من أجل الوصول إلى اليابان
أمندسون
الرحيل عن مافرلي
حفرة الحصى
الملاذ
الكبرياء
كوري
القطار
على مرأى من البحيرة
دوللي
خاتمة
العين
الليل
الأصوات
حياتي العزيزة
من أجل الوصول إلى اليابان
أمندسون
الرحيل عن مافرلي
حفرة الحصى
الملاذ
الكبرياء
كوري
القطار
على مرأى من البحيرة
دوللي
خاتمة
العين
الليل
الأصوات
حياتي العزيزة
حياتي العزيزة
حياتي العزيزة
تأليف
أليس مونرو
ترجمة
نهلة الدربي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
من أجل الوصول إلى اليابان
بمجرد أن وضع بيتر حقيبتها على متن القطار، بدا حريصا على أن يبتعد ليفسح الطريق فقط، لا أن يغادر، وأوضح لها أنه فقط يشعر بالضيق لأن القطار كان سيبدأ في التحرك. وبالخارج وقف على رصيف المحطة وهو يتطلع إلى نافذتهم وراح يلوح ويبتسم. كانت ابتسامته لكاتي ابتسامة عريضة مشرقة، دون أدني شك في العالم، كما لو كان يعتقد أنها ستظل شيئا رائعا عنده، وسيظل هو كذلك عندها، للأبد. بدت ابتسامته لزوجته مليئة بالتفاؤل والثقة، وتنم عن شيء من العزم والإصرار؛ وهو شيء لا يمكن التعبير عنه بسهولة من خلال الكلمات، وحقا قد لا يمكن التعبير عنه على الإطلاق. فلو حدث أن ذكرت جريتا شيئا كهذا لقال لها: لا تكوني سخيفة. وكانت ستوافقه في هذا، معتقدة أنه ليس من الطبيعي بالنسبة إلى أناس كان يرى بعضهم بعضا يوميا وباستمرار أن يكون عليهم تقديم تفسيرات من أي نوع لما يجول بداخلهم.
عندما كان بيتر لا يزال رضيعا، اصطحبته أمه ومرت به عبر مجموعة من الجبال التي دائما ما تنسى جريتا اسمها، وذلك لكي تهرب به من تشيكوسلوفاكيا التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي للوصول إلى أوروبا الغربية. كان هناك بالطبع كثيرون غيرها يفعلون الشيء نفسه، وقد عزم والد بيتر على مصاحبتهما، لكن تم إرساله إلى إحدى المصحات العلاجية قبل رحيلهم السري مباشرة. وكان من المفترض أن يلحق بهم حالما يستطيع، بيد أنه مات.
قالت جريتا عندما أخبرها بيتر بذلك أول مرة: «لقد قرأت قصصا كثيرة مثل هذه.» وراحت توضح له كيف أنهم في تلك القصص كانوا يغطون الرضيع بشدة أو يقومون بخنقه إذا ما شرع في البكاء؛ خشية أن تمثل الضوضاء التي يحدثها تهديدا للمجموعة الهاربة بأسرها.
قال بيتر إنه لم يسمع بمثل هذه القصص من قبل، ولا يعرف ماذا كانت أمه ستفعل في مثل هذه الظروف.
ما فعلته هو أنها ذهبت إلى كولومبيا البريطانية؛ حيث أتقنت اللغة الإنجليزية وحصلت على وظيفة لتدريس المادة التي كان يطلق عليها «أساليب الأعمال التجارية» لطلاب المدرسة الثانوية. وقد ربت بيتر بمفردها، وأرسلته إلى الجامعة وقد أصبح الآن مهندسا. كانت عادة ما تجلس في الغرفة الأمامية عندما كانت تأتي إلى شقتهما، وإلى منزلهما فيما بعد، ولا تطأ المطبخ مطلقا، اللهم إلا إذا دعتها جريتا. تلك كانت طريقتها، فقد اعتادت ألا تبدي ملاحظاتها بصورة مبالغ فيها؛ فلا تعلق ولا تتطفل ولا تحاول اقتراح أي شيء بالرغم من أنها كانت تتفوق على زوجة ابنها في كل الفنون والمهارات المنزلية.
لقد تخلصت أيضا من الشقة التي ربت فيها بيتر، وانتقلت إلى واحدة أخرى أصغر لم تكن تحتوي على غرفة نوم منفصلة، بل مجرد غرفة تسع أريكة قابلة للطي؛ لذا لا يستطيع بيتر الذهاب إلى بيت أمه. هكذا كانت تعمد جريتا إلى إغاظتها، وكانت تجفل من ذلك؛ فالمزاح كان يؤلمها بحق. ربما كانت مشكلة اختلاف اللغة هي السبب في ذلك، لكن الإنجليزية أصبحت هي لغتها المعتادة الآن، وهي بالفعل اللغة الوحيدة التي كان يعرفها بيتر. لقد تعلم فن «أساليب الأعمال التجارية» عندما كانت جريتا تدرس ملحمة «الفردوس المفقود»، وليس على يد أمه. كانت تتجنب أي شيء مفيد وكأنه الطاعون، أما هو فكان يفعل العكس.
ومن خلال زجاج النافذة الذي يفصل بينهما - وحماسة كاتي التي لم تفتر وهي تلوح مودعة - أخذا يتبادلان نظرات ود هزلية أو بالأحرى غريبة. كانت تفكر بمدى جاذبيته وجمال مظهره، وكيف بدا عليه أنه لا يدرك تماما تلك الحقيقة؛ فقد كان يقص شعره حتى يجعله قصيرا مثل البحارة، كما هي الصيحة في ذلك الوقت، وخاصة إن كان المرء يعمل في مهنة مثل الهندسة، أما بشرته الفاتحة فلم تكن تتورد بالحمرة كبشرتها، أو تصيبها البقع إثر التعرض للشمس، لكنها كانت تكتسب بعض السمرة، أيا كان الموسم.
أما آراؤه، فكانت مشابهة لبشرته؛ فعندما كانا يذهبان لمشاهدة أحد الأفلام لم يكن يرغب مطلقا في التحدث عنه فيما بعد؛ فقد كان يكتفي بقول إنه جيد، أو جيد جدا، أو لا بأس به؛ فهو لا يرى طائلا من الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك في عرض آرائه. كان يشاهد التليفزيون، ويقرأ أي كتاب بالطريقة ذاتها تقريبا؛ كان لديه من الصبر ما يكفي لأن يتعامل مع مثل هذه الأشياء؛ فالأشخاص الذين أنجزوا هذه الأشياء في الغالب قد بذلوا قصارى جهدهم من أجل إنجازها. اعتادت جريتا أن تجادله وتسأله باندفاع إن كان سيقول نفس الرأي بشأن أحد الجسور؛ فالأشخاص الذين شيدوه قد بذلوا قصارى جهدهم، لكن جهدهم لم يكن كافيا، فسقط منهارا.
وبدلا من أن يناقشها، كان يكتفي بالضحك.
ويقول: «إنه ليس نفس الشيء.» «أحقا هو ليس كذلك؟» «نعم.»
لا بد أن جريتا قد أدركت أن موقفه هذا - أي عدم التدخل وتقبل الآراء الأخرى - بمنزلة نعمة بالنسبة إليها؛ لأنها كانت شاعرة، وكانت قصائدها تحوي أشياء ليست مبهجة على الإطلاق أو ليس من السهل إيضاحها. (كانت لا تزال والدة بيتر والأشخاص الذين كانوا يعملون معه - من الذين يعرفون ذلك - يلقبونها بالشاعرة. لقد عودت بيتر على ألا ينعتها بهذا، وإلا فما الفائدة إذن من التعويد؟ أما أقاربها والأشخاص الذين تعرفهم الآن وهي تمارس دورها كزوجة وأم، فليسوا بحاجة إلى التعويد على ذلك؛ لأنهم لا يعرفون شيئا عن تلك السمة.)
سيكون من الصعب أن توضح، فيما بعد في حياتها، ما الشيء الجيد والمقبول في ذلك الوقت وما هو غير ذلك. قد تقول امرأة: حسنا، لم تكن الحركة النسوية بالشيء الجيد، لكن سيكون عليها فيما بعد أن توضح أن الحركة النسوية لم تكن حتى كلمة كان الناس يستخدمونها حينها، ثم تضيف أنه كان من الممكن أن ينظر إلى أي فكرة جادة، فضلا عن بعض الطموح، أو ينظر حتى إلى قراءة كتاب مفيد على أنها شيء باعث على الريبة، وقد يكون له علاقة بإصابة طفلك بالالتهاب الرئوي، وإلى أن أي تعليق سياسي في أي من حفلات العمل قد يعرقل ترقي زوجك في العمل. وقد لا يهم حينها أي حزب قمت بانتقاده؛ كل ما في الأمر أن التعليق انطلق من فم امرأة.
سيضحك الناس ويقولون إنها تمزح، وستجيب هي حينها: إن الأمر هكذا، لكن ليس إلى هذا الحد. وحينها ستقول جريتا لها إن نظم الشعر في ذلك الوقت يكون أكثر أمانا بعض الشيء بالنسبة إلى المرأة مقارنة بالرجل؛ ومن هنا جاءت كلمة شاعرة وأصبحت متداولة، تماما كحلوى غزل البنات. قالت إن بيتر لم يكن لينظر للأمر هكذا، حيث إنه قد نشأ في أوروبا. ولكنه كان سيتفهم جيدا كيف من المفترض أن ينظر الرجال الذين يعمل معهم إلى مثل تلك الأفكار. •••
هذا الصيف كان سيمضي بيتر شهرا أو ربما أكثر في تنفيذ أحد المشروعات بقرية لوند، التي تبعد كثيرا بقدر توغلك شمالا في البر الرئيسي. ولم يكن ثمة مكان لإقامة جريتا وكاتي.
