والوظيفية
Fonctionalisme
بأنها «الشكل النظري العقلاني لنظام لا عقلي».
لهذه الأسباب كلها، ولأن ماركيوز كان على الدوام فيلسوفا؛ فقد اصطنع لنفسه منهجا هو أقرب إلى الانطباعات الخاصة منه إلى البحث الموضوعي المنظم. وصحيح أن هذه الانطباعات الخاصة كانت عميقة في كثير من الأحيان، ولكن الخطر الذي يهدد هذا المنهج الانطباعي هو أنه قد يكون مرتكزا على أحكام نمطية مستمدة من نفس المجتمع «ذي البعد الواحد» الذي يريد أن ينقده. وسوف نرى بعد قليل أمثلة لهذه الأحكام النمطية التي أخذ بها ماركيوز دون مناقشة، وكانت لها في فكره نتائج خطيرة. ولعل أخطر هذه النتائج هي توقفه عند حد الرفض بطريقة انفعالية، وعجزه عن تحليل العلاقات الموضوعية في المجتمع الذي ينقده بطريقة علمية مدروسة.
فهل استطاع ماركيوز بمنهجه هذا، أن يقدم نقدا حقيقيا للمجتمع الرأسمالي؟ أو لنتساءل بتعبير أدق: هل كانت الحصيلة النهائية لنقد ماركيوز في صالح المجتمع الرأسمالي أم في غير صالحه؟
من المؤكد أن ماركيوز قد وجه إلى النظام الرأسمالي انتقادات تمس هذا النظام في صميمه، ومن المؤكد أيضا أن أفكاره كانت عاملا من عوامل تنبه الأذهان - ولا سيما بين الأجيال الشابة - إلى عيوب نظام يجيد إخفاء نقائصه ويعرف كيف يكسوها رداء براقا شديد الإغراء. ولا بد للمرء أن يعترف بأن بعضا من أفكار ماركيوز الأساسية مثل «أحادية البعد» في المجتمع الرأسمالي، وفكرة اندماج القوى المضادة للمصالح السائدة داخل النظام نفسه بطريقة تؤدي إلى كبت التغير الاجتماعي وتحول الطبقات العاملة إلى قوى مؤيدة للنظام، واستخدام مستوى المعيشة المرتفع وسيلة لتقييد حرية الإنسان والقضاء على ثوريته، والعيوب التي تتولد عن «الوعي الاستهلاكي السعيد»، وضحالة الثقافة التي تسود هذا المجتمع وسطحيتها ونزوعها إلى المسايرة - هذه الأفكار أصبحت تكون جزءا لا يتجزأ من نظرة المثقفين المستنيرين إلى المجتمع الرأسمالي. وعلى الرغم من أن ماركيوز لم يكن أول من قال بها، فلا جدال في أنه أسهم بدور كبير في نشرها.
ومع ذلك فإن التحليل الدقيق لآراء ماركيوز يكشف عن نقاط التقاء خفية كثيرة بينه وبين النظام الرأسمالي. وليس يعنينا هنا أن تكون هذه النقاط متعمدة أو غير متعمدة. فمن الممكن، مثلا، أن يستنتج المرء أمورا كثيرة من حقيقة اشتغاله لمدة طويلة في أعمال لها علاقة بأبحاث المخابرات التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، وفي مراكز البحوث الخاصة بأوروبا الشرقية في جامعتين أمريكيتين كبيرتين، وهي عادة مراكز بحوث يستفيد «النظام القائم» من حصيلة أبحاثها في رسم سياسته. ولكن من الممكن، في مقابل ذلك، أن يستبعد المرء وجود أي اتجاه متعمد لديه إلى خدمة الرأسمالية؛ لأن الضربات التي وجهها إلى هذا النظام، والتي ارتبطت بمظاهرات الطلاب اليساريين في بلاد مختلفة، أقوى من أن يمكن إدخالها تحت نمط الخداع المتعمد أو التمويه والتضليل من جانب عميل يريد في حقيقة الأمر خدمة النظام القائم.
لذلك لا نود أن نقحم أنفسنا في بحث عن النوايا والمقاصد الداخلية، وإنما يكفينا أن نبحث في الحقائق الموضوعية ذاتها. فما هي إذن الوقائع الفعلية التي يمكن أن يستند إليها المرء في قوله إن ماركيوز كان، في بعض جوانب تفكيره، يخدم النظام الرأسمالي من الوجهة الموضوعية؟ (1)
كان نقد ماركيوز ينصب أساسا على «المجتمع الصناعي المتقدم» - يستوي في ذلك الرأسمالي منه والاشتراكي؛ فهو لا يقيم وزنا كبيرا لموقف المجتمع من وسائل الإنتاج ومشكلة الملكية، بوصفها عوامل رئيسية في استعباد الإنسان الحديث أو تحريره، وإنما المشكلة في نظره هي أن الجهاز المعقد الشامل، الذي يسود المجتمعات الحديثة المتقدمة، أيا كان النظام الاجتماعي السائد فيها، هو الذي يؤدي إلى تسطيح الإنسان الحديث وجعله ذا بعد واحد. هذا النوع من التعميم الشديد يؤدي إلى تمييع المواقف، وعدم تحديد المسئوليات، بل إن ربط الاستبداد «بالجهاز الشامل» الذي يضم الجميع، معناه التستر على الدور الخاص الذي تلعبه أقلية مستبدة تتحكم في هذا الجهاز وتكسبه اتجاهه الاستبدادي المميز حرصا منها على مصالحها الخاصة.
فموقف ماركيوز هذا يؤدي إلى نتيجتين: الأولى أنه لا يميز، داخل النظام الرأسمالي، بين الأقلية ذات المصالح الجشعة والأغلبية التي تستبد بها تلك الأقلية دون أن تكون واعية بأنها منقادة لخدمة مصالح غيرها. والثانية أنه لا يفرق بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي من حيث مسئوليتهما عن الاستبداد بالإنسان الحديث. فهو يأخذ، بطريقة ضمنية، بفكرة «تقارب النظامين» التي نادى بها مفكرون مثل «ريمون آرون» والتي تؤكد أن التكنولوجيا الحديثة تتجه تدريجيا إلى تقريب الشقة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي وإلغاء ما بينهما من فوارق. وهذا أمر واضح كل الوضوح في كل ما يقوله عن تحكم نظم الإدارة الحديثة، وأساليب الترشيد الدقيقة، في الإنسان الحديث، سواء أكان ذلك في المجتمع الرأسمالي أم الاشتراكي. ومع ذلك، فإذا كان حكم ماركيوز هذا صحيحا بالنسبة إلى تطبيقات معينة للنظم الاشتراكية، فقد كان من واجبه أن يفرق بين «المبدأ» و«التطبيق»، وأن يدرك أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي، من حيث المبدأ، لا يمكن أن يكونا مسئولين بدرجة متساوية عن اغتراب الإنسان الحديث وفقدانه لأبعاده المتعددة. ولكنه، باتخاذه موقف الناقد للطرفين معا، لجأ إلى أسلوب يتبعه الكثيرون في عالمنا المعاصر من أجل محاربة «مبدأ» الاشتراكية في إطار مزعوم من النزاهة والموضوعية والحياد، وهو موقف يرحب به الرأسماليون كثيرا دون شك. (2)
Неизвестная страница