويا بالترقب؛ فكان من البوادر المبكرة إعادة تسمية طريق هارينجتون على اسم أحد أبطال الحركة الشيوعية العالمية؛ بحيث صار عنوان القنصلية الأمريكية في أوج حرب فيتنام هو: 7 طريق هو تشي منه، كلكتا.
كانت تلك خطوة يسيرة إلى حد بعيد، ولكن فيما بعد أصبحت القرارات أصعب؛ ففي ربيع عام 1967 شب نزاع على أرض في ناكسلباري في منطقة دارجيلنج، حيث كانت الهند تشترك في حدودها مع نيبال غربا وباكستان شرقا، وكانت التبت ومملكتا بوتان وسيكيم شبه المستقلتين على مسافة غير بعيدة. سيطرت مزارع الشاي - التي أدارت كثيرا منها شركات مملوكة لبريطانيا - على الاقتصاد في تلك المناطق الواقعة على سفوح جبال الهميالايا. كان ثمة تاريخ من ندرة الأراضي، والنزاعات على الأراضي؛ حيث ابتغى العاملون في المزارع الحصول على أراض خاصة بهم وابتغى المزارعون المستأجرون المحليون إغاثتهم من ملاك الأراضي المرابين.
في منطقة ناكسلباري، تولت منظمة للفلاحين موالية للحزب الشيوعي الماركسي تعبئة فقراء الريف. كان قائدها راديكاليا من الطبقة الوسطى - كانو سنيال - أكسبه رفضه لوسطه الاجتماعي في سبيل العمل في القرى أتباعا كثيرين؛ فبدءا من أواخر مارس 1967 أعدت المنظمة سلسلة من التظاهرات ضد ملاك الأراضي الذين كانوا يطردون المستأجرين أو يحتكرون الحبوب أو كليهما. وازدادت التظاهرات شراسة، مما أسفر عن اشتباكات مع الشرطة، تحولت إلى العنف؛ فقد قتل شرطي، فردت الشرطة بفتح النار على جمهرة من الناس؛ فقرر زعماء الفلاحين حمل السلاح، وسرعان ما بدءوا يقطعون رءوس ملاك الأراضي.
كانت التظاهرات نابعة في الأصل من الهيكل الزراعي شديد التفاوت في شمال البنغال، لكنها ربما لم تكن لتتخذ الصورة التي وصلت إليها لو لم ينضم الحزب الشيوعي الماركسي إلى الحكومة؛ فبعض النشطاء - وربما كثير من الفلاحين - شعروا أنهم بوصول حزبهم للسلطة، أصبح في مقدورهم تصحيح الهيكل الإقطاعي بأيديهم، لكنهم فوجئوا بردة فعل الحزب؛ إذ انحاز لصف قوى القانون والنظام. وبحلول نهاية صيف عام 1967، كان ثمة نحو 1500 شرطي في الخدمة في ناكسلباري، وكان كانو سنيال وزملاؤه القياديون في السجن، بينما لاذ متمردون آخرون إلى الغابة.
10
وسرعان ما احتلت ناكسلباري مكانة بارزة لدى الثوار الهنود؛ فأطلق اسمها على المنطقة بأسرها، وبعد فترة، على أي شخص في أي مكان مستعد لرفع السلاح على الدولة الهندية دفاعا عن المقهورين والمحرومين. وأصبحت لفظة «ناكسل» البديل الشائع لكلمة «ثوري»، اللفظة التي تثير مشاعر الإعجاب والافتتان بأحد طرفي الطيف السياسي، ومشاعر النفور والاستهزاء بالطرف الآخر.
11
كان من المؤيدين للناكسل زعماء جمهورية الصين الشعبية؛ ففي الأسبوع الأخير من يونيو 1967، أعلن راديو بكين أنه قد:
بدأت مرحلة كفاح مسلح للفلاحين تحت قيادة ثوار الحزب الشيوعي الهندي في ريف منطقة دارجيلنج بولاية غرب البنغال الهندية. وهذه هي طليعة الكفاح الثوري المسلح الذي شنه الشعب الهندي مسترشدا بتعاليم ماو تسي تونج. وهي تعبر عن التوجه العام للثورة الهندية في الوقت الحالي. وشعب الهند والصين وبقية العالم أجمع يرحبون بانطلاق هذا الكفاح الثوري المسلح.
12
في الوقت الذي اشتعلت فيه أولى شرارات الثورة في ناكسلباري، كانت مجموعة أخرى من الماويين تستعد للتحرك في ولاية أندرا براديش. نشط الناكسل الأندريون في منطقتين : تيلانجانا - التي قام فيها تمرد شيوعي كبير بين عامي 1946 و1949 - ومنطقة شريكاكولام على حدود أوريسا. في المنطقتين نشب النزاع بسبب الأرض والغابات. وفي الحالتين كانت أطراف الاستغلال الرئيسية هي الدولة وملاك الأراضي، وكان الضحايا الرئيسيون هم الفلاحين و(خاصة) القبائل. وفي كلتا الحالتين ركزت التعبئة الشيوعية على حرية الحصول إلى ناتج الغابات، ورفع أجور العمال، وإعادة توزيع الأراضي.
في شريكاكولام قاد المعركة معلم، يدعى فمباتابو ساتيانارايانا. قاد ذلك المعلم القبائل في سلسلة من الإضرابات العمالية، وفي الاستيلاء على الحبوب من حقول المزارعين الأثرياء وإعادة توزيعها على المحتاجين. وبحلول نهاية عام 1967 كان ملاك الأراضي قد استعانوا بالشرطة، التي أتت وقبضت على مئات المتظاهرين. حينئذ قرر ساتيانارايانا ورجاله حمل السلاح؛ فداهموا منازل ملاك الأراضي والمقرضين، وأحرقوا سجلاتهم وأوراقهم؛ فاستجابت الدولة بإرسال المزيد من رجال الشرطة، حتى إنه بحلول عام 1969، بلغ عدد قوات الشرطة الخاصة المسلحة في المنطقة تسع فصائل.
وفي تيلانجانا تزعم الكفاح تاريمالا ناجي ريدي. كان ريدي من أعضاء الحركة الشيوعية المخضرمين، وأمضى سنوات في تنظيم صفوف الفلاحين وخدم أيضا عدة فترات في مجلس الولاية التشريعي. وقد أعلن آنذاك عبثية المسار البرلماني، ثم استقال من المجلس وكذلك من الحزب الشيوعي الماركسي، ليتجه مرة أخرى إلى القرى؛ فتعاون مع العاملين على مستوى القاعدة على تعبئة الفلاحين حتى يطالبوا برفع أجورهم ووضع حد للفساد المستشري فيما بين مسئولي الدولة. ودربوا المتمردين الشباب على استخدام السلاح. وقسمت المنطقة إلى أقسام، عين لكل قسم منها عدة «دالامات»، أو مجموعات من الثوريين المتفرغين.
13
في غرب البنغال ، سقطت الحكومة الائتلافية في غضون أقل من عام. وفرض «حكم رئاسي» حتى عقد الانتخابات الجديدة في مطلع عام 1969، التي زادت فيها حصة الحزب الشيوعي الماركسي بدرجة كبيرة؛ فقد ربح ثمانين مقعدا، ليصبح بذلك الشريك الأكبر بفارق كبير في ائتلاف جديد مع حزب المؤتمر البنغالي وأحزاب أخرى. ومرة أخرى تولى أجوي موكرجي رئاسة الوزارة، بينما آثر الحزب الشيوعي الماركسي الاحتفاظ بوزارة الداخلية والاضطلاع بدور «الأخ الأكبر» بصفة عامة.
تخللت تلك السنوات قلاقل عظيمة في الولاية، كما يتبين من عناوين الكتب المؤلفة عن تلك الفترة؛ مثل: «معاناة غرب البنغال» و«غرب البنغال: الولاية المحرومة». دار أحد محاور النزاع بين الحكومة المركزية والولاية؛ فقد كانت حكومة الهند قلقة إزاء إرساء القانون والنظام، بينما كان حزب المؤتمر الحاكم مغتاظا من خسارته زمام السلطة في غرب البنغال. وأصبح حاكم الولاية طرفا مهما في النزاع، إذ تولى نقل مخاوف الحكومة المركزية (ومخاوف حزب المؤتمر، وإن لم يكن ذلك مبررا بالقدر ذاته) إلى السياسيين المحليين. وكانت أعمال المجلس التشريعي للولاية تعطل بصفة منتظمة؛ ففي إحدى المرات، منع الحاكم فعليا من إلقاء خطابه الافتتاحي المعهود واضطر إلى الفرار من مقر المجلس تحت حراسة الشرطة.
14
دار محور ثان للنزاع بين الحزبين الرئيسيين في حكومة الولاية؛ ففي حين حاول أجوي موكرجي وحزب المؤتمر البنغالي الذي ينتمي إليه (وإن كانت محاولة ضعيفة) الإبقاء على سير العمل بأجهزة الولاية، لم يتوان الحزب الشيوعي الماركسي عن إثارة الاحتجاجات في الشوارع بل حتى التحريض على العنف، في سبيل تحقيق أهدافه. وفي مصانع كلكتا والمناطق المحيطة بها، اتبع العمال ممارسة التطويق؛ بمعني الإحاطة بمديريهم من أجل المطالبة بتحسين أجورهم وظروف عملهم. فيما سبق، كان يتسنى للإدارة استدعاء الشرطة، إلا أن الحكومة الجديدة أصرت على أن أي تعطيل للعمل لا بد من إحالته أولا إلى وزير العمل (أحد رجال الحزب الشيوعي الماركسي)؛ فكانت تلك بمنزلة دعوة للإضراب؛ فوفقا لإحدى التقديرات حدث أكثر من 1200 واقعة تطويق في الأشهر الستة الأولى بعد تسلم أول حكومة لائتلاف الجبهة المتحدة والجبهة اليسارية السلطة.
15
ترددت أصداء تلك الإضرابات في الصحف البريطانية، وهو ما يعزى في جزء منه إلى أن كثيرا من الشركات الكبرى في كلكتا كان مملوكا لبريطانيين، وفي جزء آخر إلى أن كلكتا كانت عاصمة الراج البريطاني ذات يوم؛ فجاء أحد العناوين الرئيسية كالتالي: «توقعات لمزيد من الفوضى في غرب البنغال»، ونص آخر على أن «أعمال الشغب توقف افتتاح مجلس غرب البنغال». فكان رد فعل كثير من أصحاب المصانع - الهنود والأوروبيين على حد سواء - هو إغلاق أعمالهم. ونقل آخرون أعمالهم إلى أماكن أخرى، في عملية هروب لرءوس الأموال أزاحت كلكتا من موقع المركز الرائد للصناعة الهندية.
16
وإلى جانب الرأسماليين القلقين بشأن أرباحهم، أزعجت الفوضى السائدة رئيس وزراء غرب البنغال أيضا؛ فقد رأى فيها صنيعة أيدي الحزب الشيوعي الماركسي، التي تضمنت حقائبه الوزارية وزارة الأراضي ووزارة العمل - اللتين تأججت فيهما المتاعب - ووزارة الداخلية، التي كان يمكن احتواء المتاعب فيها، ولكن ذلك لم يحدث. ومن ثم قرر تلميذ غاندي القديم أجوي موكرجي الاحتجاج على المحتجين، بتنظيم حملة مقاومة سلمية هو الآخر؛ فطاف أنحاء الولاية حيث ألقى الخطب، وندد بالحزب الشيوعي الماركسي لتشجيعه الشقاق الاجتماعي. ثم إنه، في أول ديسمبر، بدأ صوما عن الطعام لمدة اثنتين وسبعين ساعة في مكان عام، هو حديقة كرزون جنوبي كلكتا؛ ففي تاريخ المقاومات السلمية الهندية الثري، لا بد أن تكون تلك هي الأكثر غرابة؛ إذ صام رئيس وزراء إحدى الولايات عن الطعام احتجاجا على فشل حكومته في حفظ السلام.
17
دار نزاع ثالث بين الحزب الشيوعي الماركسي والناكسل، الذين كانوا قد أسسوا حزبا جديدا يدعى الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني. وفي منطقة تلو أخرى، طفق كوادر الحزب القديم يتركونه وينضمون إلى الجديد، تماما مثلما تركوا الحزب الشيوعي الهندي في 1963-1964 لينضموا إلى الحزب الشيوعي الماركسي. كانت المنافسة بين الحزب الشيوعي الماركسي والحزب الشيوعي الماركسي اللينيني شديدة، بل عنيفة في كثير من الأحيان؛ فقد حث زعيم الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني - تشارو مازومدار - على القضاء على ملاك الأراضي، الذين كانوا «أعداء طبقيين »، وكذلك كوادر الحزب الشيوعي الماركسي الذين كانوا «منحرفين يمينيين». وأنشأ الحزب الشيوعي الماركسي من جانبه جيشا خاصا (أطلق عليه «قوة تطوعية» على سبيل التلطيف) لتحقيق صورة «الثورة الشعبية الديمقراطية» التي يؤمن بها.
18
وكما في زمن الاستعمار البريطاني، قدمت تقارير مكتب الاستخبارات أفضل تصوير لثنايا الاضطرابات السياسية؛ فقد ذكر أحد تقارير مكتب الاستخبارات 137 «حالة فوضى كبرى في غرب البنغال» خلال فترة ستة أسابيع فحسب، ما بين 19 مارس و4 مايو 1970، وصنفها تحت عناوين مختلفة ؛ فقد وضعت عدة أحداث طرفين في مواجهة أحدهما الآخر: «الحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة الحزب الشيوعي الهندي، والحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة حزب المؤتمر، والحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني.» وفي بعض الأحيان كان الغضب يوجه نحو الدولة؛ على سبيل المثال: «الحزب الشيوعي الماركسي في مواجهة الشرطة» أو «عناصر متطرفة في مواجهة رجال الشرطة»، ويشير العنوان الأخير إلى هجوم على مركز شرطة في منطقة ملدا، حيث طعن الناكسل شرطيا حتى الموت ونهبوا مخزن الأسلحة. وأورد التقرير حالة تحت عنوان «طلاب متطرفون في مواجهة نائب رئيس الجامعة»، مشيرا إلى واقعة حدثت في جامعة جادفبور في كلكتا، احتجز طلاب راديكاليون فيها نائب رئيس الجامعة عدة ساعات، قبل أن يحطموا الأثاث ويكتبوا شعارات ماوية على جدران حجرة مكتبه.
19
في القرى، كان الناكسل يأملون في تصعيد القلاقل بقطع رءوس ملاك الأراضي، وظنوا أن الأثر ذاته يمكن أن يتحقق في المدينة بشن هجمات عشوائية على رجال الشرطة. كان كيبلينج قد أطلق على كلكتا ذات مرة «مدينة الليل المخيف»، ولكن الآن أصبح مواطنوها يخافون في النهار أيضا؛ فكانت المتاجر تشرع في غلق أبوابها عند حلول العصر، وبحلول الغسق تصير الشوارع مهجورة.
20
وكتب أحد الصحفيين: «لا يمر يوم في هذه المدينة المضطربة المعذبة دون إلقاء بضع قنابل على نقاط الحراسة أو الدوريات الشرطية.» وفي الوقت نفسه كانت الشرطة تداهم المنازل وأماكن إقامة الطلبة الملحقة بالكليات بحثا عن المتطرفين. وفي إحدى الغارات صادروا مواد متفجرة تكفي لصنع 3 آلاف قنبلة.
21
5
تدفقت الكبرياء التاميلية متجددة في الجنوب، بينما تصاعدت الحروب الطبقية في الشرق، وتداعى الوفاق على حزب المؤتمر في أماكن أخرى أيضا؛ ففي ولاية أوريسا، لقي حزب المؤتمر هزيمة نكراء على يد شراكة بين حزب سواتنترا وحزب النخبة المحلية من ملاك الأراضي؛ فقد استهدفت الحملة الانتخابية لتلك الشراكة عضوين بارزين في حزب المؤتمر - بيجو بتنايك وبيرن ميترا - متهمة إياهما بالفساد وأسلوب الحياة المبالغ في الترف؛ فزعم أن الرجلين تلقيا أثناء تبوئهما مقاعد السلطة في الولاية رشا من رجال أعمال ومنحا عقودا حكومية مربحة لأصدقائهما وأقاربهما.
22
وكان الشعار الشائع، الذي مثل النسخة المحلية - إن جاز التعبير - من الشعار الذي رددته الهتافات في بلدة دهرادون البعيدة، هو: «أينما وجدت زجاجات الخمر، وجدت بيجو ويبرن.» فعند وصول ائتلاف حزب سواتنترا وحزب مؤتمر جانا إلى السلطة، أنشأ على الفور لجنة للتحقيق في فساد الحكومة السابقة.
23
وإذ واجه حزب المؤتمر تحديات من أحزاب يمينية ويسارية، وجد نفسه ينزف من الداخل أيضا؛ ففي معظم ولايات شمال الهند فاز في الانتخابات بأغلبية ضئيلة. ثم أصبحت تلك الأغلبيات عرضة للدسائس، مع تشكل فصائل بقيادة زعماء طموحين ساعين وراء رئاسة وزارة الولاية؛ ففي ولايات أوتر براديش وماديا براديش وهاريانا وبيهار، تشكلت حكومات حزب المؤتمر، ثم سقطت بتحول جماعة من المنشقين الساخطين إلى الجهة المقابلة؛ ففي قاموس سياسي غني بالفعل بالأسماء، مثل حزب ساميوكتا فيدهاياك دال - أو حزب المشرعين المتحدين - كما يتبين من اسمه، خليطا متنوعا متنافرا، وائتلافا من المشرعين من اليسار واليمين والوسط، الذين لم يوحد بينهم سوى الرغبة في الاستيلاء على السلطة.
تشكلت حكومات ذلك الحزب من أعضاء من حزب جانا سانج والاشتراكيين وحزب سواتنترا والأحزاب المحلية والأعضاء المنشقين عن حزب المؤتمر، وكان الأعضاء المنشقون هم العنصر الذي أتاح إمكانية تحقيق أغلبية عددية؛ فعلى أحد الأصعدة، مثلت ظاهرة حزب المشرعين المتحدين إشارة لصعود الطوائف الهندية المتخلفة، التي استفادت من التشريعات الخاصة بالأراضي ولكنها حرمت ثمار السلطة السياسية. في الشمال، تضمنت تلك الطوائف الاجتماعية: الجات في هاريانا وأوتر براديش، والكورمي والكويري في بيهار، واللودهي في ماديا براديش، والياداف في تلك الولايات كافة. وفي الجنوب، تضمنت الماراثيين في مهاراشترا، والفوكاليجا في ميسور، والفيلالا في مدراس، والريدي والكاما في أندرا براديش. كانت تلك الطوائف الاجتماعية تحتل مكانة متوسطة في التسلسل الهرمي الاجتماعي، فكانوا أدنى من البراهمة ولكنهم أعلى من المنبوذين. في مناطق كثيرة، مثلت «الطبقة المسيطرة»، لكثرتها العددية وحسن تنظيمها. أما ما تفتقر إليه فكان الوصول إلى سلطة الدولة. كان حزب درافيدا مونيترا كازاجام مدعوما من الطوائف المتخلفة بالأساس، وكذلك كان الشيوعيون، الذين زادت حصتهم من الأصوات في الشمال. ومن الجدير بالذكر أن كثيرا من المنشقين عن حزب المؤتمر جاءوا أيضا من تلك الطبقة.
على صعيد آخر، مثلت حكومات حزب المشرعين المتحدين مجرد نتاج للطموح الشخصي. ولنأخذ ولاية ماديا براديش على سبيل المثال. بدأت مشكلات حزب المؤتمر في تلك الولاية قبل الانتخابات، عندما تركت راجماتا (الملكة الأم) مدينة جواليور الحزب لعدم استشارتها بخصوص اختيار المرشحين. وشنت حملة شعواء بالاشتراك مع ابنها مدهافراو على حزب المؤتمر؛ فوفقا لأحد تقارير مكتب الاستخبارات، أنفقت الراجماتا 3 ملايين روبية في الانتخابات. وعلى الرغم من عودة حزب المؤتمر إلى السلطة، فقد تعرض لهزيمة نكراء في منطقة جواليور. وبعد ذلك - وفقا لتقرير الاستخبارات أيضا - كانت الراجماتا تخطط لإنفاق المزيد من المال «بغية تحويل ولاءات بعض مشرعي حزب المؤتمر ... وإسقاط وزارة حزب المؤتمر الجديدة».
24
كان رئيس وزراء الولاية - وهو رجل حصيف حكيم يدعى دي بي ميشرا - مستعدا لذلك إلى حد بعيد؛ فقد عمل هو نفسه على استمالة المنشقين عن أحزاب أخرى؛ وكما كتب إلى رئيس حزب المؤتمر، كان عليه «فتح الباب أمام كل من يرغب في الانضمام إلى الحزب».
25
إلا أن الراجماتا نجحت في النهاية، عندما نجح أحد الأعضاء البارزين المنشقين عن حزب المؤتمر - جوفند ناراين سينج - في إقناع ثمانية وعشرين عضوا آخر في ترك الحزب معه. وقبل التصويت الحاسم في المجلس التشريعي، أبقى سينج أتباعه معزولين في منزله الخاص، حارسا إياهم ببندقية، لئلا يختطف أحدهم أو يغويه أحد بتركهم.
وإذ لم تكن حكومة حزب المشرعين المتحدين واثقة من طول مدة حكمها، كان عليها أن تستفيد بكل يوم، أو كل أمر؛ فحدد الوزراء رسوما للموافقة على نقل المسئولين أو وقفهم. ومن ثم «كانت الأوامر - لا سيما أوامر النقل - تصدر وتلغى بسرعة مربكة». وكالمعتاد كان حزب جانا سانج يرغب في وزارة التعليم، حتى «يتسنى بناء هيكل دائم من التابعين من خلال المدارس الابتدائية». وحصل في نهاية المطاف على وزارة الداخلية. وفيها حافظ على السلام الطائفي بتحجيم أتباعه ، وإن كان حرص كل الحرص على «التأكد من عدم شغل مسلم لأي منصب مهم في أي إدارة».
26
على الرغم من الانشقاقات وما أسفرت عنه من فساد، كان ما حدث بعد انتخابات عام 1967 مثلما سماه إي بي دبليو دا كوستا بالفعل: الثورة السلمية الثانية للهند؛ فقد كان بإمكان المرء آنذاك أن يستقل قطارا من نيودلهي إلى كلكتا، حيث يقطع مسافة ألف ميل في قلب الهند، دون أن يمر بولاية واحدة يحكمها حزب المؤتمر.
6
جلبت أواخر ستينيات القرن العشرين تأكيدات جديدة على النعرات الإقليمية؛ فالأجزاء التي كانت تنتمي لولاية حيدر أباد القديمة، ثم اندمجت في ولاية أندرا براديش عام 1956، أصبحت ترغب في الانفصال عنها. قاد تلك الحركة طلاب الجامعة العثمانية، الذين شكوا أن أندرا أصبحت تدار لمصلحة النخبة الساحلية؛ فكان المفترض أن تتركز الولاية الجديدة التي طالبوا بها - وأرادوا تسميتها تيلانجانا - حول المناطق الداخلية المهملة. وكان من المفترض أن تصير حيدر أباد عاصمة لها؛ فانطلقت دعوات الإضرابات والمسيرات، وأوقفت القطارات، وصدرت اتهامات متعلقة ب «الاحتلال الأندري» و«ظلم الشرطة».
27
في الجهة المقابلة من البلاد، كان ثمة ولاية جديدة اقتطعت في الواقع من المناطق القبلية لآسام. وكان للحركة الانفصالية هناك تاريخ طويل؛ فقد تشكل اتحاد قبائل شرق الهند عام 1955 لكي يمثل ساكني جبال خاسي وجاينتيا وجارو. وبعد مرور خمسة أعوام أعيد تسميته ليصبح «مؤتمر زعماء الجبال لعموم الأحزاب». وفي انتخابات عام 1967، مني حزب المؤتمر بهزيمة نكراء في المناطق الجبلية على يد مؤتمر زعماء الجبال لعموم الأحزاب؛ فتلك التجربة - إلى جانب التخوف من حدوث تمرد مثل حركتي ناجا وميزو - دفعا الحكومة المركزية إلى إنشاء مقاطعة جديدة في ديسمبر 1969. وأطلق على الولاية ميجالايا؛ أي «مثوى السحاب».
28
وفي ذلك الوقت، في البنجاب، طفقت ولاية قائمة تبحث عن عاصمة لها؛ فبعد تقسيم الولاية عام 1966، مثلت تشانديجار عاصمة كل من البنجاب وهاريانا. وكان السيخ يؤمنون - عن حق - أن المدينة ينبغي أن تخصص لهم، بل إن الحكومة المركزية أشارت إلى ذلك بالفعل. ومن ثم راح البنجابيون يلحون على الحكومة حتى تفي بوعدها؛ فقامت تظاهرات شعبية طوال عامي 1968 و1969، وفي أكتوبر 1969 توفي المناضل المخضرم درشان سينج بيرومال عقب صوم عن الطعام بنية الضغط على نيودلهي لكي تسلم تشانديجار؛ فأصدرت رئيسة الوزراء مذكرة تعاطف مهدئة قالت فيها إنها تأمل أن «تحرك وفاة بيرومال شعب البنجاب وهاريانا صوب التقريب بين قلوبهم وأذهانهم في بادرة صلح عظيمة».
29
كان السيخ يريدون تشانديجار لهم وحدهم، وكذلك كان المهاراشتريون فيما يتعلق ببومباي. أسس حزب جديد في بومباي، وسمي شيف سنا تيمنا بالمحارب الماراثي شيفاجي من العصور الوسطى. من بعض النواحي كان ذلك الحزب استمرارا لحركة ساميوكتا مهاراشترا ساميتي القديمة، وإن كان في هيئة أكثر تطرفا؛ فعوضا عن المطالبة بأن تكون «بومباي لمهاراشترا» أصبحت الدعوات تطالب بأن تكون «بومباي للمهاراشتريين». كان حزب شيف سنا صنيعة يد رسام كاريكاتير يدعى بال تاكري. كان هدف تاكري الرئيسي هنود الجنوب الذين زعم أنهم يسلبون أهل المنطقة وظائفهم. وقد سخر من «المدراسيين» لابسي المئزر في كتاباته ورسومه، بنيما هاجم أتباعه المطاعم الأودوبية ومنازل متحدثي التاميلية والتيلوجوية. وتمثل هدف آخر في الشيوعيين، الذين سعى حزب شيف سنا إلى تقويض سيطرتهم على اتحادات عمال النسيج في المدينة بعقد صفقات مع الإدارات.
كانت بومباي هي مدينة الهند الأولى؛ إذ كانت عاصمتها المالية والصناعية، ومركز صناعة الترفيه فيها. وفي تلك المدينة شديدة التعددية في جنسياتها وثقافاتها، أثبتت الأجندة القومية نجاحا غير متوقع، واجتذبت المتعلمين العاطلين عن العمل بصفة خاصة؛ ففي عام 1968، ربح حزب شيف سنا اثنين وأربعين مقعدا في انتخابات بومباي البلدية، ليأتي في المرتبة الثانية بعد حزب المؤتمر مباشرة.
30
صاحبت دعوات زيادة الاستقلال في قلب الهند هذه تقلبات في محيطها الخارجي، ترددت في أوساط جماعات وزعماء هم في الأساس لم يقتنعوا تماما بفكرة انتمائهم إلى الهند قط؛ ففي مارس 1968 أطلق سراح الشيخ عبد الله من الإقامة الجبرية في كودايكانال، وسمح له بالعودة إلى الوادي الذي ينتمي إليه. كان ذلك بعد عام من انتخابات 1967، التي لم تكن في حقيقة الأمر حرة ونزيهة، في كشمير على الأقل ؛ ففي اثنتين وعشرين دائرة انتخابية من أصل خمس وسبعين، عاد مرشحو حزب المؤتمر إلى مناصبهم بالتزكية، عندما رفضت أوراق ترشيح خصومهم.
31
ثم استجابت إنديرا غاندي لنصائح مستشاريها بالإفراج عن عبد الله؛ فحسب معلوماتهم، كان الشيخ في سبيله إلى «تكييف نفسه تدريجيا» مع حقيقة أن انضمام كشمير إلى الهند مسألة لا رجوع فيها.
32
وكما عام 1964، عاد «أسد كشمير» إلى موطنه ليلقى استقبال الأبطال، حيث استقل سيارة جيب مكشوفة إلى الوادي، وتلقى أطواق الزهور من محبيه الذين اصطفوا على الطريق لتحيته، وتشير التقديرات إلى أن 500 ألف شخص حضروا لاستقباله. وكما كان الحال دائما، كانت تصريحاته عرضة للتأويلات المتعددة؛ فقد قال في أحد الأماكن إنه سوف يناقش «جميع الاحتمالات» مع الحكومة الهندية، وفي مكان آخر قال إنه لن يتنازل أبدا عن «حق الكشميريين في تقرير مصيرهم». وقدم لصحيفة بريطانية حلا ثلاثي الجوانب، تمثل في الآتي: أن تتبع جامو الهند وتتبع آزاد كشمير باكستان، بينما يوضع الوادي - نقطة الخلاف الحقيقية - تحت وصاية الأمم المتحدة لمدة خمسة أعوام، يجرى بعدها تصويت لتحديد إن كان سوف ينضم إلى الهند أم باكستان أم يستقل. وعلى الرغم من آراء الشيخ الملتبسة في مجال السياسة، فقد كان - كعادته - واضحا في دفاعه عن العلمانية؛ فعندما هدد نزاع بين طلبة بالتصاعد إلى حد اندلاع أعمال شغب بين الهندوس والمسلمين، هدأ عبد الله الطلبة، ثم سار في شوارع المدينة القديمة حاثا الجميع على الهدوء. ودفع أعوانه إلى قطع عهد بأنهم «مستعدون للتضحية بدمائهم في سبيل حماية حياة الأقليات في كشمير وشرفهم وممتلكاتهم».
33
وفي الوقت نفسه كان المتمردون في ناجالاند يسعون وراء حل جديد أيضا. وبوجود فيزو في لندن، انتقلت دفة قيادة الحركة إلى راديكاليين أصغر منه سنا، من قبيل إيساك سو وتي مويفا. وفي حين أن فيزو اعترض على طلب العون من الصين الشيوعية - نظرا لعدائيتها إزاء الديانة المسيحية - فهؤلاء الرجال لم يكن لديهم مثل تلك الموانع؛ فقد وردت تقارير تفيد بأن 1000 شخص من قبائل ناجا عبروا الحدود إلى يونان الصينية عن طريق بورما، للحصول على المدافع الآلية ومدافع الهاون وقاذفات الصواريخ الصينية، بالإضافة إلى إرشادات استخدامها. وفي ناجالاند، وقعت اشتباكات حادة بين الجيش الهندي والمتمردين.
34
كان من مؤيدي التحالف مع بكين ديفيد أستور مالك صحيفة «ذي أوبزرفر»، الذي دعم قضية قبائل ناجا كثيرا. وقد تنبأ بأن ناجالاند سوف تتبع مسار أيرلندا، حيث منحت الحكومة الاستعمارية الاستقلال على مضض للجزء الجنوبي من الجزيرة. وبما أن قبائل ناجا كانت عنيدة كالأيرلنديين، فقد رأى أستور أنها «يمكنها الآن أن تستغل القوة التي سوف يمدها بها دعم الصين ... لكي تنجح في البقاء». وكان يأمل في أن «توضح الأصوات البريطانية الصديقة لدلهي أهمية الدرس الذي اضطررنا إلى تعلمه عندما واجهنا تحديا مشابها من جانب الأيرلنديين».
35
وكانت تلك النصيحة مبنية على استهانة خطيرة - إن لم تكن مأساوية - بقوة الدولة الهندية.
7
من المثير للانزعاج أن ستينيات القرن العشرين جلبت أيضا تصاعدا في وتيرة العنف بين الهندوس والمسلمين؛ فوفقا للأرقام الصادرة عن مجلس التكامل الوطني، وقعت 132 واقعة عنف طائفي عام 1966، و220 واقعة عام 1967، و346 واقعة عام 1968 (استمر الاتجاه المتنامي طوال عامي 1969 و1970). وكثيرا ما كانت تلك النزاعات تنشأ في الأصل عن خلافات تافهة، مثل عزف الموسيقى أمام مسجد، أو ذبح بقرة بالقرب من معبد. وأحيانا كانت المتاعب تبدأ باعتداءات على نساء أو مشاجرات على ملكية. وكان أكبر عدد من الوقائع في ولايتي بيهار وأوتر براديش.
36
كان أحد أسباب نوبة العنف تلك هو ضعف حكومات الولايات. وكانت أكثرها استحقاقا للوم هي حكومات حزب المشرعين المتحدين، التي كانت مترددة بصدد استخدام القوة لوقف أعمال الشغب أو مرتكبيها. وتمثل سبب آخر في أنه عقب حرب عام 1965، كانت المشاعر المعادية لباكستان متأججة. وكان من اليسير تحويلها ضد المسلمين الهنود، الذين اعتبروا (ظلما) طابورا خامسا يعمل لصالح العدو. وكان الهندوس الذين يستلهمون مواقفهم من حزب جانا سانج ميالين بصفة خاصة لتوجيه مثل تلك الإهانات الساخرة للمسلمين؛ فعندما يشب نزاع، يضيف الهندوس إلى الشعارين الدينيين القديمين المتقابلين - «هار مهاديف» (كلنا شيفا) و«الله أكبر» - شعارا جديدا، هو: «باكستان يا قبرستان» (إما أن تذهبوا إلى باكستان أو نرسلكم إلى قبوركم).
37
وقع أحد أسوأ أعمال الشغب في مدينة الله أباد، المدينة الجوجاراتية التي كانت يوما موطن المهاتما غاندي. ومن قبيل المفارقة أن الشغب حدث عشية ذكرى مولد غاندي المائة، ومن ثم كانت مصدر إحراج للحكومة، التي كانت خططت لاحتفال مهيب، تأتي كبار الشخصيات لحضوره من جميع أنحاء العالم؛ ففي يوم 12 سبتمبر من عام 1969، التقت مسيرة لإحياء ذكرى أحد الأولياء المسلمين بجماعة من المتصوفين الهندوس (السادهو) في طريق عودتهم إلى المعبد مصطحبين معهم أبقارا؛ فدارت مشادة كلامية بين الطرفين، دخل بعض الشباب المسلمين على إثرها المعبد وحطموا بضعة تماثيل. ذهب وفد من المسلمين - بقيادة محام محترم - على الفور للاعتذار، ولكنهم عجزوا عن استرضاء الكهنة. وإذ ذاع خبر تدنيس المعبد، بدأت حشود الهندوس تتجمع، باحثة عن أهداف تهاجمها. فحرقت مصاحف في إحدى المناطق، وهوجمت متاجر المسلمين في أخرى. ورد عليهم المسلمون، فانتشرت الاضطرابات في أنحاء المدينة ووصلت في نهاية المطاف إلى مدن قريبة من أحمد أباد. وإذ وقفت الشرطة مكتوفة الأيدي، راحت العصابات تتقاتل في الشوارع الضيقة للمدينة القديمة. وبعد أسبوع من القتال، استدعي الجيش لإعادة السلام في الأنحاء؛ فكانت حصيلة الأحداث مقتل أكثر من ألف شخص وتشريد 30 ألفا. وكان معظم القتلى والمشردين من المسلمين.
38
وقعت أعمال شغب خطيرة في رانتشي ببيهار في صيف عام 1967، وأعمال شغب سيئة في جلجاون بمهاراشترا، بعد ثلاثة أعوام. وفي الفترة التي تخللت الحدثين شهد عدد كبير من المدن الأخرى في شمال الهند وغربها عنفا طائفيا. وأشار الكاتب كشوانت سينج إلى أن المراهق الهندي صار يتعلم جغرافية بلده من خلال تاريخ القتل؛ فعليكرة ورانتشي وأحمد أباد لم تعد مراكز للتعلم أو الثقافة أو الصناعة، وإنما أماكن اقترف فيها الهنود مجازر بعضهم في حق بعض باسم الدين. وكما أشار سينج، ففي أعمال الشغب تلك «تسعة أعشار القتلى كانوا من المسلمين. وتسعة أعشار المنازل والمؤسسات التجارية المدمرة كانت لمسلمين». وكانت أغلبية من شردوا وقبض عليهم من المسلمين أيضا. ثم تساءل سينج: «هل لنا أن نعجب من أن الهندي المسلم لم يعد يشعر بالأمان في الهند العلمانية؟ إنه يشعر بالاضطهاد، وبأنه مواطن من الدرجة الثانية.»
39
في 1967-1968، عندما تصاعدت حدة المشاعر الطائفية، كان رئيس الهند مسلما (الدكتور ذاكر حسين) وكذلك رئيس المحكمة العليا (محمد هداية الله). إلا أنهما - كما أشارت مجلة في دلهي - لم يمثلا بأي حال «وضع المسلمين في الحياة الهندية بصفة عامة»؛ فقد كان تمثيل المسلمين منخفضا للغاية في المهن من قبيل الهندسة والطب، وفي مجالات الصناعة والتجارة والقوات المسلحة. كان ذلك الوضع يعزى في جزء منه إلى فرار الطائفة العليا من المسلمين إلى باكستان، إلا أن الاضطهاد الاجتماعي الخفي أسهم فيه أيضا. وقد كان المسلمون راسخين في دعمهم لحزب المؤتمر، ولكنهم في انتخابات عام 1967 صوتوا بأعداد كبيرة لأحزاب أخرى، تعبيرا عن خيبة أملهم فيه. وكانت معضلة المسلمين نتاج التعصب والسياسات الطائفية من جانب الهندوس، والقيادة المعوقة من جانبهم.
40
8
من وجهة نظر المؤرخين، تحمل أواخر ستينيات القرن العشرين شبها بأواخر أربعينياته؛ فقد كانت مثلها فترة أزمات وصراعات، وسخط طبقي وديني وعرقي وإقليمي، وحكومة مركزية تبدو متماسكة بالكاد. وإنني لأتساءل إن كانت أوجه الشبه تلك قد تراءت للهنود المعاصرين لتلك الفترة: لشاغلي مقاعد السلطة تحديدا، ورئيسة الوزراء في المقام الأول.
لم تكن أوجه الشبه قائمة على المستوى الوطني أو الاجتماعي فحسب، وإنما على المستوى العائلي أيضا؛ فعندما كان الراج البريطاني في النزع الأخير، تولى نهرو رئاسة وزارة حكومة مؤقتة عام 1946. وفي العام التالي، عندما استقلت الهند، اكتسب منصبه مزيدا من الأهمية. وكذلك إنديرا غاندي أقحمت في السلطة بغتة عام 1966، وفي العام التالي، تأكدت وظيفتها على نحو رسمي، عندما قادت حزبها إلى الفوز في الانتخابات. ومثل نهرو، كانت مسيطرة على مقاليد الأمور في دلهي. ومثله أيضا لم تستطع التأكد من مدى النطاق الذي بلغته سيطرة حكومتها خارج دلهي. وكلاهما اضطر للتعامل مع تمرد شيوعي وصراعات طائفية. وقد واجهته، زيادة عنها، مشكلة الولايات الأميرية، بينما واجهت هي مشكلة وجود نحو 12 حكومة معارضة لحزب المؤتمر في الولايات.
وهنا انتهت أوجه التشابه؛ ففي إطار سعي نهرو إلى توحيد الهند المقسمة، صاغ أيديولوجية ارتكزت على أربعة أعمدة رئيسية؛ أولا: الديمقراطية، بمعنى حرية اختيار المرء لصديقه والبوح بمكنونات صدره (وباللغة التي يختارها)، والأهم من ذلك كله: حرية اختيار المرء لقادته من خلال انتخابات دورية قائمة على حق التصويت لجميع البالغين. وثانيا: العلمانية، بمعنى حيادية الدولة في مسائل الدين، والتزامها بالحفاظ على السلام المجتمعي. ثالثا: الاشتراكية، بمعنى محاولة زيادة الإنتاجية مع محاولة التوزيع المتساوي للدخل (والفرص الاجتماعية). رابعا: عدم الانحياز، بالنأي بالهند عن خصومات القوى الكبرى. وكان من العناصر الأقل جاذبية - وإن لم يستتبع ذلك بالضرورة قلة أهميتها - التي اشتملت عليها تلك الرؤية العالمية: التنمية الواعية لنظام متعدد الأحزاب (من الجدير بالذكر أن ذلك تم عن طريق النقاشات البرلمانية) واحترام استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية.
على الرغم من أن تلك المعتقدات أعيدت صياغتها في سياق الهند حديثة الاستقلال، فقد أخذت تتطور لأكثر من عشرين عاما؛ فقد كان نهرو رجلا واسع الاطلاع وكثير الأسفار. ومن خلال أسفاره وقراءاته، توصل إلى تركيبة من الاشتراكية والليبرالية ظنها ملائمة لبلده. بمعنى آخر، كانت المعتقدات السياسية التي أعرب عنها - ودعا شعب الهند إلى مشاركته فيها - نابعة منه.
أما في حالة إنديرا غاندي فلا يمكن للمرء التأكد؛ فهي لم تكن واسعة الاطلاع ولا كثيرة الأسفار. كانت وطنية بلا شك؛ إذ نشأت وترعرعت في كنف حركة التحرير، وشاركت قادتها التزامهم الراسخ بالحفاظ على مصالح الهند في العالم. أما الأمر الذي يشك فيه، فكان رؤيتها للطريقة المثلى للحفاظ على تلك المصالح؛ فطوال الأعوام التي قضتها على الساحة السياسية، لم تكشف معتقداتها الأساسية لا لحزبها ولا لعامة الشعب؛ فهم لم يعرفوا رأيها الحقيقي في اقتصاد السوق، أو الحرب الباردة، أو العلاقات بين الأديان، أو مؤسسات الديمقراطية وعملياتها. تمتلئ المجلدات العديدة التي تضمنتها «الأعمال المختارة» لنهرو بكتاباته عن تلك الموضوعات، وهي الموضوعات التي لم تبح السيدة غاندي بكلمة بصددها قبل عام 1967.
كانت رئيسة الوزراء معدومة الأيديولوجية - إن جاز التعبير - وهي سمة لم يشاركها فيها مستشاروها. كان كبير هؤلاء المستشارين هو سكرتيرها الأول، بي إن هاكسر، الذي تلقى تعليمه في كلية لندن للاقتصاد ونال رخصة مزاولة مهنة المحاماة في المملكة المتحدة، قبل أن يعود لكي يمارس القانون في أحمد أباد. وعند الاستقلال، التحق بالخارجية الهندية، وأصبح سفير الهند لدى النمسا وأول مفوض سامي هندي لدى نيجيريا. وفي عام 1967، كان نائب المفوض السامي في لندن، عندما طلبت منه السيدة غاندي الانضمام إلى طاقم مستشاريها؛ فقد اشتركت معه في مسقط رأسها وأصلها - إذ كان كلاهما من البانديت الكشميريين - وكان لديهما كثير من الأصدقاء المشتركين.
كان هاكسر ذا معرفة موسوعية إلى حد ما؛ فقد كان دارسا للرياضيات، وكذلك كان شديد الاهتمام بالتاريخ، لا سيما التاريخ الدبلوماسي والعسكري. وتضمنت مجالات اهتمامه الأخرى الأنثروبولوجيا - كان قد حضر حلقة دراسية لبرونيسلاف مالينوفسكي في كلية لندن للاقتصاد - والطعام (كان طاهيا لا يعلى عليه). كان هاكسر عادة ما يتفوق على أصدقائه وزملائه بسعة معرفته وقوة آرائه. إلا أنه في حالته لم تكن القوة الفكرية مقترنة بالضرورة بالفطنة الفكرية؛ فقد كانت آراؤه السياسية مماثلة لآراء الجناح اليساري في حزب العمل البريطاني نحو عام 1945؛ فكان من أنصار الدولة وأعداء السوق في الشئون الاقتصادية، وكان مناصرا للاتحاد السوفييتي ومعاديا للولايات المتحدة في السياسة الخارجية. ويتحتم علينا القول إنه إضافة إلى ذلك كان يتحلى بنزاهة لا تتزعزع.
41
وهذا الكتاب يدين بفضل كبير إلى بي إن هاكسر، الذي قدمت أوراقه - 500 ملف كامل - نافذة مميزة على تاريخ عصره. إلا أن رئيسة وزراء ذلك العصر كانت تدين له بالفضل بدرجة أكبر؛ فكما كتبت كاثرين فرانك: «إنديرا كانت تثق بذكاء هاكسر ورجاحة عقله ثقة تامة لا يشوبها شك؛ ففي الفترة من عام 1967 إلى 1973، كان هو الشخص الأكثر نفوذا وقوة في الحكومة على الأرجح.»
42
وشارك هاكسر نفوذه وقوته الدبلوماسي المتمرس تي إن كاول، والسياسي الذي تحول إلى دبلوماسي دي بي دهار، والاقتصادي الذي تحول إلى مسئول حكومي كبير بي إن دهار، والشرطي الذي أصبح محللا أمنيا آر إن كاو. وكانوا يعرفون مجتمعين (من وراء ظهورهم) بلقب «الإخوة باندافا الخمسة»، تيمنا بالإخوة الخمسة الأبطال في ملحمة «مهابهاراتا». وكان من قبيل المصادفة أنهم جميعا كانوا براهمة كشميريين. كذلك كان ثمة مجموعة خارجية من المستشارين، كانوا بالمثل مسئولين أو مفكرين عوضا عن أن يكونوا سياسيين بمعنى الكلمة.
ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة؛ فبدرجة أكبر من لال بهادور شاستري، كانت السيدة غاندي بحاجة إلى تأكيد استقلالها عن «نقابة» حزب المؤتمر التي اختارتها؛ فمن الناحية الاجتماعية لم يجمعها الكثير بزعماء الحزب؛ فقد كان أصدقاؤها ينتمون إلى وسط أكثر رقيا. وإضافة إلى ذلك، لم يكن في وسعها أن تعرف على وجه التأكيد متى قد يحاول الزعماء إبعادها عن منصبها. ومن ثم أصبحت تعتمد على نصيحة كبار المسئولين الحكوميين في محيطها؛ فهم لم يكن لديهم طموحات سياسية شخصية، ولكنهم كان لديهم آراء سياسية، اعتنقتها هي أيضا مع مرور الوقت لأسباب خاصة بها.
9
بعد انتخابات عام 1967 أوضح مورارجي ديساي مجددا رغبته في أن يصبح رئيسا للوزراء؛ فكان الحل الوسط الذي تم التوصل إليه هو جعله وزيرا للمالية ونائبا لرئيس الوزراء، وهو منصب لم يشغله أحد منذ وفاة فالابهاي باتيل.
أمام حصار النقابة وتهديد ديساي، سعت رئيسة الوزراء إلى تحديد هويتها الخاصة بتقديم نفسها على أنها اشتراكية، استجابة لنصيحة بي إن هاكسر؛ ففي مذكرة أعدها لها في يناير 1968، نصحها بقص جناحي ديساي، ربما بتعيين «نائب» رئيس وزراء آخر أو اثنين. وإلى جانب اختيار رئيسة الوزراء وزراء موالين لها، كان عليها أيضا تكوين «تحالفات تقدمية أوسع تحت قيادتها الشخصية الأكثر فاعلية». وتحقيقا لهذا الغرض كانت بحاجة إلى «بث صورتها الأيديولوجية الخاصة بمزيد من القوة للناس مباشرة، متجاوزة زملاءها وأعضاء حزبها».
43
كانت إنديرا غاندي نادرا ما تذكر كلمة «اشتراكية» قبل عام 1967، على الرغم من كونها أحد الأعمدة الأربعة التي ارتكزت عليها فلسفة والدها السياسية. ومن الجدير بالذكر أنها كانت العمود الذي نصبه بحماس مسئولوها الحكوميون. كان انجذابهم إليها سلبيا في جانب منه، نابعا من نفور البراهمة من العمل التجاري ورجال الأعمال. إلا أنه كان ثمة توحد إيجابي أيضا مع فكرة الاشتراكية؛ فقد كانوا يعتقدون أن زيادة دور الدولة في الاقتصاد أمر ضروري لضمان المساواة الاجتماعية فضلا عن تعزيز التكامل الوطني. وكتب أحدهم أن القطاع العام يمثل «نموذجا مكبرا للهند الموحدة». ففي القطاع الخاص، كان البنجابيون يوظفون البنجابيين، والمارواريون لا يثقون إلا بالمارواريين، ولكن في السكك الحديدية الهندية وفي مصانع الصلب الضخمة كان التاميليون يعملون إلى جانب البيهاريين، والهندوس مع المسلمين، والبراهمة مع الهاريجان؛ فسواء كانت الاشتراكية قابلة للتطبيق اقتصاديا أم لا، فقد كانت «ضرورة اجتماعية». فكانت «الاشتراكية والقطاع العام الكبير ... سلاحين فعالين لتشكيل هند متحدة ومتكاملة».
44
اتسمت اشتراكية بي إن هاكسر وزملائه بجوهر أخلاقي قوي. إلا أن جاذبيتها بالنسبة إلى رئيسة الوزراء كانت براجماتية؛ إذ مثلت وسيلة لتمييز نفسها عن الحرس القديم في حزب المؤتمر. وفي مايو 1967 قدمت برنامجا من عشر نقاط للإصلاح إلى الحزب: تضمن «الرقابة الاجتماعية» على البنوك، وإلغاء مخصصات الأمراء من الخزانة، وكفالة حد أدنى من الأجور للعمالة الزراعية والصناعية. لم تبد النقابة حماسا لبرنامج الإصلاح، ولكن البرنامج حظي بإعجاب الجيل الأصغر سنا، الذين ارتأوا في الانتكاسات الأخيرة التي تعرض لها الحزب عاقبة لعدم وفائه بعهوده على مر السنين.
45
وقد أعربت السيدة غاندي صراحة في خطب ألقتها بعد إعادة انتخابها عن اهتمامها الشديد بالفقراء والمهمشين. وإذ تحدثت أمام مجلس الشعب الهندي في فبراير 1968، شددت على مشكلات العمالة غير المالكة لأراض، وأعربت عن «قلق إزاء أقليات الهند كافة»، ودافعت عن القطاع العام في وجه انتقاده بأنه لا يحقق ربحا (كان ردها أنه لا حاجة به إلى تحقيق مكاسب، بما أنه يشيد قاعدة للنمو الاقتصادي). وفي حديث موجه إلى مجلس الولايات في أغسطس، طالبت بإبرام «صفقة جديدة للمقهورين»، ولا سيما الطوائف المجدولة والقبائل المجدولة، وتعهدت بإيلاء «اهتمام وجهد متواصلين في سبيل هذه القضية». وبعد بضعة أيام، في الخطاب الذي ألقته بمناسبة عيد الاستقلال من فوق أسوار القلعة الحمراء، اختصت بالذكر «رجال الصناعة ورجال الأعمال » الذين واتتهم جرأة الحديث عن العمال غير المنضبطين مع استمرارهم في «تحقيق أرباح كبيرة وتقاضي رواتب ضخمة».
46
لقيت تلك الرؤى صدى لدى من يدعون «الشباب المتمردين» في حزب المؤتمر، الذين كونوا فصيلا اشتراكيا داخل الحزب. واستخدموا المنبر البرلماني لطرح أسئلة محرجة على أكثر الوزراء محافظة. ووجه أحد هؤلاء الشباب - تشاندرا شيكار - اتهامات بالفساد ضد كانتي، ابن مورارجي ديساي. وألمح أيضا إلى أن وزير المالية أصدر تراخيص على نحو مخالف إلى إحدى المؤسسات الصناعية الكبيرة. واعتقد أنه كان يتحدث بالوكالة عن رئيسة الوزراء، وعلى أي حال، فقد امتنعت عن توبيخه على اتهاماته.
47
كتب أحد مدوني السيرة الذاتية للسيدة غاندي أنها خلال عامي 1968 و1969 كانت «زعيمة محبطة؛ فهي لم تكن قوية بما يكفي لتحدي تنظيم حزب المؤتمر، ولا كانت مندفعة بما يكفي للاستقالة».
48
ثم واتتها الفرصة في صيف 1969، عندما توفي الدكتور ذاكر حسين في منتصف فترة رئاسته للجمهورية. كانت النقابة ترغب في الاستعاضة عنه بأحد رجالها؛ إن سانجيفا ريدي، رئيس سابق لمجلس الشعب ورئيس وزراء ولاية أندرا براديش سابقا. إلا أن السيدة غاندي آثرت نائب الرئيس؛ في في جيري، زعيم عمالي ربطتها به علاقة طيبة جدا.
وفي يوليو 1969، اجتمعت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند في بنجالور. وقبل توجه رئيسة الوزراء إلى ذلك الاجتماع، يبدو أن بي إن هاكسر أخبرها أن «السبيل الأمثل لكسر شوكة النقابة هو تحويل الصراع على السلطة الشخصية إلى صراع أيديولوجي».
49
ففي بنجالور، أبدت السيدة غاندي صراحة انحيازها إلى صف جناح الشباب المتمردين باقتراحها التأميم الفوري للبنوك الكبرى. وعارضت كذلك ترشيح سانجيفا ريدي لرئاسة الجمهورية، ولكن اعتراضها رفض بأغلبية اللجنة العاملة.
وعند عودة السيدة غاندي إلى دلهي، أعفت مورارجي ديساي من وزارة المالية؛ فقد كان معروفا بمعارضته تأميم البنوك، وقال للبرلمان ذات مرة إن ذلك من شأنه أن «يمثل عبئا بالغا على الموارد الإدارية للحكومة دون التطرق للمشكلات الأساسية». وكان ديساي يعتقد أن سيطرة الدولة على البنوك من شأنه أن يخفض الموارد المتاحة للنمو الاقتصادي ويزيد البيروقراطية والروتين الحكومي.
50
بعد إعفاء ديساي من وزارة المالية، أصدرت السيدة غاندي مرسوما ينص على تولي الدولة إدارة أربعة عشر بنكا خاصا. وبررت تلك الخطوة عبر إذاعة «أول إنديا راديو» قائلة إن الهند «دولة عريقة ولكنها ديمقراطية شابة، عليها أن تظل يقظة دائما لكي تحول دون سيطرة قلة على النظام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي». وكان ذلك يستلزم «ألا تخضع البنوك الكبرى للرقابة الاجتماعية فحسب وإنما للملكية العامة أيضا»، حتى يتسنى تقديمها الائتمان لا إلى الشركات الكبرى فحسب وإنما إلى «ملايين المزارعين والحرفيين وغيرهم من أصحاب المهن الحرة».
51
وادعت رئيسة الوزراء في بيان للصحافة أنه كان ثمة «تأييد كبير في أنحاء البلاد» للتأميم؛ فقد حظي بتأييد 95٪ من الناس، بينما لم تعارضه سوى الصحف الكبيرة التي تمثل مصالح رجال الأعمال. إلا أن مجلة «ثوت» الأسبوعية الصغيرة المستقلة أشارت إلى أن ذلك قد يكون مسعى شخصيا متدثرا بثياب معركة أيديولوجية؛ فالسيدة غاندي «اختارت أن تتبنى موقفا راديكاليا فجأة كخطوة تكتيكية في إطار سعيها الشخصي إلى السيطرة داخل حزب المؤتمر». وأضافت المجلة أنها تأمل الآن في «إظهار نفسها في صورة الشخصية القومية التي لا تحتاج إلى حزب المؤتمر بقدر حاجته هو إليها».
52
قدم طعن على قرار تأميم البنوك في المحكمة العليا، حيث أقر بصحته، ولكن حكم المحكمة أبطل على الفور بإصدار الحكومة مرسوما جديدا، موقعا من رئيس الجمهورية هذه المرة. وخلال الأشهر الستة الأولى من سيطرة الدولة على قطاع البنوك، شهد القطاع توسعا هائلا؛ حيث افتتح 1100 فرع جديد، نسبة كبيرة منهم في مناطق ريفية نائية لم تصلها خدمة الائتمان الرسمي مسبقا قط.
53
10
تحول الانتباه آنذاك إلى انتخاب رئيس جديد، وهي العملية التي تتم بتصويت جميع أعضاء البرلمان والمجالس التشريعية للولايات. كان المرشح الرسمي لحزب المؤتمر هو سانجيفا ريدي. وقرر في في جيري أن يترشح كمستقل. ورشحت المعارضة سي دي دشموك، موظف الخدمة المدنية والوزير الاتحادي السابق. وفي انتهاك للممارسات الحزبية والانضباط الحزبي، قررت رئيسة الوزراء دعم في في جيري. لم يعلن ذلك القرار على الملأ، ولكنه نقل إلى أتباعها، الذين طافوا بالأعضاء الأصغر سنا في حزب المؤتمر طالبين منهم التصويت لصالح جيري. آنذاك ألح رئيس حزب المؤتمر - إس نيجالنجابا - على رئيسة الوزراء لكي تصدر إعلانا رسميا بدعم ريدي. وعندما رفضت، تحدث إلى زعماء حزبي جانا سانج وسواتنترا، طالبا إليهم تحويل ولائهم من سوبا راو إلى ريدي؛ فاستغل معسكر السيدة غاندي هذه الخطوة، متهما نيجالنجابا بمخالطة العدو، و«قدم طلبا رسميا» بعقد اجتماع للجنة حزب المؤتمر لعموم الهند، لكنه قوبل بالرفض.
قبل الانتخابات الرئاسية - التي كان من المزمع عقدها في 20 أغسطس 1969 - بأربعة أيام، تحدثت السيدة غاندي أخيرا؛ فطلبت «تصويت الضمير». وكانت تلك دعوة لأعضاء حزب المؤتمر لكي يتحدوا المنظومة التي يتبعونها ويصوتوا للمرشح المنافس. وكان ذلك ما فعلوه، بأعداد كبيرة. صوت كثير من أعضاء الحزب القدامى لصالح ريدي، ولكن في نهاية المطاف فاز جيري، في الجولة الثانية؛ فآنذاك بدأت مراسلات مريرة بين رئيس حزب المؤتمر ورئيسة الوزراء. وأخيرا، في يوم 12 نوفمبر، فصلت السيدة غاندي من حزب المؤتمر بدعوى «عدم الانضباط». بحلول ذلك الوقت كان كثير من نواب البرلمان قد انحازوا إلى صفها؛ ففي ديسمبر، أقيمت جلستان متنافستان لحزب المؤتمر؛ حيث انعقدت جلسة الحزب الأصلي في أحمد أباد، بينما انعقدت جلسة منافسه في بومباي. وأصبح هذان الحزبان يعرفان بحزب المؤتمر «أوه» وحزب المؤتمر «آر». وقيل إن الحرفين يرمزان إلى لفظتي
Organization
و
Requisitionist ؛ أو «التنظيمي» و«المطالب». وفي رؤية أخرى، رمزا إلى لفظتي
Old
و
Reform ؛ أو «القديم» و«الإصلاحي».
54
عند فصل السيدة غاندي من حزب المؤتمر، اتهمها نيجالنجابا بتشجيع عبادة الشخصية، والترويج لنفسها مع تجاوز الحزب والأمة. وأشار إلى أن تاريخ القرن العشرين:
حافل بنماذج المآسي التي تحل بالديمقراطية عندما يسقط زعيم، بلغ سدة الحكم معتليا موجة شعبية أو بدعم منظمة ديمقراطية، ضحية النرجسية السياسية ويتلقى تشجيعا من زمرة من المتزلفين المجردين من المبادئ الذين يستخدمون الفساد والإرهاب لتكميم أفواه المعارضة ومحاولة جعل الرأي العام صدى للسلطة. وحزب المؤتمر بوصفه تنظيما مكرسا للديمقراطية والاشتراكية عليه محاربة مثل هذه الاتجاهات.
55
قضى نيجالنجابا عمره كله عضوا في حزب المؤتمر: كان رجلا من أصل ريفي انضم إلى حركة التحرير وهو شاب يافع؛ فكان هو مؤسس الحزب في ميسور، وخدم بعد ذلك ثلاث فترات في منصب رئيس وزراء تلك الولاية؛
56
فلم يكن ثمة شك في التزامه تجاه الحزب والديمقراطية. لكن «الاشتراكية» كانت أمرا آخر؛ فحركة تأميم البنوك عضدت ادعاء غريمته اعتناقها الاشتراكية، بينما أضعفت محاولة نيجالنجابا استمالة حزبي جانا سانج وسواتنترا ادعاءه هو. وتكرس ذلك التناقض باطراد في الخطب التي ألقتها السيدة غاندي والرسائل التي حملت اسمها، وإن كانتا في الواقع صنيعة أيدي بي إن هاكسر وزملائه. وفيها قدمت رئيسة الوزراء في صورة معتنقة الاشتراكية في الاقتصاد والعلمانية في أمور الدين، ونصيرة الفقراء وتنمية الدولة ككل. وفي المقابل قيل إن رئيس الحزب كان يشجع الرأسمالية في الاقتصاد والنزعة الطائفية في الدين.
57
كلل ذلك العرض بنجاح ملحوظ؛ فمن بين 705 أعضاء في لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند، حضر 446 جلسة حزب المؤتمر «آر»، ومن بين 429 نائبا برلمانيا من حزب المؤتمر (في المجلسين)، انضم 310 إلى معسكر رئيسة الوزراء. كان مائتان وعشرون عضوا منهم نوابا في مجلس الولايات؛ فكان حزب المؤتمر «آر» يحتاج إلى خمسة وأربعين مقعدا للوصول إلى أغلبية؛ فتحول إلى النواب المستقلين والحزب الشيوعي الهندي لسد الفجوة. وقد سعد الحزب الشيوعي الهندي بالانضمام إليه؛ إذ ارتأى في تحول السيدة غاندي إلى اليسار فرصة لتوسيع نفوذه. وفي أغسطس 1969، كتب صحفي مؤثر من المقربين إلى الحزب الشيوعي الهندي، معلقا على المعركة الدائرة داخل حزب المؤتمر: «لقد مزقت مزاعم النقابة إربا. وثمة مد في شئون الدولة كمد البحر.» وأضاف:
وليس ثمة شك يذكر في أن السيدة إنديرا غاندي تغتنم الفرصة في عنفوانها ... فالمد يرمز إلى الجماهير المتحمسة من مختلف مناحي الحياة الذين يتوافدون إلى منزل رئيسة الوزراء كل يوم. هذا ليس مجرد ولع عادي بالنظر إلى وجه جميل، وإنما هم يمثلون تأكيدا جديدا لقوة الشعب.
ثم أعرب الصحفي عن تطلعه قدما إلى «إعمال أجندة اقتصادية راديكالية واتخاذ موقف حازم من الطائفية».
58
في موقف مشابه، في الفترة ما بين 1950-1952، انتظر جواهر لال نهرو الوقت المناسب؛ فعندما واجهه التحدي المحافظ من جانب تندن وشركائه، عمل مع الحزب على تنفيذ رغبته عوضا عن تقسيمه. ولكن الآن، مثلما قال أحد المراقبين المطلعين، السيدة غاندي «أظهرت خروجا غريبا على تقاليد حزب المؤتمر». فعلى النقيض من النهج التصاعدي التدريجي لنهرو وشاستري، «مثلت هي نموذجا قاسيا جديدا؛ فقد أذهلت الناس ببراعتها في التقييم البارد، واختيارها الحصيف للتوقيت، وأدائها الدرامي الغني بالدلالات، وفوق هذا كله قدرتها على القتال حتى النهاية، حتى إلى حد إحداث صدع في الحزب ذي الرابعة والثمانين عاما».
59
11
بعد تأميم البنوك، تحولت السيدة غاندي إلى إلغاء امتيازات الأمراء؛ فعندما دمجت ولايات هؤلاء الأمراء في الاتحاد الهندي، أعطوا ضمانة دستورية بأنهم سوف يحتفظون بألقابهم وجواهرهم وقصورهم، وسوف يتقاضون مخصصات سنوية متناسبة مع حجم ولاياتهم، ويعفون من الضرائب المركزية ورسوم الاستيراد؛ ففي ظل وجود عدد كبير جدا من الهنود بهذه الدرجة من الفقر، استشعر أن تلك الامتيازات صارت «غير مناسبة لا للمكان ولا الزمان»، بحسب تعبير بي إن هاكسر، ولكنها حظيت بتأييد واسع النطاق من داخل دائرة معارفه وخارجها.
60
منذ يوليو 1967، مررت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند قرارا طالب بإلغاء الألقاب والمخصصات السنوية. وأعدت وزارة الداخلية مذكرة مفصلة، موصية باتخاذ إجراء تشريعي لا تنفيذي في هذا الصدد؛ فطلب إلى وزير الداخلية - واي بي تشافان - بدء المفاوضات مع الأمراء، الذين مثلهم في تلك المحادثات المهراجا درانجادرا. وكان يؤمل أن يكون الأمراء متقبلين للتغيير ، وإلا وجب تمرير تعديل دستوري.
61
عقد تشافان والمهراجا عدة اجتماعات مطولة عام 1968، ولكن دون التوصل إلى تسوية. وعلى أي حال فإن الصراع على السلطة داخل حزب المؤتمر استبعد اتخاذ أي إجراء متسرع؛ فكثير من أعضاء البرلمان كانوا إما أمراء أو خاضعين لسيطرة أمراء، وكانت أصوات أولئك الأعضاء لازمة من أجل إنجاح مرشح السيدة غاندي الرئاسي؛ فبعد انتخاب جيري، واصلت الحكومة محادثاتها مع الأمراء، وثبت أن كل طرف لا يقل تصلبا في موقفه عن الآخر. وعند بلوغ تلك المرحلة، في ديسمبر 1969، أرسل أمير نوانجار اقتراحا مثيرا للاهتمام إلى نيودلهي؛ فقد انتقد الطرفين: الأمراء لتبنيهم «موقفا متعنتا لا يتزحزح»، والحكومة «لنكوصها عن التزاماتها وتطميناتها الدستورية». واقترح الأمير، للخروج من ذلك الطريق المسدود، أن تلغي الحكومة امتيازات الأمراء، مع إعطائهم ما يعادل عشرين عاما من المخصصات السنوية؛ 25٪ منها نقدا، و25٪ في صورة سندات تسدد بعد مرور عشرين عاما، و50٪ إلى صندوق خيري عام يديره الحاكم. ويكون هدف ذلك الصندوق هو تشجيع الرياضة، وتعليم الطوائف المتخلفة، وفي المقام الأول: حماية «حياتنا البرية الآيلة بخطى سريعة إلى الزوال».
62
كان أمير نوانجار يرى أن تلك الخطة «تليق بكرامة الأمة». مررت السيدة غاندي المقترح إلى وزير الداخلية، مشيرة إلى أنه «مدفوع بغرض بناء». لكنه لم يأت بشيء. وفي 18 مايو 1970 - آخر يوم في جلسة البرلمان الصيفية - قدم واي بي تشافان مشروع قانون يدعو لإدخال تعديل دستوري يلغي امتيازات الأمراء. طرح مشروع القانون للنقاش في الدورة التالية، ووصفته السيدة غاندي بأنه «خطوة مهمة على طريق تعزيز تحول مجتمعنا إلى الديمقراطية».
أقر مجلس الشعب مشروع القانون بأغلبية الثلثين الواجبة؛ بموافقة 336 عضوا ومعارضة 155. إلا أن الاقتراح رفض في مجلس الولايات بفارق صوت واحد. والظاهر أن رئيسة الوزارة توقعت ذلك التصويت المعارض في الغرفة العليا من البرلمان الهندي؛ إذ سرعان ما صدر أمر رئاسي بسحب الاعتراف بالأمراء.
بعد أربعة أيام، يوم 11 سبتمبر 1970، تقدم مجموعة من المهراجات بطعن في الأمر الرئاسي أمام المحكمة العليا. عرضت القضية على هيئة المحكمة الكلية برئاسة رئيس القضاة ، وحكمت في 11 ديسمبر بأن ذلك الأمر تعسفي ومتناف مع روح الدستور. رأى بعض الخبراء القانونيين في حكم المحكمة انتصارا للديمقراطية، بينما رآه الراديكاليون اليساريون متسقا مع «ميل المحكمة العليا لحماية المصالح المكتسبة».
وفيما يتعلق بتأميم البنوك أيضا، كانت المحكمة قد وضعت عراقيل. هذا التحدي الجديد لسلطة رئيسة الوزراء دفعها إلى حل البرلمان وطلبت تفويضا من الشعب. كان المجلس لا تزال أمامه سنة على انقضاء مدته؛ فشرحت السيدة غاندي قرارها عبر إذاعة «أول إنديا راديو» قائلة إنه في حين أن حكومتها سعت إلى «كفالة حياة أفضل للسواد الأعظم من شعبنا وإشباع تطلعاتهم إلى نظام اجتماعي عادل ... فإن القوى الرجعية لم تتردد في إعاقتها بكل طريقة ممكنة».
63
12
كان ثمة جبهة واحدة على الأقل تحمل أنباء طيبة لحكومة السيدة غاندي؛ فقد كانت الاستراتيجية الزراعية الجديدة قد بدأت تؤتي ثمارها. عام 1967 ضرب البلاد جفاف شديد، أثر على ولاية بيهار بصفة خاصة، لكن العام التالي شهد محصولا وافرا من الحبوب الغذائية، بلغ 95 مليون طن إجمالا. كان معظم تلك الزيادة يعزى إلى البنجاب وهاريانا، اللتين زرع فلاحوهما أنواع القمح القصيرة الجديدة التي طورها العلماء الهنود من نماذج مكسيكية. إلا أن أنواع الأرز الجديدة كانت أيضا على ما يرام، وكذلك القطن والفول السوداني.
تمثلت استراتيجية سي سوبرامانيم في تحديد المناطق التي يتوافر بها الري، ويرجح أن تقبل جماعات المزارعين فيها على البذور الجديدة، وجرعات الأسمدة الثقيلة المصاحبة لها؛ فكانت النتائج مذهلة؛ فبين عام 1963 وعام 1967، قبل تجربة الأساليب الجديدة، كانت إنتاجية القمح السنوية تتراوح بين 9 و11 مليون طن. أما بين عام 1967 و1970، فصارت الإنتاجية تتراوح بين 16 و20 مليون طن. وبالمثل، كانت الإنتاجية السنوية من الأرز في الفترة الأولى تتراوح بين 30 و37 مليون طن، ثم أصبحت تتراوح بين 37 و42 مليون طن في الفترة الأخيرة.
64
إلا أن تلك الأرقام تضمنت تفاوتا هائلا بين المناطق؛ فقد ظلت مساحات كبيرة من الأراضي تعتمد الزراعة فيها على مياه الأمطار، حيث لا يمكن زراعة أكثر من محصول واحد في العام. ولكن على الرغم من ذلك، ساد شعور بأن ندرة الغذاء صارت أمرا من الماضي؛ فقد كان العلم الحديث بصدد طرد شبح نبوءة مالتوس. وفي أغسطس 1969، كتب صحفي بريطاني قديم العهد بالهند أنه «لأول مرة طوال السنين التي زرت فيها هذا البلد، أجد الوضع الاقتصادي متماسكا، ولأول مرة تغيب الشعور بأن الاقتصاد بأكمله يعتمد اعتمادا شبه تام على هطول الأمطار الموسمية فحسب».
65
حلت مشكلة الغذاء، لكن احتمال انهيار الهند كان لا يزال قائما؛ وذلك ببساطة لأنه، كما زعم نيفيل ماكسويل وآخرون، كانت الهند متنوعة أكثر من اللازم؛ ففي مقالة افتتاحية بمناسبة مرور عشرين عاما على وجود الهند كجمهورية، وصفت صحيفة «نيويورك تايمز» ذلك بأنه «إنجاز عظيم»، ثم أضافت أن «الاتحاد والديمقراطية يتعرضان لضغوط متزايدة هذه الأيام، ومستقبلهما مشكوك فيه».
66
إلا أنه بحلول ذلك الوقت كان معظم الهنود قد تقبلوا التنوع؛ فقد كانوا يرون الرابط الذي يجمع بين الأديان والأجناس والمناطق المتنوعة، وهو: تاريخ سياسي مشترك (منذ نشأة الحركة القومية)، ودستور قائم على التعددية، وتقليد الانتخابات المنتظمة. وهم إضافة إلى ذلك لم يروا في التحديات التي تطرحها الولايات خطرا على الوحدة الوطنية؛ فكما كتب أحد المعلقين - ردا على المتشائمين من أمثال ماكسويل - «وجود حكومة مركزية قوية لا يفضي بالضرورة إلى الديمقراطية». فالفيدرالية وحكم الأحزاب الإقليمية قد يساعدان على استدامة الديمقراطية في الهند، على عكس إندونيسيا وغانا مثلا، حيث أسفرت جهود سوكارنو ونكروما الساعية إلى فرض حكومة مركزية قوية عن دكتاتورية.
67
ومن ثم لم يكن ثمة تخوف كبير بين الهنود العقلاء من أن تكون أحداث أواخر ستينيات القرن العشرين نذيرا بتفكك البلاد أو الاستعاضة عن السياسيين المنتخبين بجنود عسكريين. كان حكم الجيش أمرا مستبعدا تماما، لكن الاحتمال الباقي كان هو قيام حركة شيوعية مسلحة تبتلع أجزاء كبيرة من البلاد؛ فقد تحولت الثورة الخضراء إلى ثورة حمراء؛ إذ أنشأ الازدهار الزراعي استقطابا اجتماعيا أيضا. وكان لموقع ناكسلباري أهمية؛ فقد كانت رقعة رفيعة من أرض الهند، محشورة بين باكستان الشرقية ونيبال، على مسافة غير بعيدة من الصين، ومثلت المدخل الوحيد إلى ولايات الشمال الشرقي؛ فكان ذلك «حقل عمل مثالي» للشروع في ثورة، إذ كان بإمكان المرء الفرار إلى باكستان أو نيبال متى شاء، وجلب السلاح من الصين إن أراد. ومن ثم تنامى القلق في نيودلهي من انتشار أولئك الشيوعيين الموالين لبكين «خارج ناكسلباري للانضمام إلى خلاياهم في البنغال، حتى يصلوا إلى قلب كلكتا ذاته. ومن ورائهم سيقف الجيش الصيني مهددا على حدود الهيمالايا».
68
على الجانب المقابل، كان البعض يتطلعون إلى الثورة المتوقعة، ومنهم الناكسل - طبعا - ولكن أيضا رفاق دربهم من الغربيين؛ ففي شتاء 1968-1969، كتبت عالمة الأنثروبولوجيا الماركسية كاثلين جوف - أمريكية الأصل ولكنها كانت تدرس في كندا آنذاك - مقالا اعتبرت فيه أن «أمل الهند الأكبر في التقدم هو قيام حركة ثورية تستقر جذورها في الريف» حيث يتواجد معظم الفقراء. وإذ تشجعت جوف بسبب التقدم الذي أحرزه الناكسل وأيديولوجيتهم في أنحاء عدة، قالت إنه «يبدو أن النظام البرلماني محكوم عليه بالفشل، وطريق الشيوعيين المتمردين هو البديل الوحيد المبشر».
69
ولم تكن جوف وحدها في اعتبار الشيوعية الثورية الأمل الرئيسي للهند، وربما أملها الوحيد؛ ففي ذلك الشتاء نفسه، طاف زوجان سويديان شابان، وكانا عالمي اجتماع، أنحاء الريف الهندي تأثرا بروح عام 1968؛ فطاف الأرض من شمالها لجنوبها، من الحقول القاحلة شرقي أوتر براديش إلى حقول الأرز الغنية في دلتا نهر كوفري الجنوبية. وشاهدا وعيا نقديا جديدا فيما بين المقهورين، تبدى في «تنامي المشاعر العدائية داخل المجتمع الهندي». فقد كان الصراع بين الطوائف الهندية في سبيله إلى التحول إلى صراع بين الطبقات (كما توقعت النظرية الماركسية، وأملت). ورأيا بين المفكرين تشككا (مستحسنا من وجهة نظرهم) إزاء الديمقراطية البرلمانية؛ فكما علق أحد زعماء الطلاب اليساريين: «لا ينبغي أن ننخدع بهراء الانتخابات التي تجرى كل أربعة أعوام.»
وتنبأ عالما الاجتماع السويديان في كتابهما الذي ألفاه عن جولتهما في الهند بأن تلك التغييرات «سوف يكون لها تبعات واسعة الانتشار على مستقبل الهند»؛ فقد أريقت الدماء (كما قالت النظرية الماركسية أنه يجب أن يحدث). وأضافا أن «المشاعر العدائية تبلغ أحيانا درجة من العنف يصعب تخيلها». ولحسن الحظ، فإن «الحركة الثورية الجديدة ... تتنامى اليوم في الهند». وكان العالمان على ثقة بأنه «لا يمكن أن ينتهي الفقر والقمع في الهند إلا عندما تقرر تلك الملايين من الفقراء مصيرها بأيديها». وتركا القراء مع الأمل في أنه «ربما كانت ناكسلباري تعبر عن الثورة الهندية بالفعل».
70
الفصل العشرون
إكسير النصر
دمية غبية.
رامانوهار لوهيا، في وصف لإنديرا غاندي، نحو عام 1967
1
في نوفمبر 1969، ورد التعليق الآتي في مجلة «ثوت» الأسبوعية، التي تصدر في دلهي: «يبدو أن حزب المؤتمر لم يعد يصلح قوة رابطة على المستوى الوطني.» فذلك الحزب الذي كان قويا يوما ما أصبح منقسما إلى قسمين متناحرين. وجاء في المجلة أنه عندما يحين وقت الانتخابات العامة المقبلة «سيقاتل رجال حزب المؤتمر بعضهم بعضا، مما سوف يصب بالتأكيد في مصلحة الجماعات الإقليمية أو الطائفية». ومن ثم، «قد لا يحصل حزب السيدة غاندي على أكثر من ثلث مقاعد البرلمان. وفرص المجموعة الأخرى تبدو أضعف حتى من ذلك».
1
بعد مرور عام دعت رئيسة الوزراء إلى عقد الانتخابات، قبل موعدها المقرر بأربعة عشر شهرا؛ فقد كان حزبها - الذي أطلق على نفسه حزب المؤتمر «آر» - يرغب في الحصول على تفويض شعبي بتنفيذ إصلاحاته التقدمية، التي وجد أن القوى «الرجعية» في البرلمان حجر عثرة في طريقها آنذاك. عرض بيان الحزب «برنامجا راديكاليا حقيقيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، يصون مصالح صغار المزارعين والعمال الزراعيين المعدمين، وأصحاب الأعمال الصغيرة في مواجهة الرأسماليين الكبار. ودعا بيان الحزب إلى تحسين أوضاع الطوائف الهندية الدنيا، وحماية الأقليات. واختص بالذكر اللغة الأردية، التي قيل إنها «سوف تمنح المكانة الجديرة بها التي حرمت منها كل هذا الوقت». ووعد بإقامة «حكومة قوية مستقلة» وطالب بمساندته في المعركة ضد «قوى الظلام والشر المتمثلة في الرجعية اليمينية»، التي «عقدت العزم على تدمير قاعدة أهدافنا الديمقراطية والاشتراكية من أساسها».
2
كان الموقف الذي وجدت إنديرا غاندي نفسها فيه عام 1971 مشابها لموقف أبيها في عام 1952 من عدة أوجه؛ فمثل نهرو آنذاك، دخلت السيدة نهرو الانتخابات بعد معركة ضارية مع حزبها نفسه. ومثله، عرضت على الناس تفويضا جديدا، يبدو تقدميا. ومثله أيضا، تزعمت هي الحملة الانتخابية لحزبها وكانت المتحدثة الرئيسية باسمه، وجسدت ما قال إنه يدافع عنه.
عندما دعت رئيسة الوزراء إلى عقد الانتخابات، فصلت بحنكة بين الانتخابات العامة وانتخابات مجالس الولايات المتعددة؛ ففي الماضي، كانت الانتخابات تجري على المستويين معا، ونتيجة لذلك تختلط الاعتبارات الضيقة للطائفة الاجتماعية والانتماء العرقي بالمسائل الوطنية الأشمل، وفي عام 1967 كان لذلك تأثير مدمر على حزب المؤتمر. أما في هذه المرة، فقد حرصت رئيسة الوزارة على الفصل بين الانتخابات العامة وانتخابات الولايات، بدعوتها إلى انتخابات عامة يمكنها فيها أن تقدم إلى جمهور الناخبين أجندة وطنية كما ينبغي.
في ذلك الوقت، كانت المعارضة تسعى إلى تكوين جبهة متحدة ضد الحزب الحاكم، وتلقت تشجيعا في ذلك من جانب سي راجا جوبالاتشاري - «راجا جي» - الذي كان قد تجاوز عامه التسعين من العمر آنذاك. وبما أنه لم يتسن الاتفاق على زعيم مشترك، فقد قال راجا جي إن المعركة ينبغي أن تدور «على نمط حرب العصابات؛ فمرشحو إنديرا ... تجب معارضتهم في كل مكان على أساس واحد؛ هو معارضتنا مؤامرة تمزيق الدستور ومحو حريات الناس وتركيز السلطة كلها في يد الدولة».
3
ألفت المعارضة «تحالفا كبيرا»، ضم أحزاب جانا سانج وسواتنترا وحزب المؤتمر «أوه» والاشتراكيين وبعض التجمعات الإقليمية، وكان القصد من ذلك هو الحد من عدد المنافسات المتعددة الأركان. وصاغ أحد اختصاصيي الدعاية الانتخابية شعار «لنطرد إنديرا»، فاستثار ردا على لسان رئيسة الوزراء نفسها مفاده «أنهم يقولون لنطرد لإنديرا، بينما نريد نحن أن نطرد الفقر».
سواء أكانت عبارة «لنطرد الفقر» من ابتكار رئيسة الوزراء أم أحد أتباعها الذين أصبحوا منسيين الآن، فقد كانت عبارة ملهمة؛ فقد أتاحت لحزبها اتخاذ موقف أخلاقي سام، مقدما نفسه في صورة الحزب التقدمي، في مواجهة التحالف الرجعي؛ فأدت شخصنة الانتخابات إلى نتيجة عكسية، وأضرت بالمعارضة؛ فقد ظهرت أجندتها في صورة سلبية، على النقيض من برنامج الحزب الحاكم الذي بدا تقدميا.
عملت السيدة غاندي على حشد الأصوات لحزبها دون كلل أو ملل؛ فبين حل البرلمان، في الأسبوع الأخير من ديسمبر 1970، والانتخابات التي عقدت بعد عشرة أسابيع، سافرت لمسافة 36 ألف ميل، وخطبت في 300 مؤتمر، واستمع إليها أو شاهدها نحو 20 مليون شخص. وقد رددت السيدة غاندي تلك الأرقام باستمتاع في رسالة كتبتها إلى صديقة أمريكية، وكان استمتاعها بالتجربة واضحا؛ فكما أشارت: «كان من الرائع أن أرى البريق في أعين الناس.»
4
شددت خطب رئيسة الوزراء مرارا وتكرارا على التناقض - المتصور والحقيقي - بين الحزب الذي تركته والحزب الذي أسسته؛ فقالت إن حزب المؤتمر «القديم» كان أسير «العناصر المحافظة» و«المصالح المكتسبة»، في حين أن حزب المؤتمر «الجديد» ملتزم تجاه الفقراء. ألم يثبت ذلك بتأميم البنوك وإلغاء مخصصات الأمراء؟ خلفت تلك الرسالة صدى قويا؛ فقد كتب أحد الصحفيين بشيء من السخرية:
لا شيء أثمن لدى الرجل الموجود في بالوعة يعمل على إصلاحها من إقناعه بأنه أعلى مقاما من مفتش الصرف الصحي؛ فمذلة الأغنياء تبدو تأكيدا على معزة الفقراء. وشعار «لنطرد الفقر» فورا محض سخافة اقتصادية، ولكنه بسبب عوامل نفسية وسياسية مثل ميزة حاسمة في ظل مجتمع يعيش حالة حرب مع العقل والمنطق.
5
زادت أسفار رئيسة الوزراء في أنحاء الهند معرفة الناس بها أكثر بكثير من معرفتهم بها عام 1967؛ فهي في التماسها الأصوات، استغلت «شخصيتها الآسرة» و«الدور التاريخي لوالدها»، وقبل ذلك كله شعار «لنطرد الفقر» الذي حرك المشاعر؛ فصوت المعدمون وأبناء الطوائف الاجتماعية الدنيا لحزبها بأعداد كبيرة، وكذلك فعل المسلمون، الذين لم يبدوا حماسا إزاءه في المرة الأخيرة. وعوض الشباب المتطوعون في الحزب ضعفه التنظيمي؛ إذ طافوا أنحاء الريف مسهبين في كلمات زعمائهم. وأشارت نسبة الإقبال الهائلة في يوم الانتخابات إلى «تفجر الحماس في نفوس الناس لدى تجدد الأمل في الخلاص».
6
في عام 1952، قيل إنه يمكن لعمود إنارة أن يفوز إذا ترشح على قائمة حزب المؤتمر، ولكن النصر الذي حققته السيدة غاندي كان أعظم حتى من نصر والدها؛ فقد ربح حزب المؤتمر «آر» 352 مقعدا من أصل 518، وتلاه في الترتيب الحزب الشيوعي الماركسي، الذي فاز بخمسة وعشرين مقعدا. واتفق كل من الطرف المنتصر والطرف المهزوم على أن تلك النتيجة أسفرت عنها جهود شخص واحد بالأساس؛ فكما قال الكاتب كشوانت سينج معلقا: «لقد نجحت إنديرا غاندي في تعظيم صورتها بوصفها الزعيمة الوحيدة التي تمتلك مواصفات وطنية.» ثم أضاف متوعدا: «إلا أنه إذا تنازل القطاع الغالب من الشعب عن السلطة طواعية لشخص واحد، وتضاءلت مكانة المعارضة في الوقت ذاته إلى حد التهميش، فقد يصعب عليه مقاومة إغراء ضرب عرض الحائط بالانتقادات المشروعة؛ فسوف يظل خطر منح إنديرا غاندي سلطة مطلقة حاضرا دائما».
7
كان من بين تبعات انتخابات عام 1971 تغير اسم الحزب الحاكم؛ فقد أصبح حزب المؤتمر «آر» يعرف باسم حزب المؤتمر «آي»، نسبة إلى «إنديرا»؛ وفيما بعد، أسقط حرف «آي» أيضا؛ فنظرا لهامش الربح الذي حققه حزب مؤتمر إنديرا، تأكد كونه حزب المؤتمر الحقيقي، ولم يعد يحتاج إلى إضافة لتوصيفه.
تجرأت السيدة غاندي، إثر النجاح الذي حققته في الانتخابات، على التصرف بحزم مع الأمراء؛ فطوال عام 1971، حاول الجانبان الوصول إلى حل وسط وفشلا؛ فقد كان الأمراء مستعدين للتخلي عن مخصصاتهم، ولكنهم أملوا في إنقاذ ألقابهم على الأقل. ولكن في ظل الأغلبية الكاسحة التي تمتعت بها رئيسة الوزراء في البرلمان، لم تكن بها حاجة للتنازل؛ فطرحت يوم 2 ديسمبر مشروع قانون لتعديل الدستور وإلغاء كافة امتيازات الأمراء. مرر مشروع القانون في مجلس الشعب بموافقة 381 صوتا مقابل ستة أصوات معارضة، وفي مجلس الولايات بموافقة 167 صوتا ومعارضة سبعة. وفي خطاب ألقته رئيسة الوزراء نفسها، دعت «الأمراء إلى الانضمام إلى ركب نخبة العصر الحديث، التي تكتسب الاحترام بموهبتها وطاقتها ومساهمتها في تقدم البشرية، وكلها أشياء لا يمكن تحقيقها ما لم نعمل معا سواسية دون أن نتطلع إلى أحد على أنه يتمتع بمكانة خاصة».
8
2
طبعت إحصاءات الانتخابات العامة الخامسة بتفصيل كبير في تقرير رئيس اللجنة الانتخابية. كان قوام جمهور الناخبين 275 مليونا إجمالا؛ أي إنه زاد 100 مليون عما كان عليه عام 1952. ولم يحتج هندي إلى السير أكثر من كيلومترين لكي يدلي بصوته؛ فقد بلغ عدد مراكز الاقتراع 342944 مركزا، بعد أن كان عددها نحو 100 ألف عام 1962. وزود كل مركز بثلاثة وأربعين بندا منفصلا، مثل: أوراق الاقتراع، والصناديق، وحبر الانتخابات، والشمع الذي تقفل به الصناديق. طبع نحو 282 مليون ورقة اقتراع؛ أي إنه كان ثمة 7 ملايين ورقة أكثر من عدد الناخبين (تحسبا للحوادث والأخطاء). وخدم 1769802 هندي في مراكز الاقتراع، معظمهم من موظفي الحكومة المركزية وحكومات الولايات.
بعد ذلك تحول رئيس اللجنة الانتخابية، دون القدر ذاته من السرور، إلى الممارسات الانتخابية الخاطئة؛ فقد وجدت دراسة أجريت على انتخابات عام 1967 أنه كان ثمة 375 حالة من العنف الانتخابي بشتى صنوفه، ثمان وتسعون منها في بيهار.
9
وفي عام 1971، سجلت اللجنة الانتخابية ستا وستين حالة «استحواذ على مركز الاقتراع»؛ حيث يأخذ الأشخاص الصناديق بالقوة ويملئونها بأوراق اقتراع لصالح مرشحيهم. وفي أنانتنج بوادي كشمير، أخذت امرأة صندوق الاقتراع تحت برقعها ثم عادت به، وقد زاد عليه عدة مئات من أوراق الاقتراع. ومرة أخرى، كانت أكثر الانتهاكات في بيهار؛ فتلك الولاية شهدت الاستحواذ على اثنتين وخمسين مركز اقتراع من بين الحالات الست والستين المسجلة، وذلك بفعل بلطجية مأجورين لصالح زعماء الفصائل الطبقية الهندوسية؛ فرأى رئيس اللجنة الانتخابية أن تلك «ربما كانت الولاية الأكثر تضررا من صراع الطوائف الهندية في الهند قاطبة، وهذا الوباء من النعرة الطبقية المفرطة يعكر صفو المناخ السياسي بقدر غير هين».
على الرغم من تلك التشوهات، كان عقد الانتخابات العامة الخامسة حدثا جديرا بتهنئة البلاد نفسها عليه. هذا ما كتبه رئيس اللجنة الانتخابية، في تمهيد بدت عاطفته الجياشة متنافرة مع التحليل العددي الجاف الذي تبعه؛ ففيما بين الانتخابات الأخيرة وتلك الانتخابات، «كانت الهند قد توغلت في قلب غابة عميقة مظلمة، راحت تتحسس طريقها للخروج منها». كانت النزعة التحزبية متفشية، وحكومات حزب المشرعين المتحدين ذاهبة آيبة، ورئيس الجمهورية توفي، مما زاد «الوضع السياسي المظلم بالفعل ... ظلاما». ثم انشق حزب المؤتمر العتيد، وهو ما كان لا يضاهيه في وجهة نظر رئيس اللجنة الانتخابية سوى «الشقاق العظيم الذي حدث في حزب الأحرار في بريطانيا العظمى عام 1796». ففي ظل تلك «الحالة من التوتر والضغط والارتباك والتقلب، بدأ المتشائمون في داخل البلاد وخارجها يعربون عن مخاوف وشكوك خطيرة حيال استمرار الديمقراطية أساسا في هذه الأرض العظيمة».
وقال رئيس اللجنة الانتخابية إن هؤلاء المتشائمين لم يضعوا في حسبانهم «صانع مصير الهند»، الذي صد منذ «قديم الأزل الظروف المناوئة والمعادية»، ببثه «في روح الهند ذلك الإلهام الباعث على الخلود، الذي أكسب قواها الحيوية والأخلاقية والروحانية عنفوانا متجددا». ربما عارضه آخرون، ممن رأوا تلك الانتخابات ليس على أنها انتصار للنزعة الروحانية الهندية، وإنما مسوغ لصيغة سياسية حديثة للغاية؛ ألا وهي الديمقراطية الانتخابية.
10
3
قبل أن تعقد الهند انتخاباتها العامة الخامسة بثلاثة أشهر، عقدت باكستان انتخاباتها الأولى القائمة على أساس تصويت للبالغين؛ بناء على دعوة الجنرال يحيى خان، الذي خلف أيوب خان في منصب رئيس الجمهورية وكبير مديري الأحكام العرفية.
تصدر الحملة الانتخابية حزبان؛ حزب الشعب الباكستاني بزعامة ذو الفقار بوتو في باكستان الغربية، وحزب رابطة عوامي الوطني بزعامة الشيخ مجيب الرحمن في باكستان الشرقية. كان بوتو ابن أحد كبار الأعيان الزراعيين وتلقى تعليمه في جامعتي أكسفورد وبيركلي، ولكنه سعى إلى التحلل من طبقته - في خطبه على الأقل - بوعده كل باكستاني «المأكل والملبس والمأوى». أما حملة مجيب الرحمن فكانت قائمة على الشعور بالظلم السائد في باكستان الشرقية، وغضب أهلها من قمع اللغة البنغالية واستغلال الحكام العسكريين في نصف البلاد الغربي لمواردهم الطبيعية الغنية.
11
ويبدو أن يحيى خان دعا إلى عقد انتخابات على أمل أن يربح حزب الشعب الباكستاني بزعامة بوتو، ويسمح له بالبقاء على كرسي الرئاسة. أجريت الانتخابات في الأسبوع الثالث من ديسمبر عام 1970، وفاز فيها حزب الشعب الباكستاني بثمانية وثمانين مقعدا من أصل 144 مقعدا في باكستان الغربية، بينما اجتاحت رابطة عوامي الجناح الشرقي الأكثر اكتظاظا بالسكان؛ إذ ربح 167 مقعدا من أصل 169. فاجأت تلك النتائج مجيب الرحمن وصدمت يحيى خان؛ فقد كان الرئيس يأمل في أن يصوغ المجلس المنتخب حديثا دستورا ديمقراطيا، ثم أصبح مبعث القلق الآن أن تصر رابطة عوامي، بأغلبيتها، على إنشاء اتحاد فيدرالي يكون للجناح الشرقي فيه أن يدير شئونه بنفسه، ولا يترك للحكومة المركزية سوى شئون الدفاع والسياسة الخارجية. وكان مجيب قد أشار بالفعل إلى أنه يود أن تكون للشرق سيطرة في العملة الأجنبية المتولدة عن منتجاته، وربما يصدر عملة خاصة به أيضا.
تعززت تحفظات يحيى بطموحات بوتو؛ فالعلاقة بين الجناحين الباكستانيين لطالما كانت استعمارية الطابع؛ حيث سيطر الجناح الغربي على الشرقي عسكريا واقتصاديا وحتى ثقافيا. وبالنسبة إلى اللواء يحيى خان والأرستقراطي بوتو على حد سواء، بدا احتمال وضع مصيرهما في يدي رجل بنغالي أفظع من أن يمكنهما تصوره؛ فالمسلم البنغالي كان نظيره في باكستان الغربية يعتبره واهنا أنثويا، يسهل إفساده لقربه من الهندوس (الذين كان أكثر من 10 ملايين منهم ما زالوا يعيشون بينهم)، وكان من بين هؤلاء الهندوس مهنيون كثر، من محامين وأطباء وأساتذة جامعيين؛ فكانت النخبة الباكستانية الغربية متخوفة من أنه إذا تسنى لرابطة مجيب تشكيل الحكومة، «فسيحمل الدستور الذي ستتبناه أثر القبضة الحديدية الهندوسية».
12
على الجانب الآخر، تطلع مسلمو باكستان الشرقية إلى نظرائهم في باكستان الغربية باعتبارهم «الطبقات الحاكمة؛ طبقات حاكمة أجنبية، وطبقات حاكمة أجنبية مستغلة». فكانوا مستائين من تجاهل الحكام لغتهم البنغالية، وشكوا استنزاف ثروتهم الزراعية لإطعام القطاع الغربي، وأشاروا إلى أن نسبة تمثيل البنغاليين ضعيفة جدا في صفوة البيروقراطية الباكستانية وجهازها القضائي، وأخيرا وليس آخرا: الجيش. وراح شعور الاضطهاد يتنامى مع مرور السنين؛ فبحلول وقت انتخابات عام 1970، كان البنغاليون الشرقيون «ذوو التوجه السياسي» قد تكون لديهم «نفور من سلطة مركزية تبعد عنهم آلاف الأميال».
13
في يناير 1971، سافر كل من يحيى خان وبوتو على حدة إلى دكا، عاصمة باكستان الشرقية، وخاضا محادثات مع مجيب، ولكنهما وجدا موقفه متصلبا فيما يتعلق بمسألة الدستور الفيدرالي؛ ومن ثم أرجأ الرئيس انعقاد الجمعية الوطنية، فردت رابطة عوامي بالدعوة إلى إضراب عام لأجل غير مسمى؛ ففي جميع أنحاء باكستان الشرقية، أغلقت المتاجر والمكاتب وحتى السكك الحديدية والمطارات، وأصبحت الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين حدثا يوميا.
قرر الجيش قمع تلك الاحتجاجات باستخدام القوة؛ فأرسلت تعزيزات عسكرية جوا وبحرا إلى الميناء الشرقي الرئيسي، تشيتاجونج، وفي ليلة 25-26 مارس، شن الجيش هجمة كبيرة على جامعة دكا، التي كان طلابها من أقوى المساندين لرابطة عوامي؛ فدخل موكب من الدبابات الحرم الجامعي، مطلقا نيرانه على مساكن الطلاب، وجمعت قوات الجيش الطلاب، ثم أطلقت عليهم الرصاص وألقتهم في قبور حفرت وجرفتها الدبابات في عجالة. ونشرت كتائب من القوات في أماكن أخرى من المدينة، حيث استهدفت مكاتب الصحف البنغالية ومنازل السياسيين المحليين. وفي تلك الليلة أيضا، قبض على مجيب الرحمن في بيته، ونقل جوا إلى موقع سري في باكستان الغربية.
14
انتشر الجيش الباكستاني في أنحاء الريف، ساعيا إلى قمع أي شكل للتمرد. وقد تمرد جنود من شرق البنغال في مناطق متعددة، منها تشيتاجونج، حيث سيطر رائد عسكري على محطة إذاعية، وأعلن إقامة «جمهورية بنجلاديش الشعبية المستقلة».
15
ولكي يحارب الجيش تلك الجماعات المسلحة، استعان بجماعات محلية موالية له، تدعى رضا كار، كانت تعلي مزاعم الدين - ومن ثم باكستان متحدة - على مزاعم اللغة؛ فسقطت قرى وبلدات صغيرة، وحتى بضعة مطارات، في أيدي المتمردين، ثم أعيدت السيطرة عليها. وازدادت الأعمال الانتقامية وحشية؛ فقد ذكر موظف قنصلي أمريكي أن «ضباط الجيش وجنوده يبدون كافة العلامات على إيمانهم بأنهم الآن في جهاد ضد البنغاليين الذين أفسدهم الهندوس.»
16
سرد أحد الجنود فيما بعد ذكريات حية عن عملية مكافحة التمرد، و«إعادة تأكيد سلطة الدولة» واستعادة «المناطق التي احتلتها العناصر المعادية للدولة». فكما تذكر، «كانت مقاومة التضاريس أشد من مقاومة المتمردين؛ فقد كان التقدم عسيرا بسبب الأضرار البالغة التي لحقت بالاتصالات الأرضية ومخالطة العناصر العدائية لعامة الشعب بحرية».
17
بعد الهجوم الأول، طلب من المراسلين الأجانب مغادرة باكستان الشرقية، ولكن سمح لبعضهم بالعودة فيما بعد في الصيف؛ فرأى صحفي ألماني آثار الحرب الأهلية في كل مكان، في البازارات المحروقة في المدن والعزب المهدمة في القرى؛ فقد خيم «على المستوطنات التي كانت نابضة يوما بالحياة والطاقة خواء كأنها مسكونة بالأشباح ». ووجد صحفي أمريكي دكا «مدينة تحت احتلال قوة عسكرية تحكم بالقوة والإرهاب والترويع». وكان الجيش يتحرش بالأقلية الهندوسية بصفة خاصة؛ حيث عمدت السلطات إلى «هدم المعابد الهندوسية، بصرف النظر عما إن كان ثمة هندوس يستخدمونها». ووجد فريق من البنك الدولي الذي زار باكستان الشرقية حالة «دمار عام في الممتلكات في المدن والبلدات والقرى» أفضت إلى «خوف متفش» فيما بين السكان.
18
استثارت العمليات العسكرية في دكا نوبة فرار مذعورة من المدينة، وفاقم القمع في المناطق الداخلية هذا الفرار، موجها إياه عبر الحدود إلى الهند؛ فبنهاية أبريل 1971 كان ثمة 500 ألف لاجئ من باكستان الشرقية في الهند، وبحلول شهر مايو وصلت الأعداد إلى 3,5 ملايين، وبحلول نهاية شهر أغسطس صارت الأعداد تفوق 8 ملايين، معظمهم (ولكن ليس جميعهم بأي حال من الأحوال) كانوا هندوسا.
19
أقيمت مخيمات اللاجئين على طول الحدود، في ولايات غرب البنغال وتريبورا وميجالايا. وبغية تخفيف العبء، فتحت مخيمات في ماديا براديش وأوريسا أيضا. سكن اللاجئون في أكواخ مصنوعة من البامبو والبولي إيثيلين، بينما سكن الأوفر حظا بينهم شرفات المدارس والكليات. وجاء الغذاء من المخازن الهندية - التي لم تكن جدباء كما كانت قبل الثورة الخضراء - ومن إمدادات مقدمة من وكالات المعونة الغربية.
20
منذ البداية، اتبعت الحكومة الهندية سياسة «الباب المفتوح»؛ حيث سمحت لأي أحد يأتي بالدخول. ومن الجدير بالذكر أن الحكومة المركزية، وليس الولايات، هي التي تولت مسئولية المخيمات. في الواقع، أبدت نيودلهي منذ بداية النزاع اهتماما بالغا بمستقبل ما صار يشار إليه بالفعل في الاتصالات الرسمية السرية باسم «الصراع من أجل بنجلاديش». وعلى الجانب الآخر، تحدثت إسلام أباد في قنوط عن «مخطط هندي صهيوني ضد باكستان الإسلامية».
21
كانت تلك مبالغة؛ إذ كان أصل المشكلة نابعا من داخل باكستان، وإسرائيل لم تكن في الصورة مطلقا؛ إلا أنه ما إن أعلن الخلاف عن نفسه، لم يتوان الهنود عن تأجيجه لأغراضهم الخاصة.
كان أحد الأطراف الرئيسية في هذا النزاع جناح البحث والتحليل، الوكالة الاستخباراتية التي تأسست عام 1968 سيرا على نموذج وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. استهدف ذلك الجهاز السعي وراء مصالح الهند في جميع أنحاء العالم، وحجبت أنشطته عن المساءلات البرلمانية، وكان يتبع مكتب رئيسة الوزراء مباشرة. كان رئيس جناح البحث والتحليل برهميا من كشمير (وهو ما كان حتميا على الأرجح)، وهو آر إن كاو، بينما جاء موظفو الجناح من جهاز الشرطة، وأحيانا من الجيش؛ فما كادت الدعوة إلى عقد الانتخابات الباكستانية تصدر، حتى انهمك جناح البحث والتحليل في إعداد التقارير؛ فقدمت مذكرة وردت في يناير 1971 صورة مزعجة إلى حد ما عن قوة تسليح باكستان؛ إذ نصت على وجود أعداد من الجنود والدبابات والطائرات والسفن، وادعت أن باكستان قد «بلغت حالة جيدة من الاستعداد العسكري لأي مواجهة مع الهند». ورأت أن «الخطر المحتمل» لشن هجوم على الهند «حقيقي إلى حد بعيد، خاصة في ظل التواطؤ بين الصين وباكستان». وإضافة إلى ذلك، فالأزمة الدستورية ربما تشجع جنرالات الجيش على القيام بمغامرة تمويهية، والبدء - كما في عام 1965 - «بحملة تسلل في جامو وكشمير».
22
لا يمكن إلا للسجلات الباكستانية الكشف عما إذا كان يحيى خان يضمر أي خطط من هذا النوع. أما السجلات على هذا الجانب، فتخبرنا أن الهند كانت لديها خططها الخاصة، التي استهدفت باكستان بطبيعة الحال. كانت تلك الخطط من تدبير بي إن هاكسر وزميله دي بي دهار، الذي كان سفير الهند إلى الاتحاد السوفييتي آنذاك؛ ففي أبريل 1971 كتب دهار إلى هاكسر معربا عن سعادته بانتصار الهند في الحرب الدعائية ضد باكستان، وذلك بالأساس عن طريق نجدتها ضحايا القمع الباكستاني. بعض المحللين كانوا يرغبون في تحرك عسكري سريع، ولكن دهار نصح بأنه عوضا عن اتباع «سياسات وبرامج مندفعة»، ما ينبغي للهند التخطيط له هو:
ليس هزيمة فورية لجيش باكستان الغربية المدرب تدريبا رفيع المستوى، وإنما تحويل شرق البنغال كلها إلى مستنقع بلا قرار يستنزف قوة باكستان الغربية ومواردها؛ فدعونا نفكر في إطار عام أو اثنين، لا أسبوع أو اثنين.
23
4
بحلول صيف عام 1971، كانت الهند تستضيف، إلى جانب مئات من مخيمات اللاجئين، معسكرات تدريب للمسلحين البنغاليين أيضا. بلغ عدد هؤلاء المقاتلين المعروفين باسم «موكتي باهيني» (جيش التحرير) نحو 20 ألفا إجمالا؛ تألفوا من ضباط وجنود نظاميين من الجيش الباكستاني الذي كان متحدا ذات يوم، إضافة إلى متطوعين أصغر سنا يتعلمون كيفية استخدام الأسلحة الخفيفة. تولت قوات أمن الحدود شبه العسكرية مسئولية تدريبهم في البداية، ولكن بحلول الخريف كان الجيش الهندي قد تولى المسئولية المباشرة عنهم؛ فكان هؤلاء المسلحون ينطلقون من قواعدهم في الهند، لمهاجمة معسكرات الجيش وقطع الاتصالات.
24
في أبريل 1971، كتب رئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي إلى رئيس باكستان منددا «بالتدخل الصارخ» من جانب الهند في «المشكلات الداخلية» لباكستان، واستهزأ بالمقاومة باعتبارها «بضعة أشخاص يرغبون في تخريب وحدة باكستان». وأكد ليحيى خان أنه «لو تجرأ التوسعيون الهنود على الاعتداء على باكستان، فالحكومة الصينية والشعب الصيني سوف يقفان - كما يفعلان دائما - وراء حكومة باكستان وشعبها في معركتهما المشروعة من أجل الحفاظ على سيادة الدولة والاستقلال الوطني».
25
نشرت رسالة تشو في الصحف الباكستانية، ومن المؤكد إنها قرئت على الجانب المقابل من الحدود. وفي ذلك الوقت، أرسلت نيودلهي بعض كبار الوزراء الاتحاديين إلى بلدان في أوروبا وأفريقيا، للتحدث فيها عن المأساة الجارية والجهود التي تبذلها الهند للتعامل معها، وكتبت رئيسة الوزراء إلى زعماء العالم تحثهم على كبح جماح الجيش الباكستاني. وفي الأسبوع الأول من يوليو 1971، التقى الدكتور هنري كيسنجر - مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون آنذاك - السيدة غاندي في نيودلهي، حيث لمس لأول مرة «شدة المشاعر إزاء قضية شرق البنغال»؛ فقد شكل تدفق اللاجئين عبئا رهيبا على الهند؛ فحسبما قالت رئيسة الوزراء: «كانت قوة إرادتنا وحدها هي التي مكنتنا من السيطرة على الوضع.» ولم يكن من الممكن حل الأزمة إلا عند «التوصل إلى تسوية ترضي شعب شرق البنغال مع زعمائهم الحقيقيين». وطلب من الولايات المتحدة فرض تلك التسوية على الحكام العسكريين في باكستان الغربية.
26
مضى كيسنجر من نيودلهي إلى إسلام أباد، ومن هناك - سرا - إلى العاصمة الصينية بكين. كانت باكستان قد توسطت في إذابة الجليد بين هذين البلدين اللذين طالت عداوتهما؛ فكانت المساعدة التي أمد بها جنرالات إسلام أباد الولايات المتحدة، فيما يتعلق بالصين، سببا آخر لوقوفها بقوة وراءهم؛ ومن ثم حمل كيسنجر رسالة من نيكسون إلى السيدة غاندي، طلب فيها العون منها في إعادة اللاجئين سلميا والحفاظ على وحدة كيان باكستان. وفي رد مشاكس، أعربت رئيسة الوزراء عن أسفها لأن الأسلحة التي أمد بها الأمريكيون باكستان، والتي وجهت ضد الهند عام 1965، أصبحت الآن «تستخدم ضد شعبهم نفسه، الذي كان كل خطئه على ما يبدو هو أنه أخذ وعود الرئيس يحيى خان بإعادة الديمقراطية على محمل الجد ». كان الرئيس قد طلب إشراف مراقبين من الأمم المتحدة على عملية إعادة توطين اللاجئين؛ فسألت السيدة غاندي: «هل كان مراقبو عصبة الأمم المتحدة سينجحون في إقناع اللاجئين الهاربين من طغيان هتلر بالعودة، حتى مع استمرار المذابح المدبرة ضد اليهود والمعارضين للنازية السياسيين بلا هوادة؟»
27
تشير وثائق رفعت عنها السرية مؤخرا إلى أنه كان ثمة اختلاف واضح في الرؤى بين الرئيس نيكسون ومستشاره الأول؛ فالمؤرخ في داخل كيسنجر كان بإمكانه التنبؤ بأنه «ستكون ثمة بنجلاديش مستقلة ذات يوم». وكان يشعر أيضا - كما أخبر سفير الهند إلى واشنطن - بأنه في حين أن «الهند كانت قوة عالمية محتملة، فإن باكستان سوف تكون دائما قوة إقليمية».
إلا أن نيكسون عقد الآمال على حل عسكري لمشكلة شرق البنغال؛ فقد كان شديد النفور من الهند - إذ أخبر كيسنجر أن «الهنود لا يصلحون لشيء البتة» - وتعلق عاطفيا بزعيم باكستان؛ ففي رأي الرئيس، كان يحيى خان «رجلا خلوقا متعقلا» لا بد من مكافأة ولائه للولايات المتحدة بتأييد قمعه لثورة شرق البنغال؛ فعندما أعد كسينجر مذكرة في أبريل 1971، أشار فيها إلى أن المستقبل يحمل لباكستان الشرقية «مزيدا من الحكم الذاتي، وربما حتى الاستقلال في النهاية»، كتب الرئيس على المذكرة في عجالة: «لا تضغط على يحيى في الوقت الحالي.»
وكما أخبر كسينجر أحد زملائه ببعض اليأس: «الرئيس يكن شعورا خاصا حيال الرئيس يحيى. لا يمكن لأحد أن يصوغ سياسة على هذا الأساس، ولكن هذا هو الأمر الواقع.» وقد أعرب نيكسون عن تحامله بقوة تجاه الهند؛ إذ تحدث إلى فريقه في أغسطس 1971، قائلا إنه في حين أن الباكستانيين يتحلون «بالاستقامة» وإن كانوا «يتسمون بغباء مفرط في بعض الأحيان»، فإن «الهنود أكثر تحايلا، ويتسمون أحيانا بذكاء شديد، حتى إننا تنطلي علينا خدعتهم». وأصر الرئيس على أن الولايات المتحدة «يجب ألا تسمح للهند باستخدام اللاجئين ذريعة لتفكيك باكستان، ولا يجوز ذلك مطلقا».
28
وإذ ازدادت الهند بعدا عن قوة عظمى، راحت تتقرب إلى الأخرى؛
29
فقد أقرت موسكو برأي الهند في أنه «من المستبعد أن يجتمع شطرا باكستان الشرقي والغربي مجددا». آنذاك كان الاتحاد السوفييتي والهند يفكران في إقامة تعاون اقتصادي أوثق، عن طريق زيادة تدفق المواد الخام والسلع الجاهزة بين البلدين. وعلى سبيل الحافز، عرض الاتحاد السوفييتي بيع عدد من الطائرات القاذفة السوفييتة تي يو-22 إلى القوات الجوية الهندية. وفي توصيته بالمقترح، أقر السفير الهندي دي بي دهار بأنه في حين أنها ليست على مستوى النماذج الغربية، فإن شراء الطائرات من أحد بلدان حلف شمال الأطلنطي من شأنه أن يتضمن شروطا «غير مقبولة من الناحية السياسية، وتعجيزية من الناحية المادية».
30
في يونيو 1971، كان من المقرر أن يزور وزير الخارجية الهندي، السردار سواران سينج، موسكو. وقبيل وصوله، اقترح الاتحاد السوفييتي على دي بي دهار أن يوقع الاتحاد السوفييتي والهند معاهدة صداقة، من شأنها أن «تمثل رادعا قويا يجبر باكستان والصين على التخلي عن فكرة المغامرة العسكرية». وقيل لدهار إن «الهند لا ينبغي أن تقلق بشأن باكستان، وإنما ينبغي أن تضع في اعتبارها العدو الشمالي الذي يصعب التنبؤ بتحركاته» (أي، الصين).
31
وفيما بعد، عندما التقى وزيرا الخارجية، تصدر تشككهما المشترك إزاء الصين جدول الأعمال؛ فقال سواران سينج معلقا: إن الصين كانت هي البلد الوحيد الذي منح «دعما شاملا كاملا لا لبس فيه» للنظام العسكري الباكستاني. رد جروميكو قائلا: «لطالما كان الصينيون ضد أي شيء يدعمه الاتحاد السوفييتي؛ فأي قضية نساندها تلقى معارضتهم، وأي شيء نعتبره غير جدير بدعمنا يضمن دعمهم. ولا يمكنني التفكير في أي استثناء محدد لهذه القاعدة العامة.»
32
كان عداء الهند تجاه الصين يرجع إلى النزاع الحدودي بين عام 1959 وعام 1962. أما عداء الاتحاد السوفييتي فكان أحدث من ذلك؛ إذ كان نتاج المنافسة على زعامة الحركة الشيوعية العالمية. كان ماو تسي تونج قد تحدث بسخرية عن «المراجعات الروسية» (بمعنى الانحراف عن التعاليم الماركسية الأصيلة)، واشتبك جيشا الطرفين على ضفاف نهر أوري عام 1969. لم تكن الهند والاتحاد السوفييتي متلامسين في أي موضع، ولكن كليهما كانت له حدود طويلة جدا مع الصين؛ فكانت إقامة تحالف وثيق في مصلحة الطرفين. إلا أن الوثائق السرية التي اقتبست منها ما ذكر أعلاه، تكشف أنه على عكس الفكرة المسلم بها فإن أول من اقترح فكرة ذلك التحالف لم يكن البلد الفقير المتخلف النمو، وإنما القوة العظمى.
بعد مقابلة جروميكو، ناقش سواران سينج معاهدة محتملة مع رئيس هيئة الرئاسة لمجلس السوفييت الأعلى، أليكسي كوسيجين؛ فتم تبادل المسودات قبل أن يوقع وزيرا خارجية الطرفين وثيقة نهائية في نيودلهي في 9 أغسطس 1971. كانت «معاهدة السلام والصداقة والتعاون بين جمهورية الهند واتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية» نمطية في معظمها؛ إذ نصت على الصداقة الأبدية بين «الطرفين الساميين». وكان بيت القصيد هو عبارة واحدة في المادة التاسعة، التي نصها:
في حالة تعرض أي من الطرفين لهجوم أو تهديد بهجوم، سوف يدخل الطرفان الساميان المتعاقدان فورا في مشاورات مشتركة بغية إزالة ذلك التهديد واتخاذ التدابير الفعالة الملائمة لكفالة سلام بلديهما وأمنهما.
33
بحلول أواخر صيف 1971، كان محورا التحالف في شبه القارة واضحين؛ (غرب) باكستان مع الصين والولايات المتحدة في مقابل (شرق) باكستان مع الهند والاتحاد السوفييتي.
5
في الأسبوع الأخير من سبتمبر 1971 سافرت إنديرا غاندي إلى الاتحاد السوفييتي، وفي الشهر التالي زارت سلسلة من المدن الغربية، انتهاء بعاصمة العالم الحر، واشنطن. تحدثت في كل مكان عن الأزمة المتفاقمة في باكستان الشرقية؛ فكما أخبرت نادي الصحافة الوطنية في واشنطن، تلك «لم تكن حربا أهلية بالمعنى العادي للكلمة، وإنما هي عقاب في صورة إبادة جماعية لمواطنين أدلوا بأصواتهم على نحو ديمقراطي». وأردفت: «إن كبت الديمقراطية هو السبب الأصلي لكل المتاعب في باكستان؛ فإذا كان في الديمقراطية خير لكم، ففيها خير لنا في الهند، ولشعب شرق البنغال.»
34
التقت السيدة غاندي الرئيس نيكسون مرتين خلال زيارتها في نوفمبر؛ فتكون لدى كيسنجر انطباع بأن ذلك «نموذج كلاسيكي لحوار الصم»؛ فقد قال نيكسون إن الولايات المتحدة لن تشارك في الإطاحة بيحيى خان، وحذر الهند من أن «تبعات العمل العسكري خطيرة جدا». ردت السيدة غاندي قائلة إن الباكستانيين هم من يتحدثون عن شن «حرب مقدسة». وأشارت أيضا إلى أنه في حين أن سكان باكستان الغربية «تعاملوا مع الشعب البنغالي بأسلوب يتسم بالخيانة والغدر و... دائما ما حطوا من شأنهم»، فالهند «في المقابل، لطالما أعربت عن درجة من التسامح مع العناصر الانفصالية داخلها».
35
اشتد النزاع خلال فترة غياب السيدة غاندي؛ فمنذ نهاية أكتوبر، ازداد القصف شراسة على طول الحدود، بتشجيع من الجيش الهندي، الذي ارتأى في الاشتباكات تغطية تسمح للجماعات المسلحة بالتسلل دخولا وخروجا. وبحلول الأسبوع الثالث من نوفمبر، بدأ استخدام المدفعية الثقيلة، وقيل إن الباكستانيين فقدوا ما يصل إلى ثلاث عشرة دبابة في معركة دارت يوم 21 نوفمبر.
36
وإذ نقل يحيى خان تلك الأنباء إلى نيكسون، شكا أن الهند «اختارت طريق العدوان السافر وغير المبرر». فقد احتشدت اثنتا عشرة فرقة عسكرية هندية على مقربة من باكستان الشرقية، بهدف تحويل «الهجمات المحدودة النطاق إلى حرب مفتوحة واسعة النطاق».
37
في تلك المرحلة من تاريخ جيشي الطرفين، كان التفاوت بينهما هائلا؛ ففي العقد السابق، كانت القوات المسلحة الهندية قد زادت معداتها، وحدثت تنظيمها، وأرست دعائم صناعة أسلحة وطنية؛ فكانت الاستخبارات الهندية قد بالغت في وصف قوة باكستان؛ إذ كشفت دراسة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أن الهند في الواقع كانت تملك ضعف عدد الدبابات وقطع المدفعية التي تملكها جارتها. وإضافة إلى ذلك، فقد تأثرت الروح المعنوية للجيش الباكستاني تأثرا بالغا بالحرب الأهلية، وانشقاق الضباط البنغاليين، والاضطرار إلى محاربة أشخاص يفترض أنهم من أبناء بلدهم.
38
وفي حقيقة الأمر، سعى الجانب الأضعف إلى أخذ زمام المبادرة؛ ففي عصر يوم 3 ديسمبر، هاجمت الطائرات القاذفة الباكستانية مجالات جوية على طول الحدود الغربية. وفي الوقت نفسه، هاجمت سبع كتائب مدفعية مواقع في كشمير.
رد الجانب الهندي بسلسلة من الضربات الجوية، وفي كشمير والبنجاب رد بهجمات أرضية. وفي البحر، شاركت القوات البحرية في الأحداث لأول مرة، إذ اتجهت نحو كراتشي. قدم اندلاع نزاع في الغرب عذرا ممتازا للهند حتى تحرك قواتها ودباباتها عبر الحدود إلى باكستان الشرقية، محولة نزاعا في الظل إلى نزاع مفتوح.
39
بدا القرار الذي اتخذه يحيى خان بمهاجمة الهند من الغرب مفاجئا إلى حد ما، في أول الأمر وفيما بعد، بل إن أحد المؤرخين العسكريين وصفه بأنه قرار «يكاد لا يصدق».
40
ربما كان الباكستانيون يأملون في تسديد ضربات سريعة، مطالبين بتدخل الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة قبل أن يخرج الصراع عن نطاق السيطرة. وإضافة إلى ذلك، فقد اعتقد بعض جنرالات الجيش في إسلام أباد أن النجدة ستأتي من الصين؛ ومن ثم تلقى قائد القوات الباكستانية في باكستان الشرقية - الفريق إيه إيه كيه نيازي - رسالة يوم 5 ديسمبر من مقر الجيش تخطره بأن «الأمل كبير جدا في حدوث تحرك صيني في القريب العاجل».
41
ربما لم يكن ذلك المدد سيأتي على أي حال، ولكنه في ديسمبر كان مستحيلا بسبب الثلوج التي غطت جبال الهيمالايا؛ ومن ثم كان ذلك فعليا هو الفصل الأمثل لمضي الهنود في مسيرتهم نحو دكا؛ فقبل ثلاثة أشهر كانت الأمطار الموسمية قد جعلت الأرض رخوة تحت الأقدام، وبعد ثلاثة أشهر كان الصينيون سيتاح أمامهم خيار عبور «نقطة الالتقاء الثلاثية» مع الهند وباكستان الشرقية. كانت حالة الطقس مواتية للهنود، وكذلك كان التأييد الشعبي في المنطقة، وأضيف هذا وذاك إلى التفوق الكاسح في الأعداد.
تحرك الجيش الهندي تجاه دكا من أربعة اتجاهات. كانت الدلتا ملتقى أنهار عدة، ولكن مقاتلي موكتي باهيني كانوا يعرفون المواضع المثلى لبناء الجسور، وأي البلدات تأوي أي نوع من فرق العدو. وتلقى المقاتلون بدورهم عونا من رفاقهم المدنيين؛ فكما ذكر قائد باكستاني فيما بعد: «كان الجيش الهندي يعرف جميع مواقعنا القتالية، حتى آخر خندق، من السكان المحليين.»
42
ولما كان طريق الهنود ممهدا هكذا، فقد تقدموا بسرعة؛ فقطعوا الاتصالات بين دكا والمدينة الرئيسية الأخرى - تشيتاجونج - وسيطروا على نقاط تجمع السكك الحديدية الحيوية، بحيث شلوا حركة القوات الدفاعية.
43
ويوم 6 ديسمبر كشفت حكومة الهند رسميا عن النية التي احتفظت بها في قرارة نفسها منذ زمن؛ ألا وهي دعم وتيسير تشكيل دولة قومية جديدة محل باكستان الشرقية القديمة؛ ففي ذلك اليوم، اعترفت رسميا بالحكومة المؤقتة لجمهورية بنجلاديش الشعبية . في غياب مجيب الرحمن، كان سيد نظر الإسلام هو القائم بأعمال رئيس الدولة الجديدة، إلى جانب مجلس وزراء كامل. كان هؤلاء الرجال بالنسبة إلى الهنود مثل قوات فرنسا الحرة بقيادة ديجول بالنسبة إلى الحلفاء؛ إذ انتظروا - بصبر نافد - ريثما ذهب الأخ الأكبر لاسترداد مدينتهم العزيزة وتسليمها إليهم. وبعد مرور أسبوع على بدء الحرب، كانت القوات الهندية قد اقتربت من دكا إلى مسافة تسمح بضربها؛ فانهالت نيران المدفعية على المدينة، وراحت القوات تتقدم من الشمال والجنوب والشرق. ثم تعطل التقدم برهة بفعل حاملة طائرات من الأسطول السابع الأمريكي، التي دخلت خليج البنغال، على سبيل «تسجيل موقف» - على حد تعبير هنري كيسنجر.
44
إلا أن التهديد كان فارغا؛ فالأمريكيون المتورطون في فيتنام لم يكن بوسعهم إقحام أنفسهم في حرب أخرى، يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة بدرجة مريعة، في ضوء المعاهدة الهندية السوفييتية. وإذ أصبح سقوط دكا وشيكا، نشأ خلاف بين الحاكم المدني لباكستان الشرقية، الذي أراد الاستسلام، والجنرال قائد القوات المحاصرة الذي رغب في مواصلة القتال؛ ففي يوم 9 ديسمبر، أبرق الحاكم إلى إسلام أباد مطالبا الحكومة بطلب «وقف إطلاق النار والوصول إلى تسوية سياسية فورا»، وإلا فإنه «بمجرد أن تفرغ القوات الهندية من الجناح الشرقي في غضون بضعة أيام، سيكون الجناح الغربي في خطر». واعتبر «التضحية بالجناح الغربي بلا معنى»، مشيرا إلى أن «الجنرال نيازي لا يوافق لأنه يعتبر أن الأوامر الموجهة إليه تقضي بالقتال حتى الرمق الأخير ، وسيكون ذلك بمنزلة تسليم دكا».
45
أيد حليفا باكستان الرئيسيان - الصين والولايات المتحدة - كل على حدة آراء الحاكم؛ ففي يوم 10 ديسمبر، التقى كيسنجر السفير هوانج هوا في واشنطن، وعلق الدبلوماسي بمرارة على أن إقامة بنجلاديش من شأنها أن تخلق «نسخة جديدة من مانشوكو»، في صورة نظام عميل للهند على غرار النظام الذي أدارته اليابان سابقا في الصين؛ فرد كسينجر قائلا: «إننا نرى - بكل أسف - أن الجيش الباكستاني سوف يتفتت في غضون أسبوعين في الغرب كما تفتت في الشرق.» وقال: «إننا نبحث عن وسيلة لحماية ما تبقى من باكستان.» ثم أردف على سبيل التعزية: «إننا لن نعترف ببنجلاديش، ولن نتفاوض معها.»
46
في ليلة 13 ديسمبر، فجر الهنود منزل الحاكم في دكا، وفي الليلة ذاتها تلقى نيازي رسالة من يحيى نصحه فيها بإلقاء السلاح، بما أن «مواصلة المقاومة ليست ممكنة». انتظر الجنرال يوما كاملا قبل أن يقرر أنه لا خيار أمامه سوى الطاعة؛ ففي صبيحة يوم 15 ديسمبر التقى القنصل العام الأمريكي، الذي وافق على نقل رسالة إلى نيودلهي. وفي اليوم التالي، 16 ديسمبر، سافر الفريق جيه إس أورورا من القيادة الشرقية للجيش الهندي إلى دكا لقبول توقيع صك الاستسلام.
47
وفي مساء اليوم ذاته، أعلنت رئيسة الوزراء لمجلس الشعب الهندي أن «دكا الآن عاصمة حرة لبلد حر». فهتف أعضاء حزب المؤتمر: «تحيا إنديرا غاندي.» حتى إن أحد أعضاء المعارضة سمع وهو يقول: «إن التاريخ سيخلد اسم رئيسة الوزراء باعتبارها السيف الذهبي لتحرير بنجلاديش.»
48
مضت السيدة غاندي من البرلمان إلى استديوهات إذاعة «أول إنديا راديو»، لتعلن وقف إطلاق النار من جانب واحد على الجبهة الغربية. وبعد مرور أربع وعشرين ساعة، تحدث الجنرال يحيى خان على الراديو، قائلا إنه أصدر تعليماته إلى القوات بوقف إطلاق النار أيضا.
49
دامت الحرب أقل قليلا من أسبوعين، وادعى الهنود أنهم فقدوا اثنتين وأربعين طائرة مقابل الطائرات الست والثمانين التي فقدتها باكستان، وفقدت إحدى وثمانين دبابة مقابل 226 دبابة فقدتها باكستان.
50
وكان أكبر تفاوت في عدد الأسرى؛ ففي القطاع الغربي، أخذ الجانبان بضعة آلاف من الأسرى، ولكن في الشرق صار على الهنود تولي مسئولية نحو 90 ألف جندي باكستاني أسير.
لم يكن الرئيس ريتشارد نيكسون مسرورا بنتيجة الحرب؛ فقد قال لهنري كيسنجر: «الهنود أوغاد على أي حال.» وقال: «من المحزن أن يشاهد المرء حالة باكستان، وقد فعل بها الهنود فعلتهم، حتى بعدما حذرنا تلك اللئيمة.» وعن زيارة السيدة غاندي لواشنطن في نوفمبر، تساءل نيكسون عما إذا كان تصرف «بتساهل أكثر من اللازم مع تلك اللعينة»، وبدا له أنه أخطأ إذ «أطلق العنان لمشاعره أمام الساحرة العجوز». بحلول ذلك الوقت ، حتى كيسنجر كان قد تحول ضد الهنود، وكان غاضبا من نفسه لإساءته تقدير قوتهم العسكرية؛ فقد زعم في شهر أكتوبر السابق أن «مستوى الطيارين الهنود ضعيف جدا، حتى إنهم لا يقدرون على الإقلاع بطائراتهم». وبعد الحرب أصبح كل أمله هو أن «الليبراليين سيظهرون بمظهر الحمقى لأن الاحتلال الهندي لباكستان الشرقية سيجعل الاحتلال الباكستاني له يبدو أمرا تافها».
51
أما عن الصحافة الأمريكية، فقد ألقت مجلة «تايم» باللوم على الجانبين بالتساوي؛ فقالت إن قيام يحيى بذلك «الهجوم القاتل على المتمردين البنغاليين»، إلى جانب شن إنديرا غاندي «حربا مكتملة الأركان»، أديا إلى «جلب مزيد من المعاناة إلى شبه القارة». إلا أن الصحفي المؤثر جيمس (سكوتي) رستون من صحيفة «نيويورك تايمز» اتخذ موقفا أكثر تحيزا؛ إذ كتب مقالا متأملا، يكاد يكون تآمريا، رأى فيه أن الاتحاد السوفييتي المستفيد الحقيقي من «هذه المأساة القذرة»؛ فحليفته الجديدة - الهند - ستوفر «مدخلا لقوة موسكو البحرية المتنامية إلى المحيط الهندي، وقاعدة للعمليات السياسية والعسكرية في الجناح الجنوبي للصين». وزعم رستون أن «الاتحاد السوفييتي أصبحت لديه الآن إمكانية إنشاء قواعد في الهند». ورأى أن تجربة الهند مع الديمقراطية كانت معرضة للخطر، وتساءل عما إذا كان «في مقدور الهند أن تشجع استقلال فصيل في باكستان دون تشجيع استقلال فصائل أخرى في الهند نفسها، بما في ذلك الفصيل الشيوعي القوي في ولاية كيرالا الهندية».
52
6
أطلق النصر على باكستان العنان لموجة عارمة من المشاعر الوطنية؛ فقد أشادت به إحدى الدوريات باعتباره «أول نصر عسكري للهند منذ قرون»،
53
وقصدت بذلك ليس الهند كدولة، وإنما الهند ممثلة في كتلة الأرض والحضارة؛ ففي النصف الأول من الألفية الثانية، تعاقبت الجيوش الأجنبية على الهند عبر الممر الشمالي الغربي، وأعملت فيها السلب والغزو، ثم حل حكام مسيحيون محل المسلمين، آتين من البحر لا البر. وكانت أحدث الغزوات على يد الصينيين الذين ألحقوا بالهند هزيمة نكراء؛ فالهنود الذين اعتادوا الهوان والهزيمة زمنا طويلا، استطاعوا أخيرا أن يستنشقوا عبير النجاح العسكري.
كان المشهد مختلفا تماما على الجانب الآخر من الحدود ؛ فبعد وصول أنباء استسلام قواتهم، كتبت صحيفة أردية في لاهور أن «الأمة كلها اليوم تبكي دما ... فاليوم دخل الجيش الهندي دكا، واليوم لأول مرة منذ ألف سنة انتصر الهندوس على المسلمين ... اليوم نجد مرارة الهزيمة تفت في عضدنا». إلا أنه في غضون أيام، كانت الصحافة الأردية تلتمس المواساة من دروس التاريخ؛ ففي حين أن الهزيمة أحدثت بلا شك «صدعا في قلعة الإسلام»، فحتى السلطان العظيم محمد الغوري خسر حربه الأولى في شبه القارة الهندية، وكما ذكرت صحيفة أخرى في لاهور قراءها، عاد الغوري «بعزيمة متجددة على رفع راية الإسلام على أرض الهند الكافرة».
54
في الهند، عزي الفضل في النصر إلى عدد لا حصر له من الجنود المجهولين في معظمهم، بالاشتراك مع شخصية سياسية واحدة محددة، هي رئيسة الوزراء؛ فقد نالت السيدة غاندي إعجاب الناس لتصديها لاستقواء الولايات المتحدة، وتخطيطها لتقطيع أوصال العدو بذلك الهدوء؛ فبالغ رجال حزبها في تحياتهم إليها، وحتى السياسيون المعارضون أصبحوا يشبهونها في حديثهم بالإلهة القاهرة دورجا في الأساطير الهندوسية، وكذلك كانت طبقات المثقفين والمهنيين، المتشككة عادة إزاء السياسية ورجالها، سخية في مديحها.
تمثل مزاج الإعجاب الشامل ذاك في ندوة عن تحرير بنجلاديش نظمتها مؤسسة غاندي للسلام في نيودلهي. بدأت الندوة بقول محرر صحيفة «تايمز أوف إنديا» - جيريلال جاين - إن «احترام الهند لذاتها وصورتها في العالم تحسنا بدرجة كبيرة نتيجة ارتفاع أسهم حزب المؤتمر من جديد تحت قيادة السيدة غاندي». واستمرت الندوة بوصف كيه آر مالكاني من منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج لعام 1971 بأنه «علامة فارقة في مسار التطور السياسي للهند». ففي ظل أحداث ذلك العام، «بدأت صورة السلام القديمة يستبدل بها صورة جديدة للقوة؛ فالصورة القديمة لم تستثر سوى الابتسامات المتعالية، أما الصورة الجديدة فتفرض الانتباه والاحترام». ثم ادعى الدبلوماسي جي إل مهتا أن «الناس أصبح لديهم إحساس جديد بالثقة في النفس وفخر مبرر بهيبتهم المكتسبة حديثا في العالم». وأكد الصحفي اليساري روميش تابار على ذلك الرأي قائلا إن «نجاح سياسة بنجلاديش» أعطى «الهندي المفكر إحساسا بالإنجاز والقوة». ورأى الفقيه القانوني اليساري في آر كريشنا آير في الأحداث الأخيرة نضجا تقدميا في القيادة الهندية، وقال: «ما كان في أيام غاندي عقيدة مبهمة، صيغ في عهد نهرو على شكل فلسفة اجتماعية ناشطة، وأصبح - تحت قيادة السيدة غاندي - برنامجا ملموسا وديناميكيا للعمل الحكومي.»
55
بعيدا عن الهند، نال هدوء السيدة غاندي وقت الأزمة كذلك إعجاب امرأة عاصرت بعض الأحداث التاريخية؛ هي الفيلسوفة حنة أرنت؛ ففي أوائل شهر نوفمبر، التقت أرنت رئيسة الوزراء في منزل أحد الأصدقاء في نيويورك. وبعد شهر، مع تقدم القوات الهندية صوب دكا، كتبت إلى الروائية ماري مكارثي عن رؤيتها السيدة غاندي قائلة:
إنها وسيمة جدا، إلى درجة تقترب من الجمال، وراحت تغازل كل رجل في الغرفة دون تكلف، وهي هادئة تماما؛ لا بد أنها كانت تعرف بالفعل أنها سوف تشن حربا، وربما وجدت متعة منحرفة في تلك المعرفة، فيا لحزم تلك النساء حين ينلن مرادهن!
56
7
بطبيعة الحال، سعت رئيسة الوزراء وحزبها إلى استغلال إنجازات جنودها لتحقيق مكاسب سياسية؛ ففي مارس 1972، دعي إلى إجراء انتخابات في ثلاث عشرة ولاية، كان لبعضها حكومات معارضة وللبعض الآخر ائتلافات غير مستقرة تحت قيادة حزب المؤتمر؛ ففي الولايات الثلاث عشرة كلها، ربح حزب المؤتمر بهامش كبير، وكانت منها ولايات محورية مثل بيهار وماديا براديش ومهاراشترا. وكما قال أتل بهاري فجبايي زعيم حزب جانا سانج بأسف في تعليقه على الانتخابات، فقد رشحت المعارضة 2700 مرشح، ولكن الحزب الحاكم رشح شخصا واحدا فعليا في الدوائر الانتخابية كافة؛ إنديرا غاندي.
57
إلا أنه في ولاية واحدة على الأقل لم يكن حضور رئيسة الوزراء والنموذج الذي قدمته كافيين. كانت تلك هي ولاية غرب البنغال، حيث ربح حزب المؤتمر بمزيج من الإرهاب والترويع والتزوير؛ فقد راحت عصابات من البلطجية تملأ صناديق الاقتراع، بينما وقفت الشرطة مكتوفة الأيدي. وحدث «تلاعب هائل النطاق» في كلكتا؛ فكما ذكر أحد النشطاء، قال البلطجية الذين استأجرهم حزب المؤتمر للناخبين المحتشدين خارج مراكز الاقتراع إن من الأجدر بهم أن يعودوا إلى منازلهم، بما أن البلطجية كانوا قد أدلوا بالفعل بجميع الأصوات المسجلة؛
58
فبالتحالف مع الحزب الشيوعي الهندي تلك المرة، ربح حزب المؤتمر 251 مقعدا من أصل 280 مقعدا في مجلس تلك الولاية، منهيا بذلك خمسة أعوام من عدم الاستقرار السياسي، ومدخلا الولاية في نطاق نفوذ نيودلهي.
وإذ توطد حكم رئيسة الوزراء المحلي، حولت انتباهها إلى الوصول إلى تسوية مع باكستان. كان يحيى خان قد استقال وحل ذو الفقار بوتو محله، وأخبر بوتو رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، السير أليك دوجلاس-هوم، أنه حريص على إقامة «علاقة جديدة كليا مع الهند»، بدءا باجتماع قمة مع السيدة غاندي؛ فمررت الرسالة، مرفقة بنصيحة إضافية مفادها أنه في ضوء كبرياء باكستان الجريحة، ينبغي أن تكون الهند هي من تصدر الدعوة.
59
كان الهنود متخوفين أول الأمر، نظرا لصعوبة التنبؤ بتصرفات بوتو وتاريخه العدائي إزاء الهند؛ فهرع المقربون إلى الرئيس الباكستاني يطمئنونهم ويؤكدون صدق نواياه. وأخبر الاقتصادي محبوب الحق نظيرا هنديا له أن بوتو كان آنذاك «في مزاج بالغ التأدب والواقعية».
60
وقال الصحفي مظهر علي خان، رئيس تحرير صحيفة «دون»، لرفيقه الشيوعي السابق الهندي ساجد ظهير، إن بوتو كان يحاول صادقا نسيان الماضي؛ فينبغي للهند أن تعمل على تعضيد موقفه، وإلا اجتمع الجيش واليمين الديني للإطاحة به، وهي نتيجة ستكون كارثية على كل من الهند وباكستان.
61
كان ظهير وخان قد عملا معا قبل التقسيم، كناشطين في اتحاد طلاب الهند، ثم التقيا في لندن - بتشجيع من رفيق دربهما السابق، بي إن هاكسر - في الأسبوع الثالث من مارس 1972، لمناقشة شروط اتفاق محتمل بين زعيميهما الوطنيين. تضمنت اقتراحات خان إعادة جميع أسرى الحرب الباكستانيين، واعتراف باكستان ببنجلاديش، وكذلك تراجع القوات إلى مواقعها قبل بدء النزاع، وإصدار إعلان سلام مشترك. وأخيرا؛ فيما يتعلق بكشمير، قال خان إن ذلك النزاع «لا ينبغي ذكره في الإعلان مطلقا لأنه سيفتح أبواب الجحيم». فرد ظهير قائلا: «يجب أن تحصل الهند على طمأنة بعدم قيام باكستان بمزيد من الهجمات أو الاختراقات أو التقويض أو الدعاية المضادة للهند في كشمير.» فوافق خان ولكنه قال إن ذلك «ينبغي أن تطالب به الهند «بالممارسة العملية»». وقال إننا ينبغي أن ندرك أنه لا يمكن الاستمرار لحكومة في باكستان إن تخلت، صراحة، عن دعمها حق الكشميريين في تقرير مصيرهم.
62
نقل خان تلك المحادثات إلى بوتو مباشرة، بينما نقلها ظهير إلى السيدة غاندي من خلال بي إن هاكسر؛ فدعي الرئيس الباكستاني إلى قمة تقرر عقدها في سيملا، العاصمة الصيفية القديمة للراج البريطاني، في الأسبوع الأخير من يونيو 1972، وجاء بصحبة ابنته بينظير وطاقم كبير إلى حد ما. في البداية التقى المسئولون، ثم الزعيمان. كان الهنود يرغبون في إبرام معاهدة شاملة لتسوية جميع المشكلات المعلقة (بما فيها كشمير)، بينما فضل الباكستانيون اتباع نهج مجزأ. وقد أخبر بوتو السيدة غاندي في اجتماع سري أنه لا يمكنه أن يعود إلى شعبه «خالي الوفاض». كانت المساومة مع الجانب الباكستاني شاقة؛ فقد رغب الجانب الهندي في «ميثاق عدم اعتداء»، واضطر إلى أن يقنع «بنبذ استخدام القوة» المتبادل. وطلب الهنود «معاهدة»، ثم حصلوا في النهاية على «اتفاق». وقالت الهند إنها يمكن أن تنتظر لحظة مواتية أكثر لحل نزاع كشمير، ولكنها طالبت باتفاق على «احترام الجانبين لخط السيطرة»، ونجح بوتو في إضافة الشرط: «دون الإخلال بالوضع المعترف به لأي من الطرفين.»
63
كان أحد مستشاري السيدة غاندي - دي بي دهار - يريدها أن تصر على «تسوية قضية كشمير باعتبارها جزءا لا يتجزأ ولا يختزل من أي تسوية مع باكستان»، وأن تجعل ذلك شرطا مسبقا لإعادة أسرى الحرب إلى وطنهم.
64
كان دهار كشميريا 100٪، ولد وتربى في الوادي. أما رئيسة الوزراء، التي كانت كشميرية بمقتضى أصولها البعيدة فحسب، فكانت مشاعرها أقل حدة في هذا الصدد، إضافة إلى ذلك، كانت أكثر وعيا بالرأي العام العالمي، وكانت (كما حذر مظهر على خان) مدركة لوضع بوتو الخطر داخل باكستان. والاتفاقية التي وقعا عليها أخيرا - عصر يوم 3 يوليو - لم تتحدث إلا عن الحفاظ على خط السيطرة، إلا أنه بعد إصرار الجانب الهندي، أضيف بند ينص على أن البلدين سوف يسويان خلافاتهما كافة «بالسبل السلمية عن طريق المفاوضات الثنائية أو أي سبل سلمية أخرى يتفق عليها الطرفان»، ما كان من شأنه، نظريا، أن يستبعد خيار وساطة طرف ثالث أو استثارة العنف في كشمير.