لكن جريتا كانت على اتصال بصديقة كانت تعمل معها في مكتبة فانكوفر، وقد تزوجت الآن وباتت تعيش في تورونتو. كانت تلك الصديقة ستمضي شهرا في أوروبا هذا الصيف بصحبة زوجها، الذي يعمل مدرسا، وقد كتبت لجريتا تطلب منها أن تسدي لها معروفا - فقد كانت دمثة الخلق جدا - بأن تقيم في منزلها في تورونتو لجزء من تلك الفترة حتى لا يظل مغلقا، وقد ردت جريتا تخبرها بشأن عمل بيتر وأنها تقبل العرض المقدم هي وكاتي.
ولهذا السبب هم الآن يلوحون بعضهم لبعض عبر رصيف المحطة والقطار. •••
كانت تصدر في ذلك الوقت في تورونتو بصورة غير منتظمة إحدى المجلات التي تحمل اسم «ذي إكو أنسارز»، وكانت جريتا قد عثرت عليها في المكتبة، فبعثت إليها ببعض من قصائدها، وقد نشرت لها المجلة قصيدتين، فكانت النتيجة أن تمت دعوتها لحضور إحدى الحفلات بصحبة مجموعة من الكتاب لمقابلة رئيس التحرير الذي قدم في زيارة لفانكوفر في الخريف الماضي. وكانت الحفلة قد أقيمت في منزل أحد الكتاب الذي كان اسمه مألوفا لها، فيما يبدو، طوال حياتها. أقيمت الحفلة في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة عندما كان بيتر لا يزال في عمله؛ لذا استعانت بإحدى جليسات الأطفال، واستقلت الحافلة المتجهة لنورث فانكوفر، التي عبرت جسر ليونز جيت ومرت بمتنزه ستانلي بارك. كان عليها أن تنتظر أمام خليج هدسون من أجل رحلة طويلة للحرم الجامعي حيث يقطن الكاتب. عندما هبطت عند آخر محطة للحافلة، عثرت على الشارع المطلوب وسارت عبره وهي تنظر إلى أرقام المنازل. كانت ترتدي حذاء ذا كعب عال؛ مما أبطأ من حركة سيرها كثيرا. وكذلك فعل ثوبها الأسود الشديد الأناقة، المغلق بسوستة من الظهر، الذي كان شفافا عند منطقة الوسط، وضيقا بشدة عند منطقة الأرداف. حدثت نفسها قائلة إنه يجعل شكلها يبدو سخيفا بعض الشيء؛ حيث إنها تتعثر قليلا في خطواتها عبر الطرقات المتعرجة التي لا تحوي أي أرصفة. وكانت هي تقريبا الشخص الوحيد الذي يمشي في فترة ما بعد الظهيرة التي أوشكت على الانقضاء. رأت بيوتا عصرية ذات نوافذ عريضة كما هو الحال في أي ضاحية متحضرة، ولم تكن على الإطلاق بالضاحية التي توقعت أن تراها. وراحت تتساءل إن كانت أخطأت في الشارع المطلوب، وقد سعدت بتلك الفكرة؛ فبمقدورها العودة مرة أخرى لمحطة انتظار الحافلات حيث ستجد مقعدا، وعندئذ يمكنها خلع حذائها والحصول على بعض الراحة قبل بدء رحلة عودتها الطويلة التي ستقطعها وحيدة إلى المنزل.
لكن عندما شاهدت الكثير من السيارات المصطفة، ووقع بصرها على رقم المنزل، كان قد فات أوان العودة. تسلل صوت الضجيج عبر الباب المغلق، وكان عليها أن تقرع الجرس مرتين.
رحبت بها امرأة بدا واضحا أنها كانت تتوقع قدوم شخص آخر. لم يكن الترحيب هو الكلمة الصحيحة؛ فقد فتحت المرأة الباب، وقالت لها جريتا إن هذا المنزل لا بد أنه المكان الذي أقيمت فيه الحفلة .
قالت المرأة وهي تتكئ على إطار الباب: «كيف يبدو لك الأمر؟» لم تفسح لها المرأة الطريق إلى أن قالت جريتا: «أتسمحين لي بالدخول؟» ثم كانت هناك حركة ما يبدو أنها سببت ألما كبيرا لجريتا. لم تطلب هذه السيدة من جريتا أن تتبعها، لكن جريتا فعلت ذلك على أية حال.
لم يتحدث إليها أو يلاحظ وجودها أي أحد، لكن سرعان ما ظهرت فتاة مراهقة وهي تحمل صينية عليها بعض الأكواب التي بدا أنها تحوي ما يشبه عصير الليمون الوردي. أخذت جريتا كوبا وازدردت ما فيه دفعة واحدة حيث كانت تشعر بعطش شديد، ثم مدت يدها وأخذت كوبا آخر. شكرت الفتاة وحاولت أن تفتح حوارا معها وتحدثها عن الطريق الطويل الذي قطعته مشيا في ذلك الطقس الحار، بيد أن الفتاة لم تعرها اهتماما واستدارت مبتعدة لتؤدي عملها.
راحت جريتا تتجول في المكان والابتسامة تعلو وجهها، ولم ينظر إليها أحد بطريقة تنم عن معرفتها أو السعادة بتواجدها، ولم عساهم يفعلون ذلك؟ كانت تقع عليها عيون الحاضرين للحظات ثم لا يلبثون أن يستأنفوا حواراتهم، ويضحكون. كان الجميع فيما عدا جريتا محاطين بالأصدقاء، منهمكين في تبادل النكات وأشباه الأسرار، وبدا الأمر وكأن كل شخص قد عثر على من يرحب بتواجده، فيما عدا الفتيات المراهقات اللاتي كن يقدمن المشروبات الوردية وهن عابسات متجهمات الوجه.
ومع ذلك، فلم تستسلم؛ لقد أنعشها المشروب وعزمت على أن تتناول كوبا آخر بمجرد أن تمر من أمامها إحدى هؤلاء الفتيات. راحت تبحث عن أي مجموعة تتجاذب الحديث وبها مساحة كافية تستطيع أن تزج بنفسها خلالها لتقف وسط أفرادها. بدا أنها وجدت واحدة عندما ترامت إلى مسامعها أسماء بعض الأفلام؛ كانت أفلاما أوروبية مثل تلك التي بدأت تعرض في فانكوفر في ذلك الوقت. سمعت اسم أحد الأفلام التي كانت قد ذهبت لمشاهدته هي وبيتر، وكان يحمل اسم «الأربعمائة ضربة». قالت بصوت عال وبحماسة شديدة: «أوه، لقد شاهدت ذلك الفيلم.» فالتفت إليها الجميع، وقال أحدهم، والذي يبدو بوضوح أنه المتحدث باسمهم: «أحقا فعلت ؟»
كانت جريتا ثملة بالطبع، فقد تجرعت مزيجا من مشروب الفاكهة الكحولي بيمز نامبر وان وعصير الجريب فروت الوردي دفعة واحدة، ولم تشعر بالاستياء حيال تلك الإهانة كما كان يمكن أن تفعل في الأحوال العادية. لكنها واصلت تجولها في المكان وقد أصابها بعض التشويش، وأصبحت لا تعرف ما يدور حولها، لكن انتابها شعور بأنه يوجد جو من التسامح في المكان، وأنه لا يهم أن تكون صداقات فيه؛ فبإمكانها فقط التجول وإصدار أحكامها على ما حولها.
كان هناك رهط من الناس ذوي الأهمية يقفون عند ممر بالمنزل، وقد لمحت من بينهم مضيف الحفلة؛ وهو الكاتب الذي كانت تألف اسمه ووجهه لفترة طويلة. كان يتحدث بصوت عال، وتخرج كلماته سريعة ومتلاحقة وبدا وكأن هناك خطرا يحدق به، وكان بجواره اثنان من الرجال كانت نظراتهما بمنزلة إهانة موجهة نحوك. وكانت زوجاتهم - في اعتقادها - هن اللاتي يصنعن تلك الدائرة التي كانت تحاول اقتحامها.
لم تكن المرأة التي فتحت لها الباب تقف وسط أي من المجموعتين؛ حيث كانت هي الأخرى كاتبة، ورأتها جريتا تلتفت مستديرة عندما نادى أحدهم اسمها؛ كان اسم أحد المساهمين في المجلة التي نشرت فيها أعمالها هي الأخرى. ومن هذا المنطلق، أليس من الممكن أن تتجه نحوها وتقدم نفسها إليها، كند مساو لها على الرغم من المقابلة الفاترة التي كانت عند الباب؟
لكن المرأة الآن كانت تضع رأسها على كتف الرجل الذي نادى اسمها، وما كانا ليرحبا بأية مقاطعة لحديثهما.
جعلها ذلك تقرر الجلوس، وحيث إنه لم توجد أية مقاعد خالية فقد جلست على الأرض، وراحت تفكر وتتذكر حينما ذهبت بصحبة بيتر لإحدى الحفلات الخاصة بالمهندسين؛ حيث كان الجو العام مبهجا بالرغم من الأحاديث المملة؛ وذلك لأن الجميع كانوا يشعرون بأهميتهم على الأقل في وقت الحفل. أما هنا فلا يأمن أحد من الأحكام التي قد تصدر والانتقادات التي توجه من خلف الظهور، حتى إن كانوا من الأشخاص المعروفين ومشاهير الكتاب. لقد كان جوا غير مريح من المكر والتوتر، بغض النظر عمن تكون.
وها هي قد يئست من أن يجاذبها أحد أطراف الحديث بأي نحو.
شعرت بالراحة عندما اقتنعت بنظريتها بأن الجو العام لا ينم عن البهجة والسرور، ولم تهتم كثيرا بما إذا كان سيتحدث معها أحد أم لا. خلعت حذاءها وانتابها شعور غامر بالراحة. اتكأت بظهرها على حائط ومدت ساقيها في أحد الأماكن التي لا يمر بها كثيرون. لم ترد المخاطرة بسكب مشروبها على البساط؛ لذا انتهت من احتسائه سريعا.
