وعلى الرغم من أن تفكير ماركيوز يتسم بقدر ملحوظ من الوحدة، فإن تأكيده هذا إمكان قيام حضارة متكاملة الأبعاد تحل محل الحضارة الحالية ذات البعد الواحد - هذا التأكيد لم يكن من السمات المميزة لتفكيره على الدوام. فهو قد اختتم كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) بلهجة متشائمة تعبر عن يأسه من إمكان تغيير المجتمع الحالي إلى مجتمع أفضل. ولكنه في كتاب «نهاية اليوتوبيا
La Fin de l’Utopie » ينتقل إلى موقف أكثر إيجابية، فيؤكد إمكان الانتقال إلى المجتمع الجديد باستخدام التكنولوجيا المتقدمة في القضاء على اقتصاد الملكية الخاصة والإنتاج لأجل الإنتاج، وينتقل في كتاب (نحو التحرر)
Vers la Liberation (1969م) إلى حديث أكثر تفصيلا عن القوى التي تستطيع القيام بهذا التحول إلى المجتمع الجديد، والتي تساعد الإنسان على أن يرتد إلى ماهيته الحقة، بوصفه كائنا إيروطيقيا (نسبة إلى الإيروس) يتخذ من القيم الجمالية هدفا رئيسيا لحياته ولعلاقاته مع الآخرين.
وأهم ما يتصف به تفكيره في هذه المرحلة هو تأكيده أن الحديث عن الحضارة الجديدة لم يعد من قبيل التفكير اليوتوبي، الذي يتعلق بمشروعات اجتماعية يستحيل تحقيقها موضوعيا. بل إن ظروف عالم اليوم، التي تجعل الانتقال أمرا ممكنا من الوجهة العملية، تضع حدا لليوتوبيا، وتجعل التفكير في عالم الغد خارجا عن نطاق الأحلام، بل تجعله أكثر واقعية من أي تفكير يقتصر على حدود المجتمع القائم بالفعل.
فما هي إذن خصائص حضارة الإيروس هذه؟
أول ما يطرأ على الذهن، حين تصادفه كلمة «إيروس» هو الجنس. فمثل هذه الحضارة لا بد أن تكون لها نظرة مختلفة كل الاختلاف إلى الجنس، نابعة من تخلصها من الكبت بصورة نهائية؛ فهي تعطي الجنس أبعاده الكاملة في إطار من انعدام الكبت. وربما توهم المرء مما قلناه أن الحضارة الحالية تتجاهل الجنس نتيجة لإصرارها على القمع والكبت، ولكن حقيقة الأمر عكس ذلك. ففي هذا المجتمع الذي يستهدف الربح من كل شيء، ويبتذل كل شيء - حتى أقوى عواطف الإنسان وألصقها به - يتخذ الجنس صبغة السلعة التي تنتج بالجملة، وتباع وتشترى في السوق. وتقوم وسائل الدعاية بدور كبير في تضخيم صور نمطية للجنس والتهليل لها وفرضها على أذواق الناس فرضا. وتتسع أبعاد الجنس إلى حد مخيف، ويتدخل في كل جوانب حياة الإنسان ولكنه يظل مع ذلك مقيدا محصورا في إطار يحدده المجتمع منذ البداية، حتى لا يصبح حرا طليقا .
هذا الجو أبعد ما يكون عن التسامي، الذي يفترض فرويد أنه ملازم للكبت. فالجنس ينحط ويبتذل، وينتشر على أوسع نطاق، ولكن في إطار من الكبت الشديد ودون أن يصحبه إشباع حقيقي أو متعة حقيقية. إنه أبعد ما يكون عن طبيعته الأصلية التلقائية، فكل شيء فيه مخطط مدروس، يستهدف إغراق الإنسان بالصور والتعبيرات والإيماءات الجنسية التي تحفل بها الصحف وأفلام السينما، ولكن دون إشباع مطالبه منه. ولو شئنا الدقة لقلنا إن ما يقدم إلى الإنسان ليس هو الجنس ذاته، بل هو بديل عنه، هو خيالات وأوهام تحل محله وتزيد من طابع الكبت المسيطر على نظرة المجتمع إلى الجنس. هذا النفاق ذو الوجه المزدوج الذي لا يمكن أن يعد حرمانا ولا إشباعا، لا بد أن ينتهي في حضارة الإيروس، لكي يحل محله انطلاق وتحرر لقوى الإنسان الطبيعية، وعلى رأسها الجنس.
على أن الجنس ليس هو العنصر الوحيد في حضارة الإيروس، بل إن هناك مجموعة كاملة من القيم، ومن الحاجات الجديدة، تظهر في المجتمع الجديد، وترتبط على نحو مباشر أو غير مباشر بفكرة الإيروس، وإن لم تكن منتمية إلى مجال الجنس؛ ذلك لأن الحاجات الإنسانية ليست شيئا ساكنا جامدا، بل هي تتطور ديناميا مع تطور حياة الإنسان. ولقد كانت ظروف الحياة الراهنة التي يعيشها الإنسان تحتم ظهور حاجات وقيم تدعم النظام القائم، كالصراع من أجل العيش، والبحث عن الربح، والكبت الزائف للغرائز، والاتجاه إلى الهدم والدمار. أما المجتمع الذي يصبح فيه العمل (بفضل التقدم التكنولوجي الهائل) نوعا من اللهو،
1
فتسوده حاجات من نوع مختلف تماما، كالحاجة إلى السلام والهدوء والجمال والسعادة.
Неизвестная страница