قال الصحافي: «هبط علي خليل لقمان هبوط الملاك على إنسان في حين لم أكن على ميعاد، وأول ما وصل سلم علي وأخبرني أنه قادم لغرض واحد، وهو الاجتماع بأستاذ في جامعة نيويورك، ولما أنهى غرضه زار الإدارة ليتعرف بها، وأوصاني مشددا ألا أذكر لأحد الناس عن قدومه، وألا أعرفه البتة بإنسان. وقد شاء أن يودعني ليئوب إلى بفلو على قطار الليل، ولكني بعد إلحاحي الشديد قبل أن يكون ضيفي تلك الليلة وحدها، حيث أصرف السهرة معه ولا ثالث بيننا، فأقفلت الإدارة وذهبت به إلى محطة الطوف، وفيما نحن جالسان إذا بعزيز السيار قد جلس حيالي، وسألني على صحة أفراد العائلة في الوطن، وإذا كنت أسمع منهم كل بوسطة، إلى ما تعرفانه من سؤالاته الكثيرة، ثم استأذن مني عددا من جريدتي كان بيدي، وأول ما وقع نظره على مقالة صغيرة لخليل لقمان قال لي: «أتدري أني لا أقرأ جريدتك إلا لأن خليلا يكتب فيها؟» وأن الواجب علي أن أحتفظ به لئلا تنقل كتاباته إلى جريدة أخرى. ثم سألني عما إذا كنت أعرفه شخصيا فأجبته نفيا لأرى ما وراء ذلك، فقال لي إن الأحسن ألا أجتمع به، فإذا رأيته سقط من عيني؛ لأن له خلقا أعوذ بالله - هكذا قال - له شعر مسترسل على كتفيه كالدراويش، وله أنف كخرطوم الفيل، وأذنان كبيرتان تعد الواحدة بثلاث آذان، وعينان صغيرتان كعيني الخلد ... والخلاصة: له خلقة مخيفة، ثم قال: مسكين خليل لقمان على سحنته، ولكن له قلما ومواهب عقلية سامية، والأحسن للناس ألا يتعرفوا به. وما وصل إلى هذا الحد حتى جاء الطوف فنهضنا، وأسرعنا مع الركاب للنزول فيه، وقد ظل عزيز ملاصقا إياي من عن يساري وخليل لقمان عن يميني لا يفتح فاه بكلمة، ولكنه كان يبتسم، وكان الأول كل الطريق يصف لي خليلا كما يعرفه، وأخبرني عن حوادث جرت له معه في بفلو وفي نيويورك، وأنه صديق له ولعائلته من زمان، حتى وصلنا إلى الجانب الثاني من النهر، فخرجنا مع الركاب إلى أرض بروكلن، وهناك وقفت لأودع عزيزا ليأخذ طريقه وأنا مع رفيقي نأخذ طريقنا، وقد شاءت العناية ألا يذهب في سبيله حتى يكمل الفصل، فبعد أن ودعني هزا باليد قال لي: ولماذا لم تعرفني بصاحبك؛ فقد ظننته بادئ الأمر غريبا عنك؟ فقمت إذ ذاك بواجب التعريف بين الاثنين، فقلت: الحق علي يا صديقي في هذا التقصير، ولكنك يا عزيز لم تعطني سبيلا لأعرفك بصديق كلينا خليل لقمان. وفي تلك اللحظة لم يعد عزيز سيار عزيزا السيار؛ فقد امتقع لونه كأنه أبدل خلقا، ولكن خليلا اقترب منه فأمسك بيده، وقال له إنه عرف منذ البداءة بحديثه أنه كان غلطانا وقد أكد تماما أنه - أي عزيز - كان يصف شخصا آخر ظنه خليل لقمان.
أما عزيز فلم يقل كلمة، ولكنه سحب يده ومضى في سبيله».
عند هذا توقف الصحافي عن الكلام بضع ثواني، ثم استأنف الحديث فقال: «وقد بتنا ليلة أمس وأنا أجرب أن أسلي خاطر خليل لأذهب عنه تأثره الشديد على حالة عزيز في ساعة تعرف به، ولكنه لم يطق نوما وكان كل وهلة وأخرى يسمعني توبيخه اللطيف لقساوتي الشديدة التي استعملتها معه، وقد قال لي إنه لو عرف أن المسألة ستنتهي كما انتهت لما صبر على سماعه حديث عزيز، ولكان قطع حديثه، وعرف نفسه به خوفا من التهور الذي تم.»