وقف أمامها رجل وقال: «كيف وصلت إلى هنا؟»
أشفقت على قدميه المتعبتين المتثاقلتين، بل إنها كانت تشفق على أي فرد كان مضطرا للوقوف.
قالت إنها من المدعوين لحضور الحفلة. «حسنا، ولكن هل أتيت بسيارتك؟» «لقد جئت سيرا على الأقدام.» لكن ذلك لم يكن كافيا، وخلال فترة قصيرة أخذت تقص عليه بقية القصة. «استقللت إحدى الحافلات، ثم بعدها استكملت الطريق سيرا على الأقدام.»
وقف الآن أحد الرجال الذين كانوا وسط دائرة الأشخاص المهمين خاصة خلف الرجل الذي أشفقت عليه من حذائه. وقال: «فكرة ممتازة.» بدا واضحا أنه لم يكن يمانع في الحديث معها.
لم يهتم الرجل الأول بهذا الرجل كثيرا، وأحضر لجريتا حذاءها ومد يده ليعطيها إياه، لكنها رفضت موضحة أنه يؤلمها كثيرا. «احمليه وإلا فعلت أنا ذلك. هل بمقدورك النهوض؟»
بحثت بنظرها عن الرجل الأهم ليساعدها لكنه لم يكن موجودا. لقد تذكرت الآن ما كتبه؛ لقد ألف مسرحية عن الدوكهوبورس، الطائفة المسيحية الروسية، التي أحدثت ضجة كبيرة وجذبت انتباه الكثيرين لأنه من المفترض أن يظهر الدوكهوبورس عرايا. بالطبع ليس أفراد الطائفة هم من سيظهرون عرايا، بل مجموعة من الممثلين. وعلى أية حال، لم يسمح لهم أن يظهروا عرايا في نهاية الأمر.
حاولت أن تشرح ذلك للرجل الذي عاونها على النهوض، لكن كان من الواضح أنه لم يكن مهتما بسماع هذا. قال إنه ليس من هذا النوع من الكتاب، وإنه صحفي، وقد أتى في زيارة إلى هنا مع ابنه وابنته، اللذين هما في الوقت نفسه حفيدا أصحاب الحفلة، وكانا يساعدان في تقديم المشروبات.
قال وهو يشير إلى المشروبات المقدمة: «إنها فظيعة وقاتلة.»
أصبحا الآن بالخارج، وسارت عبر الحشائش وهي لا ترتدي في قدميها سوى الجورب، وحاولت جاهدة أن تتفادى الأوحال.
قالت لرفيقها: «لقد تقيأ أحدهم هناك.»
قال وهو يضعها في سيارة: «هذا صحيح.» أدى الهواء الطلق إلى تغيير حالتها المزاجية، من الشعور بالإثارة الذي يشوبه بعض التوتر، إلى الشعور الذي وصل إلى حد الإحراج، بل الخزي.
قال: «نورث فانكوفر.» لا بد أنها قالت له ذلك. «أهذا صحيح؟ وسنستكمل بعد ذلك حتى نصل إلى جسر ليونز جيت.»
تمنت ألا يسألها عن سبب حضورها الحفلة؛ فإن كان عليها أن تقول له إنها شاعرة، كان سينظر إلى موقفها الحالي وإلى تجاوزها على أنه نموذج لتصرفات الشعراء. لم يكن الظلام قد حل بعد، لكن كان وقت المساء قد حل. بدا أنهما كانا يسيران في الاتجاه الصحيح، مارين بجوار مسطح مائي قبل أن يصعدا عبر جسر؛ جسر بوراد ستريت. ثم استكملا السير وسط زحام مروري أكبر، وكانت تفتح عينيها لتحدق في الأشجار التي يمران بها في طريقهما، ثم تعود لتغلقهما ثانية دون هدف. أدركت حينما توقفت السيارة أنهما قد وصلا إلى المنزل؛ منزلها.
كانت تظللهما الأشجار ذات الأوراق الضخمة التي تحجب رؤية النجوم، لكن بعضها كان يلمع فوق صفحة الماء ممتزجا بأضواء المدينة.
قال: «اهدئي وفكري بالأمر.»
تعجبت للكلمة. «فكري بالأمر.» «كيف ستسيرين حتى تصلي إلى المنزل، على سبيل المثال؟ هل تستطيعين القيام بذلك بهدوء ورزانة؟ لا تبالغي في فعلك. يجب أن تكترثي لذلك. أعتقد أنك متزوجة.» «علي أن أشكرك أولا لاصطحابي إلى المنزل؛ لذا عليك أن تخبرني باسمك.»
قال لها إنه قد أخبرها بالفعل باسمه، وربما فعل هذا مرتين، وإنه لا بأس من إعادته ثانية. هاريس بينت، بينت. إنه زوج ابنة أصحاب الحفلة، وابناه كانا من بين القائمين على تقديم المشروبات، ولقد أتى هو وابناه للزيارة من تورونتو. هل كان ذلك كافيا لإرضائها؟ «هل أمهما موجودة؟» «بالطبع، لكنها في المستشفى.» «أنا آسفة.» «لا داعي للأسف. إنه مستشفى رائع لعلاج الاضطرابات العقلية، أو يمكنك القول إنه لعلاج المشكلات العاطفية.»
أسرعت وأخبرته أن زوجها يدعى بيتر، وأنه يعمل مهندسا، وأن لديهما ابنة تدعى كاتي.
قال: «حسنا، هذا شيء لطيف للغاية.» ثم بدأ يتراجع للخلف.
قال لها عند جسر ليونز جيت: «أرجو أن تعذريني فيما كنت سأفعله. كنت أفكر فيما إذا كنت سأقبلك أم لا، ثم قررت ألا أفعل.»
اعتقدت أنه كان يريد أن يقول إن هناك شيئا بشأنها جعلها لا ترقى لأن يقبلها؛ فلقد كبح جماح رغبته فجأة، وانقلبت إلى نوع من الرصانة والتعقل.
وأردف قائلا: «والآن بينما نعبر الجسر، هل نتجه يمينا إلى طريق مارين دريف؟ سأعتمد عليك لإخباري.» •••
لم يمر يوم من فصول الخريف والشتاء والربيع التالية دون أن تفكر به. لقد بدا الأمر أشبه بالحلم المتكرر الذي يحلم به المرء بمجرد أن يغط في النوم. كانت تتكئ برأسها على وسادة الأريكة الخلفية، وتتخيل أنها تستلقي بين ذراعيه. قد لا يتخيل المرء أنها لم تكن لتتذكر وجهه، لكن صورته كانت تقفز أمامها وتتذكر كل تفاصيلها؛ إنه وجه رجل من ذلك النوع من الرجال الذين يتسمون بالانطوائية والروح الساخرة، به بعض التجاعيد ويحمل تلك النظرة المتعبة. ولم تنس جسده؛ فلقد تذكرت صورته أيضا؛ حيث بدا نحيلا بعض الشيء، لكن به من التناسق ما يجعله مثيرا ومرغوبا فيه بشدة.
كانت على وشك البكاء من فرط الحنين. لكن كل تلك التخيلات كانت تختفي وتدخل في سبات عميق عندما يأتي بيتر إلى المنزل، وكانت تظهر على السطح مشاعر الود اليومية الصادقة كعهدها دائما.
لقد كان ذلك الحلم في الواقع أشبه بطقس فانكوفر؛ يحوي ذلك الحنين الموحش، والحزن الحالم الجياش، وهو ثقل يرزح تحته القلب.
لكن ماذا عن رفضه تقبيلها؟ والذي بدا أشبه بضربة قاسمة.
لقد تناسته ببساطة، وأغفلته تماما من ذاكرتها.
وماذا عن شعرها؟ لم تكتب بيتا، أو تدون كلمة؛ ليست ثمة إشارة توحي بأنها كانت تهتم به من قبل على الإطلاق.
وبالطبع كانت تنتابها نوبات اللهفة تلك في الغالب عندما تكون كاتي نائمة؛ فكانت تنطق اسمه بصوت عال في بعض الأحيان، كانت تعتريها حالة من الحماقة، ثم يعقبها شعور شديد بالخزي والخجل حيث تشعر بالازدراء حيال ما تفعله. حالة من البلاهة والغباء. إنها تشعر حقا بأنها بلهاء.
ثم جاءت المفاجأة الشديدة؛ احتمالية العمل بمشروع في لوند، ثم التأكيد على ذلك، ثم عرض الإقامة في منزل الصديقة بتورونتو. هناك تغير واضح في الطقس، فرصة للتحلي ببعض الجرأة. •••
وجدت نفسها تكتب خطابا. لم تبدأه على أي نحو معتاد؛ فلم تكتب «عزيزي هاريس» أو «هل تتذكرني؟»
إن كتابة هذا الخطاب أشبه بوضع رسالة في زجاجة
وتمني
أن تصل إلى اليابان.
كان أقرب إلى قصيدة.
لم تكن لديها أدنى فكرة عن العنوان، كان لديها من الجرأة والحماقة ما يكفي لجعلها تهاتف أصحاب الحفل، لكن عندما أجابتها المرأة على الطرف الآخر، شعرت بجفاف في حلقها وبخواء داخلي يشبه خواء سهول التندرا، وأغلقت الخط. وحملت كاتي في عربتها وذهبت بها إلى المكتبة العامة، وعثرت على دليل الهاتف الخاص بتورونتو؛ وجدت الكثير ممن يحملون اسم بينت، لكن ليس من بينهم من اسمه الأول هاريس، أو اسمه إتش بينت.
واتتها فكرة مزعجة، وهي أن تنظر في صفحة الوفيات بجريدة تورونتو، ولم تستطع أن تمنع نفسها من تنفيذها. انتظرت حتى انتهى الرجل الذي كان يقرأ نسخة الجريدة المتواجدة بالمكتبة. إنها عادة لا تقرأ تلك الجريدة لأنه ينبغي عبور الجسر للحصول عليها، وعادة ما يحضر بيتر معه جريدة «فانكوفر صن». راحت تقلب صفحات الجريدة بسرعة حتى عثرت على اسمه أعلى أحد الأعمدة. إذن فهو لم يمت؛ إنه صاحب عمود بالجريدة، وهو لا يرغب بطبيعة الحال في أن يزعجه الآخرون ويحادثوه هاتفيا في منزله بالحصول على رقم هاتفه من دليل الهاتف.