65
إلا أن بوتو على ما يبدو طمأن السيدة غاندي بأنه بمجرد أن يصبح وضعه أكثر استقرارا، سوف يقنع شعبه بقبول تحويل خط السيطرة إلى الحدود الدولية.
لم يكد حبر اتفاق سيملا يجف حتى تراجع بوتو عن هذا الوعد (غير الرسمي باعتراف الجميع)؛ ففي يوم 14 يوليو تحدث لثلاث ساعات في الجمعية الوطنية الباكستانية، وشغل خطابه تسعا وستين صفحة فولسكاب مطبوعة بمسافات ضيقة؛ فتحدث عن كفاحه «من أجل مبدأ وحدة باكستان منذ عمر 15 سنة»، ولام مجيب ويحيى والجميع ما عداه على «الانفصال المؤسف والمأساوي لباكستان الشرقية». ثم إنه بلغ في خطابه موضع الخلاف القائم بين باكستان والهند، ألا وهو مستقبل جامو وكشمير؛ فقال بوتو إن الهند، لأنها كانت المنتصرة في الحرب، «تملك جميع الأوراق في يديها»، إلا أنه رغم ذلك قد توصل إلى اتفاقية متكافئة انطلاقا من بداية غير متكافئة؛ فقد قال إن اتفاق سيملا كان ناجحا لأن باكستان سوف تستعيد أسرى الحرب والأراضي التي سيطرت عليها القوات الهندية، ولأنه «لم يتنازل عن حق شعب جامو وكشمير في تقرير مصيره». وقدم «التزاما صارما من جانب الشعب الباكستاني بأنه إذا بدأ شعب كشمير حركة من أجل الحرية غدا، وإذا بدأ الشيخ عبد الله أو مولوي فاروقي أو غيرهما غدا حركة شعبية ، فسوف نكون معهم».
66
شكا الهنود أن بوتو نكث وعده.
67
ولكن ربما كان يجدر بهم أن يفكروا في شعورهم هم أنفسهم في الأيام الأخيرة من عام 1962؛ فقد كانت الصين آنذاك قد ألحقت بالهند ذلا، استشعر على المستوى الوطني من جانب الزعماء والمواطنين من جميع الأطياف والمشارب، وكان ذلك هو شعور الباكستانيين أيضا عام 1972 بعدما تعرضوا لهزيمة مشابهة على أيدي الهنود. والحقيقة أن وضعهم كان أسوأ؛ لأنه في حين انتزع الصينيون بعض الأراضي (العديمة الجدوى في معظمها) من الهند فحسب، فقد أحدث الهنود صدعا في الأيديولوجية المؤسسة للدولة الباكستانية، بمساعدتهم في تكوين بنجلاديش. ولم يكن ثمة رد فعال على ذلك سوى واحد: المساعدة في فصل كشمير عن الهند، ومن ثم إحداث صدع في الفكرة المؤسسة للعلمانية الهندية.
الفصل الحادي والعشرون
الغريمان
إنديرا هي الهند، والهند هي إنديرا.
دي كيه باروا، رئيس حزب المؤتمر، نحو عام 1974
1
في 15 أغسطس 1972، احتفلت الهند بعيد استقلالها الخامس والعشرين؛ فعقد البرلمان جلسة استثنائية في منتصف الليل تحدثت فيها رئيسة الوزراء، مستحضرة الصراع من أجل الحرية بدءا من تمرد عام 1857 حتى الوقت الحاضر، وذاكرة العلامات الفارقة على طول الطريق. وقالت السيدة غاندي إن مسعى الهند كان «مصادقة الجميع، وعدم الخضوع لأحد».
1
وفي صباح اليوم التالي وجهت خطابا إلى الأمة من على أسوار القلعة الحمراء، فقالت: «الهند اليوم أقوى مما كانت عليه منذ خمسة وعشرين عاما؛ فقد مدت ديمقراطيتنا جذورها، وتبلور فكرنا، وتحددت أهدافنا، وخططت طرقنا لتحقيق تلك الأهداف، ووحدتنا اليوم أكثر صلابة من أي وقت مضى.» وقالت السيدة غاندي: «الأمم تمضي إلى الأمام، لا بالنظر إلى الآخرين، وإنما بالثقة بالنفس والعزيمة والوحدة.»
2
من الجدير بالذكر أن خطاب السيدة غاندي لم يتطرق إلى أمور الاقتصاد؛ فمنذ الاستقلال، نما الاقتصاد الهندي بمعدل تراوح بين 3٪ و4٪ سنويا، وزاد ناتج قطاع المصانع بنحو 250٪؛ حيث كانت الزيادة أوضح في مجال الصناعات الثقيلة مقارنة بالسلع الاستهلاكية. ونشأت طبقة جديدة من رواد الأعمال، الذين أقاموا وحدات عملهم بعيدا عن المراكز الصناعية القديمة. عملت الدولة على زيادة مرافق البنية التحتية؛ حيث ولدت طاقة قدرها ستة وخمسون كيلوواط-ساعة عام 1971 (مقابل 6,6 عام 1950)، وزادت مساحات الطرق المرصوفة إلى أكثر من الضعف، وزادت حمولات السكك الحديدية إلى ما يقرب من ثلاثة أمثال.
3
ساعدت تلك التطورات المنتجين في الريف كما في الحضر؛ فأينما توفر الري - عن طريق السدود أو الآبار الأنبوبية - زاد المزارعون إنتاجهم من الحبوب والمحاصيل من قبيل القطن والفلفل الحار والخضروات. واندمجت القرى التي كانت معزولة سابقا في العالم الخارجي؛ فقد استخدمت الطرق لإخراج المحاصيل وجلب السلع، وكذلك لنقل أهل القرى إلى المدينة ذهابا وإيابا، متيحة بذلك انكشافهم على أفكار جديدة. وفي القرى، بدأ تدريجيا انتشار أدوات مثل الدراجة والهاتف، والأهم من ذلك كله: المدرسة.
4
أخفت تلك التحسنات الإجمالية وراءها تفاوتات إقليمية لا يستهان بها؛ فالثورة الزراعية طالت أقل من عشر مناطق ريف الهند، وظلت معظم مناطق الزراعة تعتمد على مياه الأمطار؛ لذا فعلى الرغم من زيادة الإنتاج الصناعي والزراعي، ظل الفقر المدقع واسع الانتشار في الريف. في العام السابق على خطاب رئيسة الوزراء بمناسبة عيد الاستقلال الخامس والعشرين، نشر اقتصاديان في بونا - في إم دنديكار ونيلاكنتا رات - دراسة كبيرة بعنوان بسيط: «الفقر في الهند»؛ فاستنادا إلى استقصاءات من كافة أنحاء البلاد، خلصا إلى أن 40٪ من سكان الريف و50٪ من سكان الحضر لم يكن لديهم حتى «الحد الأدنى من المعيشة»؛ المعرف بإنفاق الفرد سنويا 324 روبية في القرى و489 روبية في المدن. وقد تزايدت نسبة الفقر على مدار ذلك العقد؛ ففي بداية ستينيات القرن العشرين، كان 33٪ من سكان الريف و49٪ من سكان الحضر يعيشون تحت خط الفقر المذكور. وفي عام 1970 أو ما حوله، بحسب تقديرات دنديكار ورات، كان 223 مليون هندي يعيشون في فقر من إجمالي تعداد سكان قارب 530 مليون نسمة.
وضع اقتصاديون آخرون تقديرات أخرى؛ إذ اعتقد البعض أن نسبة الأشخاص الفقراء حقا أعلى من ذلك، بينما قال آخرون إنها أدنى من ذلك قليلا. ولكن على الرغم من اختلاف الاقتصاديين على عدد الفقراء في الهند تحديدا، فكلهم اتفقوا على أنهم أكثر من اللازم - حيث كان عددهم طبقا لأكثر التقديرات تحفظا رقما أقرب إلى 200 مليون منه إلى 100 مليون. وتوصلت هذه الدراسات إلى أن الفقراء في ريف الهند ينفقون نحو 80٪ من دخلهم على الغذاء، و10٪ على الوقود، مما يترك 10٪ فقط للملابس وغيرها من الأشياء.
5
وتمثل أحد أوجه الفشل الأخرى في التعليم. لقد حدث نمو هائل في عدد الكليات التي تقدم تعليما في مجالات العلوم والإنسانيات، وحدث توسع أكبر في المقررات المهنية، مثل الهندسة والطب. ولكن التعليم الأساسي كان أداؤه ضعيفا؛ فقد كان عدد الأميين عام 1972 أكبر مما كان عام 1947. وعلى الرغم من افتتاح آلاف المدارس الجديدة، فلم تحدث محاولة تذكر لتعليم القراءة والكتابة لملايين البالغين غير الملمين بهما. وحتى فيما بين من دخلوا المدارس، لم تتخرج سوى نسبة صغيرة؛ حيث كانت معدلات التسرب من الدراسة مرتفعة إلى حد مزعج، خاصة فيما بين الفتيات وأبناء الطوائف الاجتماعية الدنيا.
6
بعد الخطاب الذي ألقته السيدة غاندي في القلعة الحمراء ببضعة أشهر، تحدث الاقتصادي جاجديش بجواتي أمام جمهور أرقى إلى حد ما في مدينة حيدر أباد الجنوبية. كانت الهند المستقلة تقدم نفسها على أنها اقتصاد مختلط، يحمل سمات كل من الاشتراكية والرأسمالية. ولكنها، بحسب زعم بجواتي، فشلت على الصعيدين؛ فقد كان معدل نموها أبطأ من أن يؤهلها للاندراج تحت الاقتصاد «الرأسمالي»، وقد فقدت أي ادعاءات بكونها «اشتراكية» بفشلها في محو الأمية أو تقليل أوجه عدم المساواة.
7
2
زعمت رئيسة الوزراء أن الديمقراطية مدت جذورها في الهند، وهو ما حدث في بعض النواحي المهمة؛ فقد أجريت خمسة انتخابات عامة بنجاح، إضافة إلى ما يقرب من 100 انتخاب في ولايات بحجم فرنسا أو ألمانيا. وإلى جانب الانتخابات الحرة كانت حرية انتقال الأشخاص والأفكار، وتلك الأخيرة عبرت عنها صحافة شديدة الحرية.
إلا أن أسس الديمقراطية لم تكن مستقرة تماما في نواح أخرى؛ فقد كانت لجنة حزب المؤتمر لعموم الهند تنتخب فيما مضى ممثلين من الولايات، وهؤلاء بدورهم كانت تنتقيهم هيئات حزب المؤتمر على مستوى التعلقات والمناطق. والأهم من ذلك أن رؤساء وزراء الولايات التي حكمها حزب المؤتمر كانوا يختارون من جانب المشرعين المحليين وحدهم؛ إلا أنه عقب انشقاق حزب المؤتمر في 1969، استطاعت السيدة غاندي تعيين مرشحين خاصين بها في مناصب مهمة. وتأكدت عملية التحول إلى المركزية هذه بعد الانتصار الساحق الذي حققته في انتخابات عام 1971؛ ففي وقت لاحق من ذلك العام، أقالت رئيس وزراء كل من راجستان وأندرا براديش - في تتابع سريع - وعينت مكانهما اثنين من محظييها. وكما علق أحد الصحفيين، فإنه لا يعنينا كثيرا معرفة من سيكون الرجل الجديد في أندرا؛ لأن «من يتقلد السلطة سيكون عليه أن يضع السيدة في دلهي نصب عينيه حتى يبقى عوضا عن المشرعين في حيدر أباد أو جمهور الناخبين في أندرا بصفة عامة».
8
بعد انتخابات عام 1971 ازداد ظهور ابن رئيسة الوزراء الثاني - سانجاي - في الحياة العامة. كان قد فصل من مدرسته الهندية الأولى، وتخرج بصعوبة في الثانية، ثم عمل لفترة وجيزة متدربا في شركة رولز-رويس بالمملكة المتحدة، ثم عاد إلى الوطن لإنشاء مصنع سيارات خاص به. وأثناء بحثه عن أرض لذلك المشروع، خطا أولى خطواته في عالم السياسة؛ ففي مايو 1971 أرسلته والدته لتدشين حملة حزب المؤتمر في انتخابات دلهي البلدية، وفي الشهر التالي أجرت مجلة أسبوعية واسعة الانتشار حوارا معه، فبدا لمحاوره غير «حريص بدرجة كبيرة على النقاش أو الحوار المطول؛ فهو يبدو حريصا على النتائج». وكذلك أبدى سانجاي رأيا مفاده أن «الشباب الهندي جبان. إنه لا يتحلى بالشجاعة؛ فالشباب متناغمون في تفكيرهم مع الإطار الذهني لوالديهم».
9
كان راجيف ابن رئيسة الوزراء الأول طيارا يعمل لدى الخطوط الجوية الهندية؛ فكانت السيدة غاندي شديدة القلق على سانجاي، وكتبت إلى زميل في فبراير 1971 أن «راجيف لديه وظيفة خلافا لسانجاي، وقد تورط أيضا في مشروع مكلف. إنه يشبهني كثيرا عندما كنت في مثل سنه - في فظاظته وكل شيء - حتى إن قلبي مثقل بالقلق على المعاناة التي قد يضطر إلى تحملها».
10
وفي الواقع، حصل مشروع مصنع سانجاي على التصريحات اللازمة بسرعة غير مبررة؛ فقد قدم ثمانية عشر طلبا لصنع سيارات صغيرة، ولم يقبل منها سوى طلب ابن رئيسة الوزراء، على الرغم من عدم امتلاكه خبرة سابقة في هذا الصدد. ومنح بانسي لال رئيس وزراء هاريانا، الذي كان عضوا في حزب المؤتمر، شركة ماروتي للسيارات المملوكة لسانجاي أرضا مساحتها 300 فدان بسعر زهيد.
11
طرحت المعارضة أسئلة حادة في البرلمان، فغضت السيدة غاندي الطرف عنها، ولكن مستشارها المقرب بي إن هاكسر أعرب عن تحفظاته الخاصة. ووفقا لأحد الأقوال، فقد «نصح رئيسة الوزراء بالتخلي عن مشروع سيارات ماروتي التابع لابنها والتنصل من أفعال ابنها سانجاي».
12
ولكنها تجاهلت نصيحته، وأصبح سانجاي يشاهد إلى جوار والدته أكثر، بينما تضاءل نفوذ هاكسر نفسه في نطاق الأمانة التابعة لرئيسة الوزراء.
بحلول عام 1972 كان حزب المؤتمر قد أصبح عرضة للمحسوبية المتصاعدة، والفساد الجامح؛ ففي يونيو 1971 لفت بي إن هاكسر نظر رئيسة الوزراء إلى «الفساد المترسخ والمؤسسي» في راجستان التي يحكمها حزب المؤتمر؛
13
فقد تواطأ الوزراء مع موظفي الخدمة المدنية، ليقتطعوا مبالغ من المشروعات الحكومية. وفي الحكومة المركزية أيضا، كانت تلك الممارسات في صعود؛ فقد حصل وزير اتحادي من آسام على عقارات كثيرة بسبل مشبوهة، بينما كان وزير اتحادي آخر من ماديا براديش يعمل مع تاجر سلاح فرنسي يدا بيد، مقدما له عقودا مقابل عمولات.
14
3
على الصعيد الاجتماعي، كان أحد مؤشرات تميز الهند هو أن رئيس وزرائها كان امرأة. ولكن ماذا عن المرأة الهندية بصفة عامة؟ فأثناء فوز السيدة غاندي في الانتخابات والحرب، كلف المجلس الهندي لبحوث العلوم الاجتماعية باحثيه بإجراء خمس وسبعين دراسة منفصلة عن وضع المرأة، فيما يتعلق بالقانون والاقتصاد والوظائف والتعليم والصحة وما إلى ذلك.
15
ولم تكن النتائج مشجعة للغاية؛ فمن نواح متعددة، كانت عملية التحديث التي نالت تشجيعا منذ الاستقلال قد وسعت الفجوة بين الجنسين؛ على سبيل المثال: كان الرجال بالأساس هم المستفيدون من تحسن المرافق الصحية، وهو ما زاد الفارق في النسبة بين الجنسين، التي تمثلت عام 1971 في 931 امرأة مقابل 1000 رجل. وانخفضت نسبة النساء في الأيدي العاملة بالمجال الصناعي، من 31,53٪ عام 1961، إلى 17,35٪ عام 1971؛ ففي الماضي كانت المصانع تشغل أزواجا، ولكن التطورات الفنية أدت إلى الاستغناء عن الوظائف غير الماهرة التي كانت النساء تعمل بها في الماضي.
كانت الغالبية العظمى من النساء تعمل في الريف؛ ففيما بين عائلات المزارعين الفلاحين كانت نسبة العاملات إلى العاملين 50 إلى 100، وفي العائلات التي لا تمتلك أرضا بلغت نسبة العاملات إلى العاملين 78 إلى 100. وكانت أكثر العمليات خطورة حكرا على النساء في أغلب الأحيان؛ مثل زرع شتلات الأرز، التي كانت تعرضهم للعدوى المعوية والطفيلية. وأضيفت إلى تلك المخاطر أعباء تربية الأطفال وجمع الحطب والعلف، وهي المهام التي كانت النساء والفتيات الصغيرات يقمن بها بمفردهن.
16
كانت نسبة المتعلمين ضعيفة في المجمل وكارثية بالنسبة إلى النساء؛ ففي عام 1971 كان 39,5٪ من الذكور متعلمين، مقابل 18,4٪ فقط من الإناث، و4٪ فحسب من النساء في ريف بيهار كن متعلمات. وقد أسفر الفقر في ولايات مثل بيهار وأوريسا إلى هجرة جماعية للذكور بحثا عن العمل، مما زاد العبء على النساء.
أفاد المجلس الهندي لبحوث العلوم الاجتماعية بأن «ما هو ممكن للمرأة نظريا نادرا ما يكون في متناول يدها واقعيا». وأوضحت دراساته «أن المجتمع فشل في صياغة معايير ومؤسسات جديدة لتمكين المرأة من الاضطلاع بالأدوار المتعددة المتوقعة منها في الهند اليوم؛ فمعظمهن لا يتمتعن بالحقوق والفرص التي يكفلها لهن الدستور؛ فارتفاع مهر الزواج وغيرها من الظواهر، التي تمعن في التقليل من شأن المرأة، تشير إلى ارتداد عن المعايير التي طورت أثناء حركة التحرير».
إن الإصلاحات الاجتماعية لم يكن لها أثر إلا في المدن، في أوساط أسر الطوائف الاجتماعية العليا التي تحدث أبناؤها الإنجليزية أو بعضها وعلموا بناتهم وأرسلوهن إلى الكليات المهنية؛ فمن بين ذلك القطاع من النخبة، حدثت زيادة في عدد الطبيبات والأستاذات وموظفات الخدمة المدنية والعالمات. وفي المقابل، تحول كثير من مجتمعات الطوائف الدنيا والمزارعين من دفع المال إلى أهل العروس إلى طلب مهر منهم، في دلالة واضحة على المكانة المتدنية لنسائهم. وقد أدى التوسع العمراني السريع وهجرة الذكور إلى زيادة عدد المشتغلات بالجنس.
تمثلت علامة مشجعة في زيادة نسبة النساء اللائي يحق لهن التصويت في الانتخابات، من 46,6٪ عام 1962 إلى 55,4٪ عام 1967، و59,1٪ عام 1971. وفي مطلع السبعينيات أيضا ظهرت بوادر حركة نسائية وليدة؛ حيث تأسست أولى المنظمات لحماية حقوق الموظفات والعاملات، وللاحتجاج على زيادة ارتفاع الأسعار.
17
وكما كان الحال مع الطوائف الاجتماعية الدنيا، كانت ثمة طريقتان للنظر إلى المسألة؛ فمن أحد المنظورين، كانت المرأة لا تزال تتعرض لاستغلال مفجع. ومن المنظور الآخر، كان ثمة تقدم قد أحرز، علما بخط الأساس البالغ الانخفاض وقت الاستقلال والتاريخ التراكمي لقهر المرأة، الذي أضفت عليه التقاليد صبغة المشروعية؛ ففي حين ظل مستوى الإلمام بالقراءة والكتابة منخفضا بدرجة صادمة، كان التطور الذي حدث منذ 1947 «استثنائيا» كما يتبين من جدول
21-1 .
كانت أوضح المكاسب المتحققة في ولاية كيرالا في أقصى جنوب الهند؛ ففيها كانت نسبة النساء إلى الرجال 1019 إلى 1000، لتصير بذلك الولاية الوحيدة التي زاد عدد النساء فيها عن الرجال، وقد احتلت المرتبة الأولى من حيث معدل أعمار الإناث (60,7 عاما)، ونسبة المتعلمات (تخطت 60٪، مقارنة بمتوسط وطني أدنى من 20٪)، وحصة الفرد من الإنفاق على الرعاية الصحية، ونسبة الولادات التي تجريها قابلات مدربات. كذلك كانت كيرالا تتمتع بأقل معدل وفيات من المواليد الإناث، الذي بلغ 48,5 في كل ألف ولادة.
18
لم يكن وضع كيرالا استثنائيا فيما يتعلق بالمرأة فحسب، فالرجال هناك أيضا كانوا أفضل تعليما وتمتعوا بمرافق صحية أفضل. وعبرت إحصاءاتها عن قدر أكبر من المساواة الاجتماعية. كما كان هناك حضور أكبر للطوائف الهندية الدنيا - حيث ألغيت ممارسة النبذ تقريبا - فقد كانت حركة الاتحادات العمالية متطورة جدا فيها.
جدول 21-1: التعليم بحسب النوع في الهند.
عدد الفتيات الملتحقات بالتعليم مقابل كل 100 فتى، في سنة
المرحلة الابتدائية
المرحلة الإعدادية
المرحلة الثانوية
الجامعة
1947
36
22
14
19
1971
62
43
36
31
لماذا كانت كيرالا مختلفة إلى هذا الحد؟ كما شرحنا في الفصل الرابع عشر، حظيت كيرالا في تاريخها بمهراجات ومبشرين تقدميين، وحركات اجتماعية كبرى لكل من الطوائف والطبقات. وقد أخذت أول وزارة شيوعية في الفترة بين عامي 1957 و1959 بهذه التقاليد الإصلاحية، ثم تجددت في مطلع السبعينيات، عندما حكم الولاية ائتلاف الحزب الشيوعي الهندي وحزب المؤتمر، تحت قيادة رئيس وزراء شيوعي - سي أشوتا مينون - فقد نقلت تلك الحكومة مساحات كبيرة من الأراضي من ملاك غائبين إلى مزارعين مستأجرين، ومررت قانونا جديدا للعمالة الزراعية بهدف رفع أجور الأشخاص الذين لا يملكون أراضي زراعية وتحسين أحوالهم المعيشية. وعلى الرغم من عجز تلك الإصلاحات عن تلبية مطالب المثقفين الراديكاليين، فقد كانت أكثر تقدما بكثير عن المتاح في أي مكان آخر، مما زاد شهرة كيرالا بأنها، وإن لم تكن الولاية الأكثر مساواتية في الهند، فهي بالتأكيد أقلها ظلما.
19
4
في مارس 1973 عينت الحكومة رئيسا جديدا لقضاة المحكمة العليا. في الماضي، عندما كان رئيس القضاة يتقاعد، كان العضو الأكثر أقدمية في هيئة المحكمة يتبوأ مقعده، ولكن في هذه المرة اختير القاضي إيه إن راي على الرغم من أن ثلاثة من زملائه كانوا يفوقونه في الأقدمية. كان لتعيينه دوافع سياسية، ومثل تعبيرا عن رغبة الحكومة المتزايدة في السيطرة على القضاء. كان وزير القانون، إتش آر جوخال، قد تحدث - في البرلمان - بازدراء عن لجوء المحكمة إلى «النظريات البالية التي عفى عليها الزمن لبلاكستون الذي اعتبر الملكية حقا طبيعيا». وحذر من أن ذلك الاتجاه يقف في طريق التزام الحكومة بإعادة هيكلة «النسيج الاجتماعي والاقتصادي لبلدنا بأكمله ... عن طريق زيادة تدخل الدولة باطراد».
20
في السنوات الأخيرة كانت المحكمة العليا قد انتقدت محاولات الإخلال بالهيكل الأساسي لدستور الهند. وفي قضيتي تأميم البنوك وإلغاء مخصصات الأمراء، أصدرت المحكمة أحكاما في غير صالح الحكومة، مجبرة إياها على استخدام سلطة البرلمان لتعديل الدستور. في ذلك الوقت، أعرب القاضي كيه إس هيدج، في محاضرة عامة في بومباي، عن قلقه من أن «مقتضيات السياسة والمصالح الشخصية لزعماء فرديين ... أحدثت انحرافا في سير الجهاز الإداري». ورأى أن «الحكومة المركزية افتأت على السلطات المخصصة للولايات، بلجوئها إلى أساليب غير دستورية». وعلق على الفساد المتنامي، و«اللهاث المفرط وراء الثروات والمحسوبية».
21
خلال الأسابيع الأولى من عام 1973، استمعت المحكمة العليا إلى عريضة تطعن في قانون جديد يمنح البرلمان سلطة أكبر لتعديل الدستور. استمعت هيئة المحكمة بكاملها إلى المرافعة، ثم صوت ستة قضاة على تقييد سلطة البرلمان بينما أقرها سبعة. كان ممن صوتوا لصالح الحكومة القاضي إيه إن راي، ومن ضمن الجانب الآخر كان القاضي هيدج؛ فربط تعيين راي بهذه القضية تحديدا، إلى جانب رؤية أكثر شمولية كان أشد معتنقيها بي إن هاكسر، مفادها أن القضاة وموظفي الخدمة المدنية ينبغي أن يكونوا «ملتزمين» بسياسات الحكومة القائمة وفلسفتها.
كان ممن انتقدوا تعيين إيه إن راي، زعيم حركة سارفودايا، جايا براكاش نارايان؛ فقد كتب إلى رئيسة الوزراء سائلا عما إذا كانت تلك الترقية المخالفة للأصول يقصد بها جعل المحكمة العليا «تابعة للحكومة الموجودة في السلطة»، فردت بأن «الاستنتاج المتشائم» الذي خلص إليه نارايان «غير مبرر»، مضيفة أن التمسك الآلي «بمبدأ الأقدمية أدى إلى ارتفاع معدل تغير رؤساء القضاة دون داع».
22
ناقد آخر كان الخبير الدستوري إيه جي نوراني، الذي استنكر في مقال متأمل تسييس القضاة - الذين بدأ كثير منهم يتحدثون عن أمور خارج نطاق اختصاصهم تماما - والسلطة القضائية، كما تبين في ترقية إيه إن راي وغيره من القضاة «التقدميين» المزعومين. وأبدى نوراني قلقه من أنه لا الصحافة ولا نقابة المحامين كانا متيقظين بما فيه الكفاية للأخطار المحدقة باستقلال القضاء. وحذر من أنه ما لم تواجه تلك التحديات، «فربما يجدر بنا تأهيل أنفسنا لفقد الحرية الفردية في الهند».
23
والحقيقة أنه حتى قبل اختيار رئيس قضاة المحكمة العليا الجديد، كان كثير من المناصب الرئيسية في الحكومة قد عهد بها إلى مسئولين بيروقراطيين مشتركين مع السيدة غاندي ومستشاريها في أيديولوجيتهم الاشتراكية.
24
وبحلول عام 1973 كانت تلك الأيديولوجية قد امتد نطاقها ليطول مجالات جديدة؛ فقد تشكلت لجنة للاحتكار والممارسات التجارية التقييدية، التي سعت إلى الحد من نمو الشركات التجارية الكبرى وتشجيع الشركات الصغيرة عوضا عنها. واستمر توسع القطاع العام، وتأميم المزيد من الصناعات الخاصة، وأصبح الفحم والنفط مملوكين للحكومة. لكن على الرغم من ذلك، ضربت الهند أزمة النفط عام 1973، وعند وقوعها ركبت رئيسة الوزراء من منزلها إلى البرلمان عربة يجرها حصان، في مشهد مذهل صحبته ضجة دعائية كبيرة.
في منتصف فترة حكم إنديرا غاندي الثالثة بدت الأمور تحت السيطرة، إلى حد أنها بدأت مفاوضات مع الشيخ عبد الله؛ فقد كان الوضع في وادي كشمير، موضع الخلاف المرير، قد تبدل بالنصر المحقق الذي أحرزته الهند في حرب ديسمبر 1971؛ فبعدها قيل إن «قدرا من خيبة الأمل» خيم على المعسكر الانفصالي؛ فحتى الراديكاليون في الوادي باتوا يتحدثون عن الوصول إلى تسوية في إطار الدستور الهندي.
25
وفي تصريحات الشيخ عبد الله نفسه الأخيرة، لم يوضح قصده «بحق تقرير المصير»: هل كان الحكم الذاتي أم الاستقلال؟ فطوال عام 1971 أقام في دلهي، وهناك شهد بنفسه صعود السيدة غاندي إلى مرتبة الزعامة الوطنية. وقللت الحرب حيرته؛ إذ بدا له أن استقلال شعبه بات أمرا مستبعدا تماما. وفي يونيو 1972 التقى رئيسة الوزراء، وظل فحوى محادثاتهما طي الكتمان، ولكن بعيد هذا اللقاء سمح له بالعودة إلى كشمير. وكما هي الحال دائما، استقبلته حشود كبيرة معظمها مهلل، إلا أنه كان ثمة معارضون أيضا رفعوا لافتات مفادها: «لا مساومة على كشمير»، و«نريد استفتاء شعبيا».
26
في عام 1964، بدا أن جواهر لال نهرو، بإرساله عبد الله لمقابلة أيوب خان، قد قبل أن باكستان طرف في نزاع كشمير، أما بعد تفكيك باكستان فقد أوضحت السيدة غاندي أن ذلك الوضع لم يعد ساريا؛ فبعد عودة عبد الله إلى الوادي، قال لشعبه إنه ينبغي لهم ألا يلتمسوا العون من إسلام أباد، وإنما أن يعملوا على التوصل إلى تسوية مشرفة مع نيودلهي. وفي سبتمبر، أثناء حديث الشيخ عبد الله في احتفال بمناسبة عيد ميلاده السابع والستين، بلغ به الأمر حد أنه قال: «أنا هندي والهند وطني.»
27
كان عبد الله يأمل آنذاك أن يرجع بصفته رئيس وزراء جامو وكشمير، ويعمل من ذلك المنصب على زيادة الحكم الذاتي في الولاية؛ فقد أراد من الحكومة عقد انتخابات في منتصف المدة، حيث كان متأكدا من فوز حزبه - حزب المؤتمر الوطني الكشميري - بها. إلا أن زعماء حزب المؤتمر الوطني الهندي في الولاية قاوموا فكرته؛ إذ لم يكن في نيتهم التخلي عن مناصبهم بتلك السهولة.
خلال عامي 1972 و1973 خاض ميرزا أفضل بيج ممثلا عن الشيخ عبد الله، وجي بارتاساراتي ممثلا عن رئيسة الوزراء، عدة جولات من المحادثات، ناقشا فيها كيفية إعادة عبد الله إلى رئاسة حكومة الولاية دون إيذاء مشاعر الكشميريين ولا طموحات حزب المؤتمر.
28
على الجانب الآخر من جبال الهيمالايا، ظهرت علامات على أن عددا أكبر من أبناء ناجا أيضا يفكرون في العيش داخل الهند؛ فمنذ إقامة ولايتهم عام 1963، حكمها فصيل متقبل لدستور الهند. ظلت الغابة تحوي بعض المتمردين، وشنت هجمات من حين لآخر على قوافل الجيش والسياسيين المنتميين إلى التيار الرئيسي. ولكن كانت ثمة علامات الحياة الطبيعية أيضا؛ على سبيل المثال، في نوفمبر 1972 جاء المبشر بيلي جراهام ليعظ الناس في كوهيما، وحضر 25 ألفا من أبناء ناجا لسماعه، مستقلين حافلات من جميع أنحاء الولاية. ألقى جراهام ثلاث مواعظ خلال ثلاثة أيام، أشاد فيها بجمال التلال، واستنكر الحالة المتردية لكنائس المنطقة، وقال لأبناء ناجا: «سلموا للرب طريقكم.» وبعد مرور عام، لعب نادي كرة القدم الأبرز في الهند - موهون باجان - سلسلة من المباريات الودية في كوهيما؛ ففي المباراة الأولى، «وسط حماس جارف وهتافات جمهور مهلل قارب الخمسة عشر ألفا»، هزم فريق من كوهيما الفريق الزائر بهدف واحد، وفي اليوم التالي، رد شرف الهند عندما ربح فريق موهون باجان مباراة العودة بخمسة أهداف مقابل لا شيء.
في 1 ديسمبر 1973، زارت إنديرا غاندي كوهيما بمناسبة الذكرى العاشرة لتحول ناجالاند إلى ولاية مكتملة الأركان ضمن الاتحاد الهندي. وفي خطابها - الذي استمع إليه نحو 15 ألف شخص - حثت المقاومة السرية على «الخروج إلى العلن والاضطلاع بمسئوليات بناء ناجالاند». كان عدة مئات من المتمردين قد استسلموا بالفعل، وخرج المزيد منهم إلى السطح قبل انتخابات الولاية في فبراير 1974؛ فقد ذاقت قبائل الناجا طعم الديمقراطية الهندية بحلوها ومرها؛ ومن ثم، ففي وقت عقد الانتخابات، اجتاح الشوارع رجال يهتفون: ««انتخبوا ...» بأعلى صوتهم»، لأن «طبقا من الأرز واللحم ورشفة خمر وبضع أوراق نقدية هي كل ما يحتاجه الطائفون لالتماس الأصوات حتى ينطلقوا هاتفين لأي مرشح محتمل». وفي ذلك الوقت، كانت:
تتدفق الوعود بسخاء، خاصة من جانب الوزراء؛ فالوعود تقطع ببناء ناد، ومستوصف، وبنايات جديدة لمدارس مهملة منذ زمن، وطريق حيث لا يوجد طريق ... على الرغم من أنه طوال الأعوام العشرة الماضية لم يفعل شيء من أجلهم.
29
جلبت تلك الانتخابات حكومة ائتلافية إلى سدة الحكم، تضمنت عدة متمردين سابقين قالوا إنهم يريدون العمل من أجل «تسوية نهائية تفاوضية»، يتم التوصل إليها «بالفكر لا السلاح». فأعربت مجلة في دلهي عن تفاؤلها وقالت: «بصفة عامة تمت استمالة قبائل الناجا، وإذا حولت الحكومة الهندية مزيدا من الأموال للتعليم وتوفير فرص عمل وللنمو الاقتصادي، فسوف يلين جانب «المتشددين» بمرور الوقت، وسيحل السلام حيث الحاجة إليه ملحة وحيوية في هذه الولاية الحدودية.»
30
5
واجهت الهند خلال مسيرتها بصفة الدولة المستقلة صراعات متعددة؛ على الأرض واللغة والمنطقة والدين. ومن بين تلك الصراعات، ربما كانت متاعب كشمير وناجالاند هي الأكثر خطورة؛ فمنذ عام 1947، تمتع هذان المكانان بقيادات كاريزمية، تسعى إلى الحصول على دولة حرة خاصة بها. وقد لقيت رسالتها صدى واسعا في أوساط الشعبين. ولو كان الخيار متاحا، لكان من المحتمل جدا أن تختار أغلبية سكان تلال ناجا ووادي كشمير الاستقلال عوضا عن إقامة ولاية لهم داخل حدود الهند.
إلا أنه في فترة 1973-1974، كان الشيخ عبد الله يستعد للانضمام إلى منظومة الحكم في كشمير، وكثير من متمردي ناجا كانوا قد خرجوا إلى العلن وشاركوا في الانتخابات؛ فقد خيم الهدوء على الطرفين اللذين غمرتهما الاضطرابات يوما ما. وكأنما على سبيل التعويض، ثارت متاعب في قلب الهند، في مناطق لطالما اعتبرت نفسها جزءا لا يتجزأ من جمهورية الهند؛ لأسباب تتعلق بالتاريخ والسياسة والتقاليد واللغة.
بدأت المتاعب في جوجارات، مسقط رأس غاندي، أبي الأمة. كانت تلك الولاية محكومة بنظام تابع لحزب المؤتمر اشتهر بفساده؛ إذ شاعت تسمية رئيس الوزراء - تشيمان بهاي باتيل - بتشيمان «تشور» (أي، اللص)؛ ففي يناير 1974، قاد الطلاب حركة مطالبة بإقالة حكومة الولاية، أطلقت على نفسها ناف نيرمان؛ أي «حركة التجديد». تحولت الاحتجاجات إلى العنف، حيث أحرقت حافلات ومكاتب حكومية، وأجبر تشيمان «تشور» على تقديم استقالته، ووضعت جوجارات تحت «الحكم الرئاسي».
31
ألهمت أحداث جوجارات الطلاب في بيهار محاربة سوء الإدارة في ولايتهم أيضا؛ فبيهار كانت قد شهدت قدرا كبيرا من عدم الاستقرار السياسي، صاحبه انشقاقات كثيرة وتشكيل حكومات عديدة ثم حلها. ثم جاء نظام من حزب المؤتمر إلى السلطة في عام 1972، ولكن الفساد كان مستشريا فيه. كانت مشاعر السخط متغلغلة في الريف، حيث اتسمت حيازة الأراضي بقدر كبير من التفاوت، وفي المدن حيث حدث ارتفاع حاد في أسعار السلع الضرورية. كانت الجماعات اليسارية - بقيادة الحزب الشيوعي الهندي - قد شكلت جبهة أهدافها بسيطة واسمها معقد: «بيهار راجيا مهانجاي أبهاب بيشا كار فيرودهي مزدور سوا كرمتشاري سانجهارشا ساميتي» (لجنة ولاية بيهار للعمال والموظفين المعنية بمحاربة ارتفاع الأسعار والضريبة المهنية). خلال الأسبوع الأخير من عام 1973، نظمت الجبهة سلسلة من المظاهرات الشعبية، سمع فيها النداء: «أعطونا العمل والطعام، وإلا أوقفنا الحياة.» وهو ما فعلوه بالضبط.
استثارت تلك الاحتجاجات التي قادها اليسار منافسة مع اتحاد طلاب عموم الهند، ذي الصلة بحزب جانا سانج؛ فذلك الاتحاد وغيره من الجماعات الطلابية غير الشيوعية تجمعوا في جبهة متحدة خاصة بهم، هي تشاترا سانجهارش ساميتي، التي نمت بسرعة وسرعان ما أصبح لها فروع في معظم بلدات الولاية. وسادت الإضرابات الحياة الدراسية، وتوقف التدريس في القاعات بغتة.
وفي 18 مارس 1974، خرجت جبهة تشاترا سانجهارش ساميتي في مسيرة إلى مجلس الولاية في باتنا. وعندما صدتها الشرطة، أضرمت الجماهير المتقهقرة النار في مبان حكومية، ومخزن لمؤسسة الغذاء الهندية، ومكتبي صحيفتين. اشتبكت الشرطة مع المتظاهرين في مناطق عدة من المدينة، فأصيب عدة طلاب بجروح خطيرة، بينما قتل ثلاثة على الأقل. وذاع نبأ الاضطرابات، مما أثار اشتباكات بين الطلاب والشرطة في جميع أنحاء الولاية.
32
عقب أحداث 18 مارس طلب الطلاب من جايا براكاش نارايان أن يتقدم ليتولى قيادة حركتهم. كان جايا براكاش نارايان آنذاك في الحادية والسبعين من عمره، وصاحب باع طويل في الحركات المسلحة والسلمية، وقد تبنى أو أثار مائة قضية معظمها جدير بالنضال. كان قد عمل في السنوات الأخيرة على إقامة صلح في ناجالاند وكشمير، وسعى إلى تفهم الناكسل، وأقنع عصابات وادي تشامبل السيئة السمعة بإلقاء سلاحها. وقد وجد أنه يستحيل عليه رفض دعوة الطلاب؛ فمنذ زمن بعيد كان هو نفسه قد بدأ حياته طالبا راديكاليا. كان ذلك في ولاية ويسكونسن الأمريكية، وكان النداء صادرا الآن من مسقط رأسه؛ بيهار.
في حياة جواهر لال نهرو، جمعته بنارايان مواقف عديدة؛ فقد حاول الرجل العجوز إقناع نارايان بالانضمام إلى مجلس وزرائه، ولكن نارايان آثر البقاء خارجه، ومن موقعه هذا أخذ ينتقد نهرو ويوبخه، ولكنه على الرغم من ذلك كان مخلصا لنهرو، وفجع بوفاته. ومن خلال صداقتهما، عرف نارايان ابنة نهرو أيضا؛ فكان أحد أول مهنئي السيدة غاندي عندما أصبحت رئيسة الوزراء، وفي الأعوام التالية كان كثيرا ما يسدي إليها النصح (دون طلب منها). وقد أثنى على قيادتها إبان الحرب من أجل بنجلاديش، ولكنه كان أقل تقبلا لسلوكها أثناء الانتخابات الرئاسية، وفيما يتعلق بإحلال قضاة المحكمة العليا وتبديلهم (كما رأينا).
33
عندما طلبت تشاترا سانجهارش ساميتي إلى نارايان قيادة حركتها، وافق بشرطين: أن تلتزم السلمية بكل صرامة، وألا تقتصر على بيهار. وفي يوم 19 مارس، بعد اشتباكات باتنا مباشرة، قال نارايان إنه لم يعد بإمكانه «الوقوف موقف المتفرج أمام سوء الحكم والفساد وما إلى ذلك، سواء أكان في باتنا أم دلهي أم أي مكان آخر». وأردف: «ليس هذا ما أردته بقتالي من أجل الحرية.» وآنذاك قرر «محاربة الفساد وسوء الحكم وممارسات السوق السوداء والتربح والاكتناز، والكفاح من أجل إحداث إصلاح شامل للتعليم، ومن أجل ديمقراطية شعبية حقيقية».
34
كان نارايان شخصية ذات نفوذ أخلاقي عظيم؛ إذ كان أحد أبطال معركة الحرية، الذين لم تلوثهم المكاسب المادية للمناصب العامة، بخلاف آخرين كثر. وقد أعطى معركة بيهار دفعة هائلة، وغير اسمها أيضا؛ فما كان حتى تلك اللحظة «حركة بيهار» أصبح «حركة جايا براكاش ». وقد طلب من الطلاب مقاطعة دروسهم، وترك دراستهم لمدة سنة من أجل العمل على نشر الوعي بين الناس؛ فحدثت اشتباكات في جميع أنحاء بيهار بين الطلاب الساعين إلى إغلاق المدارس والكليات، وبين الشرطة التي استدعتها السلطات من أجل إبقائها مفتوحة. في المدن على الأقل، حظيت الحركة بتأييد واسع الانتشار؛ ففي مدينة جايا - على سبيل المثال - أغلقت المحاكم وأماكن العمل نتيجة «خروج ربات بيوت من عائلات محترمة في المدينة، نادرا ما كن يشاهدن إلا من وراء حجاب، في إضرابات مع أولادهم الصغار». حاولت السلطات إخلاء الشوارع، ولكن ذلك أثار أعمال عنف؛ حيث راح الطلاب يمطرون الشرطة بوابل من الزجاجات والعصي فردت الشرطة عليهم بالرصاص. وعندما هدأت حدة القتال، كشف عن ثلاثة قتلى، وعشرين مصابا في حالة خطرة.
35
حدثت واقعة جايا في منتصف أبريل 1974، وحينذاك تجددت الدعوة إلى حل مجلس الولاية التشريعي، وفرض الحكم الرئاسي اقتداء بجوجارات. ويوم 5 يونيو، قاد نارايان مسيرة هائلة في شوارع باتنا، توجت في مؤتمر عند ميدان غاندي؛ حيث دعا نارايان إلى «ثورة شاملة» تعويضا عن الوعود التي لم تف بها حركة التحرير. وقال نارايان إن الهند تحررت منذ سبعة وعشرين عاما، إلا أن «الجوع، وارتفاع الأسعار، والفساد، هذه الأمور مستشرية في كل مكان؛ فالشعب مطحون بين رحى الظلم بكافة أنواعه». وإذ توجه بحديثه إلى الطلاب الحاضرين بين الجموع، حذر من أن الطريق سيكون وعرا، قائلا:
ستضطرون إلى تقديم تضحيات، والتعرض لضروب من المعاناة، ومواجهة العصي والرصاص، ودخول السجن. وستصادر الممتلكات.
إلا أنه كان على قناعة بأن الكفاح سيؤتي ثماره في النهاية، وهو ما عبر عنه بقوله:
غاندي جي تحدث عن نيل الحرية خلال عام واحد، واليوم أنا أتحدث عن نيل حكم شعبي حقيقي خلال عام واحد؛ ففي غضون عام سيظهر الشكل الصحيح من التعليم. أعطونا عاما واحدا لبناء بلد جديد، بيهار جديدة.
36
جاء نارايان على ذكر لفظ «الثورة الشاملة» لأول مرة في ذلك المؤتمر؛ فكان اللفظ، والكفاح، والأطراف المختارون لقيادته كلهم يذكرون بأنشطة رئيس الحزب الشيوعي الصيني قبل عقد من الزمان؛ ففي خريف عمر ماو تسي تونج، كان قد دعا الشباب - «الحرس الأحمر» في حالته - إلى تخليص المجتمع من صور الفساد المتراكمة فيه، والإطاحة بالرجعيين وأصحاب الميول الرأسمالية الذين يعترضون طريق إقامة المجتمع المثالي. أشار روبرت جاي ليفتون إلى أن الثورة الثقافية استوجبها سخط ماو إزاء الفجوة بين التوقعات والواقع، وتطلعه بفارغ الصبر إلى إحداث تحول في الصين قبل أن يبارح هو نفسه هذه الأرض. وأنا أجد هذه الحجة مقنعة، لا سيما أنها تساعد أيضا على تفسير الأحداث التي وقعت في بيهار والهند عام 1974؛ التحول المفاجئ إلى السياسة الراديكالية من جانب رجل كان قد تنكر للسياسة برمتها منذ أعوام طويلة؛ فخلال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين انشغل نارايان بالعمل الاجتماعي والتوفيق بين الأطراف المتنازعة ومد جسور التفاهم بينها. ثم إنه في تلك اللحظة تحول - على غرار ماو تسي تونج - إلى الطلبة، وإلى ما سماه «يوفا شاكتي» (أي، قوة الشباب)، حتى يحققوا الثورة الشاملة التي كان يحلم بها في أيام شبابه.
37
فيما بين واقعة جايا وخطاب نارايان في باتنا، أصيبت البلد بالشلل إثر إضراب في السكك الحديدية، قاده الاشتراكي جورج فرنانديس. دام الإضراب ثلاثة أسابيع، توقفت خلالها حركة الأشخاص والبضائع. شارك في الإضراب مليون من عمال السكك الحديدية. وكانت السكك الحديدية الغربية، التي تخدم مركز الصناعة في البلد، هي الأكثر تضررا. وقامت تظاهرات عنيفة في بلدات ومدن متعددة، وفي عدة مناطق استدعي الجيش لإعادة السلام.
38
وبينما استمر الإضراب، قامت الهند بتجربة نووية؛ فلسنوات، كان العلماء يضغطون على الحكومة حتى تجري تلك التجربة من هذا النوع، وعندما وافقت رئيسة الوزراء أخيرا، في مايو 1974، كان ذلك يرجع إلى أن التجربة ساعدت على تحويل الانتباه عن التحديات التي فرضها عمال السكك الحديدية والطلاب في بيهار. وقد بث الانفجار في نفوس بعض الناس دفقة من مشاعر الكبرياء الوطني؛ فحسبما كتب أحد الصحفيين، ساد «دلهي جو من الإثارة لا لبس فيه» عندما وصلت أنباء التجربة النووية، فقد اجتمع أعضاء البرلمان في القاعة المركزية بمبنى البرلمان لتبادل التهنئة؛ فبالنسبة إليهم «كان إضراب السكك الحديدية والمشكلات الاقتصادية المتعددة التي يعاني منها البلد، قد تواريا فجأة عن نظرهم».
39
كان ثمة آخرون أقل انبهارا بالحدث؛ إذ أشاروا إلى أن عضوية الهند في النادي النووي لا يمكن أن تغير حقيقة أنها تحتل المرتبة رقم 102 بين دول العالم من حيث دخل الفرد. وكذلك ندد بالتجربة في باكستان، باعتبارها انتكاسة في تطبيع العلاقات بين البلدين.
40
عقب التجربة النووية، تبادلت السيدة غاندي سلسلة من الرسائل مع جايا براكاش نارايان، بدأت بنبرة مهذبة ولكنها انتهت بحدة؛ ففي يوم 22 مايو، كتبت رئيسة الوزراء إلى نارايان معربة عن قلقها حيال سوء حالته الصحية، وأملها في أنه نظرا للصداقة الطويلة التي جمعت العائلتين، سيمكن التعبير عن خلافاتهما السياسية «دون مرارة شخصية أو تشكيك أي منهما في دوافع الآخر». رد نارايان بأن السيدة غاندي مخادعة؛ إذ إنها أشارت في خطاب ألقته مؤخرا في بوبانيشوار إلى مخالطة نارايان للأغنياء، و«إقامته في بيوت الضيافة الفاخرة لكبار رجال الأعمال». وقال إن تلك التعليقات «آذتني وأغضبتني». ثم أضاف أن تعليقاتها الأخيرة لم تبد «فيها إساءة فهم بالغة لي فحسب، وإنما فاتها أيضا - في مجازفة بمواجهة عواقب مأساوية - معنى الانتفاضة التي تختمر من أسفل».
ردت السيدة غاندي فورا، موضحة أنه في تلك التعليقات عن قيادات حركة سارفودايا، «لم أذكر اسمك أو أوجه إليك أي تلميحات مستهزئة. لا يسعني أن أمنع بعض الصحف من إضافة تأويلها الخاص». (كان ذلك خداعا بالفعل؛ فالتأويل الذي توصلت إليه الصحف كان هو التأويل الوحيد الممكن في تلك الظروف.) وأشارت إلى أنه حتى لو كان هو نفسه منيعا أمام الفساد، فربما لم يكن شركاؤه مثله. ولهذا السبب كانت بعض أفكاره «التي تبدو لي مثالية إلى حد بعيد، ربما تنجح إذا كان الشعب كله يتألف من أمثال جايا براكاش». وكذلك شككت السيدة غاندي في زعمه بأنه الضمير الأخلاقي للأمة، قائلة: «اسمح لي أيضا أن ألفت نظرك - بكل تواضع - إلى أنه من الممكن أن يكون ثمة آخرون، قد لا يكونون من أتباعك، مهتمون بهذا البلد بالقدر ذاته، وبرفاهة الناس، والحاجة إلى تطهير الحياة العامة من الضعف والفساد.»
أنهى نارايان سلسلة الرسائل المتبادلة بعد ستة أسابيع من بدئها، فقال إنه كان يأمل أن تتحلى بالكياسة الكافية لأن توضح «علنا» أنها في إدلائها بتلك التعليقات في بوبانيشوار لم تكن تطعن في نزاهته وشخصه. وقد تأذى من عدم تقديمها ذلك التوضيح؛ فعلى حد تعبيره: «أنا مجرد مواطن عادي، ولكني أحترم نفسي.» وما بدا واضحا كان أن «سوء التفاهم بيننا يزيد ولا يقل بمراسلاتنا».
41
ثم حان وقت العودة إلى الحركة؛ ففي شهر أغسطس طاف نارايان أنحاء ريف بيهار، حيث لقي استقبالا حافلا؛ فقد دون الصحفي أجيت باتاشارجي في مذكراته الوصف التالي: «جايا براكاش آت في موكب ... والمتفرجون مصطفون مهللين في الطرقات. ثمة أقواس كل مائة ياردة أو نحوها. السيارة تمر ببطء من بين الحشود متجهة إلى المنصة. ثم يرتقي نارايان الدرجات بمساعدة معاونيه، متوقفا عند كل درجة.» دعا نارايان بعد جولته إلى عقد مؤتمر لجميع الأحزاب المعارضة - عدا الحزب الشيوعي الهندي - بغية «توجيه الحماس السائد بين الناس نحو الحركة الشعبية على المستوى الوطني». وكتب نارايان أن النضال في بيهار «اكتسب أهمية على مستوى الهند قاطبة، وقد أصبح مصير البلاد مرتبطا بنجاحه أو فشله». وناشد الاتحادات العمالية، ومنظمات الفلاحين، والهيئات المهنية أن ينضموا إلى الركب.
42
كان أحد أحزاب المعارضة على الأقل حاضرا بالفعل في حركة جايا براكاش، ألا وهو: جانا سانج؛ فجناحه الطلابي - اتحاد طلاب عموم الهند - كان من المشاركين فيها منذ البداية، وقد بدأ ناشطوه الأكبر سنا يتبوءون مناصب رئيسية في الحركة؛ فكتب أحد شركاء جايا براكاش الغانديين في انزعاج قائلا: «إن قيادة الحركة تنتقل إلى حزب جانا سانج، على المستويات المحلية على الأقل.» وأعرب عن قلقه أيضا من أن «الرجل العادي ليس ملما بأساليب حركتنا وقيمها بعد، حيث لا تزال جاذبيتها بالنسبة إليه أقرب إلى السلبية من أن تكون بناءة».
43
قدم آر كيه باتيل، موظف دائرة الخدمة المدنية الهندية السابق الذي أصبح فيما بعد أخصائيا اجتماعيا محترما في ريف مهاراشترا، نقدا أكثر تفصيلا لحركة جايا براكاش؛ فبناء على دعوة جايا براكاش، قضى باتيل أسبوعين في بيهار، تنقل خلالهما في أنحاء الولاية وتحدث إلى شريحة عريضة متباينة من الناس. وفي رسالة طويلة (ومميزة) كتبها إلى نارايان - بتاريخ 4 أكتوبر 1974 - أقر بأنه «لا يوجد شك في الحماس الشعبي الهائل المتولد عن الحركة»؛ فقد شاهد «حشودا غير مسبوقة تحضر اجتماعاتكم وسط صمت كامل». إلا أن تلك الحشود تكون أقل انضباطا عندما تتصرف من تلقاء نفسها، كما في الهجمات التي شنتها على مجلس الولاية، وفي منع حاكم بيهار من إلقاء خطابه السنوي بالقوة.
وتساءل باتيل عما إذا كانت وسائل الاحتجاج المتبعة في بيهار متماشية تماما مع المعايير الغاندية، ولكنه مضى إلى أبعد من ذلك سائلا: «ما النطاق المتاح للمقاومة السلمية والعمل المباشر في ديمقراطية إجرائية كديمقراطيتنا؟» وقال باتيل إن المطالبة بحل مجلس منتخب بحسب الأصول، «تجعل انتفاضة بيهار منافية للدستور والديمقراطية على حد سواء». صحيح أنه يجب إصلاح العملية الانتخابية، بجعلها أكثر شفافية وتطهيرها من تأثير السلطة والمال، إلا أنه ما إن تعقد انتخابات، فلا بد من احترام نتيجتها؛ لأنه «ما من سبيل آخر للتحقق من الرأي العام للشعب في أي دولة قومية إلا عن طريق الانتخابات الحرة النزيهة».
واختتم باتيل رسالته بقوله إنه «مدرك تماما للعيوب الظاهرة التي تشوب الحكومة التي ترأسها إنديرا غاندي». ولكنه على الرغم من ذلك لم يكن متأكدا من «حكمة الاستعاضة عن قانون «الحكم بالمناقشة» بقانون «الحكم برأي الشارع العام»». وكتب باتيل إلى جايا براكاش قائلا: «اليوم أنتم قوة تسعى إلى الخير، ولكن التاريخ سجل أن الجماهير يمكن أن تفرز سفاحين أمثال روبسبير أيضا. وربما كان هذا مبعث نفوري الغريزي من الانتفاضات على شاكلة انتفاضة بيهار.»
44
في يوم 1 نوفمبر 1974، عقدت السيدة غاندي ونارايان اجتماعا مطولا في نيودلهي، وافقت رئيسة الوزراء خلاله على إقالة وزارة بيهار، بشرط تخلي الحركة عن مطالبتها بحل المجالس التشريعية الأخرى في الولاية. ورفض ذلك الحل الوسط. كان الاجتماع حادا، وإن انتهى ببادرة مؤثرة تمثلت في إعادة نارايان الرسائل التي كتبتها والدة السيدة غاندي - كمالا نهرو - إلى برابهافاتي، زوجة نارايان التي كانت قد توفيت حديثا.
45
بعد مرور ثلاثة أيام، تعاملت الشرطة مع نارايان بخشونة وهو في طريقه إلى مؤتمر شعبي في باتنا. وبينما كان يتفادى إحدى عصيهم، تعثر وسقط على الأرض؛ فنشرت الصورة في جميع الصحف في اليوم التالي. كان رجلا عجوزا وكذلك مريضا (مصابا بمرض السكر)، وعلى الرغم من أن إصابته كانت طفيفة، فقد أثارت تلك الإهانة موجة غضب عارمة؛ فشبهت إدارة بيهار بسالفتها الاستعمارية، وكما كتبت إحدى الصحف، في شيء من المبالغة: «كان نارايان ضحية قمع الشرطة لأول مرة في تاريخ الهند الحرة.»
46
6
في سبتمبر 1974، حصلت جمهورية الهند على رقعة أرض مثلت فيما مضى دولة سيكيم شبه المستقلة؛ ففي حين كان لسيكيم علمها وعملتها الخاصان بها، وحكمتها سلالة ملكية - عرفت بالتشوجيال - فقد كانت معتمدة على نيودلهي اقتصاديا وعسكريا. عام 1973 بدأ بعض مواطني المملكة يطالبون بإنشاء مجلس نيابي؛ فطلب التشوجيال من حكومة الهند مساعدته على ترويض التمرد، ولكن عوضا عن ذلك عملت نيودلهي على تأجيجه؛ فعندما اقترح تشكيل مجلس تشريعي وأجريت انتخابات، فاز الحزب الموالي للهند بجميع المقاعد عدا واحد؛ فأجبر التشوجيال على التنحي، وعدل دستور الهند لجعل سيكيم «دولة منتسبة» للاتحاد الهندي، لها تمثيل في البرلمان.
47
كانت سيكيم ولاية جميلة جدا، ولها حدود مشتركة مع الصين أيضا؛ ففي أي وقت آخر، كانت رئيسة الوزراء ستجد راحة في هذه الإضافة لأراضي الدولة، ولكن ضم سيكيم لم يقدم إلى السيدة غاندي سوى تشتيت مؤقت عن معركتها مع جايا براكاش نارايان؛ فبحلول نهاية عام 1974، كانت حركة بيهار على وشك أن تصير حركة وطنية بحق؛ فقد تدفقت رسائل تأييد لنارايان من جميع أنحاء البلاد، وأرسل أحد أنصار نارايان في أندرا براديش رسالة حياه فيها على «فتح آفاق جديدة في عمر يتقاعد الناس فيه»، وأعرب عن كل «الإعجاب والاحترام للحركة التي تعمل تحت توجيهه».
48
وكان سياسيون بارزون يزورون بيهار ويعدون بنقل أفكار النضال معهم إلى ولاياتهم. وفي الأسبوع الأخير من نوفمبر، عقد نارايان اجتماعا لأحزاب المعارضة في نيودلهي، أعرب فيه عن رأيه المتمثل في أن الدرس المستفاد من بيهار هو الحاجة إلى «إحداث تغييرات راديكالية في جميع الأنحاء، على الصعيد المؤسسي وكذلك الأخلاقي، تتضمن إحداث تغييرات جذرية في السياسات الحكومية في الحكومة المركزية وكذلك الولايات».
49
قد يتراءى لنا اعتبار حركة جايا براكاش انبعاثا جديدا على مستوى وطني للكفاح الشعبي ضد الحكومة الشيوعية في كيرالا في 1958-1959؛ فأوجه الشبه بين الحالتين غريبة، فمن ناحية كانت ثمة حكومة منتخبة وفقا للقانون اشتبه في رغبتها تقويض الدستور، ومن ناحية أخرى كانت ثمة حركة شعبية تعمل على استمالة أحزاب المعارضة وكثير من الهيئات غير السياسية. ومثل مانات بادمانابهان، كان جايا براكاش نارايان زعيما لا غبار على نزاهته، قديسا استدعي لإنقاذ السياسة من براثن السياسيين. وكان سلوكه متناقضا تماما مع خصمه الرئيسي - أو هكذا بدا - فمثل إي إم إس نامبوديريباد في 1958-1959، لم تكن السيدة غاندي راغبة في النزول على طلب خصومها والتنازل عن السلطة طوعا.
كانت تلك خصومة سياسية، ولكنها شخصية أيضا؛ فبصفة جايا براكاش نارايان محاربا متمرسا في المعركة من أجل الحرية، ورفيقا لوالد السيدة غاندي، كان من المحتم أن ينظر إليها على أنها مبتدئة نوعا ما. أما رئيسة الوزراء، فنظرا لكونها ربحت انتخابات وحربا مؤخرا، فقد رأت جايا براكاش ساذجا سياسيا، والأجدر به أن يكتفي بالعمل الاجتماعي.
بحلول نهاية عام 1974، كان الاستقطاب شبه كامل؛ فكثير من الهنود لم يكونوا منتمين إلى حزب جانا سانج اليميني، ولكنهم على الرغم من ذلك رأوا حزب المؤتمر مفرط الفساد، والسيدة غاندي مفرطة التبلد في مواجهة الانتقادات. وبلغ الأمر بالبعض حد الإشادة بحركة جايا براكاش باعتبارها «النضال الثاني من أجل الحرية»، الذي يعمل على إتمام المهمة التي لم يكملها النضال الأول. وكان ثمة هنود كثيرون آخرون، لا ينتمون بالضرورة إلى حزب المؤتمر، ولكنهم تضرروا من اتحاد جايا براكاش مع حزب جانا سانج في قضيته، ورأوا حركته على أنها تقوض مؤسسات الديمقراطية النيابية؛ فكان النوع الأول من الهنود ينتقد إنديرا غاندي بشدة، بينما انتقد النوع الثاني جايا براكاش، وإن كان أقل حماسة في انتقاداته.
50
في الأسبوع الأول من يناير 1975، اغتيل أحد كبار مساعدي رئيسة الوزراء في ولاية نارايان، بيهار. كان ذلك هو إل إن ميشرا، الذي حمل عدة مناصب في وزارة الاتحاد تحت رئاسة السيدة غاندي، والأهم من ذلك أنه كان من أكبر جامعي الأموال لحزب المؤتمر. كان ميشرا سياسيا عديم الأيديولوجية كليا، جمع مبالغ كبيرة من المال من الاتحاد السوفييتي وطبقة رجال الأعمال الهنود. لم يكن واضحا من اغتاله؛ خصم شخصي أم أحد أعضاء الاتحادات العمالية الذين شعروا بالمرارة إزاء دور ميشرا في قمع إضراب السكك الحديدية عام 1974. وقد ألقت رئيسة الوزراء مسئولية الاغتيال على عاتق «مذهب العنف» الذي زعمت أن جايا براكاش نارايان وحركته يروجان له.
51
لم يعطل مقتل ميشرا خطط نارايان للخروج في مسيرة إلى البرلمان في الربيع، عندما يصير الطقس أكثر ترحابا بمجيء المحتجين من جميع أنحاء البلاد. وطوال شهري يناير وفبراير تنقل نارايان عبر أنحاء الهند قاطبة لحشد الدعم،
52
وحث الناس في خطبه على التزام السلم، وقال إن أي أحداث غير مواتية ستدفع رئيسة الوزراء إلى فرض سلطات دكتاتورية. وزعم في عدة مناطق أن السيدة غاندي تبحث عن عذر للقبض عليه، وتنبأ بأن ذلك لن يفلح إلا في زيادة انتشار الحركة، كما عام 1942، عندما اشتدت حدة حركة «ارحلوا عن الهند» لاعتقال المهاتما غاندي.
قارن جايا براكاش نفسه بغاندي ضمنيا، وقارن بوضوح أكبر بين نظام حزب المؤتمر والدولة الاستعمارية. كانت تلك مقارنات رفضتها رئيسة الوزراء بطبيعة الحال؛ ففي حوار أجرته معها صحيفة يابانية، قالت إنه في حين إنها لم تكن متأكدة مما تسعى إليه حركة جايا براكاش، «فما تعمل ضده واضح؛ إنها ضد حزبي، وضدي شخصيا، وضد كل ما دافعت عنه من قبل وما لا أزال أدافع عنه اليوم».
والحقيقة أنه بحلول ذلك الوقت، كان بعض الأعضاء في حزب السيدة غاندي متعاطفين مع الجانب المقابل. كان منهم اثنان ممن كان يطلق عليهم قبلا «الشباب المتمردون»؛ هما: تشاندرا شيكار وموهان داريا؛ فقد دعا شيكار وداريا إلى إقامة حوار وطني بشأن ارتفاع الأسعار والفساد والبطالة، وهي القضايا التي قالا إنها احتلت مكانة بارزة في بيان حزب المؤتمر نفسه لعام 1971.
علق رجل آخر بين هذا الجانب وذاك، وهو الشيخ محمد عبد الله؛ فقد توصل إلى اتفاق مع الحكومة أخيرا، ينتخبه بموجبه حزب المؤتمر التشريعي في جامو وكشمير زعيما له، ومن ثم رئيسا لوزراء الولاية أيضا. ثم ذهب إلى مؤسسة غاندي للسلام قبل تنصيبه بيومين، لنيل بركة صديقه ومؤيده القديم، جايا براكاش نارايان؛ فحملت الصحف صورة لهما في عناق قوي، بدت فيه قامة الكشميري فارعة إلى جوار تلميذ غاندي.
قال جايا براكاش للصحافة إنه يرحب بعودة الشيخ إلى كشمير؛ إذ كانت الولاية - على حد قوله - بحاجة إلى الشيخ عبد الله ليدير دفتها، لكن أصدقاءه في حزب جانا سانج هاجموا الاتفاق الذي أعاد «أسد كشمير» إلى السلطة. وزعم رئيس الحزب - إل كيه أدفاني - أن عبد الله لا يزال «يريد استخدام أداة السلطة لتحقيق طموحه في نيل الاستقلال لكشمير». ونظر آخرون إلى الأمر من زاوية مختلفة تماما؛ فبعدما أدى الشيخ قسم رئاسة الوزارة يوم 25 فبراير، وصفت صحيفة «إنديان إكسبريس» الحدث بأنه «حدث ملحمي في تاريخ الهند الحرة». فقد مثلت عودة عبد الله إلى منصبه القديم، بعد ثلاث وعشرين سنة من إرغامه على تركه، «شهادة على صلابة الديمقراطية الهندية ونضجها؛ إذ إنه لا يمكن التوفيق بين أخطر الخلافات وعقد المصالحات في إطار الولاء المشترك للبلاد إلا في ظل نظام ديمقراطي بحق».
بدا أن مسألة كشمير قد حلت أخيرا، وكان جايا براكاش مسرورا جدا بعودة الشيخ عبد الله إلى التيار الرئيسي؛ فكان متفقا في ذلك الأمر - ربما دون سواه - مع السيدة غاندي؛ ففي نفس اليوم الذي أدى فيه عبد الله القسم في جامو، دعا نارايان إلى «هبة وطنية» لإبعاد «زعماء حزب المؤتمر الفاسدين عن السلطة»، وانضم إليه حزب جانا سانج في دعوته على الرغم من معارضته إياه بشأن كشمير؛ فهكذا كانت تناقضات السياسة الهندية.
في 2 مارس، قبل المسيرة المقررة إلى البرلمان بأربعة أيام، أخرجت السيدة غاندي موهان داريا من مجلس وزرائها، وكان خطؤه أنه طلب منها استئناف المحادثات مع نارايان؛ فاستجاب نارايان بمطالبة الوزراء القدامى من قبيل واي بي تشافان وجاجيفان رام بتقديم استقالتهم على سبيل الاحتجاج، ومن ثم «إنقاذ حزبهم من الدمار» واستعادة «قيمه الأساسية».
في 3 مارس، عقد مفتش الشرطة العام في دلهي اجتماعا بخصوص كيفية التعامل مع المحتجين الذين سيفدون في الأيام المقبلة؛ فتقرر أن يكون 15 ألف شرطي على خط المواجهة. وبغية الحد من عدد المشاركين في المسيرة، حظرت الإدارة دخول الشاحنات والحافلات من الولايات المجاورة.
على الرغم من الحظر على الحافلات، بدأ الناس يتوافدون إلى العاصمة، وسكنوا في مخيمات خارج القلعة الحمراء، أصبحت تدعى الآن جايا براكاش ناجار. وصبيحة يوم 6 مارس، بدءوا المسير صوب مكان المؤتمر الشعبي؛ مروج نادي القوارب، الملاصقة لمقري غرفتي البرلمان. قاد المسيرة جايا براكاش نارايان، في سيارة جيب مكشوفة. هتفت الحشود المتجمعة على طول الطريق مهللة لنارايان، الذي قدم لهم أطواق الزهور وأمطرهم ببتلات الورد. وكانت الشعارات المعروضة موجهة إلى خصمه بالأساس؛ فقال أحدها بالإنجليزية ما مفاده: «أخل العرش؛ فالشعب قادم.» ونص شعار مشابه لكنه مكتوب باللغة الهندية على ما يلي: «قلب الشعب يغرد: نظام إنديرا يتداعى.» وأتت خلف نارايان سيارات جيب تحمل زعماء الأحزاب المعارضة؛ فكانت إجمالا إحدى أكبر المسيرات التي شوهدت في دلهي يوما، وقدر أن عدد المشاركين فيها بلغ 750 ألف شخص. تضمنت المسيرة ممثلين عن الهند كافة، لكن أكبر الجماعات المشاركة بلا منازع جاءت من ولايتي أوتر براديش وبيهار.
عند مروج نادي القوارب، تحدث جايا براكاش في «صوت مشحون بالمشاعر»، وقارن أحداث ذلك اليوم بمسيرة غاندي التاريخية؛ «مسيرة الملح»، وطلب من الجماهير أن تتأهب لنضال طويل. وبعد المؤتمر، تزعم وفدا إلى البرلمان؛ حيث قدم لرئيسه قائمة بمطالب الحركة. تضمنت المطالب حل مجلس بيهار التشريعي، وإصلاحات انتخابية، وإقامة محاكمات للتحقيق في مزاعم انخراط حزب المؤتمر في فساد متفش.
ردت السيدة غاندي على نارايان بعد يومين، في خطاب ألقته في مدينة روركيلا، معقل صناعة الصلب؛ فقالت إن المحرضين على الاضطرابات عازمون على تدمير نسيج الديمقراطية الهندية. ودون ذكر اسم عدوها، ادعت أن حركته تتلقى تبرعات من الخارج. وفي يوم 18 مارس، قاد نارايان مسيرة إلى باتنا بمناسبة الذكرى الأولى لقيام الحركة، تضمنت المسيرة كثيرا من الغناء والرقص وقذف الألوان؛ إذ تزامن ذلك اليوم مع مهرجان الألوان («هولي») أيضا. وحث نارايان في خطابه على إنشاء حزب معارضة واحد، أو على الأقل، جبهة مشتركة لمحاربة حزب المؤتمر في جميع الانتخابات المستقبلية.
كانت لحركة نارايان جذور راسخة في الولايات الشمالية، وكان لنارايان مؤيدون في الغرب، خاصة في جوجارات، ولكن الجنوب كان منطقة لا تزال خارج نطاق نفوذه في معظمها؛ ومن ثم شرع في جولة طويلة في الولايات الواقعة جنوب سلسلة جبال فيندهيا؛ حيث اجتذب حشودا لا بأس بها وإن لم تكن هائلة بأي حال؛ ففي تاميل نادو، تذكر الناس بامتنان أنه عارض فرض اللغة الهندية.
53
7
بينما أخذت حركة جايا براكاش تكتسب زخما، واجهت رئيسة الوزراء تحديا من نوع آخر، ليس في صورة ترديد شعارات متحمسة في الشوارع، وإنما بلغة القانون الباردة. كان مشهد ذلك الحدث هو المحكمة العليا في الله أباد، التي قدم إليها التماس من جانب راج ناراين، الاشتراكي الذي خسر أمام السيدة غاندي في انتخابات رايباريلي البرلمانية لعام 1971. زعم الالتماس أن رئيسة الوزراء فازت بواسطة ممارسات فاسدة، لا سيما إنفاق المال بقدر أكبر من المسموح به، واستخدام الأجهزة الرسمية وموظفي دوائر الخدمات الحكومية في حملتها الانتخابية. استمرت القضية طوال عامي 1973 و1974، اللذين قدمت خلالهما الحجج والحجج المضادة إلى القاضي، جاج موهان لال سينها.
54
وفي يوم 19 مارس 1975، أصبحت إنديرا غاندي أول رئيسة وزراء هندية تستدعى للشهادة في المحكمة. قضت خمس ساعات على منصة الشهود، ردت خلالها على أسئلة بخصوص حملتها الانتخابية. كانت رئيسة الوزراء قد تركت ابنها سانجاي في دلهي، أما من حضر معها فكان ابنها الأكبر راجيف، الذي «اصطحب زوجته الإيطالية، سونيا، لمشاهدة منزل عائلة نهرو» بينما مثلت والدته أمام المحكمة.
55
في شهر أبريل، بدأ مورارجي ديساي - الذي كان خصم السيدة غاندي حتى قبل نارايان - صوما عن الطعام في جوجارات احتجاجا على استمرار الحكم الرئاسي فيها؛ فتراجعت نيودلهي، وأمرت بعقد انتخابات في يونيو. وبدأت أحزاب المعارضة عملية تشكيل جبهة مشتركة لمحاربة حزب المؤتمر.
عندما ذهبت جوجارات للاقتراع، في الأسبوع الثاني من يونيو، قال إل كيه أدفاني إن الحملة الانتخابية «سرعت وتيرة استقطاب الأحزاب السياسية، وسوف يعمل حزب جانا سانج على تعزيز هذه العملية». فقد كان يتطلع إلى زيادة قوة حزبه «أضعافا مضاعفة».
56
أثناء إحصاء الأصوات، تحول الانتباه إلى المحكمة العليا في الله أباد؛ ففي صبيحة يوم 12 يونيو، في قاعة رقم 15 - من محكمة مارس فيها كل من والد السيدة غاندي وجدها عملهما - قرأ القاضي سينها حكمه في القضية التي رفعها أمامه راج ناراين منذ ثلاثة أعوام؛ فحكم ببراءة رئيسة الوزراء في اثني عشر اتهاما من إجمالي أربعة عشر. أما الاتهامان اللذان أدانها فيهما، فكانا؛ أولا: أن حكومة أوتر براديش أقامت منابر خطابية عالية حتى تتيح لها مخاطبة اجتماعاتها الانتخابية «من موقع مسيطر»، وثانيا: أن مسئول حملتها الانتخابية - ياشبال كابور - كان لا يزال موظفا حكوميا وقت بدء الحملة الانتخابية؛ فبموجب هذا الحكم، أصبح انتخابها إلى البرلمان باطلا. إلا أن سينها سمح للسيدة غاندي إيقاف الحكم الصادر عنه عشرين يوما، لإتاحة الاستئناف أمام المحكمة الهندية العليا.
57
كان ذلك اليوم - 12 يونيو - يوما سيئا جدا على السيدة غاندي؛ فقد عرفت في الصباح الباكر أن معاونها القديم، دي بي دهار، توفي أثناء الليل. وبعدها بقليل جاءت الأنباء من جوجارات، التي كانت كئيبة أيضا، ومفادها أن «جبهة جاناتا» بصدد تحقيق أغلبية في انتخابات الولاية. وأخيرا جاءت هذه الضربة الأخيرة والأكثر دلالة، من بلدتها الله أباد.
أثار الحكم اهتماما مفرطا بنوايا القاضي؛ فقد تلقى القاضي سينها تعليمه في جامعة عليكرة، ومارس القانون في باريلي لمدة أربعة عشر عاما قبل أن يصبح قاضي محكمة المنطقة. عين في المحكمة العليا في الله أباد عام 1970، وزعم البعض أن حكمه كان متحيزا بسبب انتمائه إلى طائفة كياستا مثل جايا براكاش، وظن آخرون أنه في الأيام السابقة على صدور الحكم عرض عليه رجال رئيسة الوزراء مقعدا في المحكمة الهندية العليا لو حكم لصالح السيدة غاندي.
58
كان ما أبطل انتخاب السيدة غاندي اتهاما ثانويا إلى حد بعيد، إلا أن حكم القاضي سينها ركز المخيلة الشعبية أيضا على أخطر الاتهامات التي وجهتها إليها حركة جايا براكاش؛ ففي اليوم التالي على صدور الحكم، بدأ السياسيون المعارضون اعتصاما سلميا أمام القصر الرئاسي، مطالبين الرئيس بإقالة رئيسة الوزراء «الفاسدة». وفي باتنا ، أصدر جايا براكاش بيانا قال فيه إنه سيكون مدعاة «للعار والسخرية» إن استمعت السيدة غاندي إلى «أعوانها المتملقين» وبقيت في منصبها، وأشار كذلك إلى أن نتائج الانتخابات في جوجارات تلمح إلى أن «موجة إنديرا» و«سحر إنديرا» صارا من الماضي.
على صعيد آخر، كان الأعوان المتملقون شديدي الانشغال؛ ففي 13 يونيو، بدأ بانسي لال، رئيس وزراء هاريانا المنتمي إلى حزب المؤتمر، يجلب المؤيدين إلى دلهي كي يعلنوا ولاءهم للسيدة غاندي على الملأ؛ فامتلأت الشوارع المواجهة لمنزل السيدة غاندي عن آخرها بمعجبيها، وراحوا يهتفون بشعارات موالية لها ويحرقون دمى على شكل القاضي سينها. خرجت السيدة غاندي لتتحدث إليهم، قائلة إن القوى الأجنبية تتآمر مع معارضيها في الداخل للتخلص منها، وزعمت أن خصومها لديهم «أموال طائلة تحت تصرفهم».
كل يوم كانت مجموعة جديدة من المؤيدين تحتشد أمام منزل السيدة غاندي، وكل يوم كانت تخرج للتحدث إليهم. استنكر بعض أعضاء حزب المؤتمر في دخيلة أنفسهم تلك المظاهرات الشعبية، بينما شجعها البعض الآخر علنا. وقد تحدث رئيس حزب المؤتمر، ديف كانتا باروا، في اجتماع لحزب المؤتمر بدلهي، قال فيه إن «القوانين يصنعها الشعب، وقائدة الشعب هي السيدة غاندي». القضاة والمحامون - ومنهم إم سي تشاجلا، المحامي البارز الذي أصبح قاضيا، والذي كان عضوا في وزارة السيدة غاندي نفسها ذات يوم - رأوا أن رئيسة الوزراء ملزمة أخلاقيا بتقديم استقالتها، على الأقل حتى ينظر في الاستئناف ويحسم أمره. من ناحية أخرى، وقع 516 نائبا برلمانيا من حزب المؤتمر عريضة تحثها على البقاء، ووقع عشرة آلاف عضو في حزب المؤتمر من كارناتاكا عريضة مشابهة، بالدم. وفي منتصف الجدال في هذا الشأن، تعالى صوت من الجانب الآخر للحدود؛ فقد أعرب ذو الفقار علي بوتو عن قلقه من أن تجد السيدة غاندي سبيلا للخروج من صعوباتها عن طريق «مسار مغامر ضد باكستان».
في 20 يونيو، ألقت السيدة غاندي خطابا أمام تجمع هائل على مروج نادي القوارب، قيل إن مليونا من الناس حضروا التجمع، وهو عدد أكبر من عدد من حضروا لسماع جايا براكاش في البقعة ذاتها قبل ثلاثة أشهر. زعمت رئيسة الوزراء في حديثها أن المعارضة مصرة على تصفيتها جسديا. وتحدث دي كيه باروا بعدها، فقرأ بيتين من الشعر كان قد ألفهما بتلك المناسبة، مفادهما:
يا إنديرا، يحيا صباحك ومساؤك
وعظم عملك واسمك.
بعد يومين، ردت المعارضة بتجمع خاص بها، حضره مئات الآلاف، على الرغم من الأمطار الغزيرة. كان نارايان هو المتحدث الرئيسي، ولكن رحلته من كلكتا ألغيت في آخر لحظة (قالت الخطوط الجوية الهندية إن ذلك بسبب «عطل فني»)؛ فتحدث ممثلو أحزاب المعارضة الرئيسية، ودعا مورارجي ديساي إلى إنشاء حركة «حياة أو موت» للتخلص من نظام إنديرا غاندي.
في يوم 23 يونيو، بدأت المحكمة الهندية العليا النظر في استئناف السيدة غاندي. وفي اليوم التالي، أصدر القاضي في آر كريشنا وقفا مشروطا لحكم المحكمة العليا في الله أباد؛ فقال إن السيدة غاندي بإمكانها أن تحضر جلسات البرلمان، ولكن لا يمكنها التصويت حتى ينظر في الاستئناف بالكامل ويصدر حكم بصدده؛ فرأت صحيفة «إنديان إكسبريس» أن ذلك معناه أن السيدة غاندي «يجب أن تستقيل فورا لمصلحة الأمة ومصلحتها الشخصية».
بحلول ذلك الوقت، كان بعض كبار أعضاء حزب المؤتمر على الأقل يرون أن الاستقالة ستكون في مصلحة الحزب أيضا؛ فإذا لم يكن بإمكان إنديرا غاندي التصويت في البرلمان، فمن الصعب أن تقود حكومتها في أي شأن؛ فنصحت بالتنحي من منصبها مؤقتا ووضع أحد زملائها في مجلس الوزراء - شخصية توافقية مثل سواران سينج مثلا - محلها حتى تقر المحكمة الهندية العليا استئنافها (كما كان محاموها واثقين من أنه سيحدث)، مما يسمح بعودتها رئيسة للوزراء.
كان ممن ثنوا السيدة غاندي عن الاستقالة ابنها سانجاي ورئيس وزراء غرب البنغال، سيدارتا شانكار راي، المحامي المحنك الذي جاء من كلكتا للوقوف إلى جوارها. وقد أخذت السيدة غاندي بنصيحتهما دون تردد؛ فكما قالت السيدة غاندي فيما بعد لأحد مدوني سيرتها: «ماذا كان يسعني أن أفعل سوى أن أبقى؟ أنت تعلم حالة البلاد آنذاك؛ فماذا كان سيحدث لو أصبحت بلا قائد؟ كنت أنا الشخص الوحيد القادر على قيادتها، كما تعلم.»
59
ما إن اتخذ القرار، نفذ بسرعة مدهشة؛ ففي 25 يونيو، ساهم إس إس راي في صياغة مرسوم يعلن حالة الطوارئ الداخلية، وقعه الرئيس الطيع فخر الدين علي أحمد ما إن وضع أمامه. وفي تلك الليلة، قطع إمداد الطاقة عن صحف دلهي كافة، ومن ثم لم تصدر نسخ منها يوم 26 يونيو، وهجمت الشرطة على زعماء المعارضة، فأودعت جايا براكاش نارايان ومورارجي ديساي وآخرين كثرا السجن. وفي اليوم التالي، عرف الشعب في دلهي، وفي الهند قاطبة، من خلال الإذاعة المملوكة للدولة أن حالة الطوارئ قد أعلنت، وعلقت الحريات المدنية كافة.
في ذلك الوقت وبعده، ارتئي أن رد الفعل ذاك تجاوز الاستفزاز الأصلي بكثير؛ فالقاضي سينها أدان السيدة غاندي بتهمتين تافهتين، وكان تأويل المحكمة العليا الهندية لارتفاع المنصة باعتباره «ممارسة انتخابية سيئة» احتمالا أبعد. أما عن التهمة الثانية، فقد استقال ياشبال كابور من الخدمة الحكومية قبل الالتحاق بالحملة الانتخابية، وإن كان ثمة بعض الخلاف على تاريخ قبول استقالته؛ فكان معظم المحامين يعتقدون أن المحكمة الهندية العليا سوف تبطل حكم المحكمة العليا في الله أباد، إلا أنه على حد تعبير أحد الفقهاء القانونيين المحترمين في دلهي، فقد نبذت رئيسة الوزراء «مزايا الحل القضائي الطبيعي المتمثل في الاستئناف، ولجأت عوضا عنه إلى تدابير الطوارئ الاستثنائية، غير الديمقراطية وغير الدستورية».
60
قبل إعلان حالة الطوارئ بأربعة أشهر فحسب، حيت صحيفة «إنديان إكسبريس» «صلابة الديمقراطية الهندية ونضجها»، ذاكرة أنها أتاحت «التوفيق بين أخطر الخلافات وعقد المصالحات». والآن اضطرت الصحيفة إلى سحب كلامها؛ فالديمقراطية الهندية في نحو عام 1975 تمكنت من التوفيق بين وادي كشمير والاتحاد الهندي، ولكن ليس بين إنديرا غاندي وجايا براكاش نارايان.
الفصل الثاني والعشرون
خريف حكم إنديرا غاندي
أجيال المستقبل لن تتذكرنا بعدد الانتخابات التي أجريناها، وإنما بالتقدم الذي أحرزناه.
سانجاي غاندي، قالها في ديسمبر 1976
1
في يوم 26 يونيو 1975، في تمام الساعة 6 صباحا، انعقد اجتماع لمجلس الوزراء الهندي. أخطر الوزراء، وهم غافلون وعيونهم لا تزال غائمة من أثر النوم، بحالة الطوارئ السارية منذ منتصف الليل. وأخذت موافقتهم الرسمية قبل أن تمضي السيدة غاندي إلى ستوديو إذاعة «أول إنديا راديو» لتنقل الأنباء إلى أمة غافلة كوزرائها؛ فأعلنت أن «الرئيس أعلن حالة الطوارئ، وأنه لا يوجد ما يدعو للذعر». وقالت إن ذلك الإجراء كان استجابة ضرورية «للمؤامرة المتغلغلة والمتفشية التي ما انفكت تختمر منذ بدأت أطرح تدابير تقدمية بعينها، تعود بالنفع على الرجل والمرأة العادية في الهند». فقد كانت «قوى التفكك» و«النعرات الطائفية» تهددان وحدة الهند. وزعمت أن «هذه ليست مسألة شخصية؛ فلا يهم ما إذا ظللت رئيسة وزراء أم لا». إلا أنها أملت أن «تتحسن الأوضاع بسرعة حتى يتسنى لنا الاستغناء عن هذا الإعلان في أقرب وقت ممكن».
1
بدا في إنكار السيدة غاندي نبرة دفاعية؛ فالحقيقة الواقعة كانت أن إعلان حالة الطوارئ جاء في أعقاب أمر المحكمة الهندية العليا بمنعها من التصويت في البرلمان. عندما أعلنت حالة الطوارئ، كانت أقرب صديقة لرئيسة الوزراء - المصممة بوبال جياكار - مسافرة إلى الولايات المتحدة؛ فأرسلت إليها السيدة غاندي يوم 27 يونيو رسالة طويلة، شرحت فيها أن ذلك الإجراء اتخذ استجابة إلى «العنف المتصاعد» إثر «حملة كراهية وافتراء». وادعت السيدة غاندي أن عدد الاعتقالات كان 900 فحسب، ومعظم المحتجزين لم يوضعوا في السجن وإنما «في منازل مريحة». وكان «رد الفعل الشعبي حسنا بصفة عامة»، وساد «الهدوء في جميع أنحاء البلاد». وقالت رئيسة الوزراء لصديقتها إن حالة الطوارئ كان «القصد منها هو إتاحة العودة للعملية الديمقراطية الطبيعية».
2
في جميع أنحاء الهند، كان الناس يؤخذون ويوضعون في السجن. كان منهم قيادات ومشرعون من أحزاب غير حزب المؤتمر، وطلاب ناشطون، وأعضاء في اتحادات عمالية؛ فعليا أي شخص على أدنى صلة بحزب جانا سانج أو حزب المؤتمر «أوه» أو الاشتراكيين أو غير ذلك من الجماعات المعارضة للحزب الحاكم. بعض المحتجزين - مثل جايا براكاش نارايان ومورارجي ديساي - وضعوا في دور استراحة مملوكة للدولة في ولاية هاريانا، على مقربة من دلهي، إلا أن معظمهم أرسلوا إلى سجون مزدحمة أصلا. وسرعان ما ثبت خطأ حسبة السيدة غاندي ؛ فقد اعتقل الآلاف بموجب قانون حفظ الأمن الداخلي، المعروف لدى ضحاياه بقانون حفظ إنديرا وسانجاي، واستخدمت أدوات قانونية أخرى أيضا؛ فراجماتا كل من جواليور وجايبور - خصمتان سياسيتان قديمتان للسيدة غاندي - تم حبسهما بموجب قانون يفترض أنه موجه إلى تجار السوق السوداء والمهربين.
3
خلال الشهور القليلة الأولى بعد إعلان حالة الطوارئ، أجرت رئيسة الوزراء عدة حوارات متلاحقة دفاعا عن إعلانها، وبدا أسلوبها في تلك الحوارات أيضا دفاعيا للغاية؛ فقالت لصحيفة «صنداي تايمز» اللندنية إنه «غير صحيح بالمرة القول بأني لجأت إلى حالة الطوارئ حفاظا على منصبي؛ فقد واجهت التحدي المخالف للدستور [من جانب حركة جايا براكش] بالدستور». وحالة الطوارئ «أعلنت لإنقاذ البلاد من الاضطراب والانهيار»، وقد «مكنتنا من تنفيذ البرنامج الاقتصادي الجديد»، وأفضت إلى «شعور جديد بالثقة على المستوى الوطني». وأخبرت مجلة «ساترداي ريفيو» الصادرة في نيويورك أن «ما حدث ليس إلغاء للديمقراطية وإنما محاولة لصونها». وهاجمت في تلك الحوارات الصحافة الغربية بدعوى «التربص بالهند»، وتصيد الأخطاء لبلدها عوضا عن دول أكثر استبدادا بوضوح على غرار باكستان والصين.
4
تحدثت رئيسة الوزراء في حواراتها وأحاديثها الإذاعية عن الحاجة إلى «تجديد روح الانضباط والروح المعنوية»؛ فاستعين بالمؤلفين الدعائيين لصياغة شعارات من قبيل: «الانضباط يصنع الأمم العظيمة»، و«كن رجل أفعال لا رجل أقوال»، و«كن هنديا واشتر الهندي»، و«الكفاءة هي شعارنا». وصيغت عظات أقل موضوعية، على غرار: «هي التي وقفت بين النظام والفوضى»، و«الشجاعة ووضوح الرؤية، اسمهما إنديرا غاندي». كتبت تلك الشعارات باللغتين الهندية والإنجليزية على جوانب الحافلات، وعبر الجسور، وعلى لوحات إعلانية ضخمة موضوعة أمام المباني الحكومية.
كانت تلك علامات دكتاتورية زاحفة؛ فمثل العسكريين الذين يستولون على السلطة إثر انقلاب، ادعت السيدة غاندي أنها تصرفت لإنقاذ البلد من نفسه. ومثلهم، قالت أيضا إنه في حين أنها حرمت شعبها الحرية، فإنها سوف تعطيهم الخبز عوضا عنها؛ فخلال أسبوع من إعلان الطوارئ كانت تعرض «برنامجا للتقدم الاقتصادي مكونا من عشرين نقطة». وعد ذلك البرنامج بخفض أسعار السلع الأساسية، والإسراع بتطبيق الإصلاحات الزراعية ، ورفع أجور العاملين، وخفض ضرائب الطبقة الوسطى، وإلغاء الديون والسخرة.
5
من النادر أن نجد دكتاتورا امرأة، وربما كانت السيدة غاندي الوحيدة من نوعها في القرن العشرين. إلا أنها بصفتها حاكمة مستبدة، أتيح لها استخدام صور ورموز غير متاحة لنظرائها الذكور؛ ففي يوم 11 نوفمبر، بعد إعلان حالة الطوارئ بأربعة أشهر ونصف، وقفت رئيسة الوزراء أمام الميكروفون لكي «تلتقي» بأبناء بلدها وتجري معهم «حديثا من القلب»؛ فتحدثت لما يربو على الساعة، عن الحاجة إلى الانضباط والنظام، وعن برنامجها الاقتصادي، وأمجاد الهند القديمة، وواجبات مواطنيها في العصر الحديث. وقالت إن «خصومنا يريدون شل عمل الحكومة المركزية»، ومن ثم:
وجدنا أنفسنا في موقف خطير، واتخذنا بعض الخطوات، ولكن كثيرا من أصدقائنا في هذا البلد أصابهم بعض الحيرة إزاء ما فعلته إنديرا جي، وتساءلوا عما سيحدث للبلاد الآن. ولكننا شعرنا أن البلد أصيب بمرض، وإن كان له أن يطيب بسرعة، فلا بد من إعطائه جرعة دواء، حتى إن كان مرا؛ فمهما كان الطفل عزيزا على والديه، فإذا وصف له الطبيب دواء مرا، فلا بد من إعطائه له لعلاجه ... ومن ثم فقد أعطينا الأمة ذلك الدواء المر. ... من المعروف أنه عندما يعاني الطفل، تعاني أمه أيضا. ونحن من ثم غير سعداء تماما باتخاذ هذه الخطوة ... ولكننا رأينا أنها أتت بالنتيجة تماما مثلما فعلت الجرعة التي وصفها الطبيب.
6
2
في 15 أغسطس 1975، نشرت صحيفة «ذا تايمز» اللندنية إعلانا احتل صفحة كاملة ل «حملة إطلاق سراح جايا براكاش». كان من دفع أجر الإعلان أفرادا؛ حيث كان أول المساهمين الأسقف تريفور هادلستون، وآخرهم السيدة بيجي آشكروفت. كان من الموقعين أيضا أصدقاء قدامى للهند من قبيل الاشتراكي فينر بروكواي، والاقتصادي إي إف شوماخر، وعالم السياسة دبليو إتش موريس-جونز، بالإضافة إلى مشاهير لا تربطهم علاقة محددة بالهند، مثل الممثلة جليندا جاكسون، والمؤرخ إيه جي بي تايلور، والناقد كينيث تينان. وطبعت على الصفحة صورتا المهاتما غاندي وجايا براكاش نارايان. إلى جانب القائمة الطويلة للأسماء، تضمن النص شهادة على أخلاق جايا براكاش ووطنيته من المهاتما غاندي نفسه.
جاء في الإعلان ما يلي: «اليوم هو عيد استقلال الهند، فلا تدعوا نور الديمقراطية الهندية ينطفئ.» وناشد الموقعون على الإعلان السيدة غاندي أن تطلق سراح السجناء السياسيين جميعا، ولا سيما جايا براكاش نارايان. لم يكن اختصاص شخص واحد بالذكر احتراما لقيادته حركة المعارضة في الهند فحسب؛ فقد عرفه المحركون الرئيسيون وراء «حملة إطلاق سراح جايا براكاش» قبل بدئه في «الثورة الشاملة» التي دعا إليها بفترة طويلة؛ فكان اليساريون أنصار حزب العمال، من أمثال بروكواي، يعرفونه منذ ثلاثينيات القرن العشرين، بوصفه أحد أبطال حركة الاستقلال. وأنصار حماية البيئة، من قبيل إي إف شوماخر، كانوا يعرفونه منذ خمسينيات القرن العشرين باعتباره من معتنقي مذهب التنمية اللامركزية مثلهم. وعرفه علماء السياسة قبل الاستقلال وبعده، باعتباره مثالا نموذجيا دائم الحضور والقوة على ما سماه موريس-جونز ذات مرة «سمة الورع» في السياسة الهندية.
كان هؤلاء الأصدقاء الأجانب لحرية الهند قد بلغوا من العمر ما يكفي ليكونوا قد شاهدوا مدى قرب جواهر لال نهرو من جايا براكاش نارايان فيما مضى؛ فهالتهم رؤية ابنة غاندي تسجن جايا براكاش، وأملوا في أن يخرجه استرجاع التاريخ من سجنه. وكان ذلك أمل مجموعة أخرى عظيمة من أنصار السلام؛ هم جماعة الكويكرز، التي لم توقع على إعلان صحيفة «ذا تايمز» ولكنها لجأت إلى القنوات الخلفية للمصالحة. فقد كانت لتلك الجماعة علاقة طويلة مشرفة بالهند؛ فقد توسط أعضاء فيها، مثل أجاثا هاريسون وهوراس ألكسندر، بين المستعمرين البريطانيين والقوميين الهنود، وفيما بعد حاولوا مع جايا براكاش عقد مصالحة بين الهند وباكستان، وكذلك بين متمردي ناجا والحكومة في نيودلهي.
في شهر أغسطس، بعد شهر على إعلان حالة الطوارئ، أرسلت جماعة الكويكرز أحد أعضائها - عالم الاجتماع جو إلدر - إلى الهند في بعثة تقصي حقائق؛ فالتقى أناسا كثيرين: أتباع جايا براكاش، وأعضاء في حزب المؤتمر، ورئيسة الوزراء؛ فوجد نفسه «قليل الميل إلى إدانة طرف أو آخر». فقد أخطأ جايا براكاش نارايان ببدء حركة جماهيرية دون تنظيم يضم متطوعين منضبطين وسلميين، وبدت أفكاره «ساذجة وغير مجربة وغير مقنعة بالنسبة إلى كثيرين»، وضعفت مصداقية حركته باشتمالها على عناصر متطرفة من اليمين واليسار. على الجانب الآخر، كان من الجلي أن رئيسة الوزراء قد بالغت في رد فعلها بفرض حالة الطوارئ، مما بث الخوف في عقول الناس، وقوض العملية الديمقراطية ومؤسساتها.
7
وكما يشير سرد إلدر، فقد نشأ سيناريو الطوارئ عن الجهود المتضافرة لكل من جايا براكاش نارايان والسيدة غاندي؛ فكلاهما أبدى إيمانا ضئيلا في المؤسسات النيابية؛ إذ طالب نارايان من جانبه بالإقالة المبكرة للحكومات المنتخبة، بينما اعتقلت السيدة غاندي أعضاء منتخبين وفق القانون في البرلمان والمجالس التشريعية للولايات؛ فكلاهما لم يقدر دور الدولة في الديمقراطية الحديثة حق قدره؛ فكان نارايان يرغب في أن تختفي الدولة ببساطة، وأراد من الشرطة والجيش أن «يعصيا الأوامر غير الأخلاقية». وفي المقابل، سعت السيدة غاندي إلى جعل موظفي الدولة معتمدين تماما على إرادة شخص واحد في موقع القيادة.
كان ذلك الصدام مؤثرا لأن الغريمين كانا صديقين فيما سبق، وربطتهما أواصر التاريخ والتقاليد وعلاقات حميمة على المستوى الشخصي امتدت عبر الأجيال. لا يمكن معرفة ما كان شعور السيدة غاندي إزاء حبس جايا براكاش، ولكن ما نعرفه هو أن مشاعر موظفيها كانت متأرجحة للغاية؛ فقد كان المستشار الإعلامي لرئيسة الوزراء - إتش واي شاردا براساد - رجلا وطنيا شارك هو نفسه في الصراع من أجل الحرية، وقد سجن عام 1942، في حملة «ارحلوا عن الهند» ذاتها التي أصبح فيها جايا براكاش نارايان بطلا قوميا لأول مرة؛ فخلافا لجو إلدر، لم يستطع شاردا براساد أن يقر بأن رئيسة الوزراء بالغت في ردة فعلها، إلا أنه - كما كتب لأحد أصدقائه - شعر بأسى بالغ لأن رجلا من قبيل جايا براكاش، «في لحظة تحمل أهمية أخلاقية محورية، قرر أن راشتريا سوايامسيفاك سانج والحزب الشيوعي الماركسي أكثر مقبولية من حزب المؤتمر. هذا انحراف في المنطق لم يسعني فهمه، فضلا عن التماس العذر له. ولا يعزيني سوى فكرة أنه ما كان ليبلغ هذه الدرجة من اليأس لو كانت زوجته برابهافاتي على قيد الحياة».
8
كان من بين المستائين من حبس نارايان أيضا الاقتصادي بي إن دهار، الذي خلف بي إن هاكسر في منصب سكرتير رئيسة الوزراء الأول؛ فقد أرسل دهار عدة مبعوثين إلى جايا براكاش، ليرى إذا ما كان يمكن الوصول إلى مصالحة، بإطلاق سراح السجناء ورفع حالة الطوارئ، مع حلول موعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، التي كان قد تقرر عقدها في بدايات عام 1976؛ فوجد المبعوثون جايا براكاش مستعدا للتفاوض؛ فقد أدى وقوع فيضان في بيهار إلى تعجله الذهاب والعمل بين الضحايا. وقد بلغ مسامعه الحديث عن أن استهتاره أدى إلى فرض الطوارئ؛ فقال إنه لا رغبة لديه في إعادة إحياء الحركة الشعبية، ولكن عندما يدعى لعقد الانتخابات سوف يطالب بتكوين جبهة مشتركة لمواجهة حزب المؤتمر ويلتمس الأصوات لمرشحيها.
9
كان نارايان متلهفا لاضطلاع صديقه القديم الشيخ عبد الله - الذي كان قد أصبح جزءا من المؤسسة الهندية أيضا آنذاك بتبوئه منصب رئيس وزراء جامو وكشمير - بدور الوسيط بينه وبين السيدة غاندي؛ فقد كان قد قرأ تقريرا نقل عن الشيخ ميله إلى عقد «صلح على مستوى الهند كافة»، وقوله إن رئيسة الوزراء «حريصة أشد الحرص على إنهاء حالة الطوارئ». فحينذاك كتب جايا براكاش إلى عبد الله يعرض عليه «تعاونا كاملا» في أي خطوة قد يتخذها لحل الخلافات بين المعارضة والحكومة. إلا أن الرسالة كشفت آثار جروح لم تلتئم، كما في إشارة نارايان إلى تصويره على أنه «رأس المشكلة، وكبير المتآمرين، والمتهم الأول»، واختتامه الرسالة بتحد قائلا إن «الاختبار الأول» لحرص رئيسة الوزراء على إنهاء حالة الطوارئ «سيكون ما إذا كان سيسمح بوصول هذه الرسالة إليك، وما إذا كان سيسمح لك بمقابلتي».
10
رسبت رئيسة الوزراء في الاختبار؛ فالرسالة لم تبلغ الشيخ، وانتهت معها الخطوات الساعية إلى عقد مصالحة. إلا أنه في نوفمبر 1975، تدهورت حالة جايا براكاش الصحية، ونقل إثر إصابته بالفشل الكلوي إلى مستشفى في تشانديجار، وعندما أثبت الأطباء هناك عجزا عن التعامل مع حالته، نال إطلاق سراح مشروطا ونقل إلى مستشفى جاسلوك في بومباي، حيث وضع تحت رعاية اختصاصي الكلى، إم كيه ماني. وكان ما عجل باتخاذ الحكومة ذلك الإجراء هو إدراك أن أبواب الجحيم ستنفتح لو توفي نارايان في السجن.
11
وعلى الرغم من أن جايا براكاش استلقى على فراش في بومباي، مقيدا إلى جهاز غسيل كلوي، فإنه لم يصدر أمر عام بإطلاق السراح المشروط للمعتقلين السياسيين؛ فقد قدر عدد المعتقلين بموجب قانون حفظ الأمن الداخلي بنحو 36 ألف شخص، احتجزوا دون محاكمة. وكان هؤلاء موزعين على ولايات الهند على نحو شامل إلى حد بعيد؛ 1078 من أندرا براديش، و2360 من بيهار، وسارت الأعداد على نفس ذلك المنوال أبجديا، حتى بلغت 7049 من أوتر براديش و5320 من غرب البنغال.
12
عومل ضحايا الانتقام السياسي في مأواهم ومأكلهم وملبسهم معاملة المجرمين العاديين، وفي الواقع كان عليهم مشاركة زنزاناتهم مع مثل هؤلاء المجرمين (مما أثار طرفة مفادها أن الاشتراكية التي تتباهى بها السيدة غاندي كثيرا تمارس في السجون على الأقل)؛ فتطلع السجناء الأكبر سنا إلى أيام الراج البريطاني، حينما كانت السجون أنظف والسجانون أكثر آدمية بصفة عامة. وبدا أن السجينات اختصصن بمعاملة خاصة؛ فقد عاشت راجماتا كل من جواليور وجايبور في أوضاع من التقشف والقذارة غير المعهودين. أما الاشتراكية مرينال جور، الأكثر اعتيادا على الحياة البسيطة، فطلب منها مشاركة المرحاض مع المرأة التي تقطن الزنزانة المجاورة، وكانت مصابة بالجذام. وفي الزنانة المقابلة كانت هناك امرأة مختلة العقل لا ترتدي أي ملابس وتصرخ ليل نهار.
13
3
في يناير 1963، كتبت إنديرا غاندي إلى أحد أصدقائها شاكية أن الديمقراطية «لا ترفع قدر الأشخاص دون المستوى فحسب، وإنما تمنح قوة أيضا لأعلاهم صوتا بصرف النظر عن مدى افتقارهم إلى المعرفة والفهم».
14
وبعد ثلاثة أعوام، بعد توليها رئاسة الوزراء مباشرة، أخبرت السيدة غاندي صحفيا زائرا أن «حزب المؤتمر أصبح في طور الاحتضار»، مردفة: «أحيانا يتملكني شعور بأنه حتى الديمقراطية البرلمانية أصبحت في طور الاحتضار.» وأضافت: «فإن مبلغ الجمود الذي يعتري الخدمة المدنية لدينا عسير على التصديق»؛ «فلدينا منظومة تستبدل فيها العناصر غير المجدية بعناصر غير مجدية أخرى.» وقالت رئيسة الوزراء المنتخبة حديثا في أكبر ديمقراطيات العالم تعدادا: «أحيانا أتمنى لو كانت حدثت عندنا ثورة حقيقية - مثل فرنسا أو روسيا - وقت الاستقلال.»
15
وقد تجلى نفاد صبرها إزاء الإجراءات الديمقراطية منذ مرحلة مبكرة؛ مثلا في ملئها دوائر الخدمة المدنية وجهاز القضاء وحزب المؤتمر بأفراد موالين لها. إلا أنها تمادت أكثر في تلك العملية بفرض حالة الطوارئ؛ فآنذاك، إذ أودع النواب البرلمانيون المعارضون الحبس، مررت عدة تعديلات دستورية لمد فترة حكم السيدة غاندي، وحظر التعديل الثامن والثلاثون، الذي أقر في 22 يوليو 1975، مراجعة القضاء لحالة الطوارئ. ونص التعديل التاسع والثلاثون، الذي طرح بعد مرور أسبوعين، على أنه لا يجوز الطعن في انتخاب رئيس الوزراء من جانب المحكمة العليا، وإنما فقط من جانب هيئة يشكلها البرلمان. وقد جاء هذا التعديل في الوقت المناسب تماما لمساعدة السيدة غاندي في الالتماس الذي قدمته إلى المحكمة العليا؛ حيث حكمت المحكمة بعدم وجود قضية تنظر فيها؛ نظرا لأن التعديل الجديد جعل تصرفاتها خلال انتخابات عام 1971 خارج نطاق القانون بأثر رجعي.
16
بعد بضعة أشهر، أسدت المحكمة العليا صنيعا أكبر من ذلك لرئيسة الوزراء؛ فقد دفع المحامون الموكلون عن آلاف المسجونين بموجب قانون حفظ الأمن بأنه لا يجوز للدولة أن تحرم المسجونين حق المثول أمام القضاء. وبدا أن الأحكام الصادرة في المحاكم الأدنى درجة تدعم ذلك الرأي، ولكن عندما بلغت القضية المحكمة العليا، حكمت بأن الحبس دون محاكمة قانوني في ظل الإدارة الجديدة السائدة. ومن بين هيئة أعضاء المحكمة الخمسة لم يعارض ذلك الحكم سوى واحد، وكان ذلك هو القاضي إتش آر كانا، الذي أشار إلى أن «الاحتجاز دون محاكمة لعنة بالنسبة لجميع المدافعين عن الحرية الشخصية».
17
كان ثمة تلميحات إلى أن الحكم صدر متأثرا باعتبارات غير قانونية؛ بأمل من ثلاثة قضاة أن يشغلوا يوما منصب رئيس القضاة، وبالخوف من أوامر نقل المسئولين العقابية التي بدأت مع إعلان حالة الطوارئ؛ ففي مقالة افتتاحية يائسة بعنوان «الآمال الزائلة في الهند»، علقت صحيفة «نيويورك تايمز» على أن «خضوع القضاء المستقل لحكومة مستبدة هو فعليا الخطوة الأخيرة على طريق تدمير المجتمع الديمقراطي».
18
في الواقع، كانت ثمة خطوات أخرى لم تتخذ بعد؛ ومنها: التعديل الثاني والأربعون، الوثيقة المكونة من عشرين صفحة التي أعطت سلطات غير مسبوقة للبرلمان، فصار بإمكانه تمديد فترته بنفسه، وهو ما فعله فورا. ومنح التعديل حصانة أكبر للتعديلات التي تقرها السلطة التشريعية ضد التدقيق القضائي، وزاد تعزيز سلطات الحكومة المركزية على الولايات؛ ففي المجمل، سمح التعديل الثاني والأربعون للبرلمان «بسلطة الحفاظ على الدستور أو تدميره دون قيود».
19
في يناير 1976، انتهت مدة حكومة حزب درافيدا مونيترا كازاجام؛ فعوضا عن الدعوة إلى عقد انتخابات، أمرت الحكومة المركزية بفرض الحكم الرئاسي. وبعد مرور شهرين، طبق الإجراء ذاته على جوجارات؛ حيث كانت جبهة جاناتا قد خسرت الأغلبية نتيجة انشقاقات.
أصبح لإنديرا غاندي وحزب المؤتمر سيادة مطلقة آنذاك على كافة أنحاء البلاد؛ فعندما ذهب مؤرخا الفن مليدرد آرتشر ودبليو جي آرتشر لمقابلة السيدة غاندي في مارس 1976، أعربت رئيسة الوزراء عن رضاها عن التقدم الذي أحرزته حالة الطوارئ، وقالت لهما إن النظام الجديد «جعل فرائص وزراء الولايات ترتعد»، وذلك أمر «كان ينبغي أن يحدث منذ زمن، وهو رائع»، وذلك لأن «التفويض المفرط للسلطات أثره فتاك على الهند». وقالت السيدة غاندي في إصرار: «لا بد أن أحافظ على وحدة الهند. هذه ضرورة مطلقة.»
20
4
كانت حرية الصحافة من بين ضحايا الطوارئ؛ فخلال الأسبوع الأول بعد إعلانها، كانت الحكومة قد أنشأت نظام «رقابة مسبقة»، أصبح على المحررين بمقتضاه تقديم المواد التي يرتأى فيها نقد للحكومة أو موظفيها، حتى تخضع للتدقيق والموافقة. وأصدرت إرشادات عما يشكل وما لا يشكل «نبأ»؛ فقد منع نقل أنباء المسيرات أو الإضرابات أو المعارضة السياسية أو الأوضاع في السجون، ومنعت الأنباء عن المعارضة الصريحة بطبيعة الحال، وحتى الموضوعات التي انطوت على نقد معتدل للإدارة لم يسمح بها؛
21
فكما جاء في إحدى صحف البنجاب استرجاعا لأحداث تلك الفترة، تضمنت البنود التي حذفها مقص الرقيب:
أنباء عن إغلاق المتاجر في سوق بجوارا بتشانديجار احتجاجا على اعتقال أصحاب المتاجر، وغياب موظف صحة لمدة ستة أعوام، وتعليقات خاصة بالصرف الصحي في المدينة، لا سيما بالوعات الصرف المفتوحة ... وثلاثة رسائل إلى المحرر عن انحرافات في المدفوعات ومعدلات الرواتب غير الملائمة لمحاضري الكليات في هيماجل براديش، وعن خدمة حافلات غير مرضية، وتقرير من تشانديجار عن ارتفاع أسعار الطماطم، ومقتل شخصين أثناء القيام بدورية عند السكك الحديدية بالقرب من أمريتسار، ونبأ موجز عن الاتجار بالعقاقير الضرورية في السوق السوداء.
22
كان لا بد من ملء الفراغ، وقد ملئ بكلمات رئيسة الوزراء أو أخبار تمدح حكومتها. (المحررون الذين حاولوا نشر المقالات المدافعة عن الحرية لطاغور وغاندي ونهرو عوضا عن ذلك سرعان ما كانوا يستدعون للتحقيق.) فقد كتب أحد القراء في سيملا إلى صديق إنجليزي يقول: «إن صحفنا تنشر أخبار العالم بالطبع، ولكنها تكاد لا تنشر أي أنباء أخرى ذات صلة ببلدنا نفسه، سوى خطب رئيسة الوزراء ... لقد قررت التخلي عن متعة قراءة الصحيفة.»
23
وكان ذلك الاشمئزاز مستشعرا لدى الصحفيين أنفسهم أيضا؛ فكما أخبر صحفي في صحيفة بومباي الأسبوعية «بليتز» صديقه الإنجليزي: «صحيفتي تساند حالة الطوارئ. ولكننا إن لم نفعل شيئا سوى التغني بفضائل الحكومة، فماذا سيظن بنا قراؤنا؟»
24
كانت الدعابات التي تحمل صبغة السخرية محظورة بصفة خاصة؛ فالكاتب الفكاهي التاميلي تشو راماسوامي فشل في تمرير رسم كاريكاتيري صور رئيسة الوزراء تتحدث مع ابنها، وأسفله التعليق: «نقاش وطني بشأن التعديلات الدستورية .» وعندما سأل أحد القراء: «من هي إنديرا غاندي؟» رد تشو: «إنها حفيدة موتيلال نهرو، وابنة جواهر لال نهرو، ووالدة سانجاي غاندي.» فحذف هذا الحوار أيضا. كانت الرقابة تقف بالمرصاد، ولكن بين حين وآخر، كانت دعابة أو اثنتان تفلتان من تحت يديها؛ ومن ثم تمكن في بالا سوبرامانيام من نشر مقال في مجلة «إيسترن إيكونوميست» بعنوان: «مشكلات الماشية في الهند»، الذي بدأ كالآتي: «يوجد حاليا 580 مليون خروف في البلاد.» وتمكن ديمقراطي مجهول من نشر إعلان في صحيفة «تايمز أوف إنديا» عن «وفاة دي إي إم أوكراسي، الذي تنعيه زوجته تي روث، وابنه إل آي برتي، وبناته فيث وهوب وجاستس»
25 (ما قصده هو أن الديمقراطية توفيت، وتنعيها زوجتها الحقيقة، وأبناؤها الحرية والإيمان والأمل والعدالة.)
مع استمرار حالة الطوارئ، زادت الحكومة إحكام قبضتها على عملية نشر المعلومات؛ فوكالتا الأنباء المستقلتان - «يونايتد نيوز أوف إنديا» و«برس تراست أوف إنديا» - دمجتا مع وكالتين أصغر منهما في هيئة إخبارية واحدة تابعة للحكومة تدعى «ساماتشار». وألغي مجلس الصحافة الذي كان هيئة رقابية مستقلة، وألغي قانون يمنح حصانة للصحفيين الذين يغطون أخبار البرلمان، وقبض على نحو 253 صحفيا، منهم كولديب نيار من صحيفة «إنديان إكسبريس»، وكيه آر سندر راجان من صحيفة «تايمز أوف إنديا»، وكيه آر مالكاني من مجلة «ماذرلاند».
26
بعض الصحفيين المحبين للحرية قاوموا، ولكن ملاك الصحف امتثل معظمهم، خوفا من أن تغلق الحكومة صحفهم أو تصادر ممتلكاتهم. وهم لم يكونوا خائفين من العقاب فحسب، وإنما استمتعوا بالمكافآت أيضا، التي جاءت في صورة إعلانات حكومية مدفوعة من جانب إدارة الدعاية المسموعة والمرئية؛ ففي حين منحت تلك الإدارة «إعلانات سخية للدوريات التي سمتها «صديقة»»، سحبت خدماتها من الدوريات التي اعتبرتها ناقدة للحكومة؛ فكان ثمة أكثر من صحيفة، ومحرر، ومالك صحيفة، على استعداد لتغيير النغمة استجابة للحوافز المعروضة.
27
من الصحف الكبرى التي امتثلت للضوابط الجديدة عن طيب خاطر: «ذا هندو»، و«تايمز أوف إنديا»، ولا سيما «هندوستان تايمز» التي فصل مالكها - رجل الصناعة كيه كيه بيرلا - محررها الفائق الاحترام ، بي جي فرجيز، من العمل لمجرد إرضاء السيدة غاندي. (كان بيرلا من الأعوان المخلصين لرئيسة الوزراء؛ فبعد صدور حكم المحكمة العليا في الله أباد يوم 12 يونيو، أخذ وفدا مكونا من 500 رجل أعمال لترجيها أن تبقى في منصبها.)
28
ومن الصحف التي حاربت بشرف للحفاظ على استقلالها، الصحيفتان «إنديان إكسبريس» و«ذا ستيتسمان»؛ فكلتاهما رفضت الامتثال للحكومة، وقاومت التهديدات والإغراءات على حد سواء؛ فعندما كانت الكهرباء تقطع عنهما، كانتا تلجئان إلى المحاكم لاستعادتها، وعندما كانت مقالاتهما تخضع للرقابة، فضلتا ترك مساحات خالية عوضا عن ملئها بصفحات دعائية. وقد نقلتا ببراعة، دون تعليق، الأخبار الواردة عن الوضع الهندي في الصحافة الأجنبية، تحت عناوين محايدة من قبيل: «ملخص الأنباء» أو «ما يقوله معاصرونا».
29
كانت الصحف الواسعة الانتشار هي الأكثر تضررا، ولكن الحكومة لم ترحم أيضا مجلات الرأي المرتفعة الجودة القليلة المبيعات؛ فثمة مجلتان محترمتان في دلهي - مجلة «مينستريم» الأسبوعية ومجلة «سمينار» الشهرية - أغلقتا أبوابهما عوضا عن الاستسلام لمقص الرقابة. وحاربت مجلة «همت» الأسبوعية التي تصدر في بومباي الرقابة باستماتة، ولكنها أوقفت نشاطها في النهاية عندما طلب منها دفع مقدمة مرتفعة بصورة تعجيزية ضمانا لحسن السلوك. وفرضت تلك الغرامة بسبب مقال اقتبس أقوال أشخاص منهم المهاتما غاندي. كذلك أوقفت مجلات أدبية نشاطها، بعدما وجدت استحالة في التعايش مع القيود التي كبلت استقلاليتها.
من بعض النواحي كانت الحكومة تخشى المجلات الصغيرة أكثر حتى من الكبيرة؛ فملاكها لم يكن من الممكن شراؤهم، لذا وجب إخضاعهم أو إفلاسهم. كان من المجلات المستهدفة مجلة «أوبنيون»، النشرة الإخبارية المكونة من أربع صفحات، التي كانت تصدر في بومباي من قبل موظف دائرة الخدمة المدنية الهندية السابق إيه دي جوروالا. كان جوروالا رجلا يتحلى بنزاهة شديدة، وقد ركز اهتمامه على هجمات هيئات الدولة على حقوق الفرد، وقد خاض كذلك معركة طويلة ضد الفساد؛ فبعد مرور عام على فرض حالة الطوارئ، صدر أمر بإغلاق المجلة، ولكن جوروالا تمكن من نشر عدد أخير، أشار فيه إلى أن:
النظام الهندي الحالي، الذي تأسس في 26 يونيو 1975، نشأ عن أكاذيب، وتغذى على أكاذيب، وازدهر بالأكاذيب؛ فالمكون الجوهري في كيانه هو الكذب؛ ومن ثم يصبح وجود مجلة محبة للحقيقة مستقيمة التفكير تتفحصه أسبوعا بعد أسبوع وتشير إلى أكاذيبه، أمرا غير محتمل بالنسبة إليه.
30
5
في اليوم التالي على إعلان حالة الطوارئ، وجد مراسل صحفي بريطاني شوارع دلهي في حالة «هدوء غريب»؛ فقد انطلق «الأسطول الصغير المجلجل» من سائقي الدراجات إلى أعمالهم في الصباح، و«لم تحتشد جموع غاضبة، والمتاجر والمصانع فتحت كالعادة، والمتسولون راحوا يتسولون، وأدت خيول السباق الرشيقة المملوكة للأثرياء تمارينها اليومية».
31
وكما كتب الصحفي إندر مالهوترا: «على الأقل في الشهور الأولى، أعادت الطوارئ إلى الهند نوعا من السكون كان غائبا عنها منذ سنوات.»
32
كان ذلك السكون متناقضا بشدة مع العقد المليء بالقلاقل الذي سبقه، وهذا أحد أسباب الترحيب الواسع الذي لاقاه إعلان الطوارئ فيما بين أبناء الطبقة الوسطى؛ فقد انخفض معدل الجريمة، وسارت القطارات في مواعيدها. وكذلك ترتب على هطول الأمطار الموسمية بوفرة عام 1975 انخفاضا في الأسعار. وقال مسئول في دلهي لصحفي أمريكي زائر إن الأجانب وحدهم هم من يعنون بالأشياء من قبيل حرية التعبير، وقال المسئول: «لقد سئمنا كوننا ورشة عمل الديمقراطية الفاشلة، وحان وقت الاستعاضة عن بعض الحريات الفردية التي نتفاخر بها ببعض النمو الاقتصادي.»
وجد الصحفي مجتمع رجال الأعمال مسرورا بحالة الطوارئ بصفة خاصة؛ فقد قال له مالك فندق في دلهي إن الحياة الآن «رائعة؛ فقد كنا نعاني مشاكل رهيبة مع الاتحادات العمالية. أما الآن، فمتى سببوا لنا أي متاعب، وضعتهم الحكومة في السجن». وفي بومباي التقى الصحفي جيه آر دي تاتا، الذي يمكن القول إنه أكثر رجال الصناعة احتراما في الهند، وقد شعر تاتا أيضا بأن «الأمور كانت قد بلغت حدا أبعد من اللازم؛ فلا يمكنك أن تتخيل ما مررنا به هنا: من إضرابات وحملات مقاطعة وتظاهرات. بل إن ثمة أياما لم أكن أستطيع فيها الخروج من مكتبي إلى الشارع؛ فالنظام البرلماني ليس ملائما لاحتياجاتنا».
33
حقيقة واحدة مثلت دليلا قاطعا على الموافقة الضمنية للطبقة الوسطى؛ حيث لم يتقدم أي موظفين حكوميين تقريبا باستقالتهم احتجاجا على فرض الطوارئ؛ ففي أيام الحكم البريطاني، دعوة غاندي إلى «عدم التعاون» مع الحكام أدت إلى استقالة آلاف المعلمين والمحامين والقضاة وحتى موظفين في دائرة الخدمة المدنية. أما الآن، فلم يحتج على إلغاء الديمقراطية سوى قلة من موظفي الحكومة؛ منهم: فالي ناريمان الذي استقال من منصب المحامي العام المساعد، وإم إل دنتوالا الذي رفض الاستمرار في منصب مستشار في بنك الاحتياطي الهندي، وبجراني تلبوليه الذي ترك منصبه الرفيع في مشروع ضمن القطاع العام.
إلا أن البرلمان الهندي أبدى بعض المقاومة؛ ففي يوم 23 يوليو اجتمع للتصديق على إعلان الطوارئ. كان حزب المؤتمر يتمتع بالأغلبية، وكان أربعة وثلاثون نائبا برلمانيا في السجن. أما نواب المعارضة الذين حظوا بحرية الحضور فقد ألقوا خطبا احتجاجية قبل أن يغادروا؛ فقال نائب الحزب الشيوعي الماركسي إيه كيه جوبالان إن الاعتقالات حولت البرلمان إلى «مهزلة ومحط احتقار». واتهم نائب من حزب جانا سانج رئيسة الوزراء بخيانة الوطن من «أجل أغراض شخصية».
34
فيما بعد قاطع نواب المعارضة المجلس (أو سجنوا)، ولكن العضو المستقل الذي استمر في الحضور كان بي جي مفلنكار من أحمد أباد، الذي امتهن العلوم السياسية، وكان ابن أول رئيس لمجلس الشعب الهندي؛ فكان من الصعب على الحكومة أن تعتقله نظرا لنسبه؛ ومن ثم فقد بقي، ومتى سنحت له الفرصة، كان يستشهد بثالوث القومية الهندية المقدس - طاغور وغاندي ونهرو - في الحديث عن مزايا وفضائل التحرر والحرية؛ فقد أظهر التناقض بين آرائهم وقانون حفظ الأمن الداخلي «التعسفي»، الذي استخدم لتحقيق «الأغراض السياسية لحكومة انتقامية»، وهو القانون الذي مثل «أبغض تشريع سن في تاريخ الهند الحديث».
35
ظهرت مقاومة أيضا في الشوارع؛ ففي يوم 14 نوفمبر - يوم ميلاد جواهر لال نهرو - من عام 1975، بدأت مجموعة تسمي نفسها لوك سنجهارش ساميتي (لجنة الكفاح الشعبي) حركة مقاومة سلمية في بومباي؛ فكان المتظاهرون يقفون كل يوم عند تقاطع مزدحم ويهتفون بشعارات من قبيل «تسقط الدكتاتورية» و«الحرية لجايا براكاش»؛ ففي خلال شهر ، اعتقل 1359 شخصا، منهم 146 امرأة. ثم امتدت الاحتجاجات إلى ولايات أخرى، حيث أصبحت مواقف الحافلات، ومحطات القطارات، والمصالح الحكومية أماكن يهتف فيها المحتجون بالشعارات ويعرضون أنفسهم للاعتقال. وقد ادعى أحد التقارير أنه خلال الشهور الثلاثة الأولى لحركة المقاومة السلمية هذه، بلغ عدد المعتقلين 80 ألف شخص.
36
وفي 15 أغسطس 1976 (في ذكرى عيد الاستقلال)، بدأت حركة مقاومة سلمية أخرى في أحمد أباد، تحت قيادة مانيبهين باتيل، ابنة أول وزير داخلية في الهند، فالابهاي باتيل؛ فرفع خمسون متظاهرا شعارات من قبيل: «أنهوا حالة الطوارئ» و«أطلقوا سراح السجناء السياسيين»، وساروا على الطريق إلى داندي، نفس الطريق الذي سلكه غاندي لكسر قوانين الملح الاستعمارية قبل ستة وأربعين عاما. قبض على مانيبهين باتيل بعدما قطعت ميلا على الطريق، ولكن أحد القضاة أمر بإطلاق سراحها في اليوم التالي؛ فواصلت المسير إلى البحر، بصحبة بضعة رجال شرطة غير مرتدين الزي الرسمي.
37
كان ممن قبض عليهم في حركة المقاومة السلمية في بومباي الكاتبة الماراثية المعروفة دورجا بهاجوات. وقد أبدى أعضاء آخرون في مجالها احتجاجهم بأساليب أكثر تواؤما مع مهنتهم؛ فقد عملت مجموعة من الكتاب الكاناديين على نشر وتوزيع قصائد، في صورة منشورات سرية، تسخر من حالة الطوارئ ومحركها الأول. ولننظر في المقاطع الشعرية الآتية من قصيدة «في هذا البلد» لجي إس شيفارودرابا:
في هذا البلد
تأليه البطل، والفخر بالعائلة
يجب ألا يكون هناك مكان لهما.
ولكن
امتيازات إله عشيرتي
يجب عدم المساس بها.
في هذا البلد
على الجميع تكميم أفواههم
والتزام الصمت.
ولكن
لكن حري بهم إبقاء آذانهم مصغية
لسماع ما أقول.
38
أعرب كتاب آخرون عن اعتراضهم بسبل أخرى؛ فقد أعلن كاتب المقالات البنغالي أنادا سانكار راي أنه سوف يتوقف «عن الكتابة تماما في فورة غضب غير متعاون». ورفض أن يضع «قلما على ورقة ما دامت حالة الطوارئ مستمرة». ورسام الكاريكاتير كيه شانكار بيلاي، الذي شبه نهرو الثرثار ذات مرة بشلالات نياجرا (وقوبل بالتشجيع من ضحيته)، أوقف مجلته عن العمل قبل أن توقفها الدولة، وقال معلقا في أسف: «الدكتاتوريات لا تحتمل الضحك؛ فطوال أعوام حكم هتلر، لم تؤلف مسرحية كوميدية جيدة، ولا رسم كاريكاتيري جيد، ولا عمل هزلي، ولا دعابة ساخرة.» وأعاد الروائي بانيشواره نات رينو وسام بادما شري الذي قلدته إياه الحكومة الهندية، في بادرة أعادت إلى الأذهان تخلي طاغور عن لقب فارس بعد مذبحة جليانوالا باج. وأعاد الكانادي الواسع المعرفة شيفاراما كارانت وساما أعلى درجة، هو بادما بوشان؛ ففي عشرينيات القرن العشرين، انضم كارانت إلى الحركة الساعية من أجل الحرية بإيعاز من غاندي، وبعد خمسين عاما من الكفاح في سبيل التمسك بقيمه، شعر كارانت بأنه «مضطر إلى الاحتجاج على مثل تلك الإهانات المقترفة في حق شعب الهند».
39
وأخيرا كان ثمة بعض المقاومة تحت الأرض. كانت الشخصية المحورية هنا هي جورج فرنانديس، الاشتراكي الفائر الحماس الذي قاد إضراب السكك الحديدية عام 1974؛ فعندما أعلنت حالة الطوارئ، كان فرنانديس في مدينة جوبالبور الساحلية في أوريسا، فتوارى عن الأنظار بضعة أسابيع، وأطلق لحيته، وتنكر في هيئة سيخي. ثم راح يتنقل من مدينة إلى أخرى، ليلتقي رفاقه ويخطط لتخريب منشآت الدولة؛ فجمع الديناميت وخزن، ودرب شباب على نسف الجسور وقضبان السكك الحديدية. ومن مخابئه المتغيرة باستمرار، راح فرنانديس يبعث رسائل هاجم فيها «الدكتاتورة» و«تلك المرأة» و«عائلة نهرو الحاكمة»، وحث الشعب على الثورة على النظام.
لم يستخدم الديناميت، ولكن كان من الواضح أن الحكومة الهندية كانت غاضبة لعجزها عن القبض على فرنانديس؛ فأخذ شقيقه لورانس من منزله في بنجالور وتعرض لضرب وتعذيب وحشيين، واعتقلت أيضا صديقته، الممثلة سنيهالاتا ريدي؛ فقد احتجزت في زنزانة رطبة وحرمت الطعام اللائق حتى تفاقمت حالة الربو التي كانت تعانيها إلى حد خطير؛ فعندما نالت إفراجا مشروطا، توفيت بعد بضعة أسابيع. فرت زوجة جورج فرنانديس وطفله من البلاد، خوفا من الاضطهاد إن بقيا. وقبض على فرنانديس نفسه في كلكتا يوم 10 يونيو 1976، بعد قرابة عام من إعلان حالة الطوارئ.
40
في صيف عام 1976، كان أحد معارضي النظام القليلين الذين ظلوا طلقاء جي بي كريبالاني، الذي كان في التسعينيات من عمره آنذاك. وقد شكا إقصاءه في حين منح أصدقاؤه جميعا ميزة السجن. ثم تذكر مثلا شعبيا سنديا مفاده: «عندما تقطع ساحرة شارعا مدمرة كل شيء، تترك منزلا واحدا سليما.»
41
وفي يوم 2 أكتوبر من عام 1975 - الموافق لعيد ميلاد غاندي - رأس كريبالاني اجتماعا للصلاة في نصب المهاتما التذكاري في نيودلهي؛ فألقيت خطب، وقبض على عدة أشخاص، ولكنه لم يكن منهم. لم يكن عمره بقدر مركزه الذي أبقاه طليقا؛ فلا شيفاراما كارانت، ولا مورارجي ديساي، ولا حتى جايا براكاش نارايان، حظوا بمؤهلات وطنية بقوة مؤهلات كريبالاني؛ فقد انضم إلى المهاتما غاندي في المسيرة السلمية بشمباران عام 1917، قبل أن يصير نهرو جزءا من تلك الحركة بعدة أعوام. وكان كريبالاني رئيس حزب المؤتمر عندما جاءت الحرية بعد ثلاثة عقود من الزمان، وقد اختارته ثلاث ولايات مختلفة نائبا عنها في البرلمان الهندي؛ ففي المجمل، كانت سيرته المهنية من القوة بحيث تستحي حتى رئيسة الوزراء أن تعتقله للقيام بأنشطة ارتئي فيها تهديد «للوحدة والاستقرار» في البلاد.
في أبريل 1976 تحدى كريبالاني الحكومة أن تنشر أسماء الأشخاص الذين وضعتهم في السجون. ثم مرض مرضا شديدا، فنقل إلى المستشفى، حيث ركبت له أنابيب وأسلاك بشتى الأنواع والأشكال، وعندما جاء أحد أصدقائه لزيارته، كان لدى كريبالاني شكوى جديدة: «ليس لدي بنيان (في إشارة للدستور)؛ فكل ما تبقى لدي هو ملحقات (في إشارة للتعديلات الدستورية التي أدخلتها السيدة غاندي).»
42
6
أعادت حالة الطوارئ إحياء النقاش بشأن ما إذا كان يمكن أو ينبغي أو يحتمل أن تصير الهند يوما ديمقراطية بحق؛ ففي أكتوبر 1975، زار مراسل صحفي من مجلة «تايم» البلاد، وأعجب كثيرا بما رآه؛ فقد رأى أن حرية الصحافة وما شابهها كانت أمورا «غير ذات أهمية كبيرة لمعظم تعداد الهند البالغ 600 مليون نسمة»، الذي كان «أكثر انشغالا» بمعدل التضخم (انخفض لأقل من 31٪ في السنة السابقة). وكتب: «لقد نالت رئيسة الوزراء تأييدا واسع النطاق باقتناصها فرصة نادرة لفرض عشرات الإصلاحات الاجتماعية بالقوة؛ فالهند منخرطة هذه الأيام في حملة محمومة لتشجيع الانضباط والالتزام بالمواعيد والنظافة والكياسة.»
43
إذن على الأقل كان ثمة من يأخذ الشعارات على محمل الجد؛ ففي حين أن المراسل الصحفي لمجلة «تايم» رأى ديمقراطية غير ملائمة للهند، أبدت صحيفة «سيدني مورنينج هيرالد» يأسها إزاء انطفاء شعلة الديمقراطية في بلد كان هو «الأمل الرئيسي للديمقراطية في آسيا، بل في العالم النامي أيضا». وقالت الصحيفة إنه إن كانت الهند قد «ارتدت إلى الاستبدادية الآسيوية التقليدية»، فلا بد من توزيع اللوم على كل من «الإمبراطورة إنديرا» ووالدها، الذي فرض «التصنيع الثقيل والبيروقراطيات المؤممة على رواد الأعمال الهنود، على الطريقة السوفييتية، باسم «الاشتراكية»، ولإنجاح «اشتراكيته» أضافت ابنته الأسلوب السوفييتي المكمل المتمثل في الدكتاتورية السياسية».
44
دارت أقوى نقاشات لمسألة الهند والديمقراطية - كما يمكن للمرء أن يتوقع - في الصحافة البريطانية؛ فكانت الطبقة السياسية في المملكة المتحدة منقسمة؛ ففي حين وقع بعض أعضاء البرلمان عريضة «الحرية لجايا براكاش»، ساند آخرون نظام السيدة غاندي، منهم مايكل فوت (على أساس أن ابنة نهرو لا يمكن أن تخطئ) وجيني لي ومارجريت تاتشر، اللتان زارتا الهند وخلصتا إلى أن الطوارئ، بصفة عامة، أفادت شعب الهند. وبعد أن سافر نائب في البرلمان البريطاني يدعى إلدون جريفيث إلى الهند وتحدث إلى قيادات حزب المؤتمر، كتب إلى صحيفة «ذا تايمز» أن النظام «أقل قمعا بكثير» مما ورد عنه في هذه الصحيفة، وألمح أيضا إلى أن النظام البرلماني البريطاني غير ملائم للسياقات غير الغربية. وفي رد لاذع حماسي، قال دبليو إتش موريس-جونز معلقا إن مثل ذلك الكلام كان «رياضة يمكن أن يجد فيها كل من قيادات حزب المحافظين الإمبريالية والماركسيين الثوريين متعة مشتركة». فحسبما أشار موريس-جونز: «بدأ عدد متنام من الهنود في توطين عادة الديمقراطية الليبرالية.» فقد أجريت خمسة انتخابات بنجاح، وأنشئت صحافة حرة ومؤسسات مستقلة، قبل أن تجلب الطوارئ «ضررا هائلا» على «أسلوب حياة سياسية، حول بالفعل في غضون عقدين من الزمان كثيرين كانوا رعايا منبوذين من الساحة السياسية إلى مواطنين».
45
ماذا كانت آفاق المستقبل؟ في تقييم أجرته صحيفة «ذي أوبزرفر» في الذكرى الأولى لفرض حالة الطوارئ ، ادعت رؤية حركة تحت غطاء السكون؛ فإذا شحت الأمطار الموسمية فيمكن للاقتصاد الهش أن يدمر، مما سوف يؤدي إلى تضخم، و«إشعال فتيل السخط الشعبي الذي يغلي تحت السطح. وقد يسفر الانفجار الناجم عنه عن أزمة سياسية أخطر من أزمة يونيو 1975». ورأت الصحيفة أنه فيما بين النتائج المحتملة، يمكن للمرء أن يستبعد العودة إلى الديمقراطية؛ لأن «الخلف المحتمل لحزب المؤتمر لا يزال هو الجيش».
46
7
ارتكبت صحيفة «ذي أوبزرفر» خطأ التركيز على المؤسسات عوضا عن الأفراد؛ ففي داخل الهند، لم يكن المشاهد هو صعود الجيش من وراء واجهة حكم حزب المؤتمر، وإنما صعود ابن رئيسة الوزراء الثاني إلى موقع الخليفة المرجح.
كان سانجاي غاندي هو من حذر والدته من الاستقالة وأيد إعلان حالة الطوارئ بقوة. وخلال الشهور الأولى بعد إعلانها، زاد حضوره على الملأ؛ فأصبح كثيرا ما يشاهد إلى جوار السيدة غاندي، حتى إنه صار ينصحها بشأن التعيينات الوزارية. فعندما ارتئي أن الليبرالي آي كيه جوجرال كان متساهلا مع الصحافة أكثر من اللازم، استبدل به في سي شكلا الأكثر صرامة وزيرا للإعلام والبث. وعندما لم يبد سواران سينج المخضرم (الذي كان أحد كبار وزراء نهرو يوما ما) حماسا كبيرا إزاء إعلان حالة الطوارئ، استبدل به صديق سانجاي، بانسي لال، وزيرا للدفاع.
47
بعد إعلان حالة الطوارئ بستة أسابيع، أجرت مجلة «سرج»، التي تنشر في دلهي، حوارا طويلا مع سانجاي غاندي. في ذلك الحوار تحدث سانجاي عن حياته الخاصة - لم يكن يدخن ولا يعاقر الخمر - وعن علاقته بوالدته. (قال ردا على أحد الأسئلة: «نعم، إنها تستمع إلى آرائي بالتأكيد. لقد كانت تستمع إليها حتى عندما كنت في الخامسة من عمري.») وتحدث عن عمله - زعم أنه كان يقضي اثنتي عشرة ساعة إلى أربع عشرة ساعة في اليوم في مصنعه التي تنتج سيارات ماروتي - وعن السيارة التي سوف ينتجها عما قريب، والتي سوف «تأخذ مكان سيارات فيات أو سيارات أمباسادور» (هما السيارتان المسيطرتان على السوق الهندية آنذاك). وأعرب عن ميله إلى الاقتصاد الحر - لأنه «أسرع طريقة للنمو» - ورأى أن الحكومة ينبغي أن تزيل جميع الضوابط المتعلقة بأين وكيف وعلى أي نحو تنشأ الصناعات. وعندما سئل عن فكرته عن الديمقراطية، قال: إنها «لا تعني حرية تدمير كل شيء في البلاد. الديمقراطية تعني حرية بناء البلاد». وعندما سئل عن حزب المؤتمر، قال إنه ينبغي أن يصير «حزبا قائما على الكوادر»؛ فعندما أشار المحاور إلى أن كلا من جانا سانج والشيوعيين قائم على الكوادر، أشار سانجاي إلى الأول بأنه «حزب قائم على المحاباة». أما عن الثاني، فقال معلقا: «إذا أخذت جميع الناس في الحزب الشيوعي؛ الرءوس الكبيرة وحتى الرءوس الأصغر، فلا أظنك ستجد أشخاصا أكثر منهم ثراء أو فسادا في أي مكان.»
48
كانت «سرج» مجلة جديدة، ومثل الحوار سبقا صحفيا لها؛ فسرعان ما باع محررها الحوار إلى وكالات الأنباء، التي مررته بدورها إلى الصحف الهندية والأجنبية؛ فاختارت الصحف أن تسلط الضوء على آراء سانجاي غاندي المتعلقة بالاقتصاد الحر - المخالفة لاشتراكية والدته المعلنة - وتوصيفه لحلفائها المخلصين الشيوعيين بأنهم «فاسدون»؛ فعندما نشرت تلك المقتطفات، أرسلت رئيسة الوزراء مذكرة مذعورة إلى سكرتيرها، بي إن دهار؛ فكتبت: إن تعليقات سانجاي «مفرطة الغباء»؛ فهي «لن تلحق أذى بالغا بمن ساعدونا فحسب»، وإنما ستتسبب في «مشكلات خطيرة مع الكتلة الاشتراكية برمتها». استطاع دهار الحد من الأضرار؛ إذ لم تظهر مقتطفات أخرى في الصحف، ومنعت مجلة «سرج» من نشر الحوار، وأقنع سانجاي نفسه بأن يدلي بتصريح مفاده أن قيادات حزبي جانا سانج وسواتنترا أكثر «فسادا»، وأن الحزب الشيوعي الهندي يستحق التحية على دعمه «السياسات التقدمية، لا سيما تلك التي تطول الفقراء».
49
إلا أن ذلك لم يردع سانجاي عن الإدلاء بحوارات أخرى؛ فعندما سئل في حوار مع مجلة «ذي إلاستريتد ويكلي أوف إنديا» عن القيود المفروضة على الصحافة، رد بأن الصحف «لا تتوانى عن ترديد الأكاذيب الصريحة المؤذية. والرقابة هي السبيل الوحيد لإنهاء ذلك». وعندما طلب منه تقديم كشف حساب لحالة الطوارئ، قال إن «المكسب الأكبر المتحقق هو حس الانضباط وتعجيل وتيرة العمل». وأضاف: «ماذا خسرت البلاد؟ التهريب، والسوق السوداء، والاكتناز، وحرق الحافلات، وعادة التأخر عن العمل.»
50
ظهر رئيس تحرير تلك المجلة، كشوانت سينج، في دور المشجع والمهلل الرئيسي للابن الصاعد؛ فوصف سانجاي بأنه «رجل المهام الصعبة» واختاره «رجل العام في الهند». ونشرت المجلة مقالات عديدة تمدح سانجاي وزوجته الشابة مانيكا، وصفحات وصفحات من الصور المصاحبة لنصوص متزلفة على الدوام. (نماذج منها: «لديه العزيمة وحس العدالة وروح المغامرة، ولا يعرف الخوف مطلقا»، «سانجاي غاندي أضاف بعدا جديدا إلى القيادة السياسية؛ فهو لا صلة له بالشخصيات المشبوهة ولا بالمتملقين؛ فهو لا يعاقر الخمر، ويعيش حياة بسيطة ... كلماته ليست فارغة وإنما مشحونة بالعمل».)
