قلت لها: إنه بخير، لكنه منشغل في شيء ما، قلت لها كاذبا إنه أوصاني بأن أطمئنها، وأخبرني بأنه سيتصل بها قريبا. فلا داعي للقلق. قالت إن هناك شيئا مهما للغاية تريد الحديث معه بخصوصه، وطلبت مني أن أخبره أن يتواصل معها في أقرب فرصة، شيئا ما عن والدها وضغوط أسرتها، لم أفهم شيئا مما قالت؛ لأنها انفجرت بالبكاء مع بداية حديثها ولم أفهم حرفا.
ثم بدأ الأمن في حملة الاعتقالات مبكرا؛ تحسبا وخوفا من انتقال العدوى للخرطوم، استهدفوا قيادات الأحزاب والنشطاء الميدانيين، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كذلك، كانوا يداهمون المنازل ليلا ونهارا.
في ذلك اليوم كنت عائدا من الجامعة، عندما وجدت سيارة البوكس الحكومية الزرقاء تقف أمام السكن الداخلي، قاموا باعتقالي واقتيادي لأحد المراكز الطرفية بالعاصمة. وهناك قال لي قائدهم الضخم الجثة إنهم يعرفون أن «عمار» متورط في تكوين جماعات سرية؛ بهدف تحريض الغوغاء وبعض ذيول التمرد والخلايا النائمة للخروج للشوارع، وتخريب ممتلكات الدولة وإشاعة الفوضى. قال إن الدولة تعتبره مارقا وشخصا خطرا. قال إنهم يريدون مني مساعدتهم في الوصول إليه.
وعندما قلت لهم إنني لا أعرف مكانه، ولا كيفية الوصول له قاموا بتهديدي، عرضوا علي صورا لقريتي، قالوا لي إنهم يعرفون مكان إقامة والدتي وأخي الصغير، يعرفون أسماءهما الثلاثية، وتاريخ ميلادهما ومكان بيتي، يعرفون شيخ «مبارك» إمام المسجد، و«صلاح» راعي الماشية و«هارون» صاحب البقالة المتهالكة، وحاجة «فاطمة» التي تبيع القدوقدو والكول والتركين، وعم «جمعة» المجنون الذي يجري في شوارع القرية، ويسيره الأطفال بالطوب وروث البهائم. يعرفون كل هؤلاء.
قالوا لي إنني سأكون مسئولا عن أي مكروه يصيبهما ، إذا لم أتعاون معهم. - «لن تسمح بأن تتأذى الوالدة التي حملتك في بطنها تسعة أشهر. لست ابنا عاقا. أليس كذلك؟»
وعندما خرجت في اليوم التالي، عرفت أنني سأفعل ما يريدون.
بالطبع لا حاجة لأن أقول لك إن الانتفاضة اندلعت في الخرطوم بعدها بيومين، وكلنا نعرف تفاصيل المسيرات اليومية لطلاب الثانوي والجامعات، وتوتر الأوضاع والأرواح التي أزهقت.
توقفت عن الذهاب للجامعة، وبدأت ألازم المنزل.
ثم بدأ الحديث همسا عن جمعة قادمة يحتشد فيها المتظاهرون بحشود ضخمة، نوع من الضربة القاصمة التي ستوحد الجميع وترعب الأمن، وتجذب أنظار العالم الخارجي لسوء الوضع؛ حتى لا تطلق الحكومة يدها في قتل الجميع بجنون. وبقليل من الحظ والإصرار سيحدث التغيير المنتظر.
أسموها جمعة الشهداء، تكريما لأرواح العشرات الذين ماتوا في الأيام السابقة.
Неизвестная страница