كان يكتب عن السياسة، بدا أن أسلوبه جذاب وتتسم كتابته بالبراعة، لكنها لم تهتم بأي من ذلك.
وأرسلت خطابها إليه هناك، إلى عنوان الجريدة. لم تكن واثقة من أنه يفتح بريده الخاص، واعتقدت أن وضع كلمة «خاص» على الظرف من شأنه أن يثير المشاكل؛ لذا كتبت فقط تاريخ وصولها وموعد القطار بعد العبارة الخاصة بالزجاجة. لم تذكر اسمها؛ فقد اعتقدت أن من يفتح الظرف قد يظن أنها قريبة متقدمة في العمر معتادة على الكتابة بطريقة غريبة؛ فليس ثمة شيء يمكن أن يسبب له أي نوع من الإزعاج أو المشكلات، حتى بافتراض إرسال ذلك الخطاب إلى منزله وفتحه من قبل زوجته، التي لا بد أنها قد غادرت المستشفى الآن. •••
كان من الواضح أن كاتي لا تعي أن وجود بيتر على رصيف المحطة يعني أنه لن يسافر بصحبتهما. وعندما شرعا في التحرك بينما لم يفعل هو، وعندما تركاه خلفهما حينما زاد القطار من سرعته؛ تأثرت بشدة إزاء تركه إياهما. لكنها هدأت بعد فترة، مخبرة جريتا أنه سيكون معهما بحلول الصباح.
وعندما قدم ذلك الصباح كانت جريتا تشعر بالحزن والقلق، لكن كاتي لم تذكر شيئا عن غياب أبيها على الإطلاق. سألتها جريتا إن كانت تشعر بالجوع وردت كاتي بالإيجاب، ثم راحت توضح لأمها - كما فعلت قبل أن يطآ القطار - أن عليهما خلع ملابس النوم وتناول إفطارهما في مكان آخر بالقطار. «ما الذي ترغبين في تناوله على الإفطار؟» «بازلاء مقرمشة.» كانت تعني رقائق الإفطار رايس كريسبيز. «سنرى إن كان لديهم منها هنا أم لا.»
وقد وجدا ما تريدانه وأكلتا منه. «والآن هل سنذهب ونجد أبي؟» •••
كانت توجد مساحة مخصصة للعب الأطفال لكنها كانت صغيرة للغاية، وقد شغلها ولد وبنت، بدا واضحا من خلال ملابسهما المتماثلة المطبوعة عليها صورة أرنب أنهما شقيقان، وكانت لعبتهما عبارة عن تحريك عربتين صغيرتين إحداهما في اتجاه الأخرى، ثم الانحراف بهما في آخر لحظة. لكن العربتين ارتطمتا محدثتين ضجيجا عاليا.
قالت جريتا: «هذه كاتي وأنا والدتها. ما اسمكما؟»
علا الضجيج الناتج عن اصطدام العربتين، ولم يرفع الطفلان بصرهما لأعلى.
قالت كاتي: «أبي ليس معنا.»
رأت جريتا أنه من الأفضل أن يرجعا إلى مقصورتهما ويحضرا كتاب كريستوفر روبين الخاص بكاتي، ويأخذاه إلى عربة المشاهدة المقببة لكي تقرأه لها. وليس ثمة احتمال أن يسببا إزعاجا لأحد؛ لأن الإفطار لم ينته بعد، ولم يمر القطار بعد على المناظر الجبلية الهامة.
وكانت المشكلة أنه بمجرد انتهاء جريتا من قراءة الكتاب، أرادت كاتي أن تعيد عليها قراءته مرة ثانية على الفور. كانت هادئة خلال المرة الأولى، لكنها راحت الآن تردد معها ما تقول في نهاية السطور، وفي المرة التي تلتها أخذت تردد خلفها كل كلمة، بالرغم من أنها لم تصل لمرحلة قراءته بنفسها. تخيلت جريتا أن ذلك يمكن أن يكون مصدر إزعاج للآخرين في حال امتلاء عربة المشاهدة؛ فالأطفال في عمر كاتي ليست لديهم أي مشكلة في التكرار، بل على العكس هم يحبون ذلك الأسلوب بشدة، ويغرقون فيه ويلوكون الكلمات المألوفة مرارا كما لو أنها قطعة من الحلوى التي لن تفنى أبدا.
صعد الدرج صبي وفتاة، وجلسا قبالة جريتا وكاتي، وألقيا تحية الصباح في بهجة شديدة وردت جريتا تحيتهما، ولم يرق لكاتي ترحيبها وتقبلها لوجودهما، وواصلت إلقاء الكلمات بصوت خفيض وهي تنظر إلى الكتاب.
وعبر المقعد الواقع ناحية الممر انبعث صوت الصبي هادئا كصوتها وهو يردد:
إنهم يغيرون الحراس عند بوابة قصر باكينجهام
لقد ذهب كريستوفر روبين بصحبة أليس.
بعد أن انتهى من تلك العبارة، بدأ عبارة أخرى: «إنني لا أحبها؛ أنا سام.»
ضحكت جريتا لكن كاتي لم تفعل. لاحظت جريتا أن كاتي شعرت ببعض الغضب والضيق؛ إنها تعي أن بعض الكلمات السخيفة قد تخرج من كتاب ما، ولكن ليس من فم شخص لا يحمل كتابا.
قال الصبي لجريتا: «معذرة، فنحن في مرحلة ما قبل المدرسة، وهذا هو الأدب الذي ندرسه.» ثم انحنى نحو كاتي وتحدث إليها في جدية وهدوء، قائلا: «هذا كتاب لطيف، أليس كذلك؟»
قالت الفتاة موجهة حديثها لجربتا: «إنه يعني أننا نعمل مع الأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة. مع هذا قد يختلط علينا الأمر في بعض الأحيان.»
استمر الصبي في حديثه مع كاتي. «أعتقد أنه بمقدوري تخمين اسمك الآن. ما هو؟ أهو روفس، أم روفر؟»
عضت كاتي شفتيها ولم تستطع أن تكبح رغبتها في أن ترد ردا عنيفا.
فقالت: «أنا لست بكلبة.» «أوه، من المفترض ألا أتسم بهذا الغباء. أنا صبي واسمي جريج، وهذه الفتاة تدعى لوري.»
قالت لوري: «لقد كان يعمد إلى إغاظتك، هل تودين أن أضربه؟»
فكرت كاتي في الأمر ثم قالت: «لا.»
استمر جريج في حديثه قائلا: «أليس تتزوج واحدا من الحراس. تقول أليس: «إن حياة الجندي شاقة حقا».»
راحت كاتي تردد الكلمات في هدوء عند ذكر اسم أليس في المرة الثانية.
أخبرت لوري جريتا بأنهما يجوبان الحضانات لأداء بعض المقاطع الكوميدية، وهذا ما يطلق عليه أعمال إعداد الأطفال لمرحلة القراءة. كانا ممثلين في الواقع. وأضافت أنها ستنزل في جاسبر حيث ستعمل نادلة في فترة الصيف بجانب تقديم بعض المقاطع الكوميدية؛ وهذا لا يتعلق بإعداد الأطفال لمرحلة القراءة في الواقع، لكن ما يطلق عليه ترفيه البالغين.
قالت: «يا إلهي.» ثم ضحكت قائلة: «استفيدي من الأمر قدر ما تستطيعين.»
أما جريج، فلا يرتبط بأي عمل، وكان في طريقه لمدينة ساسكاتون حيث تقطن عائلته.
حدثت جريتا نفسها بأن كليهما يتسم بالجاذبية والجمال. كانا طويلي القامة، ذوي قد رشيق جدا. كان له شعر داكن مجعد، أما شعرها فكان أسود يسترسل في نعومة كشعر مريم العذراء. وعندما ذكرت وجه الشبه بينهما فيما بعد بفترة، قالا إنهما يستفيدان من ذلك في بعض الأحيان، وذلك عندما يتعلق الأمر بالترتيبات الخاصة بالمعيشة؛ فذلك يجعل الأمور أيسر بكثير، لكن كان عليهما أن يتذكرا طلب سريرين، والتأكد من جعل السريرين يبدوان في حالة فوضى إثر نومهما عليهما بالليل. •••
وقد أخبراها الآن أن ليس ثمة ما يدعو للقلق، فلا شيء يبعث على الضيق والغضب. لقد انتهت علاقتهما، وذلك بعد ثلاث سنوات أمضياها معا. ولم يقيما أي علاقات حميمة منذ أشهر، على الأقل كل منهما مع الآخر.
قال جريج لكاتي: «والآن يكفي الحديث عن قصر باكينجهام. علي أن أقوم ببعض التمرينات.»
اعتقدت جريتا أن ذلك يعني أنه سيهبط لأسفل، أو على الأقل سيتجه إلى الممر من أجل أداء بعض التمرينات ، لكن بدلا من ذلك قام هو ولوري بإلقاء رأسيهما للخلف، ومدا صوتيهما، وراحا يصيحان ويصدران أصواتا عالية، ويصدحان ببعض الأغاني الغريبة. شعرت كاتي بالسعادة، واعتبرته إهداء لها؛ عرضا لكي تستمتع به. وقد تصرفت على نحو لائق حيث أدت دور الجمهور؛ فظلت ساكنة حتى انتهى العرض، ثم انفجرت بعدها في الضحك.
توقف بأسفل الدرج بعض الأشخاص الذين كانوا يبغون صعوده، ولم يشعروا بنفس درجة الإبهار التي كانت تشعر بها كاتي، ولم يدروا بما يعقبون.