51
ربما كان الأقل إثارة للدهشة الاهتمام الذي أولته إذاعة «أول إنديا راديو» إلى ابن رئيسة الوزراء، والقناة التليفزيونية التي تديرها الدولة «دوردرشان»؛ ففي غضون عام واحد، أذيع 192 نبأ عن سانجاي غاندي على إذاعة «أول إنديا راديو»، و265 نبأ على قناة «دوردرشان». وعندما ذهب سانجاي في رحلة مدتها أربع وعشرون ساعة إلى أندرا براديش، صورت شعبة الأفلام فيلما تسجيليا كاملا يدعى «يوم للذكرى»، رافقه تعليق بثلاث لغات.
52
العلامة الأوضح على تنامي أهمية سانجاي غاندي على الساحة السياسية الهندية كان الاحترام الذي عامله به وزراء الاتحاد ووزراء الولايات؛ فقبل أن يقرر وزير الدفاع بانسي لال أي قائد أسطول يرقي، كان يأخذ الرجلين المرشحين إلى سانجاي ليختار أيهما يصلح من بينهما. وعندما زار ذلك الشاب راجستان، جاء رئيس وزراء الولاية إلى المطار لاستقباله، وأثناء رحلته إلى مدينة جايبور بالسيارة عاين سانجاي 501 قوس أقيم على شرفه، وأعد عرض مشابه عندما زار أوتر براديش. وفي مطار لكنو، عندما انزلق سانجاي على مدرج الإقلاع وسقط منه نعله، التقطه رئيس وزراء الولاية بنفسه، وأعاده إليه بتبجيل.
53
8
وبخت رئيسة الوزراء الأمراء الهنود ذات مرة على إعلائهم النسب على الموهبة. ثم إنها استسلمت لذلك الإغراء هي نفسها؛ فقد سلك ارتقاء ابنها طريقا إقطاعيا على نحو ملحوظ؛ فمثلما يمنح الوريث لقبه في سن مبكرة - دوقا أو أميرا - عهد إلى سانجاي بجناح الشباب في حزب المؤتمر . (لقد كان مجرد عضو في المجلس التنفيذي نظريا، ولكن عمليا كانت رئيسة جناح الشباب بحزب المؤتمر تتلقى أوامرها منه.) وتماما مثلما كان أبناء أباطرة المغول يمنحون مقاطعة فيما مضى لإدارتها قبل تولي حكم المملكة نفسها، طلب من سانجاي رعاية شئون عاصمة الهند. وخلال بضعة شهور من إعلان الطوارئ، ذاع نبأ مفاده أن «رئيسة الوزراء نفسها تريد أن يتولى ابنها جميع المسائل ذات الصلة بدلهي».
54
بحلول ذلك الوقت، كان سانجاي غاندي قد شكل برنامجا من خمس نقاط مكملا لبرنامج والدته المكون من عشرين نقطة. تمثلت نقاطه الخمس في تنظيم الأسرة، والتشجير، والقضاء على ممارسة دفع العروس مهرا، ومحو الأمية، وتطهير العشوائيات. من بين تلك النقاط، انصب التركيز على النقطة الأولى، على المستوى الوطني، وعلى الخامسة، فيما يتعلق بدلهي؛ فقد كانت العاصمة مليئة بالعشوائيات التي تشكلت تلقائيا لإيواء النازحين الذين عملوا في الوظائف ذات الأجور المتدنية في الأحياء السكنية والمصالح الحكومية؛ ففيها كان يقطن الكناسون وعمال جر العربات وخدم المنازل والفراشون وأسرهم، لقد حوت المدينة نحو 100 من تلك المناطق العشوائية، وسكنها قرابة 500 ألف شخص.
55
كان سانجاي غاندي يريد إزالة تلك العشوائيات، وتسكين قاطنيها في أراض زراعية على الضفة المقابلة من نهر يمنا، فتواءمت أفكاره في هذا الصدد مع أفكار جاجموهان، نائب رئيس هيئة تنمية دلهي الطموح. كان قدوة جاجموهان هو البارون هاوسمان، وأمل أن يفعل من أجل دلهي ما فعله هاوسمان من أجل باريس؛ فبإزالة العشوائيات وبناء الطرق العريضة، حول البارون العاصمة الفرنسية من «مدينة قبيحة حقيرة» إلى «مركز ثقافة قوية ونابضة بالحياة». في الواقع، كان إعجاب جاجموهان بالأساليب الاستبدادية عاما؛ فقد أشاد بما حققه الشيوعيون الصينيون في شنجهاي، على سبيل المثال، «نتيجة السياسات القومية الحازمة والالتزام»، في حين «أننا في الهند، في المقابل، لا نزال هائمين على وجوهنا». وذات مرة قال جاجموهان متحسرا:
لست بهاوسمان جديد
لست لوتينز واتته فرصة
ولا كوربوزييه أمده نهرو بالقوة
أنا مجرد رجل بسيط
يتيم أنجبته هذه الشوارع.
ولكن:
على الرغم من كل تلك الأعباء
الملقاة على كاهلي
أقف منتصبا
لا أهدأ ولا أتوانى
راغبا في الكفاح
راغبا في الحلم.
56
كتبت هذه القصيدة عام 1974، قبل إعلان الطوارئ. وبعد مرور عام وصل سانجاي غاندي، لرفع الأعباء عن كاهل جاجموهان؛ فلطالما انزعج مخطط المدينة من العشوائيات، التي اعتبرها علامة على «مدينة مريضة بلا روح». ولما كان يتعجل تنظيفها وتطهيرها، أعاقت فوضى الإجراءات الديمقراطية عمله؛ متمثلة في الحاجة إلى الحصول على الموافقة، وتوفير سكن جديد ملائم، والتعامل مع النشطاء السياسيين الذين يزعمون أنهم يمثلون الناس.
كان جاجموهان عضوا مهما في زمرة نشأت حول سانجاي غاندي، تضمنت أيضا نافين تشاولا، سكرتير حاكم دلهي، والمسئول الشرطي الكبير بدلهي بي إس بايندر. وكان من النساء اللائي عملن مع سانجاي رئيسة جناح الشباب بحزب المؤتمر، أمبيكا سوني، وسيدة المجتمع المشتغلة بالخدمة الاجتماعية ركسانا سلطانة، التي اعتبرت ممثلته غير الرسمية لدى قاطني العشوائيات؛ ففي كل صباح، كانت تلك الزمرة تجتمع في مكتب سانجاي، لتلقي الأوامر وتقديم التقارير. وتضمن الحضور أيضا كاتب الاختزال الخاص برئيسة الوزراء، آر كيه دهاوان، الذي مثل حلقة الوصل بين هذه الزمرة وبين أعمال حكومة الهند. وسبق هؤلاء جميعا دهيرندرا براهماتشاري، الكاهن الهندوسي الطويل الشعر الذي دخل بيت آل غاندي في البداية لتدريب إنديرا على اليوجا، ثم مكث ليصبح من المقربين لابنها؛ فعلى الرغم من أن لباسه والتدريب الذي حصل عليه كانا لرجل دين هندوسي، كان براهماتشاري متطور الفكر بما يكفي لامتلاك مصنع أسلحة في كشمير وإدارته.
أصبحت أسماء أعضاء تلك الزمرة معروفة في المدينة، وصنائعهم تناقش همسا؛ فقيل إن أضمن طريق لعمل الحكومة في صالحك هو أن تتحدث إلى أحدهم (وترضيه)؛ فرجال الأعمال الساعون إلى الحصول على تراخيص أو إعفاءات ضريبية كانوا يهرعون إليهم، وكذلك كان يفعل أعضاء البرلمان الآملون في تعيينات وزارية. وعقدت المقارنات بين «العصابة البنجابية» الطائشة المحيطة بسانجاي، وبين جماعة الضغط الكشميرية الراقية المحيطة بوالدته، التي كانت قوية يوما ما. إلا أن الاختلافات بينهما لم تكن متعلقة بالأسلوب بقدر ما كانت متعلقة بالمقصد؛ ففي حين كان الكشميريون «مخلصين» للأيديولوجية الاشتراكية المشتركة بينهم بقدر إخلاصهم لزعيمتهم، كانت عصبة سانجاي مخلصة له هو فحسب.
57
تمثل استثناء هذه القاعدة العامة في جاجموهان؛ فقد حدد بالفعل ترتيب الأوضاع في دلهي باعتباره رسالته في الحياة، وسر بدعم ابن رئيسة الوزراء لتلك الرسالة؛ فالدعم الصادر عن سانجاي، بالإضافة إلى الغطاء الذي وفرته حالة الطوارئ، منحا مشروعية لتفضيل جامجموهان أساليب الإجبار على الإقناع؛ فاستطاعت الجرافات دخول العشوائيات، بعيدا حتى عن أعين الصحافة الساهرة؛ ففي السنوات الخمس عشرة السابقة على الطوارئ، تمكنت هيئة تنمية دلهي من نقل 60 ألف أسرة فقط، وفي الشهور الخمسة عشر التالية عليها، زاد ذلك الرقم إلى أكثر من الضعف.
58
ركزت عمليات جاجموهان على المدينة القديمة، التي كانت فيها الصروح والمساجد المغولية جنبا إلى جنب مع مساكن رطبة في شوارع مظلمة؛ ففي صبيحة يوم 13 أبريل 1976، دخلت جرافة منطقة بوابة التركمان، خلف طريق آصف علي، الذي يفصل بين دلهي القديمة والجديدة، وفي غضون يومين أزالت منطقة عشوائية حديثة النشأة سكنتها أربعون أسرة. ثم انتقلت بعد ذلك إلى مجموعة من المساكن البوكا (تلك المصنوعة من مواد بناء قوية) غير المحددة القدم؛ فاتصل قاطنوها بنائبتهم في البرلمان، التي كانت عضوا في حزب المؤتمر ومقربة إلى السيدة غاندي، تدعى سوبهادرا جوشي. واتصلت السيدة جوشي بدورها بمسئولي هيئة تنمية دلهي، وبلغت المناشدة جاجموهان نفسه.
عطلت المفاوضات العمل مؤقتا، ولكنها استؤنفت بعد يومين؛ فشغلت ثلاث جرافات، عملا بأوامر جاجموهان، حسبما قال السائقون. وبعدما هدم أكثر من 100 منزل، جلست مجموعة من النساء والأطفال، بعدما بلغ منهم اليأس مبلغه، على قارعة الطريق متحدين الجرافات أن تدهسهم. وعندما رفضوا التحرك، استدعت هيئة تنمية دلهي الشرطة؛ فبدأت المتاجر القريبة تغلق أبوابها تعاطفا مع المحتجين.
حاولت الشرطة استخدام العصي لزحزحة المعتصمين، وعندما فشلت جربت الغاز المسيل للدموع؛ فجاء الرد في صورة أحجار. تصاعدت وتيرة القتال، وانتشر في الحارات الضيقة، وتزايدت أعداد الجموع الغاضبة، وتقدمت الشرطة من استخدام الغاز المسيل للدموع إلى استخدام الرصاص. واستغرقت إعادة النظام الجزء الأكبر من اليوم. تراوحت تقديرات عدد القتلى في تلك الاشتباكات بين عشرة قتلى و200 قتيل، وفرض حظر التجوال في المدينة القديمة، ولم يرفع إلا بعد مرور شهر كامل.
59
كانت مقرات الصحف الهندية الكبرى تقع في طريق بهادور شاه ظفر مرج، على بعد أقل من ميل من بوابة التركمان، إلا أن أيا من تلك الصحف لم تستطع الكتابة عن الحادث في ظل حالة الطوارئ. إلا أن الحركات السرية التقطته وأبرزته؛ فبلغت الأنباء الشيخ عبد الله، الذي شعر «بعميق الأسى» إزاء حوادث إطلاق النار، وشكا إلى رئيسة الوزراء، التي وافقت على زيارته للمنطقة؛ فطاف الشيخ عبد الله أنحاء المدينة القديمة بصحبة عضو بارز في حزب المؤتمر ، متحدثا إلى الناس عن تجاربهم الأخيرة.
60
وهناك عرف أنه إلى جانب ممانعة المحتجين الطبيعية لمبارحة منازلهم، فقد تأذوا من إخضاعهم للنقطة الأولى ضمن نقاط سانجاي غاندي الخمسة، ألا وهي تنظيم الأسرة؛ ففي يونيو 1976، أفادت الصحيفة السرية «ساتيا سماتشار» بأن الشيخ أخبر مجموعة من نواب حزب المؤتمر البرلمانيين أن:
المشكلة كلها بدأت عندما جر الشباب والشيوخ وحتى المعاقون إلى معسكرات التعقيم. لا أحد يعترض على السياسات الاقتصادية لرئيسة الوزراء، ولكن أسلوب تنفيذها سيؤدي إلى انفجار بالتأكيد.
61
9
إحقاقا للحق، لم يكن سانجاي غاندي وحده القلق بشأن تعداد الهند الكبير والمتنامي؛ فشبح مالتوس طالما طارد الهند، كما اتضح بالفعل على صفحات هذا الكتاب؛ فقد كان الصحفيون الغربيون يخشون المجاعة الواسعة النطاق، وفقد البيولوجيون الغربيون الأمل في الهند برمتها، وكثير من الهنود أيضا كانوا متخوفين من أن تزايد عدد السكان من شأنه أن يدمر الإنجازات الأخرى لدولتهم؛ ففيما بين عام 1857 وعام 1947 لم يرتفع معدل الناتج الوطني الإجمالي، بل إنه انخفض في بعض الفترات. أما بعد الاستقلال، فقد نما بمعدل 3٪ سنويا، إلا أنه مع الزيادة الكبيرة في أعداد البشر، زاد الدخل الفردي بمعدل 1٪ فحسب سنويا.
ترجع النقاشات بشأن تعداد الهند إلى الأيام الأولى للاستقلال؛ فقد أنشأ العاملون بالخدمة الاجتماعية جمعية تنظيم الأسرة الهندية عام 1949، وتحدثت لجنة التخطيط منذ نشأتها في 1950-1951 عن أهمية تنظيم الأسرة، إلا أن الثقافة والاقتصاد جاءا في صالح الأسر الكبيرة؛ فالتحيزات التي صبغت عملية تطوير التعليم كانت تعني أن قيمة الفتيات الإنجابية ظلت أعلى من قيمتهن الكسبية؛ فاستمرار الاعتماد على الزراعة قد زاد من أهمية الأطفال. وكذلك حض رجال الدين رعاياهم من الهنود المسلمين والكاثوليكيين على الامتناع عن تنظيم الأسرة، وإضافة لذلك أبدى الأزواج الهندوس تفضيلا عظيما للبنين على البنات، بحيث كانوا يستمرون في محاولة الإنجاب حتى يرزقوا بصبي.
في عام 1901، كان تعداد الهند يبلغ 240 مليونا، وبحلول عام 1971 وصل ذلك العدد إلى قرابة 550 مليونا. خلال تلك الفترة، حدث انخفاض طفيف في معدل المواليد، نزولا من خمسين مولودا لكل ألف هندي إلى نحو أربعين. إلا أن انخفاض معدل الوفيات كان أكبر بكثير، نزولا من اثنين وأربعين لكل ألف في مطلع القرن إلى خمسة عشر لكل ألف بحلول سبعينيات القرن العشرين؛ فقد أتاح تطور الرعاية الطبية وتحسن نوعية الأطعمة عمرا أطول للهنود كافة، بما في ذلك الأطفال الرضع الذين كانوا معرضين فيما مضى لخطر الوفاة المبكرة. وبما إن معدل المواليد ومتوسط حجم الأسر لم ينخفضا بمعدل مماثل، فقد ظل تعداد السكان ينمو باطراد.
62
من الصعب أن نحدد على وجه الدقة متى بدأ اهتمام سانجاي غاندي نفسه بعملية تنظيم الأسرة؛ فالحوار الذي أجراه مع مجلة «سرج» في أغسطس 1975 لم يأت على ذكر تلك المسألة مطلقا. إلا أنه بعد مرور عام، ذكرت مجلة «ذي إلاستريتد ويكلي أوف إنديا» أن «سانجاي أعطى دفعة كبيرة لبرنامج تنظيم الأسرة في جميع أنحاء البلاد». وزعم أن برنامجه إذا طبق «سيحل 50٪ من مشكلاتنا». وأعرب عن تأييده للتعقيم القسري، الذي ينبغي توفير مرافق له «حتى مستوى القرية».
63
عن نقاط سانجاي غاندي الخمس، كتب مدون سيرته أن النقاط الأربع الأخرى كانت رتيبة وغير باهرة، «لا يمكن اعتبارها مادة لبناء مؤهلات القيادة الكاريزمية بالتأكيد». ولكن «تنظيم الأسرة كان ... مشروعا جبارا، أقر الجميع بأن تنفيذه يحمل أهمية حيوية، إن كان للأمة أمل في البقاء، فضلا عن الازدهار». ومن ثم «أصبح تنظيم الأسرة الركيزة الأساسية لأنشطة سانجاي غاندي خلال فترة الطوارئ».
64
خلال الجولات التي قام بها سانجاي غاندي في أنحاء الهند، شجع المنافسة بين ولايات الاتحاد الهندي في مجال تنظيم الأسرة؛ فكان يخبر رئيس وزراء إحدى الولايات بما ادعى آخر أنه حققه - «60 ألف عملية تعقيم في غضون أسبوعين» - ويشجعه على التفوق عليه. وكانت هذه الأهداف تعلن لمسئولي المناطق، الذين كانوا يكافئون إذا حققوها أو تجاوزوها، وينقلون إذا فشلوا؛ فأسفرت تلك العملية عن انتشار ممارسة التعقيم القسري؛ فكان على الموظفين الحكوميين من الدرجات الدنيا تسليم أنفسهم لمبضع الجراح حتى يفرج لهم عن مستحقاتهم المتأخرة، ولم تكن رخصة سائقي الشاحنات تجدد ما لم يقدموا شهادة تعقيم، ولم يمنح قاطنو العشوائيات قطعة أرض لإعادة توطينهم فيها ما لم يقدموا شهادة مماثلة.
65
ضربت الدولة على المدن بيد من حديد، ولم يفلت أهل القرى كذلك من بطشها؛ فقد أفاد عالم أنثروبولوجيا، قام ببعض العمل الميداني في منطقة ستارا بولاية مهاراشترا، بأن أثر الطوارئ كان محدودا في السنة الأولى بعد فرضها؛ فقد شيدت بضعة منازل للمعدمين بموجب برنامج العشرين نقطة، ورسمت بعض الشعارات المنددة بالدكتاتورية. ثم إنه في سبتمبر 1976 - بعيد زيارة سانجاي غاندي للولاية - بدأت حملة للتعقيم القسري في القرى؛ فأعد المسئولون المحليون قوائم بأسماء «الرجال المؤهلين»، الذين أنجبوا بالفعل ثلاثة أطفال أو أكثر؛ فكانت عربات الشرطة تأتي وتأخذهم إلى أقرب مركز صحي؛ فكان بعض الرجال يفرون إلى الجبال هربا من الشرطة، أما الذين خضعوا لعملية قطع القناة المنوية فكانوا يخجلون من التحدث عن الأمر.
66
كما في حالة هدم العشوائيات، كانت ثمة مقاومة؛ ففي سبتمبر 1976، سجلت صحيفة سرية قيام «موجة احتجاجات» ضد تنظيم الأسرة في دلهي وأوتر براديش؛ فقد وقعت اشتباكات بين موظفي صحة وأصحاب متاجر رفضوا الخضوع للتعقيم. وسجل ظهور مقاومة في مدن كثيرة بأوتر براديش؛ سلطان بور وكانبور وباريلي، وساد سخط هائل فيما بين معلمي المدارس، الذين طلب منهم إجراء عمليات مسح للمنازل كافة تماشيا مع حملة التعقيم، وقبض على 150 معلما لتحديهم الأوامر.
حدثت أسوأ واقعة - بوابة التركمان في تنظيم الأسرة، إن جاز التعبير - في مدينة مظفر نجر، على بعد سبعين ميلا شمال غرب دلهي. كان قاضي تلك المنطقة مشهورا بتعصبه وطائفيته؛ فبناء على أوامر منه، راح رجال الشرطة، الذين كانوا هندوسا في معظمهم، يلاحقون الحرفيين والعمال المسلمين باستمتاع واضح. وفي يوم 18 أكتوبر، نشبت مشاجرة بين الموظفين المشجعين للتعقيم وبين ضحاياهم المحتملين؛ فأطلقت الجماهير الغاضبة العنان لغضبها المكبوت، وأضرمت النار في العيادات الصحية وقذفت الزجاجات والحجارة؛ فاستدعيت الشرطة ولجأت بسرعة كبيرة إلى إطلاق النار؛ مما أسفر عن مقتل أكثر من خمسين شخصا؛ فهرع وفد من نواب المعارضة في البرلمان إلى المدينة، ولكنهم منعوا من التحدث إلى المقيمين. إلا أن الأنباء سربت إلى الصحافة الأجنبية، وأجبرت رئيسة الوزراء على الاعتراف في البرلمان بحدوث «واقعة» في مظفر نجر.
67
كان من الضحايا العرضيين لحملة تنظيم الأسرة التي تبناها سانجاي غاندي المطرب كيشور كومار ذو الشعبية الهائلة؛ فقد قبل غيره من نجوم السينما والموسيقيين المشاركة في برنامج لجمع المال من أجل عملية التعقيم، ولكن كيشور رفض؛ ونتيجة لذلك، حظرت إذاعة أغانيه على محطة «فيفيد بهاراتي»، وهي المحطة التابعة لإذاعة «أول إنديا راديو» التي احتكرت إذاعة أغاني الأفلام، وصدرت تعليمات لمجلس الرقابة على الأفلام بإيقاف إصدار الأفلام التي شارك فيها كيشور بالتمثيل أو الغناء، وحذر رجال سانجاي شركات التسجيلات أيضا من بيع أغاني كيشور. كان ذلك إجراء انتقاميا ضيق الأفق، متماشيا مع روح الفترة.
68
10
كان اختيار رئيسة الوزراء الاعتماد على سانجاي غاندي عوضا عن بي إن هاكسر ورفاقه، في وقت ذي أهمية سياسية حاسمة، تفكيرا شاذا حتى أصدقاؤها المقربون وجدوا صعوبة في فهمه. قدمت نظريات متعددة لتفسير تصرفها؛ منها أنها شعرت بالذنب لكونها أما عاملة ووالدة وحيدة، أو أنها كانت متوجسة خيفة من أن تغتال ومن ثم لم تستطع الثقة بأحد سوى أفراد عائلتها، أو أن سانجاي كان يعرف أدق أسرارها ومن ثم كانت له سيطرة عليها، أو أنها كانت ممتنة للدعم الذي قدمه لها عند إعلان الطوارئ. قد تروق مثل هذه التكهنات لمدوني السير، ولكنها تكاد تكون عديمة الجدوى بالنسبة إلى المؤرخين؛ فالمهم ليس هو النية، وإنما العواقب؛ أي إن المهم ليس معرفة سبب اختيار السيدة غاندي الاعتماد على ابنها الأصغر بهذا القدر، وإنما معرفة تبعات ذلك الاختيار على الهند والهنود.
قد يتراءى لنا تقسيم سيرة السيدة غاندي السياسية إلى مرحلتين، حيث يمثل فرض الطوارئ والاعتماد على ابنها سانجاي الخط الفاصل بين المرحلتين؛ فيمكن القول إنها قبل الاعتماد على سانجاي فازت بانتخابات، وأنشأت بنجلاديش، وأدخلت إصلاحات في حزب المؤتمر، وأجرت محاولات جريئة لإعادة تنظيم الاقتصاد، ثم إنها تحت التأثير الخبيث لسانجاي أدارت ظهرها للأهداف الاجتماعية الكبرى، واستحوذت عليها فكرة الحفاظ على نفسها وأسرتها.
69
إلا أنه عند النظر إلى سيرة رئيسة الوزراء في مجملها، يمكن القول إن سانجاي والطوارئ لم يمثلا تحولا جذريا عن الممارسات السابقة، وإنما مثلا تعميقا لها؛ فمنذ وقت الانقسام الذي حدث داخل حزب المؤتمر، عملت السيدة غاندي على وضع أفراد موالين لها في مناصب السلطة، وعلى جعل المؤسسات العامة أداة طوع إرادتها؛ فالمؤسسات من قبيل الحكومة ومؤسسة القضاء ومؤسسة الرئاسة وحزب المؤتمر، جرفت قبل فرض حالة الطوارئ بزمن، ثم زاد ظهور سانجاي تلك العملية حدة - بدرجة كبيرة من وجهة نظر البعض - وكذلك زادها سوقية وفسادا وعنفا، لكن العملية نفسها سبقت دخول سانجاي ساحة السياسة الهندية.
بحلول شهر يونيو من عام 1975، كانت السيدة غاندي تشغل منصب رئيسة وزراء الهند منذ فترة تقل قليلا عن عشرة أعوام، وعندما يقارن المرء بين الوقت الذي قضته في ذلك المنصب وبين الوقت الذي قضاه والدها، يصدم بتناقض صارخ؛ فمحاولات نهرو المخلصة على الرغم من تعثرها لتشجيع روح الديمقراطية في ظل مجتمع هرمي، أبطلت على يد ابنته نفسها، وبأساليب حاسمة ودرامية؛ فباستثناء قرار إقالة الحكومة الشيوعية في كيرالا، الذي جانب نهرو الصواب فيه تماما، كان نهرو يأخذ فكرة المعارضة على محمل الجد. ولكن السيدة غاندي لم تبد احتراما يذكر للأحزاب السياسية الأخرى، وكانت أقل انتظاما من والدها في حضور جلسات البرلمان، وفي حالة حضورها كان حديثها أقل منه بكثير . وقد أقام نهرو صداقات ثابتة مع سياسيين من أحزاب أخرى، وهو الشيء الذي كاد يكون من المستحيل تصوره في حالة السيدة غاندي. وكان ثمة تناقض أيضا في أسلوب معاملة كل منهما لحزبهما نفسه؛ ففي عهد نهرو كان حزب المؤتمر تنظيما لامركزيا وديمقراطيا إلى حد بعيد؛ فحتى إن رغب نهرو، لم يكن في مقدوره فرض رئيس وزراء في إحدى الولايات رغما عن إرادة سياسييها.
ويتعزز التناقض عند النظر إلى الجوانب الأخرى غير السياسية للحياة الديمقراطية في الهند؛ فقد كان نهرو يحترم حرية الصحافة، وأتاح لها الازدهار. وكان يحترم استقلالية الجهازين البيروقراطي والقضائي؛ فلا توجد حالات معروفة تدخل فيها لصالح مسئول بعينه أو ضده.
إلا أن السيدة غاندي، منذ حدوث الانقسام في حزب المؤتمر عام 1969 على الأقل، بدأت تنحرف عن مسار التقاليد السياسية لرئيس الوزراء المؤسس للهند. ازدادت الانحرافات وضوحا مع مرور الأعوام، ولكنها لم تتجل تماما إلا مع فرض حالة الطوارئ، والقمع الذي تلاها. لم يكن باستطاعة السياسيين المعارضين، لأسبابهم الحزبية الخاصة، إبراز التناقض بين رئيسي الوزراء الأول والثالث للهند؛ فنظرا لأنهم عارضوا نهرو من قبل، ونظرا لأن حزب المؤتمر أصبح يعمل تحت قيادة ابنته، لم يكن في إمكانهم الإشادة بأحدهما والتقليل من الآخر.
لكن الكتاب الغربيين لم يعانوا مثل تلك القيود، وأصبح بمقدور من عرفوا الزعيمين أن يروا بوضوح كيف انحرفت إنديرا غاندي عن المسار الذي رسمه جواهر لال نهرو؛ فبعد عام على بدء الطوارئ، جعل صديقان بريطانيان لنهرو ذلك التناقض محور انتقاداتهما للنظام؛ فقد كتب فينر بروكواي في صحيفة «ذا تايمز» منددا بتحول «أعظم ديمقراطية في العالم» إلى «دكتاتورية قمعية». ولما كان بروكواي نفسه «ابن الهند»، فقد ناشد السيدة غاندي «إكراما لذكرى مبادئ والدها الجليل، أن تنهي هذا الحرمان من الحرية والتحرر».
70
وكتب جون جريج في مجلة «ذا سبكتايتور» مذكرا بالتزام نهرو بحرية الانتخابات والصحافة؛ فقد كان أول رئيس وزراء للهند «رجلا وطنيا بحق لأنه كان ديمقراطيا بحق ... وقد ارتكب أخطاء كثيرة خلال الفترة الطويلة التي قضاها في منصبه ، ولكنه لم يخن ثقة الشعب الهندي قط فيما يتعلق بالقضية التحررية المحورية». ثم استدرك جريج بحزن مشيرا إلى أنه في الوقت الحالي، «يبدو أن موعد نهرو مع القدر تحول إلى موعد مع الاستبداد، على يد ابنته نفسها». فالسيدة غاندي «كان حريا بها أن تكون أكثر الناس اعتدادا بالتمسك بتجربة الهند الديمقراطية، التي أثبتت للعالم أجمع أنه ليس من الضروري أن يكون الناس أثرياء أو متعلمين حتى ينعموا بالحريات المدنية». إلا أنها بأفعالها «أكدت بدناءة» رؤية «الإمبرياليين الرجعيين» القائلة بأن «الأساليب المتسلطة هي وحدها التي يمكن أن تصلح لبلد مثل الهند». وطلب جريج إلى رئيسة الوزرء أن تحرر نفسها من تأثير ابنها، وتعود إلى قيم جيل والدها، بل إنه رجاها «أيا كانت التكاليف من حيث السلطة و«ماء الوجه» ومشاعر الأمومة المحبة أن تعيد الحريات التي أخذتها». وكتب أن ذلك «سيكون أصعب عمل قامت به في حياتها المهنية، لكنه سيكون الأشجع والأفضل أيضا».
71
كتب أصدقاء بريطانيون آخرون إلى السيدة غاندي بصفة شخصية، يحثونها على إنهاء حالة الطوارئ. كان أحدهم هوراس ألكسندر عضو جماعة الكويكرز، الذي توسط ذات مرة بين المهاتما غاندي والراج البريطاني، وكان كذلك أول من أطلع رئيسة الوزراء الحالية على مباهج مراقبة الطيور في الريف الهندي.
72
كذلك ورد في صحيفة «ذا تايمز» نقد علني، غير شخصي، في مقالات للصحفي برنارد ليفين، الذي يحظى باحترام واسع النطاق؛ ففي أكتوبر 1976 كتب ليفين مقالين طويلين عن الاعتداءات الأخيرة على الديمقراطية في الهند؛ ففي حديثه عن تعليق حق المثول أمام القضاء، وعن القيود المفروضة على الصحافة، حذر من أن السيدة غاندي في سبيلها إلى تحويل بلدها إلى «دكتاتورية رديئة». وفي الأسبوع الأول من يناير 1977، كتب مقالين آخرين، انتقد فيهما التعديلات الدستورية التي أقرت بهدف تقويض مؤسستي الرئاسة والقضاء؛ فتلك «الأحكام الاستبدادية» لم يكن «ثمة داع لها بالمرة، إلا لشخص يرغب في الحصول على سلطة كاملة والقدرة على استخدامها دون رقابة». وقال ليفين إن تلك التغيرات الأخيرة أكدت «تحول الهند إلى نظام سلطوي تماما يعمل تحت إمرة حاكمته الدكتاتورة السيئة السمعة؛ السيدة إنديرا غاندي».
73
في 18 يناير 1977، أعلنت رئيسة الوزراء أن البرلمان سوف يحل وتعقد انتخابات. جاء ذلك الخبر مفاجئا لمعارضيها السياسيين، الذين أخرجوا من محبسهم لحظة بث الخبر على إذاعة «أول إنديا راديو». وبحسب الروايات كافة، كانت تلك صدمة لابنها سانجاي، الذي لم يخطر مسبقا هو الآخر؛ فقد كان من الممكن مد فترة البرلمان القائم عاما بعد عام. وقد روضت المعارضة السرية. إلا أن السيدة غاندي قررت، فجأة ودون استشارة أحد، أن تعيد الهند إلى الديمقراطية.
سادت تكهنات كثيرة بشأن سبب تراجع رئيسة الوزراء عن حكم الطوارئ؛ ففي مقاهي دلهي، أشيع أن رئيس مخابراتها أكد لها أن حزب المؤتمر سوف يعاد انتخابه بأغلبية كبيرة، بينما شعر البعض أن قرارها جاء وليد المزايدة التنافسية؛ فقد كان بوتو قد أعلن لتوه عقد الانتخابات في بلده الاستبدادي عادة، باكستان؛ فهل كان يمكن للسيدة غاندي تأخير الانتخابات في بلدها الاستبدادي، على غير العادة، الهند؟ وكتب سكرتيرها بعد حدوث تلك الواقعة بفترة طويلة، مقدما تفسيرا ثالثا؛ فقد أشار إلى أن حالة الطوارئ قطعت قنوات اتصال السيدة غاندي بعامة الشعب، وهي القنوات التي كانت تقويها سابقا. وأضاف: «لقد راودها الحنين إلى رد فعل الناس إزاءها في الحملة الانتخابية لعام 1971، وكانت تتوق إلى سماع تصفيق الجماهير مرة أخرى.»
74
ربما ساهمت تلك العوامل مجتمعة، وساهم أيضا النقد الصادر عن المراقبين الغربيين ولا سيما الأصدقاء؛ فإلى جانب الأشخاص الذين استشهدنا بهم فعلا، صدرت تنديدات حادة لحالة الطوارئ عن فيلي برانت ومنظمة الأممية الاشتراكية («يجب على الاشتراكيين جميعا أن يتملكهم الآن إحساس جارف بالمأساة الشخصية لما يحدث في الهند»)، وعن مجلس الكنائس العالمي في جنيف («انتقاص خطير جدا لحقوق الإنسان»)، وعن التنظيم القائد للاتحادات العمالية الأمريكية؛ ألا وهو الاتحاد الأمريكي للعمل ومؤتمر المنظمات الصناعية («لقد أصبحت الهند دولة بوليسية تختنق فيها الديمقراطية»).
75
ما الذي أقنع السيدة غاندي بإنهاء حالة الطوارئ في نهاية المطاف؟ لا يمكننا أن نعرف يقينا، ولكن الحقيقة أنه يبدو أنها تأثرت بتعليقات أولئك المراقبين الغربيين الذين كان يستحيل تجاهلهم باعتبارهم أعداء للهند؛ ففينر بروكواي وجون جريج لم يكونا مثل ريتشارد نيكسون ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ولا كانا من المتشككين الذين استهزءوا بالهند أو أملوا أن تفشل ديمقراطيتها، وإنما كانا صديقين قديمين لحرية الهند؛ فأثناء حكم الراج البريطاني، ضغطا على بريطانيا كي ترحل، وبعد الاستقلال رحبا بإقامة نظام ديمقراطي. نحن لا نعلم ما إذا كانت السيدة غاندي قرأت مقالاتهما أو مقالات برنارد ليفين، ولكن الأرجح أنها قرأتها؛ فربما وضع أحد موظفيها أنفسهم تلك الكتابات أمام ناظريها دون تعليق، أو أحد المنتمين إلى الدائرة المقربة إليها؛ إذ كان هو نفسه غير راض عن الطوارئ. كانت مصادفة لافتة للنظر أن الدعوة للانتخابات صدرت بعد سلسلة المقالات الثانية لليفين في صحيفة «ذا تايمز»، وهي فترة تكفي لكي ترسل إلى الهند بالبريد الجوي، ويطلع عليها أحد الموظفين في مكتبها، ويأخذ منها مقتطفات ليعرضها على رئيسة الوزراء.
قد لا نعرف يقينا أبدا، وأحد أسباب ذلك أن أوراق السيدة غاندي لا تزال غير متاحة للاطلاع. إلا أنه من الملائم أن ننهي هذا الفصل بجزئية توضح مدى تنافر النظام الدكتاتوري الذي فرضته رئيسة وزراء الهند الثالثة مع الميراث الديمقراطي لوالدها، رئيس وزراء الهند الأول؛ فقد زار الهند إبان فترة الطوارئ الصحفي إيه إم روزنثول من صحيفة «نيويورك تايمز» - الذي كان مراسلها في الهند في وقت ما - وخلص إلى أنه لو كان جواهر لال نهرو حيا في ظل حكم إنديرا غاندي، لكان الاثنان خصمين سياسيين، لا حليفين. وعبر صديق هندي لروزنثول عن ذلك السيناريو المتصور كالآتي: «إنديرا في منزل رئيس الوزراء، وجواهر لال عاد يكتب إليها الرسائل من السجن مجددا.»
76
كانت تلك إشارة إلى سلسلة من الرسائل كتبها نهرو لإنديرا غاندي في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، بينما كان في السجن البريطاني. قدمت تلك الرسائل لابنته البالغة من العمر ثلاثة عشر عاما رؤية بانورامية لتاريخ العالم. بدأت القصة التي رواها والدها بالإغريق وانتهت بكفاح الهند من أجل الحرية، والتي تكشف عن مسيرة بني البشر التطورية (المتقطعة في كثير من الأحيان) تجاه مزيد من الاختلاط الاجتماعي والحرية. ثم كشفت الرسائل اللاحقة كيف أن «الديمقراطية، التي مثلت طوال ما يربو على القرن مثلا أعلى ومصدر إلهام لأناس بلا حصر، والتي يحصى شهداؤها بالآلاف»، الآن «أصابها التراجع في كل مكان». واختتمت الرسالة الأخيرة، التي أرسلها لإنديرا يوم 9 أغسطس 1933 - بعد الرسالة الأولى بثلاثة أعوام - بأنشودة الحرية المحركة للمشاعر، والتي تحويها قصيدة رابندرانات العظيمة «قربان الأغاني».
عندما نشرت الرسائل في هيئة كتاب، نفدت نسخ الكتاب بسرعة، وبعد فترة، أقنع الناشر مؤلفها نهرو بإصدار طبعة موسعة؛ فأشار في ملحق أعده خاصة، بتاريخ 14 نوفمبر 1938، إلى التطورات السياسية الكبرى التي حدثت في الجزء الأخير من ذلك العقد؛ فكتب نهرو لإنديرا يقول: «إن نمو الفاشية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة وهجومها على كل مبدأ ديمقراطي وتصور للحرية والحضارة، جعلا الدفاع عن الحرية مسألة حيوية في يومنا هذا.» فمما يؤسف له أن «الديمقراطية والحرية معرضتان لخطر محدق اليوم، والخطر أصبح أعظم لأن أصدقاءهما المزعومين يطعنانهما في الظهر».
77
الفصل الثالث والعشرون
الحكومة دون حزب المؤتمر
جميع أعمال والدي مؤلفة في السجن؛ فأنا أوصي بحياة السجون ليس فقط للكتاب الطموحين، وإنما للسياسيين الطموحين أيضا.
إنديرا غاندي، في حديث عام 1962
1
في يناير 1977، أثناء الإعلان عن عقد انتخابات جديدة، ذكرت رئيسة الوزراء بأنه «منذ نحو ثمانية عشر شهرا، كان بلدنا الحبيب على شفا كارثة»، وأنها فرضت حالة الطوارئ «لأن أحوال الأمة لم تكن طبيعية بالمرة»، أما وقد «تماثلت للشفاء»، فمن الممكن عقد انتخابات.
أثناء حديث السيدة غاندي في الإذاعة، أطلق سراح معارضيها من سجونهم في جميع أنحاء البلاد. وفي اليوم التالي، 19 يناير، التقى زعماء أربعة أحزاب في منزل مورارجي ديساي بنيودلهي. كانت تلك الأحزاب هي: جانا سانج، وبهاراتيا لوك دال (حزب مكون من مزارعين بالأساس، بقيادة تشاران سينج)، والحزب الاشتراكي، وحزب المؤتمر «أوه» بقيادة مورارجي نفسه. في اليوم التالي، أخبر ديساي الصحافة أنهم قرروا خوض الانتخابات تحت رمز واحد واسم واحد. وفي يوم 23 يناير، أعلن تأسيس حزب جاناتا (الشعب) رسميا في مؤتمر صحفي بحضور جايا براكاش نارايان.
1
بعد تشكل حزب جاناتا بعشرة أيام، أعلن جاجيفان رام أنه سوف يترك حكومة الاتحاد ويستقيل من حزب المؤتمر. كان رام - المعروف ببابوجي - عضوا في حزب المؤتمر طوال عمره، ووزيرا بارزا في حكومتي نهرو وإنديرا غاندي، والأهم من ذلك كله أنه كان الزعيم المعترف به للطوائف المجدولة (المنبوذة سابقا)، التي شكلت نحو 15٪ من جمهور الناخبين. وكان رام هو من اقترح القرار الداعم للطوارئ في مجلس الشعب الهندي؛ فجاءت استقالته صدمة لحزب المؤتمر واعتبرت نذيرا بأمور آتية؛ لأن بابوجي كان مشهورا بحنكته السياسية؛ فاعتبر كثيرون قرار تركه حزب المؤتمر علامة على أن تلك السفينة وإن لم تكن تغرق بعد، فإن بها تسريبا خطيرا. وبعد استقالة رام من حزبه القديم، أنشأ حزبا جديدا، يدعى حزب المؤتمر من أجل الديمقراطية، وقال إن حزبه ذاك سوف يسعى مع حزب جاناتا إلى الحصول على مقاعد في البرلمان بحيث لا يستفيد حزب المؤتمر من انقسام أصوات المعارضة.
تقرر عقد الانتخابات في الأسبوع الثالث من مارس، وبدأت حملة المعارضة بتجمع حزبي حاشد بميدان رامليلا في نيودلهي يوم الأحد 6 مارس. وفي محاولة يائسة لخفض أعداد الحاضرين، اختارت الحكومة عرض فيلم رومانسي محبوب يدعى «بوبي» على التليفزيون في نفس وقت عقد التجمع الحزبي. عام 1977 كان ثمة قناة تليفزيونية واحدة، تديرها الدولة، وفي الظروف العادية كان نصف سكان دلهي البالغين سيقبعون أمام شاشات التليفزيون. ولكن كما علقت صحيفة موالية لحزب جاناتا في نشوة، فقد فاز بابوجي على بوبي ذلك اليوم. حضر مليون شخص لسماع حديث جايا براكاش وجاجيفان رام، إلى جانب زعماء أحزاب المعارضة الأخرى، التي تعهدت كلها آنذاك بتوحيد جهودها في معركة مشتركة ضد إنديرا غاندي وحزب المؤتمر.
2
في عاصمة الهند التجارية، بومباي، شهد يوم 6 مارس وصول المجلة الأكثر رواجا في المدينة إلى أكشاك الصحف حاملة حوارين؛ أحدهما مع إنديرا غاندي والآخر مع جايا براكاش نارايان، في سبق صحفي مزدوج حقيقي. قالت رئيسة الوزراء للمحاور إن أعضاء حزب جاناتا «متحدون ضدي فحسب، ولكن ليس على أي برنامج إيجابي». فلا يمكن للاسم الجديد أن يواري «الهدف القديم ذاته؛ ألا وهو التخلص من إنديرا غاندي». وزعم جايا براكاش في حواره أن «حزب جاناتا ليس أكثر اختلافا في داخله من حزب المؤتمر» الذي ينطوى على «شتى ضروب المصالح المكتسبة ويعج بالخلافات الداخلية المعتملة فيه». وعندما طلب إليه توجيه رسالة إلى قراء المجلة، قال نارايان إنهم ينبغي أن يصوتوا دون خوف، ويتذكروا أنه: «إذا صوتم للمعارضة فستصوتون للحرية، وإذا صوتم لحزب المؤتمر فستصوتون للدكتاتورية.»
3
كان أبطال نزاعات الفترة من عام 1973 إلى 1975 هم أيضا الشخصيات الرئيسية في الحملة الانتخابية لعام 1977؛ فقد طاف جايا براكاش أنحاء البلاد، على الرغم من كبر سنه وسوء حالته الصحية؛ فتحدث فيما بين 21 فبراير و5 مارس في باتنا وكلكتا وتشانديجار وحيدر أباد وإندور وبونا ورتلام - حيث لم يكن يتوقف إلا لقضاء بعض الوقت على جهاز الغسيل الكلوي. وحذر جمهوره في كل مكان قائلا: «ستكون هذه هي الانتخابات الحرة الأخيرة التي تعقد إذا ما أعاد التصويت حزب المؤتمر إلى السلطة»، ثم «ستتحول تسعة عشر شهرا من الطغيان إلى تسعة عشر عاما من الإرهاب».
4
أما السيدة غاندي، فنفت في خطبها أن حزبها حكر على عائلة واحدة. وعلى أي حال، «قليل من العائلات في العالم» يتمتع بسجل مماثل من الخدمة والتضحية. وأقرت بحدوث بعض التجاوزات أثناء فترة الطوارئ، إلا أنها دافعت عن ذلك النظام باعتباره كان ضروريا في تلك الفترة، وقالت في إصرار: «لا يعنينا من ينتقدنا؛ فعلينا أن نمضي على الطريق الصحيح مسترشدين بالسياسات والبرامج والمبادئ السليمة.»
5
في شمال الهند على الأقل، اعتبرت تلك الانتخابات استفتاء على تلك السياسات والبرامج، لا سيما برنامج بعينه، وهو: التعقيم الإجباري؛ فحسبما أفاد أحد الصحفيين: كان ثمة «كراهية عنيفة للعمليات الإجبارية لقطع القناة المنوية»؛ فتلك «القضية المفرطة الإثارة للمشاعر والمتفجرة لأبعد حد أصبحت بؤرة مشاعر الإحباط والسخط المكبوتة كافة». فقد كان الناخبون يطالبون مرشحي حزب المؤتمر بإبراز شهادات التعقيم الخاصة بهم، وعندما يعجزون، كانوا يطلبون منهم المغادرة بكل بساطة. وضربت الشعارات الانتخابية للمعارضة أيضا على ذلك الوتر؛ إذ نعتت حزب المؤتمر بمركز الإخصاء الرسمي، وحذرت من أن إعادة انتخاب ذلك الحزب ستكون بمنزلة إعادة التعقيم الإجباري. واستهدفت شعارات أخرى كبير المروجين لذلك البرنامج؛ على غرار: «في أرض غاندي ونهرو، من يكون ذاك المحتال سانجاي غاندي؟» كان من الفئات النشطة بصفة خاصة في الحملة الانتخابية معلمو المدارس وصغار الموظفين، أولئك الذين أوقفت ترقياتهم أو نقلوا من أماكن خدمتهم عقابا لهم على عدم الوفاء بالحصص التي كلفوا بها فيما يتعلق بتعقيم الذكور.
6
في ليلة 20 مارس 1977، علقت نتائج الانتخابات خارج مكاتب الصحف في دلهي لدى وصولها، وورد في صحف اليوم التالي أن الجماهير «كانت منحازة ومناصرة لحزب جاناتا بوضوح»، وقد راحت تردد الهتافات «بينما تساقط قادة حزب المؤتمر واحدا تلو الآخر». وعندما أذيع نبأ هزيمة السيدة غاندي في مقعدها في رايباريلي، الذي كان آمنا من قبل، «بدأ الناس الذين تدفقوا في الشوارع يهتفون بالشعارات في طرب ويطلقون الألعاب النارية». وأعقبت أنباء هزيمة سانجاي غاندي هتافات أعلى واحتفالات أطول أمدا. خسرت السيدة غاندي أمام غريمها القديم الذي قاضاها من قبل، راج ناراين. وفي دائرة أميتي المجاورة، هزم سانجاي على يد زعيم طلابي مغمور.
7
كان هزيمة الأم وابنها جزءا من هزيمة نكراء أشمل تعرض لها حزب المؤتمر في ولاية أوتر براديش؛ فقد خسر مقاعد الولاية الخمسة والثمانين كلها، ومقاعد ولاية بيهار المجاورة الأربعة والخمسين كلها، أمام ائتلاف جاناتا وحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية. وفي ولاية راجستان لم يفز حزب المؤتمر إلا بمقعد واحد من إجمالي خمسة وعشرين مقعدا، في حين فاز بمقعد واحد من أصل أربعين في ولاية ماديا براديش. عوضت تلك الخسائر بعض الشيء بأداء الحزب الجيد في جنوب الهند، حيث كانت الطوارئ خفيفة الوطأة؛ ففاز حزب المؤتمر بواحد وأربعين مقعدا من أصل اثنين وأربعين في ولاية أندرا براديش، وبستة وعشرين من أصل ثمانية وعشرين في كارناتاكا، وأحد عشر مقعدا من أصل عشرين في كيرالا، وأربعة عشر من أصل تسعة وثلاثين في تاميل نادو؛ فصعود حزب جاناتا لم يكن قد طال الجنوب تقريبا، ولكن على الرغم من ذلك، فإنه نظرا لارتفاع معدلات الكثافة السكانية وحصص المقاعد في الولايات الشمالية، كان حزب المؤتمر ينقصه الكثير حتى يحقق الأغلبية؛ فقد ربح 153 مقعدا في مجلس مكون من 540 مقعدا؛ أي إن عدد المقاعد التي حصل عليها انخفض عن انتخابات 1971 بأكثر من 200 مقعد. وفي المقابل، نجح 298 من مرشحي حزبي جاناتا وحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية.
8
كشفت الانتخابات عن انقسام إقليمي، وكذلك انقسام قائم على الطائفة الاجتماعية والانتماء الديني؛ فكانت ثمة فئتان على وجه الخصوص، لطالما اعتبرتا من الناخبين الأوفياء للحزب الحاكم، تخلتا عن حزب المؤتمر هذه المرة: إحداهما كانت الطوائف المجدولة، التي دفع انشقاق جاجيفان رام كثيرا منها إلى التصويت لحزب جاناتا. أما الفئة الأخرى فكانت المسلمين، الذين عانوا الأمرين على يد البرامج التي تبناها سانجاي؛ فعندما دعي لعقد الانتخابات، طلب الإمام القوي التأثير لمسجد دلهي الأكبر، المسجد الجامع، من المسلمين التصويت ضد حزب المؤتمر، وهذا ما فعله معظمهم، مما ساهم بدرجة كبيرة في الأداء الكارثي للحزب في شمال الهند.
9
تحدث المعلقون المتعقلون عن «موجة جاناتا»، بينما تحدث المعلقون الأقل تعقلا عن «ثورة»؛ فلأول مرة في تاريخ تلك الدولة الذي امتد ثلاثين عاما، تمكن حزب غير حزب المؤتمر من السيطرة على الحكومة. ولم يكن أحد من الهنود الأحياء عام 1977 يدري كيف ستكون الحياة دون وجود حزب المؤتمر بصفته الحزب السياسي المسيطر والحاكم للبلاد. وقليلون عرفوا كيف تكون الحياة دون وجود نهرو أو إنديرا غاندي بصفته السياسي المسيطر والحاكم.
كانت نتائج الانتخابات مبعث سرور لكثيرين، وغضب للبعض، ومفاجأة للجميع؛ ففي رسالة كتبتها السيدة غاندي لصديقة لها، أرجعت هزيمتها إلى قوى خبيثة، فكتبت: «دائما ما كان الناس يظنون أنني أتخيل وأبالغ في رد فعلي، ولكن كانت ثمة مؤامرة متغلغلة، وكان من المحتم أن تكتسحنا.»
10
وتبنى محرر كان من أقوى المناصرين لها الرؤية البعيدة المدى الأكثر تفاؤلا؛ فمثل ونستون تشرشل، قادت إنديرا غاندي أمتها إلى النصر في الحرب ، ومثله هتف لها الناس وهللوا، ومثله أيضا، أطاح بها شعب جاحد. كان في ذلك عزاء للسيدة غاندي، وكذلك درس لمن حلوا محلها؛ فنظام حزب جاناتا وحزب المؤتمر من أجل الديمقراطية «سرعان ما سيتعلم أن الوعود مثل الحلوى، ولكن التنفيذ مثل جرعة الدواء المر. والناس متقلبون كالزئبق؛ فالجماهير المهللة بالأمس قد تتحول إلى حشود غاضبة غدا».
11
2
خلافا لحزب المؤتمر، لم يخض حزب جاناتا حملته الانتخابية تحت قيادة زعيم واحد؛ فبعد ظهور نتائج الانتخابات، ثار جدل حول من ينبغي اختياره رئيسا للوزراء. لقد شعر مؤيدو تشاران سينج أن اجتياح الائتلاف لشمال الهند جعله الاختيار المنطقي. وذهب أعوان جاجيفان رام إلى أنه نظرا لأن انشقاقه عن حزب المؤتمر كان له تأثير حاسم، فينبغي وضعه في الاعتبار. وإضافة إليهما، كان هناك مورارجي ديساي، الذي أوشك على أن يصبح رئيسا للوزراء عام 1964، ومرة أخرى عام 1967.
خلال الأسبوع الأخير من مارس، أجريت حملات محمومة لالتماس الأصوات للمرشحين الثلاثة. وفي النهاية، تقرر أن يعهد بالاختيار إلى «الشيخين الجليلين» الواقفين وراء جاناتا - جايا براكاش نارايان وجيه بي كريبالاني - فاستقرا على ديساي، الذي كان يتمتع بخبرة إدارية لا نظير لها، فضلا عن سجله الشخصي الذي لا تشوبه شائبة. ومنح جاجيفان رام وزارة الدفاع المرموقة، بينما منح تشاران سينج وزارة الداخلية القوية، وكلف إتش إم باتيل - موظف الخدمة المدنية السابق - بوزارة المالية، بينما عهد بوزارة الخارجية إلى زعيم جانا سانج أتل بهاري فجبايي.
كيف ستكون سياسات الحكومات الجديدة؟ كان ذلك أمرا يصعب التنبؤ به؛ نظرا لانطواء كل من حزب جاناتا ومجلس الوزراء على خليط من الأيديولوجيات: «بعضها يترصد لنهرو، والبعض الآخر يمدحه، وبعضها يتحدث عن أهمية القطاع العام، وآخرون يناصرون النموذجين الياباني والأمريكي في طيش، والبعض يؤكد على الحاجة إلى الصناعات الثقيلة، بينما يطالب آخرون في صخب «بالعودة إلى القرى».»
12
وقد أشارت أهمية تشاران سينج إلى التحيز المضاد للحضر، بل إن لجنة التخطيط أصبح يسيطر عليها اقتصاديون متخصصون في الزراعة عوضا عن الصناعة. وأشارت أهمية الاشتراكيين إلى وضع رأس المال الأجنبي في موقف صعب، بل إن وزير الصناعة - الزعيم العمالي الفائر الحماس جورج فرنانديس - أعلن أن الشركتين الأمريكيتين المتعددتي الجنسيات كوكا كولا وآي بي إم ستجبران على الرحيل عن الهند (وهو ما حدث بالفعل بعد حين).
كان من أكثر الوزراء عملية مادهو دندفاتى، الذي كلف بوزارة السكك الحديدية. كان هذا الفرع من الحكومة يخدم عددا من الهنود أكبر مما يخدمه أي فرع آخر، ويقدم لهم خدمة دون المستوى. كان دندفاتى اشتراكيا هو الآخر، ولكن اشتراكيته تحاشت إلقاء الخطب المعادية للأثرياء، محظية السياسات المعنية بالفقراء؛ فحسب تعبيره: «ما أريد أن أفعله ليس هو الحط من كفاءة الدرجة الأولى، وإنما الارتقاء بالدرجة الثانية.» فأدخل دندفاتى الحوسبة في حجز تذاكر القطارات، مما خفض معدل الفساد بين موظفي الحجز ورفع نسبة اليقين لدى الركاب. وشرع في صيانة أو استبدال 5 آلاف كيلومتر من القضبان المتهالكة. إلا أن التدبير الأبعد أثرا الذي اتخذه كان هو وضع بوصتين من الإسفنج على المضاجع الخشبية القاسية التي اعتبرت «مقصورات نوم» في الدرجة الثانية، مما جعلها مريحة أكثر وأقرب إلى المستوى السائد في قسم الدرجة الأولى من القطارات. أدخل ذلك التغيير في الوجهات الكبرى أولا، ثم طبق مع مرور الوقت على القطارات كافة، مما ساعد مئات الملايين من المسافرين.
13
في الشهور الأولى للحكومة، انتظر مراقبو المشهد بلهفة حدوث تحول في السياسة الخارجية؛ ففي اليوم التالي على إعلان نتائج الانتخابات، جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» أنه في حين أن موقف حزب المؤتمر إزاء الغرب «تراوح بين الحدة المشوبة بالاعتداد بالنفس» و«الجفاء المقارب للعدائية»، فإن «جميع المؤشرات» الصادرة عن ائتلاف جاناتا تشير إلى أنه «من الممكن توقع موقف ودي إزاء الولايات المتحدة، وفتور ملحوظ إزاء الاتحاد السوفييتي». وكان احتمال إقامة تحالف بين الصين والهند والولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي يسيل لعاب الاستراتيجيين الأمريكيين؛ فقد ظنوا أن انتصار ائتلاف جاناتا يمثل «نوعا من المكسب المفاجئ لواشنطن».
14
كان الخطأ المرتكب هنا هو المساواة بين أسرة واحدة والدولة بأكملها؛ فقد كانت واشنطن تخال أن الاختيارات الشخصية لجواهر لال نهرو وابنته تفسر وحدها التحالف مع الاتحاد السوفييتي. ولكن في الحقيقة، كان لذلك علاقة أيضا بتشكك أكثر شمولية إزاء النوايا الأمريكية، ناجم عن مساندتها لباكستان، وكذلك نفور المثقفين الهنود من الرأسمالية الجامحة. وإضافة إلى ذلك، كان التهديد الذي تمثله الصين يستتبع أن نيودلهي لا يمكنها إدارة ظهرها لموسكو قطعا.
كان ما يريده قيادات جاناتا، ليس هو نبذ الاتحاد السوفييتي من أجل الولايات المتحدة، وإنما الوقوف على مسافة متساوية، قائمة على مبادئ، من القوتين العظميين؛ فكما علق المحرر الواسع التأثير (ومدون سيرة جايا براكاش نارايان) أجيت بهاتشارجيا، تمثل التحدي الذي يواجهه النظام الجديد في «تصحيح الميل الذي اتخذه عدم الانحياز تجاه الاتحاد السوفييتي مع مرور السنين، دون استعداء موسكو، إن أمكن».
15
ومن ثم زار مورارجي ديساي وإيه بي فجبايي الاتحاد السوفييتي معا في أكتوبر 1977، للتأكيد على أن العلاقة بين البلدين كانت أكثر بكثير من مجرد مسألة عائلية.
وفي الوقت نفسه، اتخذت مبادرات ودية مع الجانب الآخر؛ فقد بعثت الهند الفقيه القانوني ناني بالكيفالا، المعروف بميله إلى الغرب وحرية السوق، سفيرا إلى واشنطن. وفي المقابل، جاء جيمي كارتر إلى الهند في يناير 1978، ليكون بذلك أول رئيس أمريكي يزورها منذ جاءها أيزنهاور. وفي خطاب مؤثر ألقاه أمام البرلمان الهندي، تحدث عن «تطابق قيمنا الجوهرية»، وكيف أن البلدين مرا في الآونة الأخيرة «بأزمتين خطيرتين» (فضيحة ووترجيت وإعلان الطوارئ في الهند)، إلا أنهما تجاوزاها محافظين على التزامهما بالديمقراطية. ثم إنه تحدث في تتمة مرتجلة للنص المعد مسبقا، عن الفضل الذي تدين به حركة مارتن لوثر كينج للحقوق المدنية لأفكار المهاتما غاندي.
16
سعت حكومة جاناتا أيضا إلى رأب الصدع مع جيران الهند؛ ففي نوفمبر 1977، وقعت الهند وبنجلاديش اتفاقية لتقاسم مياه نهر الجانج، أصبح بموجبها للهند 20500 قدم مكعبة من المياه في المواسم العجاف، ولبنجلاديش 34500 قدم مكعبة. وقعت الاتفاقية على الرغم من احتجاجات حكومة ولاية غرب البنغال، التي ادعت أن ميناء كلكتا سوف يمتلئ بالطمي إذا حرم الماء الكافي.
17
وفي فبراير 1978، زار وزير الخارجية فجبايي باكستان، حيث أبهر مضيفيه، ومنهم الدكتاتور الجنرال ضياء الحق، الذي افترض أن رجلا تربى في جانا سانج من شأنه أن يبدي كراهية متعصبة إزاء المسلمين.
18
وبعد مرور عام، زار فجبايي الصين، ليكون بذلك الهندي الأعلى منصبا الذي زارها منذ الحرب الحدودية لعام 1962. إلا أنه في تلك المناسبة، عكر صفو الرحلة هجوم الصين على فيتنام، الذي قامت به في تجاهل متعجرف لصداقة الهند الطويلة مع البلد الذي غزته الصين.
فيما يتعلق بالسياسة الاقتصادية والخارجية كانت حكومة جاناتا أقل اتحادا؛ فقد كان التوافق الأوضح في الآراء متعلقا بمعاملة النظام الجديد لرئيسة الوزراء السابقة. كان زعماء ائتلاف جاناتا عازمين على جعل السيدة غاندي تدفع ثمن فرضها حالة الطوارئ؛ فعينت ثماني لجان تحقيق، كل منها تحت رئاسة قاض متقاعد. كانت لجان عدة منها معنية بفساد رؤساء وزراء الولايات المنتمين إلى حزب المؤتمر، وإحداها معنية بمعاملة جايا براكاش في السجن، وواحدة - من قبيل السخف - معنية بسوء المعاملة المحتمل للزعيم الاشتراكي (ومؤسس حركة «مناهضة حزب المؤتمر») رامانوهار لوهيا في إحدى المستشفيات الحكومية عام 1967. وأنشئت كذلك لجنة للتحقيق في شئون شركة ماروتي المملوكة لسانجاي غاندي.
تمثل التحقيق الأوسع نطاقا في لجنة شاه، التي أنشئت لمعاقبة المذنبين بتهمة ارتكاب تجاوزات خلال فترة الطوارئ. رأس اللجنة رئيس سابق لقضاة المحكمة العليا، يدعى جيه سي شاه. عقدت اللجنة اجتماعاتها في قاعة محكمة «باتيالا هاوس»، في وسط دلهي، حيث كان القاضي الأشيب يجلس على منصة مرتفعة، محاطا بمساعدين على يمينه ويساره. وأسفل منه، يجلس شاهد اليوم على منضدة مثبت عليها ميكروفون، حيث يستمع إلى شهادته جمهور معظمه من الصحفيين.
19
خلال الشهور القليلة الأولى لعمل لجنة شاه، استجوبت عشرات الشهود؛ من بيروقراطيين، وضباط شرطة، وموظفين في البلديات، وأعضاء في وزارة السيدة غاندي. ولكن السيدة غاندي نفسها رفضت الإدلاء بشهادتها؛ فقد استدعيت إلى منصة الشهود ثلاث مرات، وحضرت ثلاث مرات، ولكنها امتنعت عن الإجابة عن الأسئلة، بزعم التزامها بقسم السرية الذي يقطعه مجلس الوزراء؛ فرأت إحدى المجلات التي كانت من ضحايا فترة الطوارئ في ذلك التصرف «محاولة مشينة للاستهزاء بفعاليات اللجنة».
20
وقال صحفي أكثر تعاطفا مع الجانب الآخر معلقا:
كان المفترض أن تكون لجنة شاه شبيهة بمحاكمات نورمبرج. إلا أنها تحولت إلى مسرحية تمثيلية بطلتها (أو المرأة اللعوب فيها) غائبة على الدوام، ولا يتصدر المسرح سوى الأشرار أو الممثلين الهزليين الثانويين. بل إنها ما فتئت تخسر قيمتها الدعائية؛ إذ سئم الناس التعليقات الواردة على التليفزيون والإذاعة، فأصبحوا يطفئونهما بمجرد ذكر اسم لجنة شاه.
21
3
كان تغير الحكومة في الهند إيذانا بتغير النظم الحاكمة للمقاطعات أيضا؛ فقد اقتدى ائتلاف جاناتا بتصرف السيدة غاندي عام 1971، حيث أقال حكومات الولايات في شمال الهند، بدعوى أن نتائج الانتخابات العامة أثبتت أن تلك الحكومات قد «خسرت ثقة الشعب». وفي الانتخابات الجديدة لمجالس الولايات، ربح ائتلاف جاناتا بسهولة في ولايات أوتر براديش وماديا براديش وراجستان وبيهار.
كانت التغيرات تجري على قدم وساق في ولايات أخرى أيضا؛ ففي غرب البنغال، وصل ائتلاف حزبي يساري إلى السلطة بأغلبية كبيرة؛ حيث ربح الحزب الشيوعي الماركسي نفسه 178 مقعدا من إجمالي 294، بينما فاز حلفاؤه باثنين وخمسين مقعدا. عامي 1967 و1969، كان الحزب الشيوعي الماركسي قد تشارك السلطة في البنغال مع أحزاب غير شيوعية، في ائتلافات غير مستقرة سهل حلها على الحكام المكيافيليين المبعوثين من نيودلهي. ولكنهم الآن لم تعد أمامهم مشكلات من ذلك القبيل، وأصبح بإمكانهم الشروع في إصلاح المنظومة البرجوازية من داخلها.
22
كان رئيس وزراء غرب البنغال الجديد هو جيوتي باسو، محامي ميدل تمبل، الذي كان الرجل الثاني في حكومات ائتلاف الجبهة المتحدة والجبهة اليسارية في ستينيات القرن العشرين. أما الأعضاء الآخرون في مجلس الوزراء فكانوا أقل رقيا؛ إذ جاءوا من خلفيات عمل مع مزارعين وعمال. كانت الأولوية القصوى بالنسبة إليهم هي الإصلاح الزراعي، الذي ركز على تقنين حقوق «البرجدار» (المزارعين المستأجرين)، الذين تولوا زراعة معظم الأراضي في ريف البنغال؛ فشرعت «عملية برجا» التي اضطلعت بها الحكومة الجديدة في تسجيل حقوقهم، وزيادة الحصة التي يجوز لهم الاحتفاظ بها من المحصول؛ ففيما سبق، كان مالك الأرض يأخذ نصف المحصول أو أكثر من المستأجر، ثم انخفضت حصة المالك - بعد الإصلاحات - إلى 25٪، حيث أصبح المستأجر يحتفظ بالنسبة المتبقية البالغة 75٪. وقد استفاد أكثر من مليون فلاح فقير من تلك الإصلاحات.
وفي الوقت نفسه، عقدت الجبهة اليسارية انتخابات لمجالس القرى أيضا. كان الحكم الذاتي المحلي سياسة حكومية معلنة، ينص عليها الدستور، ولكنها نادرا ما كانت تتبع. كانت انتخابات مجالس القرى لعام 1977 في غرب البنغال أول انتخابات من نوعها تجرى بمثل تلك الجدية وعلى مثل ذلك النطاق الواسع؛ فقد بلغ عدد المقاعد المتنافس عليها فيها 55 ألف مقعد، فاز مرشحو الجبهة اليسارية بثلثيها. ومن الجدير بالذكر أن معظم المرشحين الذين انتخبوا على القائمة الشيوعية لم يكونوا من المزارعين المستأجرين، وإنما من صغار ملاك الأراضي والمعلمين والعاملين بالخدمة الاجتماعية، الذين ينتمون إلى ما يمكن أن تسميه الماركسية الكلاسيكية بالطبقة البرجوازية الصغيرة، ولكنهم على الرغم من ذلك كانوا من أعضاء الحزب أو المتعاطفين معه؛ فإلى جانب عملية برجا، ساعدت انتخابات مجالس القرى على تعزيز سيطرة الجبهة اليسارية على ريف البنغال.
23
حدث تغير في النظام في تاميل نادو أيضا؛ فقد سيطر حزب درافيدا مونيترا كازاجام على مقاليد الحكم فيها عقدا من الزمان، قبل إقالته بدعاوى باطلة أثناء فترة الطوارئ. وفي الانتخابات التي عقدت هذه المرة، كان خصمه الأكبر هو حزب أنا درافيدا مونيترا كازاجام لعموم الهند، الذي انشق عن الحزب الأصلي وتزعمه الممثل السينمائي إم جي راماتشندران، الذي ارتبطت هوية الحزب به ارتباطا تاما؛ فحتى الأجهزة التنظيمية المتطورة لحزب درافيدا مونيترا كازاجام لم تستطع الصمود أمام الكاريزما والجاذبية اللتين تمتع بهما راماتشندران؛ فقد ربح حزبه 130 مقعدا مقابل ثمانية وأربعين لحزب درافيدا مونيترا كازاجام. وسرعان ما أوضح راماتشندران أن شعارات «إمبريالية شمال الهند» القديمة عفى عليها الدهر، وقال إنه يرغب في إقامة علاقات طيبة مع الحكومة المركزية. في تاميل نادو، أنشأت الحكومة برامج شعبوية متماشية مع الصورة المرسومة لرئيس وزراء الولاية على الشاشة الفضية، باعتباره صديق الفقراء والمحتاجين. تضمنت تلك البرامج «وجبة منتصف النهار» التي قدمت في المدارس الحكومية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى حث الفتيات على حضور دروسهن والبقاء فيها.
24
في الشرق، بدأ الشيوعيون يتقبلون الديمقراطية البرجوازية. وفي الجنوب، بدأت الحركات الانفصالية سابقا تدخل في سلام مع الدولة القومية الهندية. وحدثت أيضا تطورات واعدة في مناطق وبين شعوب كانت أكثر ميلا للعنف في المعتاد؛ ففي صيف 1977، التقى مورارجي ديساي وإيه زي فيزو زعيم قبائل ناجا، في لندن، وعلى الرغم من عدم وصولهما إلى تسوية، فقد اعتبرت حقيقة أنهما التقيا - وفي بلد أجنبي - تنازلا مهما من جانب الحكومة الهندية. وفي وقت لاحق من ذلك العام، عقدت انتخابات المجلس التشريعي في ناجالاند؛ فذهب مورارجي ديساي ، البالغ من العمر اثنين وثمانين عاما، للمشاركة في الحملة الانتخابية، متحديا مخاطر النزول في وديان مغطاة بالضباب؛ فعلقت إحدى الصحف مشيرة إلى أن زيارته كانت «شهادة على الأهمية» التي أولاها للانتخابات، التي كانت نيودلهي تأمل في أن «تضع حدا نهائيا للمطالب الإقليمية للسيد فيزو وأتباعه».
25
أجريت انتخابات أيضا على الطرف المقابل - والمزعج بالقدر ذاته - من جبال الهيمالايا الهندية؛ فقبل إعلان الطوارئ، كان الشيخ عبد الله قد وصل إلى سدة الحكم في كشمير على رأس نظام تابع لحزب المؤتمر، ضمن اتفاق كان قد وقعه مع السيدة غاندي؛ فكان مورارجي ديساي حريصا على عقد الانتخابات، بهدف اختبار مشروعية ورقة وقعها شخصان؛ فحل مجلس الولاية، وأعاد الشيخ عبد الله إنشاء حزب المؤتمر الوطني الكشميري؛ فأثارت إعادة إحياء الحزب حماسا كبيرا، وكما ذكر أحد الكشميريين: «كان الوادي كله مغطى بأعلام حزب المؤتمر الوطني الكشميري الحمراء؛ فقد زين كل منزل وكل سوق بالرايات الاحتفالية.»
26
وفاز حزب المؤتمر الوطني الكشميري بستة وأربعين مقعدا من إجمالي خمسة وسبعين، وإن كانت أغلبيته أخل بها نوعا ما، نظرا لأنه في حين اجتاح رجال الشيخ عبد الله وادي كشمير الذي يسيطر عليه المسلمون، فإنه لم يربح سوى سبعة مقاعد من أصل اثنين وثلاثين في منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية. على الرغم من ذلك، فقد ظلت تلك أول انتخابات «حرة نزيهة بحق» تجرى في الولاية منذ الاستقلال، «لتثبت لشعب كشمير أنهم أيضا يتمتعون بالحقوق الأساسية ذاتها التي يتمتع بها الناس في سائر أنحاء البلاد ويمارسونها».
27
4
في شتاء 1978-1979، طاف الاقتصادي السويسري جيلبرت إتيان أنحاء الريف الهندي، وزار القرى التي درسها قبل خمسة عشر عاما؛ فوجد تناقضا ملحوظا بين مناطق «ديناميكية» مثل غربي أوتر براديش ودلتا نهر كوفري في تاميل نادو، من ناحية، ومناطق «بطيئة النمو أو عديمة النمو» مثل شرقي أوتر براديش وأوريسا، من الناحية الأخرى؛ فقد بدا أن العنصر المحوري في الازدهار الريفي هو إدارة المياه؛ فحيث حدث توسع في مرافق الري، ارتفعت الإنتاجية، وارتفع معها الدخل وأسلوب الحياة. وإلى جانب المياه، كانت الأسمدة الكيميائية من المدخلات ذات الأهمية الحيوية، وهي التي زاد معدل استخدامها أربعة أمثال في مناطق الثورة الخضراء.
كشف إتيان أن المكاسب الناجمة عن النمو الزراعي تراكمت في الأساس لدى الطوائف الهندية «المتخلفة» الصاعدة؛ مثل الجات في أوتر براديش، والكورمي والياداف في بيهار، والماراثيين في مهاراشترا، والفيلالا في تاميل نادو. أما الطوائف الهندية العليا أو المتقدمة، التي كانت تمتلك أراضي كثيرة فيما مضى، فقد انتقلت للعيش في المدن؛ فسعت الطوائف المتخلفة إلى ملء مكانها الشاغر. إلا أن وضع الطوائف الاجتماعية الدنيا ظل باعثا على الأسى؛ فالطوائف المجدولة، التي احتلت قاع التسلسل الهرمي التقليدي، لم تتحقق لها مكاسب تذكر من وراء التنمية الريفية بالصورة التي كانت عليها خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وكانت طبقة الموساهار من بيهار مثالا على ذلك؛ فقد وجد إتيان أن «أطفالها يعانون سوء التغذية، والطبقة تبث شعورا بالبؤس الشديد».
28
سجل إتيان أن «أحد أكثر البرامج ديناميكية» في ريف الهند سعى إلى زيادة إنتاج الحليب من جانب تعاونيات المنتجين. يرجع ذلك البرنامج إلى مشروع بدأ في أربعينيات القرن العشرين في قرية أناند، بوسط جوجارات؛ ففي الخمسينيات، أصبحت التعاونيات تغطي منطقة كايرا بالكامل، حيث تقع قرية أناند. وأرسل الحليب الذي أنتجته تلك التعاونيات إلى مدينة بومباي، التي تبعد عنها خمس ساعات بالقطار السريع. وشجع نجاح ذلك البرنامج (الذي يدعى «أمول»، حيث يرمز الحرف الأول لاسم القرية التي بدأ فيها) على توسيع نطاقه ليشمل كافة أنحاء البلاد في السبعينيات. ففي بداية العقد، كان ثمة ألف تعاونية تضم 240 ألف مزارع، وتنتج 176 مليون لتر من الحليب في السنة. وبحلول نهاية العقد بلغ عدد التعاونيات 9 آلاف، تضم مليون عضو، أنتجوا وباعوا قرابة 500 مليون لتر من الحليب في السنة إجمالا.
أدت تلك الأرقام ببعض المتحمسين إلى الحديث عن «ثورة بيضاء» مكملة للثورة الخضراء. والحقيقة أن توزيع المكاسب فيها، كما في تلك الثورة الأخرى، كان شديد التفاوت؛ فقد أبلى البرنامج بلاء حسنا في ولاية تاميل نادو، التي تمتعت بمرافق جيدة فيما يتعلق بالسكك الحديدية والطرق وبتعداد سكاني كبير في الحضر. أما الولايات التي اتسمت بتدني مستوى بنيتها التحتية، فكانت النتائج فيها مخيبة للآمال. وفي جميع الأنحاء، كان أكثر المستفيدين هم الطبقى الوسطى والمزارعين الأثرياء؛ أي الأشخاص الذين توافر لديهم علف أكثر (في صورة بقايا المحاصيل من أرضهم)، ومساحات أكبر يحتفظون فيها بالأبقار والجاموس، وقدرة أكبر على الحصول على ائتمان.
29
عاد تسويق المنتجات الزراعية ومنتجات الألبان بالنفع على قطاع كبير من المزارعين في ريف الهند. والجدير بالاهتمام أن المكاسب الاقتصادية تحولت إلى طموح سياسي؛ ففي فترة الستينيات، كانت تلك الطوائف الريفية الصاعدة هي التي سيطرت على حكومات الولايات في شمال الهند، وبحلول السبعينيات كان حضورها قد أصبح ملموسا على الساحة السياسية الوطنية؛ ففي ظل نظام جاناتا كانت قوة التأكيد على حضور الريف «ممثلة بصورة لافتة للنظر في شخص تشاران سينج وأيديولوجيته»، ولكن جذورها امتدت أعمق من ذلك؛ فعقب انتخابات مجلس الشعب الهندي لعام 1977، أصبح 36٪ من نواب البرلمان جميعا يأتون من خلفية ريفية، مقارنة بنسبة 22٪ عام 1952. واستشعر تأثيرهم في التوجه الريفي للسياسات الاقتصادية للحكومة، وفي الارتفاع المطرد للسعر الذي تدفعه الدولة لشراء القمح والأرز.
30
5
فسر بعض المعلقين هذه القوة المتنامية للريف من منطلق الطبقات؛ فقد شاهدوا «صراعات بين الريف والحضر» وتزايدا في حدة الصراع بين ملاك المصانع والمزارعين. ومعدل التبادل التجاري بين قطاعي الصناعة والزراعة، الذي كانت كفته مائلة بقوة نحو القطاع الصناعي من قبل، بدأت كفته تميل نحو القطاع الزراعي.
31
ولكن ذلك أيضا - وربما بدرجة أهم - كان صراعا بين الطوائف الهندية.
والحقيقة أنه عند النظر إلى الوضع من منطلق الطوائف الهندية عوضا عن الطبقات، يمكن للمرء التعرف على محورين مميزين للصراع؛ المحور الأول كان يكمن في السياسة والإدارة، حيث سعت «الطوائف المتخلفة» إلى التنازع على المكانة المتميزة التي تمتعت بها فيما سبق «الطوائف المتقدمة»، مثل: البراهمة والراجبوت والكياستا والبانيا، التي احتكرت على مر التاريخ الإلمام بالقراءة والكتابة، والعلم والمعرفة، والتجارة، والسلطة السياسية.
كانت الطوائف المتقدمة هي المسيطرة على الحركة القومية؛ ومن ثم، فعندما جاء الاستقلال سيطرت تلك الطوائف على الحكومات، سواء الحكومة المركزية أو حكومات الولايات. وشيئا فشيئا، دفعت ضغوط الديمقراطية النيابية بمطالب الطوائف الأدنى مقاما والأكثر عددا؛ فزاد عدد رؤساء وزراء الولايات المنتمين إلى طوائف متخلفة، وكذلك بالنسبة إلى وزراء الحكومة المركزية. ولكن ظلت قلعة واحدة منيعة، رئاسة وزراء الدولة؛ فمثل نهرو وإنديرا، كان مورارجي ديساي ينتمي إلى الطائفة البرهمية العليا. (وعلى الرغم من أن لال بهادور شاستري لم يكن برهميا، فقد كان ينتمي إلى الكياستا؛ طائفة الكتبة الراقية.)
في جنوب الهند، قلل نظام للتمييز الإيجابي - وضع في الأصل في ظل حكم الاستعمار - نسبة الوظائف الحكومية التي يمكن أن تشغلها «الطوائف المتقدمة». ثم سعى نظام جاناتا إلى توسيع نطاق هذا النظام ليشمل معاقله في الشمال؛ ففي بيهار أوصت لجنة أنشئت في مطلع السبعينيات بأن يحجز 26٪ من المناصب كافة في الإدارة للطوائف المتخلفة، وأهيل التراب على تلك التوصية في فترة الطوارئ. وبعد انتصار حزب جاناتا في بيهار عام 1977، أزال رئيس وزراء الولاية الجديد، كابوري تهاكور، الغبار عن التوصية وقرر أن يطبقها.
أسفر قرار تهاكور عن عاصفة من الاحتجاجات من جانب الطوائف المتقدمة؛ فأقدم الطلاب الراجبوت والبهوميهار على إحراق الحافلات والقطارات وتخريب المباني الحكومية، ولكن زعماء الطوائف المتخلفة لم يتزحزحوا عن موقفهم. وتعزز تصميمهم بنسبة تمثيلهم القوية في مجلس الولاية التشريعي؛ حيث كان نحو 40٪ من الأعضاء ينتمون إلى طوائف من شأنها أن تفيد بتوسيع نطاق المناصب المحجوزة؛ فعلى حد تعبير أحد السياسيين: «إن حركتنا لا تهدف إلى حجز المناصب فحسب، وإنما تهدف أيضا إلى اقتناص السلطة السياسية في شمال الهند ودلهي.» وبالفعل فقد عين مورارجي ديساي - تحت ضغط لوبي الطوائف المتخلفة داخل حزب جاناتا - لجنة لدراسة ما إذا كان ينبغي توسيع نطاق المناصب المحجوزة لتشمل الوظائف في الحكومة المركزية أيضا؛ فقد نص الدستور على أن يخصص 15٪ من هذه الوظائف للطوائف المجدولة، و7,5٪ للقبائل المجدولة؛ فأصبحت الطوائف المتخلفة تريد حصة لها هي الأخرى. رأس اللجنة المكلفة بالنظر في هذه المسألة سياسي من بيهار، هو بي بي مندل.
32
إلى جانب الانقسام بين الطوائف المتخلفة والمتقدمة، أصبحت بيهار مثالا على الممارسات الخاطئة كافة في الهند؛ فقد شكت المقالات الافتتاحية بالصحف «تدهور وضع القانون والنظام في المناطق»، وفساد المسئولين الحكوميين وقلة كفاءتهم، وعدم الاستقرار السياسي للولاية (تسعة أشخاص أقسموا يمين رئاسة الوزراء منذ عام 1967)، وتلك العوامل مجتمعة جعلت من بيهار «ولاية فقيرة فقرا مدقعا». وعقدت مقارنة بين حالتها آنذاك وحالتها أيام العصر الذهبي البائد، عندما أنجبت بيهار بوذا والإمبراطور أشوكا والإمبراطورية الماورية. ولكن الآن «لا تصل أنباء بيهار إلى عناوين الصحف أبدا، إلا إذا ضربتها الفيضانات والمجاعات، أو عندما تهدأ قوى الطبيعة، فترد تقارير عن حوادث مأساوية في مناجم الفحم، وفظائع ترتكب في حق الهاريجان، وحالات فساد».
33
6
جاءت تلك الفظائع نتيجة ازدياد حدة نوع ثان من الصراع بين الطوائف الهندية، وهو الصراع بين الطوائف المتخلفة من ناحية والطوائف المجدولة - أو الهاريجان - من ناحية أخرى. وهذا الصراع أيضا كان له أساس مادي؛ فالطرف الأول كان من يملك الأرض بالأساس، والطرف الثاني كان من يفلحها بالأساس؛ فإلى جانب التنازع على الأجور وظروف العمل، كان ذلك نزاعا على الكرامة أيضا؛ فقد تدثرت الطوائف المتخلفة بسهولة بعباءة الطوائف المتقدمة التي حصلوا على أراضيها، ومثلها أيضا عاملت الهاريجان باحتقار وكثيرا ما انتهكت أعراض نسائهم. في الماضي، لم يكن أمام الطوائف الاجتماعية الدنيا خيار سوى المعاناة في صمت، إلا أن التوسع في التعليم والمساحات التي أتاحها التمثيل السياسي كان معناهما أن أبناء الهاريجان «لم يعودوا مستعدين لتحمل الاحتقار وسوء المعاملة والضرب وغير ذلك من أشكال الإهانة التي تقبلتها الأجيال الماضية باعتبارها أمرا طبيعيا».
34
حدثت زيادة لافتة للانتباه في عدد الهجمات على الهاريجان منذ تسلم الحكومة الجديدة مقاليد السلطة في نيودلهي؛ فخلال السنوات العشر التي أمسكت فيها السيدة غاندي بزمام السلطة كان عدد الحوادث المسجلة 40 ألفا. أما فيما بين أبريل 1977 - عندما تسلم حزب جاناتا مقاليد السلطة - وسبتمبر 1978، فقد سجلت 17775 حالة «انتهاك شديد ضد الهاريجان». وبحسب التقديرات، فقد وقع ثلثا تلك الحوادث في الشمال، في الولايات التي أمسك نظام جاناتا بزمام سلطتها.
35
إلا أن النزاع الأخطر وقع في ماراثوادا، المناطق الداخلية القاحلة من ولاية مهاراشترا، التي شكلت في الماضي جزءا من المناطق الخاضعة لحكم «نظام». في تلك المناطق، كانت الطوائف المجدولة متأثرة بدرجة كبيرة بنموذج الدكتور بي آر أمبيدكار؛ فكثير منهم اعتنقوا البوذية، وآخرون كثر اختاروا الاستعاضة عن تسمية غاندي لهم - «الهاريجان»، بمعنى «أبناء الرب» - بلفظة «الداليت» الأقوى تأثيرا، بمعنى «المقهورون». وطالبت مجموعة من الكتاب والشعراء أطلقوا على أنفسهم «نمور الداليت» بأن تسمى الجامعة في المدينة الرئيسية بالمنطقة، أورانج أباد، على اسم زعيمهم الأعظم. واستجيب لطلبهم ذاك أخيرا في 27 يوليو 1978، عندما أصدرت حكومة الولاية قرارا بإعادة تسمية جامعة ماراثوادا إلى جامعة الدكتور بابا صاحب أمبيدكار.
قوبلت إعادة التسمية بمعارضة ضارية من جانب طائفة الماراثا المسيطرة؛ فقد أعلن الطلاب إضرابا عاما جبريا في مدن المنطقة، أغلقوا بمقتضاه المدارس والكليات والمتاجر والأعمال، وتشعبوا بعد ذلك إلى القرى؛ حيث هاجموا قرى الداليت الصغيرة وأحرقوها في بعض الأحيان، فشرد ما يقدر بنحو 5 آلاف شخص، كلهم تقريبا من الطوائف الهندية الدنيا؛ وعليه، سحب أمر تغيير اسم الجامعة.
36
قبل وقوع أحداث الشغب في ماراثوادا بثلاثة أشهر، وقعت اشتباكات عنيفة بين الداليت والطوائف الاجتماعية العليا في مدينة أجرا بأوتر براديش، فمرة أخرى، أثار إعجاب عامة الشعب بالدكتور أمبيدكار المتاعب؛ فقد كان بأجرا مجتمع قوي من الجاتاف؛ الإسكافيين الذين اغتنوا من جراء تجارة الأحذية. وفي يوم 14 أبريل 1978 - ذكرى مولد أمبيدكار - خرجوا في مسيرة، تقدمها فيل يحمل صورة مطوقة بالزهور لبطلهم؛ فكان استخدام الداليت لمركبة جرى العرف على ارتباطها بالملوك الهندوس، أكثر مما تستطيع الطوائف الاجتماعية العليا احتماله؛ فهوجمت المسيرة. وعلى سبيل الرد، اقتحم الجاتاف المتاجر المملوكة للطوائف الاجتماعية العليا. تلا ذلك أسبوعان من الاشتباكات المتقطعة، وفي النهاية استدعي الجيش لإعادة النظام.
37
7
من بين العشرة آلاف واقعة عنف طائفي أو أكثر التي سجل حدوثها إبان السنة الأولى من حكم جاناتا، كان لإحداها أثر امتد أبعد كثيرا من مكان منشئها. كانت تلك هي واقعة قرية بلتشي في بيهار؛ حيث أحرقت جماهير غاضبة من طائفة اجتماعية عليا - في 27 مايو 1977 - تسعة من الهاريجان حتى الموت؛ فأعلن واي بي تشافان، زعيم المعارضة في البرلمان، أنه سيذهب إلى القرية للتحقيق في الواقعة، وعندما أخلف تشافان وعده، قررت زميلته في الحزب ورئيسة الوزراء السابقة الذهاب عوضا عنه.
في الشهور الفاصلة بين هزيمة السيدة غاندي في الانتخابات وزيارتها لبلتشي، كانت مصابة باكتئاب شديد، وفكرت هي وسانجاي اعتزال السياسة، وربما الاستقرار في كوخ في الهيمالايا. ولكن حوادث القتل التي وقعت في بيهار حثتها على التحرك؛ فقد أنبأها حدسها السياسي بأن هذه ربما تكون بداية عودة محتملة؛ ومن ثم، فبينما عمد تشافان إلى المماطلة، ركبت السيدة غاندي طائرة إلى باتنا ومضت منها إلى بلتشي. كانت الطرق قد جرفتها الأمطار؛ فاضطرت إلى الاستعاضة عن سيارتها بأخرى رباعية الدفع، ثم الاستعاضة عن تلك بجرار زراعي، ثم الاستعاضة عن الجرار بفيل - عندما أصبح الوحل عميقا للغاية - فقد وصلت رئيسة الوزراء السابقة إلى بلتشي على ظهر فيل لمواساة أسر ضحايا العنف.
38
تلك البادرة الدرامية أعادت إنديرا غاندي إلى بؤرة الضوء على المسرح السياسي؛ فكما ذكر أحد خصومها فيما بعد، زيارتها إلى بلتشي «حققت عدة أغراض: لقد ساعدت على وصم حكومة حزب جاناتا باللامبالاة بمصير الفقراء والهاريجان، وجددت الرحلة التي قطعتها إنديرا غاندي صورتها باعتبارها صديقة الفقراء والبسطاء، وأثبتت أيضا لأعضاء حزب المؤتمر العاديين رجالا ونساء أن إنديرا غاندي امرأة أفعال، وهي وحدها التي يمكن أن يعهد إليها بتزعم معركة العودة إلى السلطة».
39
كانت زيارة قرية بلتشي فكرة السيدة غاندي نفسها، ولكن ما ساهم أيضا في إعادة تأهيلها كان مبادرة أقل ذكاء من جانب الحكومة القائمة؛ ففي الأسبوع الأول من أكتوبر 1977، قرر وزير الداخلية تشاران سينج أنه يجب أن يقبض على رئيسة الوزراء السابقة؛ فأعد مكتب الاستخبارات المركزي - عملا بتعليماته - صحيفة اتهام تنسب إليها تهمة الفساد. وذهبت الشرطة، مسلحة بتلك الورقة، إلى منزل السيدة غاندي حيث قبضت عليها. كانت نية الشرطة أن تنقلها بالسيارة إلى استراحة في ولاية هاريانا المجاورة ، ولكن سيارة الشرطة اضطرت للتوقف عند تقاطع سكك حديدية، فخرجت السيدة غاندي من السيارة وجلست على أنبوب تصريف. وفي تلك الأثناء، أخبر محاموها رجال الشرطة أن المذكرة الصادرة لا تبيح لهم نقل موكلتهم خارج دلهي، وتبعت ذلك مشادة، في حضور العديد من المارة المهتمين. وفي النهاية أقرت الشرطة بصحة حجتهم، وعاد الركب إلى العاصمة.
احتجزت الشرطة السيدة غاندي تلك الليلة، لكنها عندما مثلت أمام المأمور في صباح اليوم التالي، اعتبر صحيفة الاتهام لا قيمة لها. كان لمحاولة الاعتقال الفاشلة مردود سلبي على حكومة جاناتا، وساعدت على رد اعتبار عدوتها اللدودة؛ فقد بدأت إنديرا غاندي تلقي خطبا ذات نبرة قتالية مناوئة للحكومة الجديدة، استشهدت فيها بزيادة معدلات الجريمة والتضخم (الذي بلغ مستواه خانة العشرات المئوية)، واستغلال المكتنزين وتجار السوق السوداء؛ فعلقت صحيفة «نيويورك تايمز» خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر على أن رئيسة الوزراء المعزولة «أصبحت تتحدث بجرأة متزايدة في الآونة الأخيرة، محاولة استعادة مكانة الزعامة الوطنية من جديد».
40
انزعج حزب جاناتا من عودة السيدة غاندي للظهور، كما انزعج كثير من قيادات حزبها نفسه؛ فبعض وزراء حزب المؤتمر كانوا قد شهدوا ضدها بالفعل أمام لجنة شاه. وفي يناير 1978 أعلن انقسام المؤتمر رسميا إلى فصيلين؛ حيث شكل الفصيل الذي بقي مع السيدة غاندي حزب مؤتمر إنديرا، وفي الشهر التالي فاز ذلك الحزب بسهولة في انتخابات ولايتي أندرا براديش وكارناتاكا. تزعمت رئيسة الوزراء السابقة الحملة الانتخابية، وكما تبين من النتائج، فقد احتفظت في الجنوب على الأقل بصورة منقذة الفقراء والقبليين والطوائف المجدولة والمرأة.
41
بدأت السيدة غاندي آنذاك تبحث عن مقعد آمن، حتى تعود منه إلى البرلمان، وفي النهاية اختارت دائرة تدعى تشيكماجلور، تقع ضمن نطاق حزام القهوة في ولاية كارناتاكا. كان رئيس وزراء الولاية، ديفراج أورس، معروفا بكفاءته العالية، وتضمنت الإنجازات التي حققها تملك مئات الآلاف من المزارعين المستأجرين للأراضي التي كانوا يستأجرونها؛ فكانت إنجازات أورس ووضع السيدة غاندي نفسه الذي لم يتأثر كثيرا في جنوب الهند هما اللذان قاداها إلى السعي وراء الانتخاب على الطرف المقابل في الهند من مسقط رأسها أوتر براديش.
42
ترشح ضدها رئيس وزراء سابق (ومحترم جدا) لكارناتاكا، هو فيرندرا باتيل، وتزعم حملة باتيل الانتخابية غريم السيدة غاندي أثناء فترة الطوارئ؛ جورج فرنانديس، الذي أصبح وزيرا للصناعة في حكومة جاناتا؛ فقد قال فرنانديس في تصريح لأحد الصحفيين: «لن أبارح الدائرة الانتخابية حتى ينتهي الاقتراع. لا بد أن نهزمها.» وأخذت السيدة غاندي التحدي على محمل الجد؛ فكما ذكر الصحفي نفسه: «تبتسم بسماحة للنساء والأطفال، وتتلقى أطواق الزهور في مئات الاجتماعات المقامة على جانب الطريق، وتغير مسارها لزيارة كثير من دور العبادة، وتزور القديسين من جميع الطوائف.»
43
في النهاية فازت السيدة غاندي بسهولة، وما إن عادت إلى مجلس الشعب الهندي، قدمت ضدها «مذكرة بخرق الامتيازات البرلمانية»؛ فقد أفادت لجنة برلمانية، مليئة بأعضاء حزب جاناتا، بأنه عام 1974، عندما كانت إنديرا رئيسة الوزراء، عرقلت التحقيق في شأن مصنع ماروتي المملوك لسانجاي، وتعمدت تضليل البرلمان بذلك. وترك تقرير عقوبتها ل «حكمة المجلس»؛ فقررت الأغلبية المكونة من نواب حزب جاناتا وجوب حبسها لمدة أسبوع؛ فقرر رئيس اللجنة الانتخابية أن حبس السيدة غاندي يعني أنه يجب عليها الاستقالة من البرلمان. ثم دعي إلى انتخابات فرعية أخرى في تشيكماجلور، نافست فيها السيدة غاندي، وفازت.
44
8
نجمت محاولات حزب جاناتا لإذلال رئيسة الوزراء السابقة عن سوء تقدير خطير؛ فقد اكتسبت السيدة غاندي بتحملها الصبور لمعاناتها إعجاب الكثيرين، وفترتا الاعتقال الوجيزتان اللتان تعرضت لهما أسبغتا عليها هالة الشهداء. صحيح أن الرجال الذين أصبحوا يمسكون بزمام السلطة تعرضوا لأذى خلال فترة الطوارئ، إلا أن إيثارهم الانتقام من فرد واحد، بينما كان يفترض بهم أن يديروا الحكومة، أظهر شيئا من ضيق الأفق.
كانت محاولات اعتقال السيدة غاندي تكمن وراءها خصومات شخصية داخل معسكر جاناتا؛ فوزير الداخلية، تشاران سينج، لم يكن متقبلا لفكرة كونه الرجل الثاني في مجلس الوزراء؛ فمثل تحركه ضد السيدة غاندي محاولة لسحب البساط من تحت قدمي مورارجي ديساي. وفتح جبهة أخرى في المعركة ذاتها عندما كتب إلى رئيس الوزراء يشكو إليه تنامي نفوذ كانتي ابن ديساي. كان كانتي ديساي يعيش مع والده، ويتولى إدارة مواعيده، وقد عقدت مقارنات غير سارة بالدور الذي اضطلع به سانجاي غاندي من قبل.
خلال النصف الأول من عام 1978، تبادل تشاران سينج ومورارجي ديساي سلسلة من الرسائل الغاضبة. وفي النهاية، في يونيو 1978، اضطر ديساي إلى إعفاء سينج من منصبه في الوزارة، ومعه كبير مساعديه؛ راج ناراين. حاول أعضاء آخرون في حزب جاناتا التوسط لإحلال السلام بينهما، لكن دون جدوى. وفي ديسمبر، خرج سينج من فترة عزلة امتدت شهورا لينظم تجمعا هائلا للمزارعين في العاصمة؛ فجاء نحو 200 ألف فلاح - معظمهم من شمال الهند، وكثير منهم من طائفة الجات التي ينتمي إليها تشاران سينج نفسه - إلى دلهي في جراراتهم الزراعية وشاحناتهم للاستماع إلى زعيمهم.
أجبر استعراض القوة ذاك ديساي على إعادة تشاران سينج إلى الوزارة؛ ففي فبراير 1979 عين سينج وزيرا للمالية. وبالإضافة إلى ذلك كان آنذاك أحد نائبين لرئيس الوزراء؛ حيث كان الآخر هو جاجيفان رام. قدمت أول ميزانية وضعها سينج ترضيات للمزارعين، من قبيل زيادة الدعم المخصص للأسمدة والري. ولكن الوفاق لم يدم طويلا؛ فأحد العناصر المهمة في حزب جاناتا - الاشتراكيون - انحاز في معظمه لصف سينج، بينما قرر عنصر مهم آخر - جانا سانج - الوقوف وراء ديساي. وازداد الصدع اتساعا إثر مسألة «الانتماء المزدوج»، المتمثل في تنامي الشعور بأن أعضاء جانا سانج في حزب جاناتا ولاؤهم الأول لمنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. في مارس 1977، كان أتل بهاري فجبايي قد صرح بأن حزبه القديم «مات ودفن»، ولكن على الرغم من ذلك استمر الشعور بأن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج هي التي توجه تصرفات أعضاء جاناتا ووزرائه الآتين في الأصل من جانا سانج. وقد طلب منهم أن يتخلوا عن روابطهم بالمنظمة المذكورة، ولكنهم رفضوا، متعللين بأنها مجرد كيان «ثقافي».
في الأسبوع الثالث من يوليو 1979، قرر الاشتراكيون الجلوس في جماعة منفصلة في البرلمان، مما أفضى إلى وقوع انقسام داخل حزب جاناتا، وخسارة حكومة مورارجي ديساي للأغلبية، واستقالة ديساي نفسه. وفي محاولة ديساي لتجميع أغلبية جديدة، سعى إلى خطب ود أحد فصائل حزب المؤتمر، بينما سعى جاجيفان رام إلى خطب ود فصيل آخر. أما الزعيم الثالث في المعركة، تشاران سينج، فقد شكل تحالفا نفعيا مع إنديرا غاندي؛ فاستطاع - مستعينا برسالة دعم من حزب المؤتمر - إقناع الرئيس بأن لديه أغلبية في مجلس الشعب؛ فأقسم اليمين في الوقت المناسب تماما لإلقاء خطاب رئيس الوزراء السنوي في عيد الاستقلال من القلعة الحمراء، ليكون بذلك أول مزارع يفعلها.
45
مع تواصل تفكك حزب جاناتا، كتب جايا براكاش نارايان رسائل يائسة إلى تلامذته. وفي أكتوبر 1979، توفي جايا براكاش كسير الفؤاد؛ فكتب المحرر الليبرالي إيه دي جوروالا رثاء لنارايان وصفه فيه بأنه «القوة الأخلاقية العظمى في البلاد، ومحك الصواب والخطأ». وكتب جوروالا أن «آخر جهوده العظيمة» كان تشكيل حزب جاناتا والوصول به إلى النصر، بينما «خذله رجال الحزب الضيقو الأفق الأغبياء تماما ... بانغماسهم في مصلحتهم الشخصية واعتدادهم بأنفسهم».
46
هؤلاء الرجال المحبون لذاتهم - مورارجي ديساي وتشاران سينج وجاجيفان رام - حضروا جميعا جنازة جايا براكاش، والأكثر إثارة للدهشة أن سانجاي غاندي ووالدته حضراها أيضا. وكتبت السيدة غاندي إلى صديقة لها فيما بعد: «مسكين جايا براكاش العجوز! يا لعقله المشوش الذي قادة إلى تلك الحياة المحبطة!» وقد أعزت الصعوبات التي عايشها إلى «النفاق الغاندي»، وإلى عهد العزوبية الذي قطعه عندما تزوج برابهافاتي تلميذة المهاتما. وذكرت أنه: «من المرجح أن تكون بقية حياته تشكلت بذلك إضافة إلى غيرته من والدي.» وأضافت: «إن القول بأنه لم يرغب في منصب لمحض هراء؛ فجزء منه كان يرغب فيه، وبشدة. وكان متأرجحا بين ذلك وبين رغبته في أن ينظر إليه على أنه شهيد وقديس.»
47
ينطوي ذلك التقييم على شيء من الحقد، وكذلك على نبرة متغطرسة نوعا ما. وقد كان للسيدة غاندي الضحكة الأخيرة، ليس فحسب على صديقها القديم جايا براكاش، الذي أصبح غريما لها، وإنما على الحزب الذي أسسه أيضا؛ ففي شهر يوليو، عندما قدم مورارجي ديساي استقالته واختير خليفته، علقت مجلة «همت» ببصيرة نافذة قائلة: «السيدة غاندي هي الوحيدة التي ستود أن يجرى اقتراع في منتصف المدة، وستفيد منه في ظل المناخ الحالي؛ فمن مصلحتها أن ينصب السيد تشاران سينج رئيسا للوزراء، وإن كان ذلك لشهرين أو ثلاثة فحسب.»
48
أدى تشاران سينج قسم رئاسة الوزراء في الأسبوع الأخير من يوليو 1979، وبعد شهر أخبر حزب مؤتمر إنديرا الرئيس أنه سيسحب تأييده؛ فاستغرق الرئيس أكثر من شهر لدراسة البدائل واستبعادها. وعندما قرر أن الحل الوحيد هو إجراء اقتراع في منتصف المدة، كانت اللجنة الانتخابية لا تزال بحاجة إلى بعض الوقت للإعداد للانتخابات؛ ومن ثم ظل تشاران سينج رئيسا للوزراء حتى نهاية السنة، أي شهرين أكثر مما توقعت له مجلة «همت».
9
جاء حزب جاناتا إلى السلطة وسط موجة من المبالغات، والحديث عن تحرر ثان من الحكم الاستبدادي، وإعادة مدوية للديمقراطية. ومنذ الأسبوع الأول لتولي الحزب السلطة، بدا عازما على تبديد هذه المشاعر الطيبة؛ فسرعان ما لوحظ أنه في الحكومة المركزية وحكومات الولايات على حد سواء، راح وزراء حزب جاناتا يضعون أيديهم على أفضل المنازل الحكومية، ويغزون إدارة الأشغال العامة بحثا عن أجهزة التكييف والبسط، وينظمون حفلات وأعراسا باذخة لأقربائهم، ويسرفون في استهلاك الهاتف والكهرباء، ويسافرون إلى الخارج لأهون سبب (أو دون أي سبب)؛
49
فحتى المجلات المعروف عنها معاداتها حزب المؤتمر، بدأت تكتب عن «موت المثالية» في حزب جاناتا، قائلة إنه سرعان ما أصبح «حزبا سياسيا من النوع التقليدي»، أعضاؤه «متزايدو الاهتمام بالمناصب والعلاوات ومتناقصو الاهتمام بالتأثير على المجتمع». وأصبح الناس يقولون إنه في حين أن حزب المؤتمر استغرق ثلاثين عاما لكي يتخلى عن مبادئه، فقد فقدها حزب جاناتا خلال عام من تشكله.
50
استرجع أحد المحللين ذكرياته عن فترة حكم حزب جاناتا البالغة ثلاثة أعوام، واصفا إياها بأنها «سجل من المشاجرات الحزبية المرتبكة والمركبة، والخصومات داخل الأحزاب، والتحالفات المتقلبة، والانشقاقات، وتبادل اتهامات عدم الكفاءة، وفساد وإذلال الأشخاص الذين تسلموا مقاليد السلطة بعد السيدة غاندي».
51
معظم الهنود الذين عاصروا تلك الأعوام من شأنهم الوصول إلى الحكم ذاته، ولكن ببلاغة أكبر؛ إذ سيقولون إن حزب جاناتا لم يكن أكثر من طغمة من المهرجين؛ فكان مراقب أجنبي بارز - يدعى جرانفيل أوستن - هو الذي ذكرنا بأنه بعيدا عن المشاحنات والمشاجرات، قدمت حكومة جاناتا إسهاما ملحوظا للديمقراطية الهندية، تمثل - بحسب تعبيره - في «نجاحها الباهر في إصلاح الدستور بعد الاعتداءات التي تعرض لها في فترة الطوارئ، وإعادة إحياء الممارسة البرلمانية المفتوحة عبر أسلوبها التشاوري في إصلاح الدستور، وفي استعادة استقلال القضاء».
52
كان مورارجي ديساي هو صاحب المبادرة في هذا الصدد؛ ففي حوار أدلى به قبيل انتخابات 1977، ذكر أنه أثناء فترة الطوارئ، تعرضت الديمقراطية نفسها إلى «التعقيم». وقال إنه إذا فاز حزبه، فسوف «يعمل على تبديد الخوف الذي استبد بالناس»، ويتعهد «بتصحيح الدستور». وكان مورارجي واضحا في قوله: «علينا التأكد من أنه لن يمكن ثانية فرض حالة طوارئ كهذه؛ فلا ينبغي أن يكون ذلك في مقدور أي حكومة.»
53
بعد انتصار حزب جاناتا، أوكلت مهمة الإشراف على إصلاح الدستور إلى وزير القانون المجتهد شانتي بوشان. كان أهم تعديل يستوجب الإلغاء هو التعديل الثاني والأربعين؛ فبغية تغيير أحكامه «المدنسة» للدستور، صيغ تعديلان جديدان، أعادا الفترة النيابية في البرلمان ومجالس الولايات إلى خمسة أعوام، وأعادا حق المحكمة العليا في الفصل في أي انتخاب (بما في ذلك انتخاب رئيس الوزراء)، وحددا فترة الحكم الرئاسي في الولايات، وأمرا بنشر محاضر جلسات البرلمان والمجالس التشريعية، وجعلا فرض حالة الطوارئ عملية أصعب بكثير؛ فقد صار لا بد أن توافق أغلبية الثلثين في البرلمان على أي إجراء من هذا القبيل، وأن يجدد كل ستة شهور بعد التصويت عليه من جديد، وأن يأتي استجابة إلى «تمرد مسلح» (وليس مجرد «اضطرابات داخلية»، كما كان الحال في السابق). كان القصد من هذه التغييرات هو تحجيم القوى التعسفية للسلطة التنفيذية واستعادة حقوق المحاكم، وإعادة الدستور فعليا إلى حالته قبل التعديلات التي أدخلتها عليه السيدة غاندي في عهد الطوارئ.
استغرقت صياغة هذين التعديلين وقتا لدواعي الدقة القانونية والحاجة إلى كفالة نوعية الدعم عبر مختلف الأحزاب التي تتيح تمريرهما في مجلسي البرلمان. وأثناء مناقشة تلك الإصلاحات، أخذت الصحافة تنشر أنباء لجنة شاه بشراهة، بينما نشرت سلسلة متتابعة من الكتب والمذكرات التي توثق تجاوزات فترة الطوارئ؛ ففي ظل مناخ الرأي السائد ذاك، حتى حزب المؤتمر لم يكن في مزاج يسمح بالدفاع عن التغييرات التي أحدثتها قياداته في الدستور. وقد رفع هذا الضرر بموجب التعديل الرابع والأربعين المصاغ حديثا؛ فعند تمريره بأغلبية كبيرة في 7 ديسمبر 1978، كان ممن صوتوا عليه هذان العدوان القديمان: مورارجي ديساري وإنديرا غاندي.
54
10
على الرغم من فشل حزب جاناتا في الصمود مدة كاملة، فقد مثل انتصاره علامة فارقة في مسار السياسة الهندية؛ فلأول مرة منذ الاستقلال، جاء حزب غير حزب المؤتمر إلى سدة الحكم في الحكومة المركزية. وفي الولايات أيضا، ازداد المشهد السياسي تنوعا، بانتصار الشيوعيين في غرب البنغال وانتصار حزب أنا درافيدا مونيترا كازاجام لعموم الهند في تاميل نادو.
كان النظام السياسي الهندي في سبيله إلى الابتعاد عن المركز، وليس فيما يتعلق بالأحزاب فحسب؛ فقد شهدت نهايات سبعينيات القرن العشرين أيضا ازدهار عدد كبير من الحركات الاجتماعية «الجديدة»؛ ففي عام 1978 عقد مؤتمر كبير «للنسويات الاشتراكيات» في بومباي، انصب الاهتمام فيه على الانتهاكات المتزايدة لحقوق المرأة؛ فشنت حملات على ممارسة طلب المهر من العروس، وعلى الاغتصاب، وإدمان الكحوليات بين الرجال والإساءة الجنسية التي تنجم عنه في كثير من الأحيان، وطلب بتحسين ظروف العمل للنساء للعاملات في المصانع ووحدات القطاع المنزلي. كانت تلك الموجة الجديدة من الحركة النسوية واسعة الانتشار، وكذلك واسعة النطاق؛ إذ نشطت جماعاتها في ولايات كثيرة، حاشدة الدعم من خلال التجمعات الجماهيرية، والمسرحيات المعروضة في الشوارع، وحملات الملصقات، والطواف بالمنازل واحدا تلو الآخر التماسا للأصوات.
55
شهدت أواخر السبعينيات من القرن العشرين أيضا حركة بيئية مفعمة بالنشاط؛ فقد حارب الفلاحون دفاعا عن حقهم في الغابات، بينما احتج أهل القبائل على تهجيرهم من قبل المشروعات الصناعية الكبيرة، وعارض الصيادون الحرفيون سفن الصيد التي كانت تستنزف مخزون الأسماك في المحيط. في خضم تلك الاحتجاجات، كانت ثمة سمتان بارزتان: الدور البارز للمرأة التي تحملت هي نفسها وطأة التدهور البيئي، وحقيقة أنه في الهند (خلافا للغرب، حيث صيغ الاهتمام بالطبيعة في سياق جمالي وعبرت عنه الطبقة الوسطى) كانت تلك «حركة بيئية تزعمها الفقراء»، وساندتها مجتمعات ريفية ارتبط بقاؤها بإمكانية الحصول على هبات الطبيعة.
56
نشأت كل من الحركة النسوية والحركة البيئية في الأصل في مطلع سبعينيات القرن العشرين، وتعطلت مسيرتهما في فترة الطوارئ، ولكن عند انتهائها استؤنفت الحركتان بنشاط متجدد. وسرى ذلك أيضا على حركة الحقوق المدنية؛ فقد كانت أصولها ترجع إلى أسلوب معاملة نشطاء الناكسل المحبوسين في سجن كلكتا؛ فعندما بدأ هؤلاء السجناء الكفاح من أجل الحصول على لفائف السجائر والرسائل (التي حرمهم إياها سجانهم)، قرر مهندس متقاعد يدعى كابيل بهاتاتشاريا إنشاء جمعية لحماية الحقوق الديمقراطية. وقد مثلت فترة الطوارئ مصدر إلهام لتشكيل مجموعات أخرى من هذا القبيل، في دلهي وبومباي وحيدر أباد وسائر الأنحاء؛ بعضها ركز على حرمان «الحقوق المدنية»، أي انتهاك الدولة للحقوق الإنسانية الأساسية لمواطنيها، وعملت مجموعات أخرى مع مفهوم أوسع لمصطلح «الحقوق الديمقراطية»، اعتبر أن الحق في الحياة والحرية الذي يكفله الدستور يستتبع أيضا الحق في الحصول على أجور أعلى وظروف عمل أفضل، والحق في العمل المجزي في حد ذاته. عنيت الفئة الأولى من المجموعات بإصلاح السجون ومسألة إساءة استغلال سلطات الدولة (ولا سيما الشرطة) لنفوذها، بينما وضعت الثانية في اعتبارها أيضا تأثير سياسات الدولة على حياة المحرومين ومعايشهم، لا سيما الطوائف الاجتماعية الدنيا والقبائل. أصدرت تلك المجموعات عشرات التقارير عن انتهاك الدولة للحريات المدنية والحقوق الديمقراطية، مستمدة من دراسات ميدانية، كثيرا ما كانت تجرى في مناطق نائية من البلاد على يد مثقفي المدن الحريصين على الصالح العام.
57
وصفت هذه الحركات بلفظ «جديدة» لأنها تناولت قضايا أغفلتها الحركات الاجتماعية الطبقية القديمة والمعنية بالفلاحين والعمال. إلا أن تلك الحركات الأقدم عبرت عن نفسها بصور جديدة هي الأخرى في أواخر السبعينيات؛ ومن ثم بدأت حركة الاتحادات العمالية - التي ركزت على قطاع المصانع على مر التاريخ - تعمل مع عمال المناجم وعمال الصناعات المنزلية. كانت من المبادرات الجديرة بالذكر مبادرة اتحاد عمال مناجم تشاتيسجار، التي سعى قائدها شانكار جوها نيوجي إلى المزج بين أفكار غاندي وماركس؛ فقد كانت المناجم التي نشط بها هذا الاتحاد العمالي تخدم صناعة الصلب الضخمة التابعة للقطاع العام في بيهار. وإذ عمل نيوجي مع عمال مناجم من خلفية قبلية بالأساس، قاد حملة مطالبة بمنح العاملات أجورا مساوية، ومعارضة للإفراط في تعاطي الكحول من جانب الرجال، وأنشأ مدارس للأطفال، وقاتل من أجل أن يولي ملاك المناجم الصحة والسلامة المهنية اهتماما لا يقل عن الاهتمام بدفع أجر يحقق مستوى معيشة لائقا.
58
صاحب تلك الحركات وكملها نوع جديد من الصحافة الهندية؛ فقد أطلق انتهاء حالة الطوارئ العنان لطاقات الصحفيين على نحو غير مسبوق إلا في معركة الاستقلال الوطني؛ فقد انتهت الرقابة، ولم تعد ثمة حدود للموضوعات التي يمكن للصحفيين والمحررين الكتابة عنها، أو لطول أخبارهم ومقالاتهم. وكان من العوامل المساعدة أيضا أن أولى طابعات الأوفست وصلت الهند في السبعينيات؛ فلم تعد العملية المضنية لصب الحروف في المعدن الساخن لازمة، ولم تعد طباعة المجلات حكرا على المدن والبلدات الكبيرة فحسب.
تتبع المؤرخ روبن جيفري في دراسة محكمة «ثورة الصحف الهندية» التي بدأت عام 1977، وما فتئت تكتسب زخما منذ ذلك الحين. من بين العناصر المكونة لهذه الثورة يمكننا أن نختص بالذكر خمسة؛ اثنين منها أتاحتهما التكنولوجيا الجديدة، هما: طباعة طبعات متعددة من الصحيفة ذاتها في بلدات متباعدة في وقت واحد، وتحسن جودة الطباعة، ولا سيما طباعة الصور وغيرها من المواد المرئية. تولدت ابتكارات أخرى عن التغيرات الحادثة في المجتمع والسياسة؛ فقد يسر رفع الرقابة صعود الصحافة الاستقصائية، على غرار كتابة موضوعات شديدة اللهجة عن الجريمة والفساد السياسي. وأعطى كل من انتشار التعليم وتمدد الطبقة الوسطى دفعة هائلة للصحافة الصادرة باللغة الهندية؛ فقد قدر مسح لجمهور القراء على المستوى الوطني - أجري عام 1979 واقتصر على البلدات والمدن - أن نحو 48 مليون هندي يعيشون في الحضر يقرءون مطبوعة من نوع أو آخر بصفة منتظمة؛ حيث حدثت أسرع زيادة في هذا المجال في البلدات الصغيرة وفيما بين لغات الهند؛ ففي عام 1979، ولأول مرة، فاق عدد قراء الصحف الصادرة باللغة الهندية (التي يتحدثها 40٪ من الهنود) عدد قراء الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية (وهي لغة يتحدثها 3٪ من الهنود لا أكثر). واستبدلت الصحافة الجديدة لغة نثرية دارجة وشعبية بالأسلوب الجامد الرسمي الذي آثره المحررون والصحفيون من قبل؛ فالتعبيرات الاصطلاحية والعبارات المشتقة من اللغة السنسكريتية الكلاسيكية - التي كانت من موجبات العصر في الماضي - نبذت لصالح أوزان وإيقاعات أحاديث الحياة اليومية.
59
ظهر في الهند اتجاهان متناقضان إلى حد ما في نهايات سبعينيات القرن العشرين؛ فمن ناحية حدث تفكك متزايد في الكيان السياسي، تجلى في ارتفاع معدل إحلال الحكومات وتبديلها؛ فباستثناءات متناقصة باستمرار، تخلى السياسيون والأحزاب عن الأيديولوجية في سبيل المنفعة، وعن المبادئ في سبيل الأرباح. ومن ناحية أخرى، ظهرت صور جديدة من الظهور الاجتماعي بين فئات كانت مهمشة على مر التاريخ، مثل الطوائف الاجتماعية الدنيا والنساء والعمالة غير المنظمة؛ فلأول مرة أصبح هناك حركة نشطة للحريات المدنية، وأصبحت الصحافة - التي طوعت في معظمها دون مقاومة خلال فترة الطوارئ - أكثر نشاطا من أي وقت مضى.
فعلى الجانب الأكثر رسمية، السياسي المحض، بدا أن الديمقراطية الهندية كانت تتعرض للتجريف والتدهور، إلا أنه عند النظر لها من زاوية «اجتماعية» أكثر، بدا أنها في الواقع ازدادت عمقا وثراء.
الفصل الرابع والعشرون
ديمقراطية مبعثرة
لا يكون كل فرد أو كل حزب معدا دائما لاستخدام الإطار الديمقراطي الذي نعمل به لتحقيق أهداف بناءة؛ فيبدو أن ممارسة الحق الديمقراطي تتخذ أحيانا هيئة الحرية حتى في التدمير.
إنديرا غاندي لجايا براكاش نارايان، في مايو 1968
1
بعيد انتخابات عام 1977، كتب مراسل صحيفة «ذا جارديان» في الهند، معربا عن رأيه، أن عودة الديمقراطية ربما تكون قصيرة الأمد. وأشار إلى أن «السبيل الوحيد لاستمرار الديمقراطية هو الإصلاح والتقدم الاقتصاديان؛ فحكومة جاناتا الجديدة تواجه بالفعل أزمة اقتصادية؛ إذ استفحل التضخم من جديد، وتفجرت المطالبات برفع الأجور، وهبت موجة من الإضرابات؛ فإذا ما شعرت الحكومة بالعجز أمام الاحتجاجات، فمن الممكن أن تبدأ دورة القمع من جديد».
1
أما الشخص الأكثر تفاؤلا بصفة عامة، فكان الخبير المحنك في شئون الهند هوراس ألكسندر، الذي كان قد بلغ من العمر سبعة وثمانين عاما، ويقيم في أحد دور الكويكرز للمتقاعدين في بنسلفانيا؛ ففي رسالة نشرت في «نيويورك تايمز»، قال ألكسندر: لقد أثبتت «الانتخابات الهندية المذهلة» أن «عامة الشعب في الهند يتحلون بشجاعة سياسية»، مستمدة من غاندي وتراث حركة التحرير. وفي رسالة كتبها إلى رفيق له في جماعة الكويكرز، وصف الانتخابات بالمثل بأنها «انتصار لعامة شعب الهند»، مضيفا: «لا تدع أحدا يقول إن «الحرية الديمقراطية» مفهوم برجوازي، لا يدركه سوى عدد صغير من المثقفين اليساريين.»
2
كتب ألكسندر الذي لا يعرف الكلل ولا الملل إلى السيدة غاندي أيضا؛ فقد أمطرها إبان فترة الطوارئ بوابل من الرسائل القلقة بشأن مصير الحرية والرجال الذين احتجزتهم. وتذكر صديقه القديم جواهر لال نهرو عندما كان يتمنى لو يحظى باستراحة يبتعد فيها عن السياسة، حتى يقرأ ويسترخي فحسب. وتساءل عما إذا كانت ابنة نهرو، في حالة ابتعادها عن السلطة، سوف «تقضي بعض الوقت في الاستمتاع بمراقبة الطيور، على جبال الهيمالايا أو في كشمير». وكان ثمة بعض الثرثرة بشأن الفن والأدب، ثم اختتمت الرسالة كالآتي: «سنحاول متابعة الأنباء الواردة من الهند، وربما تجدين نفسك - بعد خمسة أعوام - في مقعد السلطة مجددا بأغلبية أكبر من أي وقت مضى. هذه هي الديمقراطية!»
3
الحقيقة أن عودة السيدة غاندي إلى السلطة استغرقت أقل من ثلاثة أعوام، وحصل حزب المؤتمر الذي أسسته على 353 مقعدا في انتخابات عام 1980؛ أي أكثر مما حصل عليه في حملة «لنطرد الفقر» عام 1971 بمقعد؛ فقد أبلى الحزب بلاء حسنا للغاية في الجنوب - كما في الماضي - وفي الشمال أفاد كثيرا بانقسام الأصوات بين الفصيلين المتنافسين في حزب جاناتا، اللذين خاضا المعركة الانتخابية هناك بوصفهما حزبين منفصلين. على سبيل المثال: في ولاية أوتر براديش الرئيسية حصل حزب المؤتمر على 36٪ من أصوات الشعب، ولكنه ربح 60٪ من المقاعد البرلمانية، وحصل أحد فصيلي حزب جاناتا على 22,6٪ من الأصوات، بينما حصل الفصيل الآخر على 29٪. وفيما بينهما، ربحا اثنين وثلاثين مقعدا في الولاية مقابل مقاعد حزب المؤتمر الخمسين.
4
ذكر المحرر برابهاس جوشي أن انتخابات 1980 مثلت «نهاية الأيديولوجية» في السياسة الهندية؛ فقد خاضت الأحزاب الانتخابات السابقة وربحتها بناء على مبادئ الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية وعدم الانحياز. إلا أن السيدة غاندي عام 1980 لم تتحدث عن القضاء على الفقر وإنما عن قدرتها على الحكم؛ فقد قالت للناخبين إن حزب جاناتا لم يستطع السيطرة على زمام الحكومة، في حين أن هذا كان في استطاعتها، وقد فعلته من قبل؛ فإلى جانب المشاحنات داخل حزب جاناتا، كانت ثمة عوامل أخرى في غير صالحه أيضا؛ فقد كان ثمة قصور في السلع الاستهلاكية الأساسية، نسب إلى الحزب الحاكم بطبيعة الحال؛ فقد ذهب أحد الشعارات الانتخابية إلى أن: «حزب جاناتا فشل، وفي طريقه اغترف من الكيروسين والسكر.»
5
كان حزب جاناتا قد قوض مصداقيته تماما؛ فكما كشف مراسل صحفي يغطي الانتخابات، على الرغم من أن إنديرا غاندي كانت «صورتها مشوهة»، فإن خصومها كانوا «كلهم تشوهات دون صورة».
6
في ذلك الوقت، أفضت الهجمات الطائشة على الطوائف المجدولة إلى تحويل هذه الشريحة العريضة جدا من الناخبين نحو حزب المؤتمر مجددا. وكان سانجاي غاندي قد اعتذر للمسلمين عن تجاوزات فترة الطوارئ؛ فعادت قطاعات من تلك الكتلة التصويتية إلى صف إنديرا أيضا.
7
في معظم أنحاء الهند ، كانت الانتخابات حرة بدرجة كبيرة، إلا أنه في بعض المناطق في بيهار وأوتر براديش، حيث كانت الطرق رديئة وخطوط الهاتف منعدمة، لم تتمكن اللجنة الانتخابية من رصد أو منع استحواذ عصابات مسلحة على مراكز الاقتراع؛ ففيها سادت «المليشيات الحرة» الساحة، حتى «حل التصويت بالإنابة» محل «تصويت البالغين»؛ حيث أصبح بإمكان المرشح الذي يملك أكبر قدر من السلاح في حوزته «أن يؤدي وظيفة «التصويت الجماعي» بالنيابة عن جمهور الناخبين».
8
2
بعد عودة السيدة غاندي إلى السلطة بفترة غير طويلة، نصحها عالم سياسة متعاطف مع حزب المؤتمر بأن تعيد تشكيل الحزب بحيث يكون «المؤسسة الكبيرة التي كان عليها في عهد نهرو»؛ فقد كان «من الضروري أن يحل تقاسم السلطة محل الشخصنة المعمول بها فيه، وأن يسمح بظهور زعامات تستمد قوتها من القاعدة الشعبية عوضا عن القيادات المعينة فيه». وحينئذ سيمكن استغلال «الكاريزما المستردة» للسيدة غاندي «في سبيل تدعيم وتعزيز مؤسسات كيان سياسي منفتح، قبل أن تتبدد مرة أخرى كما حدث في الماضي».
9
كانت تلك المشاعر نبيلة وساذجة في الوقت نفسه؛ فالسيدة غاندي لم تكن تخال أنها تجسد حزب المؤتمر وحده، وإنما الدولة الهندية ذاتها؛ ففي مايو 1980 قالت لصحفي زائر: «كنت لأعوام طويلة هدفا للهجوم من جانب أفراد وجماعات وأحزاب»؛ سواء أكانوا «هندوسا ومسلمين متعصبين» أم «أصحاب المصالح الإقطاعية القدامى» أم أشخاصا «متعاطفين مع الأيديولوجيات الأجنبية». وفي حين أنها كانت تعمل على أن تحقق «للهند الاستقلال المطلق في تصرفاتها، والاكتفاء الذاتي، والقوة الاقتصادية»، فأولئك «المناهضون للاكتفاء الذاتي أو العلمانية أو الاشتراكية يجدون سببا أو آخر لإيذائي».
10
قد يكون «جنون الاضطهاد» (البارانويا) هو الوصف الملائم في هذا الموضع. وفي هذا الإطار الذهني لم تكن إنديرا غاندي مستعدة لتقاسم السلطة مع أحد جديا، سوى ابنها سانجاي، الذي كان قد أصبح آنذاك نائبا برلمانيا، وكذلك أمينا عاما لحزب المؤتمر. وفي الواقع، أصبح سانجاي غاندي - كما أشارت إحدى المجلات في دلهي - «العنصر الأكثر حيوية على الساحة السياسية الهندية» مرة أخرى؛ فعندما أقالت السيدة غاندي تسعا من حكومات الولايات بعد انتخابات عام 1980، كان سانجاي هو من اختار المرشحين على قوائم حزب المؤتمر لمجالس الولايات، وهو من قرر من يكون رئيس وزراء الولاية في حال فوز حزب المؤتمر. وقد تحدث رئيس وزراء أوتر براديش الحديث التعيين، فيشوانات براتاب سينج، بلسان كثيرين حينما قال للصحافة: «سانجاي زعيم في حد ذاته، وهو زعيمي أيضا.»
11
كانت السيدة غاندي آنذاك في الثالثة والستين من عمرها، ولم تكن أفكار التوريث ببعيدة عن ذهنها؛ إلا أنه في يوم 23 يونيو من عام 1980، لقي سانجاي مصرعه أثناء قيادته طائرة بمحرك واحد على سبيل اللهو، كما كانت عادته؛ فقد دار بها ثلاث دورات في الهواء، وحاول القيام بدورة رابعة، لكنه فقد السيطرة؛ فسقطت الطائرة على بعد 500 ياردة من المنزل الذي كان يعيش فيه مع والدته، ولقي كل من سانجاي ومساعده حتفهما على الفور.
12
عادت السيدة غاندي إلى العمل بعد أربعة أيام، شاعرة بوحدة عارمة. وقد علق أحد المراسلين على «عزلتها التامة التي لم يستطع أحد اختراق جدارها».
13
وبحلول نهاية شهر أغسطس كانت قد أقنعت ابنها الأكبر بسد الفجوة. حتى ذلك الوقت لم يبد راجيف غاندي اهتماما يذكر بالسياسة؛ فقد كان رجلا أسريا، متفانيا تجاه زوجته الإيطالية سونيا، وطفليهما الصغيرين. كان طيارا لدى شركة النقل الجوي المحلية الوحيدة، وهي شركة الخطوط الجوية الهندية. كان يقود طائرات أفرو إلى لكنو وجايبور، وتلخص طموحه المهني الرئيسي في أن يسمح له بقيادة طائرات بوينج بين دلهي وبومباي.
إلا أن الضغوط تزايدت عليه آنذاك لدخول مجال السياسة، ومعظمها كان نابعا من رئيسة الوزراء نفسها؛ ففي حديث لراجيف غاندي مع أحد المحاورين في أغسطس 1980، قال: «غير وارد على الإطلاق أن أحل محل سانجاي.» وعند سؤاله عما إذا كان ينوي شغل وظيفة حزبية أو الترشح لمنصب ما، رد قائلا: «لا أحبذ ذلك.» وأردف قائلا: إن زوجتي سونيا «ترفض دخولي مجال السياسة رفضا قاطعا».
14
بعد تسعة شهور انتخب راجيف غاندي نائبا في البرلمان بدائرة أخيه القديمة؛ أميتي. وعند سؤاله عن سبب عدوله عن رأيه الأول، قال: «أرى أنني يجب أن أساعد أمي الحبيبة بشيء ما.» وكتب صحفي شديد التعاطف معه: إن دخوله السياسة «وإن كان قد حدث خلسة، ربما مثل مفهوم السيدة غاندي عن منح الهند الاستقرار في القيادة والاستمرارية في الحكم». فنظرا لأن «الأفق لا يلوح فيه أي نوع من القيادة»، فكون راجيف أحد أفراد عائلة نهرو منحه «معدلا مرتفعا من التماهي» و«نقطة تميز».
15
تعرف أعضاء حزب المؤتمر ووزراؤه على المؤشرات - أو تقبلوا المحتوم - فاصطفوا في جميع أنحاء البلاد للتسليم على راجيف. وطلب إليه وضع أحجار الأساس في كليات الطب، وافتتاح خطوط الكهرباء في مستوطنات الهاريجان، وإلقاء الخطب أمام نوادي حزب المؤتمر في ذكرى ميلاد نهرو .
16
بينما كان راجيف غاندي يخطو أولى خطواته في عالم السياسة الهندية، كانت والدته منشغلة بالساحة العالمية، حيث عملت على إعادة بناء الجسور التي هدمت إبان فترة الطوارئ؛ فقد كانت السيدة غاندي شديدة القلق إزاء التدهور الذي أصاب صورتها في الغرب، ولما أعادتها صناديق الاقتراع إلى السلطة، عقدت العزم على إصلاح الضرر؛ فطوال ثمانية شهور عام 1982، استضافت المملكة المتحدة مهرجانا للهند، تضمن معارض للفن الهندي في متحف فيكتوريا وألبرت، وحفلات موسيقية أقامها رافي شانكار وإم إس سوبلاكشمي في قاعة المهرجانات الملكية، ومظاهر احتفالية كثيرة أخرى. وتدرجت العروض من الرفيع والكلاسيكي إلى العامي والشعبي؛ ومن ثم أحيلت مدرسة ثانوية في وسترشير إلى «راجستان مصغرة»، حيث خيم الراقصون ورواة القصص من تلك الولاية لمدة أسبوع، وقوبلت فقراتهم بمثلها؛ حيث قدمت المدرسة عرضا لرواية «كتاب الأدغال» لكيبلينج.
تولت الحكومة الهندية الدعاية للمهرجان وتمويل جزء منه؛ فقد زارت رئيسة الوزراء المملكة المتحدة في بدايته ونهايته، ظاهرة بمظهر «نجمة العرض»؛ فإبان فترة الطوارئ، صورتها قطاعات من الصحافة البريطانية غولة، ولكنها آنذاك - بحسب تعليق أحد الصحفيين - أصبح «عليها الترحيب بالاهتمام الأكثر إطراء إلى حد ما، الذي تتلقاه». ففي إحدى المناسبات، التي كانت فيها السيدة غاندي ورئيسة الوزراء البريطانية ضيفتي الشرف الرئيسيتين، قالت السيدة غاندي: إن «الهند ملتزمة بالديمقراطية والاشتراكية»، مضيفة أنه «فيما يتعلق بالمبدأ الأخير، نحن نختلف عن السيدة تاتشر». وفي لقاء لها مع مجموعة من محرري الصحف، قالت في حدة: «أرجو أن تتوقفوا عن مناداتي بإمبراطورة الهند الآن.»
اعتبر منظمو مهرجان الهند أن المهرجان كلل بنجاح باهر، وقد اتبع بمهرجانات مشابهة في الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وفرنسا. وربما كان للرسام الكاريكاتيري آر كيه لاكشمن الكلمة الأخيرة تعليقا على تلك الضجة؛ إذ قدم في إحدى رسومه رجلين شبه عاريين في أحد شوارع الهند، أحدهما يقرأ الصحيفة ويقول للآخر: «لولا هذا المهرجان وأمثاله ما عرفنا مبلغ عظمتنا وعظمة إنجازاتنا!»
17
3
تقتضي مهنة رسامي الكاريكاتير السخرية من كبار الشخصيات، ولكن في حالة لكشمن ربما كانت لتعليقاته صلة أيضا بحقيقة أنه كان يعيش في مدينة بومباي؛ حيث كان التناقض بين الثراء والفقر صارخا بدرجة تفوق أي مكان آخر في الهند؛ فالحقيقة أن المهرجان الذي أقيم في لندن تزامن مع إضراب نظمه عمال صناعة النسيج في بومباي لأجل غير مسمى، تحت قيادة دتا سامنت، الطبيب الذي لم تظهر له أيديولوجية سياسية واضحة، وإن بلغت كاريزمته مبلغا أتاح له الحلول محل الاشتراكيين والشيوعيين الذين تزعموا الاتحادات العمالية في المدينة حتى ذلك الحين.
بدأت مسيرة دتا سامنت المهنية في بومباي بمصنع يدعى إمباير داينج، استطاع الحصول لعماله على علاوة قدرها 200 روبية في الشهر؛ فشجعه نجاحه على الانتقال إلى مصانع أخرى، وسرعان ما اكتسب ولاء معظم عمال صناعة النسيج الضخمة في بومباي. كانت أجورهم ترتفع بمعدل تدريجي عبر السنين، وإذ لم يحميهم ذلك الارتفاع من التضخم بدرجة كافية، فقد سعوا إلى تحقيق إصلاح شامل في هيكل الرواتب. طالب سامنت برفع الحد الأدنى للأجور من 670 روبية إلى 940 روبية في الشهر، وعندما قوبل مطلبه بالرفض القاطع، دعا إلى إقامة إضراب. بدأ الإضراب في 18 يناير 1982، ودام قرابة عامين. شارك أكثر من 200 ألف عامل في الإضراب، وضاع أكثر من 22 مليون يوم عمل.
كانت تلك حركة جماهيرية حقيقية، ترددت أصداؤها عبر أنحاء المدينة وتجاوزتها؛ فخرج آلاف العمال معرضين أنفسهم للاعتقال، بينما اشتبك آخرون مع كاسري الإضراب. وأثر ذلك المزاج العنيف على قطاعات أخرى من قوة العمل في المدينة؛ فسعى رجال الشرطة الذين كانوا يتقاضون أجورا متدنية إلى تشكيل نقابة خاصة بهم، وخرجوا في احتجاجات إلى الشوارع. وفي النهاية، اضطرت قوات أمن الحدود شبه العسكرية إلى نزع سلاح رجال الشرطة وحبسهم.
18
حدثت اضطرابات في الريف أيضا على أسس طبقية؛ فقد أكد ناشطو الناكسل - الذين اعتقلوا خلال فترة الطوارئ ولكن أطلق سراحهم بعدها - حضورهم في المناطق القبلية من أندرا براديش، فيما بين المجتمعات المتعرضة لقهر إدارة الغابات الحكومية والمرابين الهندوس. ونشطت جماعات أخرى من الناكسل في السهول الواقعة في وسط بيهار؛ حيث عملوا على تنظيم عمال الهاريجان ضد ملاك الأراضي من الطوائف الهندية العليا. رأى بعض المتعاطفين، من قبيل الكاتب السويدي يان ميردال، في تلك الاضطرابات احتمال - وأمل - أن يكون للثورة الصينية نظيرة هندية يوما ما.
19
في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين حدثت تعبئة على أسس عرقية أيضا؛ فقد اتخذت الحركة الساعية من أجل إقامة ولاية جهارخاند القبلية صورا أكثر عنفا؛ فطبقا للأرقام الرسمية، أنفق 30 مليار روبية على «التنمية القبلية» في هضبة تشوتاناجبور. تتعذر علينا معرفة أين ذهبت تلك الأموال، إذ ظل أهل المنطقة يعيشون في «ظلام العصور البدائية» دون مدارس ولا مستشفيات ولا طرق ولا كهرباء، وقد استحوذ على أراضيهم أشخاص من خارجها، وأغلقت الدولة غاباتهم في وجوههم؛ فكما قالت الكاتبة ماهاسفتا ديفي: «تقوم المطالبة بولاية جهارخاند على تلك الخلفية. قصص الويل والاستغلال من ناحية، ونبض المقاومة من ناحية أخرى.»
20
في جهارخاند تزعم الاحتجاجات شيبو سورين، الذي كان شابا ذا شعر أسود طويل سرعان ما أصبح بطلا شعبيا؛ فقد نظم عملية الحصاد القسري لمحصول الأرز في الأراضي التي «سرقها» الديكو (الأغراب) من الأديفاسي، فضلا عن غزو أراضي الغابات التي ادعى الأديفاسي أحقيتهم فيها. وفي سبتمبر 1980، أطلقت الشرطة النار على حشد من المتظاهرين من أبناء القبائل في جوا، وقتل خمسة عشر شخصا على الأقل؛ فكثفت تلك الواقعة حدة المطالبات بإقامة ولاية جهارخاند.
21
إضافة إلى ذلك، كان ثمة مطالبات - وإن لم يعرب عنها بقوة كما في حالة جهارخاند - بإقامة ولاية تدعى تشاتيسجار، تقتطع من المناطق القبلية في ماديا براديش، وبإقامة ولاية تدعى أوتراخند، تتألف من مناطق الهيمالايا في ولاية أوتر براديش. كانت هذه المناطق غنية هي الأخرى بالأخشاب والمياه والمعادن، وهي موارد زايد استغلالها الاقتصاد الوطني الأوسع نطاقا ولصالحه، مما أفضى إلى حرمان السكان من مواردهم.
22
شهدت الثمانينيات تجددا لتمرد قبائل ناجا؛ فأثناء حالة الطوارئ، تمكنت حكومة الهند من إقناع أعضاء كثر في مجلس ناجا الوطني التابع لفيزو بإلقاء السلاح والخروج إلى العلن؛ فكان بعض الأفراد في الإدارة يأملون في أن «اتفاق شيلونج» هذا (الذي سمي على اسم المدينة التي وقع فيها ) سوف يمثل نهاية التمرد. إلا أن الراديكاليين من أمثال تي مويفا اعتبروا الاتفاق خيانة. كان مويفا هو ابن قبيلة تانجكول ناجا الذي كان من أوائل المستعينين بالصين في الستينيات، وكان قد مكث أربعة أعوام في مقاطعة يونان الصينية، حيث تلقى تدريبات على يد جيش التحرير الشعبي. وإذ خلفت فيه الثورة الثقافية الصينية انبهارا عميق الأثر، سعى إلى مزج مثلها بالديانة التي ولد عليها، ومن ثم جمع بين المسيحية الإنجيلية والاشتراكية الثورية.
في عام 1980، أنشأ مويفا وإيساك سو «مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني». بحلول ذلك الوقت كانت الإمدادات الصينية قد انقطعت، فاستعاض عنها مويفا بإقامة صلات مع جماعات أخرى من المتمردين في شمال شرقي الهند وبورما. وقد نقل صحفي التقى مويفا في مخبئه بالغابة رأيه المتمثل في أن «الأمل الوحيد أمام قبائل ناجا في الحصول على استقلالها هو أن تتفكك الهند ذاتها». كانت لزعيم قبائل ناجا ذاك صلات بمتطرفين سيخ وانفصاليين كشميريين، و«كان لديه أمل وطيد في أن تنشأ حركة مماثلة بين التاميليين في جنوب الهند، مما من شأنه أن يلقي بالبلاد في بحر الفوضى التي يتمناها».
23
كان أقوى أتباع مويفا من أبناء قبيلته تانجكول، الذين عاشوا في المناطق المرتفعة من مانيبور؛ فلو كان لدولة ناجا التشكل يوما، لكانت تلك المرتفعات جزءا منها. إلا أنه في ظل الظروف التي كانت سائدة آنذاك، لم يكن التانجكول راضين تماما عن حكم جماعة ميتي الهندوسية لهم، وهي الجماعة السكانية المسيطرة في مانيبور. وإذ شعرت الحكومة الهندية بالقلق إزاء تشكل مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني، زادت انتشار قواتها في منطقة أكرول بمانيبور. وفي 19 فبراير 1982، نصب المتمردون شركا لقافلة عسكرية مارة من طريق إمبال-أكرول، قتلوا من جرائه اثنين وعشرين جنديا من الكتيبة السيخية، بينهم ضباط؛ فرد الجيش بثورة عارمة، إذ انطلق يفتش كل قرية في المنطقة، فيعتدي على رجالها ويهاجم نساءها. وقد ذهب فريق معني بالحريات المدنية لزيارة المنطقة، وسجل إفادات الضحايا؛ فوجد أنه «على الرغم من أن قلة من الناس تؤيد الجماعات السرية، فقد كانوا جميعا مشتبها بهم في نظر الجيش».
24
4
نشأت حركات مطالبة بإقامة ولايات منفصلة أو جديدة داخل الاتحاد الهندي، وحركات مطالبة بمزيد من الاستقلالية في الحكم داخل حدود الولايات القائمة؛ ففي معقل حزب المؤتمر القديم، أندرا براديش، تزايد السخط إزاء ميل الحكومة المركزية إلى «فرض» رؤساء وزراء الولاية؛ ففي الفترة ما بين عامي 1978 و1982 غيرت السيدة غاندي رئيس وزراء الولاية ما لا يقل عن أربع مرات. وفي فبراير 1982، ذهب رئيس الوزراء الجديد تي أنجايه إلى مطار حيدر أباد لاستقبال راجيف غاندي، مصطحبا معه مجموعة كبيرة من المؤيدين حاملين أطواق الزهور؛ فوبخ راجيف رئيس الوزراء على اصطحابه ذلك الحشد إلى المطار، في شدة دمعت لها عينا أنجايه.
