وقد صدقت عائلة النبي محمد برسالته، وكذلك علي وزيد، وانضم إليه أبو بكر الذي غدا من أكبر أنصاره، وأكد أكثر مؤرخي العرب أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وأن خديجة أول من أسلمت من النساء.
وقد أراد النبي محمد في بدء رسالته أن يسير على عادات قبيلته فدعا كبار عشيرته، وأعلنهم برسالته، فلما سمعوا منه مقالته استكبروا منه ذلك، وأخذ الغضب منهم مأخذا عظيما؛ لأنهم انتظروا أن يسمعوا منه كلاما عن تجارة أو غزوة، وقال له أبو لهب أحد أعمامه بلهجة الغضب: ألهذا دعوتنا؟! فاختنق واصمت، ثم تفرقوا صاخبين هازئين.
ثم أخذ النبي محمد يجاهر برسالته؛ فعاب دين قبيلته، وسفه أحلامها، وسب آلهتها، فأساء بذلك إلى أشراف القبيلة، ورأوا في رسالته خطرا على البلاد وأهلها، ولكن لم يجسر أحد منهم أن يقاومه؛ خيفة من وقوع النزاع والشقاق، وفي سني رسالته الأولى لم يصدق بنبوته إلا 43 شخصا؛ أكثرهم من الفقراء والعبيد الذين سامهم مواليهم صنوف الاضطهاد والهوان، فأخذ إذ ذاك أبو بكر أعظم أنصار النبي محمد يفتدي أولئك العبيد بأمواله، واشترى مرارا بماله المعذبين لإنقاذهم من الآلام.
وفي خلال ذلك طلب القريشيون من أبي طالب عم النبي محمد؛ لكي يرجع ابن أخيه عن كلامه وحاله؛ فنصح له أبو طالب، ولكن النبي أجاب بقوله: «لو أعطوني الشمس بيميني، والقمر بشمالي؛ لكي أترك هذا الأمر قبل أن ينصره الله أو أهلك أنا في سبيله؛ فلن أتركه.» ولما قال هذا أراد الخروج فمسك به أبو طالب، وقال له: جاهر بأمر رسالتك وعلم ما تريد، فلست بمسلمك لهم يا ابن أخي، ولن أتركك أبدا.
وفي عام 617 توفيت خديجة، وبعد وفاتها بعدة أسابيع توفي أبو طالب أيضا، وبذلك انقطعت علاقات النبي محمد القبلية مع مكة؛ فغادرها إلى المدينة، ولم يمض على إقامته فيها زمن طويل حتى آمن برسالته كثيرون؛ ألفوا جماعة أطلق عليها جماعة المؤمنين، اشتهروا بالتقوى والصلاح، وحسب تعاليم الإسلام كانوا جميعهم متساوين في كل شيء، ولم يكن بينهم أثر للسيادة والانقسام إلى طبقات متفاوتة في الحسب والنسب كما كان الحال عليه عند القبائل العربية، وقد ضربت السكينة بين جماعة المؤمنين أطنابها، ورفعت المساواة قبابها، فتناسوا ما كان بينهم من الحزازات والضغائن، وأصبحوا يعيشون كنفس واحدة، وكان الواجب يقضي عليهم أن يدافعوا عن بعضهم بعضا، ويردوا هجمات غير المؤمنين.
وقد جرت عدة وقائع حربية بين أنصار النبي وأهالي مكة، انتهت بانتصار الأنصار الذين دخلوا مكة ظافرين، وقد طاف النبي وهو على ناقته حول الكعبة سبع مرات، ومس الحجر المقدس بعصاه، ثم أمر بتحطيم جميع الأصنام التي كانت منصوبة حول الكعبة، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله - عز وجل - ثم أمر المكيين أن يحطموا الأصنام الموجودة في منازلهم، وقد لبى الجميع هذا النداء؛ لوثوقهم بضعف آلهتهم، وأنها لا قوة لها.
وفي آخر رحلة رحلها النبي إلى مكة جمع حولها الحجاج، وذكرهم بجميع وصايا الإسلام، ونصح لهم بأن يعيشوا مع بعضهم عيشة سلام وأمان، وأن يكونوا إخوانا، وأن يتناسوا الأحقاد القديمة، ويكفوا عن سفك الدماء والأخذ بالثأر، وأوصاهم خيرا بزوجاتهم وعبيدهم، وفي الختام قال: إنني قد قمت بما عهد إلي.
وبعد عدة شهور مضت على مغادرته مكة انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، وكانت وفاته في اليوم الثامن من شهر يونيه سنة 638 في العام الثالث والستين من سني حياته، وقبل وفاته أعتق جميع عبيده.
إن محمدا نبي الإسلام الذي يدين به الآن أكثر من مائتي مليون نفس قد قام بعمل عظيم جدا؛ فإنه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهلية وسفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، إلى معرفة الإله الواحد، وأنار أبصارهم بنور الإيمان، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله - سبحانه وتعالى - والحق الذي لا مراء فيه أن النبي محمدا قام بعمل عظيم، وانقلاب كبير في العالم، ومن أراد أن يتحقق ما هو عليه الدين الإسلامي عليه أن يطالع القرآن الكريم بإمعان، وإذ ذاك يصدر حكما مبنيا على الحقائق الباهرة التي يتضمنها، وقد جاءت فيه آيات كريمة تدل على روح الدين الإسلامي السامية؛ فمنها الآية الكريمة القائلة:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .
Неизвестная страница