قال جريج: «معذرة.» دون أي توضيح، لكن على نحو ينم عن نوع من الود وطلب الصداقة، ثم مد يده نحو كاتي ليصطحبها، وقال: «لنر إن كان هناك مكان للعب.»
تبعتهما جريتا ولوري. وتمنت جريتا ألا يكون جريج واحدا من هؤلاء البالغين الذين يقيمون صداقات مع الأطفال للتيقن من مدى جاذبيتهم لديهم، ثم يغلب عليهم بعد ذلك الشعور بالملل والغضب عندما يدركون أن الأطفال لا يملون من التعلق بهم وإظهار مشاعرهم نحوهم.
وأثناء وقت الغداء أو بعده بقليل، أدركت أنها ليست بحاجة إلى القلق؛ فلم يحدث أن شعر جريج بالإنهاك والملل حيال اهتمام كاتي وتعلقها، بل انضم العديد من الأطفال الآخرين إلى ساحة المنافسة، ولم يبد على جريج مطلقا أي شيء ينم على شعوره بالملل.
لم يقم بالترتيب لأي نوع من المنافسة؛ لقد نجح في جذب الانتباه إليه أولا، ثم جعل الأطفال ينتبه كل منهم للآخر، ثم جعلهم يمارسون بعض الألعاب الممتعة، أو حتى المثيرة التي تستنزف طاقتهم، وليس تلك العنيفة التي تسبب ضيقهم. لم يظهر أحدهم أي شعور بالغضب، واختفت سلوكيات الأطفال المعهودة التي تعكس تدللهم. لم يكن هناك ببساطة وقت لذلك؛ فقد كانت هناك ألعاب مثيرة تجذب اهتمامهم. لقد كان ذلك بمنزلة معجزة؛ كيف استطاع بمنتهى السهولة أن يسيطر عليهم في تلك المساحة الصغيرة. أما طاقتهم التي استنزفوها، فستجعلهم يغفون سريعا في المساء.
قالت جريتا للوري: «إنه رائع.»
قالت لوري: «هو هكذا في أغلب الأحيان، إنه لا يدخر طاقته. كثير من الممثلين يفعلون ذلك؛ الممثلين بوجه خاص، وقد يموتون عندما لا يمثلون.»
حدثت جريتا نفسها قائلة: هذا ما أفعله؛ إنني أدخر طاقتي معظم الوقت. لكني أهتم بكاتي، وأهتم ببيتر.
في خلال العقد الذي دخلوا فيه بالفعل، وهو الشيء الذي لم تلاحظه هي على الأقل، سيكون هناك الكثير من الاهتمام الذي سيولى لصفة التواجد التي وصفت بها لوري جريج، والتي سيتغير معناها لمعنى لم يعتد عليه من قبل؛ الاتفاق مع ما هو سائد. العطاء. يوجد أشخاص معطاءون وآخرون ليسوا كذلك. وكان من المفترض أن تتلاشى الحواجز بين ما يدور داخل عقلك وما يدور خارجه؛ فالمصداقية تتطلب ذلك. كانت أشياء مثل قصائد جريتا التي لا تتفق مع ما هو سائد مصدر ريبة، بل مصدر احتقار أيضا في بعض الأحيان. بالطبع، استمرت على نحو صحيح في فعل ما كانت تفعله؛ فقد كانت تعارض الثقافة المضادة وتسبر غورها سرا بعزم. ولكن في اللحظة الحاضرة، استسلمت طفلتها تماما لجريج، وأيا ما كان يفعله؛ فقد كانت تشعر حياله بالامتنان الكامل.
وكما توقعت جريتا فقد خلد الأطفال للنوم في فترة ما بعد الظهيرة، وكذلك فعل بعض الأمهات، بينما راح بعضهن يلعب الورق. أخذ جريج وجريتا يلوحان للوري عندما نزلت في جاسبر، بينما راحت هي تبعث لهم بالقبلات وهي تقف على رصيف المحطة. ظهر رجل متقدم في العمر وحمل عنها حقيبتها، وقبلها بحنان ثم لوح لجريج الذي أشار إليه بدوره هو الآخر.
قال جريج: «إن حاضرها يعانقها.»
راحوا يلوحون بشدة عندما شرع القطار في التحرك، ثم اصطحب هو وجريتا كاتي مرة أخرى إلى مقصورتها حيث غطت الطفلة في النوم بينهما؛ فقد تبعت من اللعب والقفز، فراحت في النوم. فتحا ستارة المقصورة لإدخال بعض الهواء، ولم تعد هناك خطورة الآن من أن تسقط الطفلة من النافذة.
قال جريج: «إنه لشيء رائع أن يكون لدى المرء طفل.» كانت تلك كلمة جديدة أخرى في ذلك الوقت، أو على الأقل جديدة بالنسبة إلى جريتا.
قالت: «هذا شيء معتاد.» «إنك هادئة جدا. الشيء التالي الذي ستقولينه: «إن هذا شأن الحياة».»
قالت: «لا، لن أفعل.» وظلت تحدق في عينيه حتى هز رأسه وضحك.
أخبرها بأنه دخل مجال التمثيل بسبب ديانته، فعائلته كانت تنتمي لإحدى الطوائف المسيحية التي لم تسمع بها جريتا من قبل. ولم تكن تلك الطائفة وافرة العدد لكنها كانت ثرية جدا، أو على الأقل بعض أفرادها كذلك؛ فبنوا كنيسة وألحقوا بها مسرحا، وذلك في إحدى البلدات الواقعة في منطقة البراري؛ ومن هنا بدأ التمثيل قبل أن يبلغ العاشرة من العمر. كانوا يعرضون قصصا ومواعظ من الكتاب المقدس، ومن الحاضر أيضا، بشأن الأشياء المروعة التي تقع للأشخاص الذين لا يؤمنون بتعاليم الطائفة. كانت عائلته فخورة جدا به، وكذا كان هو الآخر فخورا بنفسه؛ فلم يكن يحلم بأن يقص عليهم كل ما يجري عندما يأتي المؤمنون من الطائفة من الأثرياء لتجديد إيمانهم، ويحصلون على عزم جديد في حضرتهم. على أية حال، كان يروق له كل ذلك الاستحسان، وقد أحب التمثيل.
استمر الأمر على هذا الوضع حتى أتى اليوم الذي واتته فكرة التمثيل خارج نطاق الكنيسة وتعاليمها، وحاول أن يعرض فكرته بهدوء وأدب، لكنهم قالوا له بأن الشيطان قد سيطر على عقله؛ فقال ساخرا إنه يعلم من الذي تمكن منه الشيطان.
ثم رحل مودعا.
قال: «لا أريدك أن تعتقدي أن كل ما في هذا الدين سيئ، فأنا ما زلت أومن بالصلاة وبكل شيء، لكني لا أستطيع أن أخبر عائلتي بما أفعله؛ فأي شيء يعلمونه بشأني قد يقضي عليهم. هل تعرفين أناسا كهؤلاء؟»
أخبرته أنها حينما انتقلت هي وبيتر لأول مرة إلى فانكوفر، اتصلت جدتها التي كانت تعيش في أونتاريو بكاهن في إحدى الكنائس هناك كانت تعرفه، وطلبت منه الذهاب لمنزل جريتا، فلبى دعوة جدتها، لكن جريتا قابلته بنوع من التكبر والغطرسة. قال إنه سيصلي من أجلها، فأوضحت له دون أن تنطق بأي كلمة بأن عليه ألا يهتم بشأنها. كانت جدتها تحتضر في ذلك الوقت. شعرت جريتا بالخزي، وكانت تشعر بالغضب حيال هذا الشعور بالخزي كلما فكرت في هذا الأمر.
لم يتفهم بيتر مثل هذه الأمور؛ فلم تذهب أمه مطلقا إلى أية كنيسة، على الرغم من أن أحد أسباب هروبها به وهو صغير عبر الجبال ربما يكون أن يصبحا كاثوليكيين. كان يقول إن الكاثوليك ربما يتمتعون ببعض المزايا؛ فبمقدورك تقليل المخاطر، حتى الموت.
كانت تلك المرة الأولى التي يطرأ بيتر على ذهنها منذ فترة.
الحقيقة أن جريج وجريتا كانا يحتسيان الشراب بينما يتبادلان ذلك الحوار الكئيب والباعث على الراحة بعض الشيء في نفس الوقت. كان قد أحضر زجاجة من خمر الأوزو. كانت حذرة إلى حد ما بشأن تناوله، تماما كما كانت مع أي نوع من الكحوليات منذ ذلك اليوم الذي ثملت فيه في حفلة الكتاب، لكن بدأ يظهر بعض أثر تناولهما لهذا النوع من الخمر، الذي جعل كلا منهما يعبث بيد الآخر، ثم شرعا في تبادل القبلات والملاطفة. كل ذلك كان يجري بجوار الطفلة التي كانت تغط في النوم.
قالت جريتا: «علينا ألا نكف عن ذلك، وإلا أصبح المشهد مؤسفا.»
قال: «لسنا من يفعل ذلك، وإنما اثنان غيرنا.» «أخبرهما أن يكفا إذن. ألا تعرف اسميهما؟» «انتظري. إنهما رج. رج ودوروثي.» «إذن كف عن ذلك يا رج. وماذا عن طفلتي البريئة؟» «بمقدورنا الذهاب إلى مقصورتي، إنها ليست ببعيدة.» «ليس لدي أي ...» «أنا لدي.» «يبدو أنك معتاد على هذا الأمر.» «بالطبع لا. أي نوع من الوحوش تظنينني؟»
رتبا الأغطية التي تبعثرت، ثم انسلا من المقصورة، وراحا يغلقان جيدا أزرار فراش كاتي الذي تنام عليه. ثم شقا طريقهما من مقصورتها إلى مقصورة جريج وهما يتمايلان في نشوة واسترخاء. لم يكن ثمة داع لأن يغادرا مقصورتها؛ فلم يصادفا أحدا في طريقهما؛ فالأشخاص الذين لم يكونوا موجودين في عربة المشاهدة المقببة لالتقاط صور للجبال الممتدة، كانوا إما في عربة الحانة، وإما نائمين.