25
استشعرت الإهانة على المستويين الشخصي والجمعي؛ إذ صورها الإعلام الناطق باللغة التيلوجوية على أنها إهانة لكبرياء الأندريين. كان ممن استفزتهم تلك الواقعة إلى الحركة الممثل السينمائي العظيم إن تي راما راو (المعروف بإن تي آر)، الذي مثل للسينما التيلوجوية ما مثله إم جي آر للسينما التاميلية؛ بطلا ونجما مشهورا باعتراف الجميع. ذهب أحد التقديرات إلى أن راو مثل في 150 فيلما، و300 فيلم وفقا لتقدير آخر. (فضل مصدر آخر تحري الدقة، محددا عدد الأفلام بأنها 292.)
خلافا لإم جي آر، لم يكن لإن تي آر ماض سياسي. وإضافة إلى ذلك، لم تكن أفلامه تحمل في المعتاد رسالة اجتماعية (كانت قائمة بالأساس على قصص الأساطير والخرافات). ثم إنه - على أعتاب عامه الستين - أسس حزبا إقليميا جديدا؛ «تيلوجو ديسام»، يعبر عن «كبرياء 60 مليون شخص من متحدثي التيلوجوية واحترامهم لذاتهم». وقال إن ولاية أندرا براديش العظيمة لن تعامل معاملة أحد «الفروع التابعة» لحزب المؤتمر بعد اليوم.
26
تأسس الحزب الجديد في مارس 1982، وكان من المزمع عقد انتخابات مجلس الولاية في نهاية العام؛ ففي إطار تحضير إن تي آر للانتخابات، طاف بأنحاء الولاية، منددا بإدارة حزب المؤتمر «الفاسدة». واستقل في أسفاره شاحنة صغيرة عدلت لتبدو مثل عربات الخيول. وفي المؤتمرات الشعبية كان يخرج من العربة في مشهد درامي، معتليا منصة ترفع بالاستعانة بمولد كهرباء. كان يرتدي ملابس بلون الزعفران عادة، وهو لون نكران الذات، دلالة على أنه قد تخلى عن عمله في الأفلام لخدمة الشعب؛ فكان البطل الأسطوري الذي تحول إلى حقيقة، وقد جاء ليخلص العالم من الطمع والفساد، ويجلب العدل للجميع؛ فحضرت النساء إلى اجتماعاته وفودا، وهو بدوره وعدهن بجامعات خاصة بهن ووضع متميز في توزيع وظائف القطاع الحكومي.
27
في حين أن الصحافة القومية كانت متشككة إزاء احتمالات نجاح إن تي آر، ألقت الصحيفة اليومية الكبرى «إينادو» الصادرة باللغة التيلوجوية ثقلها الكبير وراءه، وكوفئت ثقتها عندما فاز حزب تيلوجو ديسام بأغلبية الثلثين في مجلس الولاية. وفي الأسبوع الثاني من يناير 1983، أدى إن تي آر قسم رئاسة الوزراء في ميدان الفاتح بحيدر أباد، بينما تدفق جمهور قوامه 200 ألف من الأندريين المهللين إلى الساحة.
28
كان من أولى الخطوات التي اتخذها إن تي آر بعد وصوله إلى السلطة هو إصدار تعليمات لإدارة الغذاء في حكومته ببيع كيلو الأرز بروبيتين، وفاء بعهد قطعه قبل الانتخابات. وتصرف بصفة عامة كأنما هو الحزب والحكومة أيضا، محاكيا في ذلك صديقه إم جي آر وكذلك غريمته إنديرا غاندي. وعن ذلك قال أحد الاشتراكيين معلقا: «إذا كانت رئيسة الوزراء تظن أنها الهند، فإن تي آر يتصرف كأنه الممثل الوحيد لخمسة وستين مليون متحدث باللغة التيلوجية؛ فأعضاء المجلس التشريعي المنتمين إلى حزب تيلوجو ديسام لا دور لهم في تشكيل سياسات الحكومة وبرامجها؛ فتي إر هو المتحكم في الأمور في منصبي رئيس وزراء الولاية ورئيس الحزب على حد سواء.»
29
ومثل السيدة غاندي أيضا، كان إن تي آر منحازا لأسرته، كما في سماحه لابنه ببناء ستوديو سينمائي على أرض غير مرخصة.
30
5
كان ثمة حركة أخرى أكثر خطورة تطالب بالحكم الذاتي، تتشكل في ولاية آسام. نقول «أكثر خطورة» لأنها ناجمة عن آراء أطياف واسعة من السكان عوضا عن الكاريزما الفردية، ولأن موقع الولاية لم يكن في قلب الهند وإنما في طرف منها لطالما ثارت فيه المتاعب.
كانت آسام تتقاسم حدودها مع غرب البنغال وعدة ولايات في الشمال الشرقي، إضافة إلى دولتي بنجلاديش وبوتان. كانت اللغة الآسامية هي لغة الولاية، ولكن اللغة البنغالية كانت واسعة الانتشار فيها أيضا، وكان ثمة تاريخ طويل من العداء بين متحدثي اللغتين؛ فقد سيطر البنغاليون على الدرجتين الوسطى والدنيا في حكومة الاستعمار، ومارسوا بصفتهم موظفين ومعلمين وقضاة نفوذا وسلطة كبيرين على السكان المحليين الآساميين، معاملين إياهم بترفع بل حتى بازدراء أيضا. بدءا من أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الفلاحون البنغاليون المتعطشون إلى الأرض في الانتقال إلى غابات آسام ومنخفضاتها، واستمر ذلك النزوح بعد الاستقلال، مع ازدياد سرعة وتيرته متى تعرض شرق البنغال - أو ما أصبح فيما بعد بنجلاديش - لاضطرابات سياسية أو أزمات اقتصادية. في سبعينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، قفز عدد الناخبين المسجلين في آسام من 6,2 ملايين نسمة إلى قرابة 9 ملايين نسمة، في زيادة تعزى بالأساس إلى السكان النازحين من بنجلاديش.
31
كان الآساميون يخشون التعرض للتبعية الثقافية على يد الطبقة الوسطى البنغالية، وللغزو الديموغرافي على يد الفلاحين البنغاليين؛ فحدثت نوبات من أعمال الشغب في الخمسينيات والستينيات، استهدفت إعادة النازحين من حيث أتوا. إلا أن تلك المشاعر لم تتحول إلى حركة اجتماعية واسعة الانتشار إلا في أواخر السبعينيات من القرن العشرين.
32
كان التنظيم المحوري في هذا التحول هو اتحاد طلاب عموم آسام. امتدت شبكة ذلك التنظيم إلى جميع أنحاء الولاية ، حيث كانت اتحادات الطلاب في المدارس والكليات كافة تابعة لها؛ فبدءا من عام 1979 وطوال الأعوام الخمسة التالية، قاد اتحاد طلاب عموم آسام مئات الإضرابات والمسيرات، الرامية إلى الضغط على الحكومة المركزية من أجل تطهير آسام من المتسللين.
استندت حجة القوميين الآساميين إلى الثقافة والديموغرافيا، ثم أضاف اتحاد طلاب عموم آسام أساسا ثالثا، وهو الاقتصاد؛ فقد كان جليا أن اقتصاد آسام واقع تحت سيطرة أغراب عنها؛ فحقول الشاي الغنية في الولاية كانت مملوكة في معظمها لشركات مقراتها في لندن أو كلكتا. وكانت آسام تتمتع بحقول النفط الأعلى إنتاجية في الهند، إلا أن التنقيب عن النفط كان مسئولية شركات قطاع عام لا توظف سوى قلة من السكان المحليين (وخلت مستويات الإدارة العليا منهم تماما)، والأدهى من ذلك أن النفط كان يرسل بعد ذلك إلى معامل تكرير في ولايات أخرى. أما التجارة وتداول السلع المحليين فسيطر عليهما المارواريون من راجستان؛ فبصفة عامة، كانت آسام «مستعمرة داخلية»، تمد الهند الحضرية بالمواد الخام الرخيصة حتى تعالجها الأخيرة وتربح منها.
تمثل المطلب الأكبر لدى حركة آسام في وضع سياسة اقتصادية جديدة، حتى يتمكن سكان الولاية من إدرار الدخل وتوفير فرص عمل من خلال التوظيف الأمثل لمواردها الطبيعية. إلا أن الطلب الأكثر إلحاحا تمثل في حذف أسماء النازحين من قوائم الناخبين، تهيئة لترحيلهم من الولاية. أفضى ذلك إلى استقطاب طائفي مؤسف، وإن كان حتميا على الأرجح؛ نظرا لأن كثيرا من آخر النازحين كانوا في الواقع مسلمين. واتهم حزب المؤتمر - الذي أمسك بزمام الحكم في الحكومة المركزية ولطالما كان الحزب المسيطر في الولاية - بحماية النازحين باعتبارهم كتلة تصويتية حبيسة. وكان مما عجل بعملية الاستقطاب أيضا تشكل اتحاد طلاب الأقليات لعموم آسام.
33
وجد صحفي من دلهي في زيارة إلى آسام في صيف 1980 أن «الحركة اكتسبت نطاقا هائلا بلا شك»؛ فهي لم تعد مقتصرة على المتعلمين ولا الأشخاص الفصيحي اللسان؛ فقد شعر الآساميون كلهم «بالسخط المتزايد، والقنوط؛ فإلى جانب المشاعر المعادية للأغراب، تولدت لدى الحركة توجهات خطيرة أخرى؛ من معاداة البنغاليين واليساريين والمسلمين وغير الآساميين، بل ظهر أيضا توجه بطيء، لكنه ملحوظ، إزاء معاداة الهنود أنفسهم».
34
فهوجم البنغاليون، وأحرقت منازلهم. إلا أن الحكومة المركزية استهدفت أيضا؛ فقد اقتلع أفراد مخربون قضبان السكك الحديدية، وأوقف اتحاد طلاب عموم آسام تصدير الخشب الرقائقي والجوت، بل إنه نجح في وقف تدفق النفط، مما اضطرت معه الحكومة إلى إعلان أن خط الأنابيب والأرض الممتدة حتى مسافة نصف كيلومتر على جانبيه «منطقة محمية». وفي النهاية اضطرت إلى استدعاء الجيش لجلب إمدادات النفط من آسام إلى معمل تكرير في ولاية بيهار البعيدة.
35
في الأسبوع الأخير من يوليو 1980، حذرت رئيسة الوزراء اتحاد طلاب عموم آسام من أن تصرفاتهم يمكن أن تستتبع عقابا، وسألت: «لنفترض أن الولايات الأخرى رفضت إمداد آسام بالصلب؛ فكيف سيتسنى للآساميين تطوير صناعتهم؟» فقد كانت الفيدرالية الهندية قائمة على الاعتماد المتبادل؛ «لا يمكن لأي وحدة الاستمرار إلا في ظل وحدة أكبر، وإلا فاقت الضغوط الخارجية الاحتمال».
36
إلا أنه في نفس وقت إصدار هذا التحذير، كانت الحكومة المركزية قد بدأت المفاوضات مع زعماء اتحاد طلاب عموم آسام. استمرت المحادثات طوال الأعوام الثلاثة التالية، بصفة متقطعة؛ حيث كانت الإضرابات والاحتجاجات تشتعل من جديد متى توقفت المحادثات. كان طرفا المفاوضات رسميا هما اتحاد طلاب عموم آسام من ناحية، ووزارة الداخلية من الناحية الأخرى. إلا أن وسطاء كثرا استعين بهم أيضا، منهم مؤسسة غاندي للسلام ورئيس وزراء مانيبور؛ آر كيه دورندرا سينج. كانت القضية موضع الخلاف الحقيقي هي تحديد التاريخ النهائي الذي يمكن أن يعتبر أي نزوح إلى الولاية بعده «غير شرعي». كان اتحاد طلاب عموم آسام يريد شطب أي نازح جاء بعد عام 1951 من قائمة الناخبين وترحيله، أما الحكومة الهندية فرأت في ذلك تعديا على المبدأ الفيدرالي؛ إذ انتهك حرية المواطنين في التنقل بين مختلف أنحاء البلاد. إلا أنها كانت مستعدة لقبول عام 1971 تاريخا نهائيا؛ لأن مجريات الأحداث في باكستان الشرقية عام 1971 كانت قد استثارت نزوحا غير مسبوق عبر الحدود يمكن اعتباره «غير طبيعي».
وفقا لإحدى الروايات ، التقى ممثلو الحكومة واتحاد طلاب عموم آسام في 114 يوما في أعوام 1980 و1981 و1982، طرحت خلالها تسويات متنوعة؛ إحداها اقترحتها مؤسسة غاندي للسلام، ومفادها منح من دخلوا آسام بين عامي 1951 و1961 حق الإقامة وحق التصويت (المواطنة فعليا)، وتوزيع الوافدين بين عامي 1961 و1971 على ولايات الهند الأخرى، وترحيل من جاءوا بعد 25 مارس 1971 (تاريخ إعلان بنجلاديش دولة ذات سيادة).
37
إلا أن الوضع بدا مستعصيا؛ فقد استؤنف النزاع، واتخذ صورا أسوأ؛ ففي واقعة بشعة حدثت في فبراير 1983، ذبح حشد كبير غاضب من الآساميين والقبليين مئات المسلمين البنغاليين؛ لتتحقق بذلك نبوءة الصحفي ديفدت الحزينة، الذي أشار - في تعليق كتبه بينما كانت المحادثات بين الحركة والحكومة في مراحلها المبكرة - إلى أنه إن لم يتم التوصل إلى حل ما، «فمثل نهر براهمابوترا الثائر الذي يجري مسافة 450 ميلا في آسام، سوف تجلب مشاعر الاستياء والسخط العارمة الويل هي الأخرى».
38
6
تزامنت مع حركة آسام اضطرابات أخطر منها حتى مطالبة بزيادة الحكم الذاتي في ولاية البنجاب. وأقول «أخطر منها حتى» لأن البنجاب كانت متاخمة لباكستان، البلد الذي دخلت الهند في ثلاثة حروب معه. وإضافة إلى ذلك، كانت الأغلبية السكانية في الولاية من السيخ لا الهندوس؛ ومن ثم أضيف إلى الانتماءين الأساسيين المتمثلين في اللغة والإقليم، العنصر الذي يحتمل أن يكون فتاكا؛ ألا وهو الدين.
كما في آسام، كان «الاضطراب» أو «الحركة» أو «الأزمة» (وهي ثلاثة من أسماء عديدة له) في البنجاب ناجما عن أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة؛ فقد كان ثمة قطاع من النخبة السيخية المثقفة يأمل - بصورة أو أخرى - في إعادة الولاية السيخية التي حكمها المهراجا رانجيت سينج في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بينما اكتفى آخرون بالتطلع إلى فترة التقسيم، وما تعرضت له طائفتهم من مآس وخسائر آنذاك؛ فقد استغرق إجبار نيودلهي على تشكيل مقاطعة ذات أغلبية سيخية داخل الهند عشرين عاما من الكفاح شبه المتواصل. إلا أنه حتى بعد تشكل البنجاب الجديدة عام 1966، لم يتمكن الحزب السياسي السيخي الأكبر - أكالي دال - من إحكام قبضته على الولاية . وكان مما ولد ضغائن عميقة الأثر أنه بين عامي 1967 و1969، اضطر حزب أكالي دال إلى تشكيل ائتلافات غير مستقرة مع أحزاب «هندوسية» مثل جانا سانج، في حين أن حزب المؤتمر المنافس له تمكن من السيطرة على مقاليد حكم البنجاب في عام 1971 بمفرده.
39
في أكتوبر 1973 مررت اللجنة العاملة لحزب أكالي دال «بيان أناندبور صاحب»، الذي طالبت فيه الحكومة الهندية بتسليم تشانديجار إلى البنجاب (كانت المدينة مشتركة بين البنجاب وهاريانا)، وكذلك تسليم المناطق الأخرى الناطقة بالبنجابية التي كانت تابعة لولايات أخرى آنذاك، وزيادة نسبة السيخ في الجيش. وفي مطالبتها بتعديل الدستور الهندي فيما يخص «المبادئ الفيدرالية الحقيقية»، قالت إنه «في البنجاب الجديدة هذه وفي غيرها من الولايات، سوف يقتصر تدخل الحكومة المركزية على شئون الدفاع والعلاقات الخارجية والعملة والإدارة العامة، بينما تقع كافة الإدارات الأخرى ضمن نطاق اختصاص البنجاب (والولايات الأخرى) التي سيكون لها كامل الحق في سن قوانينها الخاصة في تلك الموضوعات».
يمكن تأويل هذا البيان على أنه مجرد سعي إلى الوفاء بوعد الحكم الذاتي للولايات، الذي ألمح إليه الدستور. إلا أنه قابل أيضا لأن تكون له تأويلات أكثر خطور؛ فقد تحدثت ديباجته عن أكالي دال باعتباره «التجسيد الحي لآمال «الأمة» السيخية وتطلعاتها». وحدد «الهدف السياسي للمجتمع السيخي» بأنه: «غلبة الخالصة (جماعة السيخ)»، بينما تمثلت «السياسة الجوهرية» لأكالي دال في «الوصول إلى هذا الحق الطبيعي للخالصة، عن طريق تهيئة بيئة ووضع سياسي مواتيين».
40
ربما لم يكن عام 1973 الوقت الأمثل لتقديم تلك المطالب، بينما كانت السيدة غاندي منتشية بالنصر الذي أحرزته في الحرب الأخيرة، والحكومة المركزية أقوى من أي وقت مضى. وقد زادت سلطاته أكثر مع فرض الطوارئ، عندما سجن آلاف الأعضاء في حزب أكالي. ولكن حالة الطوارئ رفعت عام 1977، وعقدت الانتخابات، ومني حزب المؤتمر بهزيمة نكراء شاملة؛ فمع وصول أكالي دال إلى السلطة في البنجاب، عادت مطالب بيان أناندبور صاحب إلى الحياة، وأضيفت إليها مطالب جديدة. تضمنت خسائر التقسيم نهرين من الأنهار الخمسة التي يعزى إليها اسم الولاية. وكأن ذلك لم يكن سيئا بما فيه الكفاية، فقد اضطرت ولاية البنجاب الهندية إلى تقاسم الأنهار الثلاثة المتبقية مع ولايتي هاريانا وراجستان؛ فزعم أعضاء حزب أكالي أنهم يحق لهم الحصول على حصة أكبر من مياه تلك الأنهار، وصاحب ذلك المطلب الاقتصادي آخر ثقافي، تمثل في اعتبار أمريتسار - مقر قدس الأقداس لدى السيخ، المعبد الذهبي - «مدينة مقدسة».
41
في أبريل 1978 انعقد مؤتمر شعبي في أمريتسار لطائفة دينية، هي النيرانكاري. كانت تلك الطائفة تعتبر نفسها من السيخ، ولكن نظرا لأنها تؤمن بأن هناك جورو حي بعد الجورو جرانث صاحب، فقد اعتبرهم السيخ كفارا. وإذ أمسك حزب أكالي دال بزمام السلطة، أعرب بعض الكهنة عن شعورهم بالعار لانتهاك حرمة المدينة المقدسة بوجود هؤلاء. كان زعيم المعارضة في مؤتمر النيرانكاري واعظا مغمورا حتى ذلك الحين، يدعى جارنيل سينج بيندرانوال. ولد بيندرانو اللأسرة سيخية من الجات، وكان قد ترك زوجته وأبناءه لإدارة معهد ديني يدعى دمدمي تكسال. كان شخصية ذات حضور مؤثر؛ إذ تجاوز طوله ستة أقدام، وكان قوامه رشيقا رياضيا، وعيناه نافذتين، ويرتدي عباءة زرقاء طويلة. وكان أيضا واعظا مؤثرا بل ملهما أيضا، واسع المعرفة بالنصوص السيخية، وقد زعم أن السيخ «عبيد في الهند المستقلة»، يعانون الاضطهاد على يد الهندوس. وأراد بيندرانوال من السيخ أن يطهروا أنفسهم ويعودوا إلى أسس عقيدتهم. وتحدث باحتقار عن الهنودسي الفاسد الواهن، ولكنه استهزأ أكثر بالسيخي العصري، الذي نسي نفسه تماما إلى حد أنه قص شعره وأصبح يدخن التبغ ويعاقر الخمر.
42
ذهب البعض إلى أن بيندرانوال كان صنيعة يد سانجاي غاندي ووزير داخلية الاتحاد زايل سينج (الذي كان رئيس وزراء البنجاب سابقا هو نفسه) للتصدي لحزب أكالي دال؛ ففي سبتمبر 1982، كتبت الصحفية عائشة كاجال أن بيندرانوال «كان في الأصل صنيعة يد الحكومة المركزية التي أنزلته إلى الساحة بغية تقليص دائرة نفوذ حزب أكالي دال».
43
والكلمة المحورية هنا هي «في الأصل»؛ فأيا كان من روج لبيندرانوال في أول الأمر، فهو سرعان ما أظهر كاريزمته وتأثيره المستقلين؛ فقد انجذب إليه كثير من الجات ذوي الخلفية الريفية، الذين شهدوا احتكار كبار ملاك الأراضي لمكاسب الثورة الخضراء. وجاء أتباع آخرون من الطوائف السيخية الدنيا المتمثلة في العمال والحرفيين، الذين ارتأوا في عملية التطهير ارتقاء اجتماعيا لهم أنفسهم. وقد استفاد بيندرانوال أيضا من زيادة التدين بصفة عامة، التي تبعت - في البنجاب كما في بعض المناطق الأخرى - النمو الاقتصادي السريع وغير المتوقع.
44
ولكن دعونا نعد إلى مؤتمر النيرانكاري في أمريتسار في أبريل 1978؛ فأثناء انعقاده، ألقى بيندرانوال خطبة عصماء غاضبة من داخل المعبد الذهبي؛ فحركت كلماته مشاعر جمهرة من السيخ ليهاجموا مكان التقاء الكفرة؛ فقاومهم النارينكاري، ولقي خمسة عشر شخصا مصرعهم في المعركة.
وتعرض كبرياء السيخ لضربة أخرى عام 1980، عندما أقيل حزب أكالي دال من الحكومة، وعاد حزب المؤتمر إلى مقاعد السلطة في البنجاب؛ ففي شهر يونيو من ذلك العام، التقت جماعة من الطلاب في المعبد الذهبي، وأعلنت قيام جمهورية سيخية مستقلة، وأطلقوا على الجمهورية اسم خالستان، واختاروا لها رئيسا؛ هو جاجيت سينج تشاوهان، السياسي السيخي المقيم في لندن. كان سيخيو المهجر هم الواقفين وراء هذه الخطوة بالأساس، وصدر الإعلان في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وفرنسا في وقت واحد.
45
لم تكن الحكومة في دلهي شديدة القلق حيال هذه العناصر الهامشية؛ فقد كان انتباهها منصبا على أكالي دالي، الذي اختار طريق المواجهة لدى إبعاده عن السلطة؛ فقد استقر زعيمه الجديد - سانت هرتشران سينج لونجوال - في المعبد الذهبي، حيث طفق يعلن عن نزول التظاهرات إلى الشوارع احتجاجا على موضوعات متنوعة، مثل تسليم تشانديجار أو زيادة الحصة الموزعة من مياه القنوات. أما بيندرانوال فعمل في جزء آخر من المعبد؛ فقد اكتسب مجموعة من الأتباع المخلصين المدججين بالسلاح، الذين اضطلعوا بدور الأعوان والحرس الشخصيين له، كما اضطلعوا من حين لآخر بوظيفة القتلة غير المأجورين لحسابه.
في أوائل الثمانينيات، كان ثمة حالة من التعايش القلق بين سياسة التحريض على الثورات وسياسة الاغتيالات؛ ففي أبريل 1980 أردي زعيم النيرانكاري بابا جورتشاران سينج قتيلا في نيودلهي، وساد ظن واسع النطاق بأن بيندرانوال كان وراء مقتله، ولكن لم يتخذ أي إجراء ضده. ثم جاء اغتيال لالا جاجت ناراين في سبتمبر 1981، المحرر الواسع التأثير الذي أثار جدلا عنيفا ضد التطرف السيخي. في هذه المرة صدرت مذكرة اعتقال في حق بيندرانوال، وذهبت الشرطة للقبض عليه في معبد سيخي بولاية هاريانا، وعندما وصلت إليه كان قد عاد ليحتمي بمعهده الديني في البنجاب. فأراد رئيس وزراء الولاية، دربارا سينج، أن يذهب لاعتقاله ولكن وزير الداخلية، زايل سينج، ثناه عن ذلك تخوفا من تبعات مثل تلك الخطوة. ثم أرسل بيندرانوال خبرا مفاده أنه مستعد للاعتقال، ولكن على يد سيخ ملتحين وفي الوقت الذي يختاره هو، ومما يدعو للعجب أن حكومة البنجاب استجابت لتلك الشروط المهينة؛ فبعد مرور أسبوعين على حادثة الاغتيال، سلم نفسه أمام المعهد الديني الذي يديره، بينما راح جمهور من مؤيديه يهتف بالشعارات ويقذف رجال الشرطة بالحجارة. وهاجم أتباعه ممتلكات الدولة في عدة أماكن أخرى، مستفزين الشرطة لإطلاق النار عليهم. ووفقا لإحدى الروايات، فقد لقي نحو اثني عشر شخصا مصرعهم في أعمال العنف المحيطة باعتقال بيندرانوال.
46
أطلق صراح بيندرانوال بعد ثلاثة أسابيع لعدم كفاية الأدلة؛ فكتب اثنان من مسجلي وقائع ثورة البنجاب أن «إطلاق سراح بيندرانوال مثل نقطة التحول في مساره المهني؛ فقد أصبح ينظر إليه على أنه بطل تحدى الحكومة الهندية وهزمها». وقال آخر إن بيندرانوال «حول نفسه»، باستخدام الأحداث الدرامية المقترنة باعتقاله، «من متهم بالقتل إلى قوة سياسية جديدة».
47
أثناء عام 1982، دارت عدة جولات من المفاوضات بين الحكومة المركزية وحزب أكالي دال، ولكن دون التوصل إلى اتفاق؛ إذ ظل حجري العثرة كل من مسألة المناطق التي سوف تتنازل عنها البنجاب لولاية هاريانا مقابل تشانديجار، ومسألة تقاسم مياه الأنهار. وفي 26 يناير 1983 - عيد الجمهورية - استقال المشرعون المنتمون إلى حزب أكالي دال من مجلس الولاية، وربما ألمح توقيت إقدامهم على هذا التصرف إلى تذبذب التزامهم بالدستور الهندي؛ فقد اضطرهم التحدي الذي مثله بيندرانوال إلى اتخاذ منحى أكثر تطرفا؛ فقد أصبح أعضاء حزب أكالي دال ينزعون إلى تشبيه حكم حزب المؤتمر بعهد المغول البائد المشئوم، وبدءوا ينظمون «فرقا استشهادية» لمحاربة معذبي السيخ الجدد.
48
في 22 أبريل 1983، قتل شرطي سيخي رفيع المستوى - إيه إس أتوال - لدى خروجه من المعبد الذهبي بعد تأدية الصلاة فيه، ثم دخل الرجل الذي أطلق عليه النار عن قرب المعبد بكل هدوء؛ فأسفر مقتل أتوال عن زيادة انخفاض الروح المعنوية لقوات الشرطة البنجابية، التي كانت أغلبيتها هي نفسها من السيخ. وأعقبت ذلك نوبة من سرقات البنوك. وبدأت قطاعات من الأقلية الهندوسية تفر من الولاية، أما المتبقون منها فنظموا أنفسهم تحت لواء «قوة دفاعية» هندوسية، وبدأت قرون من العلاقات السلمية بين الهندوس والسيخ تنهار تحت الضغط.
في حوارات أجراها بيندرانوال مع الصحافة، وصف السيخ بأنهم «قوم منفصلون». تفسر لفظة «قوم» أحيانا بمعنى «مجتمع»، ولكن المرجح أيضا أن تؤول أيضا بمعنى «أمة». وقال إنه لم يطالب بخالستان، لكنها إن عرضت عليه فلن يرفضها. وسخر من رئيسة الوزراء باعتبارها «بانديتين»، ابنة برهمي، وهو وصف مشحون بالازدراء الذي كنه السيخ من الجات لمن يعملون عقولهم عوضا عن أيديهم. وعند سؤاله عما إذا كان سيقابل السيدة غاندي، أجاب: «لا أود مقابلتها، لكنها إذا كانت تريد مقابلتي، فيمكنها المجيء إلى هنا.»
49
وكان بيندرانوال من الممكن أن يتحدث مع أتباعه بصراحة أكبر؛ إذ قال لهم ذات مرة: «إذا جاء الهندوس بحثا عنكم، فهشموا رءوسهم بهوائيات أجهزة التليفزيون.» وذكرهم بالتاريخ البطولي للسيخ؛ فعندما حاول المغول القضاء على الجورو، «حارب آباؤنا وقد كانوا 40 سيخيا مقابل 100 ألف باغ». وقال لهم إنهم بإمكانهم فعل الشيء ذاته مع قاهريهم الجدد. وكان أمامهم نموذج معاصر أيضا؛ هو إسرائيل. فقد قال بيندرانوال إنه إن كان في إمكان القلة اليهودية هناك السيطرة على العرب الذين يفوقونهم عددا بكثير، فالسيخ يمكنهم فعل الشيء نفسه مع الهندوس.
50
في 5 أكتوبر 1983، أوقف إرهابيون حافلة على الطريق السريع، ثم انتقوا منها الركاب الهندوس، وأطلقوا عليهم الرصاص، وفي اليوم التالي فرض الحكم الرئاسي على الولاية. وفي الأسابيع الأخيرة من عام 1983، أقام بيندرانوال في «أكال تخت»، المبنى الذي يلي المعبد الذهبي مباشرة في الأهمية؛ فالأخير، الذي يقع في وسط بحيرة زرقاء رقراقة، يجله السيخ باعتباره مقر السلطة الروحانية. أما الأول، وهو بناء رخامي مهيب قائم شمال المعبد الذهبي مباشرة، فمثل في الماضي مقر السلطة الدنيوية. وكان أكال تخت هو المكان الذي أصدر منه الجورو العظماء تعاليمهم، وهي الأوامر التي كان على السيخ جميعا اتباعها واحترامها. وإلى ذلك المكان كان محاربو السيخ يأتون ليتبركوا قبل الشروع في حملاتهم المسلحة ضد قاهريهم في العصور الوسطى؛
51
فكان قرار بيندرانوال الانتقال إلى أكال تخت آنذاك، وافتقار الجميع إلى الشجاعة لوقفه، أمرين مليئين بدلالات رمزية عميقة إلى أخطر حد.
7
أثبت بزوغ العنف الطائفي في البنجاب خطأ كثير من النبوءات المتعلقة بتلك المقاطعة وسكانها؛ فقد قيل في خمسينيات القرن العشرين إن السيخ سيزدادون «هندوسية»، بل إنهم سيصبحون إحدى طوائف العقيدة الكبرى المعتنقة في عموم الهند، عوضا عن الوقوف بمفردهم كديانة منفصلة. وفي الستينيات قيل إن حزب أكالي دال بعدما يذوق السلطة، سوف يتحول إلى «العلمانية»، ومن ثم ستتوجه خطبه وسياساته بعدها بالاعتبارات الاقتصادية لا الدينية. وبحلول السبعينيات، كان الصراع قد حل محل الوفاق في موقع الصدارة بين موضوعات العلوم الاجتماعية البنجابية، فيما عدا أن المتوقع كان أن المتاعب حينما تأتي ستنشأ على أسس طبقية، إثر تحول الثورة الخضراء إلى ثورة حمراء.
إلا أنه عند الوصول إلى مطلع العقد التالي، أصبح وضع السيخ في الهند يقارن بوضع التاميليين في سريلانكا؛ فقد كتب عالم السياسة بول والاس عام 1981 أنه في كلتا الحالتين: «اتحدت اللغة والدين والنعرة الإقليمية مكونين سياقا محتمل التفجر تسعى النخبة السياسية جاهدة إلى احتوائه.»
52
وعلى مدار العام أو العامين التاليين، ازداد المزيج فتكا بإضافة عنصر رابع، وهو العنف المسلح.
كان الصراع بين الهندوس والسيخ أمرا غير مسبوق على مدار تاريخ الهند. وبينما أخذ يتبدى، تكشفت أيضا صور أخرى أقدم منه للصراع الاجتماعي؛ ومن ثم أطلق الصحفي إم جيه أكبر، الذي جمع تقاريره عن عقد الثمانينيات في مجلد واحد، على كتابه عنوان: «شغب بعد شغب»، وهو عنوان محزن ، لكنه ملائم.
53
تمثل أحد محاور ذلك الصراع في الطائفة بطبيعة الحال؛ فخلال شهري يناير وفبراير من عام 1981، هزت ولاية جوجارات اشتباكات بين الطوائف المتقدمة والمتخلفة. كان محل الخلاف هو مسألة حجز المقاعد في كليات الهندسة والطب للمستويات الدنيا؛ فالهاريجان تحديدا كانت نسبة تمثيلهم ضئيلة جدا في هذين المجالين، سواء أكانت في فئة الطلاب أم الأستاذة؛ فمن بين 737 عضوا في هيئات التدريس بكليات الطب في جوجارات، كان اثنان وعشرون منهم فقط من الهاريجان. إلا أن مطالباتهم بزيادة تمثيلهم قوبلت بمقاومة ضارية، واتسع نطاق الصراع متجاوزا الطلاب تماما؛ فحتى عمال النسيج في أحمد أباد، الذين لطالما كانوا متحدين تحت لواء واحد، سرعان ما فرقت بينهم طوائفهم الاجتماعية، ولقي خمسون شخصا على الأقل مصرعهم في أحداث العنف.
54
تمثل محور ثان للصراع في الدين، وهو أمر أكثر طبيعية؛ فقد كانت النعرة الطائفية قد أخذت تشتد بدرجة مقلقة إبان حكم حزب جاناتا؛ فمع وصول السياسيين المتحالفين مع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج إلى السلطة في الحكومة المركزية والولايات، نمت قوة المنظمة ونفوذها؛ ففي عام 1979 اندلعت أعمال شغب كبيرة في مدينة جمشيدبور معقل صناعة الصلب، وخلص تحقيق قضائي أمرت به الحكومة إلى أن منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج «كان لها دور إيجابي في تهيئة مناخ موات لتفشي الاضطرابات الطائفية».
55
بعد الهزيمة النكراء التي لقيها حزب جاناتا في انتخابات عام 1980، انشق عنه أعضاؤه الذين كانوا منتمين قبلا إلى جانا سانج، ليؤسسوا حزبهم الخاص، وأطلقوا على ذلك الحزب اسم حزب بهاراتيا جاناتا، ولكن الاسم الجديد لم يكن ليواري فعليا هدفا قديما جدا؛ وهو السعي لتمثيل المصالح «الهندوسية» والدفع بها. والحقيقة أن تشكيل حزب بهاراتيا جاناتا استهل موجة من العنف الديني في شمالي الهند وغربها؛ فقد وقعت أعمال شغب بين الهندوس والمسلمين في مدينتي مراد أباد (أغسطس 1980) وميروت (بين شهري سبتمبر وأكتوبر 1982) بأوتر براديش، وفي مدينة بيهار شريف بولاية بيهار بين أبريل ومايو من العام 1981، وفي مدن فادودارا (سبتمبر 1981) وجودرا (أكتوبر 1981) وأحمد أباد (يناير 1982) بولاية جوجارات، وفي مدينة حيدر أباد عاصمة ولاية أندرا براديش في سبتمبر 1983، وفي مدينتي بيواندي وبومباي خلال شهري مايو ويونيو من عام 1984. وفي كل من تلك الحالات، كانت أعمال الشغب تستمر لأيام، متسببة في خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وكانت القوات المسلحة تتدخل لإخمادها في النهاية.
56
يمكن للمرء تبين بعض السمات المتكررة في الدراسات المتعددة التي أجريت على أعمال الشغب المتعددة تلك:
57
ففي المعتاد كان الشغب يبدأ بمشاجرة تافهة في حد ذاتها؛ فربما كان نزاع على قطعة أرض أو مساحة في الشارع، طالب بها كل من الهندوس والمسلمين. ويمكن أن تثور بسبب خنزير ضل طريقه إلى داخل مسجد، أو بقرة نافقة عثر عليها بالقرب من معبد هندوسي. وأحيانا كان السبب يتمثل في تزامن عيدين للهندوس والمسلمين، يسفر عن التقاء مسيرات كبيرة للطرفين في الشارع.
على أي حال، فالنزاع بمجرد أن يبدأ فإنه يتصاعد بسرعة. ودور الإشاعات محوري في هذا الصدد؛ حيث يتضاعف حجم الواقعة الأصلية في كل مرة يعاد فيها سرد القصة، حتى يتحول اشتباك بسيط بين فردين إلى حرب مقدسة بين ديانتين انتهكتا في وقت واحد. كانت المنظمات الطائفية تساهم في ذلك التصعيد، وكذلك الخصومات الحزبية؛ إذ كان السياسيون المحليون ينحازون إلى أحد الجانبين؛ فكانت الكلمات تتطور إلى ضربات، والقتال بالأيدي يتطور إلى قتال بالسيوف، ثم تتحول تلك الأخيرة بدورها إلى قنابل حارقة ورصاصات. وكانت الشرطة إما تقف موقف المتفرج وإما تنحاز إلى أحد الجانبين؛ ففي ولايتي بيهار وأوتر براديش كانت الشرطة تحابي الهندوس على الدوام، فتشجعهم وأحيانا تشارك حتى في نهب منازل المسلمين ومتاجرهم.
كانت أعمال الشغب تقع عادة في المدن التي يمثل فيها المسلمون نسبة كبيرة من تعداد السكان - بين 20٪ و30٪ - وحيث كان بعضهم قد ارتقى درجات السلم الاقتصادي في الآونة الأخيرة، كأن يتسع نطاق السوق التي يخدمها الحرفيون. وأيا كان البادئ في تلك المشاجرات - ودائما ما كانت ثمة دعاوى ودعاوى مضادة في هذا الصدد - كان المسلمون والفقراء هم الضحايا الأساسيين؛ فالمسلمون، على الرغم من أن أعدادهم كانت كبيرة بما يكفي للمحاربة في معاقلهم ، كانوا في نهاية المطاف يقلون عددا عن خصومهم بنسبة النصف أو الثلث. أما الفقراء فكانوا يعيشون في المناطق المزدحمة من المدينة، في منازل مبنية من خامات هشة أو سريعة الاشتعال؛ فبمجرد أن يهب حريق، فسرعان ما يلتهم الحي بأكمله. في المقابل، كانت الطبقة الوسطى تعيش في تجمعات سكنية فسيحة تيسرت فيها أكثر كفالة الأمن على المستويين الشخصي والجماعي.
في الهند، كانت الصراعات الطبقية والطائفية تجري في خطين متوازيين عادة، ولكن في ثمانينيات القرن العشرين بدأت كل منهما تتأثر بالأخرى على نحو غير ملحوظ. كان الحدث المحوري في هذا الشأن هو اتخاذ قرية بأكملها من الهاريجان في تاميل نادو قرار اعتناق الإسلام؛ ففي 19 فبراير 1981، تحول ألف ساكن في ميناكشي بورام إلى الإسلام، وهم لم يغيروا دينهم وأسماءهم الشخصية فحسب، وإنما غيروا اسم قريتهم أيضا؛ فقالوا إنها ستعرف باسم «رحمة نجر» منذ ذلك الحين.
أثارت تلك الواقعة السخط في أوساط منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج والمنظمات التابعة لها؛ فقد أطلق نداء «الهندوسية في خطر»، وارتئيت في الحدث اليد الآثمة «لأموال دول الخليج العربي»؛ فقيل إن البلدان العربية تستخدم أموال النفط لنشر الدعوة إلى الإسلام في شبه القارة الهندية، وأن المسلمين الهنود متواطئون معها بكامل إرادتهم. كان الدعاة الإسلاميون ناشطين في تلك المنطقة بالفعل، ولكن قرار الهاريجان جاء أيضا استجابة للقهر المستمر الذي تعرضوا له على أيدي ملاك الأراضي من الطوائف الاجتماعية العليا، والاضطهاد الذي تعرضوا له في دخول المدارس والحصول على وظائف حكومية؛ فكانوا يأملون في أن يتمكنوا من الفكاك من الوصمة الاجتماعية باعتناق دين يؤمن بالمساواة بين المؤمنين به كافة.
58
8
يرى المؤرخ أوجه تشابه غريبة بين السنوات الأولى في الفترة الأولى للسيدة غاندي والسنوات الأولى في فترتها الثانية؛ ففي كلتا الفترتين كانت تلك السنوات مليئة بمتاعب لا تنتهي؛ ففيما بين عامي 1966 و1969 واجه حزب المؤتمر والحكومة المركزية تحديات خطيرة من داخل المنظومة الديمقراطية - على سبيل المثال، انتصار حزب درافيدا مونيترا كازاجام في مدراس وانتصار الجبهة المتحدة في البنغال - ومن خارجها، كما في تمرد الميزو والناكسل. وإضافة إلى ذلك، لاح شبح المجاعة جليا في الأفق، وحدث نقص حاد في السلع الضرورية.
وقد شاهدنا بالفعل كيف تعاملت السيدة غاندي مع تلك الأزمات؛ حيث ساعدنا على إعادة تصور الوضع آنذاك المخزون الهائل من الأوراق التي حفظها سكرتيرها الأول بي إن هاكسر. ولكن بحلول عام 1980 كان هاكسر قد تركها، ومن ثم لا يتوافر لدينا مسار من الأوراق يمكننا تتبعه لإعادة تصور استجابتها للأزمات الجديدة، الناجمة عن نوبة جديدة من الحركات العرقية والإقليمية وعن تفاقم الصراع الطائفي.
خلال عامي 1969 و1970، كان المسار الذي سلكته السيدة غاندي أيديولوجيا؛ إذ أعادت تقديم نفسها في صورة منقذة الفقراء، وشكلت حزبا جديدا بسياسات جديدة. ترى أي مسار كان يمكنها أن تسلك لو كان بي إن هاكسر إلى جوارها؟ أو أي مسار كان يمكنها أن تسلك لو كان سانجاي غاندي لا يزال على قيد الحياة؟
طبعا تلك تكهنات نظرية بحتة؛ فما نعلمه فعلا هو أنه منذ أواخر عام 1982 أو نحوه كانت رئيسة الوزراء قد بدأت تفكر جديا في مسألة إعادة انتخابها، فهي لم ترغب في هزيمة كالتي منيت بها عام 1977؛ فقررت، تفاديا لهذا الاحتمال، أن تقدم نفسها في الانتخابات في صورة منقذة الأمة، التي تصون وحدتها من القوى المثيرة للشقاق التي تتهددها.
59
في الوقت نفسه كانت الأحزاب الأخرى غير حزب المؤتمر واعية بالقدر ذاته بالانتخابات المقبلة، وبالحاجة إلى بناء جبهة مشتركة. تزعم الجهود الرامية إلى الوحدة إن تي راما راو (إن تي آر)، الذي دعا إلى عقد اجتماع لأحزاب المعارضة في فيجاياوادا في مايو 1983، حضره رئيس وزراء ولاية جامو وكشمير الجديد؛ فاروق عبد الله، الذي حل محل والده الشيخ عبد الله بعد وفاة الأخير عام 1982.
أثارت مبادرة إن تي آر حفيظة رئيسة الوزراء، كما أثارتها مشاركة فاروق فيها؛ فعندما أجريت الانتخابات في ولاية جامو وكشمير عام 1983، قادت السيدة غاندي حملة ضارية من أجل حزبها. وفي خطب ألقتها في منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية، صورت فاروقا على أنه شبه انفصالي. كان الشقاق بين جامو ووادي كشمير قد قدم قبلا في صورة الشقاق الطائفي، ولكن لم يسبق قط أن حدث ذلك على يد رئيس للوزراء؛ فكانت تلك استراتيجية خطرة، ثم إنها لم تفلح؛ إذ أعيد انتخاب فاروق وحزبه (حزب المؤتمر الوطني الكشميري) بأغلبية كبيرة.
60
في ذلك الوقت، تفاقم الصراع في البنجاب إلى حد مقلق؛ فقد ازدادت وتيرة الهجمات على المدنيين الهندوس. وفي 30 أبريل 1984، قتل ضابط شرطة سيخي كبير، كان أحد جلادي الإرهابيين المميزين. وفي 12 مايو، اغتيل أيضا راميش تشاندر، ابن المحرر لالا جاجت ناراين وخليفته في عمله. بحلول ذلك الوقت، كان رجال بيندرانوال قد بدءوا في تحصين المعبد الذهبي، تحت إشراف شوبيج سينج، اللواء السابق في الجيش الهندي، الذي كان أحد أبطال حرب 1971 ودرب مقاتلي موكتي باهيني.
تحت إرشاد شوبيج، بدأ المسلحون يضعون أكياس الرمل على أبراج المراقبة، ويحتلون البنايات المرتفعة والأبراج المحيطة بمجمع المعبد الذهبي. وكان الرجال الذين شغلوا نقاط المراقبة تلك جميعهم على اتصال لاسلكي بشوبيج في أكال تخت، فكان من الواضح أنهم كانوا يتوقعون هجوما من جانب قوات الحكومة؛ فأعدت الدفاعات على أمل أن تتمكن من الصمود فترة كافية لإثارة انتفاضة عامة في أوساط السيخ في القرى ومسيرة جماهيرية تجاه المعبد المحاصر. وخزن غذاء يكفي المدافعين شهرا.
أخذ الجانب الآخر يستعد للتحرك أيضا؛ ففي يوم 31 مايو، استدعي اللواء آر إس برار من ميروت، حيث كان مسئولا عن فرقة مشاة، وأمر بقيادة عملية تخليص المعبد من الإرهابيين. كان برار سيخيا من الجات، تبعد قرية أسلافه بضعة أميال فحسب عن قرية أسلاف بيندرانوال، ثم إنه يعرف شوبيج سينج حق المعرفة؛ فسينج معلمه في الأكاديمية العسكرية الهندية في دهرادون، وقد عملا معا في العمليات العسكرية ببنجلاديش.
تلقى برار إحاطة من الفريق سوندرجي والفريق ديال؛ فقيل له إن الحكومة تعتقد أن الوضع في البنجاب لم يعد في إمكان الإدارة المدنية السيطرة عليه؛ فمحاولات الحكومة المركزية الوصول إلى تسوية مع حزب أكالي دال قد بلغت طريقا مسدودا؛ إذ فشل أكالي دال في إقناع بيندرانوال بتفكيك التحصينات ومغادرة المعبد. وكان أكالي دال نفسه يزداد تشددا؛ فقد أعلن سانت لونجوال زعيم الحزب أنه سيقود حركة يوم 3 يونيو لوقف تصدير الحبوب من الولاية. طرحت فكرة الحصار، لكنها رفضت؛ خوفا من قيام تمرد في الريف، ومن ثم قررت رئيسة الوزراء، «بعد كثير من التردد»، أنه لا بد من طرد المسلحين بالقوة؛ فطلب من برار تخطيط وقيادة ما عرف بعملية النجم الأزرق، التي تقرر إتمامها في غضون ثمان وأربعين ساعة إن أمكن، دون الإضرار بالمعبد الذهبي، وبأقل قدر ممكن من الخسائر في الأرواح.
61
خلال أربع وعشرين ساعة من تلك الإحاطة بدأ الجيش يدخل أمريتسار؛ حيث تسلم دفة القيادة في المدينة من القوات شبه العسكرية. وفي يوم 2 يونيو، دخل ضابط سيخي شاب المعبد ، متظاهرا بأنه أحد زوار المعبد، وأمضى ساعة متجولا في أنحائه، مراقبا بعناية الإعدادات الدفاعية المتخذة في المعبد. وأرسلت دوريات أيضا لاستطلاع نقاط المراقبة التي احتلها المسلحون في الخارج، التي كان لا بد من إزاحتها من الطريق قبل شن الهجوم.
في ليلة 2 يونيو، تحدثت رئيسة الوزراء على إذاعة «أول إنديا راديو»، مناشدة «جميع قطاعات البنجاب» الإحجام عن «إراقة الدماء» والإقدام في المقابل على «نبذ الكراهية». كانت تلك الدعوة مخادعة؛ إذ كان الجيش يستعد للهجوم بالفعل. وفي يوم 3 يونيو قطعت الطرق والسكك الحديدية وخطوط الهاتف في البنجاب، ولكن في أمريتسار نفسها رفع حظر التجوال، للسماح لزوار المعبد الذهبي بإحياء ذكرى استشهاد الجورو أرجون ديف.
في اليوم التالي حدث تبادل إطلاق نار بصورة متقطعة في محيط المعبد؛ إذ حاولت قوات الجيش إسقاط الأبراج التي يحتلها المسلحون. وطوال ذلك اليوم واليوم التالي، طلب من زوار المعبد مغادرته من خلال مكبرات الصوت، ثم بدأ الهجوم نفسه في ليلة 5 يونيو. كان برار يأمل في السيطرة على الأجزاء الواقعة في محيط المعبد بحلول منتصف الليل، وبعدها توضع وحدة داخل أكال تخت وترسل تعزيزات؛ بحيث يخلى المكان بأكمله من العناصر المسلحة بحلول صباح اليوم التالي. إلا أن خطته استهانت إلى حد خطير بعدد المسلحين ومبلغ عتادهم ومهارتهم وعزيمتهم؛ فجميع نوافذ أكال تخت كانت قد غطيت بالألواح، بينما وقف قناصون وراءها لإطلاق النار من شقوق في الداخل، وتفرق مسلحون آخرون حاملين مدافع آلية وقنابل يدوية في أنحاء المجمع، مستفيدين من معرفتهم بممراته وشرفاته الضيقة لمباغتة القوات المتقدمة.
في تمام الساعة الثانية صباحا من يوم 6 يونيو كانت القوات متأخرة عن الجدول المحدد لها بدرجة كبيرة، وكتب برار أنه «نظرا لكثافة النيران التي أطلقها المسلحون من اتجاهات متعددة، لم تتمكن قواتنا من الاقتراب من أكال تخت مسافة كافية للتصويب بأي قدر من الدقة».
62
وفي النهاية، لزم الحصول على تصريح من دلهي باستخدام الدبابات لاختراق الدفاعات. وبحلول الفجر، كانت دبابات عدة - تتراوح التقديرات بين خمس دبابات وثلاث عشرة دبابة - قد اقتحمت بوابات المعبد واحتلت مواقع فيه. راحت الدبابات تمطر أكال تخت بوابل من النيران معظم ذلك اليوم، وفي المساء ارتئي أن إرسال قوات إلى المبنى آمن، للقبض على المدافعين الذي يمكن أن يكونوا متبقين؛ فوجدت القوات جثة شوبيج سينج في القبو، وقد ظل قابضا على بندقيته وإلى جواره جهاز اتصال لاسلكي. وعثرت القوات في القبو أيضا على جثتي بيندرانوال وأحد أعوانه المخلصين، أمريك سينج من اتحاد الطلاب السيخ لعموم الهند.
قدرت الحكومة أعداد القتلى بأربعة ضباط، وتسعة وسبعين جنديا، و492 إرهابيا. وتذهب روايات أخرى إلى أن أعداد القتلى كانت أعلى من ذلك بكثير: ربما 500 جندي وضابط أو أكثر، و3 آلاف ممن سواهم، بمن في ذلك زوار كثر من زوار المعبد، الذين وقعوا في مرمى النيران.
قال آر إس برار معلقا: «بصرف النظر عن حقيقة أن تحويل بيت الرب إلى ساحة قتال، وعن أن كافة المبادئ والأسس التي دعا إليها الجورو السيخ العشرة قد ضرب بها عرض الحائط؛ فلا مفر من الإقرار بأن التصميم الذي تمسك به المسلحون بموقفهم، والجسارة العنيدة التي خاضوا بها المعركة، والدرجة العالية من الثقة بالنفس التي أظهروها؛ جديرة بالإشادة والاعتراف.»
63
من المستحيل ألا يتعاطف المرء مع كاتب هذه الكلمات، الذي كانت مهمته - دون شك - هي أصعب مهمة أوكلت إلى قائد في الجيش الهندي، سواء أكانت في وقت السلم أم الحرب. وكان تعليق الجنرال السيخي، الذي عمل كل من برار وشوبيج تحت إمرته أثناء تحرير بنجلاديش، عن عملية النجم الأزرق هو الآتي: «لقد استخدم الجيش لإنهاء مشكلة تسببت فيها الحكومة. هذا هو نوع التصرف الذي سوف يدمر الجيش.»
64
9
يبعد المعبد الذهبي مسيرة عشر دقائق عن جليانوالا باج، حيث أمر قائد لواء بريطاني قواته في أبريل 1919 بإطلاق النار على جمهور من الهنود العزل؛ فلقي أكثر من 400 شخص مصرعهم. وتحتل تلك الواقعة مكانة مقدسة في المخيلة والذاكرة القوميتين. وقد استغل المهاتما غاندي مشاعر السخط الجماعية التي استفزتها تلك الواقعة ببراعة لشن حملة ضد الاستعمار في جميع أنحاء البلاد. أما عملية النجم الأزرق فكان هدفها مختلفا - إذ كانت موجهة ضد متمردين مسلحين، وليس تجمعا سلميا - إلا أن تبعاتها كانت مشابهة؛ فقد خلفت جرحا جمعيا في نفسية السيخ، وشكا عميقا في حكومة الهند؛ فقد قورن النظام في دلهي بالقامعين والمدنسين السابقين؛ مثل المغول والغازي الأفغاني أحمد شاه عبدالي من القرن الثامن عشر.
65
ووجد مراسل صحفي طاف بأنحاء ريف البنجاب «مجتمعا حانقا نافرا»، وعلى حد تعبير أحد السيخ المسنين: «لقد أوذيت ذاتنا الداخلية، وهوجم أساس عقيدتنا؛ فقد أبيد تقليد كامل.» وفي ذلك الحين، حتى السيخ الذين كانوا معارضين لبيندرانوال سابقا بدءوا يرونه في ضوء جديد؛ فأيا كانت أخطاؤه وآثامه الماضية، فقد مات هو ورجاله وهم يدافعون عن المعبد المقدس من المخربين.
66
كان المشهد من خارج البنجاب مختلفا إلى حد بعيد؛ فكثير من الناس أشادوا بالسيدة غاندي لاتخاذها موقفا (وإن كان متأخرا) ضد الإرهابيين الذين زعم أنهم يتقاضون أجرهم من باكستان. وحثت رئيسة الوزراء نفسها آنذاك على اتخاذ خطوات ضد العناصر المعارضة لها في ولايات أخرى؛ فقد ظلت تضغط فترة من أجل إقالة حكومة فاروق عبد الله من جامو وكشمير، وعندما أخبرها حاكم الولاية بي كيه نهرو بأن ذلك تصرف مناف للدستور، استعيض عنه بمساعد سانجاي غاندي السابق؛ جاجموهان. وفي يوليو 1984، نجح جاجموهان في إحداث انشقاق داخل حزب المؤتمر الكشميري، ونصب زعيم المجموعة المتبقية رئيس وزراء الولاية الجديد. أرسل حزب المؤتمر في دلهي حقائب من النقود لرشوة المشرعين الكشميريين حتى يتخلوا عن زعيمهم. ولم يمنح فاروق فرصة لاختبار أغلبيته على أرض المجلس؛ فقد صدر قرار الإقالة بحقه في منتصف الليل، كما حدث مع والده عام 1953، الذي أبعد عن منصبه أيضا بحجة التشكيك في التزامه بالقانون، والتشكيك بدرجة أكبر في أخلاقياته؛ فكما كتب بي كيه نهرو، أصبح الكشميريون «موقنين الآن لدى الإطاحة بزعيمهم المنتخب للمرة الثانية، بأن الهند لن تسمح لهم بحكم أنفسهم بأنفسهم أبدا».
67
بعد مرور شهر، غير النظام في أندرا براديش. ومرة أخرى اضطلع الحاكم - عضو حزب المؤتمر السابق - بدور شرير في التغيير؛ فقد حرض قسما من حزب تيلوجو ديسام على الانشقاق، وتكوين حكومة جديدة، بمساندة حزب المؤتمر.
68
مثلت إقالة رئيسي وزراء كل من ولاية جامو وكشمير وولاية أندرا براديش انتهاكا صارخا للممارسة الديمقراطية؛ فهاتان لم تكونا من الحركات المتمردة المسلحة، وإنما كانتا حكومتين منتخبتين وفقا للقانون. ولا يمكن للمرء استبعاد فكرة الضغائن الشخصية؛ فعلى أي حال، كان إن تي آر وفاروق هما من ابتدآ الجهود الرامية إلى توحيد صفوف المعارضة. ومن المؤكد أن رئيسة الوزراء قدرت أيضا أنه سيكون من المفيد أن تنصب نظما متعاطفة معها في الولايات قبل الانتخابات العامة؛ فقد كتبت إلى صديقة لها، متهمة المعارضة بأن «الهدف الوحيد الذي يشغلها هو الإطاحة بي»، وزعمت أن «ائتلافاتهم المختلطة» قائمة على «النعرات الإقليمية والطائفية والطبقية».
69
قد يتراءى لنا قلب ذلك النقد رأسا على عقب؛ فلا شك أن كثيرا من سياسات السيدة غاندي خلال عامي 1983 و1984 بدت إملاءات لهدف أوحد يتمثل في الفوز في الانتخابات العامة المقبلة.
في أعقاب عملية النجم الأزرق، حذرت الأجهزة الاستخباراتية رئيسة الوزراء من احتمال تعرضها لمحاولة اغتيال، ونصحتها بتغيير السيخ الموجودين ضمن حرسها الخاص؛ فرفضت السيدة غاندي الاقتراح قائلة: «ألسنا علمانيين؟»
70
وفي صبيحة يوم 31 أكتوبر، أثناء سيرها من منزلها إلى مقر عملها المجاور، أطلق عليها اثنان من حرسها الخاص - ستوانت سينج وبيانت سينج - النار عن قرب. كان كلاهما سيخيا عاد من زيارة إلى داره حديثا حيث استفزه الألم والغضب اللذان شهدهما للثأر لما حدث في عملية النجم الأزرق.
عندما نقلت رئيسة الوزراء إلى المستشفى كانت قد توفيت بالفعل، ومع حلول فترة ما بعد الظهيرة كانت المحطات الإذاعية الأجنبية قد أذاعت النبأ، إلا أن إذاعة «أول إنديا راديو» لم تقدم إعلانها الرسمي إلا في تمام الساعة السادسة مساء. وبعد فترة وجيزة، أدى ابنها راجيف غاندي قسم رئاسة الوزراء. كان راجيف في البنغال عندما أطلق الحارسان النار على والدته، فهرع إلى العاصمة حيث أجمع فريق من كبار الوزراء وقيادات حزب المؤتمر على أنه ينبغي أن يخلف والدته.
في وقت لاحق من تلك الليلة ، سجلت بعض حوادث إشعال الحرائق والنهب في دلهي. وفي صباح اليوم التالي، وضع جثمان السيدة غاندي في قصر تين مورتي، حيث أقام والدها أثناء شغله منصب رئيس الوزراء. وطوال ذلك اليوم واليوم التالي، ظلت القناة التليفزيونية الهندية الوحيدة - دوردرشان - تعرض مشهد صفوف المشيعين المتوافدين إلى جوار الجثمان. ومن وقت لآخر، كانت الكاميرا توجه عدساتها إلى الجماهير بالخارج، التي راحت تهتف بشعارات من قبيل: «الخلود لإنديرا غاندي»، وشعارات أخرى أكثر توعدا من قبيل: «قصاص الدم بالدم».
اتسع نطاق العنف الذي تفجر في ليلة 31 أكتوبر وتفاقم خلال يومي 1 و2 نوفمبر. حدثت أولى الوقائع الخطيرة في جنوب ووسط دلهي، وفيما بعد انتقلت رياح العنف شرقا عبر نهر يمنا، وصولا إلى مستعمرات إعادة التوطين القائمة هناك. وفي كل مكان، كان السيخ وحدهم دون غيرهم المستهدفين؛ فقد أحرقت منازلهم ونهبت متاجرهم وانتهكت ودنست دور عبادتهم وكتبهم المقدسة. وبينما أعملت الجموع الغاضبة انتقامها، راحت تهتف بشعارات أيضا؛ فمن الشعارات التي سجل الناس ترددها كان: «أجهزوا على السردارات»، و«الموت للخونة»، و«لقنوا السيخ درسا».
في دلهي وحدها، قتل أكثر من ألف من السيخ في العنف، وكان الذكور منهم الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والخمسين مستهدفين بصفة خاصة؛ فكانوا يقتلون بأساليب متنوعة ، عادة أمام أمهاتهم وزوجاتهم. وكانت النار تشعل في الجثث. وفي إحدى الحالات، أحرق صبي صغير مع والده، بينما قال الجاني: «لا بد من القضاء على ذرية هذا الثعبان أيضا.»
تألفت الجموع الغاضبة من الهندوس المقيمين في دلهي ومحيطها؛ من كناسي الطوائف المجدولة العاملين في المدينة، ومزارعي الجات والرعاة الجوجاريين من القرى الواقعة على أطراف المدينة. في كثير من الأحيان كانوا يعملون تحت قيادة وتوجيه سياسيين من حزب المؤتمر؛ من أعضاء في مجلس المدينة، ونواب برلمانيين، بل حتى وزراء اتحاديين أيضا. وكان زعماء حزب المؤتمر يعدون الأشخاص المستعدين لتأدية المهمة بالمال والخمر، فضلا عن البضائع المسروقة من موقع الحدث. وكانت الشرطة إما تقف مكتوفة الأيدي وإما تقدم عونا نشيطا لعمليات النهب والقتل.
71
كان تعليق راجيف غاندي نفسه على أعمال الشغب هو: «عندما تسقط شجرة كبيرة، تهتز الأرض.» فلا شك أن مقتل السيدة غاندي استثار مشاعر قوية لدى معجبيها الكثر؛ فقد كانت ثمة قطاعات من الطبقة الوسطى تنظر إليها بعين الإجلال لسلوكها وقيادتها أثناء حرب عام 1971، بينما اعتبرتها قطاعات من الفقراء السياسية الهندية الوحيدة المتعاطفة مع حالهم. والهندوس بصفة عامة كانوا مستائين من مجريات الأمور في البنجاب؛ فقد كانوا يعتقدون أن الحركة المطالبة بإقامة دولة خالستان تهدف إلى تمزيق البلاد إربا، وقد أكد تلك المخاوف إقدام اثنين من السيخ على قتل رئيسة الوزراء. بعد مقتل السيدة غاندي مباشرة، بدأ تناقل أقاويل عن أعمال أخرى؛ فقيل إن ثمة قطارات محملة بجثث الهندوس قادمة من البنجاب، وإن العناصر المتذمرة سممت إمداد المياه في المدينة.
كان المزاج العام في دلهي غاضبا، وقد أفسدته مجريات الأمور الحقيقية والمتخيلة. ولكن على الرغم من ذلك، فقد كان تعليق راجيف غاندي يعوزه الإحساس بدرجة كبيرة. كان متماشيا مع السلوك العام للإدارة التي طلب منه إدارتها؛ فقد مثل عرض تليفزيون الدولة لمشاهد الجماهير، المتعطشة للدماء في قصر تين مورتي، نبوءة تحقق ذاتها. وكانت لامبالاة الشرطة صادمة، بينما كان الدور الذي اضطلع به سياسيو حزب المؤتمر غير أخلاقي. إلا أن الزلة التي ربما انطوت على دلالة أكبر من سواها كانت الإحجام عن استدعاء الجيش؛ فثمة معسكر كبير للجيش في دلهي نفسها، وكذلك كانت ثمة عدة فرق مشاة في دائرة نصف قطرها خمسون ميلا من العاصمة. أخذ الجيش أهبته، ولكن على الرغم من المناشدات المتكررة لرئيس الوزراء ووزير داخليته، بي في ناراسيمها راو، لم يطلب من الجيش التحرك. حتى مسير القوات في أنحاء المدينة في يومي 1 و2 نوفمبر كان من المرجح أن يخمد أعمال الشغب، ولكن الأوامر لم تصدر قط.
على الرغم من أن السيخ في العاصمة تحملوا وطأة العنف، فقد شنت هجمات أيضا على السيخ في مدن وبلدات أخرى شمالي الهند؛ فقتل أكثر من 200 فرد من السيخ في حوادث بولاية أوتر براديش، وقتل عشرون منهم في إندور ، وستون في مدينة بوكارو معقل صناعة الصلب، حيث خرجت الجموع - كما في دلهي - تحت قيادة أعضاء حزب المؤتمر المحليين.
كانت المدينة التي ظل فيها مستوى العنف متدنيا هي كلكتا؛ فقد كان ثمة 50 ألفا من السيخ مقيمون في كلكتا، كثير منهم سائقو سيارات أجرة، وكل منهم يسهل التعرف عليه بعمامته ولحيته. ولكن قليلا منهم جدا تعرضوا لأذى، ولم يقتل أحدهم؛ فقد أمر رئيس وزراء ولاية غرب البنغال، جيوتي باسو، الشرطة بحفظ السلام. وعملت الشرطة بتعليماته، بينما أبقت اتحادات العمال القوية في المدينة عينا يقظة. أثبت نموذج كلكتا أن التصرف السريع من جانب الحكومة من شأنه أن يحول دون نشوب عنف طائفي، وإن كان ذلك درسا لم يجد آذانا مصغية في سائر أنحاء البلاد.
72
10
كان تأثير السيدة غاندي على التاريخ الهندي حاسما؛ بدرجة لا تقل فعليا عن تأثير والدها. كان جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند طوال ستة عشر عاما وتسعة شهور، وشغلت ابنته ذلك المنصب نفس المدة تقريبا، على فترتين؛ من يناير 1966 إلى مارس 1977، ومرة أخرى من يناير 1980 إلى أكتوبر 1984. هذان هما الشخصيتان الأبرز أهمية في تاريخ الهند المستقلة؛ فالمقارنة بينهما حتمية، وربما أيضا ضرورية.
تفوقت السيدة غاندي على والدها بما لا يقاس في القيادة العسكرية؛ فقد كان في حسمها وقت أزمة بنجلاديش تناقض صارخ مع موقف نهرو المتذبذب تجاه الصين؛ فكان تارة يعد بالصداقة الخالدة، وتارة أخرى يصدر تهديدات لا يملك قوة تعضدها؛ فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية، كان اهتمام نهرو بالقطاع العام والاكتفاء الذاتي متماشيا مع روح العصر، في حين أنه في ستينيات القرن العشرين، عندما حان وقت فتح الاقتصاد بحذر أمام قوى السوق، شددت السيدة غاندي قبضة الدولة عوضا عن ذلك. من الناحية الاجتماعية، كان كلاهما واسع الأفق عن حق، يسعى إلى تمثيل الهنود كافة، بصرف النظر عن الجنس أو الطبقة أو الدين أو اللغة.
إلا أن نهرو كان متميزا عن ابنته بوضوح فيما يتعلق بالعمليات والإجراءات الديمقراطية. أشار كريشنا راج - محرر المجلة الهندية الأبرز للشئون العامة، «إكونوميك آند بوليتيكال ويكلي» - إلى هذه النقطة عند وفاة السيدة غاندي؛ فقد تمثلت إحدى نقاط التناقض في طريقة معاملة كل من الأب وابنته للحزب الذي حظي بولائهما طوال عمريهما؛ فقد كتب كريشنا راج أنه عندما تولت إنديرا غاندي منصبها عام 1966، «وجدت حزب مؤتمر حسن التنظيم إلى حد معقول، يتألف من عدة طبقات من القيادة المتجاوبة في طول البلاد وعرضها». لكنها «فككت الحزب بتصميم واضح. ولأنها لم تثق بأحد يرفض الاضطلاع بدور تابع لها ولأسرتها، تخلصت من القيادات المتوسطة وأعادت بناء الحزب في صورة كيان صوري، يفتقر إلى الهيكل الديمقراطي، وتوزع المناصب فيه على أفراد تختارهم وتعينهم بمعرفتها».
مما يؤسف له أن حزب المؤتمر لم يكن وحده الذي صار طوع بنان رئيسة الوزراء، فمثله أيضا كانت حكومة الهند؛ فعلى الرغم من الخزي الناجم عن الحرب مع الصين، عندما جاءت إنديرا غاندي إلى الحكم في يناير 1966 «كانت الهند دولة متماسكة، تمتاز بهالة هادئة من الاستقرار الاجتماعي». وكانت متحدة حول مجموعة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية، وأدركت الطبقة السياسية الصلة بين الوسيلة والغاية؛ «كان الاعتقاد الذي لا يزال سائدا لدى الكثيرين هو أن أدوات الدولة لم يقصد قط - بصورة واعية على الأقل - إعمالها لإعلاء المصالح الخاصة». ولكن بحلول وقت وفاة السيد غاندي، كان ثمة «تحول نوعي» قد حدث، و«أصبحت الهند دولة منقسمة». فقد كانت ثمة «جروح غائرة وخلافات عميقة». والخطط الخمسية، التي كانت يوما ما تعتبر «تصريحا جادا بالآمال والطموحات»، أصبحت الآن «بلا معنى»؛ فالآن «تتعرض أجهزة الدولة لتلاعب مستمر لصالح الأقلية الضئيلة من السكان المتربعة على قمة السلم الهرمي الاجتماعي». والآن «الحكومة المركزية فاسدة حتى النخاع، وإنديرا غاندي لا يمكن إعفاؤها من المسئولية المباشرة عن هذا الوضع».
73
في ذلك الوقت، تنبأ الصحفيون الغربيون بأن أياما سوداء تنتظر الهند؛ فكتب مراسل صحيفة «نيويورك تايمز» أنه مع موت السيدة غاندي، ستواجه البلاد «فترة طويلة من عدم اليقين، مع احتمال زيادة الاضطرابات على المستوى الداخلي وظهور توترات جديدة مع جيرانها، ولا سيما باكستان». وكانت صحيفة «ذا صن » الصادرة في نيويورك أكثر تشاؤما؛ إذ كتب مراسلها أن اغتيال رئيسة الوزراء «فتح احتمالية كئيبة بأن تتبعثر أجزاء الهند، من الداخل، وأن تصبح العامل المحفز للخصومات الإقليمية والعالمية بصفة متزايدة». بعض المسئولين في واشنطن أبدوا قلقهم من أن الخصومات العرقية والدينية سوف «تتفجر في صورة عنف شامل»، وأن البلد سيتفكك، وأن «القيادة اليائسة في الهند سيزداد تطلعها إلى الاتحاد السوفييتي التماسا للعون».
74
لم تكن تلك أول مرثاة تكتب في الاتحاد الهندي، وربما لن تكون الأخيرة. إلا أنه من المثير للدهشة أنه، على غرار المتزلفين في حزب المؤتمر، بدا أن هؤلاء المراقبين الغربيين يعتبرون إنديرا الهند فعلا، ومثل التوصل إلى هذه النتيجة برهانا إضافيا على نجاح رئيسة الوزراء الراحلة في تقويض المؤسسات التي حالت بينها وبين الدولة.
الفصل الخامس والعشرون
صعود الابن الثاني
لا يمكن أبدا أن يكون الخيار في الهند بين الفوضى والاستقرار، وإنما بين الفوضى القابلة للسيطرة والفوضى الخارجة عن السيطرة، وبين الفوضى الآدمية والفوضى غير الآدمية، وبين الاضطراب المحتمل والاضطراب غير المحتمل.
عالم الاجتماع أشيس ناندي، كتبها عام 1990
1
حتى بمعايير السياسة الهندية، كان عام 1984 متقلبا بصفة خاصة؛ فقد حدثت عملية النجم الأزرق، الهجوم غير المسبوق للدولة على إحدى دور العبادة، خلال الأسبوع الأول من يونيو. واغتيال إنديرا غاندي، الذي مثل أول حادثة قتل كبرى منذ مقتل المهاتما غاندي، حدث في اليوم الأخير من أكتوبر. وقد تسبب مقتل المهاتما غاندي في وقف مؤقت للعنف بين الهندوس والمسلمين، أما مقتل إنديرا غاندي فاستثار موجة من العنف قادها الهندوس ضد السيخ.
بعد مرور شهر على تأدية راجيف غاندي قسم رئاسة الوزراء، شهدت البلاد فاجعة حصدت أرواحا لا تقل عن تلك التي حصدتها أعمال الشغب المعادية للسيخ؛ ففي الساعات الأولى من 3 ديسمبر 1984، بدأت أبخرة بيضاء تتصاعد في هواء مدينة بوبال في وسط الهند؛ فاستيقظ المواطنون النائمون في بيوتهم على نوبات من السعال والقيء وحرقان في العينين؛ فهبوا مذعورين من أسرتهم وخرجوا إلى الشوارع، حيث تبعتهم السحابة المشبعة بالغاز. وبحلول الفجر، «كانت الطرق الرئيسية في المدينة مزدحمة بسيل لا ينتهي من البشر، يتحسسون خطاهم بحثا عن محيط أكثر أمنا». وسقط كثير منهم في الشوارع وقد غلبهم الدوار والإنهاك، بينما استطاع آخرون الوصول - على نحو ما - إلى المستشفيات الحديثة القليلة بالمدينة، التي سرعان ما امتلأت أسرتها إلى أقصى سعتها.
1
كان ذلك الغاز الفتاك هو إسوسيانات الميثيل، وجاء من مصنع للمبيدات الحشرية تملكه وتديره شركة أمريكية، هي يونيون كاربايد. كان الغاز يخزن في حاويات تحت الأرض، حيث كان جهاز تنقية الغاز يحيد ضرره قبل إطلاقه في الجو، إلا أنه في تلك الليلة حدث تفاعل كيميائي غير متوقع أفضى إلى إطلاق الغاز في حالته السامة. وكانت الآثار كارثية؛ ففي غضون ساعات من حدوث التسريب، كان 400 شخص على الأقل قد قضوا نحبهم من جراء التعرض للغاز، وبلغت الأعداد في الحسبة النهائية أكثر من ألفي ضحية، لتكون بذلك أسوأ حادثة صناعية في تاريخ البشر. كان معظم الضحايا يقطنون المناطق العشوائية ومدن الصفيح المحيطة بالمصنع، وإضافة إلى من قتلوا، كان ثمة 50 ألفا من الناس ظلوا يعانون بقية حياتهم أمراضا وإصابات ناجمة عن التعرض للغاز.
في أعقاب تلك الفاجعة، توافد عدد كبير من الزوار على بوبال، بعضهم غير مرحب بهم؛ فقد جاء أطباء لمد يد المساعدة، ولكن جاء أيضا محامون يسعون إلى التربح من دعوى جماعية بالنيابة عن الضحايا، ترفع في محكمة أمريكية. وجاء المدير التنفيذي لشركة يونيون كاربايد؛ حيث تم التحفظ عليه لفترة وجيزة، ثم أطلق سراحه بكفالة واستقل طائرة للعودة إلى نيويورك. بعد مرور عشرة أيام على الحادث، جاء فريق من العلماء الهنود لتحييد مفعول غاز إسوسيانات الميثيل الذي ظل يخزن في مصنع يونيون كاربايد. سمي ذلك المشروع «عملية الإيمان»، ولكنه لم يثر في نفوس الناس سوى التشكك؛ فخوفا من حدوث تسريب آخر، حاول آلاف السكان مغادرة بوبال، حيث «ضربت الفوضى أطنابها في محطة حافلات المدينة ومحطة القطار ... بينما تزاحم فيهما السكان الفارون حاملين متعلقاتهم الضرورية».
2
طرحت التحقيقات التي أجريت بشأن حادث تسريب 3 ديسمبر مجموعة من الأسباب المحتملة ؛ منها: دخول مياه في الحاويات، أو عدم تنظيف الحاويات على نحو سليم، أو تخزين الغاز في درجات حرارة أعلى من الموصى بها.
3
أما ما كان واضحا فهو أنه لا ينبغي تواجد صناعة محتملة الخطورة داخل المدينة؛ فقبل بدء الإنتاج في المصنع عام 1980، كان مخطط المدينة، إم إن بوتش، قد أوصى بأن تختار شركة يونيون كاربايد موقعا أكثر أمانا وأقل ازدحاما بالسكان. والحقيقة أنه، كما كشف تقرير صدر في يونيو 1984، كانت للمصنع سوابق في تسريب الغاز وانفجار خطوط الأنابيب، لكنها كانت حوادث بسيطة، مثلت تنويهات لم ينتبه لها للحادثة الكبرى التي كانت تنتظر الوقوع.
4
2
وقعت حادثة بوبال في الأسبوع الأول من ديسمبر. وفي نهاية الشهر، عقدت الهند انتخاباتها العامة الثامنة. كان اغتيال إنديرا غاندي وذكراها مسيطرين على الانتخابات. وقدمت حملة حزب المؤتمر - التي أشرفت عليها وكالة ريدفيوجن الدعائية - راجيف غاندي على أنه الوريث المنطقي لتركة الأم، وقدمت الحزب نفسه باعتباره حائط الصد الأخير أمام القوى الانفصالية؛ فجاء في إعلان تصدره راجيف غاندي: «قد يكون صوتك هو ما يفصل الهند عن الوحدة أو الانقسام.» وجاء في آخر التساؤل: «هل سيتحد فريق عمل عام 1977 يوما على أيديولوجية مشتركة عوضا عن الطمع المشترك في السلطة؟»
5
وكتب معلق آخر أن حملة حزب المؤتمر «استغلت المخاوف الجماهيرية المتنامية»، حيث «تساوى اغتيال السيدة غاندي في المخيلة الشعبية مع الاعتداء على الدولة الهندية، وظل ذلك التصور يتعزز باستمرار».
6
عندما ظهرت النتائج، كان حزب المؤتمر قد فاز باكتساح؛ إذ حصد قرابة 50٪ من أصوات الناخبين ونحو 80٪ من مقاعد البرلمان؛ فقد ربح حزب المؤتمر، تحت قيادة سياسي مستجد: 401 مقعد، وهو عدد أكبر بكثير مما حصل عليه الحزب يوما تحت قيادة نهرو أو إنديرا غاندي. إلا أنه، مثلما أقر أحد مستشاري رئيس الوزراء: «كان النصر يعزى إلى والدته الراحلة بقدر ما كان يعزى إليه.»
7
فاز حزب المؤتمر بالانتخابات العامة بإزكاء الخوف من تفكك الدولة، إلا أن رئيس الوزراء بعدما أصبح يتمتع بأغلبية كبيرة، تحرك بسرعة لإرساء السلام في البنجاب؛ فأطلق سراح قيادات حزب أكالي دال، وأرسل إليهم مبعوثون للتشاور معهم؛ فبدا سانت هرتشران سينج لونجوال حريصا مثل راجيف غاندي على إلقاء الماضي وراء ظهره. وفي يوليو 1985 وقع الزعيمان اتفاقا، وافقا فيه على نقل تشانديجار إلى البنجاب خلال فترة زمنية محددة، مع كفالة حصول البنجاب على حصة منصفة من مياه الأنهار، وإلزام الحكومة بإعادة النظر في العلاقات بين الحكومة المركزية والولاية بصفة عامة. وتقرر إنهاء الحكم الرئاسي في الولاية، وعقد انتخابات.
عقب توقيع الاتفاق، طاف سانت لونجوال بأنحاء البنجاب، ملقيا الخطب في المؤتمرات الشعبية والمواعظ في المعابد السيخية، وطالب الناس في كل مكان بدعم الجهود الرامية إلى المصالحة؛ فبينما كان لونجوال يخطب في تجمع من الناس في سانجرور، أطلق عليه شابان الرصاص فأردياه قتيلا، إيمانا منهما بأنه خان قضية السيخ بتعاونه مع الحكام في نيودلهي. حدثت الواقعة يوم 20 أغسطس، إلا أن الحكومة تصرفت بشجاعة، واختارت المضي قدما في انتخابات مجلس الولاية في أواخر سبتمبر. وأسفر مقتل لونجوال عن موجة دعم شعبي لحزبه؛ ففاز حزب أكالي دال بأغلبية كبيرة، لأول مرة في تاريخ المقاطعة. وبمشاركة ثلثي السكان البالغين في التصويت، ارتئي في الانتخابات انتصار على التطرف.
8
في الوقت نفسه، في الطرف المقابل من البلاد، توصلت الحكومة أيضا إلى اتفاق مع اتحاد طلاب عموم آسام؛ فاتفق الطرفان على تواريخ نهائية «للمتسللين»، بحيث يسمح لمن وصلوا بعد 1 يناير 1966 وحتى 25 مارس 1971 (عندما بدأت الحرب الأهلية في باكستان الشرقية) بالبقاء ولكن دون أن يكون لهم حق التصويت، أما من جاءوا بعد ذلك التاريخ فيتم تحديدهم وترحيلهم. وأنهي الحكم الرئاسي وأعلنت الانتخابات في تلك الولاية أيضا؛ فحول اتحاد طلاب نفسه إلى حزب سياسي، حيث أنشأ أعضاء اتحاد طلاب عموم آسام حزب آسوم جانا باريشاد (اتحاد آسام الشعبي). وعندما انعقدت انتخابات مجلس الولاية في ديسمبر 1985، اكتسح حزب آسوم جانا باريشاد حزب المؤتمر الذي كان المسيطر على الولاية من قبل. لم يكن رئيس الوزراء الجديد، برافولا ماهنتا، يتجاوز الثانية والثلاثين من العمر، وكثير من مشرعيه كانوا حتى أصغر منه سنا. وكما في البنجاب، رحب بالنتيجة باعتبارها إثباتا للديمقراطية، وقال كبار أعضاء حزب المؤتمر في دلهي إنه في حين أن حزبهم خسر، فقد ربحت جمهورية الهند. وقال أحد وزراء الاتحاد معلقا: «الرجال الذين كانوا يوزعون الديناميت سابقا، صاروا يوزعون ملصقات الاقتراع؛ فمن وجهة النظر الوطنية، هل هذا نصر أم هزيمة؟»
9
في يونيو 1986، وقعت الحكومة الهندية اتفاقية سلام مع لالدنجا، زعيم جبهة ميزو الوطنية. وبموجب الاتفاقية، ألقى متمردو الجبهة السلاح ومنحوا عفوا من الملاحقة القضائية. وقالت الحكومة إنها ستجعل ميزورام ولاية مكتملة الأركان، وعين لالدنجا نفسه رئيسا لوزرائها، متسلما زمام الأمور من عضو حزب المؤتمر الذي كان يشغل ذلك المنصب آنذاك. وكان النموذج المحتذى به هنا هو اتفاق عام 1975 في كشمير، حين عاد الشيخ عبد الله إلى السلطة على النحو ذاته.
10
ذكرت إحدى المجلات أن راجيف غاندي «أبرز لقبائل الميزو حسن نوايا الدولة»، كما فعل قبلها مع السيخ والآساميين؛
11
فعلى الرغم من أن تلك الاتفاقات كانت في الواقع نتاج فكر وصياغة مسئولين - مثل الدبلوماسي المخضرم جي بارتاساراتي - فقد أرجع الفضل إلى رئيس الوزراء الشاب، الذي نظر إليه على أنه يترفع عن الخصومات الحزبية في سبيل المصالحة الوطنية؛ ففي الحالات الثلاث، كانت أحزاب أو قيادات معارضة لحزب المؤتمر قد وصلت إلى السلطة بأساليب سلمية.
3
كان عدم انتماء راجيف غاندي إلى الوسط السياسي في صالحه؛ ففي المخيلة الشعبية، «لم يكن اسمه مرتبطا بأي قضايا مثيرة للجدل، ولم ينحز إلى أي كتلة سياسية، ولم يكن قد كون بعد زمرة خاصة به». وازدادت جاذبيته لصغر سنه - لم يكن قد بلغ الأربعين عام 1984 - ووسامته، وأسلوبه المنفتح؛ فقد كان «شخصا مهذبا راقيا، حسن النية إلى أبعد حد، وجادا ومخلصا ... وقد سماه أبناء بلده السمحون «السيد نظيف»».
12
كان مستشارو راجيف الرئيسيون من خارج الوسط السياسي أيضا، ومنهم: أرون سينج وأرون نهرو، وهما صديقان من قطاع الشركات عينوا وزراء. ومثله كانا شابين ويجيدان تحدث الإنجليزية، ومثله أيضا كانا متمكنين في استخدام التكنولوجيا الحديثة، وقد أعلنا عن نيتهما نقل الهند مباشرة من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي والعشرين، من عصر العربات التي تجرها الثيران إلى عصر أجهزة الكمبيوتر الشخصية. كان مثل هؤلاء المستشارين محل سخرية أو فكاهة لدى بعض وسائل الإعلام، حيث أطلق عليهم «فتية الكمبيوتر لدى راجيف». إلا أنهم كانوا محل استحسان في وسائل إعلام أخرى؛ حيث شبه راجيف غاندي بجون إف كينيدي، الذي كان مثله «يرمز للشباب والأمل في جيل جديد»، إذ ألف «فريقا من أفضل العناصر وألمعها» لتشكيل مستقبل جديد لبلاده.
13
قضى رئيس الوزراء العام الأول من فترته في جولات، تعرف فيها على أجزاء لم يشاهدها من قبل من البلاد؛ فغطت الصحافة والتليفزيون في إعزاز جولة «استكشاف الهند» التي قام بها راجيف غاندي. إبان الثمانينيات حدث نمو هائل في عدد مقتني أجهزة التليفزيون، ولما كان البث لم يزل حكرا على الدولة؛ فقد صورت قناة دوردرشان الحكومية، وعرضت مئات الساعات لرئيس الوزراء الشاب الوسيم: في منزل عائم في كشمير، وفي قرية قبلية صغيرة نائية، وبين أشجار جوز الهند في كيرالا. وأينما ذهب، كان يلتقي الهنود العاديين ويتلقى عرائضهم، ثم يحولها إلى إدارة المنطقة لاتخاذ إجراءات بشأنها.
14
كانت أول أزمة يتعرض لها النظام الجديد ناجمة في الواقع عن إحدى العرائض التي لم تسلم إلى رئيس الوزراء وإنما إلى المحكمة الهندية العليا. كان مقدم العريضة رجلا مسنا - محمد أحمد خان - طعن في حكم محكمة أقل درجة ألزمه بدفع نفقة شهرية لزوجته المطلقة، شاه بانو. واحتج خان بأنه أدى واجبه بدفعه نفقة لمدة ثلاثة أشهر، وهي الفترة التي تنص عليها الشريعة الإسلامية (حسبما قال)؛ ففي رفض طعن خان، احتكمت المحكمة العليا إلى المادة 125 من قانون الإجراءات الجنائية، التي يحق للمرأة المطلقة بموجبها مطالبة زوجها السابق بنفقة إذا اتخذ زوجة أخرى (وهو ما حدث في حالة خان)، وإذا لم تتزوج مرة أخرى وعجزت عن إعالة نفسها بأي سبيل آخر (كما في حالة شاه بانو). وأشارت المحكمة إلى أن المادة 125 «سنت لتقديم حل سريع وعاجل لفئة من الناس عاجزة عن إعالة نفسها؛ فما الفرق إذن الذي تحدثه الديانة التي تعتنقها الزوجة أو الطفل أو الوالد المهمل؟» فقد ارتأت المحكمة أن الشروح الملحقة بقانون الإجراءات الجنائية أثبتت «بما لا يدع مجالا للشك، أن المادة 125 تطغى على قانون الأحوال الشخصية، إذا حدث أي تنازع بينهما».
كان إم إيه خان قد قدم أول طعن عام 1981، واستغرق صدور الحكم أربعة أعوام؛ فبرفض الطعن يوم 23 أبريل 1985، أكدت المحكمة العليا أن خان سيضطر إلى مواصلة دفع النفقة إلى شاه بانو كما حددتها المحكمة العليا (رقم غريب قدره 179,20 روبية شهريا). ثم تجاوز القضاة تفاصيل القضية لإصدار بعض التعليقات العامة؛ فقد استنكروا حقيقة أن المادة 44 من الدستور، التي تنص على توحيد القانون المدني، «ظلت مجرد حبر على ورق». وذكروا أنه «يبدو أن ثمة اعتقادا سائدا بأن المسلمين لهم حق التصرف فيما يتعلق بإصلاح قانون الأحوال الشخصية الخاص بهم. القانون المدني الموحد يدعم قضية الوحدة الوطنية بالتخلص من تباين الولاءات للقوانين المتنازعة الأيديولوجيات».
15
في بعض الأوساط، اعتبرت تلك التعليقات توبيخا غير مبرر لمجتمع الأقلية كله، ولم يرق للمسلمين زعم القضاة أن «أسوأ ما في الإسلام هو الحط من قدر المرأة». (إحقاقا للحق، أشار القضاة أيضا إلى أن المشرع الهندوسي، مانو، كان يؤمن بأن «المرأة غير جديرة بالاستقلال ».) انتقد المشايخ المسلمون الحكم باعتباره هجوما على الإسلام. وفي المساجد في طول البلاد وعرضها «ترددت أصوات الملالي والمولوية منددة بشاه بانو وحكم المحكمة العليا».
16
ومن ناحية أخرى، أيد بعض العلماء المسلمين الحكم، أو إنهم على أي حال لم يرتئوا فيها تنافرا مع النصوص الدينية، التي توافر فيها «سند إسلامي وافر موثوق» يدعم افتراض وجوب دفع الزوج المطلق نفقة لحين وفاة زوجته السابقة أو زواجها مجددا.
17
بعد ثلاثة أشهر من صدور حكم المحكمة العليا، طرح النائب البرلماني جي إم بانتوالا مشروع قانون خاص (غير حكومي)، يسعى إلى إعفاء المسلمين من المادة 125؛ فواجه مشروع القانون معارضة في مجلس الشعب من جانب وزير الدولة للشئون الداخلية، عارف محمد خان، الذي مثل وجهة النظر الإسلامية «التقدمية»، إن جاز التعبير. لقد دافع عن حكم المحكمة مستشهدا بمولانا آزاد، الذي كان أشهر مسلم في الحركة القومية، وفي الوقت نفسه كان مرجعا معترفا به فيما يخص النصوص الدينية الإسلامية. كتب مولانا آزاد أن «القرآن يعيد التأكيد في كل فرصة على وجوب إبداء الاهتمام الملائم للمرأة المطلقة في الظروف كافة». وهذا التأكيد «قائم على أساس أنها أضعف نسبيا من الرجل، ولا بد من صون مصالحها على النحو السليم». وقال خان أيضا: «يجب أن نحسن الممارسات المتبعة هذه الأيام، ولا يمكن أن نقول إن أركان الإسلام متبعة والعدالة قائمة، ما لم ننهض بالمقهورين.»
18
حظي عارف محمد خان بدعم رئيس الوزراء، وصوت حزب المؤتمر بالرفض، فهزم مشروع القانون. إلا أن النقاش استمر خارج جدران المجلس؛ ففي إندور، مسقط رأس شاه بانو التي كانت تبلغ من العمر خمسة وسبعين عاما، رماها المحافظون بالكفر، وأقيمت تظاهرات أمام منزلها، وطلب من جيرانها نبذها. وفي يوم 15 نوفمبر رضخت شاه بانو للضغوط، وبصمت على بيان مفاده تنكرها لحكم المحكمة العليا، وأنها ستتصدق بأموال النفقة، وأنها تعارض أي تدخل قضائي في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين.
19
نحو نهاية عام 1985، خسر حزب المؤتمر سلسلة من الانتخابات الفرعية في شمال الهند؛ فرأى المعلقون على الموقف أثر «عامل شاه بانو »، إذ عمل منافسو حزب المؤتمر على «تأجيج الحماسة الدينية» بمهاجمة المحكمة العليا في الدوائر الانتخابية ذات الأعداد الكبيرة من المسلمين.
20
أثارت أنباء ذلك النفور الانزعاج لدى راجيف غاندي، الذي كان قد تزايد أخذه - داخل حزبه ومجلس وزرائه - بنصيحة زي إيه أنصاري المحافظ عوضا عن عارف خان الليبرالي؛ فخلال خطبة برلمانية دامت ثلاث ساعات، هاجم أنصاري حكم المحكمة العليا بوصفه «متحاملا وتمييزيا ومليئا بالتناقضات». وأضاف في كيد أن القضاة «رجال قليلو الشأن غير مؤهلين لتأويل قوانين الشريعة الإسلامية».
21
بحلول ذلك الوقت، لم تكن شاه بانو وحدها من رضخت للضغوط؛ فحزب المؤتمر «منح رجالا أصوليين اعترافه بأنهم المتحدثون الوحيدون بلسان جماعتهم».
22
وفي فبراير 1986، طرحت الحكومة مشروع قانون للمرأة المسلمة في البرلمان يسعى إلى تجاوز حكم المحكمة العليا، بإخراج قانون الأحوال الشخصية للمسلمين من نطاق اختصاص قانون الإجراءات الجنائية. وأوقع مشروع القانون عبء إعالة المرأة المطلقة على أقاربها، بحيث لم يعد الزوج ملزما بشيء سوى دفع نفقة لمدة ثلاثة أشهر. تحول مشروع القانون إلى قانون في مايو، بعدما أصدر حزب المؤتمر أمرا لأعضائه بالتصويت لصالح مشروع القانون؛ فاستقال عارف محمد خان، بعدما تخلى عنه قائده وحزبه وحكومته، قائلا لمحاور إنه بموجب هذا التشريع الجديد «ستكون المسلمات الهنديات هن النساء الوحيدات اللائي سيحرمن نفقة الإعالة في العالم أجمع».
23
مثل الجدل الدائر حول قضية شاه بانو تكرارا من نواح عدة للنقاش المعني بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية للهندوس قبل ثلاثة عقود من الزمان؛ فآنذاك أيضا، قوبلت محاولات تعزيز المساواة بين الجنسين بمقاومة ضارية من جانب كهنة زعموا أنهم يتحدثون بلسان المجتمع الهندوسي بأكمله. وقد اختبر ذلك الزعم وثبت ضعفه، عندما خاض جواهر لال نهرو انتخابات عام 1952 وفاز بها استنادا إلى قضية مشروع قانون الأحوال الشخصية الهندوسي، ضمن قضايا أخرى.
عندما واجه راجيف غاندي موقفا مشابها عامي 1985 و1986، كان يتمتع بالفعل بدعم 400 عضو في البرلمان؛ فكان إحداث إصلاح في قانون الأحوال الشخصية للمسلمين للنهوض بحقوق المرأة أمرا ميسورا بدرجة كبيرة، ومثله أيضا كانت إمكانية سن قانون مدني موحد مراع للاعتبارات الخاصة بالنوع (كما طلب الدستور). أما ما لم يكن متوافرا فكان رئيس وزراء متسقا في التزامه نحو الإصلاح الاجتماعي. وحسبما قال مسئول رفيع في حكومة راجيف غاندي مسترجعا ذكرياته لاحقا: «في التعامل مع تبعات قضية شاه بانو، طغى النظام السياسي بغتة على رئيس الوزراء الشاب.» فقد أظهرت مبادراته في البنجاب وآسام جرأة واستقلالية؛ إلا أنه في هذه الحالة، بعدما أيد تيار الإصلاح في أول الأمر، رضخ للتيار المحافظ في النهاية خوفا من خسارة أصوات المسلمين؛ ومن ثم، «بدأ راجيف غاندي رجل الدولة يتحول إلى رجل سياسة».
24
4
بعد عشرة شهور على صدور حكم المحكمة العليا في قضية شاه بانو، أثار حكم لمحكمة أدنى درجة جدلا أشد من سابقه؛ ففي 1 فبراير 1986، أمر قاضي المنطقة في مدينة أيوديا، بأوتر براديش، بفتح الأقفال للسماح بالتعبد في مقام هندوسي صغير. وقد كانت لذلك المكان على الرغم من صغره مكانة خاصة؛ فقد كان يقع داخل مسجد كبير، شيده جنرال في جيش الإمبراطور المغولي بابور في القرن السادس عشر (ومن ثم صار يعرف بمسجد بابري). وإضافة إلى ذلك، زعم أن ذلك المكان شهد مولد الإله الهندوسي رام، وأنه قبل بناء المسجد، كان ذلك مقر معبد مكرس لعبادة ذلك الإله.
لا يوجد دليل على أن بطل ملحمة «رامايانا» كان شخصية تاريخية حقيقية، ولكن الرأي السائد في المشاعر والأساطير الهندوسية هو أنه كان شخصية حقيقية، وأنه ولد في أيوديا، وتحديدا في البقعة التي شيد عليها المسجد فيما بعد. كان ذلك المكان معروفا بين أهل المنطقة برام جانمابهومي؛ أي رقعة الأرض التي ولد عليها رام. وقد حدثت اشتباكات على مدار القرن التاسع عشر بين جماعات متناحرة تزعم ملكية المكان؛ فتوصل الحكام البريطانيون إلى حل وسط، يكون للمسلمين بمقتضاه مواصلة التعبد في المسجد، بينما يقدم الهندوس القرابين على منصة قائمة خارجه.
نالت الهند استقلالها عام 1947، وبعد عامين، سمح مسئول متعاطف مع المصالح الهندوسية بوضع تمثال لرام الطفل (رام لالا) داخل المسجد. نفذ هذا العمل تحت جنح الظلام، وأقنع الأتباع المتحمسون بأن التمثال ظهر بمعجزة، دلالة على رغبة الإله المنقول من مكمنه في العودة إلى محل ميلاده. تصاعد التوتر من جديد ولكنه تراجع بصدور أمر يسمح بالتعبد لرام لالا يوما واحدا في ديسمبر، وفي بقية السنة، يحتفظ بتمثاله وراء أبواب مغلقة بعيدا عن المتعبدين.
ظل الوضع على ما هو عليه ثلاثة عقود من الزمان، حتى بدأ فيشوا هندو باريشاد (المجلس الهندوسي العالمي) يقود حملة في مطلع ثمانينيات القرن العشرين من أجل «تحرير البقعة التي ولد عليها رام». جمع المجلس تحت رايته مئات الرهبان من المعابد القديمة المتعددة التي زخرت بها أيوديا، ونظمت مسيرات ومؤتمرات شعبية، وخطب حماسية تحث الهندوس على تحرير إلههم من «سجن المسلمين»؛ فحينئذ رفع محام من أهل المنطقة دعوى قضائية طلب فيها السماح بالتعبد للتمثال على الملأ. واستجابة لذلك الالتماس، حكم قاضي المنطقة بفتح الأقفال، والسماح بالتعبد.
25
ساد اعتقاد واسع الانتشار بأن حكم القاضي كان موجها من دلهي، من مكتب رئيس الوزراء نفسه لا أقل من ذلك؛ فقد بدا أن الإدارة المحلية كانت على علم بالقرار قبل صدوره، إذ فتحت الأقفال في خلال ساعة من صدور الحكم. ومن الجدير بالذكر أن حتى القناة التليفزيونية الحكومية، دوردرشان، كانت حاضرة لتصوير لحظة اندفاع المتعبدين إلى المقام المفتوح حديثا. بدا أن ثمة صلة قوية بين مشروع قانون المرأة المسلمة والحكم الصادر في أيوديا؛ فقد قيل إن راجيف غاندي أمر بفتح الأقفال بناء على نصيحة زميله أرون نهرو، الذي رأى أنه أصبح على حزب المؤتمر تعويض المتعصبين على الجانب المقابل. وعلق نائب برلماني يساري في سخرية قائلا إنه في حين أن رئيس الوزراء قدم نفسه في صورة الرجل العصري بامتياز، الذي يجتهد من أجل العبور بالهند إلى القرن الحادي والعشرين، فقد كان في الواقع «يمتلك عقلية بدائية كعقليات رجال الدين الإسلامي والهندوسي».
26
وكتبت المحللة السياسية نيرجا تشودري: «السيد راجيف غاندي يريد ألا يخسر أيا من طرفي الصراع.» فإن كان أحد التصرفين يستهدف صوت «المسلمين»، فقد بدا أن التصرف الثاني يستهدف صوت «الهندوس» الأكثر عددا بكثير. وحذرت تشودري من أن «اتباع الحكومة سياسة استرضاء للجماعتين بهدف كسب الانتخابات، يمثل حلقة مفرغة سيصبح من الصعب كسرها».
27
زاد فتح الأقفال من جرأة المجلس الهندوسي العالمي؛ إذ لم يعد يسعى وراء هدف أقل من هدم المسجد، والاستعاضة عنه بمعبد جديد مهيب مخصص للإله رام. وكان للمجلس تعاون وثيق مع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، المنظمة الهندوسية الأطول باعا منه، التي كتب لها عمر جديد. فكان التنظيمان يعقدان اجتماعات في جميع أنحاء الهند مطالبين بدفاع «الأغلبية» عن حقوقها. واستشهد بمشروع قانون المرأة المسلمة باعتباره مثالا آخر على رغبة حكومة حزب المؤتمر في إرضاء الأقلية. وقيل إن الهندوس وحدهم دون غيرهم هم المطالبون بالتنازل عن عقيدتهم في هذه الدولة «العلمانية» خطأ؛ فصيغ وأذيع شعار جديد، مفاده: «قل بفخر إنك هندوسي!»
هذه الرسالة، مثلما جاء في مجلة «إنديا توداي» الأسبوعية في مايو 1986، «لمست وترا عاطفيا حساسا للغاية؛ فقد أخذت حركة بعث هندوسية ملموسة صاعدة متحدة ومتزايدة التعصب تجتاح البلاد في بطء وثقة، مثل قوة ساحقة تكتسب زخما محتقنا». فكانت تلك حركة «انتقامية النزعة»، لكنها بدأت أيضا «تتنسم عبير السلطة السياسية المصاحبة للاتحاد».
28
5
قد يتراءى لنا أن ننظر إلى العقيدة الهندوسية على أنها نهر متعدد الفروع، منها روافد تغذي التيار الرئيسي وقنوات تتفرع منه. ولكن ربما كان ذلك التصور مغلوطا؛ حيث إنه لا وجود لنهر رئيسي مطلقا من عدة أوجه؛ فهذا دين لا نظير له في لامركزيته؛ فكل منطقة لها مقاماتها المقدسة، وكل مقام يديره كاهن خاص به يبجله أهل المنطقة. وأحيانا تتحدد الولاءات بالطائفة الاجتماعية كما بالمنطقة؛ فبراهمة مادهافا في منطقة أوترا كانادا، مثلا، لديهم معبدهم المختار، ومعلمهم الديني الخاص.
فتح الجدل الدائر في أيوديا إمكانية الجمع بين تلك الطرائق المتباعدة في حركة موحدة؛ فشكل المجلس الهندوسي العالمي «مجلسا دينيا» يتضمن الزعماء الرئيسيين للطوائف الهندوسية. وهؤلاء الزعماء بدورهم أقاموا صلات مع رجال الدين الأدنى درجة، وهم الآلاف من «السانت» و«السادهو» الذين كان لكل منهم أتباع قليلون. فإلى جانب بناء معبد للإله رام في أيوديا، كان أمام تلك التحركات الرامية إلى وحدة الطوائف الهندوسية كافة آفاق سياسية رحبة. وكما شرح أحد الكهنة البارزين:
يشتمل المجتمع الهندوسي على العشرات من زعماء الطوائف الهندوسية، ويحتكم كل منهم على كتلة تصويتية تقدر بقرابة 2,5 مليون صوت. على سبيل المثال، لدينا حكيم جوجارات شري موراري بابو، وشري رامسوك داسجي مهراج في راجستان، وحكيم أوتر براديش شري ديفراه بابا، وشري ديوراسجي في منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، وشري نريتيا جوبال داسجي مهراج في أيوديا، وغيرهم كثر. وإضافة إلى هؤلاء، يتحكم المئات من زعماء الطوائف في كتلة تصويتية لا تقل عن مائة ألف صوت. ينطوي المجتمع الهندوسي على فرق قوامها نحو مليون من السادهو؛ فإذا حشد كل منهم مائة صوت، فستأخذ سياسة هذا البلد منحى جديدا ويغلب عليها الطابع الهندوسي.
29
على الجانب الآخر، كانت الأخطار التي تتهدد المسجد القديم في أيوديا قد أفضت إلى تعبئة الرأي العام للمسلمين دفاعا عنه؛ فقد شكلت لجنة عمل مسجد بابري، التي حثت الدولة على كفالة عدم استيلاء الهندوس الراديكاليين على هذا المقام الإسلامي وغيره. وساد بعض قطاعات المجتمع مزاج شرس، وصدرت دعوات بالسماح بالصلاة في المساجد الخاضعة لسيطرة هيئة المسح الأثري للهند، بل حتى لمقاطعة احتفالات عيد الجمهورية إن لم تستجب الحكومة لمطالبهم.
30
تعززت الوحدة الهندوسية المتنامية إلى حد لا نهائي بواقعتين حدثتا مصادفة؛ ففي سبتمبر 1987، انتحرت امرأة شابة تدعى روب كانوار في قرية بولاية راجستان عقب وفاة زوجها؛ تماشيا مع طقس «ساتي»، الذي وإن كان جائزا في التراث الهندوسي، فقد حظره القانون منذ زمن بعيد؛ ففي حين أدانت الدولة - والجماعات النسوية بنشاط أكبر - فعلة روب كانوار، أثارت تلك الفعلة انتفاضة إيمانية في ريف راجستان؛ فقد أقيم معبد في البقعة التي احترقت فيها، مجتذبا آلاف المتعبدين. وأقيمت تجمعات للإشادة بروب كانوار باعتبارها النموذج المثالي للمرأة الهندوسية في إخلاصها لذكرى زوجها.
31
أما الواقعة الأخرى الأكثر أهمية فتمثلت في بث قناة دوردرشان لعمل جديد مبهر لملحمة «رامايانا». كانت الحلقات تعرض صباح كل أحد، بدءا من يناير 1987 وانتهاء في يوليو 1988. كان عدد الحلقات ثمانيا وسبعين حلقة إجمالا، حيث توقف عرض الحلقات لفترة راحة مدتها أربعة أشهر.
كانت تلك الملحمة ملحمة رحبة، مثلت قصة حب وتضحية وبطولة وخيانة، يتخللها قدر كبير من الدماء والعنف. وكان بها طاقم ثري من الشخصيات الرئيسية والثانوية، وقصة ملائمة للمعالجة الدرامية، وجاء عرضها في وقت تصاعدت فيه نسبة مشاهدة التليفزيون بمعدل سريع، مع بيع 3 ملايين جهاز تليفزيون جديد كل سنة.
32
على الرغم من ذلك، فقد فاق نجاح المسلسل جميع التوقعات؛ فقد قدر عدد المشاهدين بنحو 80 مليونا، و«كانت الشوارع والأسواق تخلو من المارة صباح أيام الأحد، وحرص المعلنون عن أي حدث هام ينظم يوم الأحد على ذكر أنه «سيقام بعد مسلسل «رامايانا»». وكانت الجماهير تتجمع حول أي جهاز تليفزيون على جانب الطريق لمشاهدته». وسجلت الفنادق والمستشفيات والمصانع ارتفاع معدلات التغيب عن العمل في صباح أيام الأحد.
33
وبقدر ما يستوجب عدد المشاهدين الانتباه، فكذلك تستوجبه شدة حماستهم إزاء تلك التجربة؛ فقد كان المشاهدون يستيقظون باكرا صباح يوم الأحد، ليغتسلوا بحسب طقوسهم الدينية ويؤدون صلواتهم. وقبل بدء الحلقة، كانوا يضعون أطواق الزهور على أجهزة التليفزيون ويمسحونها بمعجون خشب الصندل. ومن الجدير بالذكر أن جاذبية المسلسل تخطت الحواجز الدينية؛ فقد شاهده المسلمون في حبور وافتتان، وعدلت الكنائس مواعيد صلواتها لكي تتجنب تعارضها مع مشاهدة المسلسل؛
34
فكما كتب عالم الأنثروبولوجيا فيليب لتجندورف: «لم يسبق أن اتحدت مثل هذه النسبة الكبيرة من سكان جنوب آسيا على نشاط واحد، ولم يسبق أن وصلت رسالة واحدة إلى مثل هذا الجمهور الضخم في آن واحد.»
35
وفي حين أن المسلمين والمسيحيين كانوا يشاهدون مسلسل «رامايانا» على سبيل الترفيه فحسب، كانت المتعة لدى كثير من الهندوس مشوبة بالعبادة؛ فبطريق المصادفة لا العمد، أخذت الملحمة التليفزيونية تدخل تغييرات غير ملحوظة على هذه الديانة التعددية اللامركزية، التي طالما انقسمت إلى طوائف تعبد كل منها آلهة مختلفة وتفتقر إلى كتاب مقدس، أو إله واحد أحد، أو عاصمة واحدة لمعتنقي ذلك الدين. فآنذاك ، أمام أجهزة التليفزيون، «استمع الهندوس كافة في جميع أنحاء البلاد لأول مرة وفي وقت واحد إلى شيء واحد وشاهدوه؛ فالحقيقة أن المسلسل أدخل «ضرورة التجمع» في العقيدة الهندوسية».
36
صدر مسلسل «رامايانا» بناء على تكليف التليفزيون الحكومي بمعزل عن مجريات الأحداث في أيوديا، إلا أن جاذبيته وتأثيره أسهما بدرجة هائلة في حركة المجلس الهندوسي العالمي الساعية إلى «تحرير» مكان ميلاد رام؛ فبعدما كان أحد آلهة كثيرة يعبدها الهندوس، تزايد النظر إليه - بفضل المسلسل المعروض على التليفزيون - على أنه أهمها وأعظمها كافة.
6
كانت إحدى الجبهات التي أبدى فيها رئيس الوزراء الجديد خروجا أكثر جرأة على النمط السائد: الجبهة الاقتصادية؛ فقد عين راجيف غاندي في بي سينج وزيرا للمالية، وهو سياسي هادئ من أوتر براديش كان معروفا بنزاهته، وسعت الميزانية الأولى للحكومة، المقدمة في مارس 1985، إلى رفع بعض القيود والضوابط عما كان أحد أكثر النظم الاقتصادية تقيدا في العالم. لقد حرر نظام التبادل التجاري، بتخفيض الرسوم الجمركية على مجموعة متنوعة من الواردات وتقديم حوافز للمصدرين. وبسط نظام إصدار التراخيص، مع رفع الضوابط عن القطاعات الحيوية مثل الآلات والمنسوجات وأجهزة الكمبيوتر والعقاقير، ورفعت القيود عن أصول شركات الأفراد جزئيا، وخفضت الضرائب على دخول الشركات والأفراد. قيل إن تلك التغييرات من شأنها أن تشجع زيادة الإنتاج والقدرة التنافسية؛ فقد قال رئيس الوزراء في فبراير 1985 إن الاقتصاد الهندي «علق في حلقة مفرغة من صنع المزيد والمزيد من القيود. والحقيقة أن القيود تفضي لكل أشكال الفساد والتأخر، وهذا ما نريد التخلص منه».
37
هاجم المثقفون اليساريون الميزانية باعتبارها تدليلا للأثرياء، وكان رأيهم أن تحرير نظام التبادل التجاري سيجعل الهند مفرطة الاعتماد على رأس المال الأجنبي.
38
إلا أن السياسات الجديدة لاقت ترحيبا من جانب قطاع الأعمال، والطبقة الوسطى.
39
كان تعداد الطبقة الوسطى قد زاد إلى حد بعيد بحلول ذلك الوقت؛ حيث ذهبت بعض التقديرات إلى أن تعدادها بلغ 100 مليون نسمة، وأخذت سوق السلع الاستهلاكية المعمرة تزداد اتساعا، وهي سلع من قبيل الثلاجات والمركبات، كانت في الماضي حكرا على القلة من الصفوة. خلال عامي 1984 و1985، زاد عدد الدراجات البخارية الصغيرة والكبيرة المباعة بنسبة 25٪، وعدد السيارات المباعة بنسبة تصل إلى 52٪. وكانت التجارات والأعمال الجديدة تفتتح باستمرار، وحدثت طفرة في سوق الإسكان وسوق العقارات، وفي المطاعم ومراكز التسوق، وكتب أحد مراقبي المشهد أن الطبقة الوسطى الصاعدة «أصبحت العلامة الأبرز على اقتصاد سريع التقدم».
40
كان النصف الأخير من الثمانينيات فترة ازدهار لقطاع الأعمال الهندي؛ فقد نمت الصناعة بمعدل جيد قدره 5,5٪ سنويا، وكان أداء قطاع التصنيع أفضل منها؛ إذ نما بمعدل 8,9٪ سنويا. وارتفعت القيمة السوقية للشركات من 68 مليار روبية عام 1980 إلى 550 مليار روبية عام 1989.
41
بطبيعة الحال، كانت بعض الشركات تنمو بمعدل أسرع من غيرها؛ فكان أعظم صعود لشركة ريلاينس للصناعات، التي كان مؤسسها دهيروبهاي أمباني عاملا بسيطا في محطة وقود بمدينة عدن يوما ما، ولدى عودته إلى الهند بدأ تجارة توابل، قبل أن يتفرع عمله ليشمل تصدير النايلون والحرير الصناعي، ثم تحول إلى تصنيع المنسوجات، قبل أن يضيف مصانع البتروكيماويات والشركات الهندسية والوكالات الدعائية إلى حصيلة اهتماماته المتنامية باستمرار.
حظيت شركة ريلاينس بمعدلات نمو غير مسبوقة في مجال الصناعة الهندية، ويندر رؤيتها في أي مكان آخر في العالم؛ فخلال ثمانينيات القرن العشرين، نمت أصول الشركة بمعدل يقدر بنحو 60٪ في السنة، بينما نمت مبيعاتها بمعدل يزيد عن 30٪ في السنة، وأرباحها بقرابة 50٪. كان أمباني مبتكرا، يستخدم أحدث الوسائل التكنولوجية (المستوردة عادة)، ويحصل على التمويل من الطبقة الوسطى المتنامية عن طريق الاكتتاب العام (وهو الشيء الذي كانت الشركات العائلية الهندية الأخرى تستنكف أن تفعله). إلا أن صعود شركته يعزى إلى براعته في إقامة العلاقات بقدر فطنته التجارية؛ فقد كان ينال رضا السياسيين والبيروقراطيين بإقامة الحفلات لهم وإهدائهم رحلات سياحية. ونتيجة لذلك، كان في أغلب الأحيان يعرف التغيرات الوشيكة في السياسات - مثل التعريفات الجمركية - قبل منافسيه بكثير.
42
كان قرب مالك شركة ريلاينس من رموز السلطة مؤشرا واحدا ضمن كثر على تنامي الرابطة بين السياسيين ورجال الأعمال؛ فكل شركة كبيرة كانت لها جماعات ضاغطة في دلهي، لكي «تؤثر خلسة على السياسيين والبيروقراطيين تحقيقا لمصالح الشركة». ولم تكن تلك التصرفات مقتصرة على عاصمة البلاد؛ فقد زعم أن وزراء الولايات ورؤساء وزرائها كان يؤدون خدمات لرجال الصناعة مقابل المال. وكانت إحدى أعلى مصادر الفساد ربحا هي المعاملات العقارية. وقد أتاح قانون حق الاستملاك العام استيلاء الدولة على مزارع في محيط المدن بأسعار أقل كثيرا من أسعار السوق، ثم تسليمها إلى الشركات المحظية لكي تبني عليها مصانع أو مقرات لها؛ فكانت مئات الملايين من الروبيات تتبادل في تلك الصفقات، حيث كان بعض المال يدخل جيوب السياسيين، بينما تذهب بقيته إلى خزينة حزبهم، لكي يستخدم في الانتخابات.
43
أفضت تعاملات السياسيين الهنود مع الثروة إلى تغير عميق في أسلوب حياتهم؛ فبعد أن كانوا معروفين من قبل بالتقشف والبساطة، أصبحوا يعيشون في بيوت فسيحة فاخرة الأثاث. وإذ ركبوا سيارات فارهة وتناولوا عشاءهم في فنادق خمس نجوم، أصبحوا حقا «المهراجات الجدد»؛ فقد قال أحد مراقبي المشهد معلقا: «المسافة الفاصلة بين غاندي (المهاتما) وغاندي (راجيف) تمثل نقلة هائلة في الأخلاقيات السياسية؛ فقد ولى عهد المئزر وعصا المشي والصندل الخشبي وركوب مقصورة الدرجة الثالثة في القطار، وحلت محلها أحذية جوتشي، ونظارات شمس كارتييه، والسترات الواقية من الرصاص، وسيارات مرسيدس بنز، وطائرات الهليكوبتر المملوكة للدولة؛ فالسياسة الهندية لم تعد يفوح منها رائحة العرق، ولا هي نظيفة تماما عديمة الرائحة؛ وإنما تفوح منها رائحة عطر ما بعد الحلاقة.»
44
7
بينما ازدهرت الصناعة والطبقة الوسطى، عانت قطاعات كبيرة من الهند الفقر وسوء التغذية المتوطنين؛ ففي خريف 1985، سجلت سلسلة من حالات الموت جوعا في المناطق القبلية من أوريسا؛ فعندما شحت الأمطار، وشحت المحاصيل معها، اضطر القرويون إلى التغذي على عصيدة مصنوعة من بذور التمر الهندي ونوى المانجو، وهو الخليط الذي أسفر في حالات كثيرة عن أمراض معدية. قبل ذلك مثلت الغابات مصدر إمداد بالغذاء والفاكهة في أوقات الندرة، ولكن مع تفشي ممارسة إزالة الغابات لم تعد هذه الصورة من التأمين متاحة؛ فسجلت أكثر من ألف حالة وفاة في منطقتي كورابوت وكلاهاندي وحدهما.
45
وفي عام 1987 حدثت نوبة جفاف أخرى أكثر خطورة، ضربت مرتفعات أوريسا مرة أخرى، ولكنها أصابت أيضا المناطق شبه الجافة في غرب الهند، لا سيما ولايتا جوجارات وراجستان؛ فدفع اليأس الرعاة إلى نقل حيواناتهم بالشاحنات إلى الغابات الغنية في وسط الهند، بحثا عن العلف غير المتوافر في محيطهم الأصلي. كان ثمة اعتقاد بأن تلك كانت أسوأ نوبة جفاف في القرن العشرين؛ فقد طال أثرها نحو 200 مليون من الناس، وعبرت الصحف عن معاناتهم تعبيرا حيا بصور لأراض جافة متشققة وجثث الماشية مبعثرة فوقها.
46
سلطت ندرة الغذاء عامي 1985 و1987 الضوء على اعتماد الاقتصاد الدائم على الأمطار الموسمية، إلا أن السخط لم يغب عن مناطق الزراعة بالري أيضا، وهو الشعور الذي أججه تنظيمان زراعيان حديثا العهد؛ هما: منظمة المزارعين، التي تركز نشاطها في مهاراشترا ، واتحاد مزارعي الهند في هاريانا والبنجاب. عمل التنظيم الأول تحت قيادة موظف خدمة مدنية سابق، هو شاراد جوشي، بينما عمل الثاني تحت قيادة مزارع من الجات، يدعى ماهيندرا سينج تيكايت. وفقا لجوشي، كان المحور الرئيسي للنزاع بين «الهند»، ممثلة في الطبقى الوسطى من سكان المدن متحدثي الإنجليزية، و«بهارت»، ممثلة في سكان القرى. وكان يرى أن السياسات الاقتصادية تؤثر الهند على بهارت باستمرار؛ فبغية إصلاح هذا التحيز، اقترح هو وتيكايت رفع أسعار الغلال الزراعية وخفض تعريفة استهلاك الكهرباء للمزارع. كان التنظيمان يتحكمان في قاعدة شعبية كبيرة؛ إذ كان في مقدور كل منهما تعبئة 50 ألف مزارع أو أكثر للمسير إلى عاصمة الدولة والدفع بمطالبهم.
47
على الرغم من أن جوشي وتيكايت زعما التحدث بلسان سكان الريف جميعا، كانا في حقيقة الأمر يمثلان الفلاحين من الطبقة الوسطى والطبقة الغنية، الذين يستخدمون الجرارات الزراعية والمضخات الكهربائية وكان لديهم فائض يبيعونه في السوق، أما الفقراء فكانوا خارج هذا التصنيف في معظمهم؛ فكما أكدت من جديد الدراسات التي أجريت في الثمانينيات، كانت الطبقات متداخلة مع الطوائف الاجتماعية في الهند القروية، حيث ظلت الفئات المهمشة حقا هي الهاريجان أو الطوائف المجدولة، وقد كشف مسح أجري في كارناتاكا أن قرابة 80٪ من القبائل المجدولة القاطنة في الريف، إضافة إلى أكثر من 60٪ من الطوائف المجدولة في المدن، كانت تحت خط الفقر الرسمي، حيث قلت نفقاتهم الشهرية عن خمسين روبية. وكان الوضع مماثلا تقريبا في أنحاء أخرى من الهند.
48
8
عمل راجيف غاندي خلال عامه الأول في المنصب على حل سلسلة من النزاعات العرقية، في آسام وميزورام والبنجاب. إلا أنه بحلول نهاية عامه الثاني، تعرض نظامه لتحديات جديدة قائمة على أساس عرقي، أضيفت إلى التحديات القائمة على الدين والطبقة.
كما هو الحال دائما، من المتعذر على فصل أو كتاب أو باحث واحد تحقيق تغطية شاملة للنزاعات الاجتماعية التي وقعت في هذا العقد (أو غيره) من تاريخ الهند المستقلة؛ فأقصى ما يمكن للمرء عمله هو تسليط الضوء على النزاعات الأهم. بادئ ذي بدء ، وقعت نزاعات بين جماعات متباينة داخل الولاية ذاتها؛ ففي البنغال، على سبيل المثال، بدأ السكان متحدثو النيبالية في تلال دارجيلنج يطالبون بولاية خاصة بهم. كان قائدهم جنديا سابقا؛ هو سوبهاش جيسينج. كان جيسينج يتمتع بتأييد تام أعمى من أتباعه؛ فكان بإمكانهم بكلمة منه أن يغلقوا مدراس ومتاجر المنطقة كافة. وعملت جبهة تحرير جوركا الوطنية التي تزعمها في إطار العملية الديمقراطية وخارجها، حيث كانت تقدم العرائض لوزراء الاتحاد في بعض الأحيان، وتنخرط في معارك حامية الوطيس مع الشرطة في أحيان أخرى. وخلال النصف الأخير من عام 1986 ازدادت حدة الاشتباكات، ثم التقى رئيس الوزراء بجيسينج في نهاية الأمر، وأقنعه بالقبول بمجلس تلال دارجيلنج المتمتع بالحكم الذاتي عوضا عن إنشاء ولاية لمتحدثي النيبالية.
49
وعلى الجانب الآخر من الحدود، في آسام، ثارت قبائل بودو على الآساميين المهيمنين محليا. وفي محاكاة لخصومهم، تزعم حركتهم شباب من اتحاد طلاب عموم بودو. كان زعماء الحركة يريدون ولاية خاصة بهم تقتطع من آسام. وسعيا وراء هدفهم، عمدوا إلى سد الطرق وإحراق الجسور ومهاجمة الأفراد غير المنتمين إلى قبيلتهم؛ فعندما ردت العناصر الراديكالية الآسامية، أخذت الاشتباكات منحى عنيفا، وحصدت عشرات الأرواح.
50
في الوقت نفسه، كان النشطاء القبليون في تريبورا قد بدءوا معركة ضد البنغاليين الذين نزحوا بأعداد كبيرة إلى الولاية عقب التقسيم. كان «متطوعو تريبورا الوطنيون» يعدون - وفقا لتعريف البعض - «إرهابيين»؛ إذ كانوا يغتالون المدنيين ويختطفونهم وينصبون الأفخاخ لفرق الشرطة سعيا وراء تحقيق أهدافهم؛ ففي عام 1986 قتل على يد عصاباتهم أكثر من 100 شخص. وفي العام التالي زاد عدد القتلى عن ذلك، إلا أن زعيم الجماعة، بيجوي هرانكاول، خرج إلى العلن في أغسطس 1988 ليوقع اتفاقا مع الحكومة؛ فألقى متطوعوه السلاح، مقابل حصول القبائل على المزيد من المقاعد في المجلس التشريعي المحلي وتوفير الأرز وزيت الطهي بأسعار مدعمة في القرى القبلية.
51
تضمنت مجموعة ثانية من النزاعات سكان ولايات قائمة بذاتها في مواجهة حكومة الاتحاد الهندي. ومن ثم، اتضح أن حالة النشوة المتولدة في البنجاب عن الاتفاق المبرم بين راجيف غاندي ولونجوال كانت مؤقتة؛ فقد كان اغتيال الأخير نذيرا بأمور آتية، حيث تسلم جيل جديد من الإرهابيين مقود الصراع من أجل خالستان؛ فقد كانت الجروح الناجمة عن عملية النجم الأزرق وأعمال الشغب المضادة للسيخ في دلهي قد جندت أفرادا جددا كثرا لتلك القضية، كما ساهم في ذلك فشل الحكومة المركزية في الوفاء بالتزامها بنقل تشانديجار إلى البنجاب؛ فاستوطن المقاتلون المعبد الذهبي مرة أخرى، وراح الكهنة يدلون بتصريحات مؤيدة لخالستان، ومن حين لآخر كان أعضاء حزب أكالي دال الحاكم نفسه هم من يدلون بتلك التصريحات.
52
بغية التعامل مع الإرهاب الذي عاد إلى الظهور، نما قوام جهاز الشرطة في البنجاب إلى 34 ألف فرد. وبغية شد أزره، عين له رئيس جديد؛ كان شرطيا من بومباي يتسم بالصراحة ويدعى جيه إف ريبيرو. وعين أيضا - بعد برهة - كيه بي إس جيل، وهو رجل سيخي الجذور كانت لديه خبرة في محاربة التطرف في الشمال الشرقي؛ فتبنى ريبيرو وجيل سياسة الترغيب والترهيب؛ حيث التقيا فلاحي السيخ في إطار برنامج «اتصال جماهيري» واسع النطاق من جهة، وشكلا قوات أمن أهلية للقضاء على الإرهابيين من جهة أخرى. وتشعبت فرق الشرطة في الريف، حيث كانت تجري عمليات بحث وتفتيش، وتطلق النار على الهاربين ؛ فقتل عشرات المتطرفين في تلك العمليات، لكنها انطوت أيضا على مضايقات بالغة للقرويين العاديين.
53
إلا أن الأعمال الإرهابية استمرت؛ فقد كانت الحافلات توقف على الطرق السريعة، ثم يفصل الركاب الهندوس عن السيخ ويقتلون؛ ففي عام 1986 قتل ضعف العدد الذي قتل عام 1984، عندما كان بيندرانوال لا يزال على قيد الحياة؛ فشرع الكثير من الهندوس المذعورين في الفرار إلى هاريانا عبر الحدود.
كان التخلص من الأقليات في البنجاب أحد أهداف الإرهابيين فعلا، أما الهدف الأكثر شرا فكان بث الرعب في نفوس السيخ المقيمين خارج البنجاب. وتحقيقا لهذا الغرض، فجروا قنابل في الأسواق ومحطات الحافلات في دلهي ومدن أخرى من شمال الهند، وكان الهدف من تلك التفجيرات هو استثارة نوبة جديدة من القتل الانتقامي ضد السيخ؛ حتى يعود السيخ الناجون إلى البنجاب ، لتشكيل مجتمع واحد متحد متناغم، وبذلك يحسنون فرصهم في الصراع من أجل خالستان. وكان النموذج المحتذى به، على ما يبدو، هو المعركة الناجحة من أجل باكستان في أربعينيات القرن العشرين، التي ساهمت فيها أيضا إثارة الذعر في نفوس المسلمين المقيمين خارجها.
54
في عملية كبرى أجريت في مايو 1988، طردت القوات الخاصة نحو خمسين إرهابيا متحصنا بمجمع المعبد الذهبي. خلافا لعملية النجم الأزرق، شن ذلك الهجوم في وضح النهار حتى يتسنى تحديد أماكن العدو بوضوح أكبر. وعلى أي حال، فهؤلاء المقاتلون لم تكن لديهم استعدادات رجال بيندرانوال ولا حماستهم؛ فقد تراجعوا إلى قدس الأقداس بالمعبد، ولما منع عنهم الطعام والماء، استسلموا بعد اثنتين وسبعين ساعة.
55
تزامنت عودة الإرهاب في البنجاب مع تجدد المتاعب في ولاية حدودية أخرى؛ هي: ولاية جامو وكشمير؛ ففي عام 1984، كانت السيدة غاندي قد أمرت بإقالة فاروق، ابن الشيخ عبد الله، من منصبه. ثم أعاد ابنها بناء الروابط التي جمعت بين العائلتين وحزبيهما - حزب المؤتمر وحزب المؤتمر الوطني الكشميري - يوما ما. وفي نوفمبر 1986 شكلا معا حكومة تسيير أعمال في الولاية، وقال فاروق عبد الله، مبررا التحالف: «حزب المؤتمر يدير دفة الحكومة المركزية. وفي ولاية مثل كشمير، إذا كان لي أن أنفذ برامج لمحاربة المرض وأدير حكومة، فلا أبد أن أكون على علاقة طيبة بالحكومة المركزية.»
56
في عام 1987، عقدت انتخابات مجلس جامو وكشمير؛ فشكل السياسيون الكشميريون الساعون إلى الاستقلال عن الحكومة المركزية - عوضا عن الاعتماد عليه أو التبعية له - كيانا جامعا؛ هو: «الجبهة الإسلامية المتحدة». تعرض العاملون في تلك الجبهة إلى مضايقات من جانب الحكومة، وكانت الانتخابات نفسها أبعد ما تكون عن الحرية والنزاهة؛ فعلى الرغم من أن ائتلاف حزب المؤتمر الكشميري وحزب المؤتمر الوطني كان سيربح على أي حال على الأرجح، فقد عمل على زيادة هامش الربح بتزوير الانتخابات لصالحه. حتى مكتب الاستخبارات أقر بأن الائتلاف خسر ما يصل إلى ثلاثة عشر مقعدا لصالح الجبهة الإسلامية المتحدة بسبب «الممارسات الانتخابية السيئة».
57
ولدت طريقة إدارة انتخابات عام 1987 إحباطا عميقا بين النشطاء السياسيين في كشمير؛ فإذ يئسوا من أن تنصفهم نيودلهي، بدءوا يتطلعون إلى باكستان لنجدتهم؛ فعبرت جماعات من الشباب الحدود، حيث انضمت إلى معسكرات تدريب يديرها الجيش الباكستاني. وبعد مرور عام، عبروا الحدود مرة أخرى، لتطبيق ما تعلموه؛ ففي ربيع عام 1989، شهد وادي كشمير سلسلة من حوادث إطلاق النار والتفجيرات والهجمات بالقنابل اليدوية؛ فقد أصبح ذلك الوادي الجميل موطن «مدافع الكلاشنكوف، وأجهزة التفجير، وخلطات المولوتوف، والفتائل الجيلاتينية، ومدافع الهاون، والمقاتلين الملثمين». وسجلت سبع وتسعون واقعة عنف منفصلة خلال النصف الأول من عام 1989، الذي قتل فيه اثنان وخمسون شخصا على الأقل، وأصيب 250 آخرون؛ فقال أحد الصحفيين معلقا في وجوم إن كشمير «لديها على ما يبدو المقومات التي تؤهلها لكي تصير بنجاب أخرى».
58
9
بينما كانت الحكومة الهندية تحاول - بدرجات متفاوتة من النجاح - احتواء الجهود الانفصالية في الداخل، أقدمت على محاولة طموحة لوضع حد للقلاقل العرقية في دولة سريلانكا المجاورة؛ فقد وقعت تلك الجزيرة الصغيرة - الآسرة الجمال في حد ذاتها ككشمير الجبلية - بين براثن حرب أهلية دامية بين الأغلبية السنهالية والأقلية التاميلية. وكانت أسباب النزاع مألوفة إلى درجة الملل، بالنسبة إلى الهنود على أي حال؛ إذ تلخصت في التنافس على أساس اللغة والعرق والدين والأرض.
من شأن السرد المفصل لتاريخ النزاع السريلانكي أن يبعدنا عن موضوعنا أكثر من اللازم؛
59
فيكفي القول إن البداية الحقيقية للنزاع كانت عندما فرضت اللغة السنهالية باعتبارها «اللغة الرسمية» الوحيدة؛ فطالب التاميليون بالمساواة للغتهم، وعندما رفض طلبهم، نزلوا إلى الشوارع تعبيرا عن احتجاجهم. ومع مرور السنين، تخلوا عن الأساليب السلمية مؤثرين عليها الكفاح المسلح.
من بين تنظيمات المقاومة التاميلية المتعددة، كانت «جبهة نمور تحرير تاميل إيلام» الأقوى والأشد تأثيرا. كان هدف ذلك التنظيم - الذي تزعمه محارب شرس، هو فيلوبيلاي برابهاكاران - هو إقامة دولة منفصلة، تتألف من شمال الجزيرة وشرقها حيث مثل التاميليون أغلبية. وخلال ثمانينيات القرن العشرين، أغار نمور التحرير على معسكرات الجيش السريلانكي وارتكبوا فظائع في حق المدنيين، وكان رد السنهاليين أكثر شراسة، على أقل تقدير. بمعنى آخر ، كان ذلك نزاعا تكاد الكلمات تعجز عن وصف وحشيته وهمجيته.
كان مقاتلو جبهة نمور التحرير يستخدمون ولاية تاميل نادو الهندية ملاذا آمنا منذ زمن، وكانت حكومة الولاية تمدهم بمساعدة نشطة، بينما غضت نيودلهي الطرف. إلا أن الرئيس السريلانكي جيه جاياورديني طلب إلى راجيف غاندي، في صيف عام 1987، المساعدة في التوسط بين طرفي النزاع؛ فتقرر بموجب اتفاقية وقعت بين كولومبو ونيودلهي أن تطير قوة حفظ السلام الهندية إلى الجزيرة، حيث ينسحب الجيش السريلانكي إلى ثكناته، وينزع مقاتلو جبهة نمور التحرير سلاحهم، بالإقناع أو بالإكراه.
في أواخر يوليو 1987، بدأت القوات الهندية تتوجه إلى سريلانكا في مجموعات قوام كل منها بضعة آلاف جندي. (في نهاية الأمر، وصل عدد جنود الجيش الهندي هناك 48 ألفا.) لم يلق وجود قوة حفظ السلام الهندية استحسانا لدى القوميين السنهاليين، الذين رأوا فيه انتهاكا للسيادة، ولا لدى التاميليين الذين طالما اعتبروا الهند في صفهم. وعندما طلب من نمور التحرير إلقاء سلاحهم، أصروا على سلسلة من الشروط المسبقة، منها: إطلاق سراح التاميليين المتحفظ عليهم في سجون الحكومة جميعا، ووقف الاحتلال السنهالي في شرق الجزيرة. دام سلام حذر حتى شهر أكتوبر، ولكنه خرق بتحرك قوة حفظ السلام الهندية ضد المتمردين؛ فقد داهمت مقر الجبهة في مدينة جافنا واستولت عليه، لكنها دفعت ثمنا باهظا؛ فقد تحول الرأي الشعبي في حسم ضد القوات الهندية، التي أصبح ينظر إليها على أنها قوات احتلال. لاذت جبهة النمور بالغابة، حيث يمكنهم قنص الهنود عن بعد ومهاجمتهم باستمرار، وكانوا يحسنون استخدام الألغام الأرضية بصفة خاصة، لتفجير قوافل الجنود أثناء تنقلاتها على الطرق.
بحلول نهاية عام 1987 كانت الصحافة تكتب عن سريلانكا بوصفها «فيتنام الهند»؛ ذلك لأن «الجيش الهندي لم يسبق له رؤية حرب كهذه؛ فهي تدور على أرض غريبة، ضد عدو أجنبي لا يرتدي زيا عسكريا، ولا علم لديه باتفاقية جنيف المعنية بأخلاقيات الحرب، ولكنه يحمل على الرغم من ذلك أسلحة حديثة فتاكة ويقاتل عادة من وراء ستار النساء والأطفال».
60
وكان أحد قيادات القوات الهندية أكثر كرما في سرده؛ فبينما طفق يندد بنمور التحرير و«إصرارهم الأخرق العنيد المدمر» على الكفاح المسلح، أشاد في الوقت نفسه «بانضباطهم وتفانيهم وعزيمتهم وحماستهم وخبرتهم الفنية».
61
لدى عودة جثامين الجنود في أكياس إلى البر الرئيسي، تصاعدت الضغوط الدافعة إلى سحب قوة حفظ السلام الهندية؛ فبدءا من صيف 1989 بدأت القوات تعود أدراجها، وإن كان الانسحاب النهائي لم يتم حتى ربيع 1990، بعدما لقي أكثر من ألف جندي حتفه في النزاع.
كان قرار إرسال قوات إلى سريلانكا متماشيا مع تنامي تصور الهند أنها «القوة الإقليمية المهيمنة الشرعية في جنوب آسيا».
62
فقد كانت هي القوة المسيطرة في المنطقة من الناحيتين الديموغرافية والاقتصادية، وعقدت العزم على التعبير عن هذه السيطرة من ناحية الاستعداد الحربي أيضا؛ ففي يناير 1987، شرعت وحدات هندية من المشاة في مناورة عسكرية كبيرة على الحدود مع باكستان؛ ظاهريا لاختبار معدات جديدة، ولكن فعليا لاستعراض قوتها المستحدثة أمام عدوتها القديمة.
63
ثم اختبرت الهند، في مارس 1988، أول صاروخ أرض أرض لها، الذي تتوافر به القدرة على مهاجمة أهداف على بعد يصل إلى 100 ميل. وبعد عام أجرت اختبارا ناجحا على سلاح أكثر تطورا، حمولته أكبر عشر مرات ويصل إلى أهداف على بعد 1500 ميل؛ فقد نقل علماء الصواريخ الهنود بلادهم إلى ناد حصري، اقتصرت عضويته على الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وفرنسا والصين وإسرائيل.
64
ولدت تلك التطورات مشاعر توجس لدى البلدان الأصغر منها في جنوب آسيا؛ حيث بدأ الناس يتحدثون عن «الهندي القبيح» مثلما كان يتحدث الناس في سائر أنحاء العالم عن «الأمريكي القبيح» (إشارة إلى رواية أمريكية شهيرة من تأليف ويليام ليدرر ويوجين بودريك). فقد أقرت مجلة أسبوعية في كلكتا بحسرة أن الهند «ينظر لها على أنها شرير المنطقة».
65
10
كان راجيف غاندي قد جاء إلى السلطة بتفويض هائل النطاق في الانتخابات التي عقدت بعد وفاة والدته، إلا أنه لدى اقتراب الانتخابات العامة لعام 1989، كانت فرص حزبه غير أكيدة؛ فكما عامي 1967 و1977، وجد حزب المؤتمر - الذي تصدر الساحة يوما ما - صعوبة كبيرة في الحفاظ على وضعه.
بادئ ذي بدء ، واجه الحزب تحديا متزايد الخطورة من جانب الأحزاب الإقليمية؛ فخلال معظم فترة حكم راجيف غاندي، كان حزب آسوم جانا باريشاد هو الحزب الحاكم في آسام، وحزب تيلوجو ديسام في أندرا براديش (حيث كان إن تي راما راو قد عاد إلى السلطة عام 1985)، وحزب أكالي دال في البنجاب. وفي يناير 1989 عاد حزب درافيدا مونيترا كازاجام إلى سدة الحكم في تاميل نادو. والأقوى من تلك الأحزاب جميعا كان الحزب الشيوعي الماركسي في غرب البنغال، الذي كان قد احتفظ بالسلطة اثني عشر عاما على التوالي بحلول عام 1989، وخلال تلك المدة كان جيوتي باسو - زعيم الحزب ورئيس وزراء الولاية - قد «تنامت مكانته إلى حد مذهل»؛ فقد كان باسو محل إجلال كبير في الريف بسبب الإصلاحات الزراعية التي حققها حزبه. وخلافا للمعتاد بالنسبة إلى شيوعي، حظي باحترام رجال الصناعة أيضا، الذين راق لهم نهجه العملي في الاستثمار وتخفيفه نزعة الاتحادات العمالية إلى العنف.
66
نبع تحد آخر من اليمين الهندوسي؛ فحزب جانا سانج القديم - الذي أعيدت تسميته إلى «حزب بهاراتيا جاناتا» - لم يفز إلا بمقعدين في انتخابات عام 1984. ولكنه في هذه المرة انضم إلى الحملة الساعية إلى بناء معبد للإله رام في أيوديا. فإذ تنامت شعبية تلك الحملة، ارتفعت أسهم الحزب معها؛ فقد انضم العاملون بحزب بهاراتيا جاناتا إلى العاملين بالمجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج في مراسم وضع حجر الأساس لمعبد رام، التي تتضمن الصلاة على أحجار يأملون في استخدامها في تشييد معبد الإله رام، ووقفها لهذا الغرض. ولكي يدفع المجلس الهندوسي العالمي بالقضية، أعلن أنه سوف ينظم مراسم تدشين رسمية، في الموقع محل الخلاف في أيوديا يوم 2 نوفمبر. ووصلت الموقع قوالب طوب من مناطق متباينة في اليوم المنتظر. نصحت حكومة حزب المؤتمر في دلهي بإيقاف مراسم التدشين، لكنها في النهاية تركتها تمضي؛ خوفا من استعداء الهندوس قبل الانتخابات العامة. واختار المجلس الهندوسي العالمي عاملا من الداليت في بيهار لوضع حجر الأساس، لما زعموا أنه سيكون معبدا مهيبا مكرسا للإله رام ذات يوم.
67
أفضت المراسم إلى نشوب نزاع ديني في عدة مدن بشمال الهند، كان أسوؤها في مدينة بهاجالبور ببيهار، حيث دامت المعارك بين الهندوس والمسلمين أسبوعا في شهر نوفمبر. ثم امتد النزاع إلى الريف، حيث عمدت بعض الجماعات بقيادة نشطاء من راشتريا سوايامسيفاك سانج إلى تحطيم المغازل والمنازل المملوكة للنساجين المسلمين الذين تشتهر بهم المنطقة؛ فقتل مئات المسلمين في الأحداث، وشردت أعداد أكبر بكثير، وجمع المشردون في معسكرات إغاثة تحت إدارة تجار مسلمين ومنظمات إغاثة إسلامية، وليس الحكومة. أدت أعمال الشغب في بهاجالبور، وتبعات مراسم التدشين بصفة عامة، إلى زيادة الاستقطاب بين الجماعتين السكانيتين؛ فقد شعر المسلمون بأن حزب المؤتمر خانهم، وأعلن قطاع كبير من الطبقة الوسطى الهندوسية دعمه لحزب بهاراتيا جاناتا.