وخرج الشريكان من إدارة الصحافي ولا يزالان حتى اليوم - وقد مضى على الحادثة عشر سنوات - يتنازعان على الرهن، فالأول يقول إنه ربح الرهن؛ لأن عزيزا لم يعرف خليلا ولا اجتمع به كما ادعى، والثاني يقول إنه هو الرابح؛ لأنه ظهر أن عزيزا اجتمع بخليل وكفى.
أقصر الطرق
لغط الناس ثلاثة أسابيع بحادثة خليل عساف، وهي أنه خطف ابنة مراد البسيط، وقد شغل أهل المخطوفة أسلاك التلغراف والتلفون كل الأسبوع الأول، مفتشين على ابنتهم، فلم يفلحوا بخبر عنها وعن الذي خطفها.
بعد الأسبوع الأول صار أقرباء مراد البسيط يلومونه لعدم سماحه لابنته ماري بأن تتزوج بخليل تزوجا عاديا؛ فلو أنه رضي بذلك لما عرضها للانقياد إلى إرادة حبيبها والهرب من بيت أبيها؛ مما جعل اسم العائلة مضغة في أفواه الناس. أما مراد، فكان يتلقى توابيخ ذويه بصبر عجيب، فعبثا حاول إقناعهم بأنه لم يصد خليلا البتة، وأنه كان يميل إلى مصاهرته، ولم يظهر له عدم رغبة فيه ولا مرة، وجل ما قال له آخر شيء أن يقتصد بمصروفه، وأن يعمل باجتهاد كلي ويصبر على حاله في الأقل سنة أو سنتين لبينما يتوفر معه على الأقل مبلغ من المال لنفقات العرس. ولو أنه عرف أن الآخرة ستكون على هذه الصورة لرضي به صهرا ولم يعرضه لخطف ابنته، ولكن ما العمل؟
بعد الأسابيع الثلاثة عاد خليل إلى نيويورك تصحبه عروسه التي زفت إليه في إحدى قرى بنسلفانيا، ولما وصلا إلى المدينة اتفقا على النزول في أحد نزل نيويورك؛ لأن العروس خافت أن تظهر أمام أبيها وقد كسرت إرادته وخشيت من العواقب، والعريس أيضا خاف التسرع بالظهور أمام حميه، وحسب أن أهل عروسه لا يزالون نارا تلتهب غيظا منه ومن زوجته.
في ذلك اليوم اختلف العروسان على من يوصل الخبر إلى أبي العروس، وإنما كان اختلافا يتخلله الحب والدلال؛ فإن العروس رفضت بتاتا أن تذهب إلى بيت أبيها، ولم تعرف بعد إذا كان يرضى عنها ويصفح عما أتته مما أقامه وأقعده، وجعله يلزم البيت ثلاثة أسابيع والناس أفواجا يأتون ويذهبون إلى داره كأنه أصيب بفقد ابنته لا أنه أنعم عليها بزواجها. والعريس قال إن أباها ليس أباه، فهو لا يهمه رضي أو لم يرض، فإذا كانت عروسه تلح بالصلح، فالأمر متعلق بها نفسها.
وأخيرا اتفقا على أن يلقيا القرعة على من يكون رسول البلاغ، فوقعت القرعة أولا على العروس، فلم تذعن واقترحت أن تثني القرعة فرضي الزوج مضطرا ووقعت القرعة الثانية عليه، فتردد أولا وحاول التملص من تلك المهمة الصعبة، ولكن نظرات ماري قربته إلى الحيلة، فهب لساعته وتناول التلفون فطلب حماه مرادا، وخاطبه قائلا: «أنا خليل، قد عدت إلى نيويورك وعلمت أنك ساخط علي، فعرفت أني مخطئ، وقد قلت لماري أن تعود إلى بيتك فلم تحفل بقولي، وأخيرا عملت ما يجب علي، فها إني تارك لك ابنتك في نزل غراند فتعالوا خذوها، وأنا مسافر إلى محل إقامة أخي في ولاية تكسس بقطار الساعة الثالثة بعد الظهر.»
Неизвестная страница