إذا كنا قد اختبرنا من قبل آراء ماركيوز في الفن اختبارا مستقلا؛ فهذا يرجع إلى المكانة الخاصة التي تحتلها القيم الجمالية في تصوره العام للمجتمع الجديد، على أن هذه القيم الجمالية لا تقتصر على الفن وحده، بل هي ترتبط عنده بنمط كامل للحياة يتصور ماركيوز أنه هو النمط الذي ينبغي أن يسود مجتمع المستقبل. فهل كان تفكير ماركيوز متسقا مع ذاته عندما حدد معالم هذا النمط الجديد من أنماط الحياة؟
لقد تحدثنا من قبل عن أهم القيم التي يدعو إليها ماركيوز في مقابل القيم التجارية والاستهلاكية والعدوانية التي تسود المجتمع الراهن، هذه القيم الجديدة تسود عندما تظهر حاجات جديدة في مجتمع المستقبل الذي تحمل فيه الآلة عن الإنسان عبء العمل الشاق وتصرفه عن الاهتمام المفرط بالإنتاج والربح. وأهم هذه الحاجات، الحاجة إلى الهدوء والسلام، وإلى «الحياة المسالمة أو الراضية
L’existence pacifiée ».
ولكن، هل صحيح أن روح المسالمة، التي تكون فيها النفس مطمئنة راضية مرضية، هي الحالة المثلى لإنسان المستقبل؟ إن قليلا من التفكير يقنعنا بأن هذا المثل الأعلى لا يستحق السعي إليه إلا حين يكون الإنسان قد جعل من الأرض جنة حقيقية. ولكن حتى مجتمع المستقبل لن يكون هو ذاته الجنة الموعودة. فهو سيظل مجتمعا يحتاج إلى الكفاح ، والعمل الإيجابي، والابتكار، وتلك كلها أهداف لا يمكن تحقيقها في مجتمع مثله الأعلى هو «الحياة المسالمة».
1
بل إن وجود قدر، ولو قليل، من النزعة العدوانية يساعد الإنسان على الارتقاء بذاته وتجاوزها، وذلك إذا استطاع الإنسان أن يتسامى بعدوانيته الغريزية ويوجهها في اتجاهات إيجابية بناءة.
والواقع أن كل صور الحياة المكافحة، سواء أكان ذلك كفاحا ضد الطبيعة أم كان كفاحا في سبيل بلوغ مستويات أعلى للحياة، لا تتمشى مع مبدأ ماركيوز في تهدئة النزوع العدواني وسيادة الحياة الراضية؛ ولذلك فإن دعوته لا تشكل أي إغراء للإنسان المتطلع إلى الكفاح في سبيل حياة أفضل، وخاصة في تلك المناطق من العالم، التي لا يزال فيها أمام الإنسان شوط طويل حتى يتحرر من عجزه أمام قوى الطبيعة، ومن استغلال الآخرين. فهل يريد ماركيوز من إنسان المستقبل أن يقف هادئا مطمئنا مسالما، ويركز حياته في الاستمتاع بالحب والفن؟ هل يعد هذا نمطا راقيا من الحياة بحق؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى خنق كل طموح لدى الإنسان؟ أليست المهام الكبرى في الحياة في حاجة إلى سعي وجهد، وإلى نوع من عدم الرضا وعدم الاكتفاء بما هو موجود؟ إن تصور ماركيوز لن يكون له معنى إلا حين تبلغ الحياة نهايتها، وينتهي كل طموح لدى الإنسان. ولو أتى على الإنسان يوم تصور أن حياته بلغت غايتها وأنه لم يعد يحتاج إلا إلى الاستمتاع بما أنجزه من قبل، لكان معنى ذلك أن انهيار هذه الحياة أصبح وشيكا.
ومثل هذا يقال عن دعوة ماركيوز إلى تفتيت الكتل الجماهيرية الكبيرة
Masses
إلى مجموعات صغيرة من الأفراد الأحرار؛ ذلك لأن المسئوليات الضخمة التي تنتظر الإنسان في المستقبل تحتاج إلى جهود جماعية، وإلى تكاتف متزايد بين البشر. بل إن هذا التكاتف ذاته يعد علاجا شافيا للأفراد من الأنانية والتفكير الضيق المنحصر في حدود الذات، أو الجماعة القريبة، وحدها. لذلك فإن الرأي الأقرب إلى الصواب، والذي ينادي به عدد أكبر من المفكرين، هو أن الإنسانية تتجه إلى التجمع، وإلى تكوين مجتمع عالمي واحد، لا إلى الانقسام والتفتت إلى جماعات صغيرة. ولنذكر، في هذا الصدد، أن تفكير ماركيوز في هذا الموضوع أقرب إلى النزعة التعددية والتجزيئية التي تسود فلسفات المجتمع الرأسمالي، على حين أن الفلسفات الاشتراكية أميل إلى تأكيد فكرة العالمية في مختلف المجالات.
Неизвестная страница