68
جاء تحد ثالث لرئيس الوزراء من جانب في بي سينج، زميله السابق في مجلس الوزراء؛ فأثناء تولي سينج منصب وزير المالية، أجرى سلسلة من الغارات على الشركات الصناعية المتهمة بالتهرب الضريبي؛ فاعتبر ذلك تجاوزا لنطاق صلاحياته، ومن ثم نقل إلى وزارة الدفاع، وفيما بعد استبعد من مجلس الوزراء برمته. وبعد فترة ليست بطويلة، هبت عاصفة بسبب خروج تسريبات أشارت إلى تقاضي وسطاء عمولات في صفقة تضمنت بيع مدافع من شركة بوفور السويدية إلى الجيش الهندي. صدر أول بث للنبأ على الإذاعة السويدية في أبريل 1987، وعلى مدار العامين التاليين، واصلت الصحافة وسياسيو المعارضة الضغط على الحكومة، مطالبين بإعلان أسماء الجناة ومعاقبتهم. رفضت الحكومة التعاون، مما غذى الشكوك في أن الوسطاء كانوا على صلة ما برئيس الوزراء نفسه؛ فأثار العلم بوقوع فساد في صفقة دفاع عاصفة من الغضب، ضاعفها اكتشاف أن الخبراء العسكريين كانوا يفضلون مدفعا فرنسيا على المدافع السويدية، لكن الساسة تجاهلوا رغبتهم.
69
وقر في المخيلة الشعبية - سواء أكان صوابا أم خطأ - أن ثمة صلة بين الجدل الدائر حول صفقة مدافع بوفور وبين خروج في بي سينج من مجلس الوزراء، وانتقل لقب «السيد نظيف» من راجيف غاندي إليه. ترك سينج حزب المؤتمر، وترشح في انتخابات يونيو 1988، وربح بصفته مرشحا ضمن قوى المعارضة المتحدة في انتخابات برلمانية فرعية في الله أباد. بحلول ذلك الوقت كان قد أصبح بؤرة المشاعر المتنامية ضد حزب المؤتمر. في أكتوبر 1988 اندمجت الجبهة الشعبية التي شكلها مع حزب جاناتا القديم ليشكلا حزب جاناتا دال، ثم اتحد ذلك الحزب الجديد مع التجمعات الإقليمية لتشكيل جبهة وطنية، أعلن بدء عملها في شاطئ مارينا بمدراس وأشاد بها أحد أعضائها - إن تي راما راو بحماسه الفائر على الدوام - واصفا إياها بأنها عربة «تجرها سبعة خيول ستطرد الغيوم والظلال التي ازدادت كثافة على مدار العقود القليلة الماضية في التاريخ الوطني».
70
أقدم راجيف غاندي في عامه الأخير في الحكومة على أربع مبادرات ترمي إلى إنقاذ شعبيته المتراجعة: طرح في سبتمبر 1988 مشروع قانون لوضع ضوابط على حرية الصحافة، يمكن بمقتضاه حبس الصحفيين وأصحاب الصحف إذا ثبتت إدانتهم بتهمة «نشر الأخبار المغرضة» أو «التشهير»، وهما المصطلحان اللذان احتفظت الدولة وحدها بحق تعريفهما. من الجلي أن مشروع القانون ذاك جاء استجابة لفيض المقالات الصحفية التي كانت قد صدرت مؤخرا عن الفساد؛ فقد كانت تلك «ضربة استباقية متأخرة لمنع إلحاق المزيد من الضرر بصورة الحكومة». أثار مشروع القانون احتجاجا جماعيا بين الصفحيين في جميع أنحاء البلاد، فانسحب أعضاء في البرلمان من جلساته، وفي النهاية أسقط مشروع القانون.
71
ثم قام راجيف غاندي، في يناير 1989، بزيارة الصين، ليكون بذلك أول رئيس وزراء هندي يقدم على تلك الخطوة منذ ما يربو على ثلاثة عقود. ومثلت تلك، ضمن أمور أخرى، محاولة لإعادة تنصيب نفسه رجل دولة على المستوى الدولي. نحيت المسألة الحدودية جانبا بحصافة في المباحثات مع الزعماء الصينيين، إلا أن نيودلهي تنازلت بشأن التبت، في حين قالت بكين من جانبها إنها لن تقدم العون إلى المتمردين في شمال شرقي الهند. وخاض راجيف غاندي حوارا دام تسعين دقيقة مع دينج شياو بينج، البالغ من العمر آنذاك أربعة وثمانين عاما، قيل له فيه: «أنت الشباب. أنت المستقبل.»
72
بعد ذلك، في مارس 1989، بدل راجيف غاندي مسار السياسات الاقتصادية المتطلعة للخارج والموجهة نحو النمو، التي تبناها في أعوامه الأولى في منصبه. وفي آخر ميزانية قدمتها حكومته، رفع الضرائب على السلع الاستهلاكية المعمرة، وفرض رسوما إضافية على تذاكر الطيران والفنادق الفاخرة. وفي الوقت نفسه، طرح خطة جديدة لخلق فرص عمل في المناطق الريفية. وعندما لاحت الانتخابات في الأفق، بدأ راجيف غاندي «يعود إلى النهج الشعبوي الذي تفردت به والدته».
73
وأخيرا، في صيف عام 1989، بدأت الحكومة سلسلة برامج رفيعة المستوى احتفالا بالذكرى المئوية لميلاد جواهر لال نهرو؛ فأقامت على شرف نهرو حلقات دراسية، ومعارض للصور الفوتوغرافية، ومسابقات تليفزيونية ومهرجانات شعرية، وحفلات موسيقية، وحتى مسابقات تزلج؛ وكلها بتمويل من الدولة وترويج الإذاعة والتليفزيون التابعين لها. في ظاهر الأمر بدت تلك البرامج تكريما لرئيس وزراء الهند لا أكثر، ولكن «على مستوى آخر، يخاطب اللاوعي بدرجة أكبر، تهمس تلك الحملة المكثفة بصفة متكررة مستترة بالرسالة الحقيقية الخفية، وهي أن الأمة لم تحظ براع أفضل من عائلة نهرو، وأن التخلي عن تلك العائلة يستتبع، في التحليل النهائي، نبذ تركة مقدسة واحتضان قوى الفوضى».
74
على الرغم من ذلك، لم يدع راجيف غاندي شيئا للصدفة؛ ففي الحملة التي خاضها من أجل إعادة انتخابه، تحدث في 170 مؤتمرا في شتى أنحاء البلاد. وكما عام 1984، نصحته وكالة ريدفيوجن الدعائية بالتأكيد على الأخطار التي تهدد وحدة البلاد، التي تزكيها وتؤججها المعارضة الطائفية، والتي لا يمكن لأحد التغلب عليها سوى حزب المؤتمر.
75
إلا أن رسالته في هذه المرة، لم تلق الصدى نفسه من قريب أو بعيد، وذلك لسببين؛ أولا: كانت اتهامات الفساد قد ألحقت ضررا بالغا بمصداقية الحكومة، وثانيا: كانت المعارضة أفضل تنظيما بكثير مما كانت في المرة الماضية؛ فقد أجرت الجماعات الرئيسية الثلاث تعديلات على المقاعد، بحيث واجه مرشح حزب المؤتمر في معظم الدوائر خصما رئيسيا: من الجبهة الوطنية، أو حزب بهاراتيا جاناتا، أو أحد الأحزاب الشيوعية.
مثلت الانتخابات التي عقدت في نوفمبر 1989 ضربة موجعة لحزب المؤتمر؛ فقد ربح 197 مقعدا فحسب، أي أقل من الانتخابات السابقة بما يربو على 200 مقعد. في المقابل، لم تستطع المعارضة ادعاء النصر أيضا ؛ فقد حصل حزب جاناتا دال على 142 مقعدا، بينما حصل حزب بهاراتيا جاناتا على ستة وثمانين مقعدا، وفاز اليسار بما يربو قليلا على خمسين مقعدا. ونصب في بي سينج رئيسا لحكومة الجبهة الوطنية، بينما اختار اليسار وحزب بهاراتيا جاناتا مساندة الحكومة من خارجها؛ ومن ثم، كان ثاني رئيس وزراء هندي من خارج حزب المؤتمر - مثل الأول (مورارجي ديساي) - قد قضى معظم تاريخه السياسي في حزب المؤتمر.
كانت الانتخابات العامة لعام 1989 هي أول انتخابات لا يفوز فيها حزب واحد بأغلبية. وكونها مثلت علامة فارقة ليس استنتاجا وليد النظر للأحداث بأثر رجعي فحسب، وإنما قال به بعض المعلقين آنذاك أيضا. كتب فير سانجفي: «كانت الهند بصدد دخول فترة من عدم الاستقرار السياسي. لقد ولى عهد الحكومات القوية المحكومة برؤساء وزراء دكتاتوريين؛ فقد مثلت هذه الانتخابات تدشينا لفترة من عدم اليقين.»
76
11
حتى بمقاييس التاريخ الهندي، كان عقد الثمانينيات عاصفا بصفة خاصة؛ فلطالما واجهت جمهورية الهند حركات معارضة، لكن لم يسبق لها أن واجهتها بهذه الكثرة، في وقت واحد، وفي تلك المناطق كلها، وبتلك الشدة في التعبير عنها. وكان ثمة تحديان مقلقان أكثر من غيرهما؛ هما: استمرار التمرد في البنجاب - وهو الوضع الأول من نوعه في ولاية تعتبر جزءا من قلب الهند (خلافا لمنطقتي الاضطراب القديمتين: ناجالاند وكشمير) - والتعبئة غير المسبوقة للهنود الراديكاليين في جميع أنحاء البلاد، مما هدد الهوية العلمانية للدولة. وأضيف إلى العنف - بمستوياته المرتفعة والمنخفضة - تنامي الفساد السياسي والإداري، الذي جعلته الصحافة اليقظة أكثر بروزا وإثارة للقلق. وخارج حدود البلاد، ألحقت هزيمة الجيش الهندي على يد جبهة نمور التحرير في سريلانكا ضررا بالغا بهيبة الدولة.
في صيف عام 1985، نشرت مجلة «صنداي» الأسبوعية الصادرة بكلكتا، التي كانت في أوج مكانتها وتأثيرها آنذاك، قصة غلاف عن «موجة العنف الخارجة عن نطاق السيطرة» التي اجتاحت البلاد. وجاء في المجلة أن «التوتر والسخط المنتشرين في كل مكان - على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي - أفسحا المجال أمام العمليات الإرهابية المتفرقة والاحتجاجات الجماعية؛ فأعمال التخريب والحرق المتعمد للممتلكات والقتل والتدمير متفشية في جميع أنحاء الهند كطفح جلدي قبيح». فبعد مرور سبعة وثلاثين عاما على الاستقلال، «تجد الهند نفسها في نقطة مفصلية في تاريخها».
طرحت المجلة السؤال الآتي: «ما الذي يحدث للبلاد، ولم؟» وطلبت إلى قائمة من الشخصيات الهندية البارزة الإجابة عليه. وقال المحرر روميش تابار معلقا إن العنف والغضب أظهرا أنه «لا توجد سيطرة على أي مستوى ... وثمة خوف متنام من أننا في سبيلنا إلى الوصول إلى نقطة اللاعودة، بحسب مصطلح ملاحي الطائرات. لقد أصبح التفكك أوضح من اللازم». واقتبس كاتب الأعمدة كولديب نيار سلسلة من عناوين الصحف الرئيسية المتعلقة بأعمال الشغب والقتل، التي سجلت وقوع «اضطرابات متفاوتة الشدة في مناطق تفصل بينها آلاف الأميال»، على يد أشخاص «عاشوا ردحا من الزمن على شفا الهاوية»، ولكن «يبدو أن مشاعر السخط لديهم بلغت الآن حد الانفجار». وأشار الشرطي كيه إف رستم جي في صرامة إلى أن السياسة والإدارة في الهند أصبحتا تحت رحمة «المتعصبين والخطباء الشعبيين المحرضين» الذين «يدعون أحقيتهم في تنظيم موت الآلاف تحت غطاء المعارضة الديمقراطية». وقال رستم جي: «دعوا عنكم الأموات، وأحصوا الأصوات الانتخابية.» كان ذلك توصيفا قاسيا وإن كان دقيقا للأهداف السياسية لأولئك المتعصبين والمحرضين. ثم أضاف: «في غضون بضعة أعوام، حتى الأصوات الانتخابية قد لا تستأهل الإحصاء؛ لأننا ربما نكون قد قضينا على الديمقراطية بحلول ذلك الوقت.»
77
كانت تلك سمات متكررة في التعليقات الصحفية لتلك الفترة: أن الهند سوف تتفكك أو تتخلى عن الديمقراطية برمتها؛ ففي أبريل 1987، أصدر محرر مجلة «صنداي» السياسي نفسه، كوال فرما، هذا التحذير الخطير:
إذا ظل راجيف غاندي يتراجع ولم يظهر بديل له (... لم يلح أحد في الأفق بعد)، فسيسفر ذلك عن زعزعة للاستقرار السياسي تخلف تبعات كارثية؛ فخالستان قد تصبح حقيقة؛ ففي المناطق الريفية من البنجاب، يقود المتطرفون السيخ إدارة موازية بالفعل. وإضافة إلى ذلك، من الممكن أن تفضي مسألة رام جانمابهومي ومسجد بابري إلى حرب طائفية واسعة النطاق في شمال الهند. ومن شأن استمرار حالة عدم اليقين وعدم الاستقرار السياسيين أن تمثل دعوة للقوى المغامرة للتدخل في الموقف، على سبيل المثال: إذا أقال رئيس الجمهورية رئيس الوزراء، فقد يكون الجنرال سوندر جي [رئيس أركان الجيش] هو من يقرر أيهما يبقى.
78
جميع الكتاب المستشهد بهم في الجزئية السابقة كانوا هنودا في أواخر الخمسينيات أو أوائل الستينيات من العمر، نشئوا في كنف البريق الدافئ لعهد نهرو، وهم هنا كانوا يتذكرون الآمال التي بنيت عليها الدولة الجديدة. لا شك أن مشاعرهم اصطبغت بحنين إلى الماضي، بعضه على الأقل في موضعه؛ فالساسة في عهد نهرو كانوا يعملون على احتواء الانقسامات الاجتماعية عوضا عن تعميقها وزيادتها تحقيقا لمصالحهم الشخصية. ولكن في بعض النواحي، ربما كان ذلك الحنين في غير محله؛ فذلك الاهتزاز، وإن كان عنيفا ومكلفا بلا شك، يمكن لعين أكثر تعاطفا أن تفسره على أنه تنام في لامركزية الكيان السياسي الهندي، بعيدا عن سيطرة منطقة واحدة (الشمال) وحزب واحد (حزب المؤتمر) وأسرة واحدة (آل غاندي).
لا بد أن يتحفظ المرء في إصدار تعليقه النهائي على ما إذا كان التشاؤم مبررا حقا؛ فكما تبين من النبوءات المتعددة الواردة في هذا الكتاب، اعتبر كل عقد منذ الاستقلال «الأخطر» حتى حينه؛ فإذا كان ثمة شيء جديد في تلك النبوءات الأخيرة، فهو صدورها عن هنود لا أجانب فحسب.
12
بنهاية هذا الفصل، ينتقل هذا الكتاب من تناول «التاريخ» إلى ما يمكن في المقابل أن يسمى «السرد الصحفي الخاص بالتاريخ». فالجزء الخامس - وهو الجزء التالي - يتناول أحداث العقدين الأخيرين، بينما تتكشف أحداثهما. ونظرا لقربنا من الأحداث المتناولة، فقد تبنى ذلك الجزء نهجا موضوعيا وليس زمنيا. إلا أننا، بغية وضع أساس للسرد، بدأنا كل فصل فيه بنبوءة من الماضي استشرفت المستقبل على نحو أو آخر.
في دراسة للحركة الآسامية نشرت عام 1983، علق المؤلف قائلا إن الكتاب «يكاد يكون تاريخا معاصرا، والتاريخ المعاصر يعوزه المنطق والفهم المنظم والالتزام بالأنماط، التي يسبغها مرور الأعوام على الأشياء».
79
وفي كتاب عن عملية النجم الأزرق نشر عام 1994، قال المؤلف: «ربما يكون عقد من الزمان أو نحوه هو الفترة التي من المناسب انقضاؤها قبل محاولة توثيق التاريخ المعاصر، وهو كذلك الفترة المناسبة لانغماس المرء في رفاهية التأمل الذاتي لأن الأحداث تفقد تأثيرها العاطفي على حكم المرء.»
80
معظم السجلات في العالم تتبع قاعدة «الثلاثين عاما»، التي تحفظ بموجبها سرية الوثائق المكتوبة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ويبدو هذا سليما؛ إذ إنه بعد مرور ثلاثين عاما، يصير من المستبعد أن يكون لأي «كشف» جديد تأثير ملموس على الباقين على قيد الحياة.
وفي خبرتي الشخصية، يحتاج المرء لكي يكتب عن أحداث بصفة المؤرخ إلى أن تفصل بينه وبينها مسافة جيل أيضا؛ فلا بد من انقضاء هذه المدة قبل أن يتسنى للمرء وضع تلك الأحداث في نسق محدد، والنظر إليها بمنأى عن ضجة الحاضر وصخبه. وبمجرد أن تمر ثلاثة عقود تقريبا، تزداد المواد المتاحة كثيرا؛ فليست سجلات المحفوظات هي وحدها التي تصير متاحة، وإنما المذكرات أيضا والسير الذاتية والأعمال التحليلية التي نشرت منذ ذلك الحين.
عندما يكتب المرء عن الماضي القريب جدا، يفتقر إلى المصادر الأولية المتاحة في الفترات الأسبق. وإضافة إلى ذلك، يكتب المؤرخ في هذه الحالة عن أوقات قريبة إليه كما هي قريبة إلى قرائه؛ فتكون لديه، ولديهم، آراء قوية عن ساسة اليوم وسياساتهم؛ ففي الفصول التالية، حاولت أن أبعد تحيزاتي الشخصية عن السرد، ولكن ربما يكون نجاحي في هذا الصدد محدودا، أو على أي حال، محدودا بدرجة أكبر من أجزاء أخرى في الكتاب؛ فقد كان هذان العقدان حافلين بالأحداث والجدل كأي وقت آخر في تاريخ الهند المستقلة.
الجزء
سجل الوقائع
الفصل السادس والعشرون
الحقوق
المرء في الهند لا يدلي بصوته، وإنما بطائفته الاجتماعية.
في إن جادجيل، سياسي في حزب المؤتمر، قالها عام 1995
1
في الأسبوع الثاني من يناير 1957، وجه عالم الأنثروبولوجيا الهندي البارز إم إن سرينيفاس، كلمة إلى المؤتمر العلمي السنوي في كلكتا عن موضوع «الطوائف الاجتماعية في الهند الحديثة»، فبدأ حديثه قائلا:
هدفي الأساسي من هذا الحديث هو أن أسوق إليكم الأدلة على أنه خلال فترة القرن الماضي أو أكثر قليلا، اكتسبت الطوائف الهندية قوة في بعض النواحي، تفوق ما كانت عليه في أي وقت ماض قبل مجيء البريطانيين؛ فقد عزز تعميم حق التصويت للبالغين وتقديم دستورنا ضمانات للفئات المتخلفة من تأثير الطائفة الاجتماعية بدرجة لا يستهان بها. هذا التعزيز الحديث للطوائف الاجتماعية يتناقض مع هدف الوصول إلى «مجتمع عديم الطوائف الهندية والاجتماعية» الذي تدعيه معظم الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني الهندي.
مضى سرينيفاس بعد ذلك موضحا كيف اخترقت الخصومات بين الطوائف الهندية نسيج السياسة الهندية؛ ففي ولاية أندرا براديش، كانت إحدى طوائف الفلاحين الرئيسية - طائفة الكاما - تدعم في معظم الأحيان الحزب الشيوعي الهندي (مما أثار دعابة ساخرة مفادها أن أيديولوجية ذلك الحزب «كاموية» في واقع الأمر)، في حين قدمت الطائفة الاجتماعية المنافسة لها - الريدي - دعمها لحزب المؤتمر. وفي ولاية ميسور المجاورة، حيث أمسك حزب المؤتمر بزمام السلطة، تنافست طائفتا اللينجايات والأوكاليجا في السيطرة على مقاليد الحزب. وفي مهاراشترا ومدراس، تضمن محور الصراع السياسي الرئيسي البراهمة وكل من عداهم. وفي بيهار، تصارعت طائفتا ملاك الأراضي - البهوميهار والراجبوت - مع أفراد طائفة الكياستا المتعلمين على الوظائف العليا في تنظيم حزب المؤتمر. وفي ولاية أوتر براديش المجاورة ، حيث كانت الطوائف الاجتماعية الدنيا أفضل تنظيما، «من المتوقع أن تزداد حدة الخلاف بين الراجبوت والتشامار على السلطة السياسية في المستقبل القريب».
قال سرينيفاس إنه على الرغم من تعهد دستور الهند بإقامة مجتمع خال من الطوائف الاجتماعية، فالحقيقة أن «نفوذ الطوائف الاجتماعية ونشاطها قد تناميا مع تزايد انتقال السلطة السياسية من أيدي الحكام إلى الشعب». ومن ثم أصبحت الطوائف الاجتماعية «هي وحدة العمل الاجتماعي في كل مكان». إلا أنه كان ثمة بعض التفاوت الإقليمي؛ فقد كان «من غير المستبعد أن غياب جماعات البراهمة واسعة النفوذ عن الشمال قد حال دون صعود الحركة المناهضة لها؛ مما أفضى على الأرجح إلى سيادة الانطباع بزيادة نفوذ الطوائف الاجتماعية جنوب جبال فيندهيا عن شمالها». وأردف سرينيفاس قائلا: «إلا أن ثمة مؤشرات تدل على تنامي نفوذ الطوائف الاجتماعية في الشمال، لكن لا يمكننا الحكم بعد على ما إذا كان الصراع بين الطوائف الاجتماعية سيحتدم يوما كحاله في الجنوب في يومنا هذا.»
1
لم يلق سرينيفاس تلك الكلمة بنفسه، نظرا لوجوده في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، إلا أنها اجتذبت رغم ذلك سيلا من التعليقات المتحمسة في الصحف الناطقة بالإنجليزية؛ فالانتخابات العامة كانت قاب قوسين أو أدنى، فهل كان سيصوت الناس وفقا لتفضيلاتهم الشخصية، كما حثتهم النظرية الديمقراطية أن يفعلوا؟ أو أنهم كانوا سيثبتون صحة ادعاء سرينيفاس بالتصويت وفقا لطائفتهم الاجتماعية ببساطة؟
2
2
قدمت العقود التالية تأكيدا قاطعا على صحة فرضية إم إن سرينيفاس. فعوضا عن أن تتلاشى الطوائف الاجتماعية مع ظهور الديمقراطية والحداثة، ظل تأثيرها حاسما في المجتمع الهندي (وعليه). فسواء في المدن أم القرى، وسواء في أوقات الفراغ أم العمل، كان معظم الهنود يعرفون بالجماعة التزاوجية التي يولدون فيها.
صحيح أن منظومة الطوائف الهندية تأثرت قطعا بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي نتجت عن الاستقلال، فممارسة «التزاور» التي كانت محظورة من قبل، شاعت بدرجة كبيرة في المدن، وكثرت أيضا الزيجات في أوساط الطبقات المهنية بين أفراد من طوائف اجتماعية مختلفة، وضعف أيضا الارتباط بين الطائفة الاجتماعية والمهنة، الذي كان بالغ القوة فيما مضى.
3
إلا أنه في المقابل تزايد بروز الطوائف الاجتماعية والهويات الطائفية في الميدان الحديث للسياسات الانتخابية؛ فكانت السمة الأبرز على الساحة السياسية الهندية في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته هي صعود «الطوائف الاجتماعية المتخلفة»، وهي الفئات التي احتلت المرتبة المتوسطة بين الطوائف المجدولة في قاع الهرم الاجتماعي، والبراهمة والراجبوت في قمته؛ فطوائف الياداف في أوتر براديش وبيهار، والجات في البنجاب وهاريانا، والماراثا في مهاراشترا، والفوكاليجا في كارناتاكا، والجوندر في تاميل نادو، كانت تلك - حسب تعبير سرينيفاس - هي «الطوائف الاجتماعية المسيطرة» كل في منطقتها؛ فقد كانت أعدادها كبيرة وحسنة التنظيم، ومارست نفوذها على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. وفي وقت الانتخابات - بالرجوع إلى مفهوم آخر ضمن مفاهيمه - قامت تلك الطوائف مقام «الكتل التصويتية»؛ إذ وقفت وراء السياسيين المنتمين إليها كالبنيان المرصوص .
تعرف تلك الجماعات في القانون الهندي بمسمى «الطوائف الاجتماعية (أو الطبقات) المتخلفة الأخرى»، لتمييزها عن القبائل المجدولة والطوائف المجدولة. وفرت تلك الطوائف القاعدة الاجتماعية ومنبع القيادات للأحزاب التي قدر لها النجاح في تحدي هيمنة حزب المؤتمر؛ فحزب درافيدا مونيترا كازاجام، الذي جاء إلى السلطة في مدراس عقب انتخابات عام 1967، وحكومات حزب المشرعين المتحدين في الولايات الشمالية، كانا في الأصل أحزاب تلك الطوائف. وبعد مرور عشرة أعوام، أثبتت تلك الطوائف وضعها بقوة على الساحة الوطنية؛ فكان هناك عنصران على الأقل تابعان لها في الأساس أيضا من بين عناصر ائتلاف جاناتا الأربعة، وهما حزب لوك دال والاشتراكيون.
4
اكتسبت تلك الطوائف سلطتها الاقتصادية عن طريق الإصلاحات الزراعية والثورة الخضراء، بينما اكتسبت السلطة السياسية من خلال صناديق الاقتراع. ما يعوزها كان السلطة الإدارية؛ ومن ثم عينت حكومة جاناتا لجنة الطبقات المتخلفة، التي عرفت آنذاك وفيما بعد باسم لجنة مندل، على اسم رئيسها المبادر. وخلصت اللجنة إلى أن الطوائف الاجتماعية كانت لا تزال هي المؤشر الرئيسي على «التخلف»، وقد عرفت - بالاستناد إلى مسوح الولايات - ما يصل إلى 3743 طائفة اجتماعية محددة لا تزال «متخلفة». وقدرت اللجنة أن تلك الطوائف شكلت مجتمعة أكثر من 50٪ من تعداد سكان الهند، إلا أن تمثيل تلك الطوائف كان بالغ الانخفاض في الإدارة، لا سيما في المستويات العليا منها؛ فوفقا لحسابات اللجنة، بدءا من نحو عام 1980، شغل أبناء الطوائف المتخلفة الأخرى 12,55٪ فحسب من المناصب كافة في الحكومة المركزية، و4,83٪ فحسب من وظائف الدرجة الأولى.
وبغية معالجة هذا الوضع الشاذ أوصت لجنة مندل بحجز 27٪ من مناصب الحكومة المركزية كافة لتلك الطوائف الاجتماعية، إضافة إلى نسبة 22,5٪ التي كانت محجوزة بالفعل للطوائف المجدولة والقبائل المجدولة، وقالت اللجنة:
يجب علينا أن نقر بأن جزءا أصيلا من المعركة ضد التخلف الاجتماعي ينبغي خوضه في عقول الأشخاص المتخلفين؛ ففي الهند، طالما رئيت وظائف المصالح الحكومية رمزا للهيبة والسلطة. وبزيادة تمثيل فئة الطوائف المتخلفة الأخرى في المصالح الحكومية، فنحن نمنحهم شعورا فوريا بالمشاركة في حكم هذا البلد. فعندما يصبح مرشح من طائفة اجتماعية متخلفة مأمور تحصيل أو مأمور شرطة، تقتصر المزايا المادية المترتبة على منصبه على أفراد أسرته فحسب، ولكن التبعات النفسية لهذه الظاهرة هائلة؛ فالمجتمع كله الذي ينتمي إليه هذا المرشح من الطبقة المتخلفة سيشعر بالارتقاء. وحتى عندما لا تتدفق مزايا ملموسة إلى كل هذا المجتمع، يقدم الشعور لدى أفراده بأنهم أصبح لديهم «رجل منهم» في «أروقة السلطة» دفعة معنوية.
5
عندما قدمت لجنة مندل تقريرها، كانت حكومة حزب جاناتا قد سقطت، وسعت حكومة حزب المؤتمر التي تلتها - بقيادة إنديرا غاندي، ثم راجيف غاندي في أعقابها - إلى إسدال الستار عليه بهدوء. ولكن عندما جاءت حكومة الجبهة الوطنية إلى السلطة في الانتخابات العامة لعام 1989، رفع الستار عن التقرير مرة أخرى؛ فقد كان رئيس الوزراء الجديد، في بي سينج، مدركا لتنامي السلطة السياسية لدى فئة الطوائف المتخلفة الأخرى، ولموقفه الضعيف إلى حد ما بصفته قائد ائتلاف الأقلية؛ ومن ثم صدر أمر حكومي من أربع فقرات في يوم 13 أغسطس من عام 1990 مطبقا التوصية الأساسية لتقرير مندل، وحجز بمقتضاه 27٪ من المناصب الحكومية كافة في الهند لمرشحي «الطبقات المتخلفة اجتماعيا وتعليميا» التي حددتها اللجنة.
أثار ذلك الأمر جدلا كبيرا في دوائر المثقفين؛ فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن معايير حجز الوظائف ينبغي أن تتمثل في دخل الأسرة، وليس العضوية في طائفة اجتماعية بعينها. وأدان آخرون ممارسة التمييز الإيجابي من الأساس؛ فتخصيص نصف الوظائف بناء على اعتبارات أخرى غير الاستحقاق من شأنه أن يعرض فاعلية المؤسسات العامة وموثوقيتها للخطر. إلا أن بعض الباحثين أيضا رحبوا بتطبيق ما جاء في تقرير مندل كإجراء تصحيحي لهيمنة الطوائف الاجتماعية العليا، ولا سيما البراهمة، على المصالح العامة. وأشار أولئك الباحثون إلى ولايات جنوب الهند، حيث كان أكثر من ثلثي الوظائف الحكومية يوزع على أساس الطائفة الاجتماعية، دون الإخلال (حسبما قالوا) بكفاءة الإدارة.
6
في سبتمبر 1990، رفعت قضية أمام المحكمة الهندية العليا، تطعن في دستورية توصيات لجنة مندل، وقدم صاحب الطعن ثلاث حجج رئيسية، مفادها أن ممارسة حجز الوظائف تنتهك الضمانة الدستورية لتكافؤ الفرص، وأن الطائفة الاجتماعية لم تكن مؤشرا موثوقا على التخلف، وأن كفاءة المؤسسات العامة في خطر. فأثناء نظر هيئة المحكمة في القضية، أمرت بإيقاف تنفيذ الأمر الحكومي الصادر بتاريخ 13 أغسطس.
وكما هو الحال في كثير من الأحيان في الهند، دار الجدل بشأن السياسة العامة في الصحف والمحاكم، وتدفق إلى الشوارع أيضا؛ ففي 19 سبتمبر، أشعل طالب في جامعة دلهي، يدعى راجيف جسوامي، النار في نفسه احتجاجا على قبول تقرير توصيات لجنة مندل؛ فأصيب بحروق خطيرة، ولكنه نجا، ثم مثل قدوة لطلاب آخرين. كان أولئك المضحون بأنفسهم جميعا من الطوائف الاجتماعية العليا، وقد ضعفت فرصهم هم أنفسهم في الحصول على وظائف حكومية. فجرت نحو 200 محاولة انتحار إجمالا، وتوفي اثنان وستون طالبا متأثرين بجراحهم.
هبت احتجاجات أخرى في إطار جمعي؛ ففي جميع أنحاء شمال الهند، نظمت جماعات من الطلاب تجمعات وتظاهرات، وأغلقت المدارس والجامعات والمتاجر، وهاجمت المباني الحكومية، واشتبكت مع رجال الشرطة. وسعى حماة القانون إلى حماية أنفسهم، بآثار قاتلة في بعض الأحيان. فوردت روايات عن حوادث إطلاق نار من جانب الشرطة في ست ولايات، وأسفرت تلك الحوادث عن وقوع أكثر من خمسين ضحية.
7
كانت الصراعات التي أشعلتها التوصيات الصادرة عن لجنة مندل أشد بكثير في شمال الهند. فأولا: كانت برامج التمييز الإيجابي قائمة في الجنوب منذ زمن، وثانيا: كان الجنوب يتمتع بقطاع صناعي مزدهر؛ ومن ثم لم يعد الشباب المتعلمون معتمدين على الوظائف الحكومية بالقدر ذاته. وإضافة إلى ذلك، ففي حين مثلت الطوائف الاجتماعية العليا أقل من 10٪ من تعداد السكان في الجنوب، فقد زادت نسبتها في الشمال عن 20٪. ونظرا لزيادة الأمور الموضوعة على المحك في كافة النواحي، ازدادت شراسة المعارك في الشمال بطبيعة الحال.
كان من أشد المؤيدين لتوصيات لجنة مندل سياسيان صاعدان، هما: مولايام سينج ياداف، الذي أصبح رئيس وزراء أوتر براديش في أواخر عام 1989، ولالو براساد ياداف، الذي أصبح رئيس وزراء بيهار في أوائل عام 1990. كلاهما ولد في أسرة ريفية فقيرة، وكلاهما بدأ نشاطه السياسي في الجامعة؛ حيث انضما إلى الحركة الاشتراكية، التي كانت لا تزال مؤثرة آنذاك. كلاهما دخل السجن في فترة الطوارئ، وكلاهما أيضا انضم إلى حزب جاناتا بعد انتهاء فترة الطوارئ.
كما يتبدى من لقب العائلة المشترك بينهما، كان كل من مولايام ولالو ينتمي إلى طائفة اجتماعية من الرعاة المزارعين متفرقة في أنحاء شمال الهند وغربها. في وقت الاستعمار كان الياداف يقومون على حراسة ملاك الأراضي من الطوائف الاجتماعية العليا، وبعد الاستقلال، وبعدما أصبحوا يمتلكون أراضيهم الخاصة، تزايدت قوتهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية وسلطتهم السياسية باطراد. سعى كل من مولايام ولالو جاهدين إلى التقرب من المسلمين، الذين مثلوا جماعة سكانية أخرى كبيرة العدد (وإن كانت أكثر فقرا بكثير) في أوتر براديش وبيهار. كانت الحسبة وراء هذه الخطوة انتخابية؛ إذ مثل كل من الياداف والمسلمين نحو 10٪ من السكان. وفي المنافسات متعددة الأركان - التي مثلت القاعدة العامة في الهند - كان 40٪ من الأصوات كافيا عادة؛ ومن ثم، فالمرء إذا جمع الياداف والمسلمين، وأقنع قطاعات أخرى من الجماعات «المتخلفة» بالانضمام إلى ركبه، أصبحت لديه فرصة كبيرة جدا في الفوز.
8
لما كانت بيهار وأوتر براديش هما الولايتان الأكبر تعدادا في الهند، فقد كان مجموع نوابهما في البرلمان 139 نائبا، وعادة ما كانت نتيجة الانتخابات العامة تحسم من خلال هاتين الولايتين. في الانتخابات الأربعة الأولى فاز حزب المؤتمر بأغلبية المقاعد في أوتر براديش وبيهار، ثم مني الحزب بهزيمة نكراء عام 1977، عقب فترة الطوارئ، ولكنه استرد مكانته في انتخابات 1980 و1984، إذ فاز بواحد وثمانين مقعدا في انتخابات 1980، ومائة وواحد وثلاثين مقعدا في 1984. كان عدد المقاعد التي فاز بها الحزب عام 1984 شاذا عن المألوف، وجاء نتيجة لاستشهاد إنديرا غاندي. ثم كان أداء حزب المؤتمر كارثيا عام 1989؛ إذ إنه لم يفز إلا بتسعة عشر مقعدا في الولايتين. وعندما عقدت انتخابات في منتصف المدة بعد عامين، كان أداؤه أسوأ؛ إذ لم يربح سوى خمسة مقاعد في أوتر براديش ومقعد واحد فحسب في بيهار.
عندما أعلن في بي سينج العمل بتوصيات تقرير مندل، لم يلق حزب المؤتمر - الذي كان هو حزب المعارضة آنذاك - بالا للأمر، ثم عاد حزب المؤتمر إلى السلطة في انتخابات 1991، رغم أدائه الضعيف في أوتر براديش وبيهار، الذي عوضه أداؤه القوي في الجنوب. آنذاك وبسبب الأرقام المذكورة في الفقرة السابقة اضطر حزب المؤتمر إلى إعادة التفكير سريعا، فإن قدر لحزب المؤتمر استعادة مكانته في الشمال يوما، وجب عليه استمالة الطوائف الاجتماعية المتخلفة من جديد. وبناء عليه، أصدر رئيس الوزراء الجديد المنتمي إلى حزب المؤتمر، بي في ناراسيمها راو، أمرا حكوميا جديدا في 26 سبتمبر 1991، أيد تقرير مندل، ولكن زاد عليه أنه في تخصيص 27٪ من الوظائف لفئة الطوائف المتخلفة الأخرى «سوف تمنح الأفضلية للمرشحين المنتمين إلى القطاعات الأكثر فقرا» بينها.
في الوقت نفسه، استمرت جلسات المحكمة العليا بشأن الدعوى المرفوعة أمامها، وفي النهاية أصدرت حكمها في 16 نوفمبر 1992، فرفض سبعة قضاة الدعوى، وحكموا بدستورية توصيات لجنة مندل والأوامر الساعية إلى تنفيذها، بينما عارض ثلاثة قضاة الحكم. اتسمت مذكرة الحكم بطابع الإسهاب المعتاد فيها، إذ ملأت قرابة 500 صفحة مطبوعة بمسافات ضيقة. احتج القضاة المعارضون بأن «تصنيف الأشخاص حسب الطائفة الاجتماعية غير دستوري»، وأن تحديد الفئات المحرومة ينبغي أن يستند عوضا عن ذلك إلى معايير غير شخصية مثل الدخل. وعلى الجانب الآخر، تحدث القاضي جيفان ريدي باسم الأغلبية، مشيرا إلى الأحكام السابقة التي استخدمت فيها الطوائف الاجتماعية نيابة عن التخلف، واستشهد بمثال تطبيق التمييز الإيجابي على السود في الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها سابقة جديرة بالاحتذاء في القضية الحالية. وذلك لأنه:
من المفروغ منه أنه في السياق الهندي، يفضي التخلف الاجتماعي إلى تخلف تعليمي وكلاهما معا يفضيان إلى الفقر، الذي يغذي بدوره التخلف الاجتماعي والتعليمي وينشرهما، فكل منهما يغذي الآخر مشكلين حلقة مفرغة. ومن المعروف أنه حتى وقت الاستقلال كانت عمالة الجهاز الإداري من الطوائف الاجتماعية «العليا» بصفة شبه تامة؛ فالشودرا (المنبوذون) والطوائف المجدولة والقبائل المجدولة وغير ذلك من الفئات الاجتماعية المتخلفة المشابهة بين المسلمين والمسيحيين لم يكن أمامهم سبيل لدخول الجهاز الإداري في واقع الأمر، وكان هذا الاختلال هو ما ينبغي معالجته بإتاحة حجز المقاعد لصالح تلك الطبقات المتخلفة.
9
أضافت المحكمة العليا في إقرارها الأوامر الحكومية شرطين، هما: ألا تزيد نسبة الوظائف المحجوزة عن 50٪ من الوظائف الحكومية، وأن يقتصر تطبيق معيار الطائفة الاجتماعية على التعيينات فحسب، وليس الترقيات أيضا.
كان حزب جاناتا هو الذي شكل لجنة مندل عام 1978، بينما طبق تجسيده الجديد - حزب جاناتا دال - توصياتها عام 1990، فلم تشاركه الأحزاب المنافسة حماسه في هذا الشأن في بداية الأمر. فقد كان المعتاد للحزب الشيوعي الهندي والحزب الشيوعي الماركسي أن يعتبرا الطبقة - لا الطائفة الاجتماعية - المحور الرئيسي للتعبئة السياسية. أما حزب بهاراتيا جاناتا فقد احتل الدين (الهندوسي) موقع الصدارة لديه، وحزب المؤتمر زعم التحدث بلسان الأمة قاطبة. إلا أنه عند صدور حكم المحكمة العليا، كانت تلك الأحزاب كافة مستعدة لتأييده، فقد استوعبت بسرعة التداعيات السياسية المترتبة على تقرير مندل والتكاليف السياسية لمعارضته.
يشبه الجدل المحيط بلجنة مندل، في بعض النواحي، النقاش الذي دار في خمسينيات القرن العشرين، بشأن تقرير لجنة إعادة تنظيم الولايات. فالطائفة الاجتماعية - كعلامة على الهوية - لم تكن أقل بدائية من اللغة، ومثلها أيضا كان من المرجح استخدامها بنجاح للتعبئة الاجتماعية والسياسية واستغلالها من دعاة التحديث من المثقفين. وآنذاك - كالآن - كانت قوة الحجة تفقد وجاهتها عند مواجهتها بمنطق الأرقام. وآنذاك - كالآن - ما بدأ نقاشا خلافيا متعدد الجوانب انتهى بوفاق لعموم الأحزاب.
معظم التقارير الصادرة عن حكومة الهند لا يقرؤها سوى قليل من الناس ويناقشها قلة منهم، أما تقرير لجنة إعادة تنظيم الولايات وتقرير لجنة مندل فكان لهما وضع استثنائي بصفة عامة؛ فقد اطلع عليهما عدد كبير من الناس، وناقشهما عدد أكبر، بل إنهما في الواقع طبقا، وقد يكونان أيضا - ولو لمجرد عدد الناس الذين تأثروا بهما - أقوى تقريرين أصدرتهما حكومة يوما في أي مكان من العالم.
كان التأثير الذي خلفته لجنة إعادة تنظيم الولايات مباشرا؛ إذ أدت إلى إعادة رسم الخريطة الإدارية للهند على أسس لغوية. أما تأثير لجنة مندل فكان غير مباشر في معظمه؛ فبموجبها خصصت بضعة آلاف من الوظائف فحسب لفئة الطبقات المتخلفة الأخرى، إلا أن النقاش الذي ألهمه التقرير، والقبول به في نهاية الأمر، قدما دفعة هائلة لكبرياء تلك الفئة وتوحدها. وكان من بين المستفيدين منها اليادافين: لالو ومولايام، فكلاهما ترك حزب جاناتا دال وأنشأ حزبه الخاص، وبنجاح كبير أيضا. وقد ظل حزب راشتريا جاناتا دال الذي أسسه لالو متبوئا مقعد السلطة في بيهار أكثر من عقد من الزمان (حتى عام 2005)، بينما ظل حزب سماجوادي الذي أسسه مولايام في السلطة في أوتر براديش طوال الجانب الأكبر من تسعينيات القرن العشرين، وقد عاد مولايام إلى مقعد رئاسة وزراء الولاية مرة أخرى أثناء كتابتي هذه السطور.
3
شهدت تسعينيات القرن العشرين أيضا انتفاضة للداليت، الاسم السابق للطوائف «المنبوذة». تزعم تلك الانتفاضة حزب باهوجان ساماج، الذي أسسه رائد الأعمال السياسي النابغ كانشي رام.
بعد وفاة الدكتور بي آر أمبيدكار عام 1956، أصبح القيادي الأبرز للمنبوذين هو جاجيفان رام. كان رام عضوا في حزب المؤتمر، وكان الفضل يرجع إليه بدرجة كبيرة في نظرة الحزب إلى الطوائف الاجتماعية الدنيا على أنها «كتلة تصويتية» حبيسة. وهذا الادعاء لم يجد تحديا له إلا في مهاراشترا، أولا من جانب الحزب الجمهوري الذي أسسه أمبيدكار في البداية، ثم من جانب منظمة «نمور الداليت» المتطرفة. كانت إحدى النتائج المترتبة على ذلك أن مسمى «الداليت» - أي «المقهورين» - أصبح الاسم المفضل لدى الطوائف الاجتماعية الدنيا، عوضا عن اسمها الرسمي «الطوائف المجدولة» أو لقب «الهاريجان» الذي أطلقه عليها غاندي. ولكن رغم ذلك صوتت غالبية تلك الطوائف لصالح حزب المؤتمر منذ خمسينيات القرن العشرين حتى نهاية ثمانينياته.
لعقود من الزمان، كان جاجيفان رام هو من «حمل راية المطحونين ودافع عن مصالحهم». وقيل في رثائه إن وفاته عام 1988 «خلفت فراغا» يكاد يكون من المستحيل ملؤه. وتابع قائلا: «الطوائف المجدولة - التي تشكل 15٪ من تعداد البلاد - بتشتتها وافتقارها إلى التنظيم والقيادة وما تعانيه من اضطهاد؛ مصيرها ... معلق وفي وضع خطر.»
10
بحلول ذلك الوقت، كان كانشي رام (الذي لم تجمعه صلة قرابة بجاجيفان رام) نشطا منذ أكثر من عقد من الزمان. ولد كانشي رام في البنجاب عام 1932، والتحق بالعمل الحكومي بعد تخرجه في الجامعة، حيث عمل بمختبر في مهاراشترا، وفيه تعرف على كتابات بي آر أمبيدكار. وإذ تحول بذلك إلى الراديكالية، استقال من وظيفته عام 1971 وأنشأ منظمة لتمثيل الموظفين الحكوميين المنتمين إلى الطبقات المحرومة، أطلق عليها: اتحاد موظفي الجماعات المتخلفة والأقليات لعموم الهند. وطوال العقد التالي أخذ يتنقل في أنحاء الهند، منشئا فروعا للمنظمة على مستوى المناطق والولايات. حلول مطلع الثمانينيات كانت عضوية المنظمة قد بلغت 200 ألف، كثير منهم خريجون وطلاب دراسات عليا. كان ذلك اتحادا عماليا لنخبة الطوائف المجدولة، مثل - حسب وصف زعيمه - «مركز فكري وبحثي» و«مستودع مواهب» و«مركز تمويل» للطبقات المقهورة ككل.
11
تمثلت منطقة نمو المنظمة في شمال الهند، وتحديدا أوتر براديش، حيث كانت اجتماعاتها الجماهيرية تجتذب في المعتاد حضورا في حدود 100 ألف شخص أو أكثر. وبنجاح المنظمة واتت كانشي رام الجرأة لتأسيس حزب سياسي. جربت أسماء عدة، ولكن أطلق عليه في نهاية الأمر حزب باهوجان ساماج، حيث كانت فئة الباهوجان (أي، الأغلبية) أكثر شمولا من فئة الداليت (المقهورين)؛ ففي حين مثلت الفئة الأخيرة الطوائف المجدولة أو المنبوذين سابقا فقط، اشتملت الفئة الأخيرة في نطاقها إلى جانب الطوائف المجدولة على الطوائف المتخلفة والمسلمين أيضا.
كان تطبيق التمييز الإيجابي على مدار أربعة عقود قد أنشأ طبقة وسطى قوية وقادرة على التعبير عن نفسها في أوساط الطوائف المجدولة؛ ففي البداية، كانت الطوائف المجدولة تعين بالأساس في قاع جهاز الدولة؛ حيث كانوا يشغلون الوظائف الدنيا، ولكن مع مرور الوقت، أصبح تمثيلهم أفضل في المستويات العليا، حيث عملوا مأمورين ومسئولين من الدرجة الأولى في أمانة الحكومة. وإن الأرقام الواردة في جدول
26-1
لدالة بالتأكيد.
كانت الوظيفة الحكومية توفر الأمان الاقتصادي والمكانة الاجتماعية على حد سواء، وبحلول عام 1995، كان أكثر من مليوني فرد من طائفة الداليت يتمتع بتلك الميزة. لا شك أن معظمهم ظلوا يعيشون حياة فقيرة اقتصاديا وكذلك مهينة اجتماعيا؛ كعمال زراعيين وكناسين وعمال بناء،
12
إلا أنه أصبح ثمة طبقة وسطى لا بأس بها تدافع عن قضيتهم. كانت تلك هي الطبقة التي تألف منها «اتحاد موظفي الجماعات المتخلفة والأقليات لعموم الهند»، والتي تبوأت فيما بعد مناصب قيادية في حزب باهوجان ساماج الذي أسسه كانشي رام. وفي هذا الصدد، كان الطريق الذي سلكته الطوائف المجدولة معاكسا إلى حد بعيد للطريق الذي سلكته الطبقات المتخلفة الأخرى؛ فبعدما ذاقت الأخيرة السلطة السياسية، سعت إلى الحصول على السلطة الإدارية عبر تقرير مندل. أما الطوائف المجدولة، فقد حصلت على نصيب في الإدارة أولا، قبل أن تحول اهتمامها إلى السعي وراء الاضطلاع بدور أكبر على ساحة السياسة الحزبية.
جدول 26-1: الحالة الوظيفية للطوائف المجدولة في حكومة الهند (المصدر: نيراجا جوبال جيال، «التفاوت الاجتماعي والحلول المؤسسية: دراسة عن اللجنة الوطنية للطوائف المجدولة والقبائل المجدولة»، ورقة بحثية مقدمة في مؤتمر «الشبكة المعنية بسياسة جنوب آسيا واقتصادها السياسي» بنجالور، يونيو 2003).
الدرجة الوظيفية
عدد الموظفين المنتمين للطوائف المجدولة
نسبة الوظائف التي يشغلونها إلى إجمالي عدد الوظائف
1965
1995
1965
1995
الدرجة الأولى
318
6637
1,64
10,12
الدرجة الثانية
864
13797
2,82
12,67
الدرجة الثالثة
96114
378172
8,88
16,15
الدرجة الرابعة
101073
2221380
17,75
21,60
الإجمالي
198369
2619986
13,17
17,43
بدأ حزب باهوجان ساماج نشاطه في الانتخابات العامة لعام 1984، فحصد أكثر من مليون صوت ولكنه لم يحز على أي مقاعد، ثم حقق نجاحا أكبر في الانتخابات التالية؛ إذ فاز - على سبيل المثال - بأحد عشر مقعدا عام 1996 وأربعة عشر مقعدا عام 1999. لكن تأثيره الحقيقي كان في انتخابات مجلس الولاية في أوتر براديش؛ ففيها نجح نشطاء الحزب في استمالة جماهير الداليت، محذرين إياهم من أن حزب المؤتمر لا يرغب إلا في متزلفين مطاوعين من رجاله، بينما يعبر حزب باهوجان ساماج عن «العدالة الاجتماعية» بل «التحول الاجتماعي». فلا يمكن إلا لحزب من أبناء الداليت أنفسهم أن يعزز كبرياءهم وكرامتهم وفرصهم.
13
حمل تلك الرسالة أبناء الداليت من المحامين والمعلمين والموظفين إلى إخوانهم الأقل حظا. وإلى جانب عقد الاجتماعات والتجمعات الجماهيرية، نشر هؤلاء المثقفون سلسلة من المنشورات الدعائية أمدت الطوائف الدنيا بتاريخها البطولي الخاص. كانت تلك المنشورات مدفوعة بقناعة مفادها أنه «حتى الآن معظم التاريخ الهندي كتبه البراهمة». ومن ثم صيغ سرد بديل، زعم أن الداليت هم في الواقع من «أنشئوا الثقافات من قبيل هارابا وموهينجو دارو»، ثم جاء الغزاة الآريان الذين «استولوا على أرضهم، وهجروهم قسرا، واختطفوا ثقافتهم، وأوصلوهم إلى حالة من العبودية». وعلى مدار التاريخ قوبل ذلك القمع بمقاومة باسلة من جانب عمال الداليت وفلاحيهم ومطربيهم وشعرائهم؛ فخلدت أمجادهم - الحقيقي منها والأسطوري - في كتيبات طبعت ووزعت بأعداد بلغت مئات الآلاف في أوتر براديش خلال التسعينيات من القرن العشرين.
14
تمكن حزب باهوجان ساماج، بإعمال أداتي التنظيم السياسي ورفع مستوى الوعي جنبا إلى جنب، من قفز خطوات وثابة في أوتر براديش؛ فقد أجريت خمسة انتخابات لمجلس الولاية فيما بين العامين 1989 و2002. وكان عدد المقاعد التي فاز بها الحزب في تلك الانتخابات - بالترتيب - كالآتي: ثلاثة عشر، اثني عشر، تسعة وستين، سبعة وستين، ثمانية وتسعين. وفي النهاية كان قد بلغ معدل فوز ثابت قدره 20٪ من الأصوات. كانت مكاسب حزب باهوجان ساماج تأتي على حساب حزب المؤتمر في معظمها؛ فذلك الحزب القائم على الداليت برز ممثلا أحد الأحزاب السياسية الثلاثة الكبرى في الولاية، في حين كان الحزبان الآخران هما: حزب سماجوادي برئاسة مولايام، وحزب بهاراتيا جاناتا ذو التوجه الهندوسي.
وبعد كانشي رام ، حلت محله في زعامة الحزب إحدى تلامذته التي تدعى ماياواتي. ولدت ماياواتي عام 1956 في نيودلهي، لوالد يعمل في وظيفة حكومية. كانت تطمح إلى الالتحاق بدائرة الخدمة المدنية الهندية المرموقة، لكنها إذ التقت كانشي رام في تجمع جماهيري لاتحاد موظفي الجماعات المتخلفة والأقليات لعموم الهند، قررت دخول مجال السياسة. وقد جذبت الانتباه في المؤتمرات الشعبية بمهاراتها الخطابية، حيث وجهت معظم تعليقاتها الساخرة اللاذعة ضد حزب المؤتمر المنافس. فبحلول التسعينيات كانت قد أصبحت الواجهة العامة لحزب باهوجان ساماج. وإدراكا منها لاستحالة وصول الداليت إلى السلطة بمفردهم، سعت إلى إقامة تحالفات بين مختلف الطوائف الاجتماعية ومختلف الأحزاب. أمضت ماياواتي ثلاث فترات وجيزة في منصب رئيس وزراء أوتر براديش، تزعمت خلالها حكومات ائتلافية شكلت إما بالتعاون مع حزب سماجوادي أو حزب بهاراتيا جاناتا.
15
في السبعينيات كتب الصحفي الخبير بشئون الهند جيمس كاميرون مشيرا إلى أن النساء البارزات في الحياة العامة الهندية جئن جميعا من طبقات عليا ناطقة بالإنجليزية. وقال كاميرون معلقا: «ليس في الماضي ولا الحاضر نموذج لامرأة من طبقة عاملة تشتغل في السياسة الهندية، ويصعب معرفة متى يمكن لهذا أن يحدث.» في غضون عقدين من الزمان، جاء الرد على حديثه - أو ربما الأجدر أن نقول: الدحض له - عندما أصبحت امرأة مولودة لأسرة من الداليت رئيسة وزراء أكبر ولايات الهند تعدادا.
16
وأصبح صوت الداليت مسموعا في أجزاء أخرى من البلاد أيضا؛ فكما كتب عالم الاجتماع أندريه بيتي: «السمة الأهم للطوائف المجدولة في الهند المعاصرة هي زيادة بروزها.» فهي كانت «لا تزال تعاني الاستغلال والقهر والوصم، لكن وجودها في المجتمع الهندي لم يعد تجاهله ممكنا».
17
الداليت الذين كانوا يوما ما خاضعين إلى جانب كونهم مكبوتين، صاروا عارفين لحقوقهم بموجب الدستور الهندي، ومستعدين للمحاربة من أجلها، بل إن رائد الدستور الهندي - بي آر أمبيدكار - أصبح رمز الداليت ومصدر إلهامهم في كل مكان. وكتب أحد علماء الأنثروبولوجيا أن «التماثيل والصور والملصقات واللافتات التي تحمل صورة الدكتور أمبيدكار منتشرة في جميع أنحاء تاميل نادو، والقاعات والمدارس والجامعات المسماة باسمه تيمنا به كثيرة، وحتى معارضو أيديولوجيته لا يجدون مفرا من نسخ صوره والانتساب إلى تراثه».
18
وكان الوضع مشابها في معظم ولايات الاتحاد الهندي الأخرى؛ فحيثما كان سكن الداليت أو عملهم، انتشرت صور أمبيدكار في كل مكان: في أطر أنيقة مطوقة بالزهور في حب، وموضوعة في أماكن بارزة في القرى الصغيرة والمنازل والمتاجر وأماكن العمل. وفي الوقت نفسه - تحت ضغط جماعات الداليت - نصبت تماثيل لأمبيدكار في أماكن عامة في البلدات والمدن: عند التقاطعات المرورية الرئيسية، وأمام محطات القطار، وفي الحدائق العامة. كان الزعيم يصور واقفا في كبرياء وشموخ، ممسكا في يمينه بنسخة من الدستور الذي صاغه.
بعد خمسين عاما على رحيل أمبيدكار، ما زال يبجل في مناطق من الهند لم يزرها قط، وحيث كان مجهولا تماما في حياته؛ فحيثما كان الداليت - أي، في كل منطقة من مناطق الهند تقريبا - كانت ذكرى أمبيدكار، والأهم من ذلك: توقيره.
19
4
صاحب الوعي الذاتي المتنامي لدى الداليت تصعيد في الصراع بين الطوائف الاجتماعية؛ فقد شهد عقد التسعينيات سلسلة من الاشتباكات العنيفة في الريف، كان الداليت هم ضحاياها عادة. كانت جذور النزاع مادية؛ متمثلة في حقيقة أن «الطوائف المتخلفة الأخرى» أو الطوائف العليا كانت تمتلك الأراضي، بينما كان الداليت هم من يزرعونها. إلا أن التعبير عن هذا الصراع كان عادة ما يتخذ صورة أيديولوجية، فقد ارتأى السادة المفترضون للداليت في تجرئهم على المطالبة برفع أجورهم ومعاملتهم على نحو أكثر إنسانية علامة على ضرورة الحط من كبريائهم بسرعة، وبقسوة إن لزم الأمر.
تمثلت إحدى ساحات الصراع في أقاصي جنوب ولاية تاميل نادو الجنوبية، وفيها وقعت الاشتباكات بين التيفر - وهي طائفة اجتماعية وسطى صاعدة من ملاك الأراضي - والداليت الذين لا أرض لهم. كانت من الممكن أن تثور تلك الاشتباكات بسبب خلافات حول الأجور، أو الغيظ من أن الطائفة التي كانت محكوما عليها بكسب عيشها من إزالة القمامة يوما أصبحت الآن ترسل أفرادا منها للعمل في دائرة الخدمة المدنية الهندية. وازداد الداليت جرأة، فبدءوا يرفضون أن يقدم إليهم الشاي في كوب منفصل في مقاهي القرى (وهي عادة كانت متعارفا عليها منذ زمن)، ومقابل كل تمثال ينحته التيفر لزعيمهم المبجل ماتهورا مالينجا تيفر (1908-1965)، كان الداليت يردون بتمثال لأمبيدكار. (في الحقيقة كانت بعض الاشتباكات الأكثر دموية مثارها تحطيم أحد الطرفين لتمثال أقامه الآخر.) كانت الخلافات مادية إلى جانب كونها أيديولوجية، وكانت متكررة وتكلفتها باهظة؛ فخلال عقد واحد، أسفرت الصراعات الطائفية في تاميل نادو عن أكثر من 100 حالة وفاة.
20
وقعت صراعات مشابهة في شمال الهند. يمكننا ضرب مثال في هذا الصدد بواقعة حدثت في قرية جهاجر بولاية هاريانا، حيث ضربت مجموعة من الداليت حتى الموت مساء يوم 15 أكتوبر لعام 2002. في وقت سابق من ذلك اليوم، كان الضحايا ماضين في طريقهم إلى السوق لبيع جلود أبقار جمعوها، ووفقا لإحدى الروايات، أوقفتهم الشرطة، التي طلبت منهم إثبات كيفية حصولهم على تلك الجلود، ووفقا لرواية أخرى (أقل ترجيحا)، توقف الداليت لقتل بقرة تسير في الطريق ثم سلخوها. وكانت تلك الرواية الأخيرة هي التي ذاعت، فقد انتشرت شائعة ذبح بقرة في محيط الواقعة، مثيرة مشاعر غضب؛ إذ إن البقر يعتبر مقدسا في نظر الطوائف العليا من الهندوس، فهجمت مجموعة كبيرة من الجماهير الغاضبة على قسم الشرطة، وجروا «المعتدين» تحت سمع الشرطة وبصرها، وضربوا ضربا مبرحا وقتلوا في الشارع الرئيسي نفسه.
21
لم تكن الفظائع المرتكبة في حق الداليت حكرا على الطوائف الهندوسية فحسب بأي حال؛ ففي البنجاب، كان السيخ الجات ملاك الأراضي مستائين من تنامي ثقة طوائف العمال والحرفيين بنفسها. فمنذ مطلع القرن العشرين، حاربت طائفة الداليت السيخية من أجل الحصول على حصة من الأرض ودخول الأضرحة المقدسة (وكلاهما كانا تحت سيطرة الجات)؛ فسعى بعض الداليت إلى الهرب عبر ديانة خاصة بهم؛ هي: آدي دهارم. ثم في فترة لاحقة، فتح الازدهار الناجم عن الثورة الخضراء آفاقا جديدة للطبقات الدنيا: من عمل في البلدات والمصانع، وفرص لإنشاء أعمالهم التجارية الخاصة. وإضافة إلى ذلك فقد تزايد عدد المهاجرين من السيخ، وكان المهاجرون يرسلون المال إلى أهلهم في القرى.
22
مرة أخرى نجد مثالا معبرا في هذا الصدد تمثل في نزاع على إدارة مزار في قرية تلهان، على أطراف مدينة جالاندهار الصناعية. كان ذلك المزار قد أقيم تخليدا لذكرى الحرفي الذي أصبح شهيدا، المدعو بابا نيهال سينج. كان السيخ من كافة الطوائف الاجتماعية يتعبدون في ذلك المزار، ويقدمون كما من العطايا جعل ذلك المعبد أحد أغنى معابد المنطقة. (قدر كم العطايا المجمعة بنحو 50 مليون روبية سنويا.) إلا أن لجنة إدارة المعبد كانت تحت سيطرة الجات، فكانوا هم من يقررون كيفية إنفاق الأموال؛ سواء على تجميل المعبد، أم على بناء طرق إلى القرية، أم على الولائم. ولطالما طالب الداليت - دون استجابة - بوجود ممثلين لهم في لجنة الإدارة، وفي النهاية قرروا رفع المسألة إلى المحكمة؛ ففي يناير 2003، أثناء الاستماع إلى الدعوى، أعلن الجات بدء مقاطعة اجتماعية للداليت، فنظم الداليت بدورهم سلسلة من الإضرابات الاحتجاجية. وبعد ستة أشهر، حدث اشتباك عنيف بين الجماعتين في مهرجان بالقرية؛ ومن ثم تدخلت الإدارة للتوصل إلى حل وسط؛ فمنح اثنان من الداليت عضوية في لجنة الإدارة، ولكن كان عليهما الالتزام بالتقليد السيخي المتمثل في إطلاق الشعر واللحية.
23
5
لم يتعرض الداليت لقهر مثل الذي ذاقوه في بيهار، ولم يكن ثمة مكان امتلكوا فيه قدرة تنظيمية أكبر تتيح لهم المقاومة منها، ولم يشهد مكان آخر صراعات بين الطوائف الاجتماعية بتلك الوتيرة والمرارة والدموية.
على مدار التاريخ، كانت المنظومة الزراعية في شرق الهند إقطاعية بصورة صارخة. في غرب البنغال المجاورة خففت الإصلاحات الزراعية من وطأة أوجه التفاوت المشابهة، ولكنها في بيهار مستمرة حتى وقتنا الحاضر. كانت الطوائف الاجتماعية العليا والوسطى تمتلك الأرض، والداليت يفلحونها. إلا أنه منذ سبعينيات القرن العشرين، تبنى الراديكاليون الماويون قضية الداليت. فعلى الرغم من أن هؤلاء الناكسل كانوا قد اختفوا تقريبا من غرب البنغال - حيث بدأت حركتهم قبل عقد من الزمان - تنامت قوتهم باطراد في مناطق وسط بيهار، فشكلوا جبهات للعمالة الزراعية طالبت برفع الأجور، وتقليل ساعات العمل، ووضع حد للقسر الاجتماعي (الذي تضمن في بعض المناطق حق مالك الأرض في فض بكارة عروس من طائفة اجتماعية دنيا ليلة زفافها). وطالبوا أيضا بحصة من الأراضي المشاع في القرية، ونصيبا من الموارد الطبيعية مثل أسماك المياه العذبة، التي كانت نظريا ملك المجتمع كله، ولكنها كانت في الغالب حكرا على الطوائف الاجتماعية العليا وحدها دون غيرها.
24
بثت تعبئة الراديكاليين اليساريين قدرا كبيرا من احترام الذات في نفوس الطوائف الدنيا في وسط بيهار. فإذ تنقل الصحفي موكول في أنحاء الولاية عام 1999، لاحظ ظهور ثقة مستجدة فيما بين الداليت؛ فقد قابلوا الزوار باعتبارهم مساوين لهم اجتماعيا والتقوهم بتحية «نماسكار بهاي جي» (أي: «مرحبا يا أخي»). فخلافا للماضي، لم يعد الداليت «يضمون أيديهم، أو يحنون قاماتهم في خضوع، أو ينادون أحدا بألقاب «حضرة» أو «صاحب» أو «سيدي» أو أي شيء من هذا القبيل؛ فتلك الكلمة المستحدثة (بهاي جي)، تتردد في جميع أنحاء المنطقة من قرية إلى أخرى وتأسر القلب».
25
وكتبت عالمة الأنثروبولوجيا بيلا بهاتيا أن «حس الكرامة هذا هو أحد الإنجازات الرئيسية لحركة الناكسل». وتضمنت الإنجازات الأخرى إنهاء السخرة وإحداث ارتفاع كبير في معدل الأجور. فقد تضاعف معدل الأجر - الذي كان يدفع عينيا في المعتاد - وإضافة إلى ذلك تحسنت جودة الحبوب كثيرا عن ذي قبل، والعمال الذين كانوا يشغلون فيما مضى اثنتي عشرة ساعة متواصلة، أصبحوا يسمح لهم بأخذ فترات راحة منتظمة. ولأول مرة في التاريخ المسجل وغير المسجل، تلقت النساء الأجر ذاته (والمعاملة ذاتها) كالرجال.
إلا أن الهدف طويل الأجل لهؤلاء الراديكاليين كان الإطاحة بالدولة الهندية؛ فكانت الأنشطة المعلنة والخفية والقانونية وغير القانونية تتم جنبا إلى جنب؛ إذ كانوا ينظمون المسيرات والإضرابات من ناحية، ويجمعون الأسلحة ويشنون الهجمات على أعدائهم من ناحية أخرى. وكان للناكسل جيش أحمر خاص بهم، تدرب أفراده على استخدام البنادق والقنابل اليدوية والألغام الأرضية. وكان لهم أيضا فرق تطهير، درب رماتها على اغتيال ملاك الأراضي زائدي البغي.
26
استجابت النخبة الحاكمة بإنشاء جيوش خاصة بها. إذ كان لكل طائفة من ملاك الأراضي جيش خاص؛ فأنشأ البهوميهار جيش رانبير ، بينما أنشأ الكورمي جيش بهومي، والراجبوت جيش كونوار، والياداف جيش لوريك. ويتميز تاريخ بيهار منذ نحو عام 1980 إلى الآن بمذابح بشعة تقترفها إحدى الطوائف أو الطبقات ضد أخرى، فأحيانا كان جيش البهوميهار أو الياداف يطوق مجموعة من الداليت ويحرقهم، وفي أحيان أخرى كان الناكسل يغيرون على إحدى القرى الصغيرة للطوائف الاجتماعية العليا ويطلقون الرصاص على قاطنيها. فطبقا لإحدى القوائم (غير المكتملة بالتأكيد)، شهد عاما 1996 و1997 ثلاث عشرة من تلك الحوادث، قتل فيها أكثر من 150 شخصا.
27
وقد كمن وراء ذلك العنف كراهية وحشية تكاد تكون عسيرة على الفهم في بعض الأحيان؛ فقد كتب أحد ملاك الأراضي من البهوميهار: «أهم ما في سيرتي هو عدد العمال الداليت الذين تسببت في قتلهم.» وهتف الناكسل: «قصاص الثمانية منا ثمانون منكم.»
28
بحلول منتصف التسعينيات، لم يعد للدولة وجود ظاهر في أغلب أنحاء بيهار على الإطلاق. فكما أخبر أحد المسلحين من طائفة اجتماعية عليا صحفيا زائرا: «رجال الشرطة مخنثون. حري بهم أن يرتدوا الأساور والساري ... فإن قتل أحد تحت سمعهم وبصرهم في أي مكان في هذه الأنحاء، لا يتجرءون على تحرير محضر بالواقعة. لا توجد هنا حكومة ولا شرطة؛ فقط نحن الرانبير والناكسل.»
29
ظهرت القوة المتنامية للناكسل في بيهار بجلاء في هجوم شن على بلدة جيهان أباد في نوفمبر 2005. فقد اجتاح مئات من الرجال المسلحين البلدة، حيث أمطروا المكاتب الحكومية بالقنابل، واقتحموا السجن، وحرروا 200 سجين، معظمهم من حزبهم، ومنهم قائد المنطقة. وكان مما يسر العملية غياب جزء كبير من قوات شرطة المنطقة للخدمة في الانتخابات. على الرغم من ذلك فقد أبرزت تلك العملية هشاشة الولاية التي أنشئت على نحو قانوني في بيهار؛ فجيهان أباد تبعد ستين كيلومترا فحسب عن العاصمة باتنا.
30
6
نشط الناكسل أيضا بين القبائل المجدولة (أو الأديفاسي)، وهي الفئة الأخرى التي أقر دستور الهند بتعرضها للحرمان عبر التاريخ. كان الأديفاسي يعيشون في أكثر المناطق ثراء بالموارد في الهند؛ فبها كانت أفضل الغابات، وأثمن المعادن، وأكثر الأنهار فيضا. وعلى مر السنين، كانوا قد فقدوا كثيرا من هذه الموارد لصالح الدولة أو الأغراب عن أرضهم، واجتهدوا في محاولة الحفاظ على ما تبقى.
كان من الوجهات المهمة التي استهدفتها النعرة القبلية إدارة الغابات، التي حظرت حصولهم على الأخشاب ومنتجات الغابات من غير الأخشاب؛ مثل: العسل والأعشاب، التي كانوا يجمعونها ويبيعونها لكسب عيشهم. وفي ولاية ماديا براديش، كان الاتجار في أوراق التندو (التي تستخدم لعمل لفائف التبغ أو السجائر المحلية) مربحا بصفة خاصة. كانت الحكومة قد سلمت زمام تلك التجارة إلى متعهدين من القطاع الخاص، ولكن عملية الجمع الفعلي للأوراق كان يقوم بها أفراد من القبائل، وكان السعر الذي يتقاضونه نظيرها زهيدا، بلغ ثلاثين روبية لكل 5 آلاف ورقة. وفي مطلع التسعينيات، طالب القبليون برفع سعرها، وعندما رفض مطلبهم، أوقفوا حركة المرور على الطرق السريعة الرئيسية في الولاية.
31
كان ثمة جماعات متباينة من النشطاء في مناطق الأديفاسي؛ بعضهم من الغانديين، وآخرون ماركسيون، وتضمنت القضايا التي تبنوها الحق في الأراضي والغابات وتوفير المدارس والمستشفيات اللائقة. لا شك أن تلك الجماعات كانت هي الأكثر تعرضا للإهمال من جانب الدولة الهندية، وكذلك للاستعلاء. فقد صنف النظام الاستعماري مجموعة من المجتمعات القبلية باعتبارها «إجرامية»؛ حيث تمثلت جريمتهم في أنهم لا يعيشون في قرى مستقرة، وإنما يتنقلون من مكان لآخر بحثا عن مصدر للكسب. بعد الاستقلال، أزيلت تلك القبائل من ذلك التصنيف، ولكنها ظلت مضطهدة. فقد عرف عن الموظفين المعينين في المناطق القبلية ازدراؤهم للأشخاص الذين يتقاضون راتبهم نظير خدمتهم. فتلك القبائل - التي اتسمت بالهدوء قبلا - اتجهت إلى الاحتجاج، تحت تأثير النشطاء، وترتب على ذلك نشوب سلسلة من الاشتباكات مع الشرطة.
32
تمثل التأكيد الأشهر على وضع القبائل خلال تسعينيات القرن العشرين في حركة «أنقذوا نرمادا». لم تكن زعيمة الحركة - ميدها بتكار - نفسها من أبناء القبائل، وإنما كانت إخصائية اجتماعية تربت وتحولت إلى الراديكالية في بومباي. كانت تلك الحركة تستهدف وقف بناء سد ضخم على نهر نرمادا كان من شأنه أن يشرد نحو 200 ألف شخص، معظمهم من الأديفاسي في الأصل. فنظمت بتكار أبناء القبائل في سلسلة من المسيرات العامرة بالألوان إلى موقع السد في جوجارات، وإلى مدينة بوبال (عاصمة ماديا براديش، الولاية التي كان معظم الأفراد المهجرين ينتمون إليها)، وإلى عاصمة البلاد - دلهي - لطلب العدالة من حكومة الهند. وأقدمت زعيمة الحركة نفسها على الصوم عن الطعام لفترة طويلة عدة مرات بغية جذب الانتباه إلى معاناة جماعتها.
33
لم يفلح كفاح بتكار في وقف بناء ذلك السد بعينه، ولكنه جذب الانتباه على نطاق واسع بالفعل إلى سجل الحكومة المخزي في إعادة توطين الملايين الذين يهجرون من منازلهم بسبب المشروعات التنموية. إلا أن الاعتراف الرسمي بمعاناة الأديفاسي طويلة الأمد جاء عبر إنشاء ولايتين جديدتين داخل الاتحاد عام 2000؛ هما: جهارخاند وماديا براديش، حيث اقتطعت الأولى من المناطق القبلية في بيهار، بينما اقتطعت الثانية من المناطق القبلية في تشاتيسجار. وشكلت أيضا ولاية أوتراخند، من المناطق الجبلية في أوتر براديش، الغنية أيضا بالموارد الطبيعية المعرضة لاستغلال قلة من أصحاب المصالح ذوي النفوذ.
7
ننتقل الآن من الصراعات في قلب الهند إلى الصراعات على الأطراف، التي تصدرتها البقعة المتقرحة القديمة: كشمير. فبعدما ساد الهدوء طوال عقد أو اثنين من الزمان، تفجر الصراع في الوادي خلال الشهور الأولى من عام 1989؛ ففي نوفمبر من ذلك العام، حل في بي سينج محل راجيف غاندي رئيسا للوزراء، وعين سينج سياسيا كشميريا من «التيار السائد» - يدعى مفتي محمد سعيد - في منصب حيوي؛ هو منصب وزير الداخلية. كانت تلك بادرة القصد منها إرضاء مسلمي الهند بصفة عامة ومسلمي وادي كشمير بصفة خاصة؛ فبتولي واحد منهم المسئولية عن القانون والنظام، كان من المؤكد أن يخف بطش الشرطة بهم عن ذي قبل.
سرعان ما وضعت التجربة محل الاختبار؛ ففي 8 ديسمبر 1989، اختطفت طبيبة شابة أثناء سيرها إلى عملها في سريناجار، لكنها لم تكن طبيبة عادية؛ فقد كانت تلك هي ربية سعيد، ابنة وزير الداخلية. وقد اختطفها متطرفون من جبهة تحرير جامو وكشمير، وطلبوا إطلاق سراح خمسة نشطاء بعينهم من جبهتهم مقابل تحريرها. فلم يرغب رئيس وزراء الولاية، فاروق عبد الله، في الرضوخ لتهديدهم، ولكن رئيس الوزراء في دلهي تخطاه، وفي 13 ديسمبر أطلق سراح المتطرفين المسجونين، ورحب بهم جمهور كبير من الناس، وساروا بهم منتصرين في شوارع سريناجار. وكان من الشعارات التي هتفوا بها، شعار مقلق بصفة خاصة: «إذا أردت إنفاذ مشيئة الرب، فلترفع الكلاشنكوف.» وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، عادت ربية سعيد إلى عائلتها.
34
اعتبر رضوخ الحكومة نصرا عظيما للمتطرفين، وتبع ذلك حوادث اختطاف أخرى؛ لمراسل في إذاعة بي بي سي، ومسئول كبير، وابنة أخرى لسياسي بارز. ونفذت عمليات اغتيال أيضا؛ فكان ممن قتلوا نائب رئيس جامعة كشمير ورئيس محطة التليفزيون المحلية.
35
في هذه المرحلة - نحو عامي 1989 و1990 - سجلت الاستخبارات الهندية وجود ما يصل إلى اثنتين وثلاثين جماعة انفصالية نشطة في الوادي، كان لاثنتين منها أهمية خاصة: الأولى هي جبهة تحرير جامو وكشمير، التي طالبت بإقامة دولة لجامو وكشمير مستقلة غير طائفية، يتمتع فيها الهندوس والسيخ والمسلمون بنفس الحقوق، وعبر الهتاف الشعبي «ما مطلبنا؟ الحرية! الحرية!» عن هدفها. أما الجماعة الثانية فكانت «حزب المجاهدين»، التي كانت أكثر ميلا (كما يتضح من اسمها) إلى إقامة نظام إسلامي، ولم تكن معادية لفكرة الاندماج مع باكستان. تزعم تلك الجماعة سيد صلاح الدين، وهو الاسم المستعار لسياسي كان ديمقراطيا ذات يوم وخاض انتخابات 1987 ولكنه خسر بسبب تزوير صارخ للأصوات؛ فآنذاك تحول إلى حمل السلاح، وإلى باكستان، آخذا معه شبابا آخرين كثرا.
36
عملت كل من جبهة تحرير جامو وكشمير وحزب المجاهدين على جمع مجموعة واسعة من الأسلحة، قتلوا بها أهدافا سهلة وصعبة على حد سواء، ونهبوا بنوكا، وألقوا قنابل يدوية أمام أقسام الشرطة. ثم ازدادت تصرفاتهم جرأة؛ ففي نوفمبر 1990، أطلقوا صاروخا على محطة إذاعة «أول إنديا راديو». وآنذاك قررت الحكومة اتخاذ موقف أكثر شدة، فأرسلت قوات شبه عسكرية وبعض وحدات الجيش للمساعدة على حفظ النظام. وبحلول عام 1990، وصل عدد أفراد الجيش الهندي في الوادي إلى 80 ألفا؛ ومن ثم «نحيت محاولة العثور على حل سياسي جانبا لصالح تبني سياسة قمعية».
37
تمثل عناوين الصحف التالية انعكاسا كاشفا للوضع في كشمير، وكلها من عام 1990:
الشباب في طليعة المساعي الانفصالية
تفجيرات تهز أرجاء كشمير
متطرفون كشميريون يشنقون رجال شرطة في سريناجار
باكستان مسئولة عن التمرد في جامو وكشمير
الجيش ينضم إلى المعركة ضد المتطرفين في كشمير
استدعاء الجيش إلى أنانتنج، وفرض حظر التجوال
قوات الأمن تقتل 81 متطرفا
مقتل 3 أشخاص في إطلاق نار على مسيرة بجامو وكشمير
إضراب عام في كشمير، والعثور على جثث مقطوعة الرءوس
اضطرابات جامو وكشمير تحصد 1044 نفسا حتى سبتمبر «القوة الشعبية» في سريناجار: رفع حظر التجوال وإغلاق المتاجر
حرق العلم الهندي في أحد المكاتب التابعة للأمم المتحدة
500 ألف يحضرون تجمع «الحرية» في جامو وكشمير «الاستقلال وحده هو القادر على مداواة جروح كشمير»
38
علق سكان وادي كشمير في مرمى النيران، وإن كانوا أكثر ميلا - كما تبين من عناوين الأنباء الأخيرة - لجانب المتطرفين عن قوات الأمن، وحتى أولئك الذين كان من الممكن أن يظلوا على الحياد أقنعوا بالانحياز إلى صف دون الآخر عقب اغتيال رجل الدين الجليل ميرواعظ محمد فاروق في مايو 1990، فقد شيع جثمانه حشد هائل من الناس إلى مثواه الأخير. وفي مكان ما، على نحو أو آخر - فالتفاصيل لا تزال مبهمة - اشتبكوا مع فصيلة من قوات الشرطة الاحتياطية المركزية، الذين انتابتهم حالة من الذعر فأطلقوا النار على المشيعين، ليقتلوا ثلاثين ويصيبوا 300 آخرين على الأقل. كان جليا أن مغتالي ميرواعظ مأجورون لباكستان، ولكن مع انتهاء اليوم كانت الهند قد خسرت الحرب الدعائية خسارة محققة.
39
تفاقم شعور الكشميريين بالاغتراب إثر سلوك من يبدو ظاهريا أنهم أرسلوا لحمايتهم، فقد كان جنود الهند - لا سيما قوات الشرطة الاحتياطية المركزية - ميالين إلى معاملة معظم المدنيين باعتبارهم متعاطفين مع الإرهاب. وقد وثقت منظمة العفو الدولية أعمال قوات الشرطة الاحتياطية المركزية،
40
وكذلك وثقها نشطاء حقوقيون هنود. وفي ربيع عام 1990، طاف فريق برئاسة الفقيه القانوني الموقر في إم تاركوندي في أنحاء الوادي، حيث تحدث أعضاء الفريق إلى موظفين حكوميين ومتطرفين وقرويين عاديين، وسجلت حالات كثيرة من «تجاوزات» الشرطة والجيش؛ من ضرب (للأطفال في بعض الأحيان )، وتعذيب (لرجال أبرياء من أي تهم)، وقتل خارج نطاق القانون (في إطار مواجهات مفتعلة)، وهتك أعراض النساء؛ فقال فريق تاركوندي معلقا: «من المستحيل أن نسرد جميع الحالات التي أبلغنا بها.» وأضاف:
لكن النمط العام واضح. فالمتطرفون يرتكبون أعمالا رعناء وقوات الأمن ترد بالمثل. وفي هذا الإطار يتعرض عدد كبير من الأبرياء للمعاملة الخشنة والضرب والمضايقات والقتل. في بعض الحالات كان الضحايا يقعون في مرمى النيران، وفي حالات أكثر بكثير لم يكونوا متورطين في أي أحداث بالمرة ولم يكن ثمة تبادل إطلاق نار. وعادة ما يزيد هذا الوضع الناس نفورا؛ فالمسلمون يزعمون أنهم يقتلون ويدمرون لأنهم مسلمون.
41
8
في عام 1990 - كما عام 1950 - سببت العناصر الراديكالية في كشمير متاعب جمة للساسة في دلهي، ومثلها أيضا - وهو ما ربما كان متوقعا - كانت العناصر الراديكالية في شمال شرق الهند.
في آسام، الولاية الكبرى في المنطقة، كان قد تم التوصل إلى اتفاق مع قبائل بودو، سمح بإنشاء «مجلس حكم ذاتي» في المناطق التي تشكل فيها قبائل بودو أغلبية.
42
غير أن جبهة التحرير المتحدة لآسام ذات الميول الانفصالية كانت نشطة للغاية؛ فكانت بعض مناطق الولاية تحت السيطرة التامة للإدارة الرسمية، بينما كانت السيطرة للجبهة في مناطق أخرى؛ فأصحاب مزارع الشاي كافة تقريبا كانوا يدفعون مبلغا سنويا للمتمردين، حسب عدد العمال المعينين في المزرعة والأرباح المتحققة. وبغية زيادة حجم ثرواتهم، كان المتمردون يشنون غارات على البنوك؛ فأرسلت وحدات من الجيش لإعادة النظام؛ حيث أسرت وقتلت بعض الكوادر العليا في الجبهة، فيما عبر آخرون منهم الحدود إلى بنجلاديش.
43
كانت التسعينيات عقدا مليئا بالاضطرابات بالنسبة إلى ولاية تريبورا أيضا؛ فقد شنت جماعات مسلحة تحارب من أجل حقوق القبائل هجمات منتظمة على مستوطنات البنغاليين النازحين. وهنا أيضا كان يصعب أحيانا التمييز بين التمرد والإجرام الخالص؛ فكما كتب أحد الباحثين عام 2001: «قتل الأبرياء والاختطاف والابتزاز جانب ثابت من الحياة في تريبورا، وذلك منذ سنين طويلة.» فقد سجلت قرابة ألفي عملية قتل بين عامي 1993 و2000، لرجال أمن ومتمردين وفي أغلب الأحيان لمدنيين.
44
كان السلاح منتشرا في كل مكان في مانيبور أيضا، وهي ولاية أخرى صغيرة جدا كانت مشيخة مستقلة في الماضي. وهنا كان العنف نتاج الخصومات العرقية بالأساس؛ فالأغلبية السكانية المتمثلة في جماعة الميتي، التي سكنت الوادي، اشتبكت مع القبائل في المرتفعات. وكان ثمة انقسامات في المرتفعات أيضا، بين قبيلتي تانجكول ناجا والكوكي بالأساس؛ ففي مايو 1992 أحرق متطرفون من قبائل ناجا قرى تابعة للكوكي، لتبدأ بذلك حلقة قاتلة من المذابح والمذابح المضادة. وفي حين تناحرت تلك الجماعات فيما بينها، كانت كلها معادية للدولة الهندية، فكان بعض الكوكي، وعدد أكبر من التانجكول والميتي، يحلمون بتشكيل دولة مستقلة لكل منهم.
45
وفي عدة بلدات في المنطقة، حظر الانفصاليون عرض الأفلام الهندية، التي مثلت قناة هائلة الشعبية لنقل ثقافة شبه القارة الهندية، حيث كان ذلك جزءا من تعريفهم لأنفسهم في تحد على أنهم «غير هنود». وهذا التعريف السلبي استلهمه كل من جبهة التحرير المتحدة لآسام ومتطوعي تريبورا الوطنيين وجيش الكوكي الوطني ومتمردي الميتي، من قبائل ناجا، التي نشأ على يديها التمرد الأول في الشمال الشرقي. صحيح أنه عام 1962 تصالح أحد فصائل ناجا مع حكومة الهند، وكذلك فعل فصيل آخر عام 1975. ولكن أحد الفصائل ظل متشبثا في عناد بفكرة دولة ناجالاند المستقلة ذات السيادة. كان ذلك الفصيل هو مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني، بزعامة إيساك سو وتي مويفا.
كان لدى مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني قاعدة متينة مكونة من عدة آلاف مقاتل مدرب تدريبا جيدا، مقرهم قواعد في بورما، كانوا يشنون منها غارات عبر الحدود ويشتبكون مع الجيش الهندي. داخل ناجالاند حظي المتمردون بالدعم والاحترام وربما الهيبة أيضا. وعلى أي حال، فقد كانوا يستمدون تمويلهم من تبرعات تجمع من عامة الناس؛ فحتى الموظفون الحكوميون كانوا يدفعون «ضريبة» شهرية للجماعات السرية، فكانت تلك مفارقة عجيبة وإن كانت هندية بامتياز؛ تمثلت في دعم الدولة لجماعة مكرسة لتدميرها.
ولكن في منتصف التسعينيات، تمكنت مجموعة مكونة من جماعات كنسية ومنظمات مجتمع مدني تدعى «ناجا هوهو»، من إقناع المتمردين والحكومة بإعلان وقف إطلاق النار. وفي عام 1997، سكنت المدافع، وبدأ الطرفان المشاورات. في البداية، عقدت المحادثات في بانكوك وأمستردام، ولكن مويفا وسو وافقا في النهاية على زيارة الهند، وهناك التقيا رئيس الوزراء وسافرا إلى الشمال الشرقي، لكنهم فشلوا في التوصل إلى اتفاق؛ فقد كان ثمة عقبتان هائلتان هما: إصرار المتمردين على أن تكون التسوية المبرمة خارج إطار دستور الهند، ومطالبتهم بدمج الأجزاء التي تعيش فيها قبائل ناجا في مانيبور وآسام وأروناجل براديش مع ولاية ناجالاند القائمة لتشكيل «ناجاليم» (ناجالاند الكبرى).
في نوفمبر 2007، كان وقف إطلاق النار مستمرا منذ تسعة أعوام، إلا أن التوصل إلى حل مرض للطرفين إن لم يكن مستحيلا، فقد ظل عصيا على الأقل؛ فحكومة الهند تقول إنها سوف تمنح قبائل ناجا أكبر قدر ممكن من الحكم الذاتي، ولكن في إطار دستور الهند، أما مجلس ناجالاند الاشتراكي الوطني فيصر على أن أي حل لا بد أن يقر بسيادة ناجا؛ فحسب زعمها «ناجالاند لم تكن يوما قطعة من الهند سواء بغزو من جانب الهند أو برضا أبناء ناجا».
46
ويطالب المجلس أيضا بالإبقاء على جيش منفصل لناجا، وأن أي شيء عدا ذلك سيكون خيانة لذكرى من ماتوا في سبيل القضية، ففي القرية التي ولد فيها فيزو، يوجد نصب تذكاري حجري منقوش عليه: «هؤلاء رجال ونساء خونوما الذين ضحوا بحياتهم في سبيل رؤية دولة ناجا الحرة. إننا نذكرهم ولا نزال متمسكين برؤيتهم.»
47
لقيت المطالبة بناجاليم مقاومة من الولايات التي سيكون عليها التنازل عن بعض أرضها لذلك الكيان الجديد. فقد عارض الميتي في مانيبور المقترح بشدة، زاعمين أن ولايتهم قائمة كإقليم مستقل متحد منذ أكثر من ألف عام. وفي صيف عام 2001، أشعل راديكاليون من الميتي النار في مبان حكومية وهاجموا نقاط شرطة احتجاجا على المحادثات الجارية مع قبائل ناجا، ووضعت ملصقات على جدران المنازل والأعمال تقول: «لا تفككوا مانيبور/لا تفاوض على أرضنا.»
48
الشمال الشرقي من الهند منطقة عنف وصراع، وهي من ثم منطقة هجرة أيضا. بعض تلك الهجرة يعبر الحدود الوطنية؛ مثل: الهجرة المستمرة من بنجلاديش، بينما يتنقل أشخاص آخرون داخل المنطقة؛ بعضهم بحثا عن عمل، وبعضهم هربا من الاضطهاد العرقي. ويوجد أيضا عدد متزايد من «اللاجئين البيئيين»؛ ففي ستينيات القرن العشرين، أدى بناء سد عال في المناطق الجبلية من تشيتاجونج في باكستان الشرقية إلى تهجير نحو 60 ألفا من التشاكما. ونظرا لكونهم مواطنين من الدرجة الثانية على أي حال (لأنهم بوذيون في دولة أغلبيتها مسلمة)، لجئوا إلى ولاية أروناجال براديش الهندية، حيث يعيشون كمواطني درجة ثانية أيضا؛ إذ تحرمهم الحكومة الهندية من الحصول على جوازات سفر. وفي الوقت نفسه، كان بناء سلسلة من السدود في أروناجال وناجالاند سوف يفضي إلى تشريد 100 ألف من سكان القرى، وكان على هؤلاء أيضا الانتقال إلى مكان آخر، بحثا عن مورد أساسي شديد الندرة في جميع أنحاء جنوب آسيا، وهو: الأراضي الصالحة للزراعة.
49
ثمة وجود عسكري ضخم في الشمال الشرقي، فولايات تلك المنطقة تتباين حدودها بين الصين، التي خاضت معها الهند حربا باهظة التكلفة، وبنجلاديش، التي كانت علاقة الهند بها متقلبة للغاية، وبورما. ولكن وجود هذا العدد من القوات هناك لا يعزى إلى الأمن الخارجي فحسب، فهي ضرورية أيضا من أجل الحفاظ على تدفق السلع والخدمات الأساسية، وحماية الطرق والسكك الحديدية، وأخيرا وليس آخرا: قمع التمرد والمقاومة المسلحة. فقد قال أحد رؤساء وزراء مانيبور، كان قد أمضى سنوات طويلة في ذلك المنصب: «ليس لنا رأي في مواجهة الجيش، فهم لديهم أسلوب عمل خاص بهم، لا يخبروننا به ولا يستمعون إلينا، على الرغم من أنه من المفترض أنهم يعاونون الإدارة المدنية.»
50
في الشمال الشرقي، يعمل الجيش بموجب قانون الصلاحيات الخاصة للقوات المسلحة، الذي يتيح لضباطه وجنوده حصانة ضد الملاحقة القضائية من جانب المحاكم المدنية، ما لم تستصدر تصريحا خاصا من الحكومة المركزية. وحيث إن القانون يتيح له أيضا «إطلاق النار أو استخدام القوة بأي صورة أخرى إلى حد التسبب في الوفاة» على أي شخص يشتبه في خرقه القانون، فقد شجع السلوك العدواني.
لسنوات طويلة ظلت الجماعات الحقوقية تطالب بإلغاء ذلك القانون. احتلت نساء مانيبور موقع الصدارة بين تلك الجماعات؛ إذ طالما نشطن في معارضة العنف الذكوري بأشكاله كافة. وتشتمل الولاية أيضا على عشرات المجموعات المحلية المدعوة «ميرا بايبيس» (حاملات الشعلة). قادت تلك المجموعات حملات ناجحة ضد إدمان الكحول، قبل أن تحول انتباهها إلى تجاوزات قوات الأمن، فطالبت القوات بترك المدارس والأسواق، والكف عن أخذ الفتية الصغار متى شاءوا، وفتح سجونهم ومراكز الاحتجاز لديهم للتفتيش العلني.
51
تجددت تلك المطالب في يوليو 2004، عندما أخذت ربة منزل في مانيبور من منزلها بتهمة التحريض على الإرهاب، ثم عذبت واغتصبت وقتلت، وتركت جثتها لتتعفن على جانب الطريق؛ فأثارت الواقعة موجة من الاحتجاجات الغاضبة في وادي مانيبور، فقد سارت مجموعة من النساء إلى قاعدة الجيش في إمفال، حيث خلعن ثيابهن وغطين أنفسهن بلافتة بيضاء تحمل الشعار «يا جيش الهند، خذ لحمنا». وأشعل زعيم طلابي النار في نفسه يوم عيد الاستقلال، تاركا رسالة كتب فيها: «الأفضل أن يقتل المرء نفسه بدلا من أن يموت على أيدي قوات الأمن بموجب هذا القانون. أسير بهذه القناعة متصدرا الناس كشعلة آدمية.» وصامت طالبة عن الطعام لأجل غير مسمى، وعندما نقلت إلى مستشفى، ظلت مضربة عن الطعام. وبعد عدة أعوام كانت طريحة الفراش، تتلقى تغذية جبرية من الدولة لأنها قالت إنها تؤثر الموت على الحياة في ظل نظام يديره الجيش.
52
9
في مايو من عام 2000، وصل تعداد الهند إلى مليار نسمة، واختارت الحكومة آساتها أرورا - طفلة ولدت في دلهي - لتكون رسميا «الطفلة المليار»، فاجتذب مجيئها إلى الحياة جمهرة متحمسة من الصحفيين ومصوري التليفزيون، الذين اعتلوا الأسرة والأنضاد لكي يلتقطوا صورا أفضل لها، فقال أحد الصحفيين معلقا: «الطفلة المليار استقبلتها مليارات الومضات من عدسات الكاميرات، والأطباء يقولون إن جلدها ربما يكون تأثر.»
53
كان اختيار آساتها حصيفا نظرا لأن الأمم المتحدة كانت قد احتفلت مؤخرا بعام الفتاة، إلا أنه كان ثمة تناف صارخ بين اختيارها وأسلوب معاملة الفتيات - سواء اللاتي ولدن أو اللاتي لم يولدن بعد - في مناطق كثيرة من الهند، ولا سيما الريف المحيط بدلهي. فخلال القرن العشرين ظلت نسبة الإناث إلى الذكور تنخفض باطراد؛ فهبطت من 972 أنثى مقابل ألف ذكر عام 1901، إلى 947 عام 1951 ثم 927 عام 1991. وكان معدل وفيات الأطفال متفاوتا بدرجة كبيرة حسب النوع؛ ففي معظم البيوت الهندية، كان البنون يتلقون معاملة أفضل من البنات؛ فكانوا يحصلون على تغذية أفضل وعلى نصيب أكبر من الرعاية الصحية، وكانوا يرسلون إلى المدارس بينما تكدح شقيقاتهم في الحقل والغابة. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، أدت التطورات في التكنولوجيا الطبية إلى زيادة فتك التمييز الذي كان قاتلا أصلا؛ فاختبارات تحديد نوع الجنين الجديدة أتاحت للآباء إجهاض الأجنة الإناث. وعلى الرغم من حظر تلك الاختبارات بمقتضى القانون، فقد كانت واسعة الانتشار في العيادات الطبية في جميع أنحاء الهند.
بحلول مطلع القرن الحادي والعشرين، بدأ الديموغرافيون يصدرون بيانات مخيفة؛ ففي الفترة من عام 1981 و2001، وفي الفئة العمرية الممتدة من الولادة إلى عمر الستة أعوام، انخفض عدد الإناث لكل ألف ذكر من 992 إلى 964 في أندرا براديش، ومن 974 إلى 949 في كارناتاكا، ومن 967 إلى 939 في تاميل نادو، ومن 970 إلى 963 في كيرالا. وكانت التغييرات أكثر وضوحا في شمال الهند؛ ففي هاريانا، هبط العدد من 902 إلى 820 بين عامي 1981 و2001. وفي البنجاب، كان الانخفاض أكبر من ذلك؛ إذ هبط العدد من 908 إلى 793.
54
أدى انخفاض نسبة الإناث إلى الذكور في هاريانا والبنجاب إلى «أزمة ذكورة». فطبقا لقواعد الزواج التقليدية، كان ينبغي أن تكون زوجة المرء من نفس طائفته الاجتماعية وجماعته اللغوية، وإن لم تكن من قريته نفسها في المعتاد؛ فإذ كبر الصبية وصاروا رجالا، تزايد عدد من وجدوا أنه ببساطة لا توجد فتيات في سن الزواج في منطقتهم؛ ومن ثم أصبحوا يعقدون قرانهم على فتيات يعشن على بعد مئات الأميال، وينتمين إلى ولايات وطوائف اجتماعية وجماعات لغوية أخرى. فطوال عقد التسعينيات وما بعده، كان الرجال من هاريانا والبنجاب يسعون وراء النساء من ولايات آسام وبيهار وغرب البنغال، ومن حين لآخر يشترونهن. كانت تلك الارتباطات عبر الأقاليم تتم في إطار غير رسمي أحيانا، ولكنها في أحيان أخرى كانت تقنن عبر إتمام مراسم الزواج، ولكن ظل ثمة تساؤلات بشأن كيفية معاملة ذرية هذه الزيجات غير المعتادة بالمرة، في ظل مجتمع لا يزال محكوما - في معظم النواحي الأخرى - بقيود الطائفة الاجتماعية وصلات القرابة.
55
كانت التباينات في العلاقات بين الجنسين مكانية وكذلك ثقافية؛
56
فكانت المرأة الهندية تلقى معاملة أفضل (أو أقل سوءا) في الجنوب والمدن؛ ففي الحضر، كن يتمتعن بحرية أكبر في الذهاب إلى المدرسة أو العمل أو اختيار شريك الحياة. وكان ثمة طبقة صاعدة من النساء العاملات، اللاتي بدأن يتركن بصمتهن - بصمة مميزة في بعض الأحيان - في المحاكم والمستشفيات والجامعات، وكذلك كان ثمة رائدات أعمال ناجحات، يدرن وكالات دعائية وشركات أدوية.
وكان ثمة حركة نسوية نشطة أيضا، مقرها المدن وقاداتها كاتبات وناشطات، أخذن يصدرن دفقا متواصلا من المقالات والكتب عالية الجودة عن حياة المرأة وكفاحها في الهند المعاصرة.
57
وبعد سنوات من الضغط على الساسة، تمكنت عضوات الحركة النسوية من إحداث تغيير في القانون من شأنه أن يفيد أخواتهن الأقل حظا في الريف بالأساس. كان ذلك تعديلا لقانون المواريث الهندوسي لعام 1956، الذي أدخل الأرض الزراعية في نطاق اختصاصه لأول مرة، مسبغا على المرأة حقوق الميراث نفسها فيها كالرجل. وساوى تعديل آخر بين الورثة النساء والرجال فيما يتعلق بالأسر الهندوسية المتصلة التي تتكون من عدة أجيال يعيشون في بيت واحد (التي كان للأبناء فيها نصيب أكبر من البنات فيما مضى). وقالت الاقتصادية بينا أجروال - التي كان لعملها في العلاقة بين النوع والزراعة تأثير حيوي - عن تلك التغييرات إنه: «من الناحية الرمزية، مثلت تلك خطوة رئيسية في مساواة المرأة الهندوسية في نظر القانون بالرجل الهندوسي من جميع النواحي.»
58
ولكن للأسف، ظلت الممارسة الاجتماعية شأنا آخر.
10
كان أحد معلمي يقول: «الهند بلد المقهورين.» هذا التوصيف غير مكتمل؛ فصحيح أن الهنود كثيرا ما يتعرضون للقهر، لكن قد تصدر منهم ردة فعل حياله؛ ففي التسعينيات - كما أشرنا من قبل - أكدت جماعات هندية متباينة على حقوق متباينة، وبأساليب متباينة. إلا أنه - كما أشرنا من قبل - في حين اتخذ التعبير عن بعض الصراعات أشكالا أكثر حدة وعنفا، كانت صراعات أخرى تهدأ حدتها، بل تحل في بعض الأحيان.
كان من الأمثلة على ذلك عودة السلام إلى ولاية ميزورام؛ فقد حدث تحول باهر في مسيرة زعماء جبهة ميزو الوطنية؛ فبعدما كانوا يوما متمردين قابعين في الغابات، أصبحوا ساسة في الجهاز الإداري، ووجدوا طريقهم إليه عبر صناديق الاقتراع. وأتى السلام بثماره هو الآخر؛ في صورة أنابيب مياه وطرق، والأهم من ذلك كله: مدارس. فبحلول عام 1999 كانت ميزورام قد احتلت مكانة كيرالا باعتبارها الولاية صاحبة أعلى نسبة متعلمين. ومضى الاندماج مع البر الرئيسي الهندي بخطى وثابة. بدأ الميزو يتعلمون اللغة الوطنية؛ الهندية، ويتابعون الرياضة الوطنية - الكريكيت - ويلعبونها. وحيث إنهم كانوا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة أيضا (اللغة الرسمية للولاية نفسها)، فقد استطاع شباب الميزو - رجالا ونساء - العثور على وظائف مربحة في قطاع الخدمات النامي ، خصوصا في الفنادق وشركات الطيران. وبدأ رئيس وزراء ميزورام، زورام تهانجا، يتحدث عن تحويل ولايته إلى «سويسرا الشرق». تضمنت رؤيته مجيء السائحين من أوروبا والبر الرئيسي الهندي، وتلقي الاقتصاد دفعة إضافية عبر التبادل التجاري مع دولتي بورما وبنجلاديش المجاورتين؛ بحيث يمد الميزو هذين البلدين بالفاكهة والخضراوات، ويشترون منهما الأسماك والدجاج في المقابل. دعا زورام تهانجا أيضا إلى الاضطلاع بدور أكبر في الوصول إلى تسوية بين حكومة الهند ومتمردي ناجا وآسام؛ فصار من السهل نسيان أن هذا الرجل صاحب الرؤية كان فيما مضى انفصاليا راديكاليا، يسعى إلى الاستقلال عن الهند وشغل مناصب «وزير الدفاع» و«نائب الرئيس» في «حكومة ميزو في المنفى».
59
إضافة إلى ذلك، كانت المشكلات قد حلت إلى حد بعيد في ولاية البنجاب، إلا أن الطريق المفضي إلى حلها كان أكثر وعورة في هذه الحالة؛ ففي عام 1987 فرض الحكم الرئاسي على الولاية، وتكرر تمديده ستة أشهر في المرة الواحدة. ونظرا لعدم وجود سياسيين منتخبين يشرفون على عمل الشرطة، راحت تطارد المتطرفين بحماس، بالأساليب السليمة والمخالفة على حد سواء؛ فشاعت معارك الأسلحة النارية، وكانت في الغالب في محيط أقسام الشرطة وفي الريف أيضا. وفي عام 1990 استدعي الجيش للمساعدة، ثم سحب بعد عام. وفي عام 1992 عقدت انتخابات مجلس الولاية أخيرا، فقاطع حزب أكالي دال الانتخابات، وقتل رئيس الوزراء المنتخب من حزب المؤتمر، بيانت سينج، في تفجير انتحاري بعد توليه منصبه بفترة ليست بالطويلة.
إلا أنه عام 1993، عاد حزب أكالي دال إلى السياسة الديمقراطية بالمشاركة في انتخابات المجالس المحلية للقرى، وبعد أربعة أعوام أحرز الحزب نصرا محققا في انتخابات مجلس الولاية. بحلول ذلك الوقت كانت نزعة التطرف قد بدأت تضعف على نحو ملحوظ؛ فقد أصبح بعض الإرهابيين مبتزين، يضغطون على المهنيين السيخ والفلاحين العاديين لإعطائهم المال، وتحول المزاج العام عن فكرة إنشاء دولة خالستان المنفصلة، وبدأ السيخ يرون من جديد مزايا الانتماء إلى الهند. كان معدل النمو الزراعي قد تباطأ، لكن التجارة كانت في ازدهار، وبدأ الإعداد لإنعاش القطاع الصناعي الواهن.
60
كانت إحدى العلامات على عودة الأمور إلى أوضاعها الطبيعية أن حزب أكالي دال، الذي وصل إلى السلطة، بدأ أعضاؤه يتصارعون فيما بينهم؛ إذ تنافس الأفراد والفصائل على مقاليد الوزارات عالية المكانة أو الربحية؛ فسعى رئيس وزراء الولاية، براكاش سينج بادل، إلى التغلب على تلك المشاحنات بالاحتفال بالذكرى الثلاثمائة لإعلان الجورو العاشر - جوبيند سينج - إنشاء «الخالصة»، أو جماعة السيخ.
61
وخصصت حكومته 3 مليارات روبية للاحتفالات، بينما منحتها الحكومة المركزية مليارا آخر؛ فشيدت نصب تذكارية جديدة لأبطال السيخ، إضافة إلى مدرجات رياضية ومزارات ودور ضيافة جديدة، وكرم المثقفون والكتاب السيخ في معبد أناندبور صاحب المهيب، في حفل بهيج حضره رئيس وزراء الولاية وكذلك رئيس وزراء الدولة. وأشار أحد المكرمين - الروائي والصحفي كشوانت سينج - في رضا إلى أن هذا «المجتمع الذي كان مهمشا» فيما مضى، «استعاد احترامه لذاته واستأنف دوره الرائد في عملية بناء الأمة».
62
إلا أن الثمن كان باهظا؛ فوفقا لأحد التقديرات، فاقت الخسائر في الأرواح في البنجاب 20 ألفا بين عام 1981 وعام 1993، منهم 1714 شرطيا و7946 إرهابيا و11690 مدنيا.
63
في فبراير من عام 2005، قمت بزيارة إلى البنجاب لأول مرة منذ ثلاثة عقود. آنذاك، كان رئيس وزراء الهند سيخيا، وكذلك كان رئيس أركان الجيش ونائب رئيس لجنة التخطيط. فكان شغل السيخ بعض أهم المناصب في الدولة محل ترحيب واسع النطاق باعتباره علامة على نجاح البنجاب في التصالح مع الهند. وأثناء تنقلي أنا نفسي في أنحاء الولاية، لم أجد ما يدل على أن التمرد حدث يوما، ولا أن المتاعب دامت تلك الفترة الطويلة؛ فقد أشارت نوبة من الاستثمارات الجديدة إلى أن الأوضاع أصبحت مستقرة للغاية؛ حيث لاحت لافتات المدارس والكليات والمصانع الجديدة في كل مكان، بل توجد أيضا «قرية تراثية» جديدة مميزة على الطريق السريع، يمكن للمرء فيها تناول الأكلات البنجابية «التقليدية» مستمعا إلى موسيقى البنجاب «الشعبية».
قدت سيارتي بعرض الولاية كلها، من بلدة باتيالا إلى مدينة أمريتسار، وكانت محطتي الأخيرة - بطبيعة الحال - هي المعبد الذهبي. كان السكون مخيما على المعبد كما ينبغي أن تكون أي دار عبادة، وكان نظيفا جدا، اصطف فيه الزوار في نظام بأعين تشع تقى، بينما تنساب أنغام الموسيقى من القبة الذهبية العظيمة في وسط المعبد.
لم أتذكر إلا عندما دخلت متحف تاريخ السيخ - القائم أعلى المدخل الرئيسي للمعبد - أن ذلك المكان أريقت فيه دماء كثيرة، في تاريخنا الحديث. تصطف الحجرات المتعددة للمتحف وفق تسلسل زمني، حيث تصور اللوحات تضحيات السيخ على مر العصور، وتخلد الجدران ذكرى شهداء كثر، آخرهم الشهداء: ستوانت وبيانت وكهار سينج. وأسفل منها صورة لأكال تخت مدمرا، مرفقة بشرح مفاده أن تلك نتيجة «حركة محسوبة» لإنديرا غاندي. ويذكر النص مقتل زوار أبرياء للمعبد في ذلك العمل العسكري، مضيفا: «إلا أن السيخ سرعان ما أخذوا بثأرهم.» لم يتبين شكل الثأر بالكلمات وإنما بالصور؛ صور ستوانت وبيانت وكهار.
كانت رؤية قتلة إنديرا غاندي في موضع إجلال تثير الأعصاب، إلا أن الطابق السفلي - في المعبد نفسه - حوى عدة دلالات مخالفة، مفادها أن السيخ أصبحوا متوائمين تماما مع الحكومة الهندية؛ فقد نصب فيه لوح رخامي على نفقة عقيد هندوسي، تعبيرا عن امتنانه للحماية التي منحت له ولرجاله أثناء خدمتهم في مدينة أمريتسار المقدسة. وكان ثمة لوح آخر أقوى دلالة، وهبه عقيد سيخي للمعبد، بمناسبة «الإتمام الناجح» لعامين من الخدمة في وادي كشمير.
الفصل السابع والعشرون
أعمال الشغب
كانت لغة الجماهير الغاضبة هي لغة الرأي العام الوحيدة المتحررة من النفاق والتحفظ.
حنة أرنت
1
في أكتوبر 1952، كتب إم إس جلوالكر - زعيم منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج - مقالة موقعة رائعة في الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية، قال فيها بإصرار: «لا يمكن إعادة إحياء أمة بعد فصلها عن قواعدها.» ومن ثم:
لا بد من إعادة إحياء القيم والأفكار الجوهرية، ومحو أي علامات تذكرنا بعبوديتنا ومذلتنا الماضيتين. وأول ما يجب علينا هو رؤية أنفسنا في حالة النقاء البكر. فلا بد من توطيد صلة حاضرنا ومستقبلنا بماضينا المجيد، ولا بد من إصلاح حلقة الوصل المكسورة، وهذا وحده سوف يلهب حماسة شباب الهند الحرة بروح جديدة مدفوعة بخدمة شعبنا والإخلاص له. لا يمكن أن يكون ثمة نداء للوحدة الوطنية أسمى من أن نكون مستعدين عن طيب قلب للتضحية بكل ما نملك في سبيل شرف الوطن ورفعته، وهذا أسمى صور الوطنية.
كيف يمكن للمرء إعطاء شكل ومعنى لهذه الفكرة العامة جدا؟ وما القضية المحددة التي يمكن أن تدفع الشباب إلى التضحية بكل شيء؟ كان جلوالكر يعتقد أن «مسألة الشرف تلك في حياتنا الوطنية»:
ليست سوى البقرة الأم، الرمز الحي لكوكب الأرض؛ فهي جديرة بأن تكون الوجهة الوحيدة للإخلاص والتعبد. ومن أجل وقف أي اعتداء من الآن فصاعدا على هذه المسألة المحددة في شرفنا الوطني، وتنمية روح الإخلاص للوطن، يجب أن يكون لحظر ذبح الأبقار أولوية قصوى في برنامجنا للنهضة الوطنية في عهد الاستقلال.
1
كان الجورو جلوالكر وجماعته يرون أن الهند دولة «هندوسية». إلا أن الهندوس أنفسهم كانوا منقسمين: حسب الطائفة الاجتماعية والطائفة الدينية واللغة والإقليم؛ فمنذ تأسيس منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج عام 1925، تلخصت مهمتها في جعل الهندوس قوة قتالية عتيدة ومترابطة. فبالنسبة إلى أعضائها - كما بالنسبة إلى المنظمة ككل - سار الشعور الديني جنبا إلى جنب مع الطموح السياسي؛ فقد لا نشكك في إخلاص جلوالكر نفسه للبقرة، ولكن مناداته بجعل حظر ذبح الأبقار أولوية وطنية كانت نابعة من هدف أكبر بكثير؛ هو: توحيد صفوف الهندوس.
كانت الأبقار متواجدة في جميع أنحاء الهند، والهندوس أيضا كانوا متواجدين في جميع أنحاء الهند، والهندوس يعبدون الأبقار، في حين كان المسلمون والمسيحيون يحبون ذبحها وأكلها، كان هذا هو المنطق الذي سعت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج إلى بناء الحملة الوطنية عليه. وبعد مرور أربعة عشر عاما على صدور مقالة جلوالكر، توجهت مسيرة حاشدة إلى البرلمان للمطالبة بفرض حظر لذبح الأبقار على المستوى الوطني. كانت تلك هي ذروة الحملة، ومن بعدها أخذت جاذبيتها تنحسر باطراد. وحتى في أوج مجدها، كان أكثر من تجتذبهم هم رجال الدين الهندوس وأعضاء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج؛ فهي لم تصل يوما إلى قدر التأييد الشعبي الذي كان المروجون لها يأملون فيه.
إلا أنه في الثمانينيات، استطاعت بقعة مقدسة واحدة في بلدة صغيرة واحدة تحقيق ما لم يستطع حيوان مقدس موجود في كل مكان تحقيقه. لقد اجتذبت الحملة الساعية إلى بناء معبد في مكان مسجد في أيوديا اهتماما واسع النطاق؛ فقد بدأ عدد كبير من الهندوس في جميع أنحاء الهند، ومن مختلف الطوائف الاجتماعية، يعتبرون هذه المسألة «مسألة شرف في حياتنا الوطنية». فبالنسبة إلى هؤلاء الناس، مثل مسجد بابري في أيوديا تذكيرا فعلا «بعبوديتنا ومذلتنا الماضيتين»؛ ومن ثم أصبح إنشاء معبد للإله رام مكانه «الوجهة الوحيدة للإخلاص والتعبد» بالنسبة لآلاف الشباب الهندوس، فكانت تلك طاقة موجهة لقضية لم يتوقعها جلوالكر نفسه، ولو كان حيا لربما دهش، ولا شك أنه كان سيسر.
2
في عام 1984، لم يحصل حزب بهاراتيا جاناتا - خلف حزب جانا سانج القديم - إلا على مقعدين في الانتخابات العامة الثامنة، وبعد مرور خمسة أعوام ارتفعت حصته إلى 86 مقعدا، وكان أحد الأسباب الرئيسية في هذا الصعود هو مشاركته في حملة أيوديا.
وحرصا من حزب بهاراتيا جاناتا على إبقاء حزب المؤتمر بعيدا عن الحكم، فقد قدم دعمه لجبهة في بي سينج الوطنية دون المشاركة في الحكومة. إلا أن قرار العمل بتقرير لجنة مندل - الذي أعلن في أغسطس 1990 - أثار بلبلة داخل الحزب؛ فقد اعتبرته بعض القيادات خطة شيطانية لتفكيك المجتمع الهندوسي، بينما رأى آخرون أن فرض التمييز الإيجابي كان نزولا ضروريا على تطلعات الطوائف الاجتماعية المتخلفة؛ فثار نقاش محتدم داخل الحزب - وفي فروع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج - حول السؤال الآتي: هل ينبغي تأييد توصيات لجنة مندل أم لا؟
وعوضا عن اتخاذ موقف دون آخر، آثر الحزب تحويل بؤرة النقاش بعيدا عن لجنة مندل والطوائف الاجتماعية، وإعادته من جديد إلى الدين ومسألة الموقع المتنازع عليه في أيوديا؛ فأعلن الحزب الخروج في مسيرة من معبد سومناث العتيق في جوجارات إلى أيوديا، وتقرر أن يتزعم المسيرة إل كيه أدفاني، وهو رجل متزمت عبوس يعتبر أكثر تعصبا من زميله أتل بهاري فجبايي. كان أدفاني يتنقل في شاحنة تويوتا مهيأة على شكل عربة خيول، ويتوقف على الطريق لعقد المؤتمرات الشعبية.
كان من المخطط لمسيرة أدفاني بعربة الخيول، التي بدأت في 25 سبتمبر 1990، أن تبلغ أيوديا بعد خمسة أسابيع، بعد قطع 10 آلاف كيلومتر عبر ثمان ولايات. أحاط مقاتلو المجلس الهندوسي العالمي بالعربة من الجانبين، مودعين إياها بالأعلام في بلدة، ومرحبين بها في التالية. وفي المؤتمرات الشعبية، انضم إليهم رهبان السادهو بثيابهم زعفرانية اللون، الذين «مثلت مسبحات الصلاة حول أعناقهم، ولحاهم الطويلة، وجباههم المخطوطة بالرماد تناقضا بصريا قويا» مع هؤلاء الشباب المسلحين؛ فكانت الصورة المتكونة عن المسيرة هي أنها «دينية، موحية، مسلحة، ذكورية، ومعادية للمسلمين». وتأكدت هذه الصورة بفعل الخطب التي ألقاها أدفاني؛ إذ اتهم الحكومة بأنها «تسترضي» الأقلية المسلمة وتمارس «علمانية زائفة» تحرم الأغلبية الهندوسية مصالحها وطموحاتها المشروعة، فقدم بناء معبد الإله رام في أيوديا على أنه رمز لتحقيق تلك المصالح والطموحات.
2
تسببت مسيرة أدفاني عبر شمال غرب الهند في متاعب جمة لحكومة في بي سينج، فقد مثلت المسيرة «استفزازا لا يمكن تجاهله. وبدا تنامي الاضطرابات والشغب وهدم المسجد في النهاية يلوح في الأفق، إلا أن وقف المسيرة كان سيترتب عليه عواقب وخيمة؛ فبذلك لم يكن سينج سيضطر إلى مخالفة [الإله المبجل] راما فحسب، وإنما سوف يسقط ائتلافه الحاكم نفسه أيضا، ويجازف بإثارة فوضى عارمة».
3
بلغت المسيرة دلهي، حيث أقام أدفاني معسكره عدة أيام، متحديا الحكومة أن تقبض عليه، فاجتنب التحدي، وواصلت المسيرة مضيها مجددا. ولكن قبل أن تصل العربة إلى وجهتها النهائية بأسبوع، أوقفت ووضع أدفاني رهن الحبس الاحتياطي. نفذت عملية الاعتقال بأمر من رئيس وزراء بيهار، لالو براساد ياداف، الذي كانت المسيرة تمر من ولايته آنذاك.
بينما قبع إل كيه أدفاني ينتظر في إحدى دور الضيافة الحكومية، اتجه أتباعه إلى أيوديا، وتدفق آلاف المتطوعين من جميع أنحاء البلاد. كان رئيس وزراء أوتر براديش، مولايام سينج ياداف - مثل نظيره البيهاري الذي يحمل لقب العائلة نفسه - خصما سياسيا عتيدا لحزب بهاراتيا جاناتا؛ ومن ثم فقد أمر بالاعتقال الجماعي للزائرين الآتين من خارج الولاية. على ما يبدو احتجز نحو 150 ألف متطوع، ولكن قرابة 75 ألفا وجدوا طريقهم إلى أيوديا على الرغم من ذلك. وهناك كان ثمة 20 ألف رجل أمن في البلدة بالفعل، بعضهم من قوات الشرطة النظامية، بينما كان البعض الآخر من قوات أمن الحدود شبه العسكرية.
في صباح يوم 30 أكتوبر، اعترضت الشرطة طريق حشد كبير من المتطوعين لدى جسر فوق نهر سارايو، الذي يفصل بين أيوديا القديمة والجديدة، فاقتحم المتطوعون صفوف رجال الشرطة واندفعوا تجاه مسجد بابري، حيث وجدوا أنفسهم أمام قوات أمن الحدود. تمكن بعض المتطوعين من الإفلات من قوات أمن الحدود أيضا، والوصول إلى المسجد، فرفع أحدهم علما بلون الزعفران على المسجد، بينما هجم آخرون على البناء بالفئوس والمطارق. وبغية الحيلولة دون حدوث غزو جماعي للمسجد، استخدم جنود قوات أمن الحدود الغاز المسيل للدموع، وفي مرحلة تالية، الرصاص الحي. فجرت مطاردة المتطوعين عبر الشوارع الضيقة وفي ساحات المعبد. أبدى بعضهم مقاومة - باستخدام العصي والحجارة - وعضدهم في ذلك الأهالي الغاضبون، الذين أمطروا رجال الشرطة بقذائف يدوية الصنع.
4
دارت رحى المعركة بين قوات الأمن والمتطوعين ثلاثة أيام كاملة، وقتل عشرون متطوعا على الأقل أثناء المعركة. والتقط نشطاء المجلس الهندوسي العالمي جثثهم فيما بعد وأحرقوها، ثم حفظوا الرماد في الجرار المخصصة لحفظ رماد الموتى، ثم طافوا بتلك الجرار في أنحاء بلدات شمال الهند، مؤججين المشاعر حيثما ذهبوا، وحثوا الهندوس على الثأر لدماء هؤلاء «الشهداء»؛ فهزت سلسلة من أعمال الشغب الدينية ولاية أوتر براديش. هاجمت جموع الهندوس أحياء المسلمين، وعلى نحو يشبه المذابح البشعة التي وقعت وقت التقسيم، أوقفوا القطارات لكي يجذبوا من أمكنهم تعرف أنهم مسلمون فيها ويقتلوهم. في بعض المناطق رد الضحايا بالمثل، ومن ثم لاحقتهم قوات الشرطة المسلحة الإقليمية، التي طالما اشتهرت بعداوتها للمسلمين.
5
وكما قال أحد المعلقين: مسيرة العربة لإل كيه أدفاني تحولت في الواقع إلى مسيرة دم.
6
3
كان من ضحايا مسيرة العربة رئيس الوزراء في بي سينج. استقال في نوفمبر 1990، نظرا لعجزه عن الحفاظ على حكومة الأقلية التي رأسها دون مساندة حزب بهاراتيا جاناتا. وكما عام 1979 - عندما استقال مورارجي ديساي - سمح حزب المؤتمر لرئيس وزراء صوري (كان هو تشاندرا شيكار في هذه الحالة) بتولي المسئولية بينما راح حزب المؤتمر يعد للانتخابات. عقدت تلك الانتخابات في صيف عام 1991، وفي منتصف الحملة الانتخابية، اغتيل راجيف غاندي، أثناء إلقائه خطبة في إحدى بلدات تاميل نادو. واتضح فيما بعد أن مرتكبة العملية - التي انفجرت فيها هي أيضا القنبلة التي كانت تحملها - كانت ممثلة لجبهة نمور تحرير تاميل إيلام، فكان اغتياله عملا انتقاميا؛ إذ لم تكن الجبهة قد سامحت راجيف غاندي على إرساله قوات ضدها عام 1987.
على الرغم من اغتيال راجيف غاندي، أجريت الانتخابات في الموعد المقرر لها. كان خبراء استطلاعات الرأي قد تنبئوا ببرلمان معلق، لا يقترب فيه أي حزب من الأغلبية بأي حال من الأحوال. إلا أن التعاطف المتولد عن اغتيال راجيف غاندي أتاح لحزب المؤتمر ربح 244 مقعدا. وبمساندة المستقلين، صار الحزب في وضع يسمح له بتشكيل حكومة أغلبية. واختير لرئاسة الوزراء عضو في حزب المؤتمر من أندرا براديش، كان قد شغل مناصب مهمة في حكومة راجيف غاندي، وهو: بي في ناراسيمها راو.
في تلك الانتخابات البرلمانية لعام 1991، ربح حزب بهاراتيا جاناتا 120 مقعدا؛ أي أكثر من الانتخابات السابقة بخمسة وثلاثين مقعدا. وفي الوقت نفسه، فاز بانتخابات مجلس الولاية في أوتر براديش؛ فأصبح بذلك مسيطرا على أربع ولايات في شمال الهند، هي: ماديا براديش، وراجستان، وهيماجل براديش، إضافة إلى أوتر براديش، فكان من الواضح أن حملة معبد رام أتت بثمار سياسية. كانت أعمال الشغب قد ترجمت فعليا إلى أصوات انتخابية. وفي الوقت نفسه، أسفرت تلك النجاحات عن أزمة هوية، فهل كان حزب بهاراتيا جاناتا حزبا سياسيا أو حركة اجتماعية؟ رأى بعض قيادات الحزب آنذاك أن الحزب صار ينبغي عليه تنحية الخلاف بشأن المسجد والمعبد جانبا، وأن يطرح - عوضا عن ذلك - أسئلة أشمل بشأن السياسة الاقتصادية والخارجية، ويعمل أيضا على توسيع دائرة نفوذه في جنوب الهند. على الجانب المقابل، كان المجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج مصرين على إبقاء الضوء مسلطا على الأرض المتنازع عليها في أيوديا. وفي أكتوبر 1991، اشتريا الأرض المحيطة بالمسجد، وبدآ تمهيدها، استعدادا لبناء المعبد.
في يوليو 1992، أرسلت الحكومة المركزية فريقا لدراسة الوضع، فوجد الفريق «هدما واسع النطاق» في المنطقة المتنازع عليها، وأن «منصة أسمنتية كبيرة» شيدت، وقد مثل كل منهما خرقا واضحا لأوامر المحكمة التي طالبت بإبقاء الحال على ما هو عليه. وكان مما أثار استياء الفريق أن حكومة أوتر براديش - برئاسة رجل منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج المخضرم كليان سينج - غضت الطرف عن تلك الأنشطة؛ ففي مجمل الأمر، كان ثمة «انتهاك صارخ للقانون» في أيوديا.
كانت وزارة الداخلية في نيودلهي قد أعدت خطة بديلة - خوفا من تصاعد المشكلة - تسمح بفرض الحكم الرئاسي على ولاية أوتر براديش وتولي الحكومة المركزية إدارة المجمع المكون من المسجد والمعبد. إلا أن رئيس الوزراء، بي في ناراسيمها راو، كان لا يزال لديه أمل في حل المسألة بالحوار؛ فقد عقد عدة اجتماعات مع قيادات المجلس الهندوسي العالمي، وأجرى مشاورات أيضا مع لجنة عمل مسجد بابري، ونوقش أيضا احتمال إحالة المسألة إلى المحكمة العليا.
7
في تلك الأثناء، أعلن المجلس الهندوسي العالمي أن يوم 6 ديسمبر اختير باعتباره اليوم «الميمون» لبدء العمل في بناء المعبد. وبدءا من منتصف نوفمبر، بدأ المتطوعون يتوافدون إلى أيوديا، وقد تشجعوا بحقيقة أن حكومة الولاية أصبحت في قبضة حزب جاناتا بهاراتيا، فاستدعي رئيس وزراء الولاية - كليان سينج - إلى نيودلهي، وأهاب به رئيس الوزراء بي في ناراسيمها راو أن يسمح للمحكمة العليا بحسم تلك القضية، فرد سينج قائلا: «الحل الشامل الوحيد لنزاع أيوديا هو تسليم البناء المتنازع عليه للهندوس.»
8
كان كليان سينج قد أصدر تعليمات لحكومته بإيواء آلاف المتطوعين الوافدين من خارج الولاية وإطعامهم، فأثارت التقارير الواردة عن هذا التدفق واسع النطاق من خارج الولاية انزعاج وزارة الداخلية، وأعدت خطة بديلة جديدة، أرسلت بموجبها قوات شبه عسكرية إلى أيوديا. وبحلول نهاية الشهر كان ثمة نحو 20 ألف جندي مرابط في مواقع تبعد عن البلدة مسيرة ساعة، على استعداد للتحرك متى لزم الأمر . وزعم وزير الداخلية آنذاك أن ذلك «كان الحشد الأكبر لقوات من هذا النوع من أجل عملية من هذا القبيل منذ الاستقلال».
9
في المقابل، وصل البلدة أكثر من 100 ألف متطوع «حاملين رماحا ثلاثية الشعب وأقواسا وسهاما». وفي اليوم الأخير من شهر نوفمبر، أثناء مؤتمر صحفي في دلهي أعلن فيه إل كيه أدفاني تحركه هو نفسه صوب أيوديا، قال: «ليس في مقدوري تقديم أي ضمانات في هذه اللحظة بخصوص ما سوف يحدث في 6 ديسمبر. كل ما أعلمه هو أننا سوف نتطوع.»
10
صبيحة يوم 6 ديسمبر، وجد صحفي في موقع الحدث أنه: «على جانبي الجدار الأمني المحيط بالمسجد وقف رجال الشرطة المسلحة الإقليمية ممسكين بالهراوات، ومتطوعو راشتريا سوايامسيفاك سانج لابسين شارات على أذرعهم.» ولم يطلب من قوات الحكومة المركزية المرابطة في محيط أيوديا التحرك إلى داخل البلدة، فقد تركت المهمة لشرطة أوتر براديش وقواتها الإقليمية. كان المجلس الهندوسي العالمي ينوي بدء الصلاة في الساعة الحادية عشر ونصف صباحا، على المنصة المرتفعة التي شيدت من قبل. إلا أنه بحلول ذلك الوقت، كان بعض المتطوعين قد بدءوا يقومون بتحركات متوعدة صوب المسجد، فحاول أعضاء منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج وأفراد الشرطة التصدي لهم، ولكن الجماهير أمطرتهم بوابل من الحجارة؛ إذ تزايد غضبها باطراد، وهتفوا مشيرين بأصابعهم إلى مسجد بابري: «سوف نبني معبدنا هنا.» ثم أقدم صبي جريء على تسلق السور المحيط بالمسجد واعتلى إحدى قبابه، فكانت تلك إشارة اندفاع الحشود نحو ذلك البناء الأثري؛ فر رجال الشرطة، سامحين لمئات المتطوعين بالهجوم على المسجد، ملوحين بالفئوس والقضبان الحديدية.
عند حلول فترة الظهيرة، كان المتطوعون يزحفون على جميع أركان المسجد، ممسكين برايات زعفرانية اللون وهاتفين بشعارات النصر. وثبتت خطاطيف مربوطة في حبال على القباب، بينما انهالوا على القاعدة بالمطارق والفئوس. وفي الثانية ظهرا، انهارت إحدى القباب، مسقطة معها نحو اثني عشر رجلا، وصاح الواعظ الراديكالي سادهفي ريتامبارا: «ادفعوا أكثر وسينهار مسجد بابري بأكمله.» في تمام الساعة الثالثة والنصف عصرا، سقطت قبة ثانية، وبعد ساعة هدمت القبة الثالثة والأخيرة أيضا ؛ فالبناء الذي شهد صعود حكام وأسر حاكمة كثيرة وزوالها، والذي صمد أمام 400 موسم أو أكثر من الرياح المطيرة العاتية، أحيل خلال ما بعد ظهيرة يوم واحد حطاما.
11
هل تم هدم مسجد بابري بتخطيط مسبق؟ أو أنه ببساطة كان نتيجة تعبير تلقائي عن المشاعر والغضب الشعبيين؟ من المؤكد أن بعض قيادات حزب بهاراتيا جاناتا هالهم المنحى الذي اتخذته الأحداث. فعلى الرغم من الحديث المهدد الذي وجهه إل كيه أدفاني قبل أسبوع، فإنه عندما رأى المتطوعين يداهمون البناء الأثري، طلب إليهم الرجوع. وإذ تداعت القباب، انخرط في جدال مع كبيري منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج: إتش في سشداري وكيه إس سودارشان. كان رأيهما أنه لما كانت الفعلة قد ارتكبت، فينبغي للمنظمة والحزب أن ينسبا إلى أنفسهما الفضل فيها. وقال سودارشان إلى أدفاني: «مسار التاريخ ليس محددا سلفا. فلتتقبل ما حدث.» ورد أدفاني قائلا إنه عوضا عن ذلك سوف «يعرب عن أسفه على ما حدث علنا».
12
وفي المؤتمرات الصحفية التالية للحدث، كان أكثر لفظ استخدمه المتحدث الرسمي باسم حزب بهاراتيا جاناتا في وصف أحداث أيوديا هو: «مؤسفة». فقد كانوا يعلمون أنه في ظل نظام ديمقراطي محكوم بسيادة القانون، من المستبعد تماما القبول بارتكاب حزب المعارضة الرئيسي لعمل تخريبي. وفي لقاء صحفي في مقر الحزب بدلهي مساء يوم 6 ديسمبر، المنظر كيه آر مالكاني «أوضح أننا كنا نرغب فعلا في إزالة البناء القديم، ولكن بموجب إجراءات قانونية سليمة، فكان مبعث الأسف هو هدمه بأسلوب غير نظامي». وسعيا إلى أن ينأى بحزبه عن الواقعة، زعم أن المتطوعين الذين هاجموا المسجد كانوا على الأرجح من حزب شيف سنا نظرا لسماعهم يتحدثون الماراثية.
13
أما العناصر الراديكالية في الحركة فكانت أقل لؤما. فقد تفاخر أحد قيادات المجلس الهندوسي العالمي بأنه منذ شهر سبتمبر طلب إلى المهندسين تحديد نقطة الضعف في البناء، ودرب المتطوعون على أفضل وسيلة لإسقاطها. وقال لأحد الصحفيين: «دون هذا التخطيط كيف تظن أننا استطعنا دك المسجد في غضون ست ساعات؟ هل تظن أن مجموعة من المتطوعين المحمومين كان من الممكن أن ينفذوا الأمر بهذا القدر من المنهجية؟»
14
وفي خطاب ألقاه السياسي المحب للجدل أرون شوري في مدراس بعد هدم المسجد بفترة قصيرة، أشار إلى أنه «في حين أن قيادات حزب بهاراتيا جاناتا حاولت أن تتنصل مما حدث وتنأى بنفسها عنه، نسب هندوس الهند التدمير إلى أنفسهم، وأقروا بفعله». وقال شوري إن أحداث أيوديا أظهرت «أن الهندوس أدركوا الآن أن أعدادهم كبيرة جدا، وأن المتحكمين في جهاز الدولة يشاركونهم الشعور، وأنه يمكنهم إخضاع الدولة لإرادتهم». وكان هو نفسه يأمل في أنه: «لا بد من النظر إلى حركة أيوديا على أنها نقطة البداية لوعي وفهم ثقافيين من شأنهما أن يفضيا في نهاية المطاف إلى إعادة هيكلة كاملة للحياة العامة الهندية بأساليب تتماشى مع التراث الحضاري الهندي»؛ وهي طريقة ملتوية بعض الشيء لقول إن هدم مسجد بابري ينبغي أن يكون تمهيدا لإعادة تشكيل الهند على هيئة دولة هندوسية، وربما كان ذلك ما سيحدث بالفعل.
15
لا يمكن للمرء أن يجزم بإجماع الهندوس على هذه الأحاسيس، كما افترض شوري، إلا أن الهندوس الذين هدموا المسجد يوم 6 ديسمبر كانوا بلا شك عازمين على إخضاع الدولة الهندية لإرادتهم. كانت القوى القادرة على وقفهم موجودة، ولكن الأمر الذي كان ينبغي أن يدفعها للتحرك لم يصدر قط، وحكومة رئيس الوزراء ناراسيمها راو، خوفا من أن تتهم بمعاداة الهندوسية، «رأت أن هدم المسجد كان أخف الضررين»، فلم يتخذ أي إجراء إلا عقب إتمام الفعلة، وتمثل في إقالة حكومة أوتر براديش وفرض الحكم الرئاسي.
16
4
عندما سقطت قباب مسجد بابري، أسقطت معها متسلقيها أيضا، فأصيب أكثر من خمسين من المتطوعين، بعضهم كان في حالة خطرة جدا، وسجلت ست وفيات على الأقل. وكانت الفترة التالية على الواقعة أخطر من ذلك؛ فالقيادات الرئيسية في حزب بهاراتيا جاناتا - مثل إل كيه أدفاني - وضعوا رهن الحبس الاحتياطي، إلا أن أعمال الشغب تفجرت في بلدة تلو الأخرى، في نوبة عنف جماعي دامت شهرين وحصدت أكثر من ألفي روح.
بدأت المتاعب في محيط الحادث نفسه . فقد أعرب أحد رجال الدين المؤثرين في المنطقة عن رغبته في أن تصبح أيوديا «فاتيكان الهندوس». وكان تطهير البلدة من الأقليات مجرد خطوة واحدة ضمن الخطوات المؤدية إلى الهدف الأسمى، فقد أشعل متطوعون الحرائق في منازل المسلمين وأحيائهم السكنية احتفالا بهدم المسجد. وفي بلدات أخرى، جاءت أعمال الشغب نتيجة مسيرات نظمها المجلس الهندوسي العالمي، وفي مناطق أخرى، كان المسلمون هم من يخرجون إلى الشوارع احتجاجا على الهدم، مهاجمين أقسام الشرطة ومحاولين إحراق المباني الحكومية.
غطت أعمال الشغب - التي كانت تنشأ أحيانا عن هندوس منتصرين وأحيانا أخرى عن مسلمين مقاومين - أجزاء كبيرة من شمال الهند وغربها، وسقط ضحيتها 246 في جوجارات و120 في ماديا براديش و100 في آسام و201 في أوتر براديش و60 في كارناتاكا. وتدرجت الأسلحة التي استخدمتها الجموع من الأحماض الحارقة والمقالع إلى السيوف والأسلحة النارية. وكان الأطفال يحرقون أحياء، والنساء يقتلن برصاص الشرطة؛ ففي وباء العنف الذي خيم على البلاد «شوهدت ... القسوة الإنسانية الخالصة بكل صورة ممكنة».
17
كانت أكثر المدن تضررا هي عاصمة الهند التجارية: بومباي؛ ففي صباح يوم 7 ديسمبر، تفجرت في أحد المناطق التي يقطنها المسلمون - طريق محمد علي - موجة غضب جماعي هادرة، أغارت الجموع فيها على متاجر الهندوس وأحرقت دمى قيادات حزب بهاراتيا جاناتا، وكذلك ساوت معبدا هندوسيا بالأرض. وعندما وصلت الشرطة المحلية إلى مسرح الأحداث، لم تثر الهيبة في نفوس الناس، وهتف الناس: «الشرطة في أيوديا وقفت مكتوفة اليدين وسمحت بهدم المسجد. سوف ننال منكم الآن.» وطوال ذلك اليوم واليوم التالي له، دارت معارك في المنطقة بين الشرطة والجموع، وقتل ستون شخصا على الأقل في أحداث العنف.
في تلك الأثناء، في شمالي المدينة، عانت منطقة دهارافي العشوائية آثار النصر الزائدة لدى الهندوس؛ فقد انتهت «مسيرة نصر» نظمها حزب شيف سنا وحزب بهاراتيا جاناتا بهجمات على بيوت المسلمين ومتاجرهم، ورد المسلمون بطعن رجل دين هندوسي وإشعال النار في معبده. في مناطق أخرى، لم تصب الجموع غضبها على الجماعة السكانية المناوئة وإنما على الدولة، فقد هشمت عشرات الحافلات الحكومية أو أحرقت، وكذلك ما لا يقل عن 130 محطة حافلات.
18
وفي يوم 9 ديسمبر، أعلن حزبا شيف سنا وبهاراتيا جاناتا إضرابا في كافة أنحاء بومباي احتجاجا على اعتقال قياداتهما في أيوديا؛ فقال صحفي في بومباي مسترجعا ذكرياته إن تلك «كانت الإشارة لأتباعهم كي يهبوا في ثورة هائجة. فقد هاجموا المساجد والمؤسسات الإسلامية. وفي إحدى المناطق علق حزب شيف سنا إعلانا عن جائزة قدرها 50 ألف روبية لمن يدل على منزل يسكنه مسلمون».
19
كان أتباع شيف سنا يستمدون التشجيع من قائدهم ومعلمهم: بالا صاحب تاكري؛ ففي مقالة افتتاحية في صحيفة الحزب - «سامنا» - نشرت في 10 ديسمبر، أصر تاكري على أن ما حدث في الأيام القليلة الماضية كان مجرد:
بداية عهد الحرب الانتقامية. وفي هذا العهد، لن يتغير تاريخ وجغرافيا هذا البلد وحده، وإنما تاريخ وجغرافيا العالم أجمع؛ فحلم الدولة الهندوسية المتحدة سوف يتحقق، وحتى ظل الآثمين المتعصبين [أي، المسلمين] سيختفي من أرضنا. الآن سنحيا ونموت في سعادة ... لا يمكن لثورة أن تقوم على ذرف الدموع. الثورة لا تحتاج سوى قربان واحد: دماء المخلصين لها!
20
فرض حظر التجوال واستدعي الجيش، وعلى الرغم من ذلك استغرقت إعادة الأوضاع إلى طبيعتها في بومباي عشرة أيام، حتى عادت قطارات الضواحي إلى العمل، وعادت الأعمال والمصانع إلى سابق عهدها. استمر السلام ثلاثة أسابيع، إلا أن أعمال الشغب اندلعت مرة أخرى في بداية يناير؛ ففي صباح يوم 5 يناير، طعن عاملان هندوسيان في الميناء حتى الموت في حي سكني يقطنه مسلمون. لم يتضح سبب الحادث - ربما كانت خصومة نقابية - إلا أن قصة مقتل هندوسين في منطقة يسكنها مسلمون ترددت في جميع أنحاء المدينة، مثيرة المزيد من العنف؛ ففي دهارافي، أعمل الهندوس الغاضبون السلب والنهب في المتاجر والمخازن المملوكة للمسلمين. وفي منطقة عشوائية أخرى - جوجيشواري - أحرقت أسرة هندوسية حتى الموت. ومن ثم تأججت نيران الفتنة أسبوعا، حتى أعلن تاكري في مقالة افتتاحية في صحيفة «سامنا» أن الهجمات يمكن أن تتوقف «لأن المتعصبين لقنوا درسا». وكانت الأقليات بالفعل هي التي تحملت وطأة العنف. فمن بين ضحايا أعمال الشغب الذين بلغ عددهم قرابة 800 شخص، كان ثلثاهم على الأقل مسلمين، على الرغم من أن المسلمين شكلوا 15٪ فحسب من تعداد سكان المدينة.
مرة أخرى عادت الأوضاع في بومباي إلى طبيعتها ببطء وصعوبة، هذه المرة دام السلام شهرين؛ ففي 12 مارس 1993، حدثت سلسلة من التفجيرات المتوالية في جنوب بومباي؛ أحدها أمام مبنى البورصة، والأخرى أمام فنادق فاخرة وشركات أو داخلها. كان الهدف من ذلك هو إحداث أكبر قدر من الضرر؛ إذ حدثت التفجيرات في بداية فترة ما بعد الظهيرة، وهو أكثر الأوقات ازدحاما في أكثر أنحاء المدينة ثراء؛ فلقي أكثر من 300 حتفهم في التفجيرات، وكانت المادة المستخدمة هي مادة آر دي إكس شديدة التفجير. أجريت العمليات بتوجيه اثنين من زعماء المافيا المقيمين حينها في دبي، فما يبدو انتقاما من مقتل إخوانهم في الدين في وقت سابق من ذلك الشتاء.
أدى صعود حزب شيف سنا إلى تقويض سمعة بومباي إلى حد ما - مع مرور السنين - باعتبارها مدينة عالمية التوجه ومتعددة الثقافات. نالت تلك الصورة ضربة قاصمة من خلال أعمال الشغب والتفجيرات التي حدثت عامي 1992 و1993. حينها أصبحت «مدينة تغيرت إلى الأبد» و«مدينة تعاني انقساما عميقا» بل حتى «مدينة في حرب مع نفسها».
21
كان هدم مسجد بابري محبطا في حد ذاته، ولكن كما قال الصحفي بهرام كنتراكتور: «ربما لم تكن المأساة الكبرى هي أن الهند لم تعد بلدا علمانيا، وإنما أن بومباي لم تعد مدينة عالمية التوجه؛ فأيا كان ما سيحدث من الآن فصاعدا، سواء حلت مسألة رام جانمابهومي أم لا، وسواء تعلم الهندوس والمسلمون العيش معا من جديد أم لا، فسمعة بومباي بصفتها مدينة العيش الحر النابضة بالحياة، التي تستوعب بشرا من جماعات الهند وأنحائها كافة، قد انتهت إلى الأبد.»
22
5
في عام 1994، ذكر أشوك سينجهال القيادي في المجلس الهندوسي العالمي أن تدمير مسجد بابري كان «عاملا محفزا لعملية الاستقطاب الأيديولوجية شبه المكتملة»؛
23
فبعد مرور عامين، جنى حزب بهاراتيا جاناتا الثمار في الانتخابات العامة الحادية عشرة. لقد ربح 161 مقعدا، ليصبح أكبر حزب قائم بذاته في البرلمان. أما حزب المؤتمر فتراجع إلى المرتبة الثانية، حيث تفوق عليه الأول بواحد وعشرين مقعدا؛ فدعي زعيم حزب بهاراتيا جاناتا - أتل بهاري فجبايي - إلى تشكيل الحكومة، لكنه قدم استقالته بعد أسبوعين، بعد فشله في تكوين أغلبية. وطوال العامين التاليين جلس حزب بهاراتيا جاناتا في مدرجات المعارضة، بينما حكم البلاد ائتلاف هزيل من الأحزاب الإقليمية يطلق على نفسه «الجبهة الوطنية». وعندما أجريت انتخابات منتصف الفترة عام 1998، حسن حزب بهاراتيا جاناتا وضعه أكثر؛ إذ حصل على 182 مقعدا، وفي هذه المرة، منحه دعم الأحزاب الصغرى والمستقلين الأعداد الكافية لحكم البلاد. إلا أنه في غضون عام واحد دعا إلى عقد انتخابات جديدة، آملا في أداء أفضل من ذلك أيضا. فانتهى الأمر إلى فوز حزب بهاراتيا جاناتا بعدد المقاعد نفسه، في حين تراجع حزب المؤتمر بصورة غير مسبوقة؛ حيث حصل على 114 مقعدا. وتمكن حزب بهاراتيا جاناتا من الحكم خمسة أعوام أخرى نتيجة قوة أداء حلفائه؛ ومن ثم أصبح فجبايي، عضو حزب بهاراتيا جاناتا، رئيس الوزراء صاحب أطول مدة خدمة في الهند من خارج حزب المؤتمر؛ إذ قضى ستة أعوام إجمالا في منصبه.
في السنوات الأولى بعد استقلال الهند، قدمت الجروح الناجمة عن التقسيم مبررا لاستماتة اليمين الهندوسي في تأكيد حقوقه؛ حيث نشطت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج بصفة خاصة، ولكن حزب جانا سانج لم يربح سوى ثلاثة مقاعد في انتخابات عام 1952، وأبدى المعلقون على الموقف استعدادا لتوقيع شهادة وفاة حزب تجرأ على إقامة سياسته على الدين في ظل دولة حديثة علمانية ديمقراطية. وكتب السياسي الاشتراكي أشوكا مهتا أن النعرة الطائفية الهندوسية «أثبتت ضعفها تارتين: تارة في انتخابات عام 1946 وتارة أخرى في انتخابات 1951-1952». وكان على ثقة بأن «شبحها طرد للأبد الآن».
24
وكتب الزوجان الكاتبان تايا وموريس زينكين أن «الهندوس متسامحون جدا». فقد أثبتت نتائج الانتخابات أن «الطائفية الهندية منيت بهزيمة نكراء»، بل «بذلك فشلت الطائفية، بصفة نهائية على الأرجح».
25
رأى معلقون آخرون - منهم الزعيم الكشميري الشيخ عبد الله - أن جواهر لال نهرو بالأساس هو من أبقى الدولة الهندية والسياسة الهندية على مسار العلمانية. وكان أولئك المعلقون قلقين مما سوف يحدث بعد رحيله. فبعد وفاة نهرو راح نفوذ حزب جانا سانج يتنامى شيئا فشيئا؛ فقد فاز بخمسة وعشرين مقعدا في مجلس الشعب الهندي في عام 1967، واثنين وعشرين مقعدا في 1971، وبذلك حافظ على مركزه إلى حد ما على الرغم من «موجة إنديرا» التي تسيدت عام 1971. وفيما بعد، أدت مشاركة الحزب في حركة جايا براكاش نارايان، واعتقال زعيمه أثناء فترة الطوارئ، ودور الحزب في حكومة جاناتا، إلى زيادة أهميته وحضوره على الساحة. ثم تراجع مرة أخرى، وعاد تحت اسم جديد - حزب بهاراتيا جاناتا - ليفوز بمقعدين في انتخابات عام 1984. فحتى أتل بهاري فجبايي، الذي كان عضوا في البرلمان منذ عام 1957، فشل في الفوز بفترة جديدة، ومرة أخرى أعلن انتهاء عهد السياسة القائمة على الدين. ومرة أخرى، قيل إن الهندوس لن يحتملوا سيطرة التزمت الديني على إخوانهم، وكتب عالما سياسة أمريكيان قائلين: «السمة الأبرز في السياسة الهندية هي صمود النزعة الوسطية.» وإلى جانب النزعة الهندية الطبيعية إزاء الاعتدال، كان على حزب بهاراتيا جاناتا مواجهة تفتت جمهور الناخبين أيضا على أساس الطائفة الاجتماعية والإقليم؛ ومن ثم كان الوصول إلى نتيجة مفادها أن «قاعدة الدعم الممنوحة لحزب طائفي قومي، يمثل الأغلبية الهندوسية، قاعدة وهمية».
26
ثم جاءت أحداث التسعينيات لتنسف تلك النبوءات. فالقضية الكبرى في ذلك العقد كانت في الواقع صعود النزعة الطائفية الهندوسية، كما تبين بوضوح في عدد المقاعد التي فاز بها حزب بهاراتيا جاناتا في الانتخابات العامة المتعاقبة. وإلى جانب مسرح السياسة الحزبية الرسمي، كان ثمة تحول جار أيضا على أرض الواقع؛ ففي البلدات والقرى بمختلف أنحاء شمال الهند، كان التغيير جاريا في ملامح العلاقة بين الهندوس والمسلمين؛ ففيما مضى كان أعضاء المجتمعين يعيشون جنبا إلى جنب، وبعضهم يتاجر مع بعض، بل إنهم كانوا يتصادقون ويلعبون معا. صحيح أنهم أيضا كانوا يتنافسون ويدخلون في نزاعات؛ إذ كان كل منهما يرى نفسه متفوقا على الآخر دينيا، وكان لكل منهما ذكريات - سواء حقيقية أم خيالية - عن تعرضه للإساءة أو الضرر على يد الآخر. إلا أن موجبات التعايش استتبعت أن تلك الانقسامات كانت الأنشطة المشتركة بينهما تبددها أو تحتويها، إلا أنه مع اندلاع أعمال الشغب التي أشعلت حركة أيوديا فتيلها، حلت العداوة الصريحة محل العلاقات المتذبذبة؛ فصارت العدائية والتشكك هما السمتين الحاكمتين - وقد يقول البعض: الوحيدتين - في العلاقة بين الهندوس والمسلمين.
27
نظرا لأن المسلمين كانوا أقل عددا وأسوأ حالا بصفة عامة من الناحية الاقتصادية، فقد كانت خسارتهم أكبر بتعكر صفو العلاقات؛ ففي معظم أحداث الشغب، كان عدد القتلى من المسلمين أكبر من عدد القتلى من الهندوس، وأحرقت منازل أكثر للمسلمين من الهندوس، وسقط مسلمو الهند جميعا فريسة شعور عميق بانعدام الأمن. وسخرية الهندوس المتعصبين وقولهم إن المسلمين ينبغي أن يذهبوا إلى باكستان أورثاهم شعورا بالضعف والغبن. وقد عبر الشاعر خضر محيي الدين المسلم المتحدث باللغة التيلوجوية - نحو عام 1995 - عن مشاعر المسلم الهندي العادي بأسلوب مثير للمشاعر، فقال إنه من ناحية يقول الهندوس للمسلم إنه عليه أن يعتبر:
ديني مؤامرة
صلاة الجماعة مؤامرة
استلقائي ساكنا مؤامرة
محاولتي الاستيقاظ مؤامرة
رغبتي في تكوين أصدقاء مؤامرة
جهلي، تخلفي، مؤامرة.
وقال خضر إنه من ناحية أخرى:
ليست مؤامرة
جعلي [من قبل الهندوس] لاجئا
في مسقط رأسي نفسه. •••
ليست مؤامرة
أن يسمم الهواء الذي أتنفسه
والمكان الذي أعيش فيه. •••
وليست مؤامرة بالتأكيد
أن أمزق إربا
ثم يتخيلون وطنا غير ممزق.
كان المسلم مطالبا على الدوام بإثبات ولائه للهند، فكما تبين لخضر محيي الدين: «مباريات الكركيت تزن وطنيتي وتقيسها.» فعندما تلعب الهند مباراة أمام باكستان، كان المسلمون يطالبون برفع علم البلاد أمام منازلهم، وأن يشجعوا الفريق الوطني جهرا وعلنا. وعلى حد تعبير الشاعر: «لا يهم حبي لبلدي، ما يهم هو مدى كرهي للبلد الآخر.»
28
مثل استقطاب المجتمعين انتصارا لسانج باريفار، وهو الاسم الجامع الذي تعرف به مجموعة المنظمات القائمة حول منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج وحزب بهاراتيا جاناتا. طوال العقود الخمسة الأولى منذ استقلال الهند، ظلت أيديولوجية سانج باريفار ثابتة إلى حد بعيد. وعلى حد علمي، فإن أفضل تلخيص لتلك الأيديولوجية يظهر في السرد الشامل الذي كتبه دي آر جويال عن تاريخ منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. فطبقا لجويال، تتمثل المعتقدات الأساسية لما تسميه سانج باريفار «هندوتفا» (الحركة القومية الهندوسية) في الآتي:
لقد عاش الهندوس في الهند منذ الأزل؛ الهندوس هم الأمة لأن الثقافة والحضارة والحياة كلها وليدة إسهامهم وحدهم، غير الهندوس إما غزاة أو ضيوف، ولا يمكن معاملتهم على قدم المساواة ما لم يتبنوا التقاليد والثقافة الهندوسية، وما إلى ذلك. غير الهندوس - ولا سيما المسلمون والمسيحيون - أظهروا العداء لكل شيء هندوسي، ومن ثم ينبغي معاملتهم على أنهم مصدر تهديد. إن حرية هذا البلد وتقدمه من حرية الهندوس وتقدمهم. وتاريخ الهند هو تاريخ كفاح الهندوس لحماية دينهم وثقافتهم وصونهما من اعتداء أولئك الأجانب؛ التهديد مستمر لأن السلطة في أيدي أشخاص لا يؤمنون بأن تلك الأمة أمة هندوسية. من يتحدثون عن الوحدة الوطنية بوصفها وحدة جميع من يعيشون في هذا البلد مدفوعون بالرغبة الأنانية في السيطرة على أصوات الأقليات ومن ثم فهم خونة. وحدة الهندوس وتضامنهم هما الضرورة الملحة في هذه الساعة؛ لأن الهندوس محاطون بالأعداء من كل جانب. لا بد للهندوس من تطوير قدرتهم على الرد الجماعي، والهجوم خير وسيلة للدفاع. انعدام الوحدة هو السبب الأساسي لمشكلات الهندوس كافة، وقد ولدت سانج باريفار برسالة إلهية مفادها تحقيق هذه الوحدة.
29
وأضاف جويال أنه «دون خوف من معارضة يمكن القول بأنه لا شيء قيل أكثر مما سبق في فروع منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج خلال 74 عاما مضت على نشأتها».
على الرغم من بقاء أيديولوجية المنظمة كما هي، فمع مرور الوقت حدث نمو هائل في تنظيمها من حيث قوتها وتأثيرها. فبعدما كانت يوما هيئة ذكورية خالصة، فتحت جناحا خاصا للنساء، حثت تلميذات المدارس وربات المنازل على الانضمام إليه. وبعدما كانت مقتصرة على شمال الهند، أنشأت فروعا نشطة في ولايات لم يكن لها فيها أي وجود مسبقا. وفي كل مكان، كيفت الأيديولوجية المحورية للمنظمة مع السياق المحلي؛ ففي جوجارات احتفي بإعادة بناء معبد سومناث العتيق باعتباره دليلا على الهندوسية المتحدة قوية العزيمة. وفي أوريسا، انصب التركيز على معبد جاجاناث، الذي استخدمته المنظمة لبناء الجسور بين الهويات الهندوسية على المستوى المحلي وعلى مستوى الهند قاطبة. وكان ثمة تأكيد خاص على العمل في المناطق القبلية، وعلى «استعادة» الأديفاسي و«إعادتهم» إلى كنف الهندوسية؛ ففتحت مدارس يمكن فيها لصبية القبائل تعلم اللغة السنسكريتية والتعرف على الأساطير الهندوسية. وكانت المنظمة تعمل جاهدة وقت وقوع الكوارث الطبيعية؛ فقد كانت تجلب الحبوب عندما تشح الأمطار وتعيد بناء المنازل بعد وقوع أي زلزال.
30
ومع نمو التنظيم، وجدت أيديولوجية المنظمة تعبيرا أشمل عنها من خلال استراتيجية انتخابية جديدة. فقد كان إم إس جلوالكر يرى أن ذبح الأبقار هو القضية التي يمكن لسانج باريفار أن تستهل بها كفاحا على مستوى الدولة. تلك الخطة باءت بالفشل، إلا أن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها حزب المؤتمر قدمت لهم على طبق من فضة قضية أكثر تحريكا للمشاعر؛ فعندما سعت حكومة راجيف غاندي إلى استرضاء المتعصبين المسلمين بإبطال حكم المحكمة العليا في قضية شاه بانو، صار في مقدور الراديكاليين الهندوس أن يدفعوا بحجة - مقنعة أكثر من أي وقت مضى - مفادها (مع كامل الاحترام لكلمات دي آر جويال الواردة سابقا) أن الحكام الحاليين «مدفوعون بالرغبة الأنانية في السيطرة على أصوات الأقليات»، وفي سبيل مواجهة ذلك «وحدة الهندوس وتضامنهم هما الضرورة الملحة في هذه الساعة». وثبت أيضا أن «غير الهندوس إما غزاة أو ضيوف» من إحجام المسلمين العنيد عن تسليم مسجد بابري؛ فقد مثل البناء في حد ذاته إهانة مستمرة للكبرياء الهندوسي، وتذكيرا بغيضا بأيام عبوديتهم الماضية، التي لم يتغلبوا عليها تماما بعد، فكان عدم السماح لهم بإقامة دار عبادة لإلههم المحبوب رام لا لشيء سوى أن «الهندوس محاطون بالأعداء من كل جانب»: أعداء من الداخل، مثل الساسة الذين يسترضون المسلمين، وأعداء من الخارج، مثل الدولة المسلمة الباغية (باكستان)، التي خاضت ثلاث حروب ضدهم. فمن أجل بناء معبد رام، وأيضا من أجل حماية أنفسهم بصفة أعم، كان على الهندوس «تطوير قدرتهم على الرد الجماعي» وإدراك أن «الهجوم خير وسيلة للدفاع».
دعونا نضف إلى العبارات التي اقتبسناها من تلخيص دي آر جويال بالفعل السطر الأخير بالغ الأهمية: «انعدام الوحدة هو السبب الأساسي لمشكلات الهندوس كافة، وقد ولدت سانج باريفار برسالة إلهية مفادها تحقيق هذه الوحدة.»
في حركة رام، تلقت رسالة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج دعما من المنظمات الشقيقة لها، لا سيما المجلس الهندوسي العالمي الذي تبنى القضية في الأصل. وإضافة إليه كانت منظمة بجرانج دال، المسماة تيمنا بالإله القرد هانومان التابع شديد الإخلاص لرام (وكان يطلق عليه أيضا بجرانج بالي). كانت تلك المنظمة تتألف من شباب غاضبين، غير معدين لغرض «حماية» معبودهم (كما يفترض أن هانومان فعل) وإنما للتخلص من أي شخص يقف في طريقهم. وأخيرا، كان هناك حزب شيف سنا، الذي كان في الواقع حزبا منفصلا تماما؛ أفكاره وأساليبه أكثر تطرفا حتى من أفكار وأساليب المجلس الهندوسي العالمي ومنظمة بجرانج دال. فقد كان أعضاء هذا الحزب يميلون إلى نعت المسلمين بأوصاف من قبيل «الثعابين السامة» و«الخونة» ونصحهم بالانتقال إلى باكستان.
31
بحلول الثمانينيات، لم يعد من الممكن أن تظل منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج توصف بأنها هيئة ذكورية أو متركزة في شمال الهند. فقد سعت إلى اجتذاب النساء ومناطق أخرى من الهند، إلا أنها لم تتخلص من وصفها بمنظمة «البراهمة والبانيا» - التي تقودها وتسيطر عليها النخبة، من الطوائف الهندوسية المتعلمة في المعتاد - إلا عبر حركة رام. فخلال أول ستين عاما بعد نشأة المنظمة كانت تسترشد ببراهمة مهاراشتريين؛ أولا كيه بي هيدجوار، ثم إم إس جلوالكر، وأخيرا بالا صاحب ديوراس. ثم عين شخص غير برهمي من أوتر براديش - راجندرا سينج - رئيسا للمنظمة في مارس 1994. لم يكن ذلك مجرد رضوخ للنقاش الذي دار بشأن لجنة مندل، وإنما كان إقرارا أيضا بالدور الرئيسي الذي اضطلعت به الطوائف الاجتماعية المتخلفة في حركة أيوديا؛ فقد كان معظم أعضاء شيف سنا والمجلس الهندوسي العالمي من طوائف اجتماعية وسطى، كما اشتملا أيضا على عدد لا بأس به من الداليت.
من خلال هذه القاعدة متزايدة الاتساع - من حيث المنطقة والنوع ولا سيما الطائفة الاجتماعية - نشأ ما يمكن تسميته عن إنصاف: «الكتلة التصويتية الأكبر على الإطلاق». ففي بدايات الجدل حول مسألة أيوديا، خلال عامي 1985 و1986، كان زعماء المجلس الهندوسي العالمي ميالين للإشارة إلى المسألة باعتبارها مسألة تطول «مشاعر 600 مليون هندوسي». ومع مرور الزمن، وبقاء المسألة دون حل، أسفرت التغيرات الديموغرافية عن تضخم طبيعي في الأرقام؛ فأصبحت «الستمائة مليون» «سبعمائة مليون»، بل حتى «ثمانمائة مليون». كان ذلك غرورا منهم بالتأكيد؛ فالمجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج لم يكونا يتحدثان بلسان أغلبية الهندوس، لكن الظاهر أنهما تحدثا بلسان عدد كاف من الهندوس للسماح لواجهتهما السياسية، حزب بهاراتيا جاناتا، بأن يصبح أكبر حزب سياسي قائم بذاته في البرلمان الهندي.
في التسعينيات، عرف حزب بهاراتيا جاناتا الأجندة السياسية بطريقة كان حزب المؤتمر قد اتبعها في الخمسينيات والستينيات. ومن ثم اكتسب خلاف على مكان في مدينة صغيرة بشمال الهند أهمية كاسحة في حياة الأمة. وأصبح الخطاب السياسي في المجمل تستحوذ عليه مسائل الهوية الدينية عوضا عن التنمية الاقتصادية أو الإصلاح الاجتماعي. أما حزب المؤتمر - إذ راح يفقد سيطرته على الحكومة، وتقل مقاعده في البرلمان - فأصبح دوره ينحصر في الرد على النقاشات التي يطرحها حزب بهاراتيا جاناتا. وفي بادرة يائسة، استعان الحزب بسونيا أرملة راجيف غاندي - التي كانت آنذاك تعيش في عزلة مع أسرتها في دلهي - لكي ترأس الحزب. وبعدما تولت سونيا غاندي رئاسة الحزب عام 1998، لم تأل جهدا لتبديد صورة حزبها كحزب «معاد للهندوسية». فكانت تزور المعابد بانتظام، بل بلغ بها الأمر حد المشاركة في الحج الهندوسي الأكبر «كومبه ميلا»، الذي يعقد كل اثني عشر عاما، وفيه يستحم عشرات الملايين من الهندوس في نهر الجانج في الله أباد.
32
في حين أن النزاع في أيوديا ظل محور اهتمام سانج باريفار، فقد تبنت حملات أخرى في تسعينيات القرن العشرين؛ إذ حددت مواقع أخرى زعمت أن المسلمين استولوا فيها على مزارات هندوسية ، على سبيل المثال، متهورا وباناراس وبلدة دهار في ماديا براديش وتلال بابا بودان في منطقة تشيكماجلور بكارناتاكا. ثم أنشئت حركات - متفاوتة النجاح - من أجل «استعادة» تلك المواقع من أيدي «الدخلاء». وفي الوقت نفسه، شنت هجمات على المبشرين المسيحيين، لا سيما العاملون منهم في المناطق القبلية، وأحرقت كنائس وضرب قساوسة في كل من جوجارات وماديا براديش، وأحرق مبشر أسترالي حيا في أوريسا مع ولديه، واكتشف فيما بعد أن مرتكب الجريمة كان عضوا في تنظيم بجرانج دال يدعى دارا سينج.
33
وعلى الرغم من أن الهندوس مثلوا أغلبية كبيرة في الهند، أصرت منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج على أن غلبة الهندوس مهددة بسبب الحملات التبشيرية المسيحية من ناحية وبسبب كبر حجم الأسر المسلمة من ناحية أخرى، الذي يعزى إلى ممارسة تعدد الزوجات.
34
أديرت تلك الحملات في مناطق مختلفة من الهند، أحيانا تحت قيادة منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، وأحيانا أخرى بمبادرة المجلس الهندوسي العالمي أو حزب شيف سنا، إلا أنه كان ثمة نمط أساسي للحملات كلها؛ ففي كل حالة، كانت إحدى جماعات الأقليات الدينية - المسلمون أو المسيحيون - تستهدف، وتتهم بإيذاء مشاعر الهندوس أو بأنها تعمل لحساب قوة أجنبية. كانت شيطنة الآخر مقدمة ضرورية لحشد الناس؛ ومن ثم تنمية روح تضامن جماعية في مجتمع هندوسي منقسم منذ زمن. عادة كان يتم تحديد القضايا المتبناة بعناية وتدبر، ولكن أحيانا تكون القضايا هزلية لا شيطانية؛ ففي صيف عام 2000 - على سبيل المثال - شكت مجلة «بانش جانيا»، التي تصدرها منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، أن الممثلين الثلاثة الأبرز في قطاع السينما الهندية (شاروخان وعامر خان وسلمان خان) كلهم مسلمون، ورأت المجلة في تلك المصادفة مؤامرة شريرة لعصابات المافيا (على ما يبدو) التي تمول أفلام هؤلاء الممثلين والشركات متعددة الجنسيات التي يروج هؤلاء الممثلون لمنتجاتها. وبغية درء المؤامرة، دعت المجلة قراءها إلى تشجيع ممثل صاعد يدعى ريتيك روشان، المنافس «الهندوسي» الوحيد لاحتكار الممثلين الثلاثة السابقين للسينما الهندية.
35
6
بوجه عام، كان المسلمون في الهند أفقر من الهندوس، وأقل حظا منهم في التعليم. وكان المجتمع يتضمن بضعة رواد أعمال مسلمين، ولكن لم يكن به طبقة وسطى مسلمة حقيقية. وقد ظل تمثيل المسلمين منخفضا في الوظائف المهنية والمصالح الحكومية. وكان 40٪ من المسلمين في المدن يعيشون تحت خط الفقر، ولم يكن الوضع في الريف أفضل من ذلك بكثير. وكانت نسبة المتعلمين بين المسلمين أقل من المتوسط الوطني بكثير، والفجوة بينهم وبين الجماعات السكانية الأخرى في تنام. كانت قلة من الفتيات المسلمات يذهبن إلى المدرسة، بينما كان الفتية المسلمون يدخلون في أغلب الأحيان مدارس إسلامية لا تؤهلهم مناهجها البالية للحصول على وظائف في الاقتصاد الحديث. في الوقت نفسه، كانت مضايقات سانج باريفار قد غرست لدى المثقفين المسلمين عقلية دفاعية، بل ما يصل إلى عقلية حصار؛ فالتجأ الشباب الذكور بصفة خاصة إلى الدين؛ إذ رأوا في تجديد الالتزام بالإسلام بديلا عن الفقر والاضطهاد في العالم الخارجي. ولم تكن هذه النقلة الإيمانية هادئة دائما؛ فقد نشأت حركة طلابية إسلامية، رأت قياداتها أن التهديدات الناشئة عن الديانة المنافسة لا يمكن مواجهتها إلا بقوة السلاح.
36
أدى صعود الأصولية الهندوسية في التسعينيات إلى تنمية المشاعر الدفاعية لدى أقلية تشعر بالضعف أصلا، إلا أن الأدوار كانت معكوسة في ولاية جامو وكشمير الحدودية، ففيها تزايد تعبير الأغلبية المسلمة عن طموحاتها في إطار ديني، مما أسفر عن معاناة الأقلية الهندوسية.
تزعمت جبهة تحرير جامو وكشمير الانتفاضة الشعبية التي هبت في الوادي عام 1989 في بداية الأمر، إلا أن الجبهة سلمت الراية في غضون عام إلى حزب المجاهدين، الذي كان التزامه بجعل كشمير مكان تتعايش فيه ديانات متعددة أقل يقينا بكثير. فقد استعيض عن نداء «الحرية» بنداء الجهاد (أو الحرب المقدسة). فكان أحد الشعارات الشائعة لحزب المجاهدين هو: «هذه ليست حرب عصابات، ولا حرب تحرير قومية. إنها جهاد، جهاد.»
37
كانت إحدى تبعات هذا التحول إلى الدين هي أن جماعة البانديت الكشميريين أصبحت موضع شك في أعين المتطرفين. فقد كانوا هندوسا، لكنهم مشابهون في نواح أخرى لأشقائهم المسلمين: كانوا يتحدثون لغة واحدة، ويأكلون ألوان الطعام ذاتها، ويتشاركون الثقافة التوفيقية ذاتها لوادي كشمير. في الماضي، كان ثمة خصومة اقتصادية بين الهندوس والمسلمين؛ فقد كان الشيخ عبد الله - على سبيل المثال - مستاء من سيطرة البانديت على الأراضي الصالحة للزراعة وعلى إدارة الولاية، وقد وضع حدا لتلك السيطرة. إلا أن التناغم الاجتماعي كان تاما إلى حد بعيد، فحتى في أعمال الشغب المصاحبة للتقسيم عام 1947 لم تمس كشمير، وكانت واحة سلام أشاد بها المهاتما غاندي نفسه.
في شتاء 1989-1990، عندما حل حزب المجاهدين محل الجبهة الوطنية لتحرير جامو وكشمير، أصبح البانديت مستهدفين؛ فلكونهم هندوسا - لا لسبب آخر - اعتبروا عملاء لدولة طالما قهرت الكشميريين. قتل عدة مئات من البانديت بين عامي 1989 و1990، بأساليب بثت في الناجين منهم شعورا عميقا بعدم الأمان. وكما كتب صحفي وثق تلك الأحداث لاحقا:
هؤلاء النساء والرجال لم يقتلوا عرضا في تبادل إطلاق نار، وإنما استهدفوا استهدافا ممنهجا ووحشيا. كثير من النساء كن يتعرضن لاغتصاب جماعي قبل أن يقتلن، وإحدى النساء شطرت نصفين باستخدام منشار كهربائي، وحملت جثث الرجال آثار التعذيب، فكان القتل خنقا أو شنقا أو بالبتر أو فقء العينين أمرا شائعا. وفي أغلب الأحيان كانت جثثهم تلقى مرفقة برسالة تتوعد من يقربها بالقتل.
38
فبدأت عائلات البانديت تفر مذعورة من الوادي إلى منطقة جامو ذات الأغلبية الهندوسية، بينما فر آخرون إلى مناطق أبعد من ذلك، إلى دلهي وحتى بومباي.
كان عدد البانديت المقيمين في وادي كشمير يقدر بنحو 200 ألف، وبحلول صيف عام 1990، كان نصفهم على الأقل قد رحل، وأصبحوا يعيشون في مخيمات للاجئين، بعضها تديره الحكومة، والبعض الآخر تديره منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. في البداية كان أمل الدولة - وأملهم أيضا - أن يكون نزوحهم مؤقتا، وأن يرجعوا إلى الوادي ما إن يعود السلام. ولكن واقع الأمر كان أن إقامتهم في تلك المخيمات قد طالت.
39
طوال التسعينيات، حدث مزيد من الهجمات على البانديت الذين آثروا البقاء في الوادي؛ ففي بعض الأحيان كانت النار تضرم في قرى صغيرة بأكملها. وبحلول نهاية ذلك العقد، كان تعداد البانديت الباقين في الوادي أقل من 4 آلاف، في تذكرة حزينة بالقرون التي عاشوا فيها جنبا إلى جنب مع شركائهم في الوطن.
40
تلقت نزعة التطرف المتنامية في كشمير مساعدة نشطة من باكستان، فقد أقامت وكالة الاستخبارات الباكستانية معسكرات لتدريب الإرهابيين على استعمال الأسلحة وتزويدهم بخرائط للمنطقة. وبمساعدة الوكالة، تمكن النشطاء الكشميريون من التنقل بحرية عبر الحدود؛ دخولا إلى الهند لإجراء عمليات قتل أو تفجيرات، ثم عودة إلى باكستان للاستراحة وتجديد طاقتهم. وفي ذلك الوقت، كان المسلحون المحليون قد انضم إليهم مرتزقة أجانب - من العرب والشيشان والأوزبك - كانوا قد تدربوا على القتال في الحرب ضد النظام العميل للاتحاد السوفييتي في أفغانستان. وعندما انتهت الحرب، وعادت القوات الروسية إلى بلادها مهزومة، وجد هؤلاء المقاتلون لأنفسهم قضية مقدسة أخرى ممثلة في تحرير كشمير.
بحلول منتصف التسعينيات، كان حزب المجاهدين قد انضم إلى ركبه مئات كثيرة من المجاهدين الضيوف، الذين يحملون ولاءات إلى جماعات متباينة، كلها كان لها مقر في باكستان، وكلها مارست الصورة المتزمتة الأصولية من الإسلام، التي كانت تدرس في المدارس الإسلامية المتعددة بذلك البلد. فخلال عقد الثمانينيات، جرت أسلمة المجتمع الباكستاني على قدم وساق. وعند ميلاد دولة باكستان عام 1947، لم يكن بها سوى 136 مدرسة إسلامية، وبحلول عام 2000 كان عدد تلك المدارس قد بلغ 30 ألفا فيها. وحسبما كتب طارق علي، كانت تلك المدارس «حضانات عقائدية مصممة لإنتاج المتطرفين». ففي ذلك الوقت كانت باكستان تتفاخر بامتلاكها ما يصل إلى ثمانية وخمسين حزبا سياسيا إسلاميا وأربع وعشرين ميليشيا دينية مسلحة، وكان معظم أعضاؤهما نتاج منظومة المدارس الإسلامية.
41
أدى تكثيف المشاعر الدينية في باكستان إلى تعميق التزامها بمسألة «تحرير» كشمير. تحدث الوعاظ في المساجد والمدارس الإسلامية مرارا وتكرارا عن الظلم الذي تمارسه الهند في وادي كشمير، وحثوا أتباعهم على الانضمام إلى صفوف المجاهدين هناك. استميل الشباب على هذا النحو للانضمام إلى جماعات من قبيل جماعة «لشكر طيبة» (عسكر طيبة)، التي سرعان ما اضطلعت بدور بارز في الكفاح المسلح. كان الهدف القريب هو ضم كشمير إلى دولة باكستان؛ فهذا «واجب ديني لا على شعب باكستان فحسب، وإنما على الأمة الإسلامية بأسرها». وتمثل الهدف الأشمل في استثارة حرب أهلية في الهند. فكما قال رئيس جماعة لشكر طيبة - حافظ محمد سعيد - في فخر، إنهم كانوا يهدفون إلى «إنشاء شبكة مجاهدين في جميع أنحاء الهند» تستجلب، عند تكونها، «بداية تفكك الهند».
42
وقال سعيد لصحفي أمريكي: «القصاص فرض علينا، فقد هزمنا القوة العظمى الروسية في أفغانستان، ويمكننا هزيمة القوات الهندية أيضا. الله معنا في حربنا، وإذا ما شرعنا في الجهاد، فلا يمكن لقوة أن تقف أمامنا.» وفي حديث لمراسل صحفي باكستاني، ادعى سعيد قائلا إن «معركتنا مستمرة حتى إذا تحررت كشمير. فلا يزال علينا الانتقام [من الهند] من أجل [خسارة] باكستان الشرقية».
43
ربما لم تكن تلك العدائية والكراهية مفاجئة. فمن وجهة نظر الجهاديين، كانت الهند بلاد الكفار، ولكن واقع الأمر أنهم أنزلوا عقابهم ببعض إخوانهم في الدين أيضا؛ فقد قتلوا نشطاء من حزب المؤتمر الوطني الكشميري، الذي كان يرغب في الحصول على الحكم الذاتي داخل الهند، ومن الجبهة الوطنية لتحرير جامو وكشمير، التي رغبت في الاستقلال عوضا عن الاندماج مع باكستان، ومن حزب المؤتمر الشعبي الذي دعا إلى اجتناب العنف.
44
وضيق الأصوليون الخناق أيضا على مصادر بهجة الناس؛ فأغلقت دور العرض السينمائي وصالات ألعاب الفيديو، وحظر شرب الخمر والتدخين. ووزعت الجماعات المسلحة منشورات تأمر النساء بتغطية أنفسهن من قمم رءوسهن إلى أخامص أقدامهن بارتداء البرقع الأسود الطويل. كان ارتداء البرقع منافيا للتقاليد الكشميرية؛ ففيها كان كثير من النساء لا يرتدين الحجاب أصلا، وإضافة لذلك، كانت تكلفة البرقع الواحد ألفي روبية؛ فأشار المعلقون الساخرون إلى احتمال وقوف الخياطين وتجار الأقمشة وراء تلك الخطوة. إلا أن محاولات وحشية جرت لفرض ارتدائه، وألقيت الأحماض الحارقة على النساء اللائي لم ينصعن.
45
إلا أن الهدف الرئيسي الذي صب عليه الأصوليون جام غضبهم كان الدولة الهندية ورموزها. فلم يكن يمر أسبوع دون هجوم انتحاري على إحدى نقاط الجيش أو معسكرات الشرطة. وبغية وقف تلك الهجمات أو التصدي لها، نقل مزيد من القوات إلى الوادي؛ فأصبحت خنادق الجيش منتشرة في كل ركن من شوارع سريناجار، وصار للجيش الهندي «وجود مهيب ومنتشر في كل مكان» في كشمير، بل حتى أصبح «حكومة موازية»؛ فلم يكن المتوقع منه هو حفظ الأمن والنظام فحسب، وإنما إدارة المستشفيات والمطارات ومحطات الحافلات والمراكز السياحية أيضا، فقد تخلت حكومة الولاية عن معظم مهامها. وبحلول عام 1995، لم يتبق في كشمير سوى مؤسستين عاملتين فقط؛ هما الجيش الهندي من جهة وشبكة الجماعات الجهادية من جهة أخرى.
46
وإذ أصبح الوادي يشبه منطقة محتلة، تكتل الشعور الشعبي في صف القضية الجهادية. فاختلط الإرهابيون بسهولة بسكان المكان، وكانوا يمنحون المأوى قبل عملياتهم أو بعدها. وعندما كان رجال الأمن الهنود يقتلون في التفجيرات، كانت قوات الأمن ترد بانتقام شديد أحيانا؛ فيداهم الجنود القرى النائية على حين غرة، بحثا عن الإرهابيين، وعندما لا يجدون أيا منهم يوسعون الفلاحين ضربا عوضا عنهم. وسجل أيضا عدد كبير من الوفيات أثناء الاحتجاز.
كانت هذه الحرب التي بدت لا نهائية باهظة التكلفة. فوفقا للإحصاءات الحكومية، توفي نحو 12 ألف مدني بين يناير 1990 وأغسطس 2001 في ظروف غير طبيعية؛ حيث قتل ثلاثة أرباعهم على يد مسلحين، بينما سقط الباقون ضحية النيران المتبادلة. زعمت قوات الأمن أنها قتلت 13400 مسلح وفقدت 3100 من رجالها. ونظرا للكثافة السكانية المنخفضة، كان هذا العدد من الوفيات في كشمير معادلا لمقتل 4 ملايين هندي في البلد ككل.
47
تناثر الضحايا في جميع أنحاء ذلك الوادي الجميل الذي ازداد هجر سكانه له يوما بعد يوم، إلا أن معظمهم كانوا شبابا كشميريين بلغوا سن الرشد في ذلك العقد الملعون. وفيما بعد، زار الصحفي مزمل جليل - الذي كاد هو نفسه أن ينضم إلى المقاتلين - مقبرة على مقربة من القرية التي ولد فيها، ووجد أن واحدا وعشرين من شواهد القبور كانت لأصدقائه ورفاقه في المدرسة.
48
كما كتب جيمس بوكن، في الأعوام التي تلت عام 1990:
تآمر المسلمون الكشميريون مع الحكومة الهندية للقضاء على التعقيدات التي انطوت عليها الحضارة الكشميرية. فقد زال العالم الذي كانت تعيش فيه: حكومة الولاية والطبقة السياسية، وسيادة القانون، وتقريبا جميع ... سكان الوادي الهندوس، والمشروبات الكحولية، ودور السينما، ومباريات الكريكيت، والخروج في نزهات تحت ضوء القمر في حقول الزعفران، والمدارس، والجامعات، والصحافة المستقلة، والسائحين و... البنوك. وفي ظل هذا الاختزال للواقع المدني، معالم كشمير ... أعيد ترسيمها؛ فلم تعد هي ... البحيرات والحدائق المغولية ... ولا الانتصارات التي تحكي عنها القصص في الزراعة والحرف اليدوية وفنون الطهي الكشميرية، وإنما أصبحت كيانين متواجهين دون وسيط: المسجد ومعسكر الجيش.
49
خلال عقد التسعينيات، مع تنامي قوة النزعة الأصولية الهندوسية في سائر أنحاء الهند، تصاعدت وتيرة النزعة الأصولية الإسلامية في كشمير. بدأت العمليتان كل على حدة، لكن كلا منهما عززت الأخرى ومنحتها المشروعية. فمع كل نوبة شغب تثيرها حركة أيوديا، كانت العناصر الراديكالية في وادي كشمير تجد سهولة أكبر في تصوير الهند على أنها دولة تدار بواسطة الهندوس ومن أجلهم. وكلما قتل مدنيون أبرياء أو جنود هنود في الوادي، تسنى لمنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج الإشارة إلى دور باكستان في تأجيج المشكلات داخل حدود الهند. وثمة حادثتان محوريتان مثلتا العلامتين المميزتين - إن جاز التعبير - لحقبة التنافس الأصولي تلك؛ هما : تدمير مسجد بابري والهجرة الجماعية للبانديت الكشميريين. فهل يمكن للمرء أن يضع ثقته في دولة عجزت عن الوفاء بالتزامها بحماية دار عبادة عتيق؟ وهل يمكن للمرء وضع ثقته في مجتمع طرد بتلك القسوة معتنقي ديانة أخرى؟ ترددت التساؤلات من هذا القبيل في أنحاء شبه القارة الهندية، على لسان هنود لا حصر لهم لم يعرف عنهم مسبقا التفكير من منظور الدين والعقيدة.
7
بعد انهيار مسجد بابري، كانت العناصر الراديكالية الهندوسية تأمل في بناء معبد مهيب في مكانه. فكلف مهندسون معماريون بتصميم صرح رخامي، واستعين بحرفيين لقطع الأحجار وصقلها. إلا أن الموقع نفسه ظل في عهدة الدولة. ورفعت قضايا أمام كل من المحكمة العليا في الله أباد ومحكمة الهند العليا، لحسم مسألة ما إذا كان قد سبق وجود معبد للإله رام في هذه البقعة من قبل، وما إذا كان للمجلس الهندوسي العالمي حق قانوني (كما زعم) في الأرض المحيطة بالمسجد القديم. أجريت محاولات أيضا للعثور على حل خارج نطاق المحاكم؛ فالتقى كاهن كانتشي قوي التأثير بلجنة عمل مسجد بابري، وحثها على تسليم ذلك المكان في مقابل عدم مطالبة المسلمين بأي شيء آخر.
ظل حزب بهاراتيا جاناتا ملتزما بتشييد معبد في أيوديا، وعندما جاء الحزب إلى السلطة عام 1998، قال إنه سوف يسعى إلى التوصل إلى وفاق وطني في هذا الشأن، وإنه في حالة عجزه سوف يسن تشريعا يتيح تشييد المعبد. وقال رئيس الوزراء أتل بهاري فجبايي: «راما يحتل مكانة جليلة في الثقافة الهندية»، وزعم أن «البلد كله يريد معبدا للإله راما في أيوديا» وأن المسألة هي «كيف وأين يمكن بناؤه».
50
إلا أنه في الموقع نفسه، ظل الحال على ما هو عليه، فقد أطالت المحكمتان النظر في المسألة، ولم يتمكن من الوصول إلى تسوية خارجهما. وفي تلك الأثناء، نظم المجلس الهندوسي العالمي جولات في أيوديا للمتطوعين من جميع أنحاء البلاد. وأقام أيضا مراسم احتفالية دينية تمهيدا لبناء المعبد، أحد تلك المراسم - أقيم في الأسبوع الأخير من فبراير 2002 - حضره مئات المتطوعين من ولاية جوجارات. وفي طريق عودتهم بالقطار إلى ديارهم، اشتبكوا مع بائعين مسلمين في محطة القطار ببلدة جودرا، فقد طلبوا من البائعين ترديد شعارات إجلالا للإله رام، وعندما رفضوا شدوا لحاهم. ذاع نبأ المشاجرة، وجاء شباب من الحي السكني المسلم المقابل للمحطة ليشاركوا في الشجار؛ فعاد المتطوعون أدراجهم إلى القطار، الذي بدأ يتحرك أثناء رشقه بالحجارة، إلا أن القطار توقف عند الضواحي المحيطة بالمحطة، عندما شب حريق في إحدى عرباته، ولقي ثمانية وخمسون شخصا مصرعهم في الحريق.
كان لبلدة جودرا تاريخ طويل مع العنف الطائفي؛ إذ شهدت أعمال شغب خطيرة عام 1949، ومرة أخرى عام 1981. فمن الواضح أن الهندوس والمسلمين فيها لم يكونا على وفاق دائم، وأن مشكلة أيوديا زادت علاقتهما توترا، ولا جدال أيضا في أن واقعة محطة القطار بدأت بمضايقة المتطوعين للبائعين المسلمين. أما ما لم يتضح حتى الآن فهو سبب الحريق الذي شب لاحقا. زعم المجلس الهندوسي العالمي أنه صنيعة يد جمهرة من المسلمين، بينما تشير أدلة المعمل الجنائي إلى أنه نشأ داخل القطار، في الأرجح عند اشتعال النار في أسطوانة غاز أو موقد كيروسين بسبيل الخطأ.
51
سرعان ما ذاع في أنحاء جوجارات نبأ موت مجموعة من المتطوعين حرقا في جودرا. تبع ذلك موجة من العنف الانتقامي، بلغ أكثر درجاته شدة وترويعا في مدينتي أحمد أباد وبارودا. فهاتان المدينتان - اللتان اشتهرتا يوما برجال الصناعة الخيرين والمثقفين التقدميين، واللتان كانتا يوما مركزين للابتكار التقني والتميز الفني - عايشتا فترة تدهور اقتصادي مطولة، وصاحب ذلك التدهور تدهور في العلاقات المجتمعية. فصار من النادر أن يشترك الهندوس والمسلمون معا في العمل أو اللهو، وهو فصل تجسد في الماضي القريب في صورة نوبات من العنف الطائفي.
52
كانت أعمال الشغب الأخيرة في بارودا وأحمد أباد غير مسبوقة في وحشيتها. هوجمت المتاجر والأعمال المملوكة للمسلمين، وأحرقت المساجد، وخربت السيارات، واغتصبت النساء المسلمات، بينما قتل الرجال، وأشعلت النيران في جثثهم. في كثير من الأحيان كانت الجماهير الغاضبة تعمل تحت قيادة نشطاء من المجلس الهندوسي العالمي، بالتعاون مع الإدارة المحلية. وتضمنت أسلحتهم السيوف والأسلحة النارية والزجاجات الحارقة وأسطوانات الغاز، وقد كان المخربون بحوزتهم قوائم للناخبين، أتاحت لهم تحديد أي المنازل مملوكة للمسلمين وأيها غير مملوك لهم. وأقام وزراء حكومة الولاية معسكرا في حجرات مراقبة تابعة للشرطة، ليديروا منها العمليات، فقد تلقت الشرطة تعليمات بأن «تترك زمام الطرق لجماهير المجلس الهندوسي العالمي وبجرانج دال».
53
إلى جانب بارودا وأحمد أباد، وصل العنف أيضا إلى بلدات وتجمعات سكنية ريفية أصغر حجما؛ ففي منطقة ساباركانتا، طافت الجماهير الغاضبة أنحاء الريف في جرارات وسيارات جيب، مستهدفة ممتلكات المسلمين. وثمة سجل رقمي متاح لحصيلة أفعالهم، تمثل في الآتي: «2161 منزلا، 1461 متجرا، 304 أعمال تجارية صغيرة، ... 71 مصنعا، 38 فندقا، 45 دار عبادة، 240 مركبة، دمرت كليا أو جزئيا.»
54
وما حدث في ساباركانتا سرى على مستوى الولاية ككل بصفة عامة. فقد أوضح المجلس الهندوسي العالمي رغبته في إشعار المسلمين بالعجز إضافة إلى تشريدهم؛ ومن ثم، في أحمد أباد، بعدما خمدت نيران الشغب بأسابيع، ظل المسلمون يجدون صعوبة في الحصول على قروض من البنوك، وعلى الوقود والاتصالات الهاتفية، وفي إدخال أطفالهم المدارس. وقيل للمسلمين الذين فروا من قراهم إنهم سيكون عليهم إسقاط التهم التي وجهوها ضد مرتكبي أعمال الشغب إذا كانوا يرغبون في العودة، وأحيانا كان أمانهم يصير مشروطا باعتناقهم الهندوسية.
55
كان رئيس وزراء جوجارات وقت أحداث الشغب التي وقعت عام 2002 هو ناريندرا مودي، نصير الحركة القومية الهندوسية المتشدد الذي تربى في مدرسة راشتريا سوايامسيفاك سانج عديمة الرحمة. آنذاك برر مودي العنف المرتكب ضد المسلمين بذكر واقعة احتراق عربة القطار في جودرا، التي أطلقت - حسبما قال - «سلسلة من الأفعال وردود الأفعال». والحقيقة أن ردود الأفعال كانت أعظم من الفعل الرئيسي عدة مرات؛ فقد قتل أكثر من ألفي مسلم، وشرد 100 ألف على الأقل وأصبحوا يعيشون في مخيمات للاجئين في ظروف مثيرة للشفقة استرعت انتباه رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية نفسيهما.
56
يعني مصطلح «المذبحة المدبرة»: «المجزرة المعدة لها مسبقا المرتكبة في حق جماعة عرقية بعينها.» ووفقا لهذا التعريف، على الرغم من اندلاع المئات من أعمال الشغب الدينية في الهند المستقلة، فلم تحدث بها سوى مذبحتين مدبرتين: المذبحة الموجهة ضد السيخ في دلهي عام 1984، وتلك الموجهة ضد المسلمين في جنوب جوجارات عام 2002. وثمة أوجه تشابه لافتة للنظر بين الحالتين؛ فكلتاهما بدأت استجابة لواقعة عنف منفردة طائشة ارتكبها - على نحو أو آخر - أعضاء في مجتمع الأقلية، وكلتاهما تطورت لتأخذ صورة انتقام معمم على الأقليات ككل؛ فالسيخ الذين ذبحوا لم يكن لهم صلة من قريب أو بعيد بالسيخ الذين اغتالوا السيدة غاندي، والمسلمون الذين قتلتهم الجماهير الهندوسية الغاضبة كانوا أبرياء تماما من جريمة جودرا.
وفي الحالتين، تمت المذبحة المدبرة نتيجة انهيار سيادة القانون طوعا. فرئيس الوزراء في دلهي عام 1984 ورئيس وزراء جوجارات عام 2002 أدليا بتصريحات عديمة الكياسة، بررت فعليا جرائم القتل، وبلغ الأمر بالوزراء العاملين في حكومتيهما حد معاونة المشاغبين وتوجيههم.
وجه الشبه الأخير هو الأكثر دلالة، وربما كان الأكثر كآبة أيضا؛ فكلا الحزبين، والزعيمين، جنيا في الانتخابات ثمار العنف الذي أباحاه وأشرفا عليه؛ فقد فاز حزب راجيف غاندي في الانتخابات العامة سنة 1984 بهامش ربح كبير جدا. وفي ديسمبر 2002، أعيد انتخاب ناريندرا مودي إلى منصب رئيس وزراء جوجارات بعد فوز حزبه بأغلبية الثلثين في انتخابات مجلس الولاية.
8
تبع صعود اليمين الهندوسي بصفة عامة وأحداث أيوديا بصفة خاصة موجة من التوقعات التشاؤمية القاتمة بشأن مستقبل الهند. جاء في مجلة تصدر بمدراس، تدعى «فرانتلاين»: «لقد أصاب النسيج العلماني للبلاد ضرر بالغ»، وأضيف: «ستتغير الهند إلى الأبد»، وذلك لأن «أحداث 6 و7 ديسمبر قدمت للهند لمحة مما سيكون عليه الوضع في حالة خروج الدولة الهندوسية التي تسعى إليها الحركة القومية الهندوسية إلى حيز الوجود. اتضح ... أن الأقليات لن يعود لها الحق في الحياة - ناهيك عن الحق في التفاعل الاجتماعي - وأن حرية التعبير ستختفي من الوجود، وأن الحقيقة ستنحصر فيما يراه الحكام». وورد التعليق الآتي في مجلة «صنداي» الأسبوعية الصادرة بكلكتا: «في الأسبوع التالي [على 6 ديسمبر 1992]، تغيرت الهند، ربما للأبد.» ومع انهيار السلطة وسيادة القانون، اقتربت الهند في أعين العالم خطوة نحو اعتبارها «جمهورية أفريقية مخوخة ». وأشارت مجلة «إنديا توداي» التي تصدر في نيودلهي في حسرة إلى أن: «القوى التي أطلقت أعمال التخريب في أيوديا العنان لها لم تبدأ في زهق عدد كبير من الأرواح البشرية فحسب، وإنما في إحالة آمالنا وتطلعاتنا كشعب وأمة حطاما أيضا.»
57
شاركت الصحافة الغربية نظيرتها الهندية تلك المخاوف أيضا. كتبت مجلة «تايم»: «مثل القباب الثلاث التي توجت مسجد بابري الذي شيد منذ 464 عاما، أعمدة الدولة الهندية الثلاثة - الديمقراطية والعلمانية وسيادة القانون - أصبحت الآن في خطر من غضبة القومية الدينية.»
58
وفي اليوم التالي لانهيار المسجد، نشرت صحيفة «ذا تايمز» اللندنية خبرا بعنوان: «متطرفون يدفنون آمال التآلف في حطام مسجد هندي». واقتبس عدد اليوم التالي آراء جاك سترو، السياسي المنتمي إلى حزب العمل، الذي كان في زيارة إلى بومباي آنذاك. كان سترو يرى أن ثمة خطرا حقيقيا متمثلا في أن تنزلق الهند «إلى هوة التعصب الطائفي». وتضمن العدد نفسه مقالة افتتاحية للمفكر الأيرلندي كونر كروز أوبراين، الذي أعلن في ثقة: «يبدو أن تاريخ الهند كدولة علمانية في سبيله إلى الانتهاء.» وتوقع أوبراين فرارا جماعيا للمسلمين إلى باكستان، وهجرة الهندوس المتعلمين إلى أوروبا وأمريكا الشمالية.
59
كانت تلك هي ردود الأفعال الفورية - التلقائية، إن جاز القول - للصحفيين سريعي الانفعال ومحترفي النقد الساخر. (كان أوبراين قد تنبأ قبلا بأن سقوط حائط برلين سيؤدي إلى إعادة إحياء عقيدة هتلرية وحزب قائم على المثل النازية.) إلا أن الكتاب المدربين على النظر إلى الآثار طويلة الأمد رددوا تلك المخاوف أيضا. فقد علق كاتب بريطاني ألف العديد من الكتب المحبة عن شبه القارة الهندية قائلا: «كل من يعبأ بذلك البلد جدير به أن يرتعد خوفا على مستقبل ديمقراطيته العلمانية.»
60
وبلغ الأمر بباحث أمريكي - بول براس - قضى عمره يدرس الهند حد مقارنة سانج باريفار بالنازيين قائلا: «آن الأون أن نشير إلى أن السياسة الهندية والمجتمع الهندي يظهر عليهما كثير من أعراض مرحلة فتاكة سابقة على الفاشية أنتجت بالفعل نماذج موضعية متعددة على شاكلة «مذبحة ليلة الكريستال» في عدة مواقع حضرية.» ورأى براس أن «انتشار العنف والفوضى والاضطرابات على المستوى المحلي»، قد يدفع الحكومة المركزية (التي كانت تحت سيطرة حزب المؤتمر آنذاك) إلى «الانخراط في ممارسات سلطوية مرة أخرى». ومن ثم «قد تتفكك الدولة الهندية في هذا الصدام بين الانتهازيين العلمانيين والقوميين المتعصبين، المتساوين في سعيهم وراء الأوهام والخرافات، و«رموز وخيالات» الوحدة الوطنية والعظمة التي تسعى وراءها نظم القرن العشرين الاستبدادية كافة».
61
حتى نوفمبر 2007، تاريخ ظهور كتابي هذا، لم تتحقق تلك النبوءات القاتمة. من الناحية النظرية - وإن كانت الممارسة العملية غير أكيدة بالقدر ذاته - الهند لا تزال دولة علمانية. صحيح أن سيادة القانون ليست كما ينبغي لها أن تكون، لكن الحكومة المركزية لا تزال مسيطرة على معظم أنحاء الهند، والهند لم تتحول (بعد) إلى دكتاتورية مخوخة من النوعية الأفريقية ولا دكتاتورية فاشية على شاكلة النماذج الأوروبية.
الفصل الثامن والعشرون
الحكام
أعلم أن معظم نواب البرلمان يرون الدستور لأول مرة عندما يؤدون اليمين الدستورية.
برامود مهاجان، وزير اتحادي، قالها عام 2000
إن عودة السياسة القائمة على الهوية - أو السياسة القائمة على الطائفة الاجتماعية والفئة المجتمعية - للظهور في الفترة الحالية ليست سوى تعبير عن غلبة الجماعة على الفرد. وهذا ليس أمرا مبشرا بالنسبة إلى الديمقراطية الليبرالية في الهند.
عالم الاجتماعي أندريه بيتي، كتبها عام 2002
1
في يوليو 1958، نشرت مجلة الشئون العامة الأبرز في الهند مقالة غير موقعة تحمل عنوانا مثيرا للفضول هو: «بعد نهرو ...» في ذلك الوقت كان جواهر لال نهرو يشغل منصب رئيس وزراء الهند منذ أحد عشر عاما، وقد وقف على أعتاب عامه السبعين، وكان آخر ممثل للحرس القديم في حزب المؤتمر. حينها فالابهاي باتيل ومولانا أزاد كانا قد توفيا، وكان جوفند بالاب بانت مريضا، وتشكرافارتي راجا جوبالاتشاري اعتزل الساحة مستاء وتقاعد في مدراس. كان الدافع المحرك للحزب والدولة هو السلطة الأخلاقية لرئيس الوزراء، ولم يكن ثمة خلف واضح بين الجيل التالي من أعضاء حزب المؤتمر. فماذا كان سيحدث بعد رحيل نهرو؟
قدمت المقالة التي طرحت هذا التساؤل في يوليو 1958 الإجابة التالية: «الهيبة التي سيتمتع بها الحزب باعتباره وريث تيلاك وغاندي ونهرو ستحول دون نشأة أي معارضة فعالة أو قوية في الأعوام القليلة الأولى. وفي السنوات التالية، مع تنامي الاستياء الشعبي من الجيل الجديد من زعماء الحزب، سيضطر هؤلاء الزعماء - بدافع حب البقاء لا أكثر - إلى القيام بمحاولات متزايدة لاقتناص الأصوات عن طريق استرضاء الطوائف الاجتماعية والمصالح الطائفية والإقليمية، وحتى عن طريق «تزوير» الانتخابات في النهاية.»
وقال كاتب المقالة إنه في هذه الحالة سيجد حزب المؤتمر صعوبة في مقاومة سحر التجارة؛ ذلك لأنه «في ظل نظام سياسي اقتصادي قائم على الاقتصاد المختلط، يظل فيه الخط الفاصل بين المركنتيلية والاشتراكية مبهما للغاية، والسيطرة على أجهزة الدولة يمكن أن تأتي لطبقات رجال الأعمال وكذلك الطبقات الإدارية بثمار يسيل لها اللعاب، من المحتم أن تتسلل المصالح المالية عاجلا أو آجلا إلى الكوادر الحاكمة للحزب الحاكم».
وأخيرا، تنبأ الكاتب بأن نمو التكتلات القائمة على الطائفة الاجتماعية والطائفة الدينية والإقليم سوف تفضي إلى «زيادة عدم استقرار الحكومة؛ أولا في الولايات ولاحقا في المركز أيضا». وعدم الاستقرار ذاك قد يفضي بدوره إلى ظهور نزعة وطنية تنافسية بين الأحزاب المختلفة. وأوضح ذلك قائلا: «على سبيل المثال، قد يحاول حزب المؤتمر توحيد صفوف الأمة وراءه بالتحذير من أخطار «البلقنة»، بينما يحاول جانا سانج تحقيق ذلك من خلال تسليط الضوء على الخوف من عدوان باكستان على الهند، وحزب براجا الاشتراكي من خلال التشديد على المنافسة بين الهند والصين، والحزب الشيوعي الهندي من خلال تأجيج السخط الشعبي حيال إمبريالية الدولار.»
1
من بين كافة النبوءات المعروضة في صفحات هذا الجزء من الكتاب، أثبتت النبوءات المذكورة في تلك المقالة أنها الأكثر دقة بمرور الزمن. فقد تسببت انتخابات 1967 - وهي أول انتخابات تجرى بعد وفاة نهرو - في زعزعة الاستقرار في الحكومة المركزية وكذلك في حكومات الولايات. وقد حدث تنام في المشاعر الشعبوية القائمة على محاور الإقليم والدين والطائفة الاجتماعية، أعرب عنه داخل الحزب الحاكم وفي أحزاب جديدة تكونت على أسس طائفية ضيقة، وهو الأمر الذي لم يتوقعه الكاتب. ومع تزايد المنافسة على الساحة السياسية، سلط حزب المؤتمر تحت حكم إنديرا غاندي الضوء على الخوف - سواء كان واقعيا أم خياليا - من البلقنة، وسلط حزب جانا سانج الضوء على التهديدات - سواء كانت واقعية أم خيالية - التي تشكلها باكستان، بينما أشار الشيوعيون إلى المخططات الشيطانية (سواء كانت واقعية أم خيالية) للولايات المتحدة الأمريكية. وازداد تسرب المال تدريجيا إلى السياسة، وجرت عدة محاولات لتزوير الانتخابات.
من كان ذلك المنجم السياسي الموهوب، الذي أثبتت الأحداث اللاحقة صحة توقعاته بهذه النسبة الكبيرة من الدقة؟ ربما كان عالم سياسة غربيا، اضطر إلى الكتابة دون توقيع عن موضوع مثير للجدل يخص بلدا آخر. أو ربما كان موظفا بالخدمة المدنية يعمل في حكومة الهند، تحظر عليه وظيفته التحدث باسمه، وهذا الاحتمال يطرحه تعليقه: «كبار موظفي الخدمة المدنية يأملون أن يتقاعدوا قبل رحيل نهرو» حتى لا يضطروا إلى العمل تحت إمرة خلف سيكون على الأرجح ذا عقلية أقل تفتحا إلى جانب كونه أقل كفاءة.
2
2
في حياة جواهر لال نهرو، كان حزب المؤتمر يقود الحكومة المركزية دائما، ومن بين أحزاب المعارضة كافة لم يتمكن أحد سوى الشيوعيين في كيرالا من الوصول إلى السلطة في الولايات. إلا أنه بدءا من انتخابات عام 1967، أصبح المشهد السياسي في الهند أكثر تنوعا؛ فقد تزايد عدد حكومات الولايات التي سقطت في أيدي أحزاب غير حزب المؤتمر. وفي عام 1977 وصلت أول حكومة من خارج حزب المؤتمر إلى السلطة في دلهي، ثم شهدت الثمانينيات استعادة حزب المؤتمر السلطة في المركز، لكنه خسرها مرة أخرى في نهاية العقد.
تبدى هذا الاتجاه المتنامي نحو لامركزية النظام السياسي في صعود الحكومات الائتلافية. فحزب جاناتا الذي وصل إلى سدة الحكم عام 1977 كان هو نفسه ائتلافا مكونا من أربعة أحزاب مختلفة. وجاءت ثاني حكومة من خارج حزب المؤتمر من الجبهة الوطنية، التي جاءت إلى السلطة عام 1989. كانت تلك الحكومة مكونة من سبعة عناصر متمايزة وكانت رغم ذلك حكومة أقلية، ومنذ ذلك الحين لم تأت حكومة إلى نيودلهي بقيادة حزب واحد .
3
كانت تلك الائتلافات ثلاثة أنواع: النوع الأول سيطر عليه حزب بهاراتيا جاناتا، خلف حزب جانا سانج القديم، الذي تزعم حكومات ائتلافية لمدة أسبوعين عام 1996، ثم لمدة ستة أعوام بين عام 1998 وعام 2004. وفي هذا التحالف الديمقراطي الوطني، احتفظ حزب بهاراتيا جاناتا بمنصب رئيس الوزراء والوزارات المهمة - الداخلية والمالية والخارجية - مع منح الوزارات الأخرى إلى شركائه في الائتلاف، الذين كانوا تجمعات إقليمية بالأساس.
أقبل حزب بهاراتيا جاناتا على سياسة الائتلافات استنادا إلى اعتقاد سليم بأنه لا يمكنه أن يصل إلى السلطة بمفرده أبدا. ولما كانت جذوره راسخة في شمال الهند، كان توسعه يعتمد بشدة على إقامة تحالفات مع أحزاب أخرى، كل منها قائم في ولاية بعينها. باستثناء حزب شيف سنا في مهاراشترا، لم يكن أي من تلك الأحزاب منتميا إلى أيديولوجية الهندوتفا («الهندوس أولا»)؛ ومن ثم كان على حزب بهاراتيا جاناتا عند تشكيله تلك التحالفات أن يعد بتنحية القضايا المثيرة للخلاف جانبا، مثل قضية معبد الإله رام في أيوديا وقضية إلغاء المادة 370 (التي منحت ولاية جامو وكشمير وضعا خاصا).
4
النوع الثاني من الائتلافات تصدرته البقايا الاشتراكية من تجربة جاناتا. قادت تلك البقايا الاشتراكية حكومة الجبهة الوطنية بين عامي 1989 و1991 وحكومة الجبهة المتحدة بين عامي 1996 و1998. كلتاهما كانت حكومة أقلية؛ مما شجع توزيع المسئوليات الوزارية على نطاق أوسع؛ ففي حين جاء رئيس الوزراء من حزب جاناتا دال، منحت الوزارات المهمة مثل وزارة الداخلية ووزارة الدفاع لشركاء في الائتلاف.
النوع الثالث من الائتلافات سيطر عليه حزب المؤتمر؛ ففي عام 1991 - الانتخابات التي أجريت عقب اغتيال راجيف غاندي - ربح حزب المؤتمر 244 مقعدا. كان أكبر حزب قائم بذاته في البرلمان بفارق لا بأس به عن تابعيه، ولكنه رغم ذلك كان ينقصه نحو ثلاثين مقعدا لتكوين أغلبية. إلا أن الدعم - المتحقق من خلال الإقناع أو غيره من الوسائل - الذي حصل عليه من النواب المستقلين ومن حزب جهارخاند موكتي مرتشا (جبهة تحرير جهارخاند)، أتاح له البقاء في السلطة لفترة كاملة مدتها خمسة أعوام.
في انتخابات 1996 انخفض عدد مقاعد حزب المؤتمر إلى 140 مقعدا؛ فاستقال بي في ناراسيمها راو من منصب رئيس الوزراء، وبعد فترة قصيرة استقال من منصب رئيس الحزب أيضا. آنذاك تحول زعماء الحزب إلى سونيا غاندي، أرملة راجيف. ولدت سونيا في إيطاليا، ونشأت كاثوليكية، ثم تزوجت أحد أفراد العائلة السياسية الأولى في الهند، ولم يكن لديها أي طموح سياسي خاص بها. وفي عام 1981، أبدت معارضة شديدة لفكرة دخول زوجها مجال السياسة، وعندما توفي بعد عشرة أعوام، انعزلت في بيتها مع أسرتها.
5
إلا أنه قبل انتخابات عام 1998، رضخت سونيا غاندي للضغوط من جانب الزملاء القدامى لزوجها ووالدته الراحلين، وانضمت إلى الحملة الانتخابية. وعندما حصل الحزب على 141 مقعدا فحسب، حلت أرملة راجيف محل رئيس الحزب آنذاك، سيتارام كسري. وبعد مرور عام، عقدت الانتخابات في منتصف المدة، وانخفضت فيها حصيلة مقاعد حزب المؤتمر أكثر، لتصل إلى 114 مقعدا. في تلك المرحلة كان المحللون السياسيون على استعداد لإسقاط ربة المنزل التي تحولت إلى سياسية من حساباتهم، إلا أن سونيا غاندي احتفظت بمنصبها وقادت حملات نشطة في سلسلة من انتخابات مجالس الولايات. وقد أتت مثابرتها ثمارها؛ ففي إحدى المراحل، على الرغم من أن التحالف الديمقراطي الوطني - بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا - كان يقود الحكومة المركزية، كان ما يصل إلى خمس عشرة حكومة من حكومات الولايات تحت سيطرة حزب المؤتمر.
6
في أولى الاجتماعات التي أجريت تحت قيادة سونيا غاندي، أبدى حزب المؤتمر ازدراء لفكرة الدخول في تحالف أوسع. رأى الحرس القديم أنهم - في المستقبل كما في الماضي - يمكنهم الوصول إلى السلطة دون مساعدة من أحد، إلا أن الواقع استلزم تغيير التوجه. فقبل انتخابات عام 2004، أقام حزب المؤتمر تحالفات مع مجموعة متنوعة من الأحزاب؛ فربح حزب المؤتمر 145 مقعدا، لكن التحالف التقدمي المتحد الذي قاده ربح 222 مقعدا إجمالا. ونظرا لأن التحالف الديمقراطي الوطني - بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا - حصل على 189 مقعدا فحسب، فقد شكل التحالف التقدمي المتحد الحكومة بمساندة الشيوعيين من خارج الحكومة. رفضت سونيا غاندي منصب رئيس الوزراء، ليعهد به عوضا عنها إلى زميلها مانموهان سينج الذي كانت تثق به. وسيرا على نهج التحالف الديمقراطي الوطني، أبقى حزب المؤتمر على وزارات المالية والداخلية والخارجية، إلا أنه تنازل عن وزارات اقتصادية مهمة - مثل وزارة تكنولوجيا المعلومات ووزارة الزراعة - لشركاء في التحالف.
7
جدول 28-1: حصة الأحزاب من الأصوات، 1989-2004.
العام
1989
1991
1996
1998
1999
2004
حزب المؤتمر
39,5
36,5
28,8
25,8
28,3
26,4
حزب بهاراتيا جاناتا
11,5
20,1
20,3
25,6
23,8
22,2
يمثل عام 1989 علامة فارقة في التاريخ السياسي الهندي. فقبل ذلك التاريخ، كان حزب المؤتمر كيانا جبارا لا يقهر، وبعد ذلك التاريخ، تحولت هيمنة الحزب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب؛ ففي الماضي، كان حصول حزب المؤتمر على قرابة 40٪ من أصوات الناخبين على المستوى الوطني يتيح له الفوز بنحو 60٪ من مقاعد البرلمان، وبعد ذلك التاريخ، أصبح انخفاض عدد المقاعد التي يربحها حزب المؤتمر مرافقا لانخفاض مطرد في نسبة الأصوات التي يحصل عليها، وذلك كما يتبين من جدول
28-1 .
فيما بين عامي 1989 و2004، انخفضت حصة حزب المؤتمر من الأصوات بما يزيد عن عشر درجات مئوية، وخلال تلك الفترة زادت حصة حزب بهاراتيا جاناتا من الأصوات بالمعدل نفسه تقريبا. إلا أنه في انتخابات الأعوام القليلة الماضية لم يحصد هذان الحزبان الكبيران سوى 50٪ من الأصوات فيما بينهما. فأين يذهب النصف الثاني من الأصوات؟ الأحزاب الشيوعية - المتركزة في غرب البنغال وكيرالا - تحصل في المعتاد على نحو 8٪ من الأصوات، أما أحزاب الطوائف الاجتماعية المتخلفة والداليت، ذات الحضور القوي في شمال الهند، فتحصل فيما بينها على نحو 16٪ من الأصوات، وأما الأحزاب الإقليمية، التي تتمتع بحضور ملحوظ في جنوب الهند وشرقها، فتحصل على نحو 11٪ من الأصوات.
جاء تراجع حزب المؤتمر على مرحلتين. في المرحلة الأولى، التي بدأت في كيرالا عام 1957 وبلغت أوجها في أندرا براديش عام 1983، تحدت هيمنة حزب المؤتمر أحزابا قائمة على الهويات الإقليمية واللغوية والطبقية. وفي المرحلة الثانية، التي بدأت في شمال الهند عام 1967 وبلغت أوجها في المنطقة ذاتها في العقد الأخير، خسر حزب المؤتمر أمام أحزاب قائمة على الهويات القائمة على الطائفة الاجتماعية والدين. من ناحية، تخلت الطوائف الاجتماعية العليا بصفة خاصة والهندوس بصفة عامة عن الحزب وانجذبت إلى حزب بهاراتيا جاناتا. ومن ناحية أخرى، آثرت الطوائف الاجتماعية الدنيا إلقاء ثقلها وراء أحزاب من قبيل حزب باهوجان ساماج برئاسة ماياواتي، وحزب سماجوادي برئاسة مولايام. وحتى المسلمون، الذين كانوا عادة من أشد أنصار حزب المؤتمر، استجابوا لواقعة هدم مسجد بابري بالتصويت لأحزاب أخرى.
هذا التفتت في المنظومة الحزبية هو السبب وراء ظهور الحكومات الائتلافية. وكانت تلك الائتلافات متعددة الأطياف بحق؛ ففي حين جمعت حكومة التحالف الديمقراطي الوطني بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا (1999-2004) بين ستة عشر حزبا قائما بذاته، ضم التحالف التقدمي المتحد بقيادة حزب المؤتمر، الذي خاض الانتخابات العامة لعام 2004 (وفاز بها)، تسعة عشر حزبا. ونظرا لأن تلك الائتلافات شديدة التنوع من داخلها، فإنها غير مستقرة أيضا؛ ففيما بين عامي 1947 و1989، حكمت الهند عشر حكومات مختلفة وستة رؤساء وزراء مختلفين. وفيما بين عامي 1989 و2004، حكمت البلاد سبع حكومات مختلفة وستة رؤساء وزراء مختلفين. وفي الفترة الأولى، كان متوسط مدة خدمة كل حكومة أكثر من أربعة أعوام، ومتوسط فترة خدمة كل رئيس وزراء كان يصل إلى ستة أعوام. والأرقام المقابلة في الفترة الثانية هي عامان للحكومة وعامان ونصف العام لرئيس الوزراء.
8
يعبر صعود الحكومات الائتلافية عن اتساع نطاق الديمقراطية في الهند وترسخ جذورها. حصلت مناطق مختلفة وجماعات مختلفة على حصة أكبر في المنظومة؛ إذ فازت الأحزاب الساعية إلى تمثيلها بعدد متزايد من المقاعد، عادة على حساب حزب المؤتمر، الذي كان يزعم خلال أول عقدين بعد الاستقلال - بقدر كبير من النجاح - أنه حزب لا يمثل قسما بعينه من الهند وإنما الهند كلها بصفة عامة.
جاء هذا الترسخ لجذور الديمقراطية بثمن تمثل في تناقص اتساق السياسة العامة باطراد. فسياسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية واسعة النطاق التي صاغها جواهر لال نهرو في الخمسينيات - التي منها تشجيع التصنيع الثقيل، وإصلاح قوانين الأحوال الشخصية البالية، وتبني سياسة خارجية مستقلة - لم يكن سيتسنى تطبيقها في ظل الكيان السياسي المفتت المنقسم في يومنا هذا. وحتى البرامج المعنية بقطاعات محددة - مثل الدفعة التي أعطاها لال بهادور شاستري وإنديرا غاندي للتنمية الزراعية في الستينيات - كان سيصعب إتمامها في وقتنا الحالي؛ ففي الماضي، عند منح الوزارات إلى الوزراء، كانت خبراتهم وقدراتهم ذات الصلة توضع في الاعتبار، أما الآن فتوزيع الوزارات يتحدد بدرجة كبرى بضرورة إرضاء الشركاء في التحالفات السياسية، الذين يطالبون بوزارات يرون أنها مرموقة أو مربحة. ووزراء الاتحاد، في تأديتهم لمهامهم، يميلون إلى تغليب مصالح حزبهم أو ولايتهم على حساب مصالح الهند ككل.
3
دعونا ننتقل الآن من الانتخابات البرلمانية إلى ديناميكية السياسة الحزبية في الولايات. فعلى الرغم من انخفاض أسهم حزب المؤتمر، فلا يزال حزبا وطنيا بمعنى الكلمة، وقوة لا يستهان بها في معظم أنحاء الهند. وكثير من الولايات بها نظام مستقر قائم على حزبين: حيث يمثل حزب المؤتمر قطبا ويمثل حزب بهاراتيا جاناتا أو الشيوعيين أو حزب إقليمي القطب الآخر. ولكن في ولايتي بيهار وأوتر براديش شاسعتي المساحة، تراجعت مكانة حزب المؤتمر بشدة؛ ففي هاتين الولايتين تتصدر الأحزاب القائمة على الطائفة الاجتماعية وحزب بهاراتيا جاناتا الساحة.
اتسمت انتخابات الولايات على مدار العقدين الماضيين بقدر كبير من التقلب؛ فظاهرة «التصويت ضد شاغلي الوظيفة» - بمعنى التصويت ضد الحزب الحاكم - متفشية في كل مكان تقريبا؛ لذا تتناوب حكومات حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا على السلطة في ولايات هيماجل براديش وماديا براديش وراجستان. وفي أندرا براديش يتناوب حزب المؤتمر مع حزب تيلوجو ديسام، وفي كيرالا يتناوب مع الشيوعيين. ونادرا ما يظل حزب واحد في السلطة ولو لفترتين متعاقبتين. أحد الاستثناءات كان حزب راشتريا جاناتا دال في بيهار، الذي ظل في السلطة بصفة شبه متصلة من عام 1989 إلى عام 2005. وكان النموذج الأكثر إثارة للدهشة هو نجاح الجبهة اليسارية بقيادة الحزب الشيوعي الماركسي في غرب البنغال، التي احتفظت بالسلطة منذ عام 1977 وحتى الآن.
خلال أول عقدين بعد استقلال الهند، أمسك حزب المؤتمر بزمام السلطة في المركز، وكذلك في جميع الولايات تقريبا. ثم إنه من عام 1967 إلى عام 1989 (فيما عدا فترة حكم حزب جاناتا الوجيزة التي تخللت حكمه) سيطر الحزب على مقاليد الحكومة المركزية في نيودلهي بينما تشارك السلطة مع منافسيه في الولايات . وفي الفترة الحالية، ابتعد حزب المؤتمر عن السلطة فترات طويلة في الحكومة المركزية أيضا.
أحدثت هذه التغييرات تحولا جذريا في شكل النظام الفيدرالي الهندي وأدائه. فالآن قبل الانتخابات العامة، لا بد من العمل على استمالة واسترضاء الأحزاب الصغيرة، التي يمتلك كل منها قوة في ولاية واحدة، قبل الانضمام إلى ائتلاف لعموم الهند؛ ومن ثم صار على «الحزبين المتطلعين إلى بلوغ مكانة «الحزب الوطني» - حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا - أن يتصرفا مثل وكلاء سلاسل مطاعم الوجبات السريعة. فهما يبيعان علامتهما التجارية إلى وكلاء محليين، الذين يتخيرون أو يرفضون أو يساومون أو يبدلون مواقفهم بناء على الظروف المحلية».
9
وليس للأيديولوجية دور في هذه المساومات؛ فالمسألة كلها قائمة على الحسابات الاستراتيجية، وما يمكن استخلاصه من الحزب الوطني من قبيل مناصب وزارية في الحكومة المركزية أو إعانات مالية للولاية المعنية. ومن ثم فقد اشترك كل من حزب درافيدا مونيترا كازاجام، وحزب أنا درافيدا مونيترا كازاجام لعموم الهند في تحالفات بقيادة حزب المؤتمر أو حزب بهاراتيا جاناتا، وانضم حزب تيلوجو ديسام إلى تحالفات مع حزب بهاراتيا جاناتا وكذلك الجبهة الوطنية.
عادة ما يميل التحالف الحاكم في نيودلهي إلى إيثار حكومات الولايات التي يديرها أتباعه. فوفقا لدراسة أجراها البنك الدولي على فترة 1972-1995، تلقت الولايات التي كانت تحكمها أحزاب تسيطر على السلطة في دلهي تمويلا من الحكومة المركزية يفوق ما تلقته الولايات الأخرى بنسبة تتراوح بين 4٪ و18٪. وقدرت دراسة أخرى، أجراها خبيران اقتصاديان على فترة أحدث، أن المنح كانت أعلى بنسبة 30٪ عندما كان الحزب نفسه هو الحاكم في الولاية وكذلك في الحكومة المركزية.
10
تمثلت إحدى العواقب الأخرى لذلك التفتت في أن سلطة الحكومة المركزية لم تعد قاطعة كما كانت من قبل. فعندما كان رؤساء وزراء الولايات كافة منتمين إلى الحزب نفسه كرئيس وزراء الدولة، كان من الأسهل إجبارهم على التضحية بمصالح ولاياتهم إعلاء لما يرتأى فيه تحقيق للمصلحة الوطنية بصفة أشمل. ولكن الآن أصبح انصياع رؤساء وزراء الولايات لإرادة رئيس وزراء الدولة احتمالا أبعد. وفيما مضى، كان من الممكن تسوية أي خلاف بين ولايتين وديا بكلمة من نهرو أو إنديرا غاندي لرئيسي وزراء الولايتين، لكن الخلاف ما إن ينشأ الآن يصبح من الصعب حله.
من الأمثلة البارزة على ذلك الخلاف الذي نشأ بين ولايتي كارناتاكا وتاميل نادو بشأن مياه نهر كوفري. ذلك النهر منبعه في كارناتاكا، وهو يجري في تلك الولاية، ثم في ولاية تاميل نادو، حيث يصب في المحيط الهندي. ولقرون من الزمان تمتعت الأطراف الدنيا من الدلتا بشبكة ري متطورة، أتاحت للمزارعين زراعة الأرز مرتفع القيمة. وعلى النقيض منها، أعمال الري في كارناتاكا حديثة النشأة؛ فقد حفرت أولى القنوات في مطلع القرن العشرين، وحدثت نوبة أخرى من الحفر بعد السبعينيات.
في عام 1928، كانت مياه نهر كوفري تروي 11 مليون فدان من الأراضي الزراعية لما أصبح الآن ولاية كارناتاكا، و145 مليون فدان فيما أصبح الآن تاميل نادو. وبحلول عام 1971 اتسعت الفجوة؛ إذ وصل عدد الفدادين في كارناتاكا إلى 44 مليون فدان مقابل 253 مليون فدان في تاميل نادو. إلا أنه بحلول نهاية القرن العشرين اقتربت تلك الأرقام من التعادل؛ حيث بلغت 213 مليون فدان في كارناتاكا و258 مليون فدان في تاميل نادو. ولد هذا التوسع الكبير في مرافق الري ثروات كبيرة لمزارعي منطقتي منديا وميسور في كارناتاكا، فهاتان المنطقتان اللتان كانتا معتمدتين في الماضي على محصول واحد متدني القيمة (الدخن عادة)، أصبح بإمكانهما الآن التمتع بحصادين أو حتى ثلاثة لمحاصيل مرتفعة القيمة؛ مثل الأرز وقصب السكر.
خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، أجرت الحكومة المركزية سلسلة من المشاورات بغية الوصول إلى توزيع لمياه نهر كوفري يلقى قبولا لدى الطرفين. فعقد ستة وعشرون اجتماعا وزاريا بين عامي 1968 و1990، لكنها فشلت جميعا في الوصول إلى اتفاق. كانت ولاية تاميل نادو تخشى أن تشكل عمليات الحفر المحمومة لقنوات الري أعلى الدلتا تهديدا على مزارعيها في الطرف الأدنى من النهر، بينما زعمت كارناتاكا أن بدايتها المتأخرة لا ينبغي أن تحول دون تنميتها للقنوات في أراضيها على أكمل وجه.
في يونيو 1990، أنشئت محكمة لحل نزاعات مياه نهر كوفري، بأمر من المحكمة العليا. كانت المحكمة تتألف من ثلاثة قضاة يفترض فيهم الحياد. وفي 25 يونيو 1991، أصدرت المحكمة حكما مؤقتا، يأمر كارناتاكا بالإفراج عن 205 ملايين قدم مكعب من المياه في السنة لتاميل نادو، لحين صدور القرار النهائي في هذا الصدد. وبعد مرور عشرة أيام، أصدر مجلس ولاية كارناتاكا التشريعي قرارا بالإجماع يرفض حكم المحكمة، وحينئذ أصدرت حكومة كارناتاكا أمرا من جانبها يكلف مسئوليها «بحماية وحفظ» مياه نهر كوفري من أجل مزارعي الولاية.
رفعت المسألة إلى المحكمة العليا، التي حكمت بأن قرار حكومة كارنتاكا تجاوز حدود سلطاتها بموجب الدستور، وحينذاك وضعت الحكومة المركزية حكم المحكمة المؤقت في إطار رسمي بنشره في صحيفتها الرسمية: «ذا جازيتأوف إنديا». رد رئيس وزراء كارناتاكا، إس بنجارابا، بإعلان الإضراب العام في الولاية؛ فأغلقت المدارس والكليات كافة، ووقفت الإدارة موقف المتفرج بينما عاث المحتجون فسادا في الأحياء السكنية التاميلية من عاصمة الولاية، بنجالور. استمر العنف أياما، واضطر ما يقدر بنحو 50 ألف تاميلي إلى الفرار من الولاية.
ردت رئيسة وزراء ولاية تاميل نادو، جيه جايا لاليتا، بغضب على سلوك كارناتاكا المتحدي، وشجعت إدارتها بدورها استهداف منازل الكاناديين وأعمالهم في تاميل نادو. بلغت الخسائر في الممتلكات ما يفوق 200 مليون روبية في المجمل.
عندما أمر رئيس قضاة المحكمة العليا بإنشاء محكمة لحل نزاعات مياه نهر كوفري، أشار إلى أن «هذا النوع من النزاعات ينطوي على تنمية مشاعر مرارة يمكن تجنبها بين سكان الولايات المعنية. وكلما طالت مدة النزاعات، زادت المرارة؛ وعليه فالحكومة المركزية، بصفتها راعية مصالح الشعب في الولايات كافة، يجب أن تتخذ في مثل تلك الحالات كافة خطوات عاجلة لتحريك عجلة الآلية الدستورية».
إلا أنه في حين أن الحكومة المركزية يمكنها تحريك عجلة الآلية الدستورية، فإنها لم يعد في مقدورها إجبار الولايات على القبول بتوصياتها. فبعد خمسة عشر عاما على إنشاء المحكمة الخاصة بنزاعات مياه نهر كوفري، لم تتمكن من الوصول إلى تسوية نهائية للمسألة. فعندما تأتي الأمطار الموسمية غزيرة، لا تجد كارناتاكا حرجا في الإفراج عن 205 ملايين قدم مكعب لتاميل نادو، لكن إذا شحت الأمطار، يسود الذعر الأنحاء؛ فيقود نجوم السينما التاميلية التظاهرات ويصومون عن الطعام لإجبار كارناتاكا على الاستماع إلى صوت «العقل». وفي إحدى فترات رئاسة جايا لاليتا منصب رئيسة وزراء الولاية، صامت هي نفسها عن الطعام، فيما مثل أسلوبا غير دستوري بالتأكيد للدفع بمطالبها أمام الحكومة المركزية. وفي الوقت نفسه، يحذر زعماء الفلاحين في كارناتاكا الحكومة من أنها إذا أفرجت عن مياه دون موافقتهم، فسيكون على الإدارة مواجهة العواقب.
في سنوات الجفاف، بين شهري يونيو وسبتمبر، كانت مسألة نهر كوفري نادرا ما تغيب عن الصفحات الرئيسية لصحف كارناتاكا وتاميل نادو. ويتبع الاحتجاجات والاحتجاجات المضادة إصدار الحكومة المركزية أوامر لكارناتاكا بالإفراج عن كمية معينة من المياه لإنقاذ المحاصيل القائمة في تاميل نادو، فتطلب رئيسة وزراء تاميل نادو كمية أكبر، بينما يقول نظيرها في كارناتاكا إنه لا يمكنه الإفراج إلا عن كمية أقل من ذلك بكثير، فيهرع فريق من الحكومة المركزية إلى وادي كوفري للإشراف على العمليات، ولا يعلن أبدا على وجه التحديد الكمية التي يفرج عنها في النهاية، إلا أن المرء يمكن أن يكون متأكدا من أن تلك الكمية تتحدد بالحركة المتقلبة للسياسات الحزبية بأكثر مما تتحدد بمنطق العلم أو نص القانون.
11
في نفس الوقت، في الطرف المقابل من البلاد، أصدر مجلس ولاية البنجاب - في يوليو 2004 - قرارا يلغي اتفاقاتها المتعلقة بمشاركة المياه مع ولايات أخرى. وقال المجلس إن الولاية ستحجز ما تراه مناسبا من مياه نهري رافي وبياس قبل السماح لها بالمضي إلى هاريانا وراجستان. كان القرار متنافيا بوضوح مع روح الفيدرالية الهندية، وإضافة إلى ذلك، فقد دفع به رئيس وزراء من حزب المؤتمر في وقت كان حزب المؤتمر مسيطرا فيه على الحكومة المركزية أيضا.
ربما كان تصرف مجلس البنجاب غير أخلاقي، والمرجح أنه كان غير قانوني، والأكيد أنه كان غير دستوري.
12
إلا أن الولايات الأخرى قد تعتبره سابقة مشجعة؛ فالمياه - بدرجة أكبر من النفط - هي المصدر الأكثر حيوية للنمو الاقتصادي في الهند؛ فهي ذات أهمية حيوية لكل من الزراعة ولتلبية احتياجات عدد السكان المتزايد في المدن. ومع تزايد تفتت التكوين السياسي، وتراجع قدرة الحكومة المركزية، قد يتراءى لمزيد من الولايات أن تتخذ مثل تلك التصرفات أحادية الطرف.
4
في عام 1993، أقر البرلمان التعديل الثالث والسبعين والتعديل الرابع والسبعين للدستور. نص التعديل الثالث والسبعون على ضرورة إنشاء مؤسسات حكومية محلية على مستوى القرية والتعلقة والمنطقة، وأقر التعديل الرابع والسبعون الأمر ذاته بالنسبة للبلدات والمدن، وتقرر اختيار شاغلي تلك المناصب عبر الاقتراع العام للراشدين. وعلى جميع المستويات، حجز ثلث المقاعد للنساء، كما حجزت مقاعد أخرى للطوائف الاجتماعية المجدولة والقبائل المجدولة.
كان «حكم البنشايات» - أو الحكم الذاتي للقرى - شاغلا دائما للمهاتما غاندي، إلا أن كلا من جواهر لال نهرو وإنديرا غاندي ترددا في تفويض السلطة للمستويات الدنيا، وإن اختلفت أسبابهما: فالأول شعر أن ذلك لا يتلاءم مع عملية التنمية الاقتصادية، بينما كان لدى الأخيرة تفضيل عام للمركزية. في ستينيات القرن العشرين، كان لكل من راجستان ومهاراشترا تجربة مع مجالس القرى والمناطق، إلا أن أولى المحاولات الجادة لإنشاء مجالس على مستوى القرى جرت في غرب البنغال، بعد صعود الجبهة اليسارية إلى السلطة عام 1977. وارتقت حكومة جاناتا بالعملية إلى مستوى أعلى في كارناتاكا، حيث فوضت بين عامي 1983 و1987 مسئوليات مهمة للمؤسسات المحلية.
وسعى راجيف غاندي، عندما كان رئيسا للوزراء بين عامي 1984 و1989، إلى إقامة نظام للحكم الذاتي المحلي على مستوى الهند كلها. مثل اهتمامه في جزء منه رضوخا لحركات الاستقلال المحلي، التي نادت بتوسيع نطاق مشاركة السلطة والنفوذ، إلا أن اهتمامه استند أيضا إلى حسابات سياسية؛ مفادها أنه في حين أن حزب المؤتمر كان يقود الحكومة المركزية، فقد سيطرت على حكومات الولايات أحزاب معادية له، فكان من شأن حكم البنشايات أن يسمح لنيودلهي بتخطي تلك الأحزاب والتعامل مع القاعدة الشعبية مباشرة، حيث تخصص لها نسبة من التمويل الذي كان يحول إلى إدارة الولاية مسبقا.
13
آتت العملية التي بدأها راجيف غاندي ثمارها بعد وفاته، عندما استعاد حزب المؤتمر مقاليد السلطة في نيودلهي. أثناء المشاورات السابقة على إقرار التعديلين الدستوريين، أعربت حكومات الولايات عن قلقها إزاء تقويض سلطتها؛ فمنح التعديلان الصادران في النهاية كل ولاية على حدة حرية التصرف بشأن تحديد وظائف مجالس القرى وسلطاتها في إقليمها. تباينت تصرفات الولايات تباينا واسعا من حيث المقاصد والتبعات؛ إذ عهدت بعض الولايات إلى مجالس القرى بالمسئولية عن الأعمال التنموية بكافة أوجهها - في مجالات الري والتعليم والصحة وشق الطرق وما إلى ذلك - وحولت إليها التمويل بما يتناسب مع مسئولياتها، بينما كان لولايات أخرى رؤية أقل سخاء فيما يتعلق بوظائف مؤسساتها المحلية وتمويلها.
14
طوال عقد الثمانينيات، تصدرت غرب البنغال تجربة حكم البنشايات، ولكن فيما بعد تسلمت الدفة الولاية الأخرى ذات الحضور الشيوعي القوي: كيرالا. وعندما وصلت الجبهة الديمقراطية اليسارية إلى السلطة عام 1996، قررت تخصيص ما بين 35٪ و40٪ من تمويل الخطط لبرامج تصممها وتنفذها المؤسسات المحلية. وفي جميع أنحاء الولاية، شجعت مجالس القرى على عقد اجتماعات، يتفاعل فيها أهل القرية مع المسئولين والخبراء الفنيين لتحديد أولوياتهم بأنفسهم؛ فأعدت مئات الخطط المختصة بمناطق محلية بعينها، وكانت تسلط الضوء عادة على الإدارة الواعية للموارد الطبيعية، مثل: التربة والمياه والغابات.
15
في كيرالا، كما في غرب البنغال، يستند الترويج لحكم البنشايات إلى خليط متذبذب من المثالية والانتهازية. من ناحية، يعتقد المثقفون والنشطاء اليساريون أنه بتفويض السلطة، يتمكن أهل القرى من إنفاق الأموال العامة على مشروعات ذات صلة باحتياجاتهم، عوضا عن أن يخضعوا لتوجيهات تأتي لهم من أعلى. كما أن اللامركزية من المعروف عنها أنها تقلل فرص الفساد في المنظومة، ومن ثم يزيد قدر الأموال المنفقة فعليا على المشروعات التنموية. ومن ناحية أخرى، كان المفترض في الرؤية الغاندية الأصلية لحكم البنشايات أن تكون «ديمقراطية لا حزبية» ينتخب فيها القرويون الأكثر احتراما (أو مقدرة) بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية. ولكن في الممارسة العملية، أصبحت العملية مسيسة للغاية؛ ففي كيرالا، وبدرجة أكبر في غرب البنغال، رأى الحزب الشيوعي الماركسي في حكم البنشايات أداة لإحكام قبضته على الريف، فسلطة مجالس القرى ومسئوليها لا تفرض عليهم ومن أجلهم فحسب، وإنما - وهو الأهم - لحشد الأصوات أثناء انتخابات مجلس الولاية والبرلمان.
16
على الرغم من المحاذير السابقة، فقد استهل التعديل الدستوري الثالث والسبعون عملية يحتمل أن تخلف تداعيات عميقة على مستقبل الديمقراطية الهندية. فبعد عقد من تطبيقه، أصبح يوجد أكثر من 3 ملايين نائب منتخب - منهم مليون امرأة - في المؤسسات المحلية، حيث اختير النواب عبر عملية مفرطة التنافسية، كانت نسبة الإقبال على انتخابات مجالس القرى تتخطى فيها 70٪ عادة.
يتمثل أحد الموضوعات المثيرة للانتباه بدرجة كبيرة - والمهمة بدرجة أكبر - في تأثير حكم البنشايات على العلاقات بين الطوائف الاجتماعية؛ ففي أوتر براديش، حيث الداليت أصحاب صوت مسموع ومنظمون، أصبحت الطوائف الاجتماعية المسيطرة تضطر الآن إلى تقاسم السلطة على المستوى المحلي مع الفئات التي كانت أقل حظا منها على مر التاريخ. وفي أوريسا، حيث الداليت أكثر إذعانا، استبعدوا من المشاركة في كثير من مجالس القرى (في انتهاك للقانون). وفي تاميل نادو، أدى تشكل مجالس القرى إلى زيادة حدة الصراعات القائمة بين ملاك الأراضي من طائفة التيفر والداليت. ونحو خمس رؤساء المجالس يجب أن يكونوا من الداليت، لكن هؤلاء في أغلب الأحيان يجدون افتئاتا من الطوائف الاجتماعية العليا على سلطتهم. وبالمثل، على الرغم من أن بعض رئيسات المجالس يتصرفن على نحو مستقل، فأخريات منهن لا يمثلن أكثر من بوق لرجال في أسرتهن أو طائفتهن الاجتماعية.
من الجدير بالذكر أن أعضاء البرلمان ومختلف الهيئات التشريعية في الولايات عادة ما يبدون عدائيين لتجربة حكم البنشايات، وكذلك مثلهم كثير من موظفي الخدمة المدنية، الذين يقولون إن هذه التجربة لن تفضي إلا إلى «لامركزية الفساد». فيرد أنصار هذا النظام الجديد بأن ذلك الانتقاد تحركه دوافع أنانية، لكونه صادرا عن فئات ستتضرر كثيرا إذا كان للسلطة الإدارية والمالية أن تتوزع على نطاق أوسع مما هي عليه الآن.
17
5
خلال التسعينيات، أصبحت السياسة الهندية أكثر تعقيدا على المستوى الداخلي، مع تزايد المنافسة بين الأحزاب وإدخال مستوى ثالث من الحكم. إلا أنه فيما يتعلق بتعامل الهند مع بقية العالم، كان ثمة تلاق ملحوظ في الرؤى؛ فالتحالف الحاكم - سواء كان تحت قيادة حزب بهاراتيا جاناتا أم حزب المؤتمر - أبدى التزاما تجاه تعزيز القدرات العسكرية للبلاد، وتبني سياسة خارجية أكثر حزما بصفة عامة.
18
تبدى أحد مظاهر هذه الاستراتيجية الجديدة في نمو حجم الجيش وقوته، فقد أخذت الهند تتحول بسرعة «من دفاع معتمد على الدبلوماسية إلى دبلوماسية يعززها دفاع قوي».
19
وحدثت زيادة مطردة في الإنفاق العسكري على مدار العقد، مما يعادل 7 إلى 12 مليار دولار أمريكي بين عامي 1991 و1999. أنفق بعض هذا المال على الرواتب؛ فقد أصبحت المؤسسة العسكرية الهندية تضم أكثر من مليون فرد - يعملون إما في الجيش أو القوات البحرية أو الجوية - ومليون آخر في مختلف الوظائف شبه العسكرية.
خصص قدر من هذا الإنفاق أيضا لشراء الأسلحة المتطورة، وخصص قدر آخر للتصنيع المحلي لمعدات الحرب التي تمتنع البلدان الغربية الأكثر ثراء عن بيعها للهند، فإضافة إلى صاروخي آجني وبريتفي اللذين طورتهما الهند في الثمانينيات، أصبح لديها الآن صاروخ باليستي عابر للقارات يدعى سورا (الذي يبلغ مداه 12 ألف كيلومتر)، وصاروخ آخر يدعى ساجاريكا يمكن إطلاقه من متن السفن. وقد ابتكر العلماء الهنود أيضا خيارات دفاعية متنوعة؛ إذ صمموا صواريخ بمدى أقصر تستهدف بها أي صواريخ قد يطلقها العدو.
20
كانت هذه الصواريخ من تصميم منظمة البحث والتطوير الدفاعي، إحدى المؤسستين العلميتين اللتين تتصدران قطاع الدفاع. أما بالنسبة للمؤسسة الأخرى، فهي هيئة الطاقة الذرية، التي تولت مسئولية إنتاج الطاقة النووية والأسلحة النووية. وقد أجري اختبار لقنبلة ذرية عام 1974، وفي الأعوام التالية تمكن علماء هيئة الطاقة الذرية من زيادة تطورها وقدرتها التدميرية بدرجة كبيرة. فمنذ مطلع التسعينيات أخذوا يضغطون على الحكومة لكي تسمح لهم باختبار قنابلهم المطورة.
تتبع جورج بركوفيتش في تأريخه للبرنامج النووي الهندي الجهود المتواصلة لهؤلاء العلماء. أخبر قادة البرنامجين الصاروخي والنووي رؤساء وزراء متعاقبين أنه في غياب نتائج ملموسة، سوف يفضل العلماء الشباب الموهوبون العمل في وظائف ذات رواتب مرتفعة في القطاع التجاري على خدمة الدولة. وقالوا إنه «دون إجراء اختبارات واسعة النطاق، ستنخفض الروح المعنوية ولن تجد الدولة من يحلون محل المجموعة الشائخة التي أنتجت القنبلة الأولى عام 1974». وفي أواخر عام 1995 وافق رئيس الوزراء ناراسيمها راو على إجراء الاختبارات، لكنه تراجع عندما كشفت الأقمار الصناعية الأمريكية عمليات التحضير، مثيرة تحذيرا شديد اللهجة من حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. وعندما جاءت حكومة الجبهة المتحدة إلى السلطة عام 1996، ألح العلماء على رئيس الوزراء الجديد - إتش دي ديفي جودا - لكي يعطيهم الضوء الأخضر؛ فأبدى جودا ممانعة، قائلا إنه لا يعبأ برأي الأمريكيين، ولكن كل ما في الأمر أن الأولوية لديه هي التنمية الاقتصادية، لا استعراض القوة العسكرية.
21
أمسك التحالف الديمقراطي الوطني - بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا - بزمام السلطة في مارس 1998. وفي الشهر التالي اختبرت باكستان صاروخا متوسط المدى، يحمل اسما استفزازيا هو «غوري»، على اسم سلطان مسلم من العصور الوسطى غزا معظم أنحاء شمال الهند وألحق بها الدمار (حسبما يشاع). فكان من المحتم أن ترد الهند بسرعة، لو لم يكن لشيء فلأن «صلابة حزب بهاراتيا جاناتا التاريخية فيما يتعلق بمسألة الأمن القومي كانت ستبدو جوفاء إن لم تأت الحكومة باستجابة حاسمة للخطر الباكستاني الجديد».
22
أصر رئيس منظمة البحث والتطوير الدفاعي ورئيس هيئة الطاقة الذرية على أن إجراء اختبار نووي سيكون أكثر استجابة مناسبة، وأيدهما في دعواتهما عالم الفيزياء الذرية راجا رامانا، الذي كان يحظى بمكانة كبيرة لكونه «العقل المدبر» لاختبارات عام 1974. التقى رامانا رئيس الوزراء فجبايي، الذي أكد لرامانا أنه يريد «رؤية الهند بلدا قويا لا بلدا ضعيفا». وأضاف عالم الفيزياء لذلك: «كما أنك لا يمكنك أن تبقي العلماء في حالة غيبوبة أربعا وعشرين سنة؛ فسوف يختفون بكل بساطة.»
23
في الأسبوع الثاني من مايو 1998، أجرى الهنود خمسة تجارب نووية في صحراء راجستان. واختبرت ثلاثة أنواع من القنابل: قنبلة انشطارية عادية، وقنبلة نووية حرارية، وقنبلة بقوة «أقل من كيلو طن». وقبل وبعد الاختبارات، أدلى مسئولون كبار في حكومة التحالف الديمقراطي الوطني بتصريحات استفزازية موجهة إلى جيران الهند. وصف وزير الدفاع، جورج فرنانديس، الصين بأنها «التهديد رقم واحد» للهند، وقال وزير الداخلية، إل كيه أدفاني، إن الهند على استعداد لأن تلاحق عبر الحدود أي إرهابيين قد ترسلهم باكستان لإثارة المتاعب في كشمير.
أشارت استطلاعات الرأي التي أجريت بعد الاختبارات مباشرة إلى أن أغلبية سكان الحضر يؤيدونها. إلا أن الإشادة الأكثر حماسا جاءت من جانب المنظمتين الشقيقتين لحزب بهاراتيا جاناتا: المجلس الهندوسي العالمي ومنظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج. فقد أعلنتا أنهما ستبنيان معبدا عند موقع الاختبارات النووية، وتطوفان الرمال - «المقدسة» بالنسبة إليهما رغم تلوثها بالإشعاع - في أنحاء الهند لتبجيلها. وحيا بال تاكري زعيم حزب شيف سنا العلماء لإثباتهم أن الرجال الهندوس «ليسوا أشباه رجال». والعلماء أنفسهم وقفوا بالزي العسكري في زهو أمام عدسات كاميرات المحطات الإخبارية.
24
بعد أسبوعين انفجرت فقاعة الكبرياء الوطني تلك؛ ففي 28 مايو، أجرت باكستان اختبارات نووية هي الأخرى. كان برنامجها النووي قائما على تصميمات وخامات سرقها العالم إيه كيو خان من معمل هولندي، إضافة إلى مساعدات فنية من الصين. أما القنبلة الهندية فكانت محلية الصنع بالكامل. إلا أن تلك الفروقات فقدت معناها عندما هزت ستة انفجارات نووية (تعمدت باكستان زيادة الانفجارات واحدا عن الهند) جبال تشاجاي في مقاطعة بلوشستان. استقبل الشعب الباكستاني الأنباء بالرقص والغناء في الشوارع. وقال «العقل المدبر» لهذه القنبلة - إيه كيو خان - للمحاورين إن «قنابلنا أكثر اتساقا وأصغر حجما وأكثر تطورا وموثوقية مما يمتلكه الهنود».
25
وصف الإنجاز الباكستاني بأنه قنبلة «إسلامية»، وهو ما يعزى جزئيا إلى أنه في ذلك الوقت لم يكن لدى أي دولة إسلامية أخرى قنبلة من هذا النوع. وفي الهند أيضا نزع مؤيدو الاختبارات النووية ومعارضوها على حد سواء إلى اعتبارها «هندوسية». لكن الحقيقة أنه على الرغم من أن حزب بهاراتيا جاناتا كان هو الحزب الحاكم في مايو 1998، فقد جرت الاستعدادات لتلك الاختبارات في عهد أنظمة متعاقبة لحزب المؤتمر، إلا أن سياسة الغموض النووي - «لدينا القنبلة ولكننا لن نختبرها» - أصبح الاستمرار فيها أمرا متزايد الصعوبة. ولما ضغط الغرب على الهند لتوقيع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، قررت إعلان موقفها النووي.
26
بطبيعة الحال حاول حزب بهاراتيا جاناتا استخلاص مكاسب سياسية من الاختبارات، إلا أنه في مواجهة توقيع معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية، ومن ثم التخلي عن أي طموحات نووية، كانت الأنظمة المنتمية إلى حزب المؤتمر ستتصرف على النحو ذاته. في الواقع، كان رؤساء الوزراء من حزب المؤتمر هم من طالبوا بإصرار شديد بمنح الهند مكانة «القوة العظمى»، وازدادت تلك المطالبة مثابرة بعد انتهاء الحرب الباردة. فقد طالب زعماء الهند بمنح بلادهم عضوية دائمة في مجلس الأمن بالأمم المتحدة مراعاة لحجمها وتاريخها الديمقراطي وإمكاناتها الاقتصادية. وأدى تجاهل المطلب إلى زيادة مسألة الاختبارات النووية إلحاحا. فعلى مستوى الأحزاب الكافة، رأى المفكرون الاستراتيجيون أن الإعلان الصريح عن امتلاك سلاح نووي من شأنه أن يجذب انتباه القوى الغربية. فلما فشل المنطق والحجة، صار لزاما على الهند أن تصل إلى انتباه العالم من طريق «مفروش بالقنابل».
27
6
البلدان الوحيدة المعترف بامتلاكها قوة نووية كانت هي الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهي: الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة . وكان من المعروف أيضا أن إسرائيل تملك قنابل نووية. فعندما دخلت الهند وباكستان - في صيف 1998 - ذلك النادي الحصري في وقت واحد، جعلا الأعضاء القدامى يتسرب إليهم القلق؛ فقد ساد خوف من أن يفضي النزاع حول كشمير إلى أول حرب نووية في التاريخ، ومورست ضغوط على البلدين حتى يسويا خلافاتهما على طاولة المفاوضات.
في فبراير 1999، سافر رئيس الوزراء الهندي مستخدما إحدى الحافلات إلى لاهور لمقابلة نظيره الباكستاني. تحدث أتل بهاري فجبايي ونواز شريف عن زيادة التبادل التجاري بين البلدين، وتحرير تأشيرات الدخول فيما بينهما. ولم يحرز تقدم بصدد كشمير، لكن حقيقة أن الطرفين بدآ يتحدثان بدت إشارة مطمئنة للغاية في نظر سكان شبه القارة الهندية وكذلك في نظر الغرب.
28
ما كادت ثلاثة أشهر تمر على القمة التي جمعت فجبايي وشريف، حتى عادت العلاقات إلى التوتر مرة أخرى. كان سبب الاستفزاز هو تسلل مئات المسلحين إلى منطقة كارجيل في ولاية جامو وكشمير، بعضهم من أصل كشميري ولكن البعض الآخر كانوا مواطنين باكستانيين بلا شك. كانت العملية من تخطيط الجيش الباكستاني، ورئيس الوزراء المدني لم يخطر بها إلا بعدما أصبحت قيد التنفيذ بالفعل. كان الهدف من العملية هو احتلال قمم الجبال المطلة على الطريق السريع الرابط بين سريناجار وليه، وهو الطريق الوحيد الذي يصل في جميع الأحوال المناخية بين هاتين البلدتين فائقتي الأهمية. والظاهر أن جنرالات الجيش الباكستاني اعتقدوا أن درعهم النووي سيوفر لهم الحماية، ويمنع الهنود من التصدي للدخلاء.
29
كان أول من نبه الجيش الهندي للتسلل مجموعة من الرعاة؛ فبينما كانوا يتفحصون الجبال باستخدام المنظار المكبر، بحثا عن ماعز برية للصيد، لمحوا رجالا بالزي البشتوني يحفرون لأنفسهم خنادق. فأبلغوا أقرب كتيبة بالمعلومة، وسرعان ما وجد الجيش أن الباكستانيين قد احتلوا مواقع عبر شريحة عريضة من قطاع كارجيل، من وادي مشكوه في الغرب إلى تشوربتلا في الشرق. صدر أمر بطردهم.
30
رأى الرعاة الرجال البشتونيين يوم 3 مايو 1999، وبعد أسبوعين بدأ الهنود قصف مواقع العدو بالمدفعية. فهدرت الطائرات في السماء، بينما راح جنود المشاة يتسلقون مرتفعات الجبال بصعوبة. وأصبح على رجال نشئوا في مناخ استوائي أن يقاتلوا في أرض باردة وعرة. «في معركة حاسمة تلو الأخرى راحت كتائب المشاة الهندية تتسلق أجرافا بزاوية شبه قائمة طوال الليل في درجات حرارة منخفضة إلى حد التجمد قبل أن يندفعوا إلى القتال ضد الدخلاء مباشرة مع تباشير الصباح.»
31
كانت الاشتباكات حامية وفادحة الخسائر، على الجانبين. فقد كان لا بد من استعادة السيطرة على عشرات القمم - وكل منها تحميه المدافع الآلية - واحدة تلو الأخرى. تمثل أحد الانتصارات الكبرى في استعادة جبل تايجر هيل، في قطاع دراس. دارت رحى المعركة طول شهر يونيو، وبحلول نهاية الشهر، كان الباكستانيون قد أخلوا من 1500 كيلومتر مربع من الأراضي الهندية، وتضمنت المناطق التي استعيدت السيطرة عليها جميع نقاط المراقبة المطلة على الطريق السريع بين سريناجار وليه.
32
في الأسبوع الأخير من يونيو، تلقى بيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مكالمة هاتفية مفاجئة من رئيس وزراء باكستان. كان البلدان حليفين وثيقين، وفي تلك المرة طلب الشريك الأصغر المساعدة لإخراجه من ورطة أوقع نفسه فيها. كان أكثر من ألفي باكستاني قد راحوا ضحية النزاع بالفعل، وبدأ نواز شريف يبحث عن مخرج يتيح له إنهاء أعمال القتال مع الحفاظ على ماء وجهه. حدد كلينتون موعدا معه يوم 4 يوليو، الذي يوافق عيد الاستقلال الأمريكي. وفي ذلك اللقاء، وعد شريف بسحب القوات الباكستانية إن ضغطت الولايات المتحدة الأمريكية على الهند من أجل حل نزاع كشمير. وافق كلينتون على إيلاء «اهتمام نشط» للمسألة، فعاد شريف مطمئنا إلى إسلام أباد وأصدر أمرا رسميا بإنهاء العملية.
33
لقي قرابة 500 جندي هندي مصرعهم في نزاع كارجيل، الذين كانوا ينتمون إلى مختلف أنحاء الهند، وعندما أعيدت نعوشهم إلى ديارهم اختلط الحزن عليهم بجرعة كبيرة من الفخر. وقد وضعت الجثامين في أماكن عامة - مدارس وكليات وحتى ملاعب رياضية - حيث يمكن للأصدقاء والأهل وغيرهم المجيء لتوديعهم إلى مثواهم الأخير. تبع ذلك مراسم دفن أو حرق عسكرية كاملة، حضرها آلاف المعزين وعلى رأسهم أهم رجال الدولة الموجودين؛ رئيس وزراء أو حاكم الولاية في أغلب الأحيان. شمل التكريم الضباط والجنود، وكان كثير منهم من مناطق التجنيد التقليدية للجيش الهندي (شمال البلاد وغربها)، إلا أن آخرين كثرا كانوا مولودين في أماكن لم يكن لها أي ماض في القتال، مثل جنجام في أوريسا وتمكور في كارناتاكا.
34
وكثير ممن ماتوا دفاعا عن الهند جاءوا من مناطق طالما اعتبرت معارضة لفكرة الهند في حد ذاتها؛ فقد كان لجنود كتيبة ناجا دور حاسم في استعادة قمم كارجيل. وقد أعرب أحد جنرالات الجيش عن أمله في أن تتيح الجسارة التي أبداها «أبناء ناجا البواسل» على الجانب المقابل من الهيمالايا لهم «نيل الهوية الهندية أخيرا». لا شك أن شجاعتهم كانت محل إشادة لدى أهلهم؛ فعندما عاد جثمان ملازم أول من أبناء ناجا إلى مسقط رأسه كوهيما، توافد آلاف من الناس إلى المطار لاستقباله.
35
عززت الاشتباكات الدائرة في كارجيل عودة البنجاب وأهلها إلى الاندماج في الهند. فقد أصر المزارعون المقيمون على طول الحدود مع باكستان على أن النزاع إذا انقلب إلى حرب مكتملة الأركان، فإنهم مستعدون لتقديم يد العون إلى الجيش الهندي، بتوفير الطعام والمأوى، وحتى المساعدة العسكرية إن لزم الأمر. وقال أحد الفلاحين السيخ: «سوف نحارب مع الجنود، ونلقن الباكستانيين درسا قاسيا لتعديهم على أرضنا.»
36
أطلق النزاع مع باكستان العنان للمشاعر الوطنية في جميع أنحاء الهند؛ فتطوع الآلاف للانضمام إلى الرجال المقاتلين على الجبهة، وفي أماكن عدة كانت هناك حشود كبيرة جدا من المتطوعين أمام مراكز التجنيد حتى إن الشرطة اضطرت إلى إطلاق النار في الهواء لتفريقهم.
37
كانت الحرب مع الصين قد أثارت استجابة مماثلة، حيث سعى الشباب العاطلون عن العمل إلى الانضمام إلى الجيش. إلا أن الواقعتين بينهما اختلاف مهم؛ ففي المرة الأولى اجتاح الغزاة آلاف الأميال المربعة قبل أن يقرروا العودة من تلقاء أنفسهم، ولكن الغزاة هذه المرة طردوا بالقوة.
من هذه الناحية جاءت حرب كارجيل تطهيرا للعسكريين وللمواطنين الهنود ككل. فقد استرد الجيش الهندي كرامته أخيرا، وتخلص بصفة نهائية من وصمة فشله في صد الصينيين عام 1962. وفي الوقت نفسه، شهدت الاستجابة للنزاع مولد قومية هندية جديدة وأقوى عزيمة. فلم يسبق قط أن استقبلت جثامين جنود سقطوا في المعركة بتلك المشاعر الجياشة، بدا كأن كل منطقة مصرة على إعلان مساهمتها في القضية القومية، ولقي ذلك المزاج العام إقرارا وتشجيعا في الصحافة المطبوعة والمرئية، حيث بدت مغالاتها في الوطنية مفاجئة حتى بالنسبة لمن كانوا على دراية بسجل تلك المهنة القديم في جعل الصدق أول ضحايا الحرب.
7
في أكتوبر 1999، انتهت تجربة باكستان القصيرة مع الديمقراطية البرلمانية. عزل رئيس الوزراء نواز شريف من منصبه إثر انقلاب بقيادة رئيس أركان الجيش برويز مشرف. لم ترق تلك التطورات للهند؛ إذ كان ثمة اعتقاد سائد بأن العقل المدبر وراء عملية كارجيل هو مشرف.
في مارس من عام 2000 زار الرئيس كلينتون جنوب آسيا. فقضى خمسة أيام في الهند وخمس ساعات في باكستان، في تناف تاريخي مع الانحياز الأمريكي التقليدي للبلد الأصغر. كان ذلك اعترافا منه بتنامي قوة الهند الاقتصادية، وتعقيبا كذلك على ارتداد باكستان إلى الحكم العسكري. وفي اليوم التالي لوصول كلينتون إلى نيودلهي، هجم إرهابيون مرتدون الزي العسكري الهندي على قرية تشتيسنجبورا في كشمير، حيث أخرجوا رجالا سيخ من منازلهم وأردوهم قتلى؛ ففي قرية تحوي 300 مسكن، «كل بيت تقريبا ... فقد قريبا أو جارا أو صديقا». وتفاقمت المأساة بإطلاق قوات الأمن الرصاص على خمسة رجال بزعم ارتكابهم الجريمة ثم ظهرت براءتهم فيما بعد.
38
الأرجح أن القتلة في تشتيسنجبورا كانوا يعملون لحسابهم الخاص دون دعم من الحكومة الباكستانية.
39
إلا أنه لم يكن ثمة شك يذكر في أن قضية كشمير ظلت سببا عميقا للفرقة بين الدولتين. وكان الرئيس مشرف يردد مذكرا بصفة دورية التزام باكستان الباقي تجاه «معركة تحرير» الكشميريين، فكان رئيس الوزراء الهندي يوبخ نظيره الباكستاني لتشبثه «بنظرية الدولتين الخبيثة التي جلبت التقسيم».
40
لم يكن أي من البلدين على استعداد للقبول بموقف البلد الآخر فيما يتعلق بكشمير، إلا أن الحوار بينهما استؤنف، ربما بدافع الحاجة إلى التصرف كقوتين نوويتين مسئولتين في نظر العالم ؛ ففي يوليو 2001 زار الرئيس مشرف أجرا بناء على دعوة الحكومة الهندية، وأعدت له ولزوجته الإقامة في فندق فاخر يطل على تاج محل. تبادل الجنرال وفجبايي أطراف الحديث ساعات طويلة، بصحبة مساعديهما وعلى انفراد. إلا أن المشاورات انتهت دون التوصل إلى نتيجة حاسمة، حيث جاءت مسودة البيان الرسمي غير مرضية للطرفين؛ حيث كانت الهند ترغب في تأكيد أكبر على مسألة الإرهاب العابر للحدود، بينما طالبت باكستان باعتراف أكثر صراحة بالتطلعات الديمقراطية لشعب كشمير.
أثناء وجود الجنرال مشرف في أجرا، نفذ الإرهابيون عملية أخرى في وادي كشمير، قتل فيها ثمانون شخصا على الأقل في اثني عشر هجوما منفصلا. كان ذلك قد بدأ يصير نمطا متكررا؛ فمتى أتت شخصيات مهمة لزيارة نيودلهي، تصاعد العنف في كشمير. فعندما جاء وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في أكتوبر 2001، شن الإرهابيون هجوما بالقنابل اليدوية على مجلس ولاية جامو وكشمير. وبعد مرور شهرين، نفذوا عملية أكثر جرأة؛ فقد اقتحم أربعة انتحاريون مبنى البرلمان الهندي بسيارة وحاولوا تفجيره ، ولكن الشرطة قتلتهم، وأعلنت فيما بعد أنهم باكستانيون.
41
مثل مبنى المجلس التشريعي في سريناجار رمزا لوحدة الولاية مع الهند. بينما مثل مبنى البرلمان في نيودلهي رمز الديمقراطية الهندية ذاتها. فبين جدرانه كان يلتقي الساسة المنتخبون الذين يمثلون مليار شخص. فكان الهجوم على هذين المكانين نهاية للحوار الدبلوماسي. واتهمت الهند باكستان بتحريض الإرهابيين، وناشدت الحكومة الأمريكية كبح جماح حليفها القديم. وأضافت الهند أنها تعاطفت مع الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وأن ما يزيد تعاطفها إخلاصا هو أنها طالما كانت ضحية العنف الإرهابي.
في ربيع عام 2002 ازدادت وتيرة المواجهات بين القوات الهندية والقوات الباكستانية. ومع تبدل الربيع صيفا، وتضاعف حشد القوات على الجانبين، عادت مخاوف عام 1998 إلى الظهور؛ فهل سيقدر لشبه القارة الهندية أن تشهد أول مواجهة نووية؟ رأت مجلة نيبالية شهرية محترمة أن المنطقة «تقف على أعتاب الحرب مرة أخرى»، بينما كان أحد المحللين الأمريكيين البارزين على قناعة بأن «الأزمة الواقعة بين الهند وباكستان هي المواجهة الأخطر منذ إبحار السفن السوفييتية لكسر الحصار البحري الأمريكي لكوبا عام 1962».
42
في النهاية اجتنبت الحرب، وإن كان المحتمل أنها لم تكن في الحسبان من الأساس. وداخل الهند، تحول الانتباه صوب انتخابات المجلس التشريعي المقبلة في كشمير. فقد كان لتلك الولاية - كما أعربت صحيفة في دلهي صراحة - «باع طويل في تزوير الانتخابات»، مع كون انتخابات عام 1977 استثناء القاعدة.
43
في الماضي كانت اللجنة الانتخابية - في كشمير على أي حال - «تظهر دائما مصاحبة لقوات الأمن وموظفي حكومة الولاية ذوي الانتماءات الحزبية؛ ومن ثم تبدو متعاونة معهم». ولكنها حاولت جاهدة تحسين سمعتها هذه المرة؛ فقد أمر رئيس اللجنة الانتخابية بإجراء مراجعة كاملة لقائمة الناخبين، التي لم تتغير منذ عام 1988. فأفرز استطلاع مستفيض لكافة المنازل قائمة جديدة شاملة، غطت 350 ألف صفحة بالكتابة الأردية الأنيقة رغم صعوبة طباعتها. بعد ذلك وزعت نسخ من القوائم الانتخابية على الأحزاب كافة، وعرضت في المدارس والمستشفيات والمصالح الحكومية في جميع أنحاء الولاية. ولمزيد من الاحتياط، تم استيراد 8 آلاف ماكينة للتصويت الإلكتروني، بهدف منع التزوير.
44
عقدت انتخابات مجلس الولاية في سبتمبر 2002. كانت العناصر المسلحة قد اغتالت أحد الشخصيات المعتدلة البارزة قبيل الانتخابات مباشرة وحثت الناس على مقاطعة الانتخابات. ولكن على الرغم من هذه التهديدات، بلغت نسبة الإقبال 48٪ من الناخبين المؤهلين للتصويت، وهي نسبة أقل قليلا من النسبة المعتادة في أنحاء أخرى من الهند، ولكنها أكثر بكثير مما كان متوقعا. وحضر مراقبون دوليون لتأكيد نزاهة الانتخابات. فكانت نتيجة التصويت ابتعاد حزب المؤتمر الوطني الكشميري عن السلطة، وفوز تحالف مكون من حزب المؤتمر والحزب الديمقراطي الشعبي. وكتب متابعان قديمان للشئون السياسية بالولاية أن انتخابات عام 2002 يمكن «اعتبارها انقلابا على انتخابات مجلس 1987 التي حفزت بتضييقها الحيز الديمقراطي ظهور السياسات الانفصالية ... هذه الانتخابات أحدثت تغيرا في النظام من خلال حكم الشعب. ومن هذا المنطلق سيكون لها دور محوري في الوصل بين الشعب والحكومة».
45
وأعرب رئيس وزراء الولاية الجديد - مفتي محمد سعيد - عن هذه المشاعر بوضوح أكبر، قائلا: «هذه أول مرة منذ عام 1953 تكتسب فيها الهند مشروعية في نظر الشعب الكشميري.»
46
في صيف عام 2003 تدفق السائحون من جميع أنحاء الهند إلى كشمير لأول مرة منذ ما يربو على عقد من الزمان. فجاء خمسون ألفا في شهري مايو ويونيو، ليملئوا فنادق الوادي والمنازل العائمة في بحيرة دال بسريناجار. وأعلنت الخطوط الجوية الهندية عن رحلة يومية إضافية من دلهي إلى سريناجار. استفزت تلك التطورات الإرهابيين، فسددوا سلسلة من الضربات المتلاحقة؛ حيث ألقوا قنابل يدوية في مراكز التسوق واختطفوا مدنيين وفجر أحد الانتحاريين منزل رئيس وزراء الولاية.
47
ولكن أعداد السائحين ازدادت في العام التالي، وأعلنت شركات طيران أخرى عن رحلات إلى سريناجار.
في يناير 2005، عقدت انتخابات بلدية في جامو وكشمير لأول مرة منذ ثلاثة عقود تقريبا. وبلغ الإقبال على الاقتراع في تلك الانتخابات المحلية نسبة جديرة بالإعجاب هي 60٪، على الرغم من تهديدات الإرهابيين واغتيال عدة مرشحين. قال من أدلوا بأصواتهم إنهم يريدون من الأعضاء المنتخبين الجدد توفير طرق جديدة ومياه نظيفة وتحسين أوضاع الصرف الصحي. ونقل عن أحد أصحاب المتاجر في بلدة سوبور - أحد معاقل المتمردين الموالين لباكستان - قوله: «لا يمكننا انتظار الاستقلال للحصول على مرافق مدنية.»
48
وفقا للإحصاءات الرسمية، انخفض عدد «حوادث العنف» في جامو وكشمير من 3505 حادثة عام 2002 إلى أقل من 2000 حادثة عام 2005.
49
لا يمكن القول إن السلام قد خيم على الولاية بأي حال، ولكن لأول مرة من سنين طويلة، لم يبد زعم الحكومة الهندية حول أحقيتها في تلك الأرض أجوف تماما. وفي المحادثات الدائرة مع باكستان، استطاعت نيودلهي الحث على اتخاذ «تدابير بناء الثقة»، من قبيل توفير حافلات تربط بين شطري كشمير. كان المقرر أن تغادر الحافلة الأولى من سريناجار إلى مظفر أباد يوم 7 أبريل من عام 2005. وفي عصر يوم 6 أبريل، داهم الإرهابيون المجمع السياحي حيث كان الركاب، فصد الهجوم، وفي اليوم التالي غادرت حافلتان حسبما كان مخططا. ووصف مراسل صحفي استقل إحدى الحافلتين ما حدث عندما عبرت الحافلة «جسر السلام» المنشأ حديثا ودخلت الأراضي الباكستانية:
جمع شمل أسر كانت مفرقة، واختلطت الدموع ببتلات الورود على وجوههم. ربما كمنت أهمية تلك اللحظة غير العادية في خلفيتها العادية. فقد عبرت حافلتان على متنهما 49 راكبا، ومحت خطا قسم كشمير لما يربو على خمسة عقود من الدماء والتحامل.
50
إلا أنه كان ثمة أشخاص يفضلون استمرار التحامل وإراقة الدماء؛ ففي 11 يوليو من عام 2006، نفذ هجومان إرهابيان ضد سائحين في كشمير؛ قتل فيهما ثمانية زائرين من البنغال. وفي اليوم نفسه، انفجرت قنابل فتاكة في وقت واحد في سبعة قطارات مختلفة من قطارات الضواحي في مومباي (بومباي)، قتل من جرائها أكثر من 200 من المدنيين الأبرياء، وأصيب أكثر من ألف. كانت تلك إحدى أسوأ الحوادث الإرهابية في التاريخ. وفي حين أن هوية منفذي التفجيرات لم تعرف بعد، فأهدافهم ليست بحاجة إلى توضيح؛ كانوا يرغبون في الإيقاع بين الهندوس والمسلمين، وبين كشمير وبقية الهند، وبين الهند وباكستان.
8
قال عالم الاجتماع الألماني العظيم ماكس فيبر ذات مرة معلقا: «ثمة طريقتان لامتهان السياسة: إما أن يعيش المرء «من أجلها» أو أن يتعيش «منها».»
51
كان الجيل الأول من الزعماء الهنود يعيشون من أجل السياسة بالأساس؛ فقد كانوا ينجذبون إلى النفوذ الذي يمتلكونه، ولكنهم أيضا كانوا يتحركون كثيرا بدافع خدمة الآخرين والتضحية من أجلهم. أما الساسة الهنود في الجيل الحالي فمن الأرجح أن يدخلوا مجال السياسة للتعيش منها، هم ينجذبون إلى السلطة والهيبة، ولكنهم ينجذبون أيضا إلى فرص الكسب المادي، هم يعلمون أن السيطرة على أجهزة الدولة يمكن أن تأتي بمكاسب مغرية للمسئولين عنها.
كان الفساد السياسي موجودا في الخمسينيات، كما تبين في فضيحة موندرا وحكومة كايرون في البنجاب. ولكنه كان محدودا؛ فمعظم أعضاء مجلس وزراء نهرو - وحتى شاستري - لم يسيئوا استغلال مناصبهم لتحقيق مكاسب مادية. إلا أن بعض قيادات حزب المؤتمر جمعت أموالا للحزب من قطاع الأعمال؛ ففي فترة السبعينيات، بدأ الساسة يطالبون بعمولات عند إبرام صفقات سلاح مع موردين أجانب، وكانت تلك الأموال - أو معظمها - تذهب إلى خزائن الحزب لاستخدامها في الانتخابات التالية. إلا أنه بحلول الثمانينيات، كان الفساد السياسي قد تحول من المستوى المؤسسي إلى المستوى الشخصي؛ ومن ثم، تزايد عدد الوزراء المتربحين في الحكومة المركزية وفي الولايات من العقود الحكومية وتعيينات المسئولين وسبل أخرى متعددة.
والأدلة على الفساد السياسي مكمنها، بطبيعة الحال، الحكايات لا الوثائق. فالأشخاص الذين يتقاضون العمولات أو يدفعونها نادرا ما يخلفون وراءهم أدلة مادية على فعلتهم، إلا أن مكتب التحقيقات المركزي وجه في التسعينيات اتهامات إلى عدد من الساسة البارزين لحيازتهم أصولا «لا تتناسب» مع منصبهم. وكان من بين الزعماء المتهمين رئيسا وزراء ولايتي بيهار وتاميل نادو: لالو براساد ياداف وجيه جايا لاليتا. اتهم كل منهما بجمع مئات الملايين من الروبيات من تخصيص العقود الحكومية. وفي حالة أخرى، داهم مكتب التحقيقات المركزي منزل سكرام، وزير الاتصالات الاتحادي، ووجد 36 مليون روبية نقدا، وزعم أن تلك النقود مثلت عمولة إصدار التراخيص لشركات الاتصالات الخاصة.
في تلك الحالات كافة، لم تفض الاتهامات إلى إدانة: أحيانا لعدم كفاية الأدلة، وأحيانا أخرى لتردد السلطة القضائية. كما أن اللصوص لديهم التزام بعضهم تجاه بعض؛ ففي الفترات السابقة على الانتخابات، تثير المعارضة جلبة وصخبا بشأن الفساد المستشري في الإدارة الحاكمة، ولكنها إذا انتخبت لا ترفع دعاوى ضد النظام السابق، ثقة منها بأنها ستعامل بالمثل عندما تفقد السلطة.
52
والحقيقة أن الساسة من الأحزاب والولايات المختلفة كانوا كثيرا ما يتبادلون المجاملات؛ ففي إحدى الحالات الموثقة، أقر أحد رؤساء وزراء ولاية هاريانا بيع قطعة أرض مملوكة للدولة لابن رئيس وزراء ولاية البنجاب، وعلى الرغم من أن القيمة السوقية للأرض كانت 500 مليون روبية، كان السعر الفعلي المدفوع 25 مليون روبية.
53
على حد تعبير عالم السياسة بيتر دي سوزا، الفساد هو «الحقيقة المزعجة» في ديمقراطية الهند. فالحكومات الممسكة بزمام السلطة في نيودلهي تتقاضى رشاوى على المشتريات من الخارج، خاصة في صفقات الدفاع؛ حيث تبلغ نسبة الرشوة التي تتقاضاها عن العقود الأجنبية نحو 20٪. وفي معظم الولايات أغلب الوزراء مرتشون، يجنون المال من التراخيص الممنوحة للشركات ومن تعيين المسئولين الكبار ومن صفقات الأراضي، وأمور كثيرة أخرى. وحسب تقدير لجنة التخطيط فإن ما بين 70٪ و90٪ من الأموال المخصصة للتنمية الريفية تبتلعه شبكة ممتدة بدءا من رئيس مجلس القرية وصولا إلى النائب المحلي في البرلمان، مع حصول الموظفين على حصتهم أيضا. فأحد الأسباب التي يعزى إليها سوء حالة الطرق في المدن هو أن جزءا كبيرا من الأموال المخصصة لها ينفق في مصارف أخرى؛ فمن كل 100 روبية تخصصها هيئة مدينة بنجالور - على سبيل المثال - لبناء الطرق، تدخل 40 روبية جيوب الساسة والموظفين، و20 روبية أخرى تمثل هامش الربح لمتعهد البناء، وبذلك تنفق 40 روبية فحسب على العمل، الذي إما يؤدى دون إتقان أو لا يؤدى على الإطلاق.
54
نظرا للأرباح المترتبة على الوصول إلى السلطة، اتسع الآن نطاق الاتجار في الساسة. فبغية تجميع أعداد والوصول إلى أغلبية، يباع المشرعون ويشترون بثمن (باهظ عادة). وفي عهد حكومات الأقلية والحكومات الائتلافية تتسم عملية الاتجار بسرعة زائدة، فالمشرعون يبدلون مواقفهم ويغيرون أحزابهم بصفة روتينية. أصبحت هذه الظاهرة شائعة إلى حد أنه لم يعد من المستغرب في أوقات عدم الاستقرار السياسي أن يؤخذ أعضاء مجلس الولاية المنتمون إلى حزب بعينه جماعة لقضاء «إجازة» في جوا، لئلا ينقلبوا إلى الطرف الآخر. حينئذ يؤخذ هؤلاء الرجال - الذين يصل عددهم إلى الخمسين في بعض الأحيان - إلى فندق، حيث يشربون الخمر ويلعبون القمار، بينما يقف حرس مسلحون لمنع وصول أي مكالمات هاتفية متحمسة أو زوار مجهولي الهوية. وتستمر الإجازة إلى حين انتهاء الأزمة، وهو ما قد يستغرق عدة أسابيع.
ونظرا لأن السياسة أصبحت نشاطا تجاريا مربحا إلى هذا الحد، فقد أصبحت نشاطا قذرا أيضا؛ ففي عام 1985 نشرت مجلة «صنداي» الأسبوعية موضوعا على الغلاف بعنوان «العالم السفلي للسياسة الهندية»، يصف كيف كان مرشحون أصحاب سوابق جنائية يتنافسون في الانتخابات - خاصة في ولايتي أوتر براديش وبيهار - ويفوزون أحيانا، وأحيانا يختارون وزراء أيضا. وتضمنت الجرائم التي اتهم بها أولئك الرجال: «القتل والاختطاف والاغتصاب والتحرش وأعمال العصابات.»
55
وعلى مدار العقد التالي، دخل السياسة عدد أكبر من المجرمين؛ فكانوا من الكثرة بحيث رفع مجموعة من المواطنين دعوى من أجل المصلحة العامة في المحكمة العليا طالبوا فيها الأحزاب بنشر تفاصيل عن مرشحيهم. وفي مايو 2002، أصدرت المحكمة العليا حكما يلزم المترشحين للانتخابات على مستوى الولايات أو على المستوى الوطني بالإعلان عن أصولهم وسجلهم الإجرامي (إن وجد).
وبناء عليه أنشأت المجموعة التي رفعت دعوى المصلحة العامة الأصلية لجان رقابة انتخابية في الولايات، مؤلفة من محامين ومعلمين وطلاب. وجمعت الإقرارات التي قدمها المرشحون في خمسة انتخابات على مستوى الولايات أجريت خلال عامي 2002 و2003، ثم خضعت للتحليل؛ فظهر أنه في الأحزاب السياسية الكبرى - مثل حزب بهاراتيا جاناتا وحزب المؤتمر وحزب سماجوادي في أوتر براديش وحزب راشتريا جاناتا دال في بيهار - كانت نسبة المرشحين ذوي السوابق الجنائية تتراوح بين 15٪ و20٪. وأثبتت دراسة مفصلة لانتخابات المجلس التشريعي في ولاية راجستان عام 2003 أن نحو نصف المرشحين كانوا بالغي الثراء بالمقاييس الهندية؛ إذ تخطت الثروة المعلنة لكل منهم 3 ملايين روبية، ونحو 124 مرشحا كانوا من أصحاب السوابق الجنائية، و40٪ منهم اتهموا بجرائم تعد «خطيرة»؛ تتضمن السطو المسلح والشروع في القتل وتدنيس دار عبادة والحرق المتعمد.
56
وكان تحليل الإقرارات المقدمة من 541 نائبا انتخب في البرلمان عام 2004 كاشفا بالقدر ذاته. كان مرشحو حزب المؤتمر هم الأكثر ثراء؛ إذ بلغت قيمة أصول كل عضو في المتوسط 31 مليون روبية. ومعظم النواب تخطت قيمة أصولهم 10 ملايين روبية، مع احتلال الشيوعيين أدنى شريحة في هذا المقياس. أما في مسألة التهم الجنائية، فكانت الريادة لأحزاب تركز نفوذها في ولايتي أوتر براديش وبيهار. وكانت أسماء كثير من نواب البرلمان مدرجة في «صحيفة اتهامات»: 34,8٪ من حزب راشتريا جاناتا دال، و27,8٪ من حزب باهوجان ساماج، وقرابة 20٪ من حزب سماجوادي. وكان سجل نواب حزبي المؤتمر وبهاراتيا جاناتا أنظف قليلا؛ إذ كانت نسبة النواب ذوي السوابق الجنائية لدى الأول 17٪ ولدى الأخير 20٪ فحسب. إلا أن الوضع كان معكوسا فيما يتعلق بالأموال المدينين بها للمؤسسات المالية الحكومية؛ فمن إجمالي تلك الديون، كان نواب حزب المؤتمر البرلمانيون يعزى إليهم 45٪، ونواب حزب بهاراتيا جاناتا يعزى إليهم 23٪. ومرة أخرى كانت إقرارات النواب الشيوعيين هي الأفضل؛ إذ لم تتضمن أي ديون مطلقا.
57
يمكننا أن نستنتج من هذه الأرقام أنه أثناء تبوء كل من حزب المؤتمر وحزب بهاراتيا جاناتا مقعد السلطة في الحكومة المركزية، كانا يكسبان من النظام بصفة ممنهجة، بدرجة أكبر في حالة حزب المؤتمر، بما أنه قضى فترة أطول في السلطة. وفي الوقت نفسه، بغية الوصول إلى السلطة في الولايات، والبقاء فيها، أصبحت الأحزاب من قبيل حزب سماجوادي وحزب باهوجان ساماج وراشتريا جاناتا دال تعتمد على المجرمين بصفة متزايدة.
58
إلى جانب الفساد والاتجاه إلى الإجرام، ازداد وقوع السياسة الهندية ضحية المحسوبية؛ ففيما مضى كان لمعظم الأحزاب أيديولوجية متماسكة وقاعدة منظمة، أما الآن فقد تحولت إلى مؤسسات عائلية لا أكثر.
بدأت تلك العملية بقيادة الحزب القديم العتيد - حزب المؤتمر الوطني الهندي - وفي داخله؛ ففي معظم تاريخ حزب المؤتمر، كانت إدارته من الديمقراطيين ومن أجلهم، وعقدت انتخابات هيئاته في المناطق والولايات بصفة منتظمة، ثم وضعت إنديرا غاندي حدا للانتخابات داخل تنظيم الحزب بعد إحداثها الانقسام في حزب المؤتمر عام 1969، ومنذ ذلك الحين أصبح رؤساء وزراء الولايات ورؤساء الوحدات في الولايات المنتمون إلى حزب المؤتمر يرشحهم رئيس الحزب في نيودلهي. ثم سددت السيدة غاندي، في فترة الطوارئ، ضربة ثانية أكثر خطورة لتقاليد حزب المؤتمر، بتنصيبها ابنها سانجاي خليفا لها.
بعد وفاة سانجاي، أعد شقيقه راجيف لتولي رئاسة الحزب، والحكومة مع الوقت. وعندما طلبت قيادات حزب المؤتمر من سونيا غاندي تولي رئاسة الحزب، عام 1998، أقروا بأن الحزب قد استسلم تماما لمزاعم التوريث. وطلبت سونيا بدورها من ابنها راهول دخول مجال السياسة عام 2004، مخصصة له دائرة عائلة غاندي المأمونة: أميتي. وإذا كان للحزب أن يحتفظ بزمام السلطة عام 2009، فسيكون لراهول غاندي الأسبقية على أي عضو آخر في حزب المؤتمر إذا رغب في رئاسة الوزراء.
إلى جانب الآثار المدمرة التي ألحقها مبدأ التوريث الذي ابتدعته إنديرا غاندي بروح الحزب السياسي الهندي الأبرز، فقد مثل للآخرين نموذجا يحتذى. فباستثناء الحزبين القائمين على الكوادر في يسار الطيف السياسي ويمينه - الحزب الشيوعي الماركسي وحزب بهاراتيا جاناتا - تحولت الأحزاب السياسية كلها في الهند إلى مؤسسات عائلية. كان حزب درافيدا مونيترا كازاجام ذات يوم الحزب الأبي المعبر عن القومية الدرافيدية والإصلاح الاجتماعي، والآن استسلم أعضاؤه لحقيقة أن ابن إم كارونانيدي - أو ابن شقيقته - سيخلفه. وبال تاكري، زعيم حزب شيف سنا، رغم زعمه الدائم الالتزام بكرامة مهاراشترا والقومية الهندوسية، فإنه لم يستطع النظر إلى أبعد من ابنه أودهاف عند انتقاء الزعيم التالي للحزب. ويدعي حزبا سماجوادي وراشتريا جاناتا دال الدفاع عن «العدالة الاجتماعية»، ولكن مولايام سينج ياداف أوضح أن لا أحد سوى ابنه أكيليش سيخلفه. وعندما اضطر لالو براساد ياداف إلى الاستقالة من منصب رئيس وزراء ولاية بيهار (عقب فضيحة فساد)، اختيرت زوجته رابري ديفي للحلول محله، على الرغم من أن خبرتها السابقة لم تتعد نطاق منزلها ومطبخها. واتسع نطاق تطبيق تلك الممارسة في أركان النظام، حتى إنه إن توفي نائب برلماني أثناء فترة خدمته، يكون المرجح أن يرشح ابنه أو ابنته للحلول محله.
أثناء إجراء عالم أنثروبولوجيا نرويجي بحثا في قرية بنغالية، وجد أن اللفظ الأكثر استخداما في وصف السياسة هو أنها «قذرة». ووصف الساسة بأنهم الأشخاص الذين يشجعون «السباب» ويثيرون «الاشتباكات اليدوية» وينمون «الاضطرابات». الخلاصة أن السياسة لا هدف لها سوى بث «السم» في المجتمع. وقال القرويون إن هذا لم يكن هو الحال دائما؛ ففيما مضى - بعيد الاستقلال - كان الساسة شرفاء ومجتهدين ومتفانين، ولكن الآن كل حزب أصبح العاملون فيه «أشخاصا ماكرين متآمرين عديمي المبادئ».
59
هذه العبارات تصف إلى حد بعيد حال البلد بأسره. فقد تبين في استطلاع أجرته منظمة «جالوب» لاستطلاعات الرأي في ستين بلدا أن أعلى معدلات عدم الثقة في الساسة كانت في الهند، حيث شعر 91٪ ممن خضعوا للاستطلاع بأن نوابهم المنتخبين مخادعون.
60
ربما يمكننا أن نجد ما يعزينا إلى حد ما في عبارات كتبها باحثون عن مجتمعات أخرى في عصور أخرى. فقد كتب خورخي لويس بورخيس عن بلده الأرجنتين في الأربعينيات قائلا إن «الدولة ليست فردا، والأرجنتيني لا يفهم سوى العلاقات الشخصية؛ ومن ثم فسرقة المال العام ليست جريمة من وجهة نظره. أنا أذكر حقيقة واقعة، ولا أبررها أو أسوق لها الأعذار». وقال آر دبليو ساذرن عن قارته - أوروبا - في القرون الماضية إن «المحسوبية والرشاوى السياسية والاستيلاء على ثروات الدولة لمنحها لعائلة المرء، لم تكن جرائم لدى حكام العصور الوسطى، وإنما كانت جزءا من فن الحكم، لا تقل ضرورتها لدى الباباوات عن غيرهم من الرجال».
61
9
الفساد في الهند المعاصرة متفش ليس في السلطة التشريعية فحسب وإنما في السلطة التنفيذية أيضا. في الأزمنة الماضية، كان ذلك الفساد يتبدى في المستويات الدنيا من الجهاز البيروقراطي، حيث كان صغار الموظفين يأخذون رشاوى لتخصيص المواقع السكنية أو إقرار الوصلات الكهربائية أو تصفية المرشحين للوظائف.
62
إلا أنه في السنوات الأخيرة انتشر فيما بين موظفي المستويات العليا أيضا؛ فقد وجه مكتب التحقيقات المركزي اتهامات إلى السكرتارية المساعدين لوزراء حكومة الهند وحكومات الولايات بحيازة أصول «غير متناسبة» مع دخولهم، ولا شك أن أسلوب حياة بعض هؤلاء المسئولين يوحي بذلك، بما يمتلكونه من بيوت ريفية خاصة والإجازات العائلية التي يقضونها في أماكن غريبة تفوق تكلفتها دخلهم المكتسب مدى الحياة أضعافا.
63
في عهد جواهر لال نهرو، كانت الخدمة المدنية معزولة عن السياسة؛ فعمليات النقل والترقية وما شابههما كانت تتخذ بقرار من السلطة التنفيذية نفسها. إلا أنه منذ السبعينيات، تزايد تحالف موظفين منفردين في الجهاز البيروقراطي مع سياسيين منفردين أو أحزاب سياسية؛ فعندما كان الحزب المتحالف معهم يمسك بزمام السلطة، كانوا يحصلون على أفضل المناصب، وفي المقابل، كانوا يطبقون الأجندة الحزبية للسياسيين بحماس؛ ففي الصفقات بمختلف مستوياتها، أصبح الموظفون البيروقراطيون يعملون عن كثب الآن مع الوزراء الذين يرأسونهم، ويكافئون بحصة من العوائد. وقد امتدت جذور ذلك الداء إلى أعماق المنظومة؛ ومن ثم أصبح لكل عضو في هيئة تشريعية مأمور منطقة مفضل لديه، وضابط، وهكذا دواليك.
وكما يشير بي إس أبو، فقد احترم مؤسسو الدولة الهندية استقلالية الخدمة المدنية ونزاهتها. لقد أصر فالابهاي باتيل على أن يكون لدى مساعديه حرية تصويب آرائه أو انتقادها، حتى يتسنى له وحكومته الوصول إلى القرار الأفضل في ظل الظروف السائدة. إلا أنه عندما بدأت إنديرا غاندي تختار رؤساء وزارات الولايات على أساس ولائهم لها فحسب، أصبح هؤلاء الأفراد ينتقون مرءوسيهم بمعايير مشابهة. فمع مرور الوقت، تحول سكرتير أي إدارة حكومية إلى امتداد لآراء وزيره ورغباته.
64
في رسالة إلى رئيس الوزراء، سلط موظف الخدمة المدنية المتقاعد إم إن بوتش الضوء على تبعات تسييس الإدارة على هذا النحو. فكتب يقول إنه نظرا لأسلوب إدارة الحكومة الآن، فقد «انهار التسلسل الهرمي التأديبي لدوائر الخدمة المدنية (بما فيها جهاز الشرطة) تماما؛ فالمرءوس الذي لا يفي بالمتوقع منه ويوبخه رئيسه في العمل يعلم أنه بإمكانه أن يتزلف لأحد رجال السياسة، ليساعده في الإفلات من تبعات أخطائه ويلحق الأذى برئيسه». ونظرا لتعذر معاقبة الفشل، «لا توجد مساءلة، ولا رقابة على العمل، ولا انضباط مالي، وثمة انهيار ملحوظ في النظام».
65
في شمال الهند على وجه التحديد، كثيرا ما تقام التحالفات بين رجال السياسة وموظفي الخدمة المدنية على أساس الطائفة الاجتماعية؛ ففي أوتر براديش - على سبيل المثال - عندما يكون حزب سماجوادي ممسكا بزمام السلطة، يبدو أن الطوائف الاجتماعية المتخلفة، ولا سيما الموظفين من طائفة الياداف، هم من يحصلون على الوظائف الأعلى نفوذا وربحية. إلا أنه إذا قدر لحزب باهوجان ساماج الفوز بالانتخابات التالية، فكثير من هؤلاء الياداف يتركون مناصبهم للداليت. وإذا كانت أعمال الفساد ترتكب أحيانا على أساس الطائفة الاجتماعية، فهي كثيرا ما تبرر على أساس المؤسسة الهندية الأخرى العظيمة والباقية، وهي: العائلة. فالأموال المكتسبة بسبل غير قانونية تنفق على تعليم الأطفال في مدارس وكليات بالخارج ذات مصاريف عالية، وفي إثراء الأجيال القادمة بالباطل بصفة عامة.
العجيب في الأمر أن فساد الدولة الهندية تحاكيه أطراف تهدف إلى تدميره؛ ففي مختلف أنحاء الشمال الشرقي، وجدت الجماعات المتمردة المسلحة في عمليات الخطف والابتزاز بديلا مربحا عن الكفاح من أجل الحرية العرقية أو الوطنية؛ ففي ولاية تريبورا الصغيرة جدا، سجل 1394 حالة اختطاف بين عام 1997 وعام 2000، بمتوسط يربو على 300 حالة في السنة. كان من الممكن أن تبدأ الفدية المطلوبة لطفل من 20 ألف روبية وتصل إلى 3 ملايين في حالة مدير مزرعة شاي.
66
في مؤتمر صحفي عقد في يناير 1997، انتقد رئيس وزراء ميجالايا الأسبق - بي بي لنجدوه - وسائل الإعلام بعنف لتصويرها الجماعات المتمردة المسلحة «أسودا جسورة»، وقال في إصرار: «إنهم جبناء، ولصوص وحقراء، وسارقون، ومبتزون.» وأردف: «لقد مات التمرد في الشمال الشرقي منذ عقدين من الزمان.»
67
وكان ثمة ساسة آخرون أقل شجاعة. فقد حدث خلاف بين أحد زعماء حزب بهاراتيا جاناتا في ولاية مانيبور وبين جماعة مسلحة تدعى «منظمة إنقاذ الحركة الثورية في مانيبور». وعندما قرر الترشح في الانتخابات البرلمانية، أنزل إعلانا في الجرائد يعتذر فيه عن «أخطائه» الماضية ويطلب العفو من المنظمة. وإلى جانب هذا الاعتذار العلني، توصل أيضا إلى تفاهم معها. سجل الصحفي هاريش كاريه تلك الواقعة معلقا في إحباط أنه مثل كل شيء في الشمال الشرقي، «عفو الجماعات المتمردة المسلحة معروض للبيع أيضا».
68
10
لا شك أن الأجهزة الإدارية والشرطية الهندية ما زالت تضم كثيرا من الأفراد المستقيمين. ومرة أخرى، تشير الأدلة المستمدة من الحكايات إلى أن نسبة الموظفين الفاسدين أقل بقدر كبير على الأرجح من نسبة السياسيين الفاسدين. فماذا إذن عن الذراع الثالثة للحكومة؛ أي السلطة القضائية؟ على الرغم من أن الفساد والإهمال موجودان هنا أيضا، فإن «عامة الناس يتطلعون إلى القضاة على نحو لم يعودوا يفعلونه مع المشرعين أو الوزراء أو موظفي الخدمة المدنية». صدر هذا التعليق عن عالم الاجتماع المتميز أندريه بيتي، الذي أضاف أنه «ثمة اعتقاد سائد بأن القضاة - خصوصا في محاكم القضاء العالي - يتحلون بالثقافة ورقي الفكر والاستقلالية وإتقان العمل والاستقامة، وهي صفات لم تعد تقرن سواء بوزير أو سكرتير له».
69
عندما تتعذر الثقة بالساسة، وعندما تحدد الهويات الطائفية والدينية كثيرا مما يعتبر سياسة عامة، تتلقى محاكم القضاء العالي والمحكمة العليا سيلا من دعاوى المصلحة العامة، التي تستهدف وقف انتهاك القانون أو الدستور. أجبرت مثل تلك الدعاوى المرشحين على الإفصاح عن ثروتهم وسجلهم الجنائي، وغطت دعاوى أخرى طائفة واسعة من القضايا، بعضها يستهدف حماية البيئة من التلوث الصناعي، والبعض الآخر يستهدف حماية حقوق الفئات الاجتماعية المحرومة مثل القبليين والمعاقين والمشردين.
عادة ما تكون المحكمة العليا هي محكمة الملاذ الأخير، التي يلتجأ إليها عند فشل محاولات الاحتجاج والإقناع. وقد جاءت بعض أحكامها محررة للمجتمع؛ إذ أتاحت تحرير عمال السخرة وفتح سجون الهند المشهورة بقذارتها وسوء إدارتها للتفتيش العلني، بينما قوضت أحكام أخرى الفساد السياسي، بإلغائها التراخيص الصادرة تحت مبررات مشبوهة أو إقرارها استرداد الأراضي التي استولى عليها نواب برلمانيون ووزراء. إلا أن المحكمة العليا كانت تتجاوز نطاق اختصاصها أحيانا؛ فتصدر أحكاما بصدد مسائل فنية معقدة - كبناء سد، على سبيل المثال - تكون درايتها بها موضع شك.
أخذ بعض القضاة دورهم «الناشط» بجدية زائدة؛ فابتدعوا حقوقا لا يمكن فرضها وأمروا بوقف أنشطة اقتصادية دون التفكير في البطالة والسخط اللذين يمكن أن ينتجا عن ذلك. بعض القضاة الآخرين أبدوا ميلا مؤسفا للاستعراض؛ مثل قاض في مادوراي منح حق الكفالة الوقائية لعضو في مجلس الولاية اتهم بالترهيب الجنائي، ولكنه أمره بقضاء خمسة أيام في متحف غاندي بالمدينة، للاطلاع على الأدبيات الغاندية.
70
11
من حيث عقد انتخابات منتظمة وتعددية أحزابها وحرية صحافتها، الهند دولة ديمقراطية أكيدة، إلا أن طبيعة تلك الديمقراطية شهدت تغيرا بالغا مع مرور السنين؛ ففي أول عقدين بعد الاستقلال، كانت الهند ديمقراطية «دستورية» إلى حد بعيد، تقر فيها القوانين وتطبق عقب مشاورات حسب الأصول البرلمانية، من جانب أحزاب سياسية قائمة هي نفسها على التشاور. ثم كان العقدان الثالث والرابع فترة انتقالية، سعى حزب المؤتمر الحاكم فيهما إلى إدخال تعديلات على الدستور لمنح نفسه مزيدا من السلطات. وفي الوقت نفسه، قاد التحول عن الديمقراطية بداخله إلى تنصيب قائد أعلى. ردت المعارضة بالخروج من دائرة الدستور نفسه، عبر إثارة اضطرابات في كافة أنحاء البلاد ترمي إلى نزع شرعية الحكومات المنتخبة وسلطتها الحاكمة.
في عام 1949، أكد بي آر أمبيدكار، في خطابه الأخير أمام الجمعية التأسيسية، على ضرورة أن تحل الخلافات في الهند بالسبل الدستورية، وليس باللجوء إلى الاحتجاج الشعبي. وقد حذر أيضا من مخاطر تأليه الأشخاص؛ أي، تنصيب القادة في مكانة سامية لا يطولها نقد أبدا.
إلا أن تحذيرات أمبيدكار أغفلت. فكما ثبت بصورة درامية في أحداث أيوديا - على سبيل المثال - تم السعي لتسوية الخلافات السياسية في الشوارع عوضا عن الهيئات التشريعية. عضدت تلك العملية بصعود السياسة القائمة على الهوية، مع تنظيم الجماعات نفسها على أساس الطائفة الاجتماعية أو الديانة، وسعيها إلى إثبات وجودها بالقوة العددية عوضا عن قوة الحجة. وفيما مضى كانت النقاشات البرلمانية تدار على أعلى مستوى، أما الآن فقد تحولت إلى مجرد تبادل للإهانات والإساءات. وعند أقل عذر، تنظم الأحزاب السياسية إضرابات وتغلق المتاجر والمصالح وتنظم مسيرات وحالات صوم عن الطعام، سعيا إلى بلوغ هدفها بالتهديد والترهيب عوضا عن العقل والحجة؛ فمشرعو القانون في الهند عادة ما يكونون هم أكثر خارقيه انتظاما.
وقد استتبع تدهور البرلمان، والخطاب العام المتعقل بصفة عامة ما يلي:
اجتياح المعارضة قوى الحكومة فور صدور التفويض الانتخابي تقريبا؛ فلا الحكومة ولا المعارضة تتحليان بالصبر لاحترام أصالة تفويض الحكم الذي يمنحه الناخب للبرلمان أو السلطة التشريعية. وإن المواقف الجامدة التي تتبناها الحكومة متحدية بها حتى المطالب المستمرة والمشروعة للمعارضة البرلمانية لتفضي إلى السخرية المتشائمة والنزعة إلى النزول إلى الشوارع. وبعدما تذوق المعارضة طعم التنافر الصاخب والجبار الناجم عن حالات التعبئة الجماهيرية الرافضة للقرارات الحكومية، تدمنه ولا ترغب في العودة ثانية إلى رتابة النقاشات البرلمانية المتعقلة ورفع المظالم بطريقة متحضرة.
71
في الوقت نفسه، معظم الأحزاب السياسية أصبحت امتدادا لرغبات ونزوات قائد أوحد. ربما كان حزب المؤتمر في عهد إنديرا هو رائد ممارسة التملق السياسي، إلا أنها ليست حكرا عليه بأي حال من الأحوال. فالزعماء الإقليميون من قبيل مولايام ولالو وجايا لاليتا ينعمون بتقديس محقق لشخوصهم، حيث يشجعون ويتوقعون إذعانا كبيرا من زملائهم في الحزب وموظفي الخدمة المدنية التابعين لهم والشعب بصفة عامة. ومما يؤسف له أن أمبيدكار أيضا لم ينج من ممارسة تأليه الأشخاص هذه؛ فعلى الرغم من أنه لم يعد على قيد الحياة، ولا صلة له بأي حزب بعينه، فإن ذكراه تحظى بإجلال تام متطرف إلى حد أصبح يستحيل معه إدارة نقاش هادئ لأعماله وإرثه الفكري.
بعد مرور ستين عاما على الاستقلال، لا تزال الهند ديمقراطية، إلا أن أحداث العقدين الأخيرين تستدعي صفة جديدة محددة لها؛ فالهند لم تعد دولة ديمقراطية دستورية وإنما ديمقراطية «شعبوية».
الفصل التاسع والعشرون
الثروات
إليكم المبرمج [الأمريكي] الحانق ... إنه الرجل - نعم، يكون رجلا في المعتاد - الذي ينشئ مواقع إلكترونية من قبيل
yourjobisgoingtoindia.com
و
nojobsforindia.com
إنه الرجل الذي يحكي قصصا - كثير منها حقيقي، وبعضها من قبيل الأساطير الحضرية - عن المبرمجين الأمريكيين الذين يجبرون على تدريب الهنود الذين سيحلون محلهم.
مقتطف من مقالة في مجلة «وايرد»، فبراير 2004
1
في عام 1954، أنشأ رجل اقتصاد في بومباي - إيه دي شروف - منتدى الاقتصاد الحر، الذي كانت أفكاره عن التنمية الاقتصادية متناقضة إلى حد ما مع الأفكار التي أعربت عنها لجنة التخطيط واسعة النفوذ التابعة للحكومة الهندية. فقد شكا شروف «اللامبالاة، إن لم يكن التثبيط»، التي تعامل بها الدولة رواد الأعمال . وكان يرى أن «حكومة الهند إن نفضت عنها بعض أيديولوجياتها غير العملية وقدمت دعما نشطا إلى مشروعات القطاع الخاص، فسيتسنى تحقيق تحول سريع جدا نحو التصنيع في غضون الأعوام العشرة المقبلة».
1
في الوقت نفسه الذي أنشأ فيه شروف منتداه، ولكن بمعزل عنه، أخذ صحفي في بنجالور - هو فيليب سبرات - يكتب سلسلة من المقالات المناصرة للاقتصاد الحر. كان سبرات شيوعيا من جامعة كامبريدج أرسلته منظمة الأممية الشيوعية في عشرينيات القرن العشرين لإذكاء الثورة في شبه القارة الهندية. فاعتقل وقضى سنين طويلة في سجن هندي، ثم ألهمته الكتب التي قرأها في السجن، وزواجه بامرأة هندية فيما بعد، بتحول مطرد إلى اليمين. وبحلول الخمسينيات كان قد أصبح محرر مجلة أسبوعية أمريكية التوجه تدعى «ميسينديا»، ندد فيها بالسياسات الاقتصادية للحكومة الهندية، التي قال إنها تعامل رائد الأعمال «على أنه مجرم تجرأ على إعمال عقله بمنأى عن الدولة بهدف تكوين ثروة وخلق فرص عمل». كان كبير مخططي الدولة - بي سي مهالانوبس - قد أحاط نفسه بيساريين غربيين وأكاديميين من الاتحاد السوفييتي، الذين عززوا اعتقاده بأهمية «سيطرة الحكومة الصارمة على الأنشطة كافة». فقال سبرات إن نتيجة ذلك ستتمثل في «خنق القطاع الخاص، وندرة السلع الاستهلاكية، وتقييد ملايين العمال ... بأساليب تزهق الروح». هو نفسه كان يفضل وضع خطة من شأنها أن تهيئ «الظروف النفسية والاقتصادية اللازمة لدفع مشروعات القطاع الخاص إلى الأمام».
2
ضاعت أصوات الرجال من قبيل سبرات وشروف وسط التأييد الشعبي الجارف لنموذج التصنيع الثقيل بتمويل وتوجيه حكوميين. فلا شك أن الخمسينيات لم تكن عهدا مواتيا لأنصار الاقتصاد الحر في الهند، إلا أن أفكارهم كانت تظهر من وقت لآخر. فبعد تخفيض قيمة الروبية عام 1966 جرت بعض التحركات إزاء تحرير النظام التجاري، وصحبتها آمال بتحرير نظام إصدار التراخيص أيضا.
3
إلا أنه بعد الانشقاق الذي أحدثته إنديرا غاندي في حزب المؤتمر عام 1969، أخذت حكومتها «تحولا إلى اليسار»، أممت بموجبه مزيدا من الصناعات وعادت إلى سياسة الاكتفاء الذاتي. وفي أواخر السبعينيات، قدم الاشتراكيون في نظام جبهة جاناتا تأكيدا مذهلا على استقلال الهند الاقتصادي بطردهم الشركات الأجنبية من قبيل شركتي آي بي إم وكوكاكولا.
عادت السيدة غاندي إلى الحكم عام 1980، وفي العام التالي، أدلى رئيس مجموعة شركات تاتا، جيه آر دي تاتا، بحوار طويل لإحدى الصحف البارزة، فقال: «إن أداء الاقتصاد الهندي من منتصف الخمسينيات إلى منتصف الستينيات عكس سلامة الاقتصاد المختلط حسب التصور الأصلي الموضوع له.» فقد كان الإنتاج الصناعي ينمو بمعدل جدير بالإعجاب، هو 8٪ في السنة. ثم سنحت الفرصة، في أواخر الستينيات، لفتح الاقتصاد أمام المنافسة. ورأى تاتا أن ذلك لو كان حدث، «لنمى معدل التوظيف بسرعة أكبر في القطاعات كافة، ولحدثت زيادة كبيرة في الإنتاج وقضي على العجز، ولزادت الإيرادات الحكومية أيضا بصورة ملموسة، وهو ما كان بدوره سيمكن توظيفه في البرامج التنموية». إلا أن ما حدث فعليا كان أن الحكومة أقدمت على «تأميم الصناعات الكبرى باستخدام أسلوب المصادرة».
انتقالا من الماضي إلى الحاضر، حث تاتا الحكومة الحالية «على تحرير الاقتصاد ومشاهدة الفرق». فقد تحقق النجاح الاقتصادي الأخير لبلدان من قبيل كوريا الجنوبية وإسبانيا وسنغافورة وتايوان نتيجة «اعتماد هذه البلدان حديثة الاتجاه إلى التصنيع على مشروعات القطاع الخاص بالأساس الذي تهيأت سياسات حكوماتها الاقتصادية لتشجيعها ودعمها».
4
2
خلال عقد الثمانينيات تحللت الهند بالفعل من بعض عدائيتها إزاء الشركات. فقد منحت قدرا أكبر من التشجيع للشركات الخاصة، حيث لم تعد القطاعات الرئيسية بحاجة إلى استصدار تراخيص. كانت تلك سياسات مشجعة للشركات مكنت قطاع الصناعة الهندي من زيادة إنتاجيته وربحيته، إلا أنها لم تصل إلى حد أن تكون سياسات مشجعة للسوق تزيل عقبات الدخول إلى السوق والخروج منها بالنسبة إلى الشركات الهندية أو الأجنبية، ومن ثم تشجع المنافسة وتوسع الخيارات المتاحة أمام المستهلكين.
5
وقد تطلب الأمر حدوث أزمة كبرى حتى تبدأ الدولة الهندية العمل على تحقيق تحرير أشمل للاقتصاد.
كانت الأزمة ذات صلة بتنامي حجم الدين الحكومي الخارجي. تلقت الهند معونات لفترات طويلة من مؤسسات دولية مثل البنك الدولي، وازداد الاقتراض من السوق بمعدل سريع أيضا في عهد راجيف غاندي؛ ففي صيف عام 1991 كان الدين قد وصل إلى 70 مليار دولار أمريكي، 30٪ منها لدائنين من القطاع الخاص. وفي أحد الأوقات انخفض احتياطي النقد الأجنبي إلى مقدار واردات أسبوعين.
كان رئيس الوزراء عام 1991 هو بي في ناراسيمها راو، وهو رجل هادئ غير لافت للنظر، عاش وعمل في ظل إنديرا غاندي وابنها الأكبر. وعند الزج به في المنصب الأعلى بعد وفاة راجيف غاندي، كشف عن جرأة متنافية تماما مع ما كان معروفا عن شخصيته مسبقا. فقد عين في منصب وزير المالية الدكتور مانموهان سينج، الاقتصادي عديم التوجه السياسي الذي شغل قبلا مناصب منها سكرتير وزارة المالية ومحافظ بنك الاحتياطي الهندي. وإضافة إلى ذلك، أعطى له حرية إجراء الإصلاحات الاقتصادية التي يراها ملائمة.
قبل أن يصير مانموهان سينج موظفا عموميا، أعد رسالة دكتوراه في جامعة أكسفورد، اقترح فيها أن تتحرك الهند نحو نظام تجاري أكثر انفتاحا. كان قد كتب الرسالة في الستينيات، ثم اقتنص الفرصة بعد مرور ثلاثة عقود من الزمان، لوضع توصياته موضع التنفيذ: خفض قيمة الروبية، وألغى تحديد حصص الواردات ، وخفض التعريفة الجمركية، وشجع الصادرات، ورحب بالاستثمارات الأجنبية المباشرة. وحرر السوق الداخلية أيضا؛ إذ أنهي «حكم الترخيص والإذن والحصة» إلى حد بعيد، وحجم نمو القطاع العام. وأخيرا سعت الإصلاحات إلى الحد من الإسراف الحكومي؛ فطرحت تدابير رامية إلى خفض العجز المالي، الذي كان قد وصل إلى نسبة مزعجة، هي 8٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
6
أوضحت سياسة صناعية جديدة، صيغت في يوليو من عام 1991، أن «تراخيص الصناعة ستلغى من الآن فصاعدا في جميع الصناعات - باستثناء الصناعات المحددة - بصرف النظر عن مستويات الاستثمار». كانت الاستثناءات هي الصناعات ذات الأهمية الحيوية لدفاع الدولة، والصناعات الضارة بالبيئة وبصحة الإنسان؛ مثل صناعات السجائر والكحوليات. كان ذلك ارتدادا جذريا عن السياسة القائمة، التي جعلت صناعات كثيرة حكرا على الدولة، وصناعات كثيرة أخرى حكرا على قطاع الصناعات الصغيرة.
7
حدث تحرير لقطاع الخدمات أيضا، بتشجيع الشركات الخاصة على الاستثمار في قطاعات التأمين والبنوك والاتصالات والطيران، وهي قطاعات كانت خاضعة لسيطرة الدولة الكاملة سابقا بنحو أو بآخر. بعض الاقتصاديين رأوا أن الإصلاحات لم تكن كافية، مشيرين - على سبيل المثال - إلى أن قوانين العمل ظلت جامدة (جاعلة استغناء المديرين عن العمال أمرا شبه مستحيل)، وأنه حينما أزيلت عقبات الدخول، ظلت عقبات الخروج باقية (ومن ثم ظل رواد العمل ملزمين بالحصول على إذن من الحكومة من أجل إغلاق الوحدات غير المربحة). وقد قوضت المنظومة البيروقراطية ولكنها لم تفكك بالكامل؛ فلا يزال فتح شركة في الهند يستغرق أسابيع إلى شهور، في حين أنه لا يستغرق أكثر من بضعة أيام في الصين أو ماليزيا.
8
على الرغم من ذلك فقد مثلت التغييرات المدخلة تحت رعاية النظام الجديد تحولا كبيرا عن السياسات الماضية. فقبل عام أو عامين حتى من إجراء تلك الإصلاحات، كانت تعتبر مستبعدة أو حتى مستحيلة؛ ففي كتاب نشر عام 1989، عرف أستاذ في كلية هارفرد للأعمال أصحاب المصالح الذين أبقوا على استمرار الاقتصاد الموجه، ومنهم الساسة والبيروقراطيون ورواد الأعمال المحليون. وكتب أن سيطرة تحالف المصالح ذاك التي تبدو دائمة «أضعفت احتمالات القيام بإصلاحات جوهرية في السياسات الاقتصادية للدولة». ففي البلدان من قبيل كوريا الجنوبية، أحدث انضباط السوق والانفتاح على رأس المال الأجنبي طفرة في الثروة والإنتاجية، ولكن في الهند، كانت الدولة «مشلولة» ورواد الأعمال المحليون «عموا» عن الحاجة إلى الإصلاح. كانت الآفاق قاتمة: «النمو «المعجز» الذي حققته تلك البلدان الأخرى المتجهة إلى التصنيع سيظل بعيد المنال بالنسبة إلى الهند.»
9
3
لأعوام كان الاقتصاد الهندي ينمو بما سمي على سبيل السخرية «معدل النمو الهندوسي». فقد زادت الإصلاحات المشجعة للشركات في الثمانينيات من معدل النمو، وزادته أكثر الإصلاحات المشجعة للسوق في التسعينيات. ويعبر جدول
29-1
عن التحسن المطرد في أداء الاقتصاد الهندي.
كان معدل النمو متفاوتا بطبيعة الحال، حيث كان أداء بعض نواحي الاقتصاد أفضل من أداء نواح أخرى. وكان التوسع الأهم في قطاع الخدمات، الذي كان ينمو بمعدل متوسطه 8,1٪ في السنة على مدار تسعينيات القرن العشرين. ومعظم ذلك النمو يعزى إلى صناعة البرمجيات، التي نمت عوائدها من 197 مليون دولار فحسب عام 1990 إلى 8 مليارات دولار عام 2000؛ ففي بعض الفترات كان معدل نمو ذلك القطاع يفوق 50٪ في السنة. كان معظم ذلك التوسع يستهدف الأسواق الخارجية؛ ففي عام 1990 قدرت صادرات صناعة البرمجيات الهندية بمبلغ 100 مليون دولار، ولكن بحلول نهاية العقد كان ذلك الرقم قد قفز إلى 6,3 مليارات دولار.
جدول 29-1: النمو الاقتصادي في الهند، 1972-2002 (المصدر: فيجاي إل كلكار، «الهند: على طريق النمو السريع»، خطاب كيه آر نارايان (كانبيرا: الجامعة الوطنية الأسترالية، 2004)).
الفترة
معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي
معدل النمو في نصيب الفرد من الدخل القومي
1972-1982
3,5٪
1,2٪
1982-1992
5,2٪
3٪
1992-2002
6٪
3,9٪
في عام 2000، كانت الهند بها 340 ألف محترف برمجيات، كان نحو 20٪ منهم نساء، و50 ألف خريج هندسة جديد يعينون سنويا. وخلال السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين أخذت تلك الصناعة تنمو بمعدل أسرع؛ فبحلول عام 2004، أصبح عدد المشتغلين فيها 600 ألف شخص، وبلغت صادراتها ما قيمته 13 مليار دولار من الخدمات.
في الهند وخارجها على حد سواء، عادة ما تعتبر صناعة البرمجيات تجسيدا لتلك الإصلاحات. فهي صناعة محلية بالأساس، فيها شركات كبيرة وصغيرة مملوكة لرواد أعمال هنود، يوظفون مهندسين هنودا من خريجي الجامعات الهندية، إلا أن معظم عملهم موجه لعملاء في الخارج، يتضمنون كثيرا من الشركات التي تدرج على قائمة مجلة فورتشن السنوية للشركات الأمريكية الخمسمائة الأعلى دخلا. بعض هذا العمل يكون روتينيا؛ من قبيل ضبط الحسابات وسجلات الموظفين مثلا، ولكن بعضه يكون أكثر ابتكارا، مثل تصميم برامج جديدة، ثم الحصول على براءات اختراع لها وبيعها في الخارج. («آي-فليكس»، البرنامج المالي الذي ابتكرته شركة هندية، أصبح مستخدما الآن في أكثر من سبعين بلدا.) في السنوات الأولى لتلك الصناعة، انصب تركيزها على إرسال مهندسين بتأشيرات قصيرة الأمد للعمل في مقرات شركات أوروبية وأمريكية، إلا أنه مع ظهور الاتصالات بالأقمار الصناعية وشبكة الويب، والتطور المتزايد لعمل تلك الصناعة، تحول التركيز إلى خدمات التعهيد؛ حيث أصبحت أكواد البرامج تكتب في الهند ثم ترسل إلى الخارج.
أضحت شركات البرمجيات من قبيل ويربو وتي سي إس وإنفوسيس أسماء معروفة في كل بيت في الهند، إلا أنها معروفة وتحظى باحترام واسع في دوائر الأعمال بالخارج؛ فهي مدرجة في بورصة نيويورك، كما أنها تمتلك وتشغل شركات تابعة في مناطق كثيرة من العالم. إلا أن هذا المجال ينطوي أيضا على كثير من الشركات الصغيرة والشركات متوسطة الحجم، وحصة الشركات الكبرى من السوق في انخفاض مطرد على مدار العقد الأخير.
10
تتركز شركات البرمجيات في بضع مدن كبرى: هي دلهي ومدراس وحيدر أباد وبنجالور في المقام الأول التي أصبحت تحمل لقب «وادي السيليكون الهندي». فبنجالور هي مقر أرقى جامعة بحثية في الهند: المعهد الهندي للعلوم، الذي أنشئ عام 1909. وبعد الاستقلال، أصبحت تلك المدينة مركزا للوحدات الصناعية؛ حيث أقيمت فيها مصانع كبيرة مملوكة للدولة لتصنيع الآلات، والطائرات، والتليفونات، والأجهزة الكهربائية. وعندما يضيف المرء إلى هذا التراث العلمي الثري في بنجالور مناخها المتوسطي المعتدل وثقافتها العالمية التوجه، يتفهم سبب تحولها إلى وجهة استثمارية جذابة إلى هذا الحد؛ فشركتا ويربو وإنفوسيس مقرهما الرئيسي هناك، وهكذا الحال بالنسبة للعديد من اللاعبين المهمين في مجال صناعة البرمجيات.
حتى يتسنى فهم صعود قطاع البرمجيات يجب على المرء استرجاع العوامل المباشرة وغير المباشرة على حد سواء التي أدت إلى ذلك. فكما قال جون إف كينيدي: النجاح له آباء كثر. وفي هذه الحالة تحديدا، كل الجهات التي زعمت مسئوليتها عن النجاح على جانب من الصحة؛ فبعض الفضل يعزى بلا شك إلى إصلاحات عام 1991، التي فتحت السوق الأجنبية للمرة الأولى، إلا أن بعض الفضل لا بد إرجاعه إلى حكومة راجيف غاندي أيضا، التي أعطت اهتماما خاصا لصناعتي الإلكترونيات والاتصالات اللتين كانتا وليدتين آنذاك. وبالرجوع عقدا آخر إلى الوراء، نجد أن حكومة جاناتا بطردها شركة آي بي إم قد أتاحت إنشاء صناعة محلية لتصنيع أجهزة الكمبيوتر وصيانتها. ولكن ربما كان الأجدر بدء الحكاية فعليا من وقت حكومة جواهر لال نهرو، التي تحلت ببصيرة دفعتها إلى إنشاء سلسلة من كليات الهندسة عالية الجودة وبحكمة حدت بها إلى الإبقاء على الإنجليزية لغة للتعليم العالي والاتصالات على مستوى الولايات وعلى المستوى الدولي. فكما قال أحد المحللين المحترمين في قطاع تكنولوجيا المعلومات معلقا: «إن أكبر المزايا التي تركن إليها الهند هو امتلاكها قوة عاملة كبيرة متعلمة تتحدث اللغة الإنجليزية ومستعدة للعمل نظير أجور منخفضة نسبيا.»
11
تلك مفارقة طريفة جدا؛ فقد تسنى تحقيق نموذج يحتذى به في تحرير السوق على يد رجل كان ملتزما بمسار للتنمية الاقتصادية ترعاه الدولة.
وإضافة إلى هذه العوامل، ساهمت مصادفة جغرافية بدرجة هائلة في تلك الطفرة، والتي تمثلت في وقوع الهند على الطرف المقابل في الكرة الأرضية من الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث يكون العمل المنجز خلال النهار جاهزا بحلول وقت استيقاظ العميل من نومه.
أفضت إجادة الهنود للغة الإنجليزية - وحظ الهند بكونها تسبق الغرب المتقدم بفترة تتراوح بين خمس وعشر ساعات - إلى تعهيد أشكال أخرى من العمل إلى الهند؛ ففي أعلى مستويات سلسلة القيمة كان إرسال الفحوصات الطبية لمرضى في مستشفيات أمريكية لكي يحللها مختصو الأشعة ومختصو علم الأمراض في الهند. وفي أدنى المستويات كانت مراكز الاتصال العديدة، حيث يسهر الشباب الهنود طوال الليل لتلقي المكالمات الهاتفية من حاملي بطاقات الائتمان الغربية، أو لحجز مقاعد على طائرات وقطارات غربية. كثير من موظفي تلك المراكز نساء، يتحدثن الإنجليزية بقواعدها السليمة باللهجة التي يختارها العميل، ويعملن بكد يفوق نظرائهن الأمريكيات وبعشر التكلفة. عام 2002، كان عدد مراكز الاتصال في الهند يفوق 300 مركز، ويعمل بها 110 ألف موظف. كانت تلك الصناعة تنمو بمعدل مذهل، يبلغ 71٪ في السنة، وقدر أنه بحلول عام 2008 سيبلغ عدد العاملين بها مليوني شخص، وأنها ستدر 25 مليار دولار، لتشكل بذلك 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي للهند.
12
يتخذ تعهيد الأعمال الغربية إلى العمالة الهندية أشكالا متزايدة التنوع باستمرار؛ فمعلمو اللغة الإنجليزية في كيرالا يعطون دروسا للأطفال الأمريكيين في قواعد اللغة والإنشاء عبر الإنترنت، والقساوسة الكاثوليك في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا يرسلون طلبات الصلاة إلى نظرائهم في الهند؛ فمن الممكن تأدية صلاة شكر لأحد مقابل 40 روبية (قرابة دولار أمريكي واحد) في كنيسة هندية، في حين أن تلك الصلاة يمكن أن تكلف خمسة أمثال ذلك المبلغ في أي كنيسة أمريكية.
13
كان لإصلاحات عقد التسعينيات تأثير على قطاع التصنيع أيضا، وإن لم يكن تأثيرا مذهلا بالقدر ذاته. لقد أفضت زيادة المنافسة ودخول الشركات الأجنبية إلى رفع الإنتاجية وخفض الأسعار؛ مما عاد بالنفع على المستهلك المحلي. وانتهزت بعض الصناعات الهندية الفرص التي طرحها فتح أسواق دولية؛ ومن ثم أصبحت كبرى العلامات التجارية في مجال الملابس مثل جاب وبولو وتومي هيلفيجر تصنع منتجاتها في الهند بصفة متزايدة. الهند تصدر الآن نحو 500 ألف مركبة في السنة، فضلا عن كثير من المكونات المتطورة المستخدمة في المركبات المجمعة في أماكن أخرى (نصف المركبات الأمريكية تستخدم محور دوران صنع في شركة هندية). وتمثل المستحضرات الدوائية منطقة نمو أخرى؛ فقد قدرت قيمة الأدوية المصدرة من شركات هندية بمليار دولار أمريكي عام 2003، منها عقاقير مصنوعة وفق المعايير الدوائية الرسمية الحديثة وأخرى تتبع منظومة الطب المحلي: الأيورفيدا.
14
أدى فتح السوق بكثير من الشركات الأجنبية أيضا إلى طرق أبواب السوق الهندية؛ ففيما بين عام 1991 وعام 2000، أقرت الحكومة أكثر من 10 آلاف طلب استثمار مقدمة من شركات أجنبية، ولو كانت كلها تمت لبلغت قيمتها 20 مليار دولار أمريكي. كانت تلك الاستثمارات تتدرج من الاتصالات إلى الكيماويات، ومن الصناعات الغذائية إلى المنتجات الورقية. من المشروعات التي بدأ العمل فيها فعلا، كانت أوضح العلامات التجارية في قطاع السلع الاستهلاكية، مثل السيارات صناعة شركتي فورد وهوندا، وأجهزة التليفزيون صناعة سامسونج، وهواتف نوكيا، والمشروبات الغازية من شركتي بيبسي وكوكاكولا، التي أصبح لإعلاناتها ومعارضها حضور ملحوظ في المدن الهندية الكبرى. وأقل بروزا منها كانت الشركات من قبيل شركات فيليبس ومايكروسوفت وجنرال إليكتريك التي أنشأت أيضا مراكز بحثية في الهند، وظفت مهندسين محليين وكذلك أجانب في تطوير أحدث التكنولوجيات من أجل السوق العالمية.
15
ظلت أهمية التجارة الخارجية لاقتصاد الهند تتنامى باطراد طوال عقد التسعينيات. ارتفعت نسبة الصادرات من 4,9٪ إلى 8,5٪ من الناتج المحلي الإجمالي، بينما زادت نسبة الصادرات من 7,9٪ إلى 11,6٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن في المجمل، ظل ذلك الاقتصاد مغلقا نسبيا؛ ففي عام 1980، كانت الهند تشكل 0,57٪ من التجارة العالمية، وبعد مرور عشرين عاما تزحزحت تلك النسبة صعودا إلى 0,71٪.
16
4
أحد الأوجه الأقل لفتا للانتباه في التاريخ الاقتصادي الحديث للهند هو التغير الذي طرأ على التركيبة الاجتماعية لطبقة رواد الأعمال؛ ففي الماضي، كان الرأسماليون البارزون في الهند يأتون من مجتمعات تجارية تقليدية: المارواريين والجاينيين والبانيا والشتيار والبارسيين. إلا أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، دخلت مجموعة من طوائف الفلاحين قطاع الصناعة، فقد كان بعض رواد الأعمال الأكثر نجاحا في الآونة الأخيرة ينتمون إلى طوائف اجتماعية اشتغلت في فلاحة الأرض قرونا من الزمان، من الماراثيين والفيلالا والريدي والنادار والإزهافا. وكذلك فإن بعض الشركات الناشئة الأكثر شهرة - مثل إنفوسيس - أنشأها براهمة، من عائلات جرى العرف على عملها في خدمة الدولة أو المهن الأكاديمية وتطلعوا إلى التجارة بازدراء. وإضافة إلى ذلك كان يوجد بعض رواد الأعمال المسلمين الناجحين للغاية؛ مثل عظيم بريمجي مؤسس عملاق البرمجيات ويبرو.
17
في الوقت نفسه، أسفرت طفرة النمو الاقتصادي عن اتساع حجم الطبقة الوسطى الهندية ودائرة نفوذها. كتب إي شريدهاران يقول إن ظهور هذه الطبقة «غير الهيكل الطبقي الهندي من هيكل يتسم بالتناقض الصارخ بين نخبة صغيرة وحشود جماهيرية كبيرة فقيرة، إلى آخر يحتوي على طبقة متوسطة كبيرة الحجم». إلا أن حجم تلك الطبقة الفعلي لا يزال أمرا خاضعا للتعريف والتأويل. فبتعريفها الأشمل - حيث تتضمن الأسر كافة التي يزيد دخلها السنوي عن 70 ألف روبية (حسب أسعار 1998-1999) - تشتمل الطبقة الوسطى على ما يصل إلى 250 مليون هندي، وبتعريفها الأضيق - الذي يستبعد منها من يكسبون أقل من 140 ألف روبية في السنة - تشتمل على 55 مليون هندي فحسب.
18
هذه الطبقة الوسطى الجديدة هي الهدف الرئيسي للسلع والخدمات الجديدة التي دخلت السوق الهندية في السنوات الأخيرة، فقد أصبح عدد المشتركين في القنوات التليفزيونية الخاصة يفوق 50 مليون شخص في الهند، و100 مليون هندي على الأقل يمتلكون هواتف محمولة. هاتان الخدمتان تنتشران على نطاق واسع وبمعدل سريع، مثلها في ذلك مثل الأداة الأكثر تعبيرا عن الاقتصاد الاستهلاكي الحديث، وهي: المركبات. بنجالور - على سبيل المثال - تسير في طرقها نحو مليوني مركبة، يضاف إليها 20 ألفا جديدة كل شهر.
في السنوات الأولى بعد نيل الهند استقلالها، سيطرت بشدة على الطبقة الوسطى الهندية أخلاق التقشف الغاندية؛ ففي بلد فقير، لم يكن يفترض للمرء أن يحوز ثروة كبيرة، والأكيد أنه لم يكن يفترض به أن يتباهى بها؛ فحتى ذوو الميل إلى إمتاع أنفسهم عرقلهم انعدام الخيارات. ومع انفتاح الاقتصاد في التسعينيات، سرعان ما تبدد الإحساس بالذنب الذي كان يقترن في الماضي بالنزعة الاستهلاكية؛ فسواء في السجائر أم السيارات أم الخمور أم النظارات الشمسية، العلامات التجارية الأجنبية التي لم تكن متاحة في الهند مسبقا أصبحت تغرق السوق الهندية؛ فتعرض الإعلانات التليفزيونية صورا جذابة للسلع المتاحة، بينما تهرع البنوك وشركات بطاقات الائتمان إلى مساعدة المرء على شرائها واستهلاكها.
19
على الرغم من كون النزعة الاستهلاكية الجديدة أكثر تبديا في المدن الكبيرة، فإنها ليست حكرا عليها. فثمة دراسة إثنوغرافية حديثة لريف كيرالا تصف ممارسة المستهلكين في هذا العصر التحرري للاختيار بعناية وتمييز، واضعين قدرتهم المادية نصب عين وجيرانهم نصب الأخرى. قطعا ريف كيرالا ليس معبرا عن الريف الهندي ككل بأي حال. من ناحية، تمتزج القرى بالمدن في سلاسة، ومن ناحية أخرى قضى كثير من القرويين وقتا في العمل في الشرق الأوسط؛ حيث جنوا ما يكفي من المال للانتقال إلى الطبقة الوسطى مباشرة. وبالنسبة لهؤلاء المستهلكين الجدد:
الأساليب والأذواق لها ترتيب هرمي، حيث تمثل العلامات التجارية مؤشرا مميزا؛ فتليفزيون «كلترون» (من إنتاج شركة كيرالا إلكترونيكس التابعة للولاية) يضفي مكانة أدنى من تليفزيون «أونيدا» - الهندي الصنع - الذي يقل مكانة بدوره عن تليفزيون «سوني» الذي يصنع في الهند بترخيص من شركة سوني، حيث تنسب أعلى مكانة لأجهزة التليفزيون المستوردة المصنوعة في الخارج ... فأحيانا يترك الناس بطاقة العلامة التجارية على السلع الاستهلاكية المعمرة للتأكيد على أصلها.
20
وما يسري على أجهزة التليفزيون يسري أيضا على مجموعة كبيرة من المنتجات، من كريمات البشرة إلى السيارات، لقد أصبح المستهلك الهندي يجد صعوبة الآن في الاختيار بين كم الخيارات المتاحة؛ فيما مضى كانت السيارات الوحيدة المتاحة محليا هي سيارات من نوع موريس طراز الخمسينيات وسيارات من نوع فيات طراز الستينيات. أما الآن فالمرء إذا توفر لديه المال صار بإمكانه شراء أحدث سيارة مرسيدس بنز. والهنود من الطبقة الوسطى، الذين كان اهتمامهم ينصب في الماضي على الادخار من أجل المستقبل، أصبحوا الآن أكثر توجها نحو الحاضر. وقبل عشرين عاما، كانت قلة من الهنود هي من تحمل بطاقات ائتمان، والآن أصبح أكثر من 20 مليونا يحملونها. كانت تلك فيما مضى ثقافة معادية للمجازفة، ولكن الآن أصبح ملايين من الهنود يستثمرون أموالهم في أسواق العقارات والأوراق المالية.
أدت تلك التغييرات في الإنتاج والاستهلاك إلى تحول جذري في المشهد الحضري؛ فالبيوت المتواضعة تحولت إلى عمارات فارهة، والشركات المكونة من دور واحد حل محلها بنايات أسمنتية شاهقة مكسوة بالزجاج. ولا تزال الأسواق التقليدية - التي تبيع أكشاكها الصغيرة أواني ومقالي محلية الصنع أو فاكهة وخضراوات مزروعة محليا - موجودة، ولكن الآن أصبح لدينا مراكز تجارية ضخمة أيضا، تعرض تحت سطح واحد علامات تجارية دولية مثل ليفايز وإستي لودر وسوني وباسكن روبنز.
5
تمثلت العاقبة الثانية للنمو الاقتصادي الأخير في انخفاض نسبة الهنود الذين يعيشون تحت خط الفقر الرسمي. وثمة نقاش أكاديمي محتدم بشأن عدد الفقراء في الهند تحديدا. خلص بعض الإحصائيين إلى أن 15٪ فقط يعيشون تحت خط الفقر، في حين أوصلت التقديرات الأكثر تشاؤما تلك النسبة إلى 35٪. أما تقدير الحكومة الهندية فيقع بين هذين التقديرين المتطرفين، ويبلغ 26٪. وعلى الرغم من أن الأرقام الدقيقة مختلف عليها، فكل الباحثين تقريبا متفقون على أن معدل الفقر انخفض في التسعينيات من الناحية المطلقة والنسبية على حد سواء؛ ففي بداية العقد، كان قرابة 40٪ من الهنود «فقراء»، وبحلول نهايته انخفضت النسبة إلى 30٪ أو أقل.
21
على الرغم من ذلك، فأعداد الفقراء هائلة في الهند؛ تقترب من 300 مليون، إذا التزم المرء بالتقديرات الرسمية. وكثير من الفقراء يعيشون في المدن، فوراء المجمعات التجارية البراقة والمباني الإدارية الجديدة تكمن العشوائيات ومدن الصفيح حيث يقطن معظم سكان الحضر. هؤلاء هم الناس الذين يقومون على خدمة الطبقة الوسطى، لكنهم لن ينتموا لها أبدا؛ فهم «يبيعون صحفا لن يقرءوها أبدا، ويحيكون ملابس لن يمكنهم اقتناؤها، ويلمعون سيارات لن يمتلكوها أبدا، ويشيدون مباني لن يقطنوها أبدا».
22
آخرون من ساكني العشوائيات يعملون ساعات طويلة بأجور متدنية، في أعمال ضارة بصحتهم؛ مثل قطع المعادن وفصل الكيماويات. وعادة ما يفتقرون إلى التنظيم، فيكونون معرضين للتسريح دون إخطار مسبق ودون تأمين أو استحقاقات تقاعد.
23
إلا أن أغلبية فقراء الهند يعيشون في القرى. نادرا ما تطول الريف آثار التحرر الاقتصادي. وقد كان معدل النمو الزراعي شديد البطء خلال التسعينيات. صحيح أنه جرت محاولات لتنويع المحاصيل، وزراعة فاكهة وخضراوات للسوق المحلية وزهور للتصدير، إلا أن تلك المحاولات كانت محدودة النجاح، وهو ما يعزى بدرجة كبيرة إلى أوجه القصور التي تعتري البنية التحتية: من قلة الكهرباء المتاحة لمعالجة المحاصيل أو تخزينها، وقلة الطرق المتاحة لنقلها إلى السوق.
24
وحتى فيما يتعلق بالمورد الأكثر أهمية - الغذاء - كان الوضع أقل إبهاجا بكثير مما كان من الممكن أن يكون. فبالنظر إلى البلد ككل، كان فائض الغذاء متواضعا؛ فقد حفظت الحكومة «مخزونا احتياطيا» في مخازنها يتراوح بين 10 ملايين طن و20 مليون طن. إلا أن آليات التوزيع اعتراها قصور خطير؛ ففي أوقات الندرة، لم تكن المخزونات تتحرك بالسرعة الكافية إلى المجتمعات المحتاجة إليها. وكان استهداف المناطق يفتقر إلى الكفاءة؛ فكانت حبوب منظومة التوزيع العامة تصل بسهولة أكبر إلى المدن عن المناطق الريفية، والولايات الغنية عن الولايات الفقيرة. وشابها فساد هائل؛ فوفقا لأحد التقديرات، كان 20٪ فقط من الحبوب الصادرة عن منظومة التوزيع العامة يصل بالفعل إلى من يفترض تلقيهم لها، أما الباقي فكان يباع في السوق السوداء؛ فظل الجوع وسوء التغذية متوطنين في مناطق متعددة، وسجلت حالات من الموت جوعا عندما كانت الأمطار تشح.
25
في أجزاء كثيرة من البلاد، ظل العيش وسبله معتمدين على توفر المياه؛ فبعد مرور ستين عاما على الاستقلال، لم يكن الري متاحا إلا في 40٪ من المناطق المزروعة. وبالنسبة إلى معظم المزارعين، تفاقم عدم اليقين الناتج عن تقلبات سقوط الأمطار من عام لآخر بفعل منح المدن الأولوية في الحصول على مصادر المياه المتاحة. كانت دلهي تأخذ احتياجاتها من سد تهري الذي يبعد عنها 200 ميل، وبنجالور تأخذ احتياجاتها من نهر كوفري الذي يبعد عنها 100 ميل. فالمدن التي ضمت الفئات ذات الحظوة والنفوذ كانت تحصل على ما تطلبه من مياه بأسعار مدعمة عادة. وفي بعض الأحيان كانت الندرة والتمييز يستثيران تصرفات يائسة؛ ففي رحلة قطعها الصحفي بي ساينات في تاميل نادو عام 1993، أوقف فلاحون قطاره في قلب الليل، وأخذوا كل ما استطاعوا الحصول عليه من مياه. وبعد عشرة أعوام، عندما ضرب الجفاف شمال راجستان، اضطر الرعاة في بيكانير إلى شراء المياه من السوق لإنقاذ ماشيتهم من الموت، فكان السعر الذي دفعوه أكثر مما يدفعه المستهلك في دلهي نظير المياه 166 مرة.
26
في الأعوام الأخيرة من القرن العشرين، سجلت أولى حالات الانتحار بين المزارعين. كانت تلك ظاهرة مستجدة مزعجة؛ فعلى الرغم من تواجد الجوع والفقر في شبه القارة الهندية قرونا من الزمان، فلم يبلغ الأمر بكل هذا العدد من أهل الريف حد قتلهم أنفسهم. كان الانتحار - كما ذهبت الدراسات الرائدة لعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم - نتاجا للتفسخ الاجتماعي والاغتراب الناجمين عن الحياة الحضرية الحديثة، وقد زاد معدله في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، بين النازحين إلى المدن الذين انتزعوا من كنف أسرهم ومجتمعهم، وزاد معدله أيضا في بنجالور في أواخر القرن العشرين، بين الشباب العاملين في مجال البرمجيات الذين يعيشون تحت ضغط ساعات العمل الطويلة أو سرعة نجاح زملائهم.
رصد علماء الأنثروبولوجيا الهنود فيما مضى ارتفاع معدلات الانتحار بين أبناء بعض القبائل في المناطق الجبلية المنعزلة،
27
ولكن ما كان يحدث في ذلك الوقت بين المجتمعات الزراعية المستقرة كان أمرا غير مسبوق؛ ففيما بين عام 1995 وعام 2005 وقعت عشرة آلاف حالة انتحار على الأقل بين المزارعين، في ولايات متفرقة كأندرا براديش وراجستان. عادة كان أرباب المنازل من الذكور هم من يقتلون أنفسهم، بتناول المبيدات الحشرية في أغلب الأحيان، وبشنق أو صعق أنفسهم بالكهرباء في أحيان أخرى. في كثير من الحالات، كانوا يتخذون تلك الخطوة المتطرفة بسبب عجزهم عن دفع الديون المتراكمة عليهم على مر الأعوام، سواء كانت ديونا لبنوك أو جمعيات تعاونية أو مرابين. إلا أن المديونية كانت أيضا سمة متغلغلة في الحياة الريفية؛ فلم أصبحت تفضي إلى هذه النتيجة المأساوية بهذا التواتر؟ لم تظهر بعد دراسات منهجية تجيب عن هذا السؤال، ولكن ربما جاز القيام ببعض التكهنات المبدئية. مع وافر الاحترام لدوركايم، ربما كانت حالات الانتحار بين المزارعين مرتبطة بالمعدل السريع للتغير الاجتماعي في الهند المعاصرة؛ فالمجتمع الاستهلاكي الجديد - الذي ينقل التليفزيون صوره إلى القرى - يعلي شأن النجاح كثيرا فعلا. لذا، عندما يفسد المحصول، أو لا يعطي محصول جديد الغلة المنشودة منه، يصير شعور الإهانة الشخصية أشد بكثير مما كان يمكن أن يكون عليه في زمن ماض أكثر استقرارا وأقل ولعا بالنجاح والكسب.
28
6
كان أحد أسباب الفقر المستمر هو أداء الحكومات السيئ فيما يتعلق بتوفير الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية؛ ففي عام 1991 - العام الذي بدأت فيه الإصلاحات - كان 39٪ فحسب من نساء الهند و64٪ فحسب من رجالها يمكنهم القراءة والكتابة. في هذا الصدد كانت الهند متخلفة ليس عن الدول الغربية المتقدمة فحسب، وإنما عن بعض جيرانها الآسيويين أيضا؛ فكانت سريلانكا قد وفرت التعليم لنسبة 89٪ من نسائها و94٪ من رجالها، بينما كانت الأرقام المقابلة في الصين هي 75٪ للنساء و96٪ للرجال.
فمثل العجز في توفير الهند المستقلة التعليم لجميع مواطنيها أو حتى معظمهم - الذي قد يعتبره البعض امتناعا من جانبها - أكبر فشل لها.
29
إلا أن الحكومة بدأت في التسعينيات مجموعة من البرامج الرامية إلى تعميم التعليم. أولا: أنشأت الحكومة «برنامج التعليم الابتدائي الخاص بالمناطق»، الذي ركز على 250 منطقة يقل فيها مستوى إلمام الإناث بالقراءة والكتابة عن المتوسط الوطني. وبعد فترة قصيرة، حل محله «برنامج التعليم للجميع». وزادت مخصصات التعليم الابتدائي من الأموال العامة، كما تدفق التمويل من جهات أجنبية مانحة أيضا.
وحثت الحكومة على اتخاذ دور أكثر فاعلية بموجب أمر من المحكمة العليا لحكومات الولايات كافة بتوفير وجبات غداء مطهوة في وقت الظهر في المدارس. كان كثير من الأطفال الذين يدخلون المدرسة الابتدائية يتركونها قبل الوصول إلى المرحلة الثانوية بكثير، ونسبة كبيرة من هؤلاء التلاميذ المتسربين كانوا فتيات، أخرجتهن أسرهن من المدرسة للمساعدة في الأعمال المنزلية كالطهي والتنظيف وجمع الحطب. وفي تاميل نادو - أول ولاية أدخلت فيها وجبات الغداء المدرسية - ساعد إدخال نظام الوجبات بدرجة كبيرة على زيادة معدل الالتحاق بالمدارس، وكان المرجو أن يشجع التوسع في تقديم تلك الوجبات على مستوى البلد كله الآباء على إرسال أطفالهم إلى المدرسة وإبقائهم فيها.
30
دخل عدد من المنظمات غير الحكومة المبتكرة مجال التعليم أيضا في التسعينيات. إحدى تلك المنظمات - التي تركز نشاطها في المناطق الأكثر فقرا في أندرا براديش - تمكنت من إلحاق جميع الأطفال في 400 قرية بالمدارس، وأعدت دورة «تأهيلية» للأطفال الذين تأخروا في الالتحاق بالمدرسة (والذين كان معظمهم من الفتيات)؛ كانت تعطيهم فيها ستة أشهر من التدريب المكثف قبل إلحاقهم بالمنهج النظامي. واتبعت منظمة غير حكومية أخرى أساليب مشابهة فيما بين سكان العشوائيات بأكبر مدينة في الهند : مومباي. افتتحت تلك المنظمة 3 آلاف روضة أطفال لتعليم الأطفال بين عمر الثالثة والخامسة القراءة والكتابة. وفي المناطق العشوائية المزدحمة، حيث كانت المساحات المتاحة قليلة جدا، استخدمت جميع أنواع الأماكن كرياض أطفال؛ من ساحات المعابد وشرفات المدارس والحدائق العامة وحتى مكاتب الأحزاب السياسية. ومن مرحلة الروضة كان الأطفال يرسلون لاستكمال تعليمهم في المدارس البلدية النظامية. بحلول عام 1998، كان 55 ألف طفل قد مروا بهذه العملية، التي امتد نطاق تطبيقها آنذاك ليشمل مدنا وبلدات أخرى في شمال الهند وغربها.
31
كان ثمة تفاوتات كبيرة في التنفيذ والفاعلية داخل منظومة التعليم بالولايات. فقد عانت المدارس في بيهار وأوتر براديش سوء الإدارة ونقص المرافق أو انعدامها؛ فلم يكن فيها سبورات ولا مقاعد ولا دورات مياه للفتيات. وكان المعلمون غير مهتمين - وارتفعت نسبة التغيب عن المدرسة - والآباء غير مبالين. من الولايات الأفضل أداء كانت كيرالا وتاميل نادو في الجنوب وهيماجل براديش في الشمال. كان تطور التعليم في الأخيرة سريعا وكذلك غير متوقع، فقد سيطرت عليها طائفة الراجبوت، التي جرى العرف على إبقاء نسائها في المنزل، وإضافة إلى ذلك فهي ولاية جبلية، بها قرى صغيرة متناثرة على مسافات متباعدة؛ مما جعل إنشاء المدارس صعبا والوصول إليها أصعب. إلا أن إدارة الولاية - تحت قيادة رئيس وزرائها النشط الدكتور واي إس برمار - تغلبت على تلك العوائق الطبيعية والثقافية. فبعد اقتطاع ولاية هيماجل براديش من البنجاب في أواخر الستينيات، جعل برمار التعليم الابتدائي عنصرا محوريا في السياسة العامة. كان الإنفاق الحكومي على التعليم ضعف المتوسط الوطني، ونسبة المعلمين إلى الأطفال أعلى بكثير من سائر أنحاء الهند. وسرعان ما أدرك الآباء مزايا إرسال أبنائهم وكذلك بناتهم إلى المدرسة. وعملت الأسر المعنية ومسئولو الإدارة القديرون على كفالة الحفاظ على المدارس في حالة جيدة وتوفير الحوافز اللائقة للمعلمين. وكانت النتائج مبهرة؛ ففي عام 1961، كانت 11٪ فحسب من الفتيات متعلمات، وبحلول عام 1998 كانت النسبة قد قفزت إلى 98٪.
32
على الرغم أنه لم يكن ثمة ولاية أخرى أداؤها مقارب تعليميا لهيماجل براديش، فالبيانات تشير إلى أن قطاع التعليم لم يعد خاملا كما كان فيما مضى. بحلول نهايات التسعينيات، كانت نسبة المتعلمات قد ارتفعت من 39٪ إلى 54٪، بينما ارتفعت تلك النسبة لدى الذكور من 64٪ إلى 76٪. ووراء هذه التغيرات في العدد، كمن تغير جوهري في العقلية؛ ففي الماضي كان أولياء الأمور الفقراء يؤثرون تشغيل أطفالهم على إرسالهم إلى المدرسة، والآن أصبحوا يرغبون في وضع أبنائهم في موضع يمكنهم من خلاله - بشيء من الحظ وحس المغامرة - الفرار من حياة قائمة على الأعمال الوضيعة إلى وظيفة في الاقتصاد الحديث. كتب التربوي فيمالا راماتشاندران عام 2004: «لم يسبق لكفة الطلب أن تبدو واعدة إلى هذا الحد؛ فالأدلة الكاسحة الواردة من الدراسات التي أجريت خلال الأعوام العشرة الأخيرة تظهر بوضوح أن ثمة طلبا هائلا على التعليم، على جميع المستويات وفي مختلف الفئات الاجتماعية. فحيثما تكفل الحكومة توافر مدرسة حسنة الأداء، يرتفع معدل الالتحاق بالتعليم.»
33
في حين أن التطورات الحادثة في مجال التعليم كانت مبعث تفاؤل حذر، ظلت آفاق قطاع الصحة قاتمة. كانت المستشفيات التي تملكها وتديرها الحكومة المركزية وحكومات الولايات في حالة يرثى لها؛ كانت مزدحمة، يكثر فيها الفساد، وتفتقر إلى المرافق الأساسية والأطباء المؤهلين. وبدت الطبقة السياسية غير مبالية، بل إن الإنفاق العام على الصحة كان في انحدار؛ فقد شكل 1,3٪ من الناتج المحلي الإجمالي عام 1990، ولكن بحلول عام 1999 كانت النسبة قد انخفضت إلى 0,9٪. وفي الوقت نفسه، حدث توسع هائل في الرعاية الصحية الخاصة، التي أصبح ينسب إليها قرابة 80٪ من إجمالي الإنفاق على الصحة بحلول عام 2002. إلا أن ذلك النوع من الرعاية الصحية استهدف خدمة الطبقة المتوسطة المتنامية. في بعض المناطق كانت منظمات غير حكومية متفانية تخدم الفقراء، الذين كانوا في أغلب الأنحاء يهملون، فيلجئون إلى ممارسي الطب الشعبي أو الدجالين في القرى لمعالجتهم.
ربما كان يجدر بنا هنا عرض بعض الإحصاءات في هذا الشأن. كان متوسط العمر المتوقع عام 2001 أربعة وستين عاما فحسب، وفي كثير من الولايات، ظل معدل وفيات المواليد مرتفعا؛ ففي ميجالايا - على سبيل المثال - بلغ المعدل تسعا وثمانين حالة وفاة لكل ألف مولود. وكان 60٪ من حالات الجذام في العالم (نحو 500 ألف حالة) متركزا في الهند، كما أن خمسة عشر مليون هندي كانوا مصابين بالسل، وهو الرقم الذي كان يزيد مليونين كل عام. وأضيف إلى تلك الأمراض القديمة مرض جديد: الإيدز؛ فبحلول عام 2004، كان ثمة أكثر من 5 ملايين هندي مصاب بفيروس نقص المناعة البشرية.
34
ثمة اعتقاد راسخ في المخيلة الشعبية بأن أفريقيا هي الأكثر تعرضا لخطر الإصابة بمرض الإيدز. ولكن في أغسطس من عام 2005، في قصة غلاف مجلة «فاينانشال تايمز» المرموقة التي تصدر نهاية كل أسبوع، كتب صحفي بريطاني أن ذلك التصور خاطئ، وأنه «سيتحدد في الهند - موطن سدس الجنس البشري - مصير المعركة العالمية ضد الإيدز، سواء بالربح أو الخسارة». فقد كان ثمة عدة أوبئة محلية نشطة هناك بالفعل، وتمثل القلق في أن «تمتزج وتسهم في زيادة انحدار منحنى العدوى بصورة مفزعة». ولو حدث ذلك، لتبدد احتمال انضمام الهند إلى ركب القوى الاقتصادية العالمية. وإضافة إلى ذلك، ففيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز «ليس كابوسا اقتصاديا متناميا فحسب، وإنما قضية أمن قومي متنامية أيضا»؛ نظرا لأن احتمال إصابة العسكريين بالعدوى أكبر من احتمال إصابة المدنيين بها خمس مرات. وجاءت الفترة الختامية للمقال كالآتي:
إن الوضع المالي العام غير المستقر في الهند ومنظومتها الحكومية محدودة الموارد ليسا في حالة تسمح بالتعامل مع العبء الهائل المترتب على ابتلاء شبه القارة الهندية بجائحة إيدز مشابهة للجائحة التي ابتليت بها بعض مناطق أفريقيا. الهند تقف على مفترق طرق في معركتها ضد الإيدز، والمسار الذي ستسلكه الآن سيحسم مستقبل العالم، لا شك في ذلك.
35
قد يتراءى للمرء أن يغض الطرف عن هذا الحديث باعتباره أحدث المدخلات على قائمة طويلة من التنبؤات التشاؤمية للصحفيين الغربيين، إلا أنه في هذه المرة لن تكون المجاعة ولا أعمال الشغب ولا الاغتيالات السياسية هي التي ستجلب الهلاك على الهند، وإنما فيروس قاتل. وثمة أزمة صحة في البلاد بالفعل، وهي ليست مقصورة على الإيدز فحسب. قالت صحفية هندية في كلمات أكثر وقارا وإن لم تكن متناقضة مع سابقتها بالضرورة: «لقد كفت الهند عن التفكير في الصحة العامة ودفعت الثمن غاليا.»
36
7
لقد ارتقى التحرر الاقتصادي بحياة ملايين الهنود، لكنه لم يمس ملايين أكثر. وإضافة إلى ذلك فثمة هنود تأثروا سلبا بتحرير السوق وفتح الاقتصاد للعالم الخارجي.
ربما كانت قبائل أوريسا تحتل موقع الصدارة بين الفئات المتضررة من عملية التحرر الاقتصادي. أوريسا تنقسم إلى منطقة ساحلية، تسيطر عليها الطوائف الهندوسية العليا، وسلاسل جبلية في الداخل، تعيش فيها مجتمعات متنوعة من الأديفاسي. يمثل الهندوس أغلبية في الولاية ككل، ويتركز في أيديهم معظم السلطة السياسية والإدارية. وفي عام 1999، تغلبت أوريسا - إن جاز التعبير - على بيهار لتصبح الولاية الأكثر فقرا في الهند. والقبائل التي تقطن المرتفعات هي الأكثر فقرا وعرضة للاستضعاف بين سكان أوريسا؛ فسواء من حيث الأرض أو الدخل أو المرافق الصحية أو نسبة المتعلمين، كانوا متأخرين عن بقية الولاية كلها. القبائل تعتمد بدرجة كبيرة على الأمطار الموسمية وعلى الغابات لبقائها، ومع زوال الغابات، وشح الأمطار أحيانا، ازداد انغماسهم في مستنقع الفقر، كما كان يتبين بصفة دورية في حالات الموت جوعا.
37
تكمن ثروة تلك المرتفعات في باطن الأرض بالأساس؛ فأوريسا تمتلك 70٪ من احتياطيات البوكسيت في البلاد، كما تتمتع بمخزون وفير من رواسب خام الحديد. يتركز هذان المعدنان في منطقتي راياجادا وكورابوت القبليتين. في الماضي، كانت شركات هندية من القطاع العام هي التي تتولى استخراج هذين المعدنين الخامين، ولكن في العقد الأخير حلت الشركات الخاصة محلها، سواء المحلية أو الأجنبية. ووقعت حكومة الولاية سلسلة من العقود، قدمت بموجبها الأرض بأسعار جذابة للشركات التي ترغب في التنقيب عن المعادن في تلك الجبال.
38
طرح ائتلاف أتكال ألومينا - الائتلاف الذي ضم شركة كندية وأخرى نرويجية إلى مجموعة أديتيا بيرلا - أحد المشروعات الأكثر طموحا عام 1992. وجه هذا الائتلاف أنظاره إلى جبال بابليماني في قسم كاشيبور بمنطقة راياجادا، الذي حوت أرضه في باطنها 200 مليون طن من رواسب البوكسيت. تمثل المقترح في التنقيب عن خام هذا المعدن ونقله إلى معمل تنقية حديث الإنشاء، لكي يعالج المادة الخام ويصدر المنتج المنقى إلى الخارج.
كانت بعض الأراضي التي ستستخدم في تلك العمليات مملوكة للحكومة، ولكن القبائل كانت تزرع نحو 3 آلاف فدان منها، فلم تر في ذلك المشروع نفعا، الذي كان سينتزع منهم أراضيهم دون إعطائهم شيئا في المقابل. وفي عام 1993، التقى وفد من النشطاء القبليين برئيس وزراء الولاية وطالبوه بإلغاء التعاقد، فرفض طلبهم. وفي المقابل، أرسلت الحكومة فريقا لاستطلاع حالة الأراضي تمهيدا لمصادرتها. وعلى مدار الأعوام القليلة التالية جرب أهل القبائل استراتيجيات متنوعة لوقف إطلاق المشروع؛ فحظر على موظفي أتكال ألومينا دخول القرى، وسدت الطرق، ونظمت مسيرات للتوعية بالأضرار البيئية التي من شأنها أن تنشأ عن التعدين. وعندما أنشأت الشركة نموذجا لنوع المساكن التي تنوي نقل أهل القبائل إليها، ما كان من المستفيدين المستقبليين إلا أن هدموا النموذج.
39
إلا أن الإدارة كانت عازمة على المضي قدما في المشروع؛ إذ اعتبرته مصدر دخل كبير لخزانة الدولة ، وهو العائد الذي نوي أن يئول بعضه للأحزاب ولجيوب الساسة أيضا؛ ففي مارس 1999، ذهبت مجموعة من مختصي العلوم الاجتماعية من دلهي في زيارة إلى راياجادا وكتبوا تقريرا حذروا فيه حكومة أوريسا من أنه «إذا لم تعالج مشاعر السخط الشعبي فيما بين القبائل المحلية بشأن مصادرة الأراضي معالجة سليمة فربما تتحول هذه المنطقة المسالمة إلى مرتع لنشاط الناكسل [الماويين]».
40
وبعد مرور عام ونصف العام، جاء صحفي الشئون البيئية داريل ديمونتي من مومباي لدراسة الوضع. وجد القبائل قاطعة في معارضتها، وأخبروه أن المناجم سوف «تدمر النظام البيئي في هضبة بابليماني». وقال أحد زعماء الأديفاسي إنهم سيمنعون جميع أنواع المركبات من دخول المنطقة. وقال في إصرار: «نحن مستعدون للعواقب كافة.» وأردف: «عند نشوب حريق، يجب على الجميع التهيؤ لأن تحرقهم النار.» وأشار ديمونتي إلى أن الحكومة عازمة بالقدر ذاته على الدفع بالمشروع حتى اكتماله، وقال: «على مدار الأعوام الخمسة الماضية، كانت إدارة المنطقة - بالتعاون مع الشرطة ورجال السياسة - تكاد تقوم مقام طليعة الجيش بالنسبة إلى الشركات.»
41
نشب الحريق بعد شهرين، وكان أهل القبائل هم من احترقوا بناره؛ ففي يوم 15 ديسمبر، نظم حزب بيجو جاناتا دال الحاكم مؤتمرا في المنطقة، لكسب تأييد أهلها للمشروع؛ فرفض القرويون الغاضبون السماح للحكومة بعقد المؤتمر، فجاءت ثلاث فصائل من الشرطة لتفريق المتظاهرين، ولكن مجموعة من النساء تصدت لها، فعندما هجمت الشرطة بالعصي، جاء الرجال لمساعدة النساء، وفي مرحلة ما فتحت الشرطة النار، لتقتل ثلاثة من أبناء القبائل.
42
لم ترتدع حكومة الولاية بإطلاق النار الذي حدث في كاشيبور؛ فإذ شجعها تنامي الطلب الدولي، وقعت سلسلة من الاتفاقيات مع شركات هندية وشركات أجنبية، بهدف استخراج 3 مليارات طن من الحديد و1,5 مليار طن من البوكسيت على مدار الأعوام الخمسة والعشرين التالية، ولم تفكر الحكومة في العواقب البيئية والاجتماعية المحتملة؛
43
فلما بدأت ملامح تلك المشروعات تتضح، قوبلت هي أيضا بمقاومة شعبية؛ فبغية السماح لشركة تاتا للصلب ببناء مصنع لمعالجة خام الحديد من أجل السوق الصينية، حصلت الحكومة على أرض في كالينجا نجر بسعر أقل بكثير من سعر السوق، وتجاهلت احتجاجات أهل القرية، وسلمت الأرض للشركة، لتبدأ عملية البناء. وفي الأسبوع الأول من عام 2006، هدمت مجموعة من القبليين السور المحيط بالأرض؛ مما استثار الشرطة لفتح النار، وقتل اثنا عشر شخصا في تلك الواقعة؛ فوضع أهل القبائل جثامين هؤلاء الشهداء على الطريق السريع وعطلوا حركة المرور أسبوعا. وكان من بين أول من أعربوا عن تضامنهم معهم الثوريون الماويون.
44
8
قد يتراءى لنا أن ننظر إلى بنجالور باعتبارها الوجه «الحميد» للتحرر الاقتصادي؛ ففيها ولد فتح الأسواق الأجنبية فرص عمل كثيرة وثروات هائلة، تشاركها سكان الولاية على نطاق واسع. وقد يتراءى لنا أيضا أن ننظر إلى أوريسا القبلية على أنها الوجه «الوحشي» للتحرر الاقتصادي؛ فالثروة الناجمة عن استخراج المعادن سوف تذهب إلى أصحاب المناجم والطبقة السياسية المتواطئة معهم، وسيكون الخاسرون هم القرويين الذين تجري عروق البوكسيت تحت أرضهم، فهم من سيشردون وتؤخذ منهم أرضهم، ويتركون للتعامل مع تدهور النظام البيئي الذي سيكون هو النتيجة الحتمية للتعدين السطحي.
لا جدال في أنه حتى قبل عام 1991 اتسمت الهند بتفاوتات حادة. كانت بعض المناطق وبعض الفئات الاجتماعية أفقر من غيرها بصورة ملحوظة، إلا أن الإصلاحات الموجهة نحو السوق نزعت إلى إبراز تلك التفاوتات. كان معدل نمو الولايات الأكثر فقرا هو الأبطأ خلال ذلك العقد، بينما نمت الولايات التي كانت أفضل حالا بالفعل بمعدل أسرع. فخلال التسعينيات، سجلت بيهار معدل نمو سنويا قدره 2,69٪، بينما كانت النسبة المقابلة في أوتر براديش هي 3,58٪ و3,25٪ في أوريسا. وفي المقابل، بلغ معدل النمو في جوجارات 9,57٪، و8,01٪ في مهاراشترا، و6,22٪ في تاميل نادو. بصفة عامة، كانت الولايات حسنة الأداء في جنوب البلاد وغربها، بينما كانت الولايات متوسطة الأداء في الشمال والشرق، واحتلت ولايتا بيهار وأوتر براديش ذواتا الكثافة السكانية بالغة الارتفاع قاعدة الهرم؛ ففي عام 1993، كانت هاتان الولايتان تحتكمان على 41,7٪ من فقراء الهند، وعلى 42,5٪ منهم عام 2000.
45
بدا أن الأداء الاقتصادي يعتمد اعتمادا حاسما على الملكات الأصلية من رأس مال بشري وبنية تحتية مادية. فالولايات التي كانت تتمتع بمدارس ومستشفيات أفضل، ومن ثم قوة عاملة أكثر مهارة وصحة، كانت عادة هي الولايات التي تتمتع أيضا بطرق أفضل وطاقة كهربائية أكثر كفاءة وإدارات أقل فسادا.
46
وبطبيعة الحال، كانت تلك الأماكن هي التي تجتذب الاستثمار والمستثمرين؛ ففي عهد ما قبل الإصلاح، كانت الحكومة المركزية كثيرا ما تختار إقامة الصناعات في المناطق التي تعتبر «متخلفة». إلا أن رواد الأعمال الخاصة لم يتقيدوا بالتزام من هذا القبيل، فقد كانوا يوجهون أنظارهم إلى المناطق التي يمكن أن يحققوا فيها أعلى عائد على رءوس أموالهم. وتمثلت تلك المناطق في الولايات الجنوبية والغربية، التي تلقت دفعة إضافية إلى الأمام نتيجة لذلك.
على الرغم من ذلك، فحتى أكثر الولايات ازدهارا لم ينعم فيها سكان الولاية كافة بالازدهار. تزعمت عاصمتا ولايتي كارناتاكا وأندرا براديش - بنجالور في الأولى وحيدر أباد في الثانية - طفرة البرمجيات، إلا أن ظهيرهما الخلفي نفسه تخلف عنهما كثيرا؛ ففيما بين عامي 1994 و2000، نما متوسط الإنفاق الاستهلاكي للفرد في ريف كارناتاكا بمعدل 9,5٪ سنويا، بينما نما في حضر كارناتاكا بمعدل 26,5٪، وكانت النسبة المقابلة في أندرا براديش هي 2,8٪ (في الريف) و18,5٪ (في الحضر). وبالنظر إلى الهند قاطبة، نجد أن الإنفاق نما بمعدل 8,7٪ في الريف، ولكن ذلك المعدل بلغ 16,6٪ في المدن.
47
وكما علق الاقتصادي تي إن سرينيفاسان، فإن تلك التفاوتات الشاسعة معناها أنه «إذا كان المرء فقيرا في الهند»، فإذن:
سيصير من الأرجح أن يعيش في المناطق الريفية، وأن يكون عضوا في الطوائف الاجتماعية أو القبائل المجدولة أو غيرها من الفئات المضطهدة اجتماعيا، وأن يعاني سوء التغذية والمرض وضعف الصحة، وأن يكون أميا أو تعليمه ضعيف المستوى ومهاراته متدنية، ويصير من الأرجح أن يعيش في ولايات معينة (مثل ... بيهار وماديا براديش وراجستان وأوتر براديش وكذلك أوريسا) دون غيرها.
48
تتمثل إحدى التبعات المترتبة على هذه التفاوتات في تزايد الهجرة من المناطق الأفقر إلى المناطق الأغنى؛ ففيما مضى كان الهنود يعيشون ويعملون ويموتون في محيط مكان مولدهم، ولكن الآن تزايد معدل ترحالهم لمسافات بعيدة لكسب عيشهم؛ فالعمال يأتون من أوريسا للعمل في مزارع القهوة في منطقة كورج بكارناتاكا، التي تبعد عنهم ألف ميل، وكثير من حقول القمح في البنجاب وهاريانا يحصدها عمال يأتون بالسفن من بيهار وجهارخاند. إلا أن معدل الهجرة إلى المدن مرتفع أيضا؛ فكثير من السباكين في دلهي - على سبيل المثال - يأتون من أوريسا، وكثير من سائقي سيارات الأجرة في مومباي يأتون من أوتر براديش. وليس النزوح مقصورا على الحرفيين أو العمالة غير الماهرة فحسب؛ فقد تزايد سعي الأطباء والمهندسين المدربين في بيهار وراء فرص عمل في أماكن أخرى.
49
تتميز عملية النمو الاقتصادي في الهند المعاصرة بتفاوتات كبيرة على مستوى الأقاليم والطبقات. وقد أعرب الاقتصادي أمارتيا سن عن قلقه من أنه مع تزايد حدة تلك التفاوتات، سيصبح نصف الهند على شاكلة كاليفورنيا ونصفها الآخر على شاكلة دول أفريقيا التي تقع جنوب الصحراء الكبرى؛
50
فالازدهار قائم جنبا إلى جنب مع البؤس بالفعل، وكذلك تطور التكنولوجيا قائم جنبا إلى جنب مع تدهور البشر. وقد قدمت محادثة جرت بين رئيس الوزراء الهندي وقرويين في أوريسا في سبتمبر 2001 تصويرا كاشفا لتناقضات الحياة في الهند. فمن بيته في نيودلهي، تحدث أتل بهاري فجبايي عبر الأقمار الصناعية إلى أبناء القبائل في كاشيبور، الذين مات ذووهم من جراء أكل بذور المانجو لأن محاصيلهم تلفت؛ فقال رئيس حكومة استطاعت التحدث إلى مواطنيها عبر الهاتف المرئي، لكنها عجزت عن إمدادهم بغذاء صحي: «إنه لأمر مؤسف للغاية أن يموت أشخاص في عالم اليوم من جراء تناول طعام مسمم.»
51
9
حظيت استراتيجية التنمية الاقتصادية المتبعة في الخمسينيات بتوافق قوي في الآراء. فقد كان ثمة منتقدون لها، لكنهم كانوا شخصيات هامشية، تفتقر إلى التأثير والقاعدة الاجتماعية، ولكن على النقيض منها، تعرضت استراتيجية التنمية الاقتصادية المتبعة منذ التسعينيات إلى انتقادات عنيفة من داخل النظام السياسي وخارجه.
يدور النقاش الاقتصادي في الهند المعاصرة بين مدرستين، يسميهما الكاتب الصحفي تي إن نينان الإصلاحيين والشعبويين.
52
الإصلاحيون يطالبون بتحرير قوى السوق، وإلغاء الدعم، وإبطال قوانين العمل المكبلة، وقابلية التحويل الكاملة للروبية، وانسحاب الدولة من الاقتصاد بصفة عامة، وحتى قد يرغب بعضهم في خصخصة الرعاية الصحية والتعليم. وفي المقابل، يطالب الشعبويون بفرض قيود على الاستثمارات الأجنبية، واحتفاظ الدولة بالصناعات الأساسية، وحماية مصالح العمال ورواد الأعمال الصغار. وإضافة إلى ذلك يطالبون الدولة بالإصلاح الزراعي وتمويل برامج للقضاء على الفقر في الريف، وتوفير الطعام والسكن والطاقة المدعمة لفقراء الريف والحضر على حد سواء.
تتميز النقاشات بين الفئتين بعنفها البالغ، وبأنها تدور في ساحات متباينة؛ في الصحافة والبرلمان والتليفزيون وفي الشوارع. والغريب في الأمر أن الأحزاب السياسية عادة ما تناصر الإصلاحات الاقتصادية عندما تكون ممسكة بزمام الحكم، وتعارضها عندما تتركه؛ ففيما بين عامي 1998 و2004، كان حزب بهاراتيا جاناتا يشجع فتح الاقتصاد وسحب الاستثمارات من صناعات القطاع العام، ولقيت تلك السياسات معارضة من حزب المؤتمر، الذي كان بالطبع هو أول من أدخل الإصلاحات الموجهة للسوق عام 1991. وفي تناس لتاريخه الحديث (أو نكوص عليه)، قاد حزب المؤتمر إضرابا على مستوى البلد كله في مارس 2000، احتجاجا على التحرر الاقتصادي بصفة عامة وعلى رفع الدعم بصفة خاصة.
53
خاض حزب بهاراتيا جاناتا انتخابات عام 2004 متعهدا بجلب الازدهار للجميع عبر النمو القائم على السوق. ووفقا لشعار حملته الانتخابية - «الهند المشرقة» - كان حزب المؤتمر معارضا لمطالب رجل الشارع العادي، إلا أن التحالف الذي قاده حزب المؤتمر اختار بعد فوزه في الانتخابات المهندس الأصلي للإصلاحات - الدكتور مانموهان سينج - رئيسا للوزراء، وبدوره عين عضوين معروفين في مدرسة الإصلاح؛ في منصبي وزير المالية ونائب رئيس لجنة التخطيط. وآنذاك جاء دور حزب بهاراتيا جاناتا لكي يشرع في الشجب والاعتراض؛ فقد أعاد شعاره القومي القديم «الاكتفاء الذاتي» إلى الحياة، زاعما أن سياسات الحكومة الجديدة تقوض سيادة الهند واستقلالها.
أما الأكثر مدعاة للعجب فكان سلوك الحزب الشيوعي الهندي الماركسي أثناء وجوده في السلطة وعند ابتعاده عنه؛ ففي دلهي، يتصدر مثقفو الحزب الشيوعي الماركسي - الذين يتصل كثير منهم بجامعة جواهر لال نهرو المرموقة - صفوف الشعبويين؛ فيعارضون أي تحرك لتخفيض الدعم، أو بيع المؤسسات الحكومية التي تعوزها الكفاءة، أو الترحيب بالاستثمار الأجنبي، وكانت الاتحادات العمالية تنظم إضرابات وإغلاقا جبريا لكافة الأعمال والمدارس متى خصخصت إحدى المنشآت العامة. إلا أنه في غرب البنغال، سعى رئيس وزراء الولاية المنتمي للحزب الشيوعي الماركسي، بوداديب بهاتاتشاريا، بقوة لتشجيع الاستثمار من الرأسماليين الأجانب والمحليين، ووبخ الاتحادات العمالية لتطرفها الزائد، وحظر الإضرابات في قطاع البرمجيات. وفي إحدى المرات بلغ به الأمر حد قوله إن إدارته تسترشد بشعار: «الإصلاح أو الفناء!»
في عهد حكومات الأقلية والسياسة الائتلافية، لا بد من تقديم تنازلات، والسعي وراء الوصول إلى أرضية مشتركة بين الإصلاحيين والشعبويين. وقد تم التوصل إلى أحد تلك التفاهمات عام 2005 بخصوص تنفيذ «الخطة الوطنية لضمان العمل»، التي ألزمت بمقتضاها كل ولاية نفسها بتوفير فرص عمل مجزية لمن يحتاجونها، بتشغيلهم في مشروعات الحفاظ على التربة والمياه، وبناء الطرق، وما شابه ذلك. حظيت تلك الخطة بدعم الاقتصاديين اليساريين، الذين رأوا فيها نفعا عظيما لفقراء الريف، ورأوا كذلك أنها ستنشئ البنية التحتية التي كانت المناطق الريفية في أمس الحاجة إليها، ولكنها لاقت معارضة من الاقتصاديين الموجهين نحو السوق، الذين شعروا أنها ستكون استنزافا لا داعي له لأموال الخزانة، ومن شأنها أيضا أن تشجع الفساد. وكما هو متوقع، اعتبرت الخطة التي أقرها البرلمان في نهاية المطاف راديكالية أكثر من اللازم من وجهة نظر الإصلاحيين وغير راديكالية بالقدر الكافي من وجهة نظر الشعبويين.
54
كان تفكيك «حكم الترخيص والإذن والحصة» قد سد العديد من طرق الفساد، إلا أن عملية الخصخصة فتحت طرقا جديدة. فعندما يباع أحد مصانع القطاع العام، يجوز إيثار أحد مقدمي العطاءات نظير مقابل مادي، والأهم من ذلك أن الولاية تحتفظ بسلطة حيازة الأراضي والتصرف فيها، وهي سلطة تستغل في الحاضر - كما في الماضي - في توزيع الأراضي على الشركات الخاصة بأسعار أقل من سعر السوق بكثير.
55
ربما كانت قضية الفساد الأكثر شهرة في الهند في عهد ما بعد الإصلاح هي المتعلقة بمحطة توليد الطاقة التي كانت شركة إنرون الأمريكية تود إنشاءها في مهاراشترا؛ ففي يونيو 1992، وقعت حكومة الولاية، التي كانت تحت سيطرة حزب المؤتمر آنذاك، صفقة مع شركة إنرون تضمن لها عوائد استثمار مفرطة الارتفاع سنويا، وتبلغ 16٪. سربت تفاصيل الصفقة لوسائل الإعلام، وشنت حملة شعبية لوقف المشروع، وانضم حزب شيف سنا - الذي كان في صف المعارضة آنذاك - إلى ركب المحتجين؛ فأرجئ المشروع مؤقتا، ولكن عندما نجح حزب شيف سنا في انتخابات الولاية عام 1995، تراجع عن موقفه واستأنف المفاوضات مع شركة إنرون؛ فهبت احتجاجات جديدة، سعى حزب المؤتمر إلى تأييدها في هذه المرة.
لم ير مشروع إنرون النور قط، وهو ما يعزى في جزء منه إلى شدة الاحتجاجات، وفي جزء آخر إلى المتاعب التي كانت الشركة تواجهها في الولايات المتحدة الأمريكية (حيث اضطرت في النهاية إلى إعلان إفلاسها). إلا أنه في أوج الجدل، كشف رئيس شركة إنرون في الهند أن الشركة أنفقت 20 مليون دولار أمريكي بغرض «الدعاية» للمشروع، وهو اللفظ الذي شاع اعتباره تعبيرا مهذبا للرشوة (في رؤية صائبة بصفة شبه أكيدة). وإن كانت المفاوضات وحدها اشتملت على تناقل تلك الأموال كلها، فلنا أن نتخيل كم المكاسب التي كان يمكن تحققها عند دخول المشروع حيز التنفيذ.
56
10
شجع تنامي حجم الاقتصاد الهندي على حدوث تحولات ملحوظة في السياسة الخارجية، منها تنامي الصداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. فكما رأينا في هذا الكتاب، لم تكن العلاقة بين البلدين ودية على الدوام، ولا حتى في المعتاد؛ فأثناء الحرب الباردة أبدى الأمريكيون ميلا واضحا إزاء جارة الهند المعادية: باكستان، بينما مالت الهند إلى حد ما نحو القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية: الاتحاد السوفييتي.
بعد عام 1991 لم يكن الاستفزاز من جانب الاتحاد السوفييتي قائما، ولكن باكستان ظلت، ولم تتحول الولايات المتحدة إزاء موقف متعادل بين الهند وباكستان إلا قرابة نهاية عقد التسعينيات، بل إنها أبدت تفضيلا للهند في مطلع القرن الحادي والعشرين، وكان السبب في ذلك اقتصاديا بالأساس، نابعا من الشعور بأنها سوق كبيرة للبضائع الأمريكية. (ففي عام 1990، كان حجم التبادل التجاري بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية قدره 5,3 مليارات دولار أمريكي، وبحلول نهاية العقد كان ذلك الرقم قد وصل إلى ثلاثة أمثاله تقريبا.) جاء الرئيس كلينتون إلى الهند عام 2000، ثم جاء الرئيس بوش بعده بستة أعوام. ما كانت هاتان الزيارتان سوى تأكيد لما كان قد أصبح تغيرا جوهريا في المواقف؛ فحسب تعليق ستيفن كوهين، مالت واشنطن على مدار عقود طويلة من الزمان إلى معاملة الهند على أنها «بيدق غير ذي شأن» في الحرب الباردة، لكنها بحلول نهاية القرن العشرين كانت قد أصبحت «حليفا طبيعيا».
57
في خطاب أدلى به جورج دبليو بوش أمام الجمعية الآسيوية في واشنطن عشية زيارته للهند، وصف الهند بأنها «زعيمة عالمية» و«شريكة استراتيجية» و«صديقة عزيزة» للولايات المتحدة؛
58
فمثل تنصيب الهند حليفا طبيعيا على هذا النحو انتصارا حاسما للكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض على البنتاجون. فكما أشار عضو مجلس الشيوخ السابق لاري برسلر، الجنرالات في واشنطن لم يتحمسوا لباكستان لأنهم يستطيعون بيع السلاح لها فحسب:
وإنما كذلك لأن البنتاجون كثيرا ما يفضل التعامل مع النظم الدكتاتورية على الديمقراطية. فعندما يذهب مسئول من البنتاجون إلى باكستان، يمكنه أن يلتقي جنرالا واحدا ويتفقا على كل شيء. في المقابل، فإنه إذا ذهب إلى الهند، فيكون عليه التحدث إلى رئيس الوزراء والبرلمان والمحاكم والصحافة الحرة، لا قدر الله.
59
من جانبها، استغرقت الحكومة الهندية بعض الوقت لكي تدرك أهمية انتهاء الحرب الباردة. فقد مثلت الاختبارات النووية التي قامت بها الهند لعام 1998 إلى حد ما استمرارا لسياستها الخارجية «المستقلة»، إلا أنه بعدما تغلبت الولايات المتحدة الأمريكية على امتعاضها المبدئي وتقبلت قدرات الهند النووية، عملت نيودلهي جاهدة على تحسين العلاقات؛ ففي ظل عالم أحادي القطب كان من المنطق أن يتحالف المرء مع الدولة الأكثر قوة. وبدأ زعماء الهند يتحدثون عن «القيم المشتركة» التي تؤلف بين هاتين «الديمقراطيتين العظيمتين». إلا أن المصالح الذاتية الاقتصادية مثلت عاملا محركا أيضا؛ إذ كانت الولايات المتحدة هي المنفذ الأكبر لصناعة البرمجيات، بفرق كبير عمن سواها. وفي عام 2001 توثقت العلاقات للغاية حتى إن وزير خارجية حكومة بهاراتيا جاناتا عرض إرسال قوات لمساعدة الأمريكيين في أفغانستان. صحيح أن رئيس الوزراء رفض الاقتراح، ولكن طرحه من الأساس كان علامة على مدى التقارب الذي أصبحت عليه المؤسسات السياسية للدولتين.
60
كما كان الحال مع السياسة الاقتصادية، في هذا الشأن أيضا تباين سلوك الحزبين الرئيسيين أثناء وجودهما في السلطة عن وقت ابتعادهما عنها. فعندما كان حزب المؤتمر في صف المعارضة، كان يحتكم إلى سياسة «عدم الانحياز» التي انتهجها نهرو متى اقترحت حكومة حزب بهاراتيا جاناتا التقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أنه منذ وصوله إلى السلطة عام 2004، عمل على تشجيع الروابط التجارية بكل قوة، وانحاز إلى صف الولايات المتحدة الأمريكية في مسألة الانتشار النووي، والتمس معونتها في نقل التكنولوجيا النووية إليها.
أتى التقارب الأخير بين الهند والولايات المتحدة متنافيا مع التوجهات التاريخية، وكذلك - وبدرجة أكبر - الوفاق المتنامي بين الهند والصين. فهنا أيضا يمثل الاقتصاد القوة المحركة وراء التغيير الذي حدث؛ ففي عام 2002، كان حجم التبادل التجاري بين الهند والصين قد بلغ 5 مليارات دولار أمريكي (بعد أن كان الرقم قريبا من الصفر في العقد السابق)؛ فتزايد ظهور السلع الإلكترونية الصينية في المتاجر في الهند، وتزايد ظهور العقاقير ومستحضرات التجميل الهندية في متاجر الصين، وإضافة إلى ذلك، حذت بكين حذو واشنطن في نأيها بنفسها عن التقارب المفرط مع باكستان. فأثناء نزاع كارجيل عام 1999، على سبيل المثال، ظلت الصين على الحياد، على عكس موقفها عندما انحازت لصف إسلام أباد صراحة في حربي 1965 و1971 مع الهند.
61
في عام 2003، أمضى رئيس الوزراء أتل بهاري فجبايي أسبوعا في الصين، ووقع في بكين اتفاقية تؤكد اعتراف الهند بالتبت (التي تم غزوها عام 1950) جزءا لا يتجزأ من الصين، وردت الصين المجاملة بقبول سيكيم (التي ضمتها عام 1974) جزءا من الهند. وفي شنجهاي، ركز السيد فجبايي اهتمامه على الاقتصاد، حيث دعا إلى إقامة تحالف بين شركات البرمجيات الهندية وشركات تصنيع أجهزة الكمبيوتر الصينية، فبدا أن البلدين اللذين كانا عدوين فيما مضى «سلكا طريقا جديدا» الآن وبدآ الاتجاه نحو «شراكة أكثر تعاونية».
62
بعد مرور عامين، جاء رئيس الوزراء الصيني - ون جياباو - إلى الهند. ومن الجدير بالذكر أنه اختار زيارة مدينة بنجالور قبل العاصمة الوطنية: نيودلهي. كان وفده المكون من 100 عضو يتألف من رجال الأعمال بالأساس، وعقدت معظم اجتماعاتهم مع غرف التجارة الهندية. وردد جياباو، في خطاب ألقاه في بنجالور، دعوة فجبايي إلى إقامة تحالف بين شركات البرمجيات الهندية وشركة أجهزة الكمبيوتر الصينية، لضمان أن يكون القرن الحادي والعشرون «قرنا آسيويا»، على حد قوله. وقال سفير الصين إلى الهند في حوار أدلى به لإحدى القنوات التليفزيونية إنه بالنسبة إلى الصين «التعاون التجاري أهم من الخلافات الحدودية».
63
11
في عام 2004، تحول الاقتصاد الهندي إلى موضوع نقاش في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كان ذلك حدثا غير مسبوق، والأكثر إثارة للدهشة هو أن موضوع المناقشة لم يكن فقر الهنود بل ثراءهم؛ فخلال عدة خطب انتخابية، عمل المرشح الديمقراطي جون كيري على تأجيج المخاوف من أن يزداد إرسال الوظائف الأمريكية شرقا عبر البحار إن أعيد انتخاب الرئيس بوش. ووعد كيري بأنه في حالة انتخابه، سيعيد فرض نظام حمائي لإنقاذ الوظائف الأمريكية من «براثن بنجالور». وكانت تلك أيضا سابقة؛ حيث كانت تلك أول مرة يخص بها مرشح رئاسي مدينة هندية بالذكر باعتبارها خطرا يهدد المصالح الأمريكية.
كان ثمة ساسة أمريكيون آخرون انخرطوا في تلك الممارسة قبل كيري؛ ففي عام 2002، ترشح مبرمج كمبيوتر من فلوريدا للكونجرس ببرنامج مكون من نقطة واحدة: إنهاء «التعهيد». وفي العام نفسه، طرحت عضوة في مجلس شيوخ نيوجيرسي مشروع قانون لحظر تعهيد عقود الولاية إلى شركات أجنبية، شاكية - مثل نظيرها في فلوريدا - شركات الكمبيوتر الهندية بالأساس ومتخصصيها. لقد أبدى هؤلاء السياسيون تعاطفا إزاء «المبرمج الحانق»، وإزاء الأمريكيين الذين فقدوا وظائفهم للهنود وأرادوا استعادتها.
64
في ديسمبر 2003، نشرت مجلة «بيزنس ويك» المهمة قصة غلاف بعنوان «صعود الهند»، ذكرت فيها أن بنجالور أصبح فيها الآن مهندسو تكنولوجيا المعلومات أكثر مما في وادي السيليكون بأكمله. وأضافت أنهم كانوا يعملون لحساب عملاء أمريكيين بالأساس؛ من شركات عملاقة مثل جنرال إليكتريك رغبت في حل مشكلات هندسية معقدة، وكذلك مزارعين في كانساس لا يرغبون إلا في إعداد إقرارهم الضريبي. علقت المجلة على أن «هذه الانطلاقة التكنولوجية رائعة للهند، ولكنها مخيفة للأمريكيين». فالعمال المحليون الذين يستغنى عنهم بإحلال أجانب محلهم سيتعرضون إلى «تغير عاصف»؛ فقلة منهم هي التي ستتمكن يوما من الحصول على وظيفة براتب جيد كالوظيفة التي فقدوها لتوهم. وأضافت: «لا عجب في أن الهند كانت مركزا لعاصفة تختمر في الولايات المتحدة الأمريكية.» كانت المجالس التشريعية للولايات تحت ضغط المطالبة بحظر التعهيد، وبعضها رضخ، مثل: إنديانا، التي فسخت العقود المبرمة مع شركات هندية.
65
يجدر الإضافة هنا أن هذه المخاوف يعرب عنها في جميع أنحاء العالم الغربي؛ فهي لا تقتصر على الولايات المتحدة بأي حال. فعندما عهدت هيئة السكك الحديدية البريطانية باستعلامات القطارات إلى الهند، هبت احتجاجات في المملكة المتحدة، وإن كان البعض رأوا في التعهيد عدالة شعرية، في صورة انتقام ضحايا الإمبراطورية البريطانية. وفي صيف عام 2006، أعرب سياسيون فرنسيون وبلجيكيون عن قلقهم إزاء احتمال بيع كبرى شركات الحديد والصلب لديهم - آرسيلور - إلى شركة ميتال ستيل، هندية الملكية والإدارة. وعلى الرغم من أن عملية البيع تمت في نهاية الأمر، فقد احتكم إلى كل من التحامل الشعبي وسلطة الدولة في محاولة لعرقلتها، فقيل إن المشترين الجدد لن يقدموا التقدير الكافي «لثقافة» الشركة وعمالها.
يكتب بعض المعلقين على نهضة الهند الاقتصادية بنبرة مذعورة، وآخرون بنبرة إعجاب؛ ففي أبريل 2004، أعلمت مجلة «نيوزويك» قراءها بأن الهند لم تعد بلدا فقيرا جاهلا من بلدان العالم الثالث، وإنما أضحت «بيئة مواتية للنشاط التجاري»، بل «شريكا جديرا بالاستثمار» للأمريكيين والشركات الأمريكية.
66
وبعد مرور عامين، بمناسبة زيارة الرئيس جورج دبليو بوش للهند، نشرت المجلة نفسها احتفاء مبهور الأنفاس بما سمته «محطة الطاقة الأخرى في آسيا»، وزعمت المجلة أنه «في الهند، الفرد هو الملك». فعلى الرغم من نمو قطاع البطاقات الائتمانية بمعدل 35٪ في السنة، وبلوغ معدل الاستهلاك الشخصي نسبة 67٪ من الناتج المحلي الإجمالي:
فلا تعبر الإحصاءات تماما عما يحدث؛ فالهنود - في الحضر على الأقل - متفجرون بالحماس، ورجال الأعمال الهنود منتشون بالآفاق المحتملة أمامهم، والمصممون والفنانون الهنود يتحدثون عن مد نطاق نفوذهم عبر الكرة الأرضية ... فالأمر يبدو كأنما مئات الملايين من الناس قد اكتشفوا فجأة مفاتيح تحرير طاقاتهم.
67
وفي كتاب نشر عام 2005 لتوماس فريدمان - الكاتب الصحفي بصحيفة «نيويورك تايمز» - ولفت انتباه الكثيرين، كتب فريدمان أنه قبل عشرين عاما كانت الهند «معروفة بأنها بلد حواة الأفاعي والفقراء والأم تيريزا. أما الآن فقد أعيد تركيب تلك الصورة، فأصبح ينظر إليها أيضا على أنها بلد الأذكياء وخبراء الكمبيوتر».
68
وفي كتاب آخر صدر في العام نفسه وأثار ضجة كبيرة، أثنى الاقتصادي جيفري ساكس من جامعة كولومبيا على «فرار الهند التاريخي من براثن الفقر». وقال أيضا إن «عودة الصين والهند إلى موقع الصدارة في الاقتصاد العالمي» من شأنها أن «تعيد تشكيل السياسة والمجتمع العالميين» خلال القرن الحادي والعشرين.
69
كان الجمع بين البلدين متزايد الشيوع، مشيرا ضمنيا إلى أن الصين بصفة عامة كانت هي «النمر الذي في المقدمة».
70
إلا أن بعض المحللين الاستراتيجيين كان رأيهم أنه على الرغم من أن الهند كانت «أحدث النمور الآسيوية»، فربما تصبح أكبرها مع مرور الوقت. فتقاليدها الديمقراطية وسكانها الذين معظمهم من الشباب يستتبعان أنه في حين أن الصين ستكون «الرابح الأكبر من الآن حتى عام 2040، فالهند الآن تمضي بخطى وثابة وسوف تجني الثمار كافة في النصف الثاني من هذا القرن». فالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وفرنسا وبلدان جنوب شرق آسيا كانت تسعى كلها إلى توطيد صلاتها مع الهند، و«إذ يتنافس الجميع على محاباتها، قد تجد الهند نفسها صانعة الملوك أو ربما تنال لنفسها الملك».
71
توالت التنبؤات بسرعة وكثرة بأن الهنود سوف يستولون على وظائف الأمريكيين والأوروبيين، وأن الهند - إلى جانب الصين - ستصبحان القوتين العظميين العالميتين خلال القرن الحادي والعشرين. وسواء كانت تلك التنبؤات نابعة من الخوف وجنون الارتياب، أم من الدهشة والإعجاب، فلا بد من اعتبار صدورها من الأساس معجزة؛ فطوال معظم تاريخ الهند كدولة مستقلة، كانت تسمع حديثا مغايرا لذلك تماما. فبعد كل واقعة شغب طائفي، كان يقال إن الهند ستتفكك أجزاء متفرقة، وكلما شحت الأمطار الموسمية، ترددت النبوءات بحدوث قحط ومجاعات جماعية، وعقب وفاة زعيم كبير أو مقتله، كانت تسود نبوءات بأن الهند ستتخلى عن الديمقراطية وتصبح دكتاتورية.
نشأت تلك التنبؤات المبكرة أيضا عن دوافع متنوعة؛ فكان بعضها صنيعة القلق، والبعض الآخر صنيعة الشفقة أو الازدراء. وقد بثت في نفوس الهنود المثقفين مشاعر الغضب والحرج. إلا أن تلك النبوءات الأحدث أفضت إلى مد متنام من الزهو. نشرت الصحف والمجلات الهندية قصصا بعنوان «أبطال العالم» و«الطريق إلى الصدارة». وأبدى أحد الكتاب الصحفيين في دلهي يقينا أكيدا من أن الهند في سبيلها إلى أن تصبح عملاقا عالميا، حتى إنه أعرب عن تخوفه من أن تكرر أخطاء سابقيها؛ ففي حين أن الغرب في ذروة مجده استغل المستعمرات بلا رحمة، حث «الشركات الهندية على إقامة علاقات ود وصداقة مع البلدان الأخرى». وقال إن المهم هو «التأكد من عدم النظر إلى الهند على أنها قوة إمبريالية قاسية في عالم الغد». إلا أن تحول الهند إلى قوة إمبريالية فعلا عما قريب اعتبر مسألة مفروغا منها.
72
كانت تلك التوقعات الأقدم لسقوط الهند مبالغا فيها بدرجة هائلة. لقد أتاح الدستور الذي صاغه مؤسسو الدولة الهندية للتنوع الثقافي الازدهار في محيط دولة قومية (وديمقراطية) واحدة. إلا أن الاحتفال بتحول الهند الوشيك لقوة عظمى أمر سابق لأوانه أيضا. فعلى الرغم من النجاحات الظاهرة للاقتصاد الجديد، فلا يزال ثمة شرائح كبيرة تعاني الفقر والحرمان، ولا يمكن معالجة هذه الاختلالات إلا بتدخل حازم من جانب الدولة، والدولة بحالتها القائمة متآكلة وفاسدة إلى حد يمنعها من التصرف بقدر كبير من الحزم. فقد كانت رؤية الهند على أنها في سبيلها إلى الضياع سريعا خاطئة، وكذلك الحال بالنسبة للرؤية الحالية لها باعتبارها ستتخذ عما قريب مقعدا بين صفوة دول الأرض.
الفصل الثلاثون
وسائل الترفيه
يجب أن تكون أفلامنا مغزولة في نسيج الحياة الوطنية، ومجسدة وعاكسة للهند الحقيقية.
المخرج السينمائي في شانتارام، متحدثا عام 1940
لا توجد باكستان في الموسيقى الهندية على الأقل.
عالم الاجتماع دي بي موكرجي، كاتبا عام 1945
1
لقد استعرضت فصول هذا الكتاب المتاعب والصراعات التي عايشها مواطنو الهند الحرة. لكن السؤال هو: كيف «يرفه» الهنود عن أنفسهم؟ ماذا يفعلون عندما لا يكونون في العمل أو في ميدان القتال أو يرعون شئون أسرهم؟
تتمثل الإجابة القصيرة على هذا السؤال في أن معظمهم يذهبون لدور السينما؛ فالأفلام الطويلة تعد أكبر شغف بالنسبة لهم، حيث إنها تتجاوز الانقسامات الاجتماعية التي أشرنا لها في هذا الكتاب؛ الانقسامات الخاصة بالطائفة الاجتماعية والطبقة والإقليم والدين والجنس واللغة.
في الأسبوع الأخير من عام 1895، قدم الأخوان لوميير أول آلة عرض سينمائي في باريس. وسرعان ما بدأ المصورون الهنود المتحمسون في صناعة وعرض أفلام عن موضوعات من قبيل «سباقات بونا 98» و«وصول قطار لمحطة بومباي». أنتج أول فيلم هندي طويل صامت عام 1913 على يد صاحب المطبعة دادا صاحب بالكي، الذي ألهمه مشاهدة فيلم عن حياة المسيح وجعله يصور فيلما عن أمير أسطوري يدعى راجا هاريشتشاندرا. وبعد ذلك بثمانية عشر عاما، ظهر أول فيلم هندي طويل ناطق تحت اسم «ألام آراء» (بهاء الدنيا) للمخرج أردشير إيراني.
عبر عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، كان على الأفلام الهندية أن تنافس الأفلام المنتجة في أوروبا وأمريكا الشمالية. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، زاد عدد الأفلام المنتجة في الهند على نحو كبير. وفي عام 1945، أنتج 99 فيلما طويلا، وبعد عامين، وبحلول الاستقلال، قفز العدد إلى 250، أنتج ثلثها مستثمرون يعملون لأول مرة في المجال السينمائي.
1
كانت بعض الأفلام الأولى ذات موضوعات دينية أو رومانسية، في حين تأثر البعض الآخر بالتيارات الاجتماعية والسياسية السائدة في ذلك الوقت. على سبيل المثال، كان الفيلم الكلاسيكي «فتاة من المنبوذين» الذي ظهر في ثلاثينيات القرن العشرين يدور حول قصة حب رجل من البراهمة لفتاة من المنبوذين. وكانت الأفلام التي ظهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين مليئة بالصور الوطنية، وكان حب الأمة التي كانت على وشك الخروج إلى النور واضحا في حوارها وأغانيها. وبينما تأثر مخرجو الأفلام وممثلوها بالحركة القومية، لم تبال تلك الحركة بهم على نحو كبير؛ فمنتج فيلم «فتاة من المنبوذين » لم يستطع حث المناضل العظيم الذي ظل طوال حياته يسعى للقضاء على ممارسة النبذ، المهاتما غاندي، على مشاهدة فيلمه. (يبدو أن الفيلم الوحيد الذي شاهده غاندي - وربما ليس حتى نهايته - هو العمل الأسطوري «راما راجيا».)
2
كما أنه لا يوجد ما يشير لذهاب أي قادة آخرين من أمثال جواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل لدور السينما لمشاهدة الأفلام الهندية.
وفي حين تجاهل بعض أعضاء الحركة القومية الأفلام السينمائية، تحامل البعض الآخر بقوة أكبر عليها. كانت هناك دائما نزعة متزمتة في حركة الحرية الهندية، تناقضها الملابس الملونة وقصص الحب والرقص والغناء في الأفلام الشعبية. وبعد الاستقلال، تولى بعض المتشددين مناصب عليا، هاجموا من خلالها صناعة لم تكن تروق لهم. على سبيل المثال، في سبتمبر من عام 1950، أعرب رئيس وزراء راجستان عن قلقه من «التأثير الهدام» للأفلام السينمائية، على الرغم من اعترافه بأنه شخصيا شاهد واحدا منها. وبعد ثلاث سنوات، اشتكى رئيس وزراء مدراس من أن مشاهد الجنس والقتل في الأفلام أفسدت الشباب. وحث صناع الأفلام على «تقليل النزعة الجنسية في الأفلام»، والتفكير بدلا من ذلك في «إنتاج أفلام دينية بالألوان». وتساءل: «كيف يمكن أن نتقدم في المجالات الأخرى إذا كان كل شاب يفكر طوال الوقت في تلك الأشياء [المتعلقة بالجنس]؟» وعلى وجه الخصوص، «طالب الفقراء العاملين بالأجر بألا يشاهدوا الأفلام، ليس لأنه لا يحب صناعة السينما، ولكن لأنه شعر أنهم يمكنهم أن يجدوا استخداما أفضل لأموالهم غير ذهابهم لدور السينما؛ فالأغنياء لديهم من المال ما يتيح لهم الذهاب لدور السينما وتدمير أنفسهم».
3
في واقع الأمر، لم تكن تلك النزعة مقصورة على الطبقة السياسية؛ ففي ديسمبر من عام 1952، خلصت لجنة عينها مجلس جامعة كلكتا إلى أن أحد الأسباب الرئيسية وراء معدل إخفاق الطلبة الكبير في الاختبارات هو أن الطلبة يقضون وقتا أكثر من اللازم في مشاهدة الأفلام السينمائية.
4
وبعد عامين، أرسل التماس لرئيس الوزراء زعم أن الأفلام تهدد «الصحة الأخلاقية للبلد»؛ فعلى ما يبدو كانت تعد «عاملا رئيسيا في التحريض على الجريمة وعدم الاستقرار العام في المجتمع».
5
وقد وقع على الالتماس 13 ألف ربة منزل، ورفعت قضيتهن إلى البرلمان ليلافاتي مونشي، زوجة سياسي متشدد معروف هو كيه إم مونشي. زعمت السيدة مونشي، متحدثة أمام مجلس الولايات في نوفمبر من عام 1954، أن «السينما يمكن أن تهذب أو تدمر جيلا بأكمله والأمة بأسرها». واعتقدت أن الاحتمال الثاني هو الأقرب، حيث برأيها إن الاحتفاء بالجريمة والجنس شجع الشباب الهنود على تقليد تلك الأفعال في الواقع. وكانت قلقة بوجه خاص من «إبراز مفاتن النساء بطريقة غير لائقة لإثارة الجمهور». ورد عليها في المجلس الممثل الكبير بريتفيراج كابور الذي أكد على أنه لا يمكن تقييد الفن في مجتمع حر. وأضاف أنه من الناحية الفنية «ضوء الشمس والظل يسيران جنبا إلى جنب».
6
لمواجهة تلك الاعتراضات، عين مجلس للرقابة كان يشاهد كل فيلم قبل أن يمنحه شهادة بالموافقة على عرضه. ومنعت المشاهد المثيرة جنسيا وأعطيت الأفلام التي تضمنت مشاهد عنف شهادة بالعرض ل «الكبار فقط». ورغم ذلك، نمت صناعة السينما بمعدل رهيب بعد الاستقلال؛ فبحلول عام 1961، كان ينتج سنويا أكثر من 300 فيلم وتعرض الأفلام في 4500 دار سينما عبر أنحاء البلاد. وبحلول عام 1990، تضاعف عدد دور السينما مرتين، في حين تضاعف عدد الأفلام أكثر من ثلاث مرات.
بحلول خمسينيات القرن العشرين، أصبحت مدينة بومباي المركز الرئيسي المعترف به لصناعة السينما في الهند. هناك أنتجت أشهر الأفلام التي استخدمت اللغة الهندية، وهي لغة مفهومة عبر معظم أنحاء البلاد. كما ازدهرت صناعات سينما بلغات أخرى؛ ففي عام 1992، على سبيل المثال، في حين أنتج 189 فيلما باللغة الهندية، أنتج 180 فيلما آخر باللغة التاميلية و153 باللغة التيلوجوية و92 باللغة الكاناداية و90 باللغة المالايالامية و42 باللغة البنغالية و25 باللغة الماراثية.
7
بحلول عام 1980، كانت الهند قد سبقت الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها البلد التي كانت تنتج معظم الأفلام في العالم. وفي عام 1997، وبعد مرور خمسين عاما على الاستقلال، ذهب أحد التقديرات إلى أن 12 مليون هندي - أكثر من تعداد سكان أكثر من دولة عضو في الأمم المتحدة - كانوا يذهبون للسينما كل يوم .
كان لنمو صناعة الأفلام تأثير ملحوظ على التخطيط الفعلي للمدن في الهند؛ ففي المدن الأصغر، كانت دور السينما توجد في وسطها، أما في المدن الأكبر، فكانت تلك الدور توجد في كل منطقة من مناطقها الرئيسية. وكانت ملصقات الأفلام منتشرة في كل مكان ومطبوعة بألوان واضحة وبأحجام متعددة، بعضها كان صغيرا بدرجة كافية بحيث يلصق على جانب متجر موجود على جانب الطريق، في حين كان البعض الآخر موضوعا على لوحات إعلان هائلة تعلو الطرق. وكان يطبع نحو 70 ألف ملصق دعائي لأي فيلم ذي ميزانية كبيرة، وتوضع تلك الملصقات على أي جدار خال وتبقى في زهوها حتى بعد رفع الأفلام من دور السينما.
8
2
كتب شوتوجيت راي قائلا: عناصر أي فيلم هندي عادي معروفة:
اللون (في الغالب، التقنية الخاصة بشركة إيستمان كوداك)، والأغنية (ست أو سبع) بأصوات يألفها المرء ويثق بها، والرقص - سواء المنفرد أو الجماعي - الذي كلما كان سريع الإيقاع وكثير الحركات، كان أفضل، وامرأة شريرة وأخرى طيبة ورجل شرير وآخر طيب والغرام (لكن دون قبلات)، والدموع والقهقهة والمعارك والمطاردات والميلودراما، والشخصيات الموجودة في خواء اجتماعي، والبيوت التي لا توجد سوى داخل الاستديوهات، والمواقع الغريبة في كولو ومانالي وأوتي وكشمير ولندن وباريس وهونج كونج وطوكيو ... شاهد أي ثلاثة أفلام، وستجد أن اثنين منها يتضمنان كل تلك العناصر المذكورة آنفا.
9
لم تشتمل أفلام شوتوجيت راي على أي رقصات وتضمنت عددا قليلا من الأغاني. وكان يأخذ مشاهديه إلى بيوت شخصياته ويريهم الملابس التي يرتدونها والطعام الذي يتناولونه. وكانت الحياة التي يعيشها أبطاله حقيقية على نحو تام ومثير. ومع ذلك، في حين أن أفلامه كانت لها مكانتها الكبيرة (والراقية دون شك)، فكان للأفلام الهندية الشعبية مكانتها أيضا. قد يرفض راي تلك الأفلام ويرى أنها تقدم «مجتمعا مصطنعا غير موجود»، و«عالما مزيفا». ولكن ما جعل تلك الأفلام تأخذ مكانتها هو على وجه التحديد أن العالم الذي تصوره غير حقيقي. وصناع أشهر الأفلام الهندية الشعبية يعرفون ذلك جيدا. قال مخرج الأفلام الهندي المعروف الذي ذاع صيته في سبعينيات القرن العشرين، مانموهان ديساي، عن عمله: «أريد من الناس نسيان مآسيهم، وأريد أن آخذهم إلى عالم من الأحلام لا يوجد فقر فيه ولا يوجد شحاذون وحيث القدر رحيم والرب لطيف بعباده.»
10
ذهب الفلاحون والعمال في الهند المستقلة إلى دور السينما للسبب نفسه الذي اختارت من أجله الطبقة العاملة المتعلمة حديثا في بريطانيا قراءة قصص الأغنياء والمشاهير. وكما علقت شخصية في رواية لجورج جيسنج: «لا شيء يمكن أن يدفع العمال والعاملات لقراءة قصص تتناول عالمهم. فهم أكثر الأشخاص مثالية بين الناس، خاصة النساء منهم ... فالطبقات العاملة تبغض أي شيء يحاول تمثيل حياتهم اليومية.»
11
راق الهزل الساخر والميلودراما فقط، بحسب رؤية جيسنج، للطبقات العاملة في بريطانيا. هذا هو الحال أيضا في الهند حيث، مع ذلك، كان الهزل الساخر والميلودراما مناسبين لثقافة البلاد. فبعض الموضوعات المتكررة تقل ملاءمتها وأهميتها خارج السياق الهندي، على سبيل المثال، إخلاص الابن لأمه أو العلاقة المحمومة بين الحماة وزوجة ابنها أو صعوبات (وأمجاد) اختيار شريك الحياة رغما عن الطائفة الاجتماعية والعادات الأسرية. مرة أخرى، في الفيلم الهندي، «الرجل الشرير» و«المرأة الشريرة» شخصيتان محوريتان أكثر مما هما عليه في الميلودراما الهوليوودية التقليدية ؛ فهما الرجل الوضيع والمرأة اللعوب، الشخصيتان الماكرتان اللتان تقفان ضد البطل والبطلة اللذين يبدوان أنقى حتى من أي صورة إنسانية متخيلة.
12
وصف أحد المخرجين المشاهير ذات مرة أعماله بأنها «مواكب احتفالية ضخمة موجهة للبسطاء».
13
كانت تصور تلك المواكب في أماكن لا يمكن للبسطاء أن يرونها في أحلامهم. أحيانا ما كانت تنتمي لماض أسطوري حيث كان الناس يطيرون على ظهور أحصنة ويتحدثون إلى الآلهة، وفي أوقات أخرى، كانت تلك الأماكن موجودة على الأرض ولكن لم يكن للمشاهدين سبيل لرؤيتها يوما. فالأفلام الهندية صورت، ولا تزال تصور، في منطقة الريفيرا الفرنسية وجبال الألب السويسرية وسواحل جنوب أفريقيا، مع ارتداء الشخصيات لملابس لا تلبس في الهند وقيادتهم لسيارات لم تر من قبل هنا. كانت هذه «سينما تلصصية بالكامل، حيث كان يمكن أن يكون المشتهى أي شيء بدءا من زهور التوليب الهولندية وحتى الهواتف الفاخرة»، التي من خلالها كان المشاهد «يعيش بنحو غير مباشر نمط حياة موجود في مكان آخر».
14
الشيء الذي تجاوز فيه الفيلم الهندي الموضوعات التقليدية والشخصيات النمطية وميزه بحق هو موسيقاه. جدير بالذكر أن المسرحيات الهندية القديمة كانت تشتمل على أغان بنحو ما، وانتقل هذا التقليد إلى الأفلام السينمائية؛ حيث يشتمل كل فيلم على نحو 6 أغان، تغنيها أصوات من خارج الفيلم، وليس الممثلين بداخله الذين فقط يحركون شفاههم مع الكلمات المغناة.
في صدفة تاريخية، أو ربما صدفة أصبحت ممكنة فقط بفعل التاريخ، كتب أغاني الحب واليأس تلك بعض من كبار شعراء العصر؛ ففي وقت الاستقلال، وربما لقرن قبله، كانت لغة كتابة الشعر الرئيسية هي الأردية. وقبل التقسيم وبعده، وجد العديد من الكتاب المسلمين - والهندوس على السواء - ضالتهم في صناعة الأفلام ببومباي. واستدعت أسماؤهم المستعارة - مثل سلطانبوري وجايبوري ولوديانفي وأعظمي وبدايوني وبوبالي، مدن شمال الهند التي ازدهرت فيها اللغة الأردية كلغة توفيقية يتحدث بها ببلاغة شديدة المسلمون والهندوس على السواء.
أحد أسباب زيادة شعبية أغاني الأفلام الهندية هو أشعارها؛ حيث كانت مليئة بالتورية واللعب بالألفاظ والتلميح التاريخي أو السياسي. وكانت متوافقة مع الموسيقى المؤلفة لها التي كانت هي الأخرى شديدة الجاذبية. لقد استقيت الألحان من الموسيقى الكلاسيكية والأغاني الشعبية، وكذا اعتمد توزيعها بشدة - وفي معظم الأحيان، على نحو مبتكر - على الأساليب الغربية. وكانت آلتا السيتار والطبلة الهنديتان تمتزجان بنحو أو بآخر في تناغم مع الساكسفون والكمان. وكتب أحد الطلاب المتخصصين في هذا المجال يقول: «قبل وقت طويل من رواج المزج بين الأنماط الموسيقية المختلفة، كان هذا المزج يتم كل يوم في استديوهات الأفلام ببومباي.» كان ذلك مزجا مميزا جمع بين النغمات الشعبية الخاصة بمنطقة دلتا نهر الجانج و«نغمات موسيقى الجاز المعروفة بموسيقى الديكسيلاند وموسيقى الفادو البرتغالية وموسيقى الجاز الإلنجتونية»، مع ضبط كل شيء وفق التركيب الدقيق لموسيقى الراجا الهندوستانية التقليدية.
15
هاجم الموسيقيون التقليديون أغاني الأفلام معتبرين إياها «صورة منحطة - وحتى فاسدة - من أجناس الأغاني الهندية الكلاسيكية أو الشعبية». ولكن كما يشير أشرف عزيز، ليست تلك الأغاني شعبية ولا كلاسيكية، وإنما «جنس جديد من الأغاني ابتكر على نحو اضطراري من أجل خدمة السرد السينمائي». فهي «توليف جديد نتج عنه شكل جديد تماما من الموسيقى».
16
ربما قد يضيف المرء أن هذا الشكل كان أكثر انتشارا وشهرة من الأشكال الموسيقية السابقة عليه. فكما اشتكى ذات مرة أحد المطربين الكلاسيكيين، كانت أغاني الأفلام «متداولة على ألسن النساء من طبقات المجتمع العليا في كلكتا وكذلك سائقي عربات الخيول في بيشاور».
17
كتبت المؤرخة السينمائية نسرين مني كبير تقول إن الجمهور الهندي «لم يعد يعترض على وجود الشخصيات النمطية ولا الحوار الذي يمكن توقعه». لكنه يعرف، ويأمل، أن «تلك القصص القديمة المستهلكة» يكون بالإمكان «إعادة إحيائها على يد ممثلين جيدين ومن خلال ست أو ثمان أغاني رائعة». وهذا الجمهور «يمكنه تقبل تكرار الخطوط الدرامية»، ولكنه «سيرفض موسيقى أي فيلم إن لم يكن بها أي تجديد».
18
3
بدءا من أربعينيات القرن الماضي وحتى ثمانينياته، شاهد الأفلام فئتان من الهنود: الشباب الذكور والأسر. وجد أحد علماء الأنثروبولوجيا العاملين في شمال الهند أن «العديد من الرجال غير المتزوجين كانوا مستهلكين بكثافة لثقافة الأفلام». فأحبوا الأفلام لأنهم رأوها وسيلة للترفيه وطريقة للهروب من قيود الأسرة؛ فدور السينما مكان كان يمكن لهؤلاء الشباب فيها تدخين السجائر (وهو الأمر المحظور عليهم في بيوتهم)، وكذلك المزاح والعبث مع أصدقائهم. وفي حين أن الشابات نادرا ما كن يذهبن لدور السينما، كان الرجال الأكبر سنا في بعض الأحيان يأخذون معهم زوجاتهم وآباءهم لمشاهدة الأفلام في دور السينما. وكانت هاتان الفئتان من الجمهور تميلان لتفضيل أنواع مختلفة من الأفلام؛ ففضل الشباب الأفلام التي يوجد بها «إفراط في مشاهد العنف والرقص»، في حين اختارت الفئة الأخرى مشاهدة الأفلام التي تتناول مباهج ومتاعب الحياة الأسرية.
19
كان الشغف بالأفلام حتى أكثر قوة في جنوب الهند. هناك كون محبو الأفلام من الذكور أندية للمعجبين، اختص كل منها بالاحتفاء بنجم سينمائي معين. ضمت مدينة مادوراي في تاميل نادو ، على سبيل المثال، 500 من تلك الأندية، كان أعضاؤها في الغالب في أواخر العقد الثاني أو بداية العقد الثالث من عمرهم. وضمت تلك الأندية خياطين وعمال جر العربات وبائعي خضراوات وطلبة. وكان الهدف من أنشطة أي منها الترويج لنجمها عن طريق وضع ملصقات لأفلامه وشراء تذاكر لمشاهدتها والتغني بمحامده سواء في العلن أو في السر. ومن آن لآخر، كان يتبع النادي منحى مدنيا أكثر، وذلك بالتبرع بالدم باسم النجم أو بجمع تبرعات للتخفيف من آثار كارثة ما.
20
في فصول سابقة، تحدثنا عن إم جي راماتشندران من تاميل نادو وإن تي راما راو من أندرا براديش، النجمين السينمائيين اللذين أصبحا رئيسي وزراء ولايتهما بسبب شعبيتهما الكبيرة التي اكتسباها في مجال التمثيل. وكان للممثل السينمائي راجكومار شعبية مماثلة في كانادا على الرغم من أنه لم يسع لاستغلالها لمصلحة سياسية. في كل الأحوال، هذا الإجلال كان نتيجة لحقيقة أنه في ذلك الجزء من الهند كان الفيلم يعد إحدى الوسائل الأساسية للتعبير عن القومية اللغوية. فرأى أهل الجنوب أن لغاتهم مهددة من قبل اللغة الهندية، وعندما هبوا لإبعاد هذا التهديد، طلبوا الأمل والدعم من الممثلين الذين كانوا يتحدثون بلغتهم المحبوبة بطلاقة كبيرة. جسد هؤلاء النجوم في أفلامهم الموضوعات الأساسية للوجود البشري - الحياة والموت، الحب والخيانة، والرخاء والشدة - باستخدام عبارات وتعبيرات اصطلاحية مأخوذة من إيقاعات الحديث اليومي. وهكذا، يتضح أن راماتشندران وراما راو وراجكومار ومعجبيهم - فعليا ومجازيا - كانوا يتحدثون نفس اللغة.
في الوسط الناطق باللغة الهندية، لم يكن حب الأفلام مرتبطا بشدة بالهوية الاجتماعي للمرء. (فنظرا لأن تلك اللغة كان يتحدث بها أكبر عدد من الهنود، كان نادرا ما ينظر إليها على أنها مهددة.) ومع ذلك، ونظرا لجاذبية النجوم السينمائيين، فيمكن أن يكون لهم تقدير أوسع، وإن لم يكن بالضرورة أعمق. يمكن القول إن أشهر نجوم السينما في كل الأوقات هو النجم المتحدث باللغة الهندية أميتاب باتشان. أتحدث هنا ليس فقط عن الهند ولكن عن العالم ككل؛ فوفقا لاستطلاع رأي تم عبر الإنترنت قامت به هيئة الإذاعة البريطانية عام 2001، كان هو أشهر ممثل على مستوى العالم.
ولد أميتاب باتشان عام 1942، وهو ابن لشاعر شهير يكتب باللغة الهندية من الله أباد، وقد دخل عالم السينما بعد فترة من العمل في عالم الأعمال. كان طويلا جدا وأسمر البشرة إلى حد بعيد، وهما أمران اختلف فيهما تماما عن الممثلين المشاهير الذين سبقوه. لكنه سرعان ما استطاع التغلب على هذين الأمرين من خلال أسلوبه المهيب وصوته العميق الرائع. وقد بزغ نجمه في أوائل السبعينيات، وهي فترة من الانتهازية شهدها النظام السياسي الهندي الذي تعرض لتحديات كبيرة من قبل قوى من خارج البرلمان مثل الناكسل وحركة بيهار بقيادة جايا براكاش نارايان. كانت أدوار باتشان متوافقة مع العصر: لعب دور الشاب الغاضب الذي تضعه الظروف في مواجهة مع النظام ولكنه كان دائما يتغلب عليه، ولعب دور العامل المناضل الذي يواجه رأسماليين قساة، وضابط الشرطة الشريف الذي يواجه رؤساءه الفاسدين وحتى زعيم العصابة الكبير الذي يخفي وراء أسلوبه الشرير (على نحو غير ناجح تماما) قلبا طيبا.
21
في عام 1982، نقل باتشان للمستشفى بعد تعرضه لحادث أثناء تصوير أحد أفلامه. وحينها، صلى الملايين من أجل شفائه. وقد شفي بالفعل، وبعد ثلاثة أعوام، أصبح نائبا عن الله أباد وممثلا لحزب المؤتمر في البرلمان، وذلك نزولا على رغبة صديق طفولته راجيف غاندي. وحينها، طرحت الصحافة الشعبية في حزن التساؤل الآتي: «من سوف يحل محله في دور الشاب الغاضب؟»
22
لكن حدث خلاف بين باتشان وراجيف غاندي وترك باتشان البرلمان ليعود لشاشة السينما. ومع تقدم باتشان في العمر، تغيرت أدواره. فهو متعدد القدرات على نحو مدهش؛ فبإمكانه وهو في العقد السابع من عمره أن يلعب دور الأب الحازم وكذلك ضابط الشرطة الغريب الأطوار (كما في فيلمه «بانتي وبابلي» الذي ظهر عام 2005). وفي الأعوام الأولى من الألفية الجديدة، قدم أهم أعماله على الإطلاق حتى الآن، وهو عمله كمذيع للنسخة الهندية من البرنامج الشهير «من يريد أن يصبح مليونيرا؟» فقد حقق البرنامج نجاحا مذهلا، يرجع في جانب منه إلى تماشيه مع الرغبة في التربح السريع التي سادت أنحاء الهند بعد تحررها الاقتصادي، وأيضا شهرة مقدمه وأسلوبه اللبق. برع باتشان في تقديمه للبرنامج؛ فكان لطيفا وحازما في نفس الوقت وثنائي اللغة متمكنا، كما كانت قدرته على الارتجال التي ورثها عن أبيه مدهشة، الشاعر الذي كتب باللغة الهندية وكان أستاذا للأدب الإنجليزي.
أوضح تكريم باتشان بمناسبة عيد ميلاده الستين كيف أن أعماله «تجاوزت حدود المشاعر والأجيال».
23
هناك شخصية أخرى نستطيع القول إنها فعلت نفس الشيء بنجاح لافت وهي المطربة لاتا مانجيشكار. هي الأخرى كان لها أب موهوب وهو المطرب والممثل والملحن دينانات مانجيشكار، الذي توفي عام 1942 عندما كانت لاتا في الثالثة عشرة من عمرها. قضت لاتا أفضل فترات حياتها وهي تتعلم الموسيقى على يد أبيها. وحيث إنها كانت الابنة الكبرى من بين خمسة إخوة، فسرعان ما أصبحت العائل الرئيسي للأسرة. وغنت في البداية في الأفلام المتحدثة باللغة الماراثية، لكنها سرعان ما تحولت لساحة الأفلام المتحدثة باللغة الهندية الأكثر شهرة والأعلى أجرا.
سجلت لاتا أولى أغنياتها كمطربة باستخدام أسلوب «البلاي باك» عام 1947. وبنهاية الأربعينيات، أصبحت أشهر مطربة في الهند. وكانت أكثر من يسعى المنتجون والمخرجون للتعاقد معها للغناء في أفلامهم ؛ حيث إنهم لم يكن لهم أن يتخيلوا أفلامهم بدون صوتها. وفي مسيرة فنية استمرت على مدى خمسة عقود، سجلت أكثر من خمسة آلاف أغنية.
24
قبل ظهور لاتا، كان صوت المطربات في الأفلام يبدو أجش. أما عن صوتها، فكان ذا نبرة عالية وحادة. ورغم أن صوتها كان يبدو حادا للبعض، فقد أصبح يمثل لآخرين تعبيرا بليغا عن الأنوثة الناعمة. كان «الصوت الذي يؤدي من خلاله البائع على جانب الطريق في دلهي عمله، ويقود على إيقاعه قائد الشاحنة الذي يسافر لمسافات طويلة، والذي يحميه الجندي في لاداخ في خندقه على الحدود، والذي تتناول على أنغامه الصفوة المنتقاة عشاءها في الفنادق الفخمة».
25
كانت شهرتها تتجاوز الطبقات والأطياف السياسية. فكان الزعيم القومي الشهير جواهر لال نهرو أحد معجبيها، ليس فقط لأنها غنت أغنية شهيرة (اسمها «آه، يا شعب بلادي») تحتفي بذكرى شهداء الغزو الصيني عام 1962. وبعد ذلك بفترة طويلة، ظهر لها معجب آخر شهير وهو صاحب النزعة الشوفينية بال تاكاري، الذي اعتبرها رمزا عظيما للأنوثة الماراثية.
4
من أهم سمات صناعة السينما الهندية نزعتها العالمية الرحبة؛ فقد عمل فيها ممثلون بارسيون ويهود جنبا إلى جنب مع ممثلين هندوس ومسلمين ومسيحيين. كما كان بعض من أعظم مخرجيها من البنغال أو جنوب الهند.
وأبرز مثال على ذلك أحد الأفلام الأكثر نجاحا حتى الآن في تاريخ السينما وهو فيلم «الشعلة» (1975): مخرج هذا الفيلم من السند، وكاتب أغانيه وأحد أبطاله من البنجاب. أما عن الأبطال الآخرين، فهم من أوتر براديش وجوجارات والمقاطعة الشمالية الغربية الحدودية. (وهناك بطل آخر استبعد من الفيلم في آخر لحظة كان من سيكيم.) أما عن بطلتي الفيلم الرئيسيتين، فكانت إحداهما تاميلية والأخرى بنغالية تعيش في ماديا براديش. أما عن المخرج الموسيقي للفيلم، فكان بنغاليا من تريبورا.
26
لم تكن صناعة السينما في بومباي فقط الجامعة لمختلف الأديان والمشارب؛ ففي استوديوهات مدراس الخاصة بالمخرج التاميلي إس إس فاسان، «ترأس قسم المكياج في البداية بنغالي أصبح كبيرا بعد ذلك على المكان ومن ثم ترك العمل. وحل محله آخر مهاراشتري وكان يساعده كانادي من دهارواد وأندري ومسيحي من مدراس وأنجلو بورمي وتاميليون محليون». وكما قال أحد كتاب السيناريو الذي عمل مع فاسان متذكرا: «كانت تلك العصبة المتكاملة من اختصاصي المكياج والقادمة من مختلف أنحاء البلاد تستطيع تحويل أي شخص حسن المظهر إلى وحش بشع الشكل قرمزي اللون باستخدام كميات هائلة من كريمات الأساس المستوردة وعدد من مستحضرات التجميل الأخرى المحلية الصنع.»
27
فوق كل شيء، وفرت صناعة السينما ملجأ غنيا لأكبر أقليات الهند وأكثرها استضعافا في معظم الأحيان، والمتمثلة في المسلمين. فكان العديد من أفضل مؤلفي الأغاني، كما أشرنا من قبل، مسلمين، وهكذا الحال بالنسبة لبعض مشاهير كتاب السيناريو. كما كان بعض من أفضل المطربين مسلمين، وهكذا الحال بالنسبة لبعض قمم الإخراج - والأمر الأكثر إدهاشا - قمم التمثيل أيضا؛ ففي العام الذي عقدت فيه الانتخابات العامة الأولى في الهند، عندما طلبت إحدى المجلات في بومباي من قرائها اختيار ممثلهم المفضل، ذهبت أكثر الأصوات لممثل مسلم وجاءت ممثلة مسلمة في المرتبة الثانية.
28
المثير في الأمر أن هذين النجمين اتخذا اسمين غير مسلمين؛ فقد اتخذ يوسف خان اسما يبدو هندوسيا وهو ديليب كومار، في حين اتخذت فاطمة راشد الاسم المحايد نرجس، (على اسم زهرة النرجس). ومع تثبيت الممثلين والممثلات المسلمين لمكانتهم في عالم السينما، تخلوا عن مثل هذه الحيلة. وكانت من نجمات الخمسينيات والستينيات الممثلة وحيدة رحمن. وبعد ذلك بفترة طويلة، في التسعينيات، كان أشهر ثلاثة ممثلين في الأفلام الهندية مسلمين يحملون جميعا لقب خان.
كتب الروائي موكل كيسافان عن طفولته في دلهي وكيف أنه في مدرسته وفي منزله لم يصادف أبدا اسما مسلما. ثم أضاف: «كان المكان الوحيد الذي من المؤكد أن ترى فيه مسلمين هو الأفلام.»
29
على نحو لافت للنظر، كان محتوى الأفلام يعكس أيضا وجودهم وإسهامهم. ونظرا لأن العديد من كتاب السيناريو ومؤلفي الأغاني كانوا مسلمين، فقد كانت لغة الأفلام المنتجة في بومباي - سواء في الحوار أو الأغاني - مختلفة تماما عن اللغة الهندية السنسكريتية الرسمية الجامدة التي تروج لها الحكومة في الهند المستقلة. بدلا من ذلك، كانت أقرب للغة الهندوستانية الدارجة التي كان يتحدثها هؤلاء الكتاب، وهي لغة مليئة بالكلمات الأردية وكانت مفهومة على نطاق واسع عبر الوسط الهندي.
30
مرة أخرى، على الرغم من أن معظم الأفلام جسدت شخصيات مسلمة، فكانوا «نادرا ما يقدمون في صورة سلبية. كانوا أصدقاء مخلصين وجنودا أوفياء ورجال شرطة صالحين وبشتون صرحاء وأعماما ودودين».
31
ظل هناك محظور واحد مهم وهو العلاقات العاطفية بين الهندوس والمسلمين. وقد تم خرق هذا المحظور جزئيا في فيلم «بومباي» الشهير الذي ظهر عام 1995، الذي قدم شخصية شاب هندوسي يقع في حب فتاة مسلمة. لكن لم يكن العكس متصورا؛ فلا يمكن لفيلم أن يتجاوز ويخرج عن المألوف ويقدم رجلا مسلما يتزوج امرأة هندوسية.
في عالم السينما الهندية، يشغل المسلمون مكانة كبيرة ومحترمة. في هذا الشأن ، قال الممثل السينمائي المالايالامي ماموتي: «عملت في هذا المجال على مدار العقدين ونصف الماضيين ولا أتذكر حتى مناسبة واحدة أعاقت فيها هويتي المسلمة مسيرتي.»
32
أتمنى أن يكون هذا صحيحا في مجالات الحياة الأخرى في الهند المستقلة.
5
كتب أحد النقاد يقول إنه «في عالم الهند المليء بالصراع والتوتر والمآسي» توفر الأفلام الشعبية «وسيلة الهروب من الواقع الملائمة التي احتاجتها البلاد».
33
ورغم أن معظم الأفلام أخذت مشاهديها إلى عالم خيالي، كان هناك اتجاه مهم نحو الواقعية؛ ففي الأعوام الأولى للاستقلال، دعم ثلاثة من صناع السينما على وجه الخصوص (جزئيا) الاتجاه الشعبوي. كان هؤلاء هم بيمال روي الذي صور فيلمه «فدانان من الأرض» (1953) على نحو دقيق معاناة الفقراء من أهل القرى، ومحبوب خان الذي ربط في فيلمه «الهند الأم» (1957) بين قصة أم مكافحة تحدت الصعاب وقصة أمة جديدة حصلت على الاستقلال، وجورو دوت، الذي استعرض من خلال سلسلة من الأفلام الرائعة الجانب السيئ من الحياة، من وجهة نظر فنانين نبذهم مجتمع شديد المادية.
مع ذلك، يعد صانع السينما البنغالي الكبير شوتوجيت راي (1921-1992) أبرز ممثل للاتجاه «البديل» في صناعة السينما في الهند. راي، الذي كان ابنا وحفيدا لكاتبين، كان هو الآخر متعدد المواهب. فبالإضافة إلى براعته في كتابة القصص القصيرة باللغة البنغالية، كان خبيرا في الموسيقى الكلاسيكية (الغربية والهندية على السواء)، وعمل لسنوات طويلة كفنان ومصمم. وكان فيلمه الأول، «أغنية الدرب الصغير» الذي ظهر عام 1955، الأول في ثلاثية تتعقب تطور فتى يدعى آبو من مرحلة الطفولة وحتى الرجولة، في محاولة شديدة الحساسية والمهارة لرصد التغيرات الاجتماعية في الريف البنغالي. وعبر العقود الثلاثة التالية، قدم راي تقريبا فيلما كل عام. وفي جميع هذه الأفلام عدا واحد، كان مسرح الأحداث هو البنغال، والعديد منها كان قائما على روايات لرابندرانات طاغور الذي تأثر راي بشدة بشكوكه تجاه القومية وكذلك حساسيته الجمالية. فاز راي بجائزة «الإنجاز مدى الحياة» من الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون (أوسكار) عام 1992، وفي العام نفسه، حصل على أعلى وسام مدني في الهند وهو «بهارات راتنا ».
تناولت أفلام راي نطاقا مدهشا من الموضوعات؛ ففيلمه «صالون الموسيقى» (1958) كان احتفاء شديدا بالموسيقى، في حين كان فيلمه «المدينة الكبيرة» (1963) تصويرا لمدينته، كلكتا، وكان فيلمه «البطل» (1966) استكشافا لحياة فنان وفنه ومعجبيه. أما فيلمه «أيام وليال في الغابة» (1970)، فعرض لمقارنة بين عالم الطبقة الوسطى في المدن وعالم القبليين القاطنين بالغابات. وتناولت أفلام أخرى له موضوعات سياسية، دون أن تكون أفلاما «سياسية»؛ حيث دار أحداث أحدها أثناء حركة الاكتفاء الذاتي ومقاطعة البضائع الإنجليزية في الهند عام 1905-1906، وآخر أثناء حركة الناكسل في أواخر الستينيات. وقدم راي بعضا من أروع أفلام الأطفال، القائمة على قصص كتبها جده، وكذلك العديد من الأفلام البوليسية القائمة على روايات كتبها هو بنفسه. وفي أفلامه، لعبت الشخصيات النسائية أدوارا قوية وكثيرا ما كانت محورية؛ فكانت ذكية وموهوبة فنيا وفوق كل شيء مستقلة.
34
عد راي أيقونة في مسقط رأسه البنغال؛ فناقش أفلامه الكتاب في الصحف والمجلات وأيضا الركاب العاديين في القطارات والحافلات. كما كان ذا شعبية كبيرة في الخارج؛ فعرضت أفلامه بانتظام في مهرجان كان وغيره من المهرجانات، وكان نظراؤه على مستوى العالم يثنون بشدة على أعماله، وعلى رأسهم المخرج الياباني الشهير أكيرا كوروساوا. ولكن داخل الهند، كان يتعرض أحيانا لانتقادات شديدة، على سبيل المثال، ادعت الممثلة نرجس في البرلمان أنه يبرز الفقر في الهند لجذب الانتباه إليه في الغرب. وهذا اتهام لا أساس له، ناهيك عن أنه اتهام وقح؛ ربما ما أثاره تعليقات راي نفسه المهاجمة بشدة للأفلام الهندية.
من بين صناع السينما المميزين المعاصرين لراي اثنان من البنغال هما ريتويك جاتاك (1925-1976) ومرينال سين (المولود عام 1923). تأثر كلاهما بالحركة الشيوعية، وكثيرا ما كانت أفلاهما سياسية بامتياز تتناول موضوعات، مثل: احتجاجات الفلاحين والتقسيم والمجاعة الشديدة التي تعرضت لها البنغال عام 1943. وكان أهم صناع السينما الراديكاليين في الجيل التالي هما شيام بينيجال (المولود عام 1934) وأدور جوبالاكريشنان (المولود عام 1941) التي تناولت أفلامهما موضوعات من قبيل إصلاح نظام الطوائف الاجتماعية وتزمت ونفاق الطبقة الوسطى الهندية.
35
كانت السينما التي قدمها راي وجاتاك وبينيجال وآخرون - التي يطلق عليها في بعض الأحيان «السينما الجادة» وفي أحيان أخرى «السينما الموازية» - تستخدم الأدوات الفنية باحتراف وتسلط الضوء على الواقع الاجتماعي، وهو ما ميزها عن السينما الهندية التقليدية في بومباي التي تقوم على الخيال بهدف الهروب من الواقع. وعلى الرغم من أنه نادرا ما حققت تلك الأفلام الجادة مكاسب مالية كبيرة عند عرضها في دور السينما، فقد لاقت استحسانا كبيرا من النقاد وفازت بجوائز عديدة في المهرجانات السينمائية. وكثيرا ما استمر صداها - حيث تتداول وتعرض في أندية الأفلام التي يدير الكثير منها طلاب جامعيون - في كبرى مدن الهند وفي الخارج.
6
إلى جانب السينما، يسلي الهنود أنفسهم بمشاهدة أشكال متنوعة من وسائل الترفيه المباشر التي أحدها المسرح. تمتلك شبه القارة الهندية تاريخا غنيا من الدراما السنسكريتية الكلاسيكية، هذا بالإضافة إلى أن كل منطقة لها أعمالها الدرامية الشعبية التي عادة ما تناثر فيها الحوار وسط الأغاني والرقصات. وتلك الأشكال الدرامية الشعبية، التي يطلق عليها «جاترا» في البنغال و«ناتيا» في مهاراشترا و«ياكشاجانا» في كارناتاكا، عدلت بحيث تتلاءم مع العالم المعاصر. فعلى الرغم من أن الملابس بقيت تقليدية فيها، فإن موضوعاتها أصبحت تتناول اليوم قضايا العصر، على سبيل المثال: صعود المرأة وإصلاح نظام الطوائف الاجتماعية والصراع بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة.
أعطى إقامة ولايات على أساس اللغة دفعة مهمة للمسارح الإقليمية؛ فأصبح لها جمهور حكر عليها، إن جاز لنا القول، ثلاثون أو أربعون مليونا من المتحدثين باللغة التي تقدم بها المسرحيات. وتشكلت مجموعات وحركات جديدة عملت في إطار الولاية اللغوية ولكن بعين منفتحة على العالم الأكبر.
كان من بين تلك المجموعات «نيناسام» التي تشكلت عام 1949 على يد صاحب مزرعة جوز فوفل الذي يدعى كيه في سوبانا في قريته في شمال كارناتاكا. درس سوبانا في جامعة ميسور حيث حثه أستاذه الشاعر كوفيمبو (كيه في بوتابا) على الجمع بين الزراعة والإبداع الفني. وعند عودته لمنزله في هيجودو، أنشأ مجموعة مسرحية، وتبع ذلك، بعد فترة، إنشاء صحيفة ودار نشر وناد للسينما ونادي للمسرح وفرقة مسرحية متنقلة قائمة بذاتها.
بعد خمسين عاما على إنشاء تلك المجموعة، ما زالت مزدهرة ويديرها حاليا ابن سوبانا، كيه إف أكشارا، خريج الكلية الوطنية للدراما وجامعة ليدز. وتنظم المجموعة «معسكرات ثقافية» حيث يتفاعل الفلاحون والحرفيون مع علماء متميزين من جميع أنحاء العالم. ولكن يبقى نشاطها الأساسي هو المسرح. فهي تدير معهدا لتدريس المسرح، ينضم الكثير من خريجيه لفرقتها المسرحية المتنقلة.
في كل عام، أثناء المعسكر الثقافي السنوي في هيجودو، تقدم ثلاث مسرحيات في قاعة تحمل اسم الكاتب الكاناداي متعدد المواهب شيفاراما كارانات. تقدم المسرحيات باللغة المحلية: الأولى عادة تكون مسرحية كاناداية قديمة والثانية تكون ترجمة لمسرحية مكتوبة بلغة هندية أخرى والثالثة تكون ترجمة لعمل غربي كلاسيكي. فعلى مدى أيام متعاقبة، قد يشاهد جمهور القرية مسرحية، على سبيل المثال، لكل من جيريش كارناد وموهان راكيش وأنطون تشيكوف. وبعد أن تعرض المسرحيات في هيجودو، تسافر الفرقة المسرحية لتقدمها في بلدات وقرى أخرى داخل الولاية.
36
كل عام تقدم الفرقة المسرحية الخاصة بمجموعة نيناسام في المتوسط نحو 150 مسرحية يشاهدها نحو 300 ألف شخص. وهكذا، «تجد أن زراع الفوفل والأرز وقصب السكر بالنهار تحولوا بالليل إلى متذوقين لأعمال سوفوكليس وشكسبير وموليير وإبسن».
37
هناك مبدع آخر مزج بنجاح بين الأشكال المسرحية الكلاسيكية والشعبية وهو المخرج حبيب تانفير. كان تانفير نتاج جمعية مسرح الشعب الهندي الراديكالية التي ظهرت في الأربعينيات ودرس فيما بعد في الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية في لندن قبل أن يعود لمسقط رأسه تشاتيسجار. عمل هناك مع مطربين وممثلين محليين لتقديم مسرحيات متميزة يستخدم فيها الغناء والرقص للسخرية من فساد النخبة بالقرى والفساد الأكثر قسوة لمسئولي الولاية. وتكونت فرقته المسرحية على نحو أساسي من ممثلين محليين كانوا يتحدثون اللهجة المحلية. غير أن قدراتهم الفنية أتاحت لهم تقديم أفكارهم لجمهور يتجاوز كثيرا حدود تشاتيسجار.
38
يمكن وصف سوبانا بأنه تقدمي وتانفير بأنه ناشط، لكن لم يناصر أي منهما صراحة أحد الأحزاب أو الحركات السياسية. كانت هناك مجموعات مسرحية أخرى تناصر وتروج على نحو مباشر لحركات سياسية بعينها . من بين تلك المجموعات مجموعة جانا ناتيا ماندالي، المرتبطة بشدة بحركة الناكسل في أندرا براديش. كان أبرز نجوم تلك المجموعة المطرب الشعبي جادار، خريج الهندسة الذي أتي من بيت ينتمي للداليت ونشط في مجال العمل السياسي اليساري لأكثر من ثلاثين عاما. عام 1971، ألف أغنية عن عمال جر العربات في حيدر أباد، ومنذ ذلك الحين، كتب وأدى العديد من الأغنيات التي تثني على قوة تحمل الفقراء أو تهاجم بقسوة مستبديهم. تسلط تلك الأغاني الضوء على ضحايا همجية الشرطة أو تقارن بين كد الفلاحين ونمط الحياة المرفه لطبقات أصحاب الأملاك. في أغانيه، يقول جادار: «تمثل الحياة معاناة الناس وما يختلج في نفوسهم.» وحيث إن جادار عادة ما يمارس العمل السياسي سرا ويسجن في بعض الأحيان وتلاحقه الشرطة ويحترمه الفلاحون، فهو يقترب من أن يكون شخصية أسطورية ليس فقط في أندرا براديش. فعلى سبيل المثال، عندما قدم حفلة موسيقية في بنجالور، حضرها عشرون ألف شخص.
39
7
تعد الموسيقى الكلاسيكية الهندية من أرقى وسائل الترفيه في الهند الحديثة، وتؤدى بنمطين رئيسيين: الهندوستاني والكارناتاكي. قديما، ازدهرت تلك الموسيقى في المعابد وبلاط الملوك ورعاها المهراجات والنوابون. وأثناء الحكم البريطاني، استمر الأمراء في رعاية الموسيقيين والإبقاء عليهم في بلاطهم، لكن بدأ رعاة آخرون لهم في الظهور، وهم التجار وأصحاب المهن في مدن مثل بومباي ومدراس وكلكتا.
40
الموسيقية التي تمثل مسيرتها المهنية على أفضل نحو التحولات الكبرى التي شهدها التاريخ الاجتماعي الهندي هي المطربة إم إس سوبلاكشمي، المعروفة بإم إس. ولدت سوبلاكشمي عام 1916 في مادوراي في أسرة من موسيقيي ومحظيات المعبد، وقد أخذتها أمها الموسيقية لمدراس لتتقدم أكثر في مسيرتها الفنية. واقترن صوتها الرائع بجمال فتان، وهذا ما جعلها محط أنظار الكثيرين في الأوساط الموسيقية في المدنية. وفي عام 1940، تزوجت رائد الأعمال تي ساداشيفام الذي أدار مسيرتها الفنية اللاحقة بمهارة كبيرة. وفي الأربعينيات، مثلت أيضا في أفلام عديدة، أبرزها فيلم «ميرا»، الذي لعبت فيه دور مطربة القرون الوسطى الشهيرة ميرا باي.
تدربت سوبلاكشمي بقوة على النمط الموسيقي الكلاسيكي، وكلفت نفسها عناء التتلمذ على يد كبار المتخصصين في هذا المجال في عصرها، لكنها عملت أيضا على توسيع ذخيرتها الموسيقية. كانت مؤدية جيدة للأناشيد الدينية الشعبية المعروفة بالبهاجان، مما جعلها تلفت انتباه المهاتما غاندي. وهناك معجب آخر بها ربما كان أكثر نفوذا وهو جواهر لال نهرو الذي حضر العرض الأول لفيلمها «ميرا» في سينما بلازا في نيودلهي، وأطلق عليها لاحقا لقب «ملكة الأغنية». وكان أيضا من ضمن معجبيها وأصدقائها المقربين سي راجا جوبالاتشاري، الذي شغل منصب الحاكم العام للهند ومنصب رئيس وزراء مدراس.
على الرغم من أن دعم تلك الشخصيات البارزة لسوبلاكشمي كان مفيدا لها في مسيرتها الفنية، فقد وصلت للمكانة العظيمة التي كانت عليها بمعزل عنهم. كانت مطربة رائعة، ذات قدرات متعددة وشخصية غنية ومحترمة. وجعلتها تسجيلاتها العديدة للأعمال الغنائية الكلاسيكية والشعبية ذائعة الصيت في جميع أنحاء الهند. وكانت على استعداد للغناء لجمهور غير جمهور النخبة والمدن وأيضا لجمع تبرعات للقضايا المهمة. على سبيل المثال، عدد أحد الباحثين 244 حفلة غنائية خيرية قدمتها فيما بين عامي 1944 و1987. تشير الأماكن التي غنت فيها تلك الحفلات والقضايا التي تبنتها من خلالها إلى شعبيتها واهتماماتها؛ ففي جمشيدبور، غنت لصالح جماعة نسائية ، وفي بومباي، غنت إحياء لذكرى مطربة الموسيقى الكلاسيكية الهندوستانية كيسارباي كيركار، وفي مدينة حسن، لصالح مستشفى، وفي مدراس، لصالح جمعية خيرية مسيحية تدعى «أخوات الفقراء الصغيرات»، وفي جافنا، لصالح منظمة خدمة اجتماعية هندوسية تدعى «بعثة راماكريشنا»، وفي تريتشي، لصالح عمال مصنع قطاع عام، وفي تانجافور، لصالح مصحة علاجية للسل مسماة على اسم المهاتما غاندي.
41
نشرت سوبلاكشمي الموسيقى الكلاسيكية الهندية في كافة أركان الهند، لكن الموسيقي الذي نشر الموسيقى الهندية فعليا خارج الهند كان هو عازف السيتار رافي شانكار. ولد رافي عام 1920 في بيناريس، وهو الشقيق الأصغر للراقص الشهير أوداي شانكار. وانضم رافي لفرقة أخيه المتجولة وهو صبي، وتنقل معها عبر أوروبا قبل أن يرجع للهند للتدرب على يد الموسيقي علاء الدين خان. كان علاء الدين خان معلما شديد الصرامة، وسبع سنوات قضاها رافي معه جعلته واحدا من اثنين من أبرز النجوم الصاعدة في جيله، إلى جانب ابن علاء الدين نفسه عازف السارود علي أكبر خان.
بحلول وقت الاستقلال، أصبح رافي عازفا معروفا. وعادة ما كان يقوم بالعزف منفردا، لكنه هو وعلي أكبر خان نشرا العزف الثنائي، أو ما يعرف بالجوجالباندي، وهو شكل موسيقي لم يكن معروفا من قبل في الموسيقى الكلاسيكية التي تعتمد على عزف الآلات دون مرافقة صوتية. وكما هو الحال بالنسبة لإم إس سوبلاكشمي، لم يقصر رافي نفسه على الشكل الموسيقي الكلاسيكي الخالص. على سبيل المثال، كتب موسيقى باليه قائمة على كتاب جواهر لال نهرو «اكتشاف الهند»، وألف أيضا موسيقى لعدة أفلام من إخراج شوتوجيت راي.
وفي عام 1956، سافر رافي فيما أصبحت أولى جولاته السنوية الخارجية. وعن حفلته الموسيقية التي قدمها في نيويورك عام 1961، كتبت الصحيفة الرئيسية بالمدينة تقول إنها «أوجدت عالما موسيقيا جديدا بالكامل»، «يثير نوعا من التصوف الموسيقي ويذخر بالتقاليد الفلسفية والدينية». بدأ رافي بعد ذلك يعزف ويسجل مقطوعات موسيقية مع موسيقيين غربيين من أمثال جون كولترين ويهودي مينوهين وأندريه بريفين وآخرين. وزادت شهرته بعد أن بدأ جورج هاريسون، أحد أعضاء فرقة البيتلز الشهيرة، يتتلمذ على يده ويقول عنه إنه معلمه.
في عام 1967، استقر رافي في كاليفورنيا. وأصبح يتواجد بانتظام في المهرجانات الموسيقية في مونتيري وغيرها، وكان له دور بارز في نجاح حفلتي «بنجلاديش» الخيرتين الشهيرتين عام 1970. وكيف نفسه جيدا مع جمهوره الجديد؛ فكان يقدم لكل مقطوعة بلغته الإنجليزية الرائعة ويحرص على أن يعقب عزفه لأي مقطوعة راجا تقليدية مقطوعة أخف. (يستطيع الجمهور الهندي الاستماع لمقطوعة راجا واحدة لمدة أربع ساعات متواصلة.) واستطاع أن يجعل تقليد بلده الموسيقي مستساغا أكثر للعالم الغربي، ممهدا الطريق لشباب الموسيقيين الهنود لنشر موسيقاهم في أماكن لم تسمع عنها أبدا من قبل. وفي التسعينيات، عاد إلى الهند واستقر في نيودلهي، لكنه استمر في زياراته المنتظمة للغرب. والآن وقد أصبح في العقد التاسع من عمره، ما زال محتفظا بلياقته وهندامه، وما زال قادرا على تقديم حفلات موسيقية متميزة تمتد لساعتين أو أكثر.
42
ليس رافي شانكار وإم إس سوبلاكشمي بالضرورة أعظم موسيقيين في جيلهما. لكنهما أصبحا أشهرهم نظرا لعظم موهبتهما وشخصيتهما الجذابة ولإمكانية تتبع عمليات التغير الاجتماعي الكبيرة عبر مسيرتهما الفنية. كانا سفيرين عظيمين لفنهما القديم، مساعدين إياه على التكيف وبالتأكيد نيل الاستحسان في عالم نافذ الصبر وقاس في معظم الأحيان. وساعدا أيضا في توسيع قاعدة جمهور ودعم موسيقاهما، مما يعود، على المدى الطويل، بالفائدة على موسيقيين هنديين آخرين كثر غيرهما.
43
8
تعد بالطبع الرياضة وسيلة الترفيه الأكثر شعبية في أي مجتمع حضري صناعي. تمارس وتشاهد كل الرياضات الحديثة في الهند، إلى جانب الألعاب التقليدية مثل الكو-كو والكابادي. وفيما يتعلق بحجم الإنجازات، تبرز رياضتان هما: البلياردو التي حصلت فيها الهند على عدة بطولات عالمية، وهوكي الملاعب التي لم يهزم فيها المنتخب الهندي فيما بين عامي 1928 و1956، محققا ست ميداليات أوليمبية ذهبية على التوالي.
فيما يتعلق بحجم المتابعين، فإن الرياضتين الرئيسيتين في الهند هما كرة القدم والكريكيت. وكما هو الحال في الغرب، كرة القدم لها شعبية كبيرة بين الطبقات العاملة. وكل المدن الصناعية الكبرى - بومباي ودلهي وبنجالور - بها دوريات مميزة تتضمن أندية ترعاها مؤسسات صناعية . كما تتم متابعة تلك الرياضة على نطاق واسع وتمارس على نحو نشط في جوا وكيرالا والبنجاب.
مع ذلك، فإن المركز الرئيسي لكرة القدم الهندية هي مدينة كلكتا. هناك، المنافسة الرياضية تسير جنبا إلى جنبا مع المنافسة السياسية. توجد هناك ثلاثة أندية كبيرة: نادي محمدان الرياضي، الذي يمثل منذ نشأته المسلمين، ونادي موهون باجان الذي أنشأته ودعمته الطبقات العليا البنغالية، ونادي شرق البنغال الذي تشجعه الطبقات الشعبية أكثر من الجانب الآخر للمقاطعة. تلعب تلك الأندية وأندية أخرى بعضها مع بعض في «الميدان»، وهو مساحة شاسعة من العشب الأخضر تقع وسط مدينة كلكتا.
منذ الثلاثينيات وحتى أوائل الثمانينيات، ربما تعد كرة القدم الموضوع الأكثر شغفا في مناقشته في كلكتا، حتى أكثر من السياسة أو الدين. فكل من الأندية الكبرى له آلاف المشجعين الذين كانوا يتماهون عاطفيا مع أنديتهم على نحو مساو مع جمهور أندية كرة القدم الأوروبية. وكثيرا ما وقعت أحداث عنف أثناء المباريات وبعدها. ولكن بعد بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 1982، بدأ الاهتمام الشديد باللعبة في الخفوت. كانت هذه أول بطولة بهذا الحجم تذاع تليفزيونيا في الهند، ولأنها نبهت مشجعي الكرة في كلكتا للفجوة بين لاعبيهم الكبار المحليين والنجوم الدوليين المهرة، فجعلتهم يتحولون عن تشجيع أنديتهم المحلية. واستمر هذا الاتجاه؛ فبعد عشرين عاما لاحقة، أفلت شعبية كرة القدم في البنغال لتحل ثانية وبفارق كبير بعد رياضة الكريكيت.
هذا صحيح أيضا في باقي أنحاء الهند؛ فالكريكيت رياضة تعتمد على حركة الرسغ وليس على حجم الجسم أو اللياقة البدينة؛ فيمكن للفرد القصير ممتلئ الجسم أن يمارسها بكفاءة. بالتالي، يستطيع الهنود الدخول في منافسة مع أفضل لاعبي الكريكيت في العالم. كما يناسب الإيقاع البطيء للعبة، وما يتخللها من مقاطعات، الهنود الذين يفضلون الذهاب في جماعات إلى المباريات، حتى إنهم يدخلون في حوار ومزاح بعضهم مع بعض ومع اللاعبين.
في عام 1983، فازت الهند ببطولة العالم للكريكيت. تزامن هذا الانتصار مع انتشار القنوات الفضائية، مما أدى لنشر اللعبة في المدن الصغيرة ومنازل الطبقات العاملة. وعبر عقد الثمانينيات وما بعده، أخذت شعبية اللعبة في الازدياد على نحو منتظم. وحقق لاعبان هنديان، صانيل جافاسكار وساتشن تندولكر، رقمين قياسيين في ضرب الكرة، وأصبح كابيل ديف لبعض الوقت أفضل رامي كرة مع تحقيقه لمعظم النقاط في منافسات اختبار الكريكيت. كما اتسعت القاعدة الاجتماعية للعبة؛ فزاد عدد اللاعبين المنضمين للفريق الوطني الهندي من مدن أصغر، كما أن النساء على وجه الخصوص كن يشاهدن المباريات بأعداد كبيرة.
في مطلع القرن الحادي والعشرين، عادلت رياضة الكريكيت الأفلام من حيث الشعبية والاهتمام الجماهيري. وأصبح بعض لاعبي الكريكيت أغنياء ومشهورين مثل نجوم السينما. وكانوا كثيرا ما يظهرون على شاشات التليفزيون، سواء وهم يمارسون اللعبة أو وهم يقدمون إعلانات عن مختلف أنواع المنتجات، بدءا من معجون الأسنان وحتى السيارات الفارهة.
تأثرت مشاعر الهنود في مجال الرياضة بالمشاعر القومية؛ فأكثر خصمين كانوا لا يحبونهما أو حتى كانوا يكرهونهما كانا هما إنجلترا، المستعمر القديم، وباكستان، الخصم الجديد في شبه القارة الهندية؛ فالانتصار على أي منهما يضمن حصول اللاعبين على مكافآت نقدية محترمة وترحيبا شعبيا كبيرا ولقاء مع رئيس الوزراء.
في أعقاب هدم مسجد بابري والحرب في كارجيل والتمرد في كشمير، كانت مباريات الكريكيت بين الهند وباكستان أشبه بمعركة ضارية يخوضها بقوة وحماس ليس فقط اللاعبون وإنما أيضا عقول من يتابعونهم ويشجعونهم. فكان الجمهور الذي يتابع أي مباراة بين الهند وباكستان من التليفزيون يصل لنحو 300 مليون شخص، وكانت المباراة بالنسبة لمعظمهم حربا حقيقية. وأسوأ ما في هذا العداء هو أنه كان يثير الضغائن ضد المسلمين الهنود الذين كان الأصوليون الهندوس يتهمونهم بتشجيع باكستان سرا. على سبيل المثال، عندما هزمت الهند باكستان في بطولة العالم لعام 2003، خرج سكان بنجالور إلى الشوارع بأعداد كبيرة ليعبروا بقوة عما يجيش بصدورهم «مطلقين الألعاب النارية وقد تعالى صياحهم وصفيرهم وتشجيعهم وهتافهم «المجد للهند الأم» في الهواء». لكن في أحمد أباد، تحول الاحتفال بالنصر لشغب طائفي بعد اتهام المحتفلين لبعض الطلاب المسلمين بالاحتفال بتحقيق باكستان لنقطة في المباراة.
44
في العام التالي، لعبت رياضة الكريكيت دورا مثيرا في الانتخابات العامة؛ ففي وقت الحملات الانتخابية، كان المنتخب الهندي يلعب ويفوز في باكستان، وكان أحد أبرز لاعبيه مسلما من أوتر براديش يدعى محمد كيف. وحيث إن تلك الولاية كان لها 79 مقعدا في البرلمان، فكانت مفتاح الانتصار في الانتخابات، لكن سكانها من المسلمين الذين كانوا يمثلون عددا كبيرا من تعدادها نادرا ما صوتوا لحزب بهاراتيا جاناتا. وبالنسبة لحزب كان يحاول إبعاد الصورة الشوفينية الهندوسية عن نفسه، كان هذا الانتصار في رياضة الكريكيت بمنزلة هبة من الآلهة؛ ففي خطب رئيس الوزراء أتل بهاري فجبايي في أوتر براديش، أثنى على «الدور الكبير الذي قام به أحد أبنائكم، محمد كيف»، وتنبأ قائلا: «يعلم الرب مدى المكانة الكبيرة التي سيصل إليها في المستقبل»، قبل أن يطلب من المسلمين من الحضور التصويت لحزبه. وحث المسلمين على الوثوق في حزبه قائلا: «إننا في وضع يسمح لنا بحمايتهم.»
في النهاية، لم يصوت المسلمون لحزب السيد فجبايي، الذي خسر منصبه في نهاية الأمر. لكن سعي رئيس الوزراء لاستغلال مكانة أحد لاعبي الكريكيت من أجل مصلحة حزبه يشهد بالأهمية غير العادية للعبة بالنسبة للهند والهنود.
45
9
كان من أهم الوسائل المساعدة لأشكال الترفيه المختلفة السابقة الإذاعة، ولاحقا التليفزيون. بدأت أولى شركات البث الإذاعي عملها في الهند في عشرينيات القرن الماضي، وسرعان ما استحوذت عليها الإذاعة المملوكة للدولة «أول إنديا راديو» التي احتكرت المجال لعدة عقود. وأشرفت تلك الإذاعة الحكومية على شبكة واسعة النطاق من القنوات، التي خدمت مجتمعة تقريبا كل أنحاء شبه القارة الهندية، فيما عدا الغابات والصحاري والجبال.
أعرب أحد أعضاء الحركة القومية الهندية البارزين عما تأمله الدولة بشأن تلك الإذاعة قائلا إنها تسعى «ليس فقط لتقديم مواد ترفيهية وإنما لتنوير القرويين والسمو بأرواحهم».
46
كانت معظم القنوات التي تبثها تلك الإذاعة تبدأ بثها في الفجر بترنيمة دعاء وتنهيه في منتصف الليل بتقرير عن أخبار الطقس. كانت البرامج تتخللها مقطوعات موسيقية - سواء كلاسيكية أو شعبية أو خاصة بأحد الأفلام - أثناء عرضها للقصص أو المسرحيات أو الأخبار أو الفقرات الخاصة بالنساء والأطفال والمستمعين القرويين. كما كانت توجد برامج للتوعية الصحية والزراعية. وكان يقدم خليط رائع من الموضوعات، مما سمح للمستمعين بانتقاء ما يريدون حسب أذواقهم واحتياجاتهم.
في عام الاستقلال، عام 1947، كانت صناعة الراديو الهندية تنتج فقط 3 آلاف جهاز راديو في العام. وزاد هذا العدد إلى 60 ألفا عام 1951، وما يصل إلى 150 ألفا عام 1956. وبحلول عام 1962، كانت الإذاعة تبث برامجها عبر أكثر من ثلاثين قناة، ولنحو 100 ألف ساعة سنويا. وبعد عقد لاحق، كان هناك ما يقدر ب 15 مليون جهاز راديو قيد الاستخدام، كان بالطبع يستمع أكثر من مستمع واحد إلى الكثير منها.
47
لعقد بعد الاستقلال، كان الوزير المسئول عن الإعلام والبث هو الدكتور بي في كيسكار، وهو عالم كان لديه اهتمام عميق بالثقافة الهندية الكلاسيكية إلى جانب احتقار شديد لأشكالها الحديثة المختلفة. وفي خطبة له عام 1953، قال:
الموسيقى الكلاسيكية في أسوأ أيامها وهي على وشك الاختفاء في شمال الهند. لم يعد الناس يستمعون إليها، وهذا ليس خطأ الناس ولكن نتيجة لظروف تاريخية؛ ففي الماضي، كان يدعمها الأمراء والسردارات، ولكن هذا الدعم انتهى تقريبا. وخلال 150 عاما الأخيرة، كنا تحت حكم البريطانيين الذين ما كان لهم أن يفهموا ويدعموا الموسيقي الهندوستانية ... المشكلة الأساسية التي يواجهها الموسيقيون وإذاعة «أول إنديا راديو» هي إعادة ربط الناس بالموسيقى الكلاسيكية. علينا أن نعرفهم بموسيقانا القديمة ونجعلهم أكثر تذوقا لها.
48
في أواخر الثلاثينيات، بدأت إذاعة «أول إنديا راديو» بالفعل في تعيين موسيقيين كلاسيكيين ضمن طاقم عملها. صنف الفنانون حسب أعمارهم وقدراتهم وخبراتهم، وكلفوا بالعمل في أقرب قناة لمحل إقامتهم. وكان المتوقع منهم تقديم المشورة حول البرامج، إلى جانب تقديم فقرات موسيقية على نحو منتظم. وبحلول أواخر الخمسينيات، بلغ عدد المعينين في الإذاعة نحو 10 آلاف موسيقي، الذين كانوا منتمين للنمطين الموسيقيين الكلاسيكيين سواء الهندوستاني أو الكارناتاكي، وكان من بينهم بعض من أهم الفنانين في ذلك الوقت، من أمثال علي أكبر خان وبسم الله خان ومليك أرجون منصور وإيماني شانكار ساستري.
معظم القنوات كانت تقدم ساعات عديدة من الموسيقى الكلاسيكية كل يوم. وفي ليلة السبت، كان يقدم البرنامج الموسيقي الوطني البارز حيث يعزف أو يغني فنان واحد لمدة تسعين دقيقة كاملة. ونظمت الإذاعة كل عام مهرجانا يدعى «سانجيت ساملين» ضم حفلات موسيقية حية تقدم في البلدات والمدن عبر أنحاء الهند. وتوفر تسجيلات تلك الحفلات المادة اللازمة للاحتفاء على مدى شهر بالموسيقى الكلاسيكية الهندية في الإذاعة.
وإلى جانب حب الوزير بي في كيسكار للأجناس الموسيقية الكلاسيكية، كان يبغض بوجه خاص الأفلام وموسيقاها. وللسنوات القليلة الأولى في منصبه، حظرت الموسيقى الشعبية في الإذاعة. ولحسن الحظ، تغيرت الرؤي وأطلقت الإذاعة قناة خاصة، تدعى «فيفيد بهاراتي»، خصصت بالكامل لموسيقى الأفلام. وسرعان ما انتشرت تلك القناة في ملايين المنازل وجذبت إعلانات تجارية جعلتها تغطي نفقاتها.
49
لو لم تكن إذاعة «أول إنديا راديو» موجودة، فربما ما كان للموسيقى الكلاسيكية الهندية أن تبقى بعد انتهاء حكم الأمراء. لكن تلك الإذاعة لعبت أيضا دورا أوسع في دعم التكامل الوطني عن طريق ربط الثقافة الشعبية بالثقافة الرفيعة والمناطق المختلفة بالدولة. وكان أقل ما تقدمه جاذبية هو نشرات الأخبار التي كانت تعرض أخبار كل الأحداث، سواء الوطنية أو الدولية، من منظور الحزب الحاكم، وكانت الدعاية التي تقدمها حتى أقل قبولا بسبب الإيقاع الرتيب الذي كانت تعرض به.
بداية من أوائل السبعينيات، بدأ التليفزيون ينضم للإذاعة كمصدر رئيسي للترفيه والدعاية. كان التركيز في البداية على الجانب الدعائي، سلطت البرامج في التليفزيون الوطني المسمى «دوردارشان» الضوء على إنجازات الحكومة وحثت المواطنين على إنتاج المزيد من الطعام والصلب. وبحلول الثمانينيات، اكتشف التليفزيون مزايا البرامج التي ترعاها السوق وليس الدولة. وكان مسلسلا «رامايان» و«مهابهاراتا» من أولى المسلسلات المعروضة على التليفزيون وقد جذبت ملايين المشاهدين، إلى جانب ملايين الروبيات من الإعلانات. وتبع ذلك المسلسلات الدرامية التي تعرض للأحداث التي تمر بها أسرة معينة وذلك على مدار خمسين حلقة أو أكثر. (من أولى المسلسلات الناجحة في هذا المجال مسلسل «الأساس» الذي يحكي قصة أسرة من لاهور تعيش حياة جديدة في الهند بعد التقسيم.) وبينما كان المشاهدون يستمتعون بما يقدم على شاشة التليفزيون، كانت الدولة تحقق أرباحا ضخمة؛ ففي عقد واحد فقط، فيما بين عامي 1975 و1985، زادت عوائد التليفزيون ستين ضعفا.
50
في التسعينيات، فتح مجال البث أمام الشركات الخاصة. وعلى الرغم من انطلاق القنوات التي على تردد موجة إف إم في المدن، فكان أهم المستفيدين من هذا التحرر القنوات التليفزيونية التي انتشرت بمعدل مذهل، وبكل لغات الهند. وبحلول عام 2000، كانت توجد أكثر من مائة قناة خاصة قيد التشغيل. بعضها كان متخصصا جدا، يغطي فقط مجال الرياضة أو الأعمال أو السينما أو الأخبار، في حين كانت أخرى تقليدية أكثر في أسلوبها؛ فغطت كل هذه المجالات وغيرها. كانت هذه سوقا شديدة التنافسية، ارتفع فيها معدل خروج الداخلين الجدد فيها وزاد الصراع على اجتذاب العاملين فيها. كما أن الجمهور أصبحت لديه خيارات متعددة؛ فبعد أن كانت لديه قناة تليفزيونية واحدة مملوكة للدولة، أصبحت لديه مجموعة متنوعة من البدائل.
10
قال الناقد تشيداناندا داس جوبتا ذات مرة: «السينما الشعبية الهندية ... لا تتحدث باللغة العالمية للسينما ولكن بلهجة محلية غير مفهومة بالنسبة لمعظم الدول في العالم.»
51
ربما تحدث داس جوبتا هنا بصفته صديقا لشوتوجيت راي وكاتب سيرته الذاتية، وعن البنغال التي كانت معاييرها الفنية تميل لأن تكون مختلفة عن تلك السائدة في أجزاء أخرى من الهند (أو أرقى منها). في واقع الأمر، منذ البداية، كان الفيلم الهندي أيضا يروق لجمهور غير هندي ويندمج معه.
كان أحد الرواد في هذا الشأن راج كابور، سليل أشهر أسرة سينمائية في الهند. (كان أبوه، بريتفيراج كابور، ممثلا مسرحيا وسينمائيا شهيرا، وكان أخواه، شاشي وشامي، نجمين سينمائيين بارزين، وهكذا الحال لولديه وأولادهما.) يعد راج كابور على نحو ما تشارلي شابلن الهند، حيث كان يلعب دور الصعلوك في الأفلام التي يخرجها بنفسه.
52
وكون شراكة لا تنسى مع الفنانة الجميلة نرجس، التي شاركها التمثيل في 17 فيلما. وعندما كانا يصلان حفل افتتاح أحد أفلامهما في كلكتا، كان يحيط بهما «حشد كبير من الشباب الصغير الراغبين في الحصول على توقيعاتهما».
53
وقد لاقا نفس الترحيب الحافل في الاتحاد السوفييتي؛ فعندما ذهبا إلى هناك عام 1954 ومرة أخرى عام 1956، اصطف المحاربون القدماء من الحروب القيصرية كي يسلموا عليهما، وقالت لهما امرأة حامل من الجمع إنها سوف تسمي طفلها راج إذا كان ولدا أو نرجس إن كانت بنتا.
54
كان الفيلم الذي عد الانطلاقة الكبرى لراج هو فيلم «المتشرد» الذي ظهر قرب نهاية عام 1951، والذي لعب فيه دور متشرد جذاب أجبرته الظروف العائلية على الدخول في عالم الجريمة. كتب الناقد الفني في صحيفة هندية رفيعة المستوى تصدر باللغة الإنجليزية مزدريا «التصنع المتكلف» للفيلم، وكيف أن «سعيه المستمر للتصنع» قد «دمر الجانب الواقعي في القصة ونزع أهم ما يميزها».
55
مع ذلك، أقبل عليه الجمهور بشدة، وليس هذا في الهند فحسب؛ فعندما زار كاتب سيناريو الفيلم الاتحاد السوفييتي، اكتشف أن «كل الفرق الموسيقية والأوكسترالية كانت تعزف مقطوعات موسيقية من هذا الفيلم، وكان المراهقون الروس والأوكرانيون والجورجيون يغنون أغانيه في جماعات، وكان يمكن للمرء مقابلة أشخاصا يفتخرون بأنهم شاهدوا الفيلم عشرين أو ثلاثين مرة. في مجمل تاريخ السينما السوفييتية، لم يحظ فيلم بمثل تلك الشعبية، ولم يحظ فيلم أو نجم سينمائي بمثل تلك الشهرة في وقت قصير كهذا».
56
حظيت الأفلام الهندية بشعبية كبيرة في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. وكان على عالم أنثروبولوجيا يقوم بعمل ميداني في قرية ملايوية أن يأخذ مبحوثيه كل أسبوع لأقرب سينما ليروا ما يطلقون عليه ببساطة «الهندي».
57
وفي اليابان، كانت أفلام النجم التاميلي راجنيكانت، لبعض الوقت، هي الرائجة.
الأمر الأقل إثارة للدهشة هو شعبية الأفلام الهندية في دول لها نفس الثقافة المتنوعة. اكتشف سائح أمريكي في باكستان أن الشخص المحب للموسيقى، سواء في الحافلات العامة أو المنازل، يميل للاستماع لموسيقى الأفلام الهندية. فقد انتشرت شرائط الكاسيت المقلدة الخاصة بتلك الموسيقى في كل مكان، وهكذا الحال بالنسبة لأقراص الدي في دي المقلدة الخاصة بأحدث الأفلام الهندية المحظور عرضها رسميا في باكستان لحماية صناعة السينما الوطنية.
58
وإذا تحركنا للغرب أكثر، لأفغانستان، فنجد أن جماعة طالبان الحاكمة هناك حظرت كل أشكال الموسيقى. ولكن عندما سقطت، نقل أن أكثر الأعمال رواجا كان حلق اللحى على يد الحلاقين وبيع صور نجوم السينما الهندية على يد الباعين. وأصبحت أغاني لاتا مانجيشكار ومحمد رافي تسمع مرة أخرى في المنازل في كابول. والشيء الأكثر جرأة أن الشباب والشابات الصغار ألهمتهم الأفلام الهندية اختيار شركاء حياتهم بأنفسهم، في انتهاك كبير للعادات والتقاليد الأسرية. وقد حاصر إحدى المحاكم في كابول كم كبير من القضايا التي رفعها هؤلاء، الذين طالبوا بأن يسمح لهم بالزواج بدون إذن آبائهم.
59
ومؤخرا، أصبح للأفلام الهندية سوق في غرب أوروبا وأمريكا الشمالية، وذلك على نحو رئيسي فيما أصبحت الآن المجتمعات الغنية والكبيرة للشتات الهندي؛ ففي عام 2000، كانت هناك أربعة أفلام هندية ضمن أعلى عشرين فيلما مشاهدة في العام في المملكة المتحدة .
60
وبعد ذلك بثلاث سنوات، ذكرت مجلة «تايم» أن جمهور الأفلام الهندية على مستوى العالم تجاوز على نحو كبير جمهور أفلام هوليوود؛ حيث وصل عدد الأول إلى 3,6 مليارات مشاهد، متجاوزا جمهور الثاني بمليار مشاهد.
61
نظرا لهذا النمو المتزايد في حجم الجمهور المتابع للأفلام الهندية خارج الهند ومواكبة للتغيرات في الأعراف داخلها، حدثت تغيرات كبيرة في شخصيات الأفلام وموضوعاتها. فأصبحت الملابس الغربية الآن أكثر شيوعا، و«حالات الزواج عن حب» أكثر قبولا. وأصبحت شخصية المرأة اللعوب لا ضرورة لها، حيث إن البطلة لم تعد نقية وسذاجة، بل أصبحت قادرة على صنع المكائد وإغواء الرجال. كما أن الأفلام أصبحت تحتفي الآن دون خجل بعالم الأثرياء؛ ففي الماضي، حتى لو لم يكن البطل فقيرا أو عاطلا، فكان يميل للتماهي مع المطحونين. لكن الفيلم الهندي الآن أصبح أشبه ب «حفل للأغنياء»، والجمهور «مدعو للمشاهدة، من بعيد».
62
في العام الأول من الألفية الجديدة، أزيح الستار عن تمثال من الشمع لأميتاب باتشان في متحف مدام توسو في لندن. كان هذا تكريما أكبر من اختياره «فنان القرن» من قبل البي بي سي، في استطلاع للرأي تأثر بالتصويت الجماعي الجنوني للهنود. ومع ذلك، ليس باتشان هو واجهة صناعة السينما في مرحلتها العالمية الجديدة وإنما بعض الممثلين الصاعدين الأصغر سنا. ومن بين هؤلاء الممثلة آشواريا راي، ملكة جمال العالم السابقة التي اعتبرتها الممثلة جوليا روبرتس «أجمل امرأة في العالم». ظهرت راي على غلاف الطبعة الآسيوية من مجلة «تايم»، وكانت عضوة في لجان تحكيم مهرجانات سينمائية عالمية، وسعى أبرز مخرجي هوليوود لإقناعها بالعمل معهم. هناك أيضا الممثل شاروخان الذي يعد أنجح نجم سينمائي في جيله، حيث كانت جولاته الغنائية وندواته في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية ناجحة على نحو كبير، وحضرها آلاف الهنود والإيرانيين والأفغان والعرب، وكذلك عدد متزايد من القوقازيين.
هناك نجم عالمي متميز آخر هو الملحن إيه آر رحمان، صاحب الموهبة العبقرية الذي لحن أولى أغانيه السينمائية وهو لا يزال في العشرينيات من عمره. بدأت شهرة رحمان في السينما الناطقة باللغة التاميلية قبل أن يتحول للسينما الناطقة باللغة الهندية. نشأ رحمان (بمساعدة والده الموسيقي) على النمط الكارناتاكي من الموسيقى الهندية الكلاسيكية، وكان بارعا في مزجه بإيقاعات وآلات موسيقية من أجزاء أخرى من العالم. وفي عام 2002، طلب إليه أندرو ليود ويبر وضع موسيقى مسرحيته الموسيقية «أحلام بومباي». وبعد نجاح المسرحية في أحد مسارح وست إند في لندن، عهد إليه المشاركة في وضع موسيقى أول معالجة مسرحية كبرى لعمل جيه آر تولكين «ملك الخواتم»، في إنتاج ميزانيته بلغت 27 مليون جنيه إسترليني، وبلغ أجر المؤلفين الموسيقيين فيه عشر هذا المبلغ. وفي عام 2004، طلب إليه تقديم حفلين موسيقيين مع أوركسترا برمنجهام السيمفونية التي قاد الحفل الموسيقي الافتتاحي لها السير إدوارد إلجار.
63
هناك نجم آخر لا بد أنه كان سيفتخر بنجاح رحمان وهو التاميلي إس فاسان؛ ففي عام 1955، ناشد المتشددين في دلهي التخلي عن «تحاملهم على السينمائيين». وحاجج بأن «الترويح والترفيه لهما تقريبا نفس أهمية الطعام واللباس والمأوى». وقال إنه إذا كانت «الشخصيات العامة تعمل من أجل منفعة الناس، فإن رجال الفن، في حقيقة الأمر، يعملون من أجل إمتاع الناس».
64
في ذلك الوقت، كان جانبا عبارته صحيحين، لأن الشخصيات العامة الموجودين حينها كانوا يضمون جواهر لال نهرو وبي آر أمبيدكار. وبعد خمسين عاما، أصبح الجانب الثاني هو الصحيح فقط؛ ففي حين أن الشخصيات العامة يعملون الآن بنحو أساسي من أجل مصالحهم الخاصة، فإن «رجال الفن» في الهند - الذين يجب أن يتضمنوا، إلى جانب الممثلين، المطربين والملحنين، سواء النساء منهم أو الرجال - ما زالوا يعملون بإبداع من أجل إمتاع جمهورهم الآخذ في الزيادة.
خاتمة
أسباب بقاء الهند
ربما يحاول السيخ إقامة دولة منفصلة لهم. أعتقد أنهم ربما سينجحون في ذلك وستكون هذه مجرد بداية للامركزية عامة ونهاية لفكرة أن الهند دولة، في حين أنها شبه قارة متعددة الدول مثل أوروبا؛ فالبنجابي مختلف تماما عن المدراسي، كما يختلف الاسكتلندي عن الإيطالي. لقد حاول البريطانيون توحيدها لكنهم لم يحققوا نجاحا تاما في هذا الشأن؛ فلا يمكن لأحد أن يصنع أمة من قارة مكونة من دول متعددة.
الجنرال كلود أوكينلك، كاتبا عام 1948
ما لم تسقط روسيا أولا، فإن الهند - أو لتقل إذا شئت، هندوستان - في خطر كبير للتحول للشيوعية في المستقبل القريب.
السير فرانسيس توكر، كاتبا عام 1950
بمرور الأعوام، الحكم البريطاني للهند سيصبح ضربا من التاريخ شأنه شأن معركة أجينكور.
مالكوم ماجيريدج، كاتبا عام 1964
ما كان لكثير من المتابعين لجنازة إنديرا غاندي عام 1984 أن يتوقعوا أنه بعد عشر سنوات ستحافظ الهند على وحدتها وسيصبح الاتحاد السوفييتي في طي النسيان.
روبن جيفري، كاتبا عام 2000
1
تضمنت المجلة الأمريكية «ذي أتلانتك مانثلي»، في عددها الصادر في فبراير من عام 1959، تقريرا غير موقع عن دولة باكستان. كان الجنرال أيوب خان قد استحوذ حينها منذ فترة قريبة على السلطة في انقلاب عسكري. ذكر المراسل الصحفي الكاتب للتقرير أن ما كان ينقص باكستان هو «السياسيون، الذين أبعدوا عن الحياة العامة، حتى إن مجرد ذكر أسمائهم أصبح أمرا بغيضا. وحتى السياسة في المطلق اختفت. ويبدو أن الناس لم يعودوا مهتمين بالنقاش حول مسألة الاشتراكية في مقابل الاقتصاد الحر أو اليسار في مقابل اليمين. يبدو الأمر بالنسبة لهم كما لو أن مثل هذه الجدليات، شأنها شأن أشكال الديمقراطية البرلمانية، كانت مجرد أشياء ورثوها، طوعا أو كرها، من الغرب ويمكنهم الآن الاستغناء عنها».
اعتقد هذا المراسل أن «الفلاحين الباكستانيين يرحبون بالتغيير الذي حدث في النظام لأنهم يريدون السلام». ولاحظ رجوع النظام والقانون إلى الريف، وتحجيم المهربين وتجار السوق السوداء. وكتب يقول إن «المقهورين في باكستان» ممتنون لما فعله الجيش، وأضاف: «في أي بلد فقير ... يقاس نجاح أي نظام بسعر القمح والأرز»، زاعما أن هذا السعر قد انخفض مع تولي أيوب مقاليد السلطة.
لا يخجل المراسلون الأجانب من إصدار تعميمات، حتى لو كانت قائمة على زيارة واحدة قصيرة لدولة واحدة غير ممثلة تماما لما يقولونه. ومراسل المجلة السابق ليس استثناء في هذا الشأن؛ فمن خلال ما رآه - أو ظن أنه رآه - في باكستان توصل للدرس المستفاد العام التالي : «حاولت العديد من الدول المستقلة حديثا في آسيا وأفريقيا تقليد النظام البرلماني البريطاني. وأثبتت التجربة فشلها في السودان وباكستان وبورما، في حين يتعرض النظام لضغط شديد في الهند وسيلان. يمكن بحماس متابعة التجربة الباكستانية [مع الحكم العسكري] وهي تتكرر في آسيا وأفريقيا.»
بعد 40 عاما، نشرت نفس المجلة تقريرا آخر عن دولة باكستان. حينها، تحولت باكستان من الدكتاتورية إلى الديمقراطية ثم مرة ثانية للحكم العسكري. وكانت حينها قد قسمت، مع انفصال جناحها الشرقي ليكون دولة ذات سيادة تحت اسم بنجلاديش. وكانت قد خاضت بالفعل ثلاث حروب، كلها بدأها الجنرالات الذين تمنى الفلاحون أن يجلبوا معهم السلام.
كان هذا التقرير الجديد موقعا باسم روبرت دي كابلان، وهو أشبه بمتخصص متجول في الصراعات العرقية وتفكك الدول القومية. قدم كابلان صورة سلبية جدا لباكستان؛ من عدم سيادة للقانون والصراعات العرقية (السنة في مقابل الشيعة، والمهاجرين من الهند في مقابل السنديين، والبلوشستانيين في مقابل البنجابيين، وغير ذلك) والتفاوتات الاقتصادية وحتى تدريب الجهاديين وجماعة أسامة بن لادن.
اقتبس كابلان عبارة لمفكر باكستاني يقول فيها: «لم نعرف أنفسنا قط بمنأى عن الآخرين؛ فنحن نعرفها فقط بالنظر للهند. وهذه هي مأساتنا.» واعتقد المراسل الصحفي نفسه أن باكستان «قد تكون يوغوسلافيا في تكوينها، لكن مع اختلاف امتلاكها لأسلحة نووية». فكما هو الحال بالنسبة ليوغوسلافيا، عكست باكستان «تراكما مدهشا للغاية من الفوضى واللاعقلانية». وخلص إلى أن «الحكومات العسكرية والديمقراطية في باكستان فشلت، وذلك رغم مرور أكثر من نصف قرن على الديمقراطية في الهند دون حدوث انقلاب عسكري واحد».
1
ربما لم يقرأ كابلان التقرير الذي قدمته نفس المجلة عن باكستان قبل أربعين عاما والذي اختلف اختلافا جذريا عن تقريره. المثير للدهشة أيضا هو الاختلاف في التقييمات التي قدمتها المجلة لتجربة الهند؛ ففي عام 1959، أشفقت على الهند لتحولها لدولة ديمقراطية عندما كان ربما من الأفضل لها أن تصبح دولة دكتاتورية عسكرية. وفي عام 1999، اعتقدت المجلة أن الديمقراطية كانت الفضيلة الوحيدة للهند.
وبعد عامين، دمر مركز التجارة العالمي في نيويورك. ومع محاولات القوى الغربية فرض الديمقراطية بالقوة في أفغانستان والعراق، حاز سجل الهند في دعم الديمقراطية من الداخل على تقدير جديد؛ ففي أبريل من عام 2004، عندما عقدت الهند انتخاباتها العامة الرابعة عشرة، أشار الباكستانيون أنفسهم إلى التناقض بين وضع بلادهم والوضع في الهند. كتب أياز أمير، صحفي من كراتشي، يقول: «الهند تذهب لصناديق الاقتراع والعالم يراقب. وباكستان تدخل في حلقة أخرى من الإدارة السلطوية، والعالم يراقب، ولكن بعيون مستاءة. هل نحن أغبياء للغاية بحيث لا نلاحظ هذا الفرق؟» واستمر في تحليله قائلا: «متى سنفيق؟ متى سنتعلم؟ متى سندرك أن ما يجعل الهند متفوقة علينا ليس مساحتها ولا عدد سكانها ولا السياحة بها ولا صناعة تكنولوجيا المعلومات فيها، وإنما ديمقراطيتها؟»
2
2
في انتخابات عام 2004، مارس 400 مليون ناخب هندي حقهم الانتخابي. وكان هناك توقع على نطاق واسع بأن الائتلاف الحاكم، بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا، سيفوز بفارق كبير، وأثار هذا التوقع المخاوف بشأن إحياء الأجندة الخاصة بالحركة القومية الهندوسية. لكن ما حدث هو أن التحالف التقدمي المتحد، الذي يقوده حزب المؤتمر، تحدى استطلاعات الرأي وفاز بالانتخابات. واعتبر هذا من أوجه مختلفة انتصارا للعلمانية، وثورة الرجل العادي على الأغنياء وتأكيدا للسيطرة المستمرة لفكر نهرو وغاندي على المخيلة الشعبية. لكن في السياق الأكبر للتاريخ العالمي، المهم ليس هو سبب انتخاب الهنود لهذا التحالف، وإنما حقيقة أنهم ذهبوا جميعا لصناديق الاقتراع. لقد وصفت انتخابات عام 1952 بأنها «أكبر مقامرة في التاريخ»، ومنذ ذلك الحين، بدأ نعي الديمقراطية الهندية. قيل، مرارا وتكرارا، إن دولة فقيرة ومنقسمة ومتنوعة مثل الهند لا يمكنها الاستمرار في عقد انتخابات حرة ونزيهة (إلى حد معقول).
غير أن الهند استطاعت أن تفعل هذا. وفي تلك الانتخابات العامة الأولى، كان معدل الناخبين أقل من 46٪. وبمرور السنوات، أخذت تلك النسبة تزيد بانتظام؛ فبداية من أواخر الستينيات، أصبح نحو ثلاثة من كل خمسة هنود لهم حق الانتخاب (60٪) يذهبون لصناديق الاقتراع في يوم الانتخاب. وفي انتخابات المجالس التشريعية بالولايات، تميل هذه النسبة للزيادة على نحو أكبر. وبتفصيل هذه الأرقام، فإنها ستكشف لنا المزيد؛ ففي الانتخابات العامة الأولى والثانية صوت أقل من 40٪ من النساء اللائي لهن حق التصويت، وفي عام 1998 زادت النسبة عن 60٪. بالإضافة إلى ذلك، وكما أوضحت الاستبيانات، مارست النساء على نحو متزايد حقها الانتخابي «على نحو مستقل» أي دون النظر لرأي زوجها أو أبيها. ومن الفئات التي صوتت أيضا بأعداد كبيرة الداليت وأبناء القبائل، وهما القطاعان المقهوران والمهمشان في المجتمع. وفي شمال الهند، على وجه التحديد، ذهب الداليت لصناديق الاقتراع بأعداد تفوق كثيرا المنتمين للطوائف الاجتماعية العليا. وكما أشار المحلل السياسي يوجندرا ياداف: «ربما تعد الهند الديمقراطية الكبيرة الوحيدة في العالم اليوم التي معدل ناخبيها المنتمين للطوائف الدنيا يفوق كثيرا ذلك الخاص بالطوائف العليا.»
3
يتضح على نحو جلي حب الهنود للتصويت في الانتخابات من خلال مجموعة من القرى على الحدود بين ولايتي أندرا ومهاراشترا، التي انتهز سكانها فرصة إصدار حكومتي الولايتين بطاقات تصويت لهم وانتخبوا مرتين.
4
ويتضح أيضا من خلال فلاحي بيهار الذين يذهبون للانتخاب رغم تهديدات الثوريين الماويين. إن هؤلاء الماويين، الذين يعتبرون الانتخابات إحدى ممارسات النفاق البرجوازي، معروف عنهم أنهم يسودون وجوه القرويين المروجين للأحزاب السياسية، ويهددون المصوتين المحتملين بأنهم سيقطعون أرجلهم وأيديهم إذا ذهبوا لصناديق الاقتراع. رغم ذلك، وكما قال عالم أنثروبولوجيا يعمل في وسط بيهار: «يبدو أن التأثير الإجمالي لدعوات مقاطعة الانتخابات على عدد الناخبين يكاد لا يذكر.» ففي القرى التي كان للماويين فيها نشاط كبير لسنوات، «في واقع الأمر، كان ينظر ليوم الانتخاب باعتباره مناسبة مبهجة (وتقريبا احتفالية). وكانت النساء تذهبن لمراكز الاقتراع في مجموعات صغيرة، وهن يرتدين أردية باللونين الأصفر والأحمر الفاتحين ويدهن شعرهن بالزيت ويزينه بالدبابيس».
5
بالمثل، في أجزاء من الشمال الشرقي حيث تقل سلطة الدولة الهندية أو تكاد تكون منعدمة، لا يستطيع المتمردون منع القرويين من التصويت. وكما قال رئيس اللجنة الانتخابية بامتعاض: «الإسهام الصغير للجنة الانتخابية في وحدة البلد هو جعل تلك المناطق جزءا من البلد ليوم واحد فقط، يوم الانتخاب.»
6
تتضح مكانة الانتخابات في الهند من خلال عمق مداها واتساعه - حيث يشترك فيها كافة طوائف المجتمع الهندي بكل شرائحها - ومشاعر الشغف التي تثيرها وجانب الدعابة المحيط بها. هناك سجل غني جدا من الرسوم الكاريكاتورية المتعلقة بالانتخابات التي تسخر من الوعود التي يقدمها السياسيون المحتملون واستماتتهم للحصول على ترشيح الأحزاب وغير ذلك الكثير.
7
في أحيان أخرى، يمكن أن تكون الدعابة رقيقة أكثر منها ساخرة. تأمل التاريخ المهني لتاجر الأقمشة البوبالي، موهان لال، الذي نافس خمسة رؤساء وزراء مختلفين. تخيله وهو يسير في شوارع دائرته الانتخابية وهو يدق جرسا، مرتديا تاجا خشبيا وإكليلا من الزهور صنعهما بنفسه. وقد أخذ موهان يخسر باستمرار مبلغ التأمين الذي يدفع لدخول الانتخابات، وبالتالي استحق لقبا تسبب عن عمد في حمله وهو «دهارتي باكاد» (أي، البائس الراقد على الأرض). قال إن الفكرة من وراء ترشحه كانت «جعل الجميع يدركون أن الديمقراطية للجميع».
8
تتضح فكرة أن الانتخابات تسمح لكل الهنود بالشعور بأنهم جزء من الهند أيضا من خلال تجربة جوا. عندما انضمت تحت لواء الهند - أو أعيد ضمها - بالقوة عام 1961، كانت هناك العديد من التعليقات الساخطة في الصحافة الغربية. ولكن في حين أن سكان جوا عبر 400 عام من الحكم البرتغالي لم يسمح لهم أبدا باختيار قادتهم، أصبح باستطاعتهم ذلك في خلال عامين من الانضمام تحت لواء الدولة الهندية. قارن أستاذ العلوم السياسية بنديكت أندرسون بين تعامل الهند مع جوا وتعامل إندونيسيا مع تيمور الشرقية، وهي مستعمرة برتغالية أخرى «حررها» قوميون مسلحون قائلا:
أرسل نهرو قواته لتحرير جوا عام 1961 دون أن تراق نقطة دم واحدة. لكنه كان رجلا حكيما ورئيسا ديمقراطيا اختير بحرية كاملة؛ فقد أعطى سكان جوا حق اختيار حكومة ولايتهم وشجع انخراطهم الكامل في السياسة الهندية. ومن جميع النواحي، كان الجنرال سوهارتو النقيض التام لنهرو.
9
بالنظر لحجم الهيئة الناخبة، يزيد بشدة احتمال أن عدد المصوتين في الانتخابات الهندية يتجاوز عدد المصوتين في أي ديمقراطية أخرى. ونجاح الهند في هذا الشأن مدهش على نحو خاص عند مقارنته بسجل الصين الديمقراطي. صحيح أن عدد السكان في الصين أكبر، وهم أقل انقساما بكثير طبقا لتقسيمات عرقية أو دينية، وأقل فقرا بكثير، لكن لم تعقد هناك أبدا انتخابات ولو لمرة واحدة. في جوانب أخرى أيضا، الصين أقل حرية بكثير من الهند. فتدفق المعلومات مقيد بشدة؛ فعندما بدأ محرك البحث جوجل عمله في الصين في فبراير من عام 2006، كان عليه الموافقة على الخضوع لرقابة الدولة. كما أن تنقل الناس هناك مقيد أيضا؛ فغالبا ما يحتاج المرء للحصول على تصريح من الدولة كي يغير محل إقامته. أما في الهند على الجانب الآخر، فتستطيع الصحافة أن تكتب بنحو أو بآخر ما يحلو لها، ويستطيع المواطنون التعبير الصريح عما يشعرون به والعيش في أي مكان يريدونه والسفر لأي جزء من البلاد.
طالما كانت المقارنات بين الهند والصين مادة خام لتحليلات الباحثين. والآن وفي عالم يزيد الترابط بين أجزائه كل يوم، أصبحت تلك المقارنات شائعة أيضا في حديث الناس. في تلك المقارنات، قد تكسب الصين في الجانب الاقتصادي ولكنها ستخسر في الجانب السياسي. يحب الهنود الضرب على وتر «غياب الديمقراطية» لدى جارتهم، أحيانا على نحو مباشر وفي أحيان أخرى عبر أسلوب التلطيف أو التلميح. فعندما طلب من أعضاء الوفد الهندي في المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2006 تسويق الهند على نحو جيد، وصفوها على الدوام، سواء في حديثهم أو كتيباتهم أو ملصقاتهم، بأنها «أسرع «ديمقراطيات» العالم نموا».
إذا نظرنا لما يمكن أن نطلق عليها المكونات المادية للديمقراطية، فذلك الثناء الذاتي مستحق بالتأكيد. فالهنود يتمتعون بحرية التعبير والتنقل ولديهم حق الانتخاب. لكن إذا فحصنا المكونات غير المادية للديمقراطية، فستكون الصورة أقل إشراقا؛ فمعظم الأحزاب السياسية أصبحت مثل الشركات العائلية. ومعظم السياسيين فاسدون والكثير منهم ذو خلفية جنائية. وتراجع أيضا على نحو شديد أداء مؤسسات أخرى دورها محوري في عمل أي ديمقراطية وذلك بمرور الأعوام؛ فتتراجع بانتظام نسبة موظفي الخدمة المدنية أصحاب الفكر المستقل بحق، وهكذا الحال فيما يتعلق بنسبة القضاة الذين لديهم نزاهة تامة.
السؤال الآن: هل الديمقراطية في الهند حقيقية أو صورية؟ عندما يطرح علي هذا السؤال، عادة ما أذكر عبارة خالدة للممثل الكوميدي الهندي جوني ووكر؛ ففي فيلم لعب فيه ووكر دور صديق البطل، أجاب كل سؤال طرح عليه بالتعليق الآتي: «يا سيدي، خمسين-خمسين.» وعندما سأله عن احتمال زواجه بالمرأة التي يحبها أو حصوله على الوظيفة التي يرغب بها، أخبره بأن الفرص تقريبا متساوية: 50٪ للنجاح و50٪ للفشل.
هل الهند دولة ديمقراطية؟ حسنا، الإجابة هي «خمسين-خمسين». إنها في الغالب ديمقراطية فيما يتعلق بعقد الانتخابات والسماح بحرية التنقل والتعبير. لكنها في الغالب ليست كذلك فيما يتعلق بأداء الساسة والمؤسسات السياسية. مع ذلك، فإن كون الهند ديمقراطية بنسبة 50٪ يجعلها تتحدى التقاليد والتاريخ والمعتقدات السائدة. في الحقيقة، إنها، من خلال تجربتها، تعيد كتابة هذا التاريخ وتلك المعتقدات. وهذا ما جعل سونيل خلناني يرى أن انتخابات عام 2004 مثلت «أكبر ممارسة للانتخاب الديمقراطي في التاريخ الإنساني، التي لم تحدث من قبل في أي مكان آخر. من الواضح أن فكرة الديمقراطية، التي خرجت للوجود على جانب تل بأثينا منذ نحو 2500 عام، تطورت كثيرا، وأصبحت تشير اليوم لمجموعة متنوعة من المشروعات والخبرات السياسية. وضمنت الحياة المتنقلة لتلك الفكرة أنه لم يعد من الممكن كتابة تاريخ الأفكار السياسية الغربية على نحو متماسك من خلال التجربة التاريخية للغرب وحده».
10
3
غير تاريخ الهند المستقلة في نظريات الديمقراطية القائمة على تجربة الغرب. لكنه تحدى بصورة مباشرة أكثر أفكار القومية النابعة من التجربة الغربية.
في مقال يلخص فترة طويلة من الدراسة في هذا الموضوع، يرى إيزايا برلين أن «جرح المشاعر الجمعية لمجتمع، أو على الأقل لقادته الروحيين» يعد شرطا «ضروريا» لميلاد شعور قومي. لكن حتى يتحول هذا الشعور لحركة سياسية واسعة الانتشار أكثر، يتطلب الأمر «شرطا آخر»، وهو أن المجتمع «يجب، في عقول على الأقل بعض من أكثر أعضائه حساسية، أن يحمل صورة لذاته كأمة، على الأقل في أطوارها الأولى، تقوم بناء على عامل أو عوامل موحدة عامة؛ اللغة أو الأصل العرقي أو التاريخ المشترك (سواء الفعلي أو المتخيل)». ولاحقا في نفس المقال، علق برلين على الفكر السياسي للقرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين «المتمركز على نحو مثير للدهشة حول أوروبا»، حيث «ينظر لشعوب آسيا وأفريقيا باعتبارهم أتباعا أو ضحايا للأوروبيين، لكن نادرا، إن وجد، ما ينظر إليهم في حد ذاتهم باعتبارهم شعوبا لها تاريخ وثقافة خاصين بها، ولها ماض وحاضر ومستقبل يجب أن يفهم في ضوء شخصيتها وظروفها الفعلية».
11
وراء كل حركة قومية ناجحة في العالم الغربي كان هناك عامل موحد؛ شيء يجمع أعضاء الأمة معا. تمثل هذا العامل في لغة مشتركة أو عقيدة دينية مشتركة أو أرض مشتركة أو عدو مشترك، وأحيانا كل ما سبق. وهكذا، جمعت الأمة البريطانية شعبها معا على جزيرة باردة بناء على أن معظمه كان من البروتستانت ويكره فرنسا. وفي حالة فرنسا، اجتمع عاملا اللغة مع الدين بقوة. وبالنسبة للأمريكيين، عمل عاملا اللغة المشتركة والعقيدة الدينية المشتركة على نطاق واسع جنبا إلى جنب مع العداء تجاه المستعمرين. أما بالنسبة لأمم أوروبا الشرقية الأصغر حجما - البولنديين والتشيكيين والليتوانيين، وغير ذلك - فتوحدت شعوبها عبر لغة مشتركة أو معتقد ديني غالب أو تاريخ مشترك وشديد المرارة من الهيمنة عليها من قبل طغاة ألمان وروس.
12
بخلاف تلك الأمثلة (وأمثلة أخرى)، لا تفضل الأمة الهندية لغة أو معتقدا دينيا معينا. فعلى الرغم من أن غالبية مواطني الهند هندوس، فهي ليست أمة هندوسية؛ فدستورها لا يميز بين أفراد الشعب على أساس الدين، والأكثر أهمية، أن هذا كان هو الحال بالنسبة للحركة القومية التي وقفت وراء وضعه. منذ نشأة المؤتمر الوطني الهندي، كما يرى موكل كيسافان، كان بمنزلة سفينة نوح سياسية سعت لضم كل أطياف الهند على متنها.
13
وبني برنامج غاندي السياسي على التناغم والتعاون بين الجماعتين الدينتين الأكبر في الهند؛ الهندوس والمسلمين. وعلى الرغم من أن سعيه ونموذجه لم يمنعا في النهاية تقسيم الهند، فإن فشله جعل من خلفوه أكثر إصرارا على جعل الهند المستقلة جمهورية علمانية. بالنسبة لجواهر لال نهرو ورفاقه، إذا كانت الهند أي شيء على الإطلاق، فهي ليست «باكستان هندوسية».
كما هو الحال بالنسبة للديمقراطية الهندية ، فإن العلمانية الهندية تعد أيضا قصة تجمع بين النجاح والفشل؛ فاعتناق الفرد لدين ليس دين الأغلبية لا يعد حاجزا أمام تقدمه في مجال الأعمال أو المهن. أغنى رجل صناعة في الهند مسلم، كما أن بعضا من أشهر نجوم السينما الهندية مسلمون. وعلى الأقل ثلاثة رؤساء جمهورية وثلاثة رؤساء للمحكمة العليا مسلمون. وفي وقت تأليف هذا الكتاب، رئيس الهند مسلم ورئيس وزرائها سيخي وقائد الحزب الحاكم كاثوليكي ولد في إيطاليا. كما أن الكثير من أبرز محاميي الهند وأطبائها مسيحيون وبارسيون.
على الجانب الآخر، كانت هناك أعمال شغب دينية تحدث من آن لآخر، عانت الأقليات في أسوئها (كما في دلهي عام 1984 وجوجارات عام 2002) من خسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات. ومع ذلك، في المجمل، يبدو أن الأقليات ما زالت مؤمنة بفكرة الديمقراطية والعلمانية. لم ينضم سوى عدد قليل جدا من المسلمين الهنود لتنظيمات إرهابية أو أصولية. كما أن المسلمين الهنود يشعرون، حتى أكثر من رفقائهم في الوطن، أن آراءهم وأصواتهم الانتخابية مهمة. وجد استبيان حديث أنه في حين أن 69٪ من كل الهنود أيدوا فكرة الديمقراطية ودعموها، فإن 72٪ من المسلمين فعلوا هذا. كما أن عدد الناخبين المسلمين ارتفع عن ذي قبل.
14
كان بناء ديمقراطية في مجتمع فقير دائما مهمة صعبة. وزرع علمانية في بلد انقسم حديثا كانت مهمة أكثر صعوبة؛ فإقامة دولة إسلامية على حدود الهند استفز الهندوس الذين رغبوا في دمج الدين بالدولة. من وجهة نظري الشخصية - بصفتي مؤرخا وليس مواطنا - ما دامت باكستان موجودة، فسيظل هناك أصوليون هندوس في الهند. وفي أوقات الاستقرار أو عندما تكون القيادة السياسية حازمة، سيكون هؤلاء على الهامش أو في موقف دفاعي. لكن في أوقات التغيير أو عندما تكون القيادة السياسية مترددة، سيكونون مؤثرين وفي موقف هجومي.
كان تعدد الأديان أحد الأركان الأساسية التي قامت عليها الجمهورية الهندية، ويأتي بعد ذلك تعدد اللغات. وهنا أيضا النية والسعي سبقا الاستقلال؛ ففي العشرينيات، أعاد غاندي تكوين اللجان الإقليمية لحزب المؤتمر على أسس لغوية. ووعد الحزب بإنشاء ولايات لغوية بمجرد حصول البلد على حريته. ولم يتم الوفاء بهذا الوعد على الفور بعد عام 1947؛ لأن إقامة دولة باكستان أثارت المخاوف من حدوث مزيد من البلقنة. ولكن في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، اضطرت الحكومة للإذعان وإقامة ولايات على أساس اللغة.
خرجت الولايات اللغوية للنور منذ خمسين عاما. وطوال تلك الفترة، كان لديها انتماء عميق وراسخ للهند. وداخل كل ولاية منها، وفرت اللغة المشتركة الأساس للوحدة والكفاءة الإدارية، وأدت أيضا لازدهار الإبداع الثقافي، متمثلا في السينما والمسرح والأدب والشعر. ولكن نادرا ما تعارض افتخار الفرد بلغته مع انتمائه الأكبر للدولة ككل؛ فالحركات الانفصالية الثلاثة الكبرى في الهند المستقلة - في ناجالاند في الخمسينيات والبنجاب في الثمانينيات وكشمير في التسعينيات - كانت ذات طابع ديني وإقليمي وليس لغويا. وبالنسبة لباقي الولايات، ثبت أنه من الممكن - وفي الواقع، من المستحب - أن يكون المرء هنديا إلى جانب كونه كاناديا أو مالايالاميا أو أندريا أو تاميليا أو بنغاليا أو أوريا أو مهاراشتريا أو جوجاراتيا.
تتضح فكرة أن الوحدة والتنوع متلازمان في الهند رسوميا في عملة البلد. على أحد جانبي العملة الورقية الهندية، توجد صورة «أبي الأمة»، المهاتما غاندي، في حين توجد على الجانب الآخر صورة البرلمان الهندي. وقيمة الفئات المختلفة - 5 و10 و50 و100 وغير ذلك - مكتوبة بالأحرف باللغتين الهندية والإنجليزية (اللغتين الرسميتين)، وأيضا بكل اللغات الأخرى الخاصة بالاتحاد الهندي، ولكن بخط أصغر. وهكذا، توجد 17 طريقة كتابة مختلفة. وتمثل كل لغة، وكل طريقة كتابة، ثقافة وروحا إقليمية مختلفة، لكنها توجد هنا بنحو أو بآخر دون أن تتعارض مع فكرة الهند ككل.
اعتقد بعض المراقبين الغربيين - الأمريكيين، في الغالب - أن هذا التنوع اللغوي سيؤدي لتفكك الهند؛ فبناء على تجربتهم في بلادهم، حيث تعد اللغة الإنجليزية الرابط الذي يجمع بين موجات متعددة من المهاجرين، اعتقدوا أنه يجب أن تكون هناك لغة واحدة - الهندية أو الإنجليزية - يتحدثها كل الهنود. واعتبروا الولايات اللغوية خطأ خطيرا. ولذلك، في كتاب نشر متأخرا عام 1970، وفي نهاية مهمته كمراسل صحفي لصحيفة «واشنطن بوست» في الهند، كتب برنارد نوسيتر على نحو يائس يقول إن الهند هي «أرض بابل لكن دون وجود لغة مشتركة». وأضاف أن إنشاء الولايات اللغوية سوف «يزيد أكثر من انفصال الولايات بعضها عن بعض ويزيد الدافع من أجل الانشقاق». وأضاف أن الدولة الهندية منذ قيامها «ابتليت بميول انفصالية وانشقاقية»، كما أن «التضارب المستمر بين اللغات ... يمكن فقط أن يزيد أكثر من تلك الميول ويضع مسألة الوحدة المستقبلية للدولة الهندية على المحك».
15
تعود الفكرة القائلة بأن الدولة القومية يجب بالضرورة أن تفضل لغة واحدة حتى تستطيع الاستمرار للدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين التي شاركه فيها الليبراليون الأمريكيون. أصر ستالين على أنه «لا يمكن تصور أي جماعة قومية دون وجود لغة مشتركة بين أفرادها»، كما أنه «لا توجد أمة تتحدث في نفس الوقت لغات متعددة».
16
وقامت السياسة اللغوية للاتحاد السوفييتي على تلك الفكرة؛ حيث أصبح تعلم اللغة الروسية إجباريا. كان الهدف من ذلك، بحسب تعبير ستالين نفسه، ضمان «وجود لغة واحدة يمكن لكل مواطني الاتحاد السوفييتي بنحو أو بآخر من خلالها التعبير عن أنفسهم، وتلك اللغة هي اللغة الروسية».
17
كما هو الحال بالنسبة لبرنارد نوسيتر، ربما كان سيقلق ستالين على مستقبل الدولة القومية الهندية بسبب تشجيعها على التنوع اللغوي. لكن، في واقع الأمر ، حدث العكس تماما؛ حيث استطاع التنوع اللغوي ترويض وإضعاف الميول الانفصالية. ربما يكون عرض مقارنة مع الدول المجاورة مفيدا في توضيح ذلك. عام 1956، العام الذي أعيد فيه تنظيم ولايات الهند على أساس اللغة، قدم برلمان سريلانكا (سيلان حينذاك) قانونا يعتبر اللغة السنهالية اللغة الرسمية للبلاد. كان الهدف هو جعل السنهالية لغة التعليم في كل مدارس وجامعات الدولة وفي الاختبارات العامة وفي المحاكم. ربما كان أكثر المتضررين من هذا القانون هي الأقلية المتحدثة باللغة التاميلية التي كانت تعيش في الشمال، وقد عبر نوابها في البرلمان أفضل تعبير عن مشاعرها في هذا الشأن. قال أحد هؤلاء النواب: «عندما تحرمني من لغتي، فأنت تحرمني من كل شيء.» في حين حذر آخر قائلا: «أنتم تسعون لتقسيم سيلان»، مضيفا: «لا تخافوا، أؤكد لكم أنكم ستتسببون في تقسيم سيلان.» وتوقع عضو يساري، هو نفسه أحد المتحدثين بالسنهالية، أن الحكومة لو لم ترجع عن هذا القانون وأصرت على تمريره، «فقد تنقسم دولة واحدة صغيرة إلى دولتين صغيرتين نازفتين».
18
في عام 1971، نشأت دولتان ممزقتان متوسطتا الحجم من دولة كبيرة. الدولة التي قسمت هي باكستان وليس سريلانكا، ولكن سبب التقسيم كان واحدا، وهو اللغة؛ فمؤسسو باكستان أيضا اعتقدوا أن دولتهم يجب أن تعتمد على لغة واحدة إلى جانب دين واحد. في خطاب محمد علي جناح الأول في عاصمة باكستان الشرقية، دكا، حذر مستمعيه بأن عليهم تعلم اللغة الأردية واعتبارها لغتهم الأساسية عاجلا وليس آجلا. وقال لجمهوره البنغالي: «دعوني أوضح لكم بجلاء أن لغة دولة باكستان ستكون هي الأردية وليس لغة أخرى. وأي شخص يحاول تضليلكم هو حقا عدو لباكستان. «فدون وجود لغة واحدة للدولة، لا يمكن لأي أمة أن تظل مترابطة بقوة وتتقدم».»
19
في الخمسينيات، نشبت أعمال شغب دموية عندما حاولت الحكومة الباكستانية فرض اللغة الأردية على طلاب رافضين. واستمر شعور بالتمييز على أساس اللغة وكانت النتيجة في النهاية إقامة دولة بنجلاديش المستقلة.
قامت باكستان على أساس الدين، لكنها قسمت على أساس اللغة. ولأكثر من عقدين حتى الآن، قامت حرب أهلية دموية في سريلانكا، انقسمت الأطراف المتصارعة بعض الشيء على أساس الأرض والدين ولكن الأغلب على أساس اللغة. ربما يكون الدرس المستفاد من هاتين الحالتين هو: «لغة واحدة، دولتان». ولو فرضت اللغة الهندية على الهند بأسرها، فربما كان الدرس المستفاد هو: «لغة واحدة، 22 دولة».
إن تحدث الهنود للغات عديدة واعتناقهم لأديان مختلفة جعل أمتهم تبدو غير طبيعية في عيون بعض المراقبين الغربيين، سواء الأكاديميين منهم أو غير الأكاديميين. في حقيقة الأمر، اعتقد الكثير من الهنود ذلك أيضا. لقد رأوا أن السبيل الوحيد حتى تبقى الهند المستقلة وتزدهر هو خلق رابطة، أو روابط، تغطي على التنوع الكامن بداخلها أو تخفي معالمه. ويمكن أن يكون العامل المجمع، كما في أوروبا، الدين أو اللغة أو كليهما. تلك كانت الفكرة القومية التي روج لها من قبل حزب جانا سانج القديم ويروج لها حاليا، على نحو أكثر تطورا، حزب بهاراتيا جاناتا. تغوص تلك الفكرة بعمق في الماضي لاستدعاء أصل «آرياني» مشترك (وإن كان هذا في الغالب غير حقيقي) للهندوس وتاريخ مشترك من المعاناة على يد الغزاة (الذين كان معظمهم من المسلمين)، إلى جانب المعاناة المصادفة هنا وهناك بسبب المقاومة على يد رؤساء القبائل الهندوس المغاوير من أمثال رانا براتاب وشيفاجي.
كان أحد الشعارات الشائعة لحزب جانا سانج القديم «الهندية، الهندوس، هندوستان». كان الهدف هو جعل القومية الهندية «طبيعية» أكثر بإلزام كل الهنود بالتحدث بنفس اللغة وعبادة نفس الآلهة، أو إقناعهم بذلك. وبمرور الوقت، جرى التخلي عن محاولة فرض لغة واحدة، لكن الرغبة في فرض دين الأغلبية استمرت. وأدى هذا، كما رأينا في هذا الكتاب، إلى كثير من الصراع والعنف والشغب وحالات الوفاة. بعد أحداث الشعب في جوجارات عام 2002 على وجه الخصوص، التي غضت الحكومة المركزية الطرف عنها أو إلى حد ما أيدتها، كانت هناك مخاوف بشأن استمرار الهند كدولة ديمقراطية علمانية. لذا، في محاضرة ألقتها الكاتبة أرونداتي روي في جامعة مدينة عليكرة، ذهبت إلى حد وصف نظام حزب بهاراتيا جاناتا بأنه «فاشي». في واقع الأمر، لقد استخدمت روي كلمة «فاشية» 11 مرة في فقرة واحدة تصف أفعال الحكومة في نيودلهي.
20
هنا مرة أخرى، حللت الأحداث والتجارب الهندية على نحو اقتبس دون اكتراث من التاريخ الأوروبي. فوصف حزب بهاراتيا جاناتا بأنه «فاشي» يقلل من فظاعة وحدة الجرائم الشنيعة التي ارتكبتها الأنظمة الفاشية الأصلية في إيطاليا وألمانيا. صحيح أن الكثير من قادة هذا الحزب ليست لهم جاذبية سياسية على الإطلاق، لكن وصف الحزب بأنه «فاشي» يغالي في تقدير سلطاته ويستهين بالتقاليد الديمقراطية للشعب الهندي. اللافت للنظر أن الحزب يروج حاليا بقوة للتنوع اللغوي. ولم يعد قادته يأتون فقط من قلب الهند، وقد وسع من نفوذه في الولايات الجنوبية. كذلك، الحزب ملزم على الأقل بالتظاهر بتأييد التنوع الديني. إن أحد سكرتارية العموم فيه مسلم، وحتى إذا نظر إليه على أنه مجرد واجهة، فإن الأيديولوجية التي يروج لها هو وحزبه تنطوي تحت لواء «العلمانية الإيجابية». تركز الصفة هنا على محاولة الاسترضاء الأكبر من جانب الحزب؛ فحتى إن كان بعض قادة الحزب يتمنون شخصيا قيام دولة هندوسية ثيوقراطية، فلاسترضاء جمع الشعب، يجب أن يؤيدوا المثل العلمانية للدستور الهندي.
أخيرا، رغم كل ما بذله حزب بهاراتيا جاناتا من جهد، فلم يستطع إفساد البناء الديمقراطي للكيان السياسي في الهند. بعد شهر من إلقاء أرونداتي روي محاضرتها، خرج الائتلاف الذي يقوده الحزب من السلطة في انتخابات عامة دعا هو إليها. وترك قادته مناصبهم وسمحوا للمنتصرين بأن يحلوا محلهم. متى كانت آخر مرة سمح فيها نظام «فاشي» بهذا الانتقال السلس للسلطة؟
شهدت انتخابات عام 1977 (التي دعا إليها شخص لديه ميول دكتاتورية أكيدة) وانتخابات عام 2004 (التي دعا إليها حزب لديه التزام غير مؤكد بالمسار الديمقراطي) على الجذور العميقة التي مدتها الديمقراطية في التربة الهندية. في هذا الإطار، كانت البلاد محظوظة في قدرات مؤسسيها، وحقيقة أنهم عاشوا لفترة طويلة. فقليلة هي الأمم التي عاش وعمل فيها «في نفس الوقت» قادة لديهم ذكاء ونزاهة لا ينكرهما أحد مثل جواهر لال نهرو وفالابهاي باتيل وبي آر أمبيدكار؛ ففي خلال بضعة أعوام من الاستقلال، مات باتيل وترك أمبيدكار منصبه، ولكن بحلول ذلك الوقت، كان الأول قد ساهم بنجاح في تحقيق الوحدة السياسية للدولة، في حين نجح الآخر في وضع دستور ديمقراطي لها. ومع بقاء نهرو على قيد الحياة، صاحبه قادة بارزون من حزبه - على سبيل المثال، كيه كامراج ومورارجي ديساي - ومن المعارضة، التي كان من بين صفوفها رجال مثل جيه بي كريبالاني وسي راجا جوبالاتشاري.
شغل جواهر لال نهرو منصب رئيس الوزراء لثلاث فترات كاملة، وهي ميزة لم يحظ بها شخصيات مقابلة في دول جنوب آسيا، حيث، على سبيل المثال: اغتيل أون سان قبيل رحيل بريطانيا عن بورما، ومات جناح في خلال أعوام قليلة من إقامة دولة باكستان، ومات مجيب في خلال أعوام قليلة من استقلال بنجلاديش، وسمح للسياسي الديمقراطي النيبالي بي بي كويرالا بالبقاء في منصبه كرئيس للوزراء لمدة عام قبل أن يعزله (ثم يسجنه) الملك. ماذا كان يمكن أن يفعل هؤلاء إذا بقوا في مناصبهم طويلا مثل نهرو وإذا كان لديهم نفس نوع الشخصيات المعاونة الذي كان لديه؟
21
في واقع الأمر، هناك تراجع سريع، وحتى مقلق، في نوعية الرجال والنساء الذين يحكمون الهند؛ ففي كتاب نشر عام 2003، كتب المنظر السياسي براتاب بهانو ميهتا بتأثر عن «فساد الطبقة السياسية وقدراتها العادية وعدم انضباطها واستعدادها لقبول الرشوة ونقص الخيال الأخلاقي لديها». وأضاف أنه في داخل الدولة الهندية «الحدود بين ما هو قانوني وغير قانوني، وبين النظام والفوضى، وبين الالتزام بالقانون ومخالفته تصبح غير واضحة على نحو متزايد».
22
رغم ما سبق، فإن المسافة - الفكرية أو الأخلاقية - بين جواهر لال نهرو وإنديرا غاندي أو بين بي آر أمبيدكار ومولايام سينج ياداف ليست بالضرورة أكبر من تلك التي بين، لنقل، أبراهام لينكولن وجورج دبليو بوش. ربما من طبيعة الديمقراطيات أنه بينما يكون من الضروري وجود حالمين لصنعها، فبمجرد صنعها يمكن أن يديرها أشخاص متوسطو القدرات. في الهند، زرع مؤسسو الدولة نبتة الديمقراطية وعاشوا لفترة طويلة بذلوا خلالها جهودا كبيرة لدعمها حتى نضجت وتحولت لشجرة. ويمكن لمن جاءوا بعدهم أن يفسدوا تلك الشجرة ويحطوا من شأنها، ولكن مهما حاولوا، فلن يستطيعوا اقتلاعها أو تدميرها.
4
لم تقم القومية الهندية على لغة أو دين أو هوية عرقية مشتركة. لذا ربما نعتقد أنها لا بد وأن قامت على مواجهة عدو مشترك، وهو الإمبريالية الأوروبية. المشكلة في هذا الاعتقاد تكمن في السبل المستخدمة في حصول الهند على حريتها. يزعم المؤرخ مايكل هاورد أنه «لا توجد «أمة»، بالمعنى الصحيح للكلمة ... يمكن أن تولد بدون حرب ... فلا يستطيع أي مجتمع لديه وعي بذاته أن يثبت وجوده باعتباره لاعبا جديدا ومستقلا على الساحة العالمية دون صراع مسلح أو التلويح بإمكانية الدخول فيه».
23
في هذا الشأن أيضا يجب أن تعد الهند استثناء. لا شك أن الحركة المناهضة للحكم البريطاني هي أول من جمعت بين رجال ونساء من أجزاء مختلفة من شبه القارة الهندية في مسعى مشترك. لكن حركتهم (التي نجحت في النهاية) من أجل الحرية السياسية فضلت المقاومة السلمية على الثورة العنيفة. وهكذا ظهرت الهند كأمة على الساحة العالمية دون صراع مسلح أو، في واقع الأمر، التلويح بإمكانية الدخول فيه.
نال غاندي ورفاقه الثناء على نطاق واسع لتفضيلهم الاحتجاج السلمي على الصراع المسلح. ولكن يجب أن يحمدوا على نحو متساو لتحليهم بالحكمة التي جعلتهم يبقون، بعد جلاء البريطانيين، على بعض جوانب التركة الاستعمارية التي ربما كانت مفيدة في الدولة الجديدة.
عادة ما كان المستعمرون يلامون من قبل القوميين لتشجيعهم الديمقراطية في بلادهم وحرمان شعوب مستعمراتهم منها. وعندما رحل البريطانيون في نهاية الأمر، كان من المتوقع أن يتبنى الهنود التقاليد السياسية المتبعة في بريطانيا مثل الديمقراطية البرلمانية والحكومة البرلمانية. لكن الأكثر إثارة للدهشة ربما كان إقرارهم لتقليد استعماري بامتياز وإبقاءهم عليه، وهذا التقليد هو دائرة الخدمة المدنية.
كان أهم المسئولين في الهند البريطانية موظفين في دائرة الخدمة المدنية الهندية. في الريف، حافظوا على الأمن وجمعوا الضرائب، في حين أنهم في الأمانة العامة أشرفوا على وضع السياسات، وبوجه عام حافظوا على دوران عجلة العمل في مؤسسات الدولة. وعلى الرغم من وجود أشخاص فاسدين من بينهم، فقد تمتع معظمهم بالنزاهة والكفاءة.
24
وغالبية هؤلاء كانوا بريطانيين، ولكن هناك أيضا عدد لا بأس به من الهنود من ضمنهم.
بعد الاستقلال، كان على الحكومة الجديدة إقرار ما ستفعله مع الأعضاء الهنود في دائرة الخدمة المدنية. رأى القوميون الذين سجنوا على يد هؤلاء أنهم يجب أن يسرحوا أو على الأقل تخفض رتبهم الوظيفية. لكن شعر وزير الداخلية، فالابهاي باتيل، أنهم يجب أن يسمح لهم بالاحتفاظ برواتبهم وعلاواتهم، وينقلوا لمناصب ذات سلطة أعلى. في أكتوبر من عام 1949، نشب جدل كبير حول هذا الموضوع في الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الهندي. اشتكى بعض أعضاء الجمعية من أن موظفي دائرة الخدمة المدنية الهندية ما زالت «عقلية [الحكم] مسيطرة عليهم ». فبدا أنهم «لم يغيروا من سلوكهم» وكذلك «لم يتأقلموا مع الوضع الجديد». وأصر أحد القوميين على «أنهم لا يشعرون بأنهم جزء لا يتجزأ من هذا البلد».
فالابهاي باتيل نفسه سجن عدة مرات على يد رجال دائرة الخدمة المدنية الهندية. ولكن تلك التجربة وطدت بالفعل إعجابه بهم. وأدرك أن هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، ببساطة، كانت ستكون مستحيلة دونهم. ووعى أن عجلة العمل المعقدة في أي دولة قومية مستقلة حديثة كانت تحتاج أكثر لمثل هؤلاء. وكما ذكر أعضاء الجمعية التأسيسية، يمكن تفعيل الدستور الجديد فقط «على يد موظفي دائرة الخدمة المدنية الهندية الذين سيحافظون على سلامة البلاد». وأكد على كفاءة هؤلاء الرجال وأيضا على حبهم لعملهم. على حد تعبيره، هؤلاء «خدموا بكفاءة وإخلاص كبيرين الحكومة السابقة وبعد ذلك الحكومة الحالية». وكان باتيل حاسما عندما أشار إلى أن «هؤلاء الرجال هم الأدوات» التي ستتحقق بها الوحدة الوطنية في البلاد، مضيفا: «إذا عزلناهم، فلا أرى سوى الفوضى وهي تعم أنحاء البلاد.»
25
في تلك الأعوام الأولى والصعبة بعد نيل الهند لحريتها، كان موظفو دائرة الخدمة المدنية أهلا للثقة التي أولاهم إياها فالابهاي باتيل. فساهموا في دمج الولايات الأميرية في الاتحاد الهندي وتوطين اللاجئين والتخطيط للانتخابات العامة الأولى والإشراف عليها. وكانت المهام الأخرى التي وكلت إليهم روتينية أكثر ولكنها كانت على نفس الدرجة من الأهمية، على سبيل المثال: الحفاظ على القانون والنظام في المناطق والعمل مع الوزراء في أمانة مجلس الوزراء والإشراف على مواجهة المجاعات. وفي عام 1967، أنشأ باتيل كيانا بديلا على غرار دائرة الخدمة المدنية الهندية، ولكن باسم لا تلوثه آثار التجربة الاستعمارية. كان هذا الكيان هو دائرة الخدمة الإدارية الهندية.
في وقت تأليف هذا الكتاب، يوجد نحو خمسة آلاف موظف ضمن دائرة الخدمة الإدارية الهندية في قوة العمل في الحكومة الهندية. وتتكامل تلك الدائرة، كما في أيام الحكم البريطاني، مع الهيئات المدنية الأخرى في «عموم الهند»، التي من بينها الشرطة وإدارة الغابات وإدارة الإيرادات وإدارة الجمارك. تمثل تلك الهيئات رابطا أساسيا بين الحكومة المركزية والولايات. ويعين كل من موظفي دائرة الخدمة الإدارية الهندية في ولاية معينة حيث يقضي نصف مدة خدمته أو أكثر والباقي في هيئات الحكومة المركزية. وأضيف للمهام القديمة الموكلة لهؤلاء المتمثلة في جمع الضرائب والحفاظ على القانون والنظام مسئوليات جديدة متعددة، من بينها إقامة الانتخابات والإشراف على برامج التنمية. وعبر مسار حياة أي موظف من هؤلاء، يكتسب على الأقل معرفة عامة بموضوعات مختلفة ومتنوعة مثل القانون الجنائي وإدارة الري والحفاظ على التربة والماء والرعاية الصحية الأولية.
تعد دائرة الخدمة الإدارية الهندية، مثل سابقتها، بحق جماعة نخبوية؛ فالمنافسة على الالتحاق بالخدمات المدنية العليا ضارية، في عام 1996، تقدم للاختبار 120712، اختير من بينهم في النهاية 738 فقط. فموظفو تلك الدائرة على قدر عال من الذكاء وذوو قدرات كبيرة. ولكن هناك شكاوى من وجود فساد متزايد بينهم، ومن انقيادهم الشديد لرؤسائهم السياسيين. صحيح أن البلاد ربما لن تنزلق إلى مستنقع الفوضى إذا ألغيت دائرة الخدمة الإدارية الهندية على نحو مفاجئ، ولكن الواقع يقول إن موظفي تلك الدائرة يلعبون دورا حيويا في الحفاظ على وحدة البلاد؛ ففي أوقات الأزمات، ينزعون لمواجهة التحديات بقوة. بعد موجة تسونامي التي ضربت بعض أجزاء الهند عام 2004، على سبيل المثال، انهال الثناء على موظفي تلك الدائرة في تاميل نادو لجهدهم المميز في أعمال الإغاثة وإعادة التأهيل.
26
وضع أحد موظفي دائرة الخدمة المدنية الهندية، سوكومار سين، الأسس الخاصة بإقامة الانتخابات في الهند، ويستكمل موظفو دائرة الخدمة الإدارية الهندية المسيرة على نفس النحو بعده. ويختار رؤساء اللجان الانتخابية في الولايات من كبار موظفي تلك الدائرة، في حين يشرف صغار موظفيها على الانتخابات في مناطقهم، أما موظفوها من أصحاب الدرجات الوسطى، فيعملون كمراقبين للانتخابات، يبلغون عن أي انتهاكات تحدث للنظام الانتخابي. بوجه عام أكثر، تعد الهيئات المدنية الجسر بين الدولة والمجتمع؛ ففي سياق عمل هؤلاء المسئولين، يقابلون الآلاف من أعضاء المجتمع، الذين يعملون في كافة مناحي الحياة. وحيث إنهم يعيشون ويعملون في ظل نظام ديمقراطي، فهم مجبرون على الانتباه الشديد لمعتقدات واحتياجات الناس. وفي هذا الشأن، ربما تعد مهمتهم أصعب حتى من سابقيهم في دائرة الخدمة المدنية الهندية.
هناك مؤسسة أخرى تكونت في ظل الحكم الاستعماري ولعبت دورا مساويا في الأهمية، وهي الجيش الهندي. تضررت سمعة الجيش بشدة بعد الحرب مع الصين عام 1962، قبل أن يستعيد مكانته في الحروب المتتالية التي خاضها ضد باكستان. وتضررت بعض الشيء هيبته من الضربات التي تعرض لها على يد المتمردين التاميليين في سريلانكا فيما بين عامي 1987 و1988، لكنه استعادها بعد عقد لاحق بطرد المتسللين إلى كارجيل. وعلى الرغم من أن سمعته كقوة مقاتلة أخذت تتراوح بين الصعود والهبوط، فاستحق في الغالب الاحترام الشديد كجهة حافظة للنظام في أوقات السلم؛ ففي أوقات الشغب الطائفي، عادة ما يكون مجرد ظهور جنود الجيش بلباسهم العسكري كافيا لجعل مثيري الشغب يفرون. وفي أوقات الكوارث الطبيعية، يساهم الجيش في تخفيف المعاناة. فعندما تحدث مجاعة أو فيضان أو إعصار أو زلزل، عادة ما يكون في مقدمة المشهد ودائما ما يكون اللاعب الأكثر كفاءة واعتمادية فيه.
الجيش الهندي هيئة مهنية وغير طائفية بالمرة. كما أنه لا دخل له بالسياسة. فتقريبا منذ اللحظات الأولى بعد الاستقلال، أوضح جواهر لال نهرو لكبار قادة الجيش أن عليهم في المسائل الخاصة بالدولة - سواء الصغيرة أو الكبيرة منها - أن يخضعوا لرأي الساسة المنتخبين؛ ففي وقت انتقال السلطة، كان لا يزال الجيش يرأسه جنرال بريطاني أمر بعدم مشاركة الجماهير في حفل مراسم رفع العلم المزمع عقده في اليوم التالي ليوم الاستقلال. ألغى نهرو، بصفته رئيسا للوزراء، الأمر وكتب للجنرال ما يلي:
رغم اهتمامي بمعرفة آراء مسئولينا الكبار ومشاعرهم، سواء البريطانيين منهم أو الهنود، فيبدو لي أن هناك سوء فهم كبيرا في الأمر. في أي سياسة ستتبع، سواء في الجيش أو أي مؤسسة أخرى، يجب أن تكون لآراء حكومة الهند والسياسة التي تضعها الغلبة. وإذا لم يكن أي شخص قادرا على تقبل تلك السياسة، فليس له مكان في الجيش الهندي أو البناء الحكومي الهندي. أعتقد أن هذا يجب أن يكون واضحا تماما في تلك المرحلة.
27
بعد عام، اختار فالابهاي باتيل جنرالا بريطانيا آخر ليحل محل هذا الجنرال. وعندما قررت الحكومة التحرك ضد نظام حيدر أباد، حذر قائد الجيش، الجنرال روي بوكر، من أن إرسال قوات عسكرية لحيدر أباد قد يستفز باكستان ويجعلها تهاجم أمريتسار. قال له باتيل إنه إذا كان يعارض التحرك في حيدر أباد، فيمكنه الاستقالة. تراجع الجنرال وأرسل القوات كما أمر.
28
بعد فترة وجيزة، تقاعد بوكر ليحل محله أول قائد جيش هندي، الجنرال كيه إم كاريابا. في البداية، قصر اهتمامه على الأمور العسكرية، ولكن مع رسوخه في منصبه، بدأ يعبر عن آرائه إزاء مسائل مثل أفضل النماذج المناسبة للهند فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية. في أكتوبر من عام 1952، كتب نهرو إليه ناصحا إياه بتقليل عدد المؤتمرات الصحفية التي يعقدها، وفي كل الأحوال البعد عن المسائل التي هي محل جدل. وأرسل إليه خطابا من أحد زملائه في الوزارة، يشتكي فيها من أن كاريابا كان «يلقي العديد من الخطب ويعقد العديد من المؤتمرات الصحفية في جميع أنحاء البلاد»، معطيا الانطباع بأنه كان «يلعب دور القائد السياسي أو شبه السياسي».
29
يبدو أن الرسالة قد وصلت للجنرال، لأنه عندما ترك منصبه في يناير من عام 1953، «حث الجنود على الابتعاد تماما عن السياسة» وذلك في آخر خطبه. وقال إن مهمة الجيش ليست «الانخراط في السياسة وإنما إبداء الولاء التام للحكومة المنتخبة».
30
لكن نهرو علم أن الجنرال إلى حد بعيد رجل لا يمكن التحكم فيه وكذلك لا يمكن الوثوق بالكامل في التزامه بنصيحته. وفي خلال ثلاثة شهور من تركه لمنصبه، عين الجنرال المفوض السامي الهندي في أستراليا. ولم يكن الجنرال سعيدا تماما بهذا التكليف، لأن، حسب ما قال لرئيس الوزراء، «الابتعاد عن الوطن والذهاب للجانب الآخر من العالم لأي فترة تريدني أن أكون فيها في أستراليا يحرمني من أكون على تواصل مستمر ومنتظم مع الناس». واسى نهرو الجنرال قائلا له إنه نظرا لأنه رياضي، فهو مؤهل بشدة لتمثيل الهند في بلد رياضي. لكن الهدف الحقيقي، الذي كان واضحا بجلاء، هو إرساله لأبعد مكان ممكن عن الناس.
31
نظرا لأن كاريابا كان أول هندي يصبح قائدا للجيش، فقد كان له بريق خاص، لكنه أخذ يفقده مع كل شهر يمر على تركه لمنصبه. وبحلول الوقت الذي عاد فيه من أستراليا، كان قد نسي تماما. لكن بعد نظر نهرو تأكد من خلال التصريحات التي كان يدلي بها الجنرال من آن لآخر؛ ففي عام 1958، زار باكستان حيث كان ضابطان من الجيش خدما معه في الهند قبل تقسيمها قد قاما لتوهما بانقلاب عسكري. أثنى الجنرال عليهما علنا، قائلا إن «الوضع الداخلي الذي تعتريه الفوضى هو الذي أجبر هذين الجنرالين الوطنيين على التخطيط معا لفرض الأحكام العرفية في البلاد لإنقاذها من الدمار التام».
32
وبعد عشرة أعوام، أرسل مقالا لصحيفة «إنديان إكسبريس» حاجج فيه بأن الوضع الداخلي الفوضوي في غرب البنغال كان يتطلب فرض الحكم الرئاسي هناك لخمسة أعوام على الأقل. خالفت تلك النصيحة نص وروح الدستور. لحسن الحظ، رد رئيس التحرير له المقال، مبينا للجنرال أنه «سيكون من المحرج في تلك الظروف لك ولنا نشر هذا المقال».
33
استمر هذا الإطار الذي وضع في تلك الأعوام الأولى حتى الآن؛ فكما يشير الفريق جيه إس أرورا، إن نهرو «وضع بعض الأسس الجيدة جدا» التي ضمنت «تقريبا عدم انخراط الجيش في السياسة». ويضيف أرورا: «الجيش ليس له دور في السياسة على أي نحو»، وكبار الضباط على وجه الخصوص «يجب أن يكونوا أكثر الناس بعدا عن السياسة على هذه الأرض!»
34
المدهش أن أيا من كبار الضباط لم يترشح في أي انتخابات. وأرورا نفسه الذي أصبح بطلا قوميا بعد إسهامه في انفصال بنجلاديش لم يسع هو ولا غيره من كبار الضباط لتحويل النصر الذي تحقق على أرض المعركة لمكسب سياسي. وإن كان رجال الجيش يعملون في مناصب عامة بعد تقاعدهم، فإن هذا كان بناء على رغبة الحكومة. أرسل بعضهم، من أمثال كاريابا، للعمل كسفراء للهند في الخارج، في حين عمل آخرون كحكام للولايات.
الجيش، شأنه شأن الهيئات المدنية، مؤسسة تكونت في ظل الحكم الاستعماري وكيفت بنجاح لتحمل الطابع الهندي. يمكن قول نفس الشيء على اللغة الإنجليزية؛ ففي أثناء الحكم البريطاني، كانت النخبة والطبقات المهنية يتواصلون بعضهم مع بعض بالإنجليزية. وهكذا فعلت النخبة القومية. فباتيل وبوس ونهرو وغاندي وأمبيدكار كلهم تحدثوا وكتبوا بلغتهم الأم، وأيضا بالإنجليزية. وللوصول لمناطق غير مناطقهم، كان التواصل باللغة الإنجليزية لا غنى عنه. وهكذا تكون وعي معاد لبريطانيا عبر الهند بأكملها، إلى حد بعيد، من قبل مفكرين وناشطين يكتبون بالإنجليزية.
بعد الاستقلال، كان راجا جوبالاتشاري (راجاجي) من بين أبرز المؤيدين للغة الإنجليزية. كتب يقول إن الحكام الاستعماريين «لأسباب وأغراض وأهداف عرضية معينة ... خلفوا وراءهم إرثا هائلا من اللغة الإنجليزية». لكن الآن بما أن هذا الإرث قد وصل إلينا، فلا حاجة لإعادته لأصحابه. الإنجليزية «ملك لنا. ونحن لسنا بحاجة لإرجاعها لبريطانيا والبريطانيين». وأضاف مازحا أنه طبقا للتقليد الهندي، الإلهة الهندوسية ساراسواتي هي التي أوجدت كل لغات العالم. لذا، فالإنجليزية «انتمت لنا من حيث النشأة، ساراسواتي هي التي أوجدتها، وحصلنا عليها أيضا بالاكتساب».
35
على الجانب الآخر، كان هناك بعض القوميين المؤثرين للغاية الذين اعتقدوا أن الإنجليزية يجب أن تخرج من الهند مع خروج البريطانيين منها؛ ففي فترة حكم نهرو، حدثت محاولات مستميتة لاستبدال الهندية باللغة الإنجليزية كلغة التواصل بين المقاطعات. لكن استمر استخدام الإنجليزية داخل الحكومة وخارجها. وعندما زار الكاتب الكندي جورج وودكوك الهند عام 1961، وجد أنه رغم غرابة الهند بسبب «التنوع الهائل الموجود بها في العادات وأنواع الأراضي والأنماط الجسدية البشرية»، فإنها كانت «بلدا أجنبيا تفهم فيه دائما لغة الفرد من قبل أي شخص قريب منه، وحيث كان يعني حديث الفرد بلكنة بريطانية أن ينظر إليه على أنه بنحو أو بآخر أحد أبناء العمومة التي نشأت عن زواج غريب ومؤقت لشعبين ساد الحب والكراهية بينهما بنفس الشدة».
36
بعد وفاة نهرو، تجددت المحاولات للقضاء على اللغة الإنجليزية. فرغم اعتراض الولايات الجنوبية، في 26 يناير من عام 1965، أصبحت الهندية اللغة الرسمية الوحيدة للتواصل فيما بين المقاطعات. وكما رأينا من قبل ، أثار هذا احتجاجات شديدة وغاضبة مما أدى لإلغاء القرار المعني في خلال أسبوعين. وهكذا استمرت اللغة الإنجليزية كلغة الحكومة المركزية والمحاكم العليا والتعليم العالي.
بمرور السنوات، رسخت اللغة الإنجليزية وضعها باعتبارها لغة النخبة الهندية بكافة أطيافها ووطدت أركانها وعمقت تأثيرها في الهند؛ فأصبحت لغة المستعمرين، في الهند المستقلة، لغة السلطة والمكانة الاجتماعية، لغة الفرد وكذلك لغة الترقي الاجتماعي. وكما يرى المؤرخ سارفبالي جوبال، إن «حقيقة أن الإلمام بالإنجليزية هو السبيل للعمل في المستويات العليا في كل المجالات، وأنه الطريق الوحيد للحصول على المكانة والثروة، وأنه لا غنى عنه لكل من يخطط للهجرة للخارج عنت وجود حماس هائل لدراستها منذ الاستقلال». لكن، كما كتب جوبال، الإنجليزية «يمكن وصفها بأنها اللغة غير الإقليمية الوحيدة في الهند. فهي لغة رابطة ليس فقط بالمعنى الإداري وإنما أيضا لمواجهتها للإقليمية الضيقة الأفق».
37
أحس من سعى للإبقاء على اللغة الإنجليزية، من أمثال نهرو وراجاجي، أنها قد تساعد في تعزيز الوحدة الوطنية ودعم التقدم العلمي. وقد فعلت هذا بالفعل، لكن دورها في النمو الاقتصادي كان غير متوقع على نحو كبير؛ حيث يقف وراء الصعود المدهش لصناعة البرمجيات إجادة المهندسين الهنود للإنجليزية.
5
إذا كانت الهند تقريبا 50٪ ديمقراطية، فهي تقريبا 80٪ متحدة؛ فبعض أجزاء كشمير والمنطقة الشمالية الشرقية تحت سيطرة متمردين ساعين للاستقلال السياسي. كما أن بعض مناطق الغابات في وسط الهند في قبضة ثوريين ماويين. لكن تلك المناطق، رغم كبر حجمها، تمثل إلى حد بعيد أقل من ربع المساحة الكلية للأراضي التي تسيطر عليها الدولة الهندية.
في أربعة أخماس مساحة الهند، تمارس الحكومة المنتخبة على نحو شرعي هيمنتها وسيطرتها. وعبر هذه المساحة، لدى مواطني الهند حرية العيش والدراسة والعمل والاستثمار في الأعمال.
التكامل الاقتصادي للهند نتاج لتكاملها السياسي؛ فكل منهما يكمل الآخر؛ فكلما زادت حركة البضائع ورءوس الأموال والناس عبر الهند، زاد الشعور بأنها بلد «واحد» في نهاية الأمر؛ ففي العقود الأولى من الاستقلال، فعل القطاع العام كل ما في وسعه لتدعيم هذا الشعور بالوحدة؛ ففي مصانع مثل مصنع الصلب الكبير في بيلاي، عمل الأندريون وعاشوا جنبا إلى جنب مع البنجابيين والجوجاراتيين. دعم هذا تقديرهم للغات والعادات والأكلات الأخرى، مع التأكيد على حقيقة أنهم جميعا جزء من نفس الأمة. وكما لاحظ عالم الأنثروبولوجيا جوناثان باري، أنه في مخيلة نهرو، «نظر لبيلاي ومصنع الصلب الخاص بها كحاملين لشعلة التاريخ وأن الهدف منهما خلق نوع جديد من المجتمع تماما كما هو إنتاج الصلب». نجحت تلك المحاولة؛ فبالنسبة لأطفال الجيل الأول من العمال، الذين ولدوا ونشئوا في بيلاي، حل محل الولاءات الإقليمية ولاء أكثر شمولا للوطن، ولاء ذو «نمط ثقافي عالمي أكثر».
38
وحديثا، ساهم القطاع الخاص، وإن كان دون قصد، في تعزيز عملية التكامل الوطني. أنشأت مؤسسات مقرها في تاميل نادو مصانع أسمنت في هاريانا، وأقام أطباء ولدوا وتعلموا في آسام عيادات في بومباي. وكثير من المهندسين في صناعة تكنولوجيا المعلومات في حيدر أباد جاءوا من بيهار. والهجرة هنا ليست مقتصرة على الطبقات المهنية؛ فهناك حلاقون من أوتر براديش يعملون في مدينة بنجالور، وهكذا الحال بالنسبة لنجارين جاءوا من راجستان. لكن يجب التأكيد على أن هذا التدفق ليس متناسقا؛ ففي حين أن المدن والبلدات المزدهرة تصبح حتى أكثر عالمية، تنغمس الولايات المتأخرة اقتصاديا أكثر في الإقليمية .
6
إلى جانب العوامل السياسية والاقتصادية، ساهمت العوامل الثقافية أيضا في تعزيز الوحدة الوطنية. ومن أبرز تلك العوامل السينما الهندية؛ فهي الشغف الأكبر للشعب الهندي ويشاهدها ويتابعها الهنود بغض النظر عن السن أو النوع أو الطائفة الاجتماعية أو الطبقة أو الدين أو الجماعة اللغوية.
يقول مؤلف الأغاني جاويد أختر عن ولايات الاتحاد الهندي الأساسية إن «لكل منها ثقافة وتقاليد وأسلوبا مختلفا؛ ففي جوجارات، هناك نمط معين من الثقافة، وإذا ذهبت للبنجاب، فهناك نمط آخر، وينطبق الأمر نفسه على راجستان أو البنغال أو أوريسا أو كيرالا». ويضيف: «هناك ولاية أخرى في هذا البلد وهي السينما الهندية.»
39
هذه رؤية رائعة، تحتاج لمزيد من التفصيل؛ فباعتبارها ولاية هندية منفصلة، تعد السينما الهندية ملتقى لكل المبدعين (في المجال الثقافي) من الولايات الأخرى. فالممثلون والموسيقيون والفنيون والمخرجون العاملون فيها يأتون من كل أنحاء الهند. وهؤلاء بدورهم يستوحون أعمالهم من الأنماط الثقافية الموجودة في المناطق المختلفة. على سبيل المثال، قد تضم أغنية واحدة الرقص الشعبي البنجابي المسمى بالبانجرا ونظيره الكلاسيكي التاميلي المسمى بالباراتاناتيم.
وحيث إن السينما الهندية تقتبس عناصر من هنا وهناك ومن كل مكان، فإنها ترسل بعد ذلك المنتج المجمع النهائي للولايات الأخرى في الاتحاد الهندي من أجل الحصول على التقدير. ويعد النجوم السينمائيون هم أكثر الهنود توقيرا، غير أن السينما لا تقدم للهنود فقط مجموعة مشتركة من الأبطال؛ فهي تمدهم أيضا بلغة مشتركة وعالم مشترك من الخطاب؛ فتقتبس سطور من الأفلام الغنائية ومقتطفات من الحوار في الأفلام في الحوارات اليومية في المدارس والكليات والمنازل والمكاتب والشوارع. ونظرا لأنها تعد إحدى ولايات الاتحاد الهندي، فهي تتحدث أيضا لغته التي، مع ذلك، تفهمها كل الولايات الأخرى.
العبارة الأخيرة مقصودة حرفيا وكذلك مجازيا؛ فالسينما الهندية تقدم ذخيرة من المواقف الاجتماعية والمسائل الأخلاقية التي تتأثر بها على نطاق واسع جماعة المواطنين ككل. ولكنها أيضا، بمرور الوقت، جعلت اللغة الهندية مفهومة أكثر لمن لم يتحدث بها أو يفهمها من قبل. عندما فرضت الحكومة المركزية تلك اللغة بالقوة، قاومها أهل الجنوب والشرق. ولكن عندما قدمت على نحو جذاب في السينما والتليفزيون، تقبلها الجميع؛ ففي بنجالور وحيدر أباد، أصبحت الهندية الوسط المفضل للتواصل بين الأشخاص الذين يتحدث بعضهم لغات لا يفهمها آخرون. وأخيرا، قد يذكر البعض حظر الأفلام الهندية وأقراص الدي في دي وشرائط الفيديو الخاصة بها في المنطقة الشمالية الشرقية من الهند على يد المتمردين، لكن هذا، في حد ذاته، يعد تأكيدا كبيرا على الدور الذي يلعبه الفيلم الهندي في توحيد الهند.
في عام 1888، كتب جون ستراتشي يقول إنه لا يستطيع أبدا تخيل انضمام البنجاب ومدراس تحت لواء كيان سياسي واحد. لكن عام 1947، حدث هذا، إلى جانب انضمام ولايات أخرى كان يعتبرها ستراتشي «أمما» منفصلة. في ذلك العام، ربما كانت الوحدة بين هذه الولايات في الغالب سياسية ، ولكن في العقود التي تلت ذلك وحتى الآن، أصبحت الوحدة أيضا اقتصادية وثقافية، ونستطيع القول إنها عاطفية أيضا. ربما ما زال الكثير من أهل كشمير وناجا يشعرون بالاغتراب والانفصال، وربما يعتقد بعض الثوريين أن الهند بلد الجنسيات المتعددة. ولكن معظم المواطنين الشرعيين للهند سعداء بأنهم جزء من هذا البلد؛ فنحو أربعة أخماس الهنود، الذين يعيشون في نحو أربعة أخماس مساحة الهند، يشعرون بأنهم جزء من أمة واحدة.
7
قد ينظر المرء للهند المستقلة على أنها تمثل ماضي أوروبا وكذلك مستقبلها. تمثل الهند ماضي أوروبا في أنها أعادت إنتاج، ولكن بضراوة وحدة أكبر، صراعات مجتمع حضري صناعي يسعى للتحديث. ولكنها تمثل أيضا مستقبل أوروبا في أنها استشرفت، منذ نحو خمسين عاما، المحاولة الأوروبية لإقامة مجتمع سياسي واقتصادي متعدد اللغات والأديان والأعراق.
أو قد يقارن المرء بين الهند والولايات المتحدة، وهي الدولة التي توصف بأنها «أول ديمقراطية متعددة الأعراق على وجه الأرض».
40
تعد جمهورية الهند، التي ظهرت بعدها بنحو قرنين من الزمن، اليوم «أكبر» ديمقراطية متعددة الأعراق في العالم. لكن السبل التي من خلالها استطاعت تنظيم العلاقات بين الأعراق الأساسية بها (وتهيئة المناخ المناسب لإقامتها) كانت مختلفة بعض الشيء. اجتمعت الأمة الأمريكية معا، حسب ما يرى صامويل هنتينجتون، من خلال «ثقافة عقيدية» تضمنت «عناصرها الأساسية ... الدين المسيحي والقيم والأخلاق البروتستانتية وأخلاقيات العمل واللغة الإنجليزية والتقاليد البريطانية في القانون والعدالة وحدود سلطة الحكومة وإرث الفن والأدب والفلسفة والموسيقى الأوروبية». في واقع الأمر، «أقيمت أمريكا كمجتمع بروتستانتي تماما كما أقيمت باكستان كمجتمع مسلم وإسرائيل كمجتمع يهودي في القرن العشرين، ولنفس بعض الأسباب».
الولايات المتحدة بالطبع أمة مهاجرين. ولجزء كبير من تاريخها، ذابت الجماعات الجديدة الوافدة إليها في الثقافة السائدة. في هذا الشأن، كتب هنتينجتون يقول: «عبر التاريخ الأمريكي، أصبح الأشخاص الذين لم يكونوا من البروتستانت الأنجلو ساكسونيين البيض أمريكيين بتبني الثقافة والقيم السياسية الأنجلو بروتستانتية لأمريكا.» لكن بطبيعة الحال مالت الجماعات الأحدث من المهاجرين للحفاظ على هوياتهم المميزة. ومن تلك الجماعات ذوو الأصول الإسبانية الذين يعيشون في جيوب عرقية يطبخون فيها طعامهم، ويستمعون لموسيقاهم، ويدينون بدينهم، ويتحدثون لغتهم، وهو الأمر الأهم. هنتينجتون قلق من «تحول أمريكا ككل إلى مجتمع ثنائي اللغة والثقافة»، إذا لم تندمج تلك الجماعات بسرعة في الكيان الأمريكي.
وصف النموذج الأمريكي القديم للاندماج بالبوتقة؛ فالجماعات الفردية تدخل كل نكهاتها في البوتقة، ثم تشرب شرابا واحدا وموحدا، أو موحد الطعم. ويبدو الآن أن المجتمع والأمة يشبهان إناء سلطة، كل مكون فيه مختلف ومميز في شكله وسلوكه.
هنتينجتون نفسه أقل تحمسا لفكرة إناء السلطة. فبالنسبة له، كانت أمريكا، ويجب أن تظل دائما، «مجتمعا ذا ثقافة قومية واحدة واسعة الانتشار». ولاحظ أن الأمريكيين يتماهون على نحو أكثر قوة مع تلك الثقافة عندما تقع الأمة تحت تهديد؛ فتؤدي الحروب ليس فقط للتماسك الوطني وإنما أيضا للتوحد الثقافي. صيغت العقيدة الأمريكية الأصلية نتيجة للحروب ضد الهنود الحمر والمستعمرين البريطانيين والولايات الجنوبية. وأحداث الحادي عشر من سبتمبر أعادت الوطنية والتضامن الوطني للصدارة. وحتى لا تتبدد تلك الطاقات، يدعو هنتينجتون لعودة أكثر شمولا للعقيدة التي، في رأيه، كانت مسئولة عن «وحدة بلادي وقوتها».
41
المثير للانتباه أننا نجد صدى آراء هنتينجتون في تصريحات لرئيس الوزراء الأسترالي، جون هوارد. تعرضت أستراليا أيضا لموجات هجرة، كانت أغلبها أو كلها أوروبية في البداية، ولكن مؤخرا أصبحت ذات طابع آسيوي على نحو ملحوظ. يرفض هوارد إمكانية تعايش ثقافات متعددة في أستراليا، ويقول: «لا بد من وجود ثقافة مهيمنة.» مضيفا: «ثقافتنا أنجلو ساكسونية؛ لغتنا وأدبنا ومؤسساتنا.»
42
آراء هنتينجتون وهوارد، بطبيعة الحال، مألوفة إلى حد بعيد للطلاب الذين يدرسون التاريخ الهندي؛ فقد أبداها في الهند مفكرون سياسيون من أمثال إم إس جلوالكر وأحزاب سياسية من أمثال جانا سانج وبهاراتيا جانا سانج. اعتقد هؤلاء أن الهند «يجب أن تكون لديها ثقافة مهيمنة» وأن تلك الثقافة «هندوسية». في الحقيقة، دعم تلك الآراء مؤسسو الأمة الهندية، هؤلاء الذين كتبوا الدستور الهندي وقادوا الحكومات القليلة الأولى في الهند المستقلة. وبالتالي، أصبحت الهند إناء سلطة وليس بوتقة.
واستمرت على هذا النحو . ودعمت تنوع الأديان واللغات، وهو الأمر الذي اعتبره هوارد وهنتينجتون وآخرون عائقا أمام استمرار الأمم والحفاظ على تضامنها. قاومت الهند الضغوط للسير في الاتجاه الآخر، لاتباع نموذج إسرائيل وباكستان عن طريق تفضيل المواطنين الذين يعتنقون دينا محددا أو يتحدثون لغة معينة.
8
أبلغ ثناء على الفكرة التي تكونت لدي عن الهند يوجد في خطابات غير منشورة لعالم الأحياء جيه بي إس هالدين. كان هالدين شخصية ذات شهرة كبيرة شابها بعض الأمور سيئة السمعة؛ ففي عام 1956، متجاوزا حينها سن الستين، قرر ترك عمله في كلية لندن الجامعية والعيش في كلكتا. وانضم للمعهد الإحصائي الهندي وأصبح مواطنا هنديا يرتدى ملابس الهنود ويتناول طعامهم. وطاف بنشاط عبر أنحاء البلاد، ليتفاعل مع علمائها وأيضا مع مواطنيها ككل.
43
بعد خمس سنوات من انتقال هالدين للعيش في الهند، وصفه أحد الكتاب العلميين الأمريكيين في وسيلة مطبوعة بأنه «مواطن عالمي». فرد هالدين قائلا:
لا شك أنني على نحو ما مواطن عالمي. لكنني أتفق مع توماس جيفرسون في أن أحد الواجبات الأساسية لأي مواطن هو أن يكون مصدر إزعاج لحكومة دولته. وحيث إنه لا توجد دولة عالمية، فلا يمكنني أن أفعل هذا ... على الجانب الآخر، أستطيع أن أكون مصدر إزعاج، وأنا بالفعل كذلك ، لحكومة الهند التي لديها ميزة السماح بقدر كبير من النقد، رغم أنها تتفاعل معه ببطء إلى حد ما. أنا أيضا فخور بكوني أحد مواطني الهند، الأكثر تنوعا بكثير من أوروبا، ناهيك عن الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي أو الصين، وبالتالي، فهي تعد نموذجا أفضل لمنظمة عالمية محتملة. صحيح أنها قد تتفكك، لكنها تجربة مدهشة. لذا، أريد أن أوصف بأنني مواطن هندي.
44
في مناسبة أخرى، وصف هالدين الهند بأنها «أقرب تجسيد للعالم الحر». اعترض صديق أمريكي له قائلا إن انطباعه كان أن «الهند بها نسبة كبيرة بعض الشيء من الأوغاد وقدر هائل من الأشخاص الفقراء الجهلاء، الخانعين على نحو مشمئز، غير الجذابين».
45
وعلى هذا، رد هالدين:
ربما لدى الفرد حرية أكبر ليكون وغدا في الهند أكثر من أي مكان آخر. وهكذا كان الحال في الولايات المتحدة في أيام أشخاص مثل جاي جولد، عندما (في اعتقادي) كانت توجد هناك حرية داخلية أكثر مما هي عليه اليوم. أما عن «الخنوع المثير للاشمئزاز» للآخرين، فله حدود. فسكان كلكتا يقومون بأعمال شغب ويقلبون عربات الترام ويرفضون الانصياع لأوامر الشرطة، بطريقة كانت ستعجب جيفرسون. لا أعتقد أن تلك الأنشطة فعالة جدا، لكن ليست تلك هي المسألة محل النقاش.
46
بعد أربعين عاما، ما أطلق عليه هالدين «تجربة مدهشة» يمكن اعتباره نجاحا معقولا؛ فالفقر يسود بعض المناطق (في الواقع، الكثير منها)، غير أننا يمكننا الآن أن نكون متأكدين من أن الهند لن تكون مثل دول أفريقيا التي تقع جنوب الصحراء الكبرى، وتعاني من مجاعة واسعة النطاق. كما توجد حركات انفصالية هنا وهناك، لكن لم يعد هناك خوف من أن تصبح الهند مثل يوغوسلافيا السابقة وتتشرذم إلى حفنة من الأجزاء المتصارعة. أحيانا ما تحدث إساءة استخدام كبيرة لسلطات الدولة، لكن لا يعتقد أحد على نحو جاد أن الهند ستكون مثل جارتها باكستان، حيث يرأس قائد الجيش بوجه عام الحكومة.
كأمة حديثة، الهند ببساطة فريدة. هي وحيدة من نوعها؛ فهي مختلفة ومتميزة عن النماذج السياسية البديلة مثل الليبرالية الأنجلو ساكسونية والجمهورية الفرنسية والشيوعية الملحدة والثيوقراطية الإسلامية؛ ففي عام 1971، في وقت الصراع على بنجلاديش، عندما وجدت الهند نفسها في وقت واحد في صراع مع الصين الشيوعية وباكستان الإسلامية وأمريكا، عبر دبلوماسي هندي عن تفرد بلاده هكذا:
يتعامل الغرب بحذر مع الهند لأنها ضد مفهوم الإمبريالية ولأنها «ابتدعت العالم الثالث».
وينظر بارتياب للهند في «العالم الثالث» بسبب ميولها (الهدامة) للديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرهما. كما أن العالم الإسلامي غاضب منها بسبب علمانيتها.
وتنظر الدول الشيوعية للهند على أنها متغطرسة - وربما خطرة - لأننا رفضنا الشيوعية باعتبارها الشرط الأساسي للتقدم.
نحن، بالطبع، نسعى لرضا الرب. لكن هل الرب يساندنا؟
47
اعتقد غالب، الشاعر الذي ظهر في القرن التاسع عشر، والذي افتتحنا بأبياته هذا الكتاب، أن الرب ساند بالفعل الهند. كان الصراع والفقر في كل مكان من حول غالب، لكن يوم القيامة لم يحل بعد. سأل حكيما في مدينة باناراس المقدسة: «لماذا لا ينفخ في الصور؟» وأضاف: «من بيده القيامة؟» وكانت تلك هي الإجابة التي حصل عليها:
الرجل العجوز الأشيب صاحب الرؤية الثاقبة
أشار باتجاه كاشي [اسم آخر لمدينة باناراس] وتبسم في هدوء.
وقال: «المهندس مغرم ببنائه
لأنه السبب في وجود الحيوية في الحياة. وهو
لا يريده أن يفنى وينهار.»
كان غالب ومحاوره يتحدثان حينها عن الهند كحضارة. أما عند الحديث الآن عن الهند كدولة قومية، فيجب أن نؤكد أن مستقبلها ليس في يد الرب وإنما في يد أبنائها وأعمالهم. لذا، ما دام الدستور لا يعدل بحيث تختفي ملامحه الأساسية تماما، وما دامت الانتخابات تعقد بانتظام وبنزاهة وروح العلمانية سائدة على نطاق واسع، وما دام المواطنون يمكنهم الحديث والكتابة باللغة التي يريدونها، وما دام هناك سوق متكاملة ودائرة خدمة مدنية وجيش على قدر معقول من الكفاءة، وحتى لا أنسى ما دامت الأفلام الهندية تشاهد ويشدى بأغانيها؛ فإن الهند ستبقى.
تقسيم الهند البريطانية: اللورد ماونتباتن (المنتصف) وجواهر لال نهرو (أقصى اليسار) ومحمد علي جناح (اليمين)، يناقشون شروط الاستقلال والتقسيم، نيودلهي، مايو 1947 (صحيفة «ذا هندو»).
جواهر لال نهرو يتحدث مع اللورد والليدي ماونتباتن، نيودلهي، نحو نوفمبر-ديسمبر 1947 (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
مجموعة من الهنود سائرون بغية الانضمام إلى موكب جنازة غاندي، نيودلهي، 31 يناير 1948 (هنري كارتييه-بريسون/ماجنم).
فالابهاي باتيل (1875-1950)، «رجل الهند الحديدي»، مدمج الولايات الأميرية، ولاعب رئيسي في صياغة الدستور الهندي (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
المحامي والاقتصادي بي آر أمبيدكار (1892-1956)، القائد الملهم للطوائف الاجتماعية الدنيا ورئيس لجنة صياغة الدستور الهندي (صحيفة «ذا هندو»).
مدينة خيام للاجئي التقسيم من شرق البنجاب، مخيم كينجزواي، دلهي، نحو عام 1948 (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
اللاجئون البنغاليون يحتجون في شوارع كلكتا، نحو عام 1950 (صحيفة «أناندا بازار باتريكا»).
بوتي سريرامولو (1901-1952)، الذي أدت وفاته إثر صومه عن الطعام إلى إقامة ولاية أندرا براديش، وإعادة رسم خريطة الهند على أسس لغوية في نهاية المطاف (صحيفة «ذا هندو»).
المعلم تارا سينج (1885-1967)، الواعظ والداعية وباني المؤسسات وهادمها، الذي لم تؤت معركته الطويلة من أجل إقامة مقاطعة سيخية ثمارها إلا بعد وفاته. الصورة مأخوذة في سيملا، نحو عام 1946 (صحيفة «ذا هندو»).
الجدل الدائر بشأن إصلاح قوانين الأحوال الشخصية الهندوسية، نحو عام 1949-1950، كما صوره عميد رسامي الكاريكاتير الهنود، آر كيه لاكشمن (آر كيه لاكشمن).
إم إس جلوالكر (1906-1973)، زعيم منظمة راشتريا سوايامسيفاك سانج، الناصح والمعلم لأجيال من المتطرفين الذين أكملوا مسيرته من أجل إقامة دولة هندوسية (صحيفة «أناندا بازار باتريكا»).
جواهر لال نهرو والزعيم الكشميري الشيخ محمد عبد الله حينما كانا لا يزالان صديقين، في سريناجار، نحو عام 1949 (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
جواهر لال نهرو يوجه خطابا إلى مؤتمر شعبي في سريناجار، عام 1952. الشيخ عبد الله - الجالس إلى يمين نهرو مباشرة - سجنته حكومة نهرو بعد مرور عام (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
مجموعة معظمها من نساء مسلمات يصطففن للإدلاء بأصواتهن في الانتخابات العامة الأولى في مدينة دلهي القديمة، فبراير 1952 (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
ملصق انتخابي لحزب المؤتمر عام 1952، يصور رئيس ومدير حملته الانتخابية، جواهر لال نهرو. صدر الملصق بعدة أحجام وألوان ولغات. وبصفة إجمالية، طبع ووزع من هذا الملصق 750 ألف نسخة (مجموعة المؤلف).
أحد جوانب حركة عدم الانحياز: جواهر لال نهرو يحيي الزعيمين السوفييتيين: نيكولاي بولجانين ونيكيتا خروتشوف في مطار دلهي، عام 1955 (مجموعة المؤلف). «الهنود والصينيون إخوة»: نهرو ورئيس الوزراء الصيني تشو إن لاي عندما كانا لا يزالان صديقين وإن لم يكونا شقيقين، نيودلهي، 1956 (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
جواهر لال نهرو مع الباحث ورجل الدولة تشكرافارتي راجا جوبالاتشاري، في نيودلهي، نحو عام 1959. «راجا جي»، الذي كان من أعمدة حزب المؤتمر ذات يوم، أسس في سن الثمانين حزب سواتنترا وتزعمه لمعارضة سياسات نهرو وحزب المؤتمر (مجموعة المؤلف).
نهرو مع صاحبة الجمال الأسطوري مهراني جيارتي ديفي من جايبور، في نيودلهي، نحو عام 1955. فيما بعد انضمت جيارتي ديفي إلى حزب سواتنترا الذي أسسه راجا جي، ولاحقا، سجنت على يد إنديرا غاندي (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
في كيه كريشنا مينون (1897-1974)، كاتم أسرار نهرو ووزير الدفاع المثير للجدل في السنوات السابقة على الحرب مع الصين عام 1962 (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
عدو مينون اللدود جيه بي كريبالاني، المقاتل المحنك في معارك كثيرة مع الراج البريطاني وحكومات متعاقبة في الهند الحرة (متحف ومكتبة نهرو التذكاريان).
لال بهادور شاستري الضئيل الجسد يتأمل تمثالا نصفيا للرجل العظيم الذي خلفه شاستري في منصب رئيس الوزارة. وخلال فترة حكم قصيرة، تمكن شاستري من إثبات جدارته بدرجة كبيرة (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
لال بهادور شاستري مع زعيم التبت، الدالاي لاما، الذي طلب اللجوء إلى الهند وحصل عليه، نيودلهي، 1965 (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
أنجامي زابو فيزو، الزعيم الذي لا يرحم ولا يلين لحركة ناجا الساعية إلى التحرر من الحكم الهندي (صحيفة «أناندا بازار باتريكا»).
النصب التذكاري للشهداء في القرية التي نشأ فيها فيزو؛ خونوما (صحيفة «أناندا بازار باتريكا»).
مواطنون يقفون أمام مبنى إذاعة «أول إنديا راديو» في انتظار مشاهدة نتائج الانتخابات العامة، بنيودلهي، عام 1971 (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
كتابات على جدران شوارع بومباي، عام 1970 تقريبا، تخلط بين أكبر شغفين شعبيين في الهند: الانتخابات والأفلام (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
إنديرا غاندي مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، الزعيم الأجنبي الأكثر كراهية لها، بواشنطن، عام 1971 (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
أشجع معارضي إنديرا غاندي الداخليين، الاشتراكي والأخصائي الاجتماعي: جايا براكاش نارايان (صحيفة «ذا هندو»).
إنديرا غاندي وابنها المفضل، سانجاي غاندي، نحو عام 1975 (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
الأم الكبرى/الدعاية المضللة: إنديرا غاندي في مؤتمر عن «الديمقراطية» عقد أثناء فترة الطوارئ (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
سي إن أنادوراي، الخطيب الموهوب الذي قاد أول حزب إقليمي ناجح في الهند؛ حزب درافيدا مونيترا كازاجام (صحيفة «ذا هندو»).
النجم السينمائي الكبير إم جي راماتشندران، أحد أتباع أنادوراي، الذي أصبح هو أيضا رئيس وزراء ولاية تاميل نادو (صحيفة «ذا هندو»).
جيوتي باسو، المحامي الذي تلقى تعليمه في لندن ثم تحول إلى الشيوعية، يؤدي قسم رئاسة وزراء ولاية غرب البنغال، وذلك بمقر حكومة الولاية، كلكتا، عام 1977. ظل باسو في ذلك المنصب ثلاثة وعشرين عاما، وكان حزبه - الحزب الشيوعي الماركسي - لا يزال في السلطة وقت كتابة هذه السطور (صحيفة «أناندا بازار باتريكا»).
بالا صاحب تاكري، رسام الكاريكاتير الذي تحول إلى زعيم ديماجوجي، والذي وصل حزبه - شيف سنا - إلى السلطة عدة مرات في مهاراشترا، الذي كانت كوادره مسئولة عن سلسلة من الهجمات على المسلمين (صحيفة «ذا هندو»).
صورة لمورارجي ديساي المتجهم عادة، بابتسامة نادرة على وجهه، نحو عام 1977. بعد أن كان ديساي عضوا في حزب المؤتمر لما يربو على أربعة عقود، أصبح أول رئيس وزراء للهند من خارج حزب المؤتمر عام 1977، بعد رفع حالة الطوارئ (صحيفة «ذا هندو»).
رئيسة الوزراء إنديرا غاندي تتفقد الحرس عند القلعة الحمراء في دلهي يوم عيد الاستقلال، الموافق 15 أغسطس. الصورة التقطت عام 1980، وقد بدت وفاة ابنها سانجاي حديثة العهد محفورة في قسمات وجهها (المكتب الإعلامي الصحفي الهندي).
صورة التقطت للمعبد الذهبي في أمريتسار في مايو 1984، قبيل هجوم الجيش. تظهر الصورة بوضوح التحصينات التي كان المسلحون السيخ يعدونها (صحيفة «ذا هندو»).
راجيف غاندي، ثالث عضو في أسرته يشغل منصب رئيس وزراء الهند، وأول واحد من بينهم يشغل المنصب دون كامل إرادته (صحيفة «ذا هندو»).
جنود هنود وقد استولوا على نقطة مراقبة محورية أثناء صراع كارجيل عام 1999 (بعدسة براشانت بانجيار/مجلة «أوت لوك»).
مظاهرات معارضة لإنشاء سد في ماهيشوار، بولاية ماديا براديش، نحو عام 2000 (صحيفة «ذا هندو»).
أتل بهاري فجبايي، السياسي والخطيب الهندوسي، الذي كللت العقود الطويلة التي قضاها بين صفوف المعارضة أخيرا بفترة خمسة أعوام كاملة في منصب رئيس وزراء الهند (صحيفة «ذا هندو»).
السياسية ماياواتي، من طائفة الداليت، تحتفل بعيد ميلادها أثناء شغلها منصب رئيس وزراء أوتر براديش، ومعلمها كانشي رام (الذي إلى يمينها) يقف متفرجا (صحيفة «ذا هندو»).
نساء في مانيبور يحتججن على فظائع ارتكبها الجيش الهندي، يوليو 2004 (صحيفة «أمريتا بازار باتريكا»).
انفصاليون مسلمون في كشمير، نحو عام 2000 (وكالة أنباء «أسوشيتد برس»).
أحد المحتجين على تخصيص نسبة محددة من المناصب الحكومية للطوائف الاجتماعية المتخلفة يشعل النار في نفسه، نيودلهي، 1990 (وكالة أنباء «أسوشيتد برس»).
راديكاليون هندوس أعلى مسجد بابري في أيوديا، يتأهبون لهدمه، 6 ديسمبر 1992 (صحيفة «ذا هندو»).
أميتاب باتشان في فيلم «آمار أكبر أنتوني» من إخراج مانموهان ديساي، عام 1977، الذي يحكي عن ثلاثة أشقاء فرقوا في طفولتهم؛ نشأ أولهم هندوسيا وثانيهم مسلما وثالثهم مسيحيا. وبطبيعة الحال، يلتئم شمل الأشقاء الثلاثة في النهاية (بإذن من نسرين مني كبير).
صورة المطربة الكلاسيكية الشهيرة إم إس سوبلاكشمي (1916-2004)، تزين غلاف مجلة تصدر في مدراس، لم تجد داعيا لتقديمها (مجموعة المؤلف).
ملاحظات
مفتاح الاختصارات
Archer, “Journal” :
Mildred Archer, “Journal of a Stay in the Naga Hills, 9 July to 4 December 1947,” MSS. Eur. F. 236/362.
CAD :
Constituent Assembly Debates-Official Report (New Delhi: Lok Sabha Secretariat, 1988).
CWMG :
Collected Works of Mahatma Gandhi (New Delhi: Government of India, 1958-).
EW :
Economic Weekly.
HT :
Hindustan Times.
LCM :
jawaharlal Nehru,
Letters to Chief Ministers,
5 vols., ed. G. Parthasarathi (New Delhi: Oxford University Press, 1985-1989).
NMML :
Nehru Memorial Museum and Library, New Delhi.
OIOC :
Oriental and India Office Collections, British Library, London.
SPC :
Durga Das, ed.,
Sardar Patel’s Correspondence, 1945-1960,
10 vols. (Ahmedabad: Navijan, 1971-1974).
TOI :
Times of India.
TOP :
Nicholas Mansergh, ed. in chief,
Constitutional Relations between Great Britain and India-Transfer of Power, 1942-1947,
12 vols. (London: Her Majesty’s Stationery Office, 1970-1983).
WP I, WP II, etc. :
White Papers, government of India, 1959-1962.
تمهيد
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الجزء
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
الفصل
خاتمة
Неизвестная страница