أنا أدري أنك تعرف هذا جميعه؛ فهذا الحديث الذي أسوقه إليك لا يضيف جديدا إلى علمك. ولكنني ألجأ إليك اليوم لتكون حكما بيني وبين رئيسي؛ أنا أدري أنك لا تستطيع أن تؤثر عليه؛ فهو لا يتأثر برأي أحد، ولكنك الوحيد الذي أستطيع أن ألجأ إليه، على الرغم مما أعلمه عنك من أنك لا تحبني، بل إنني أعلم أكثر من ذلك أن قولي إنك لا تحبني فيه تجاوز كبير؛ فأنت لا تفكر في أمري حتى تكرهني؛ فأنا أهون عندك من تكوين شعور معين نحوي. ولكنك الوحيد الذي ألجأ إليه رغم ذلك جميعه؛ فمكانتي عند الجميع هي مكانتي عندك؛ فإن أحدا لا يفكر في أمري حتى يكون شعورا معينا نحوي، وزوجتي وأولادي يعتبرونني بكل بساطة اليد التي تقبض لهم المرتب في أول الشهر، فهم في دخيلة أنفسهم يعجبون لماذا أقبض هذا المرتب، فهم أعلم بحقيقة مؤهلاتي من غيرهم؛ وهم بالتالي أكثر احتقارا لشأني من الآخرين، وإن كانوا لا يبدون لي هذا الاحتقار. وهذه الأفكار التي أسوقها إليك لا أستطيع أن أسوقها إليهم. فأنا إنما أرويها لك لأنك تعرفها وتستطيع أن تواجهني بها وقتما تشاء، أما هم فيعرفونها ولا يجرءون على إبدائها، وأنا أعلم أنهم يطالعونني بآرائهم، فأنا أستغل هذا النفاق منهم وأحافظ عليه ولا أريد أن يزول.
أنت إذن الشخص الوحيد الذي أسوق إليه هذا الحديث في هذا الخطاب الذي أرجو أن تتصرف فيه بعد قراءته بحيث يختفي تماما من الوجود.
إنها المرة الأولى التي وجدت نفسي فيها في حاجة إلى الحديث؛ فإن لم أتحدث فقد أموت، وأنا لا أريد أن أموت؛ خاصة وأنا أشغل هذا المنصب الهام في الشركة، والذي أرجو أن أظل محتفظا به بغير زيادة ولا نقصان إلى أن أنتقل إلى الدار الآخرة. نعم؛ فإن من مميزاتي التي أعلم بها في نفسي أنني بلا طموح؛ أرضى بما يعطى لي راضيا به شاكرا له. ومن أعجب ما سمعت يوما من أحد زملائي الذين يشغلون منصبا كبيرا أنه أصبح لا يستطيع أن يطمع في وظيفة أكبر لأنه بلغ القمة في الفرع الذي يعمل به. فهو غاضب لأنه لا يجد لنفسه أملا جديدا يسعى إليه. وكان جوابي البسيط له أن الأمل الأكبر الذي يجب أن يسعى إليه هو أن يظل في هذا المنصب، والآن هذا هو الأمل الذي أسعى إليه، ولكن يبدو أن أملي هذا لا يريد أن يتحقق.
تصور، تصور أن شخصا له كل هذه المؤهلات التي ذكرتها لك يهدده رئيس مجلس الإدارة بالرفت.
لم يهددني مباشرة؛ فأنا أهون من أن يهددني مباشرة، ولكن حديثا شاع في مكتبه أنه يفكر هذا التفكير. لماذا بربك؟! أي نفع يعود عليه من هذا التفكير؟! إنني لا أمانع أن يضع معي من الوكلاء ما يشاء، بل إنني لا أمانع إذا رقى مرءوسي جميعا فجعلهم رؤساء لي؛ ففكرة الرفت في ذاتها عجيبة كل العجب بالنسبة لشخص مثلي أقل مميزاته أنه لا يضر، لا يضر مطلقا، ولا يهمه إن كان لا ينفع أيضا؛ فبحسبه أن يكون بوقا جيدا لرئيسه.
إنني أتمزق، يكاد القلق يقتلني، لم أجد شيئا أفعله إلا أن أكتب لك هذا الخطاب، وأنا واثق أنه لا جدوى من كتابته إلا أنني أردت أن أكتبه.
ولا تسألني عن السبب الذي يمكن أن يكون دافعا لفكرة رفتي هذه؛ فهيهات هيهات أن يكون هناك سبب، وهذا ما يفزعني؛ فإنه من المستحيل أن أصنع شيئا يمكن أن يكون سببا أو شبه سبب لرفتي، وهذا ما يحزنني؛ فأنا والوضع هكذا لا أستطيع أن أناقش فكرة رفتي؛ لأنها فكرة نشأت دون أن يكون لها دافع يمكن أن يناقش.
مزق هذا الخطاب أو احرقه؛ فإنني فقط أردت أن أقول لك وقد قلت، ولا أعتقد أنني شعرت بالراحة بعد أن قلت؛ فإن ما سمعته ينغص عيشي ويمزقني تمزيقا، مزق هذا الخطاب أرجوك، مزقه والله هو المستعان.
قصاصات
قصد إلى مكتبه في هدوء كأنما تجذبه قوة غير منظورة لا يدري كنهها، وجلس على الكرسي الذي تعود أن يجلس عليه منذ سنوات وسنوات، ومد يده اليسرى ففتح هذا الدرج الذي ظل سنوات طويلة يريد أن يخلو ما يحويه، درج عميق عميق، كان يفتحه بين الحين والحين ليلقي إليه شيئا وكان دائما يقول في نفسه: أريد أن أخلو إلى هذا الدرج لأستعيد كل ما يحويه، وتمر الخاطرة بذهنه سريعة عابرة مع ذلك النوع من التصميم الذي لا يصل إلى التنفيذ، لقد مرت به أوقات فراغ كبيرة، ولكنه لا يذكر الدرج إلا حينما يجد شيئا منشورا عنه في إحدى الجرائد، وحين يقص هذا الذي كتب عنه ويلقي به إلى الدرج تعاوده هذه الهمسة المصممة: متى أجلس إلى هذا الدرج لأستعيد ما فيه؟! ثم يقفل الدرج ويعود إلى مألوف حياته، حتى يجد شيئا مكتوبا عنه. كثيرا ما جلس إلى المكتب وكتب، ولكن فكرة أن يفتح الدرج لم تخطر له على بال، ولكنه اليوم يجلس على الكرسي ويفتح هذا الدرج الأيسر العميق العميق.
Неизвестная страница