وفي مقصورة جريج غير المرتبة استكملا ما كانا قد بدآه. لم تكن هناك مساحة تكفي لكي يستلقي شخصان بصورة مريحة، فالتصق كل منهما بالآخر. في البداية لم تنقطع ضحكاتهما المكتومة، وتبعتها لحظات من المتعة العارمة ، ولم يكن ثمة مكان يقع عليه بصرهما سوى عيني كل منهما. كانا يعض كل منهما الآخر كيلا تصدر عن أي منهما أي أصوات عالية.
قال جريج: «رائع، جميل.»
قالت: «علي أن أعود أدراجي.» «سريعا هكذا؟» «قد تستيقظ كاتي ولا تجدني.» «حسنا، حسنا. على أية حال، علي أن أستعد للنزول في ساسكاتون. ماذا لو كنا بلغناها وسط ما كنا نفعله؟ كنت سأقول: مرحبا أمي، مرحبا أبي. معذرة، انتظراني دقيقة بينما ...!»
استجمعت شتات نفسها وأصلحت هندامها، وتركته. في الواقع لم تهتم بمن يمكن أن تقابله في طريقها. كانت واهنة، مشدوهة، لكن يغمرها الإحساس بالنشوة والبهجة كالمصارع بعد جولة عنيفة في حلبة المصارعة؛ هكذا فكرت في الأمر والابتسامة تعلو وجهها.
على أية حال لم تلتق بأحد.
لم تجد المشبك السفلي للستارة مغلقا، لكنها كانت تتذكر جيدا أنها أغلقته قبل أن تذهب. ومع ذلك، فحتى إن كان مفتوحا فسيكون من الصعب أن تنسل كاتي من بينها، وبالقطع لن تحاول. عندما تركتها جريتا ذات مرة لتذهب إلى الحمام أوضحت لها جيدا أنه لا ينبغي على كاتي أن تتبعها، وأجابتها كاتي حينها قائلة: «لن أفعل.» كما لو أنها تقول لأمها أنها لا تزال تعاملها كطفل رضيع.
أمسكت جريتا بالستارة كي تفتحها على آخرها، وعندما فعلت لم تجد كاتي.
جن جنونها ورفعت الوسادة كما لو أن طفلة بحجم كاتي يمكن أن تخفي نفسها تحتها. أخذت تمرر يدها على الغطاء؛ فربما تختفي كاتي تحتها. استطاعت السيطرة على أعصابها وحاولت أن تسترجع الأماكن التي توقف بها القطار، وتفكر إن كان قد توقف بالفعل أم لا، وذلك خلال الوقت الذي أمضته مع جريج. ولكن هل من الممكن أن يكون قد تسلل أحد الخاطفين أثناء توقف القطار - إن كان قد توقف بالأساس - وحمل كاتي وفر هاربا بها؟
وقفت في الممر تحاول أن تفكر بما يمكن فعله لكي توقف سير القطار.
ثم فكرت - أو هكذا أجبرت نفسها على الاعتقاد - بأن شيئا من هذا القبيل لا يمكن أن يحدث، وقالت في نفسها: لا تكوني سخيفة، لا بد أن كاتي قد استيقظت ولم تجدني وذهبت لتبحث عني، بمفردها.
لا بد أن تكون في مكان ما بالقرب من هنا. لا بد أن تكون في مكان قريب. إن البابين المتواجدين عند طرفي المقصورة صعبا الفتح جدا عليها.
استطاعت بالكاد أن تتحرك من مكانها، شعرت بأن عقلها وجسدها قد أضحيا فارغين. لا يمكن أن يكون قد حدث ذلك واختفت الطفلة. يا ليت الوقت يعود قبل أن تذهب مع جريج. ليته توقف هناك.
كان هناك مقعد شاغر بجوار الممر، وقد وضع أحدهم فوقه سترة نسائية ومجلة لحجزه، وعلى مسافة أبعد منه كان هناك مقعد مشابك أحزمته كلها مربوطة، تماما مثل تلك الخاصة بها هي وابنتها، فقامت بفكها بيد واحدة. تحرك الرجل العجوز الذي كان مستلقيا على المقعد ويغط في نوم عميق، ليستلقي على ظهره لكنه لم يستيقظ، ولم يكن ثمة احتمال أنه يخفي أحدا.
يا لبلاهتها!
ساورها خوف جديد. لنفترض أن كاتي شقت طريقها إلى إحدى نهايتي العربة ونجحت بالفعل في فتح أحد بابيها، أو أنها قد تتبعت شخصا فتحه أمامها. هناك ممر قصير بين العربات حيث تجد نفسك في الواقع تسير فوق المكان الذي يربط بين العربات بعضها ببعض؛ يمكنك هناك أن تستشعر حركة القطار بطريقة مفاجئة ومزعجة، ويوجد أمامك باب ثقيل ومن خلفك آخر مثله، وعلى جانبي الممر ترى ألواحا معدنية تصدر ضجيجا عاليا، وهي تغطي الدرج الذي يتم إنزاله عندما يتوقف القطار.
وغالبا ما يسرع المرء من خطاه عبر تلك الممرات؛ حيث يذكره ذلك الضجيج والتمايل بكيفية ترتيب الأشياء معا وتنظيمها بطريقة يبدو أنه من الممكن في النهاية تغييرها؛ فالتمايل والضجيج هذان يحدثان بصورة متقطعة غير منتظمة ولكنها سريعة.
كان الباب المتواجد في نهاية العربة ثقيلا ويصعب فتحه حتى بالنسبة إلى جريتا، أو يبدو أن الخوف استنفد طاقتها فراحت تدفعه بكتفها بكل قوتها.
وهناك، بين العربات وعلى واحد من تلك الألواح المعدنية التي تصدر ضجيجا باستمرار وجدت كاتي جالسة. كانت عيناها مشدوهتين، وفمها مفتوحا بعض الشيء تشعر بالدهشة والوحدة. لم تكن تبكي على الإطلاق، لكن بمجرد أن رأت أمها شرعت في البكاء.
جذبتها جريتا ورفعتها لتضعها على وركها، واستدارت بصعوبة مواجهة الباب الذي كانت قد فتحته لتوها.
كانت جميع عربات القطار تحمل أسماء لإحياء ذكرى بعض المعارك أو الاستكشافات أو المشاهير الكنديين، وكانت عربتهما تحمل اسم كونوت. إنها لم تكن لتنسى هذا الاسم مطلقا.
لم تصب كاتي بأي أذى على الإطلاق، ولم تشتبك ملابسها كما هو متوقع بالأطراف الحادة المتغيرة للألواح المعدنية.
قالت: «لقد ذهبت لأبحث عنك.»
متى؟ منذ دقيقة فقط؟ أم بعد أن تركتها جريتا مباشرة؟
بالقطع لا، لا بد أن أحدهم كان سيلمحها هناك ويحملها، ثم يذهب ليبلغ عن العثور على طفلة.
كان اليوم مشمسا لكنه ليس دافئا في واقع الأمر، وكانت يدها ووجهها باردين للغاية.
قالت: «ظننتك على الدرج.»
دثرتها جريتا بالغطاء الموضوع على فراشهما، وحينها بدأت تشعر هي الأخرى برعشة تسري في أوصالها كما لو أن حمى قد أصابتها. شعرت بغثيان، واستشعرت بالفعل آثار بعض القيء في حلقها. قالت كاتي: «لا تدفعي بي هكذا.» ثم تلوت وأزاحت نفسها بعيدة عنها.
وقالت: «تفوح منك رائحة كريهة.»
أزاحت جريتا ذراعيها بعيدا ثم استلقت على ظهرها.
كان ما حدث أمرا فظيعا، تصوراتها عما كان من الممكن أن يحدث كانت مفزعة. كانت الطفلة لا تزال ثائرة وتنأى بنفسها بعيدا عنها.
لا بد أن أحدهم كان سيعثر على كاتي؛ فكان سيلمحها هناك شخص محترم، وليس شريرا، ويحملها إلى حيث تكون في مأمن. كانت جريتا ستسمع الإعلان المفزع، أخبار العثور على طفلة بمفردها في القطار، طفلة تقول إن اسمها هو كاتي. كانت جريتا ستهرع إليهم من المكان الذي كانت تتواجد فيه في تلك اللحظة، محاولة أن تهندم نفسها قدر الإمكان، لتخبرهم بأن الطفلة هي ابنتها وكانت ستكذب حين تقول إنها كانت في الحمام حينما وجدوا طفلتها. كانت ستكون خائفة جدا، لكنها في نفس الوقت لم تكن لترى الوضع الذي كانت عليه طفلتها الآن؛ لم تكن لترى طفلتها وهي تجلس في ذلك المكان المزعج، عاجزة لاحول لها ولا قوة بين عربات القطار، لا تبكي أو تتذمر كما لو أنه كان عليها أن تبقى في هذا المكان للأبد دون أن يقدم لها أحد أية تفسيرات لذلك، ودون وجود أي بادرة أمل تلوح في الأفق لإخراجها مما هي فيه. كانت عيناها على نحو غريب خاليتين من أي تعبير، وكان فمها مفتوحا بعض الشيء، وذلك في اللحظة التي سبقت تفاجئها بحقيقة إنقاذها، وحينها شرعت في البكاء؛ حينها فقط، استعادت عالمها، وحقها في البكاء والشكوى.
قالت الآن إنها لم تكن ترغب في النوم، وأنها تريد أن تظل مستيقظة. وسألت عن مكان جريج، فأخبرتها جريتا أنه يأخذ غفوة لأنه متعب.
ذهبت بصحبة جريتا إلى عربة المشاهدة المقببة لقضاء بقية فترة ما بعد الظهيرة بها، ولم يكن بها أحد سواهما تقريبا؛ فلا بد أن الأشخاص الذين كانوا يلتقطون الصور قد شعروا بالتعب وقت التقاطهم صورا لجبال روكي. وبحسب تعليق جريج من قبل، إن أرض البراري التي يمرون بها قد ألقت بعض الكآبة والملل في نفوسهم.
توقف القطار لوقت قصير في ساسكاتون وهبط منه عدة أشخاص، وكان جريج من بينهم، ورأت جريتا شخصين يحييانه بدا واضحا أنهما والداه، وحيته أيضا امرأة تجلس على مقعد متحرك، ربما تكون جدته، ثم التف حوله مجموعة من الشباب الذين كانوا بانتظاره وقد ارتسمت على وجوههم أمارات البهجة والحياء. لم يبد على أي منهم أنه ينتمي إلى طائفة دينية، أو أنهم أناس تغلب عليهم الشدة والصرامة بأي حال من الأحوال.
لكن كيف يكون بمقدورك أن تلمح ذلك وتتأكد من أنه موجود في أي شخص من الأشخاص؟
حولت جريتا نظرها عنهم وراحت تبحث عنه عبر نوافذ القطار، ولوحت له من خلال عربة المشاهدة المقببة، ولمحها هو وراح يلوح بدوره لها هو الآخر.
قالت لكاتي: «ها هو جريج، انظري لأسفل هناك. إنه يلوح لك، ألن تلوحي له؟»
لكن كاتي وجدت صعوبة كبيرة في أن تلمحه وتنظر صوبه، أو أنها على الأقل لم تحاول. استدارت مبتعدة على نحو ملائم وبشيء من الضجر، واستدار جريج مبتعدا هو الآخر بعد أن لوح للمرة الأخيرة والتي كانت على نحو هزلي. وتساءلت جريتا إن كانت الطفلة تعاقبه لتركه لها، ومن ثم رفضت أن تلقي نظرة سريعة نحوه أو حتى تقر بوجوده.
حسنا، إن كان هذا هو الوضع، فلننس الأمر.
قالت جريتا وقد بدأ القطار يتحرك: «لقد لوح لك جريج.» «أعلم.» •••
بينما كانت كاتي تنام بجوار جريتا في فراشها تلك الليلة، أخذت جريتا تكتب خطابا لبيتر. كان خطابا طويلا قصت له فيه ما دار مع كل الأشخاص الذين صادفتهم في القطار، وأرادته أن يكون لطيفا ومرحا. أخبرته أن معظمهم كانوا يفضلون رؤية الأشياء من خلال كاميراتهم عن مشاهدتها على الطبيعة، إلى آخره، وحكت له أيضا عن كاتي وسلوكها الهادئ اللطيف بوجه عام أثناء الرحلة. لم تذكر له شيئا عن ضياعها بالطبع، أو عن الفزع الذي انتابها بسبب ذلك. ثم أرسلته عندما كانت أرض البراري قد توارت عن الأنظار تماما، ولم يكن أمامهم سوى منظر أشجار التنوب المارياني الممتدة بلا نهاية، وتوقفوا لسبب ما في هورنيباين، تلك البلدة الصغيرة المجهولة.
كرست كل الوقت الذي ظلت مستيقظة خلاله للعناية بكاتي، وكانت تعلم جيدا أنها لم تفعل ذلك من قبل على الإطلاق. لقد كانت حقا تهتم بالطفلة، وتلبسها، وتطعمها، وتتحدث معها، خلال كل تلك الساعات التي يكونان فيها معا، ويكون فيها بيتر في عمله، لكن كانت توجد أيضا لدى جريتا أشياء أخرى تفعلها في المنزل؛ لذا كان اهتمامها مجرد اهتمام سريع ومتقطع، وحنوها عليها شيئا تلقائيا وآليا في الغالب.
ولم تكن أعمال المنزل فقط هي السبب في ذلك؛ فقد كانت هناك أفكار أخرى تسيطر على ذهنها وتزيح الطفلة بعيدا عن بؤرة اهتمامها. حتى قبل انشغالها الساذج والمنهك بذلك الرجل الذي في تورونتو، والذي لم يكن هناك طائل من ورائه، كان هناك أيضا مجال الشعر الذي بدا أنه كان يشغل عقلها معظم حياتها، وقد بدا لها الآن أن ذلك كان بمنزلة نوع آخر من الخيانة؛ لكاتي، ولبيتر، ولحياتها كلها. والآن وبسبب تلك الصورة المرتسمة في مخيلتها لكاتي وهي تجلس وحيدة؛ كاتي بمفردها وسط ضجيج الألواح المعدنية بين عربات القطار، فهناك شيء آخر ستقلع عنه.
خطيئة. لقد كانت تحول انتباهها إلى مكان آخر، وصبت جم انتباهها بشدة على شيء آخر بخلاف طفلتها. إن هذا خطيئة. •••
بلغوا تورونتو في منتصف الصباح. كانت السماء ملبدة بالغيوم، وبرق ورعد الصيف يشقان السماء. لم تكن كاتي قد رأت مثل هذه الاضطرابات في الطقس في الساحل الغربي، لكن جريتا قالت لها إنه ليس ثمة ما تخشاه، وبدا أنها لم تكن خائفة. ولم تشعر بالخوف أيضا من تلك الظلمة التي واجهوها في ذلك النفق المضاء بالكهرباء وتوقف فيه القطار.
قالت: «لقد حل المساء.»
قالت جريتا إن المساء لم يحل بعد، وإن عليهم أن يسيروا حتى نهاية النفق حيث إنهم قد نزلوا الآن من القطار. وأضافت أن عليهم بعد ذلك صعود أحد الدروج، أو ربما استخدام سلم متحرك لينفذوا إلى أحد المباني الكبيرة، ومنه إلى الخارج حيث سيستقلون إحدى سيارات الأجرة، التي كانت ستقلهم إلى منزلهم. كانوا سيذهبون إلى منزلهم الجديد حيث سيعيشون فيه لفترة من الوقت، وبعدها يعودون إلى منزلهم الحقيقي.
صعدوا ممرا منحدرا، ومنه إلى سلم متحرك. انتظرت كاتي ولم تصعد السلم المتحرك وكذلك فعلت جريتا حتى لحق بهم آخرون. صعدت جريتا السلم المتحرك حاملة كاتي فوق إحدى وركيها، وممسكة حقيبتها باليد الأخرى، التي أخذت تتمايل وتهتز فوق خطوات السلم المتحركة. وعندما وصلا إلى أعلى السلم، أنزلت جريتا كاتي على الأرض وأمسكت بيدها مرة أخرى، وذلك في الضوء الساطع الفخم لمحطة تورونتو الرئيسية.
راح الركاب الذين يتقدمونهم يغادرون المحطة أو يتلفتون حولهم بحثا عمن ينتظرونهم، أو من ينادون أسماءهم، أو ببساطة من يقترب منهم ليحمل عنهم حقائبهم.
اقترب منهما شخص وحمل حقيبتهما؛ حملها وطوق جريتا بذراعيه وقبلها للمرة الأولى بلهفة واحتفاء شديدين.
كان هاريس.
انتابتها صدمة في بادئ الأمر، ثم ارتباك شديد واهتياج عاطفي قوي.
حاولت أن تقبض على يد كاتي، لكن في تلك اللحظة ابتعدت الطفلة وتحررت من قبضتها.
لم تحاول الهرب؛ وقفت تنتظر فحسب ما سيحدث بعد ذلك.
أمندسون
جلست على المقعد المتواجد خارج المحطة ورحت أنتظر. كانت أبواب المحطة مفتوحة عندما وصل القطار، لكنها أغلقت الآن. جلست إحدى السيدات على الطرف الآخر من المقعد، ووضعت بين ركبتيها حقيبة شبكية مليئة ببعض الأشياء المغلفة بالورق المزيت. كانت قطعا من اللحم؛ اللحم النيئ. فبمقدورك شم رائحتها جيدا.
وفوق القضبان وقف القطار الكهربائي خاليا، منتظرا ركابه.
لم يظهر أحد من الركاب الآخرين، وبعد فترة قصيرة أخرج ناظر المحطة رأسه ونادى قائلا: «سان.» ظننته في البداية ينادي على اسم شخص يدعى سام. (لكنه كان يقصد المصحة العلاجية الخاصة بالأطفال المصابين بالسل.) وقد ظهر عند نهاية المبنى رجل آخر يرتدي نوعا من الملابس الرسمية، عبر القضبان وصعد إلى القطار. نهضت المرأة التي تحمل الحقيبة المليئة بقطع اللحم وتبعته، وفعلت أنا نفس الشيء. تعالت بعض الصيحات الآتية من ناحية الشارع، وفتحت أبواب مبنى مظلم مغطى سقفه المستوي بألواح الخشب، ودخل منه عدد من الرجال الذين يضعون قبعات على رءوسهم، ويحملون أوعية طعام الغداء التي كانت ترتطم بأفخاذهم أثناء سيرهم. وقد يهيأ إليك من الضوضاء التي يحدثونها أن القطار سينطلق بسرعة في أية لحظة دون أن يركبوا فيه، لكن عندما صعدوا إليه، لم يحدث شيء. ظل القطار ثابتا في مكانه بينما كانوا يعدون أنفسهم، وقالوا إن هناك فردا ناقصا، وأخبروا السائق بأنه ليس بإمكانه التحرك الآن. ثم تذكر أحدهم أنه يوم عطلة الشخص غير الموجود؛ حينها شرع القطار في التحرك بالرغم من أنك لا تستطيع أن تعرف إن كان السائق قد سمع أيا مما حدث أو أعاره أي اهتمام.
نزل جميع الرجال عند مصنع نشر الأخشاب في الغابة - ولم تكن المسافة لتستغرق أكثر من عشر دقائق سيرا على الأقدام للوصول إليه - وبعد فترة قصيرة ظهرت البحيرة أمامنا وكانت مغطاة بالثلوج، وكان يوجد قبالتها مبنى خشبي عال أبيض اللون. عدلت المرأة من وضع لفافات اللحم التي كانت تمسك بها، ونهضت من مكانها وهكذا فعلت. نادى السائق مرة أخرى قائلا: «سان.» وفتحت أبواب القطار. وقفت امرأتان تنتظران الصعود، وحيتا المرأة التي تمسك باللحم فردت التحية وقالت لهما إن اليوم شديد البرودة.
تحاشى الجميع النظر إلي بينما كنت أهبط من القطار خلف المرأة التي تحمل اللحم.
كان من الواضح أنه لم يكن هناك أحد آخر ينتظر عند نهاية ذلك الخط، وأغلقت الأبواب بقوة محدثة ضجيجا عاليا، واستعد القطار للرجوع مرة أخرى.
كان الصمت يلف المكان، والهواء في برودة الثلوج، وكان يوجد بعض أشجار البتولا الضعيفة التي تحمل بعض العلامات السوداء على لحائها الأبيض، بجانب بعض الأشجار الصغيرة الدائمة الخضرة المهملة التي تتجمع كأنها دببة نائمة. لم يكن سطح البحيرة المتجمدة مستويا، لكنه بدا في شكل كومة بطول الشاطئ، كما لو أن الأمواج قد تحولت إلى ثلوج أثناء اندفاعها وهبوطها. والمبنى الواقف قبالة البحيرة يضم صفوفا منتظمة من النوافذ وشرفة زجاجية في كلا جانبيه. كان كل شيء يبدو قاتما، كما هي سمة ذلك الجزء الشمالي حيث يغلب اللونان الأبيض والأسود على كل شيء يتواجد أسفل السماء الممتلئة بالسحب.
لكنك لا ترى لحاء أشجار البتولا أبيض اللون كلما دنوت منه أكثر، بل تراه باللون الأصفر المائل للرمادي، ثم الأزرق المائل للرمادي، ثم اللون الرمادي.
كان كل شيء ساكنا، ورائعا، وشديد السحر.
قالت لي المرأة التي تحمل حقيبة اللحم: «إلى أين أنت ذاهبة؟ فأوقات الزيارة تنتهي في الثالثة.»
قلت لها: «لست بزائرة. فأنا المعلمة.»
قالت المرأة ببعض الارتياح: «حسنا، إنهم لن يدعوك تدخلين من الباب الأمامي على أية حال؛ لذا من الأفضل أن تأتي معي. ألم تحضري معك أية حقائب؟» «قال ناظر المحطة إنه سيحضرها فيما بعد.» «إن الطريقة التي كنت تقفين بها هناك توحي بأنك قد ضللت الطريق.»
قلت لها إني توقفت لأن المنظر كان شديد الجمال. «قد يرى البعض أن الأمر كذلك، إلا إن كانوا يشعرون بإعياء شديد أو كانوا منشغلين بشدة.»
لم نزد شيئا في حوارنا عن ذلك حتى دلفنا إلى المطبخ في أحد جوانب المبنى، لقد كنت في حاجة ماسة بالفعل للدفء الموجود بداخله. لم تتح لي فرصة التجول بنظري بين أرجائه؛ فقد كانت المرأة تنظر نحو حذائي العالي الرقبة.
قالت: «من الأفضل أن تخلعي هذا الحذاء قبل أن يخلف أثرا على الأرض.»
خلعت الحذاء بصعوبة شديدة، ولم يكن هناك أي مقعد للجلوس، وقد وضعته فوق البساط حيث تركت المرأة حذاءها. «أمسكي به وأحضريه معك؛ فلست أدري أين سيجعلونك تقيمين. ومن الأفضل أيضا أن تظلي مرتدية معطفك؛ فليس هناك أي نوع من التدفئة في غرفة إيداع الملابس.»
لم يكن هناك أي نوع من التدفئة أو الإضاءة، فيما عدا ما يأتي من خلال نافذة صغيرة لم يكن بإمكاني الوصول إليها. كان الأمر يبدو وكأنني أتلقى عقابا في المدرسة؛ فقد تم إرسالي إلى غرفة إيداع المعاطف والملابس. نعم. إنها نفس رائحة ملابس الشتاء التي لا تجف مطلقا، والأحذية العالية الرقبة التي تفوح منها رائحة الجوارب القذرة والأرجل التي لا يتم غسلها وتنظيفها.
صعدت على أحد المقاعد لكني ما زلت لا أتبين ما بالخارج. وعلى الرف الملقى فوقه بعض الأوشحة والقبعات وجدت حقيبة بها بعض التين والبلح. لا بد أن أحدهم سرقها وأخفاها هنا ليأخذها معه حينما يرحل. وفجأة، انتابني شعور بالجوع. لم أتناول شيئا منذ الصباح، فيما عدا سندوتش جبن جافة أكلته في إحدى محطات خط أونتاريو نورثلاند. رحت أفكر في الجانب الأخلاقي لفكرة السرقة من سارق، لكن التين كان سيعلق بأسناني، موشيا بأمري.
نزلت من فوق المقعد في الوقت المناسب؛ فقد كان هناك أحد يدلف إلى الغرفة، لم يكن شخصا من العاملين في المطبخ، بل فتاة من المدرسة ترتدي معطفا شتويا ثقيلا، وتضع وشاحا فوق شعرها. دلفت في سرعة شديدة، وألقت الكتب فوق المقعد فسقطت وتناثرت على الأرض، وجذبت الوشاح فبرز شعرها أشعث، وفي نفس الوقت دفعت بفردتي حذائها الواحدة تلو الأخرى فتطايرتا فوق أرضية الغرفة. من الواضح أنه لم يرها أحد ليمسك بها ويجعلها تقوم بخلعهما عند باب المطبخ.
قالت الفتاة: «مرحبا، لم أقصد أن أوذيك، لكن الغرفة هنا شديدة الظلام خاصة بعد الإضاءة المتواجدة بالخارج؛ فالمرء لا يرى ما يفعله. ألا تتجمدين من شدة البرودة؟ هل تنتظرين حتى ينتهي أحدهم من عمله؟» «أنا بانتظار الطبيب فوكس.» «إذن فليس عليك أن تنتظري طويلا، لقد جئت لتوي من البلدة في رفقته. إنك لست بمريضة، أليس كذلك؟ إن كنت مريضة، فيجب ألا تأتي إلى هنا، بل يجب أن تذهبي إليه في البلدة.» «أنا المعلمة.» «حقا؟ هل أتيت من تورونتو؟» «نعم.»
سادت فترة من الصمت ربما كانت نابعة من الاحترام.
لكنها لم تكن كذلك، بل كانت من أجل إلقاء نظرة متفحصة على معطفي. «إنه حقا معطف رائع. ما نوع هذا الفراء الذي يغطي ياقته؟» «فراء حمل فارسي. إنه تقليد في واقع الأمر.» «كدت أخدع وأظنه أصليا. لا أدري لم أحضروك إلى هنا، فالطقس شديد البرودة هنا. معذرة، هل تودين رؤية الطبيب؟ فبإمكاني اصطحابك إليه، أنا أعرف مكان كل شيء هنا؛ فلقد عشت في هذا المكان منذ مولدي، وأمي تدير المطبخ. اسمي ماري، وأنت ما اسمك؟» «فيفي. فيفيان.» «إن كنت معلمة، ألا ينبغي أن أدعوك بالآنسة؟ الآنسة ماذا؟» «الآنسة هايد.»
قالت مازحة لاعبة على معنى لقبها هايد بالإنجليزية الذي يعني «جلد»: «ادبغي جلدك. آسفة لأن هذا قد خطر على ذهني. كنت أود أن تكوني معلمتي لكن ينبغي علي الذهاب إلى المدرسة في البلدة. إنها تلك القوانين الغبية؛ فعلي الذهاب إلى هناك لأنني لم أصب بمرض السل.»
بينما نتحدث معا قادتني حتى الباب الموجود في نهاية الغرفة، ثم عبر ردهة مستشفى نظامي حيث الأرضيات المغطاة بالمشمع، والطلاء الأخضر الباهت، ورائحة المطهر التي تفوح من المكان. «والآن بما أنك قد وصلت إلى هنا، يمكنني أن أجعل ريدي يحل محلي في قيادتك.» «من هو ريدي؟» «ريدي فوكس. إنه يبدو وكأنه آت من داخل كتاب. لقد بدأت أنا وأنابل لتونا نطلق عليه ذلك.» «من هي أنابل؟» «إنها لا تعد موجودة الآن، لقد ماتت.» «أوه، أنا آسفة.» «لا عليك، إنه ليس خطأك، فهذا الأمر يحدث هنا دوما. لقد التحقت بالمدرسة الثانوية هذا العام. لم تذهب أنابل للمدرسة مطلقا، وحينما كنت أنا في المدرسة الإعدادية كان ريدي يجعل معلمة البلدة تتركني لأمكث فترات طويلة في البيت، وذلك حتى أكون في رفقتها.»
توقفت أمام أحد الأبواب الذي كان مواربا، وأطلقت صفيرا. «مرحبا، لقد أحضرت المعلمة.»
قال صوت رجل: «حسنا ماري. تكفي صحبتك ليوم واحد.» «حسنا. لقد سمعت ما تقول.»
انصرفت وأخذت تسير بخطى بطيئة، وتركتني في مواجهة رجل نحيف متوسط الطول، شعره الأصفر المائل للحمرة مقصوص على نحو جعله قصيرا للغاية، وكان يلمع في الضوء الصناعي الآتي من الردهة.
قال: «لقد التقيت بماري. إن لديها الكثير الذي يمكن أن تقوله عن نفسها، لكنها على أية حال لن تكون في الفصل الذي ستدرسين له؛ لذا لن يكون عليك تحمل ذلك كل يوم، فالناس إما يحبون طريقتها وإما لا تستهويهم على الإطلاق.»
بدا لي أنه يكبرني بنحو يقرب من عشرة أعوام إلى خمسة عشر عاما، وكان يتحدث إلي في البداية بطريقة الرجل الأكبر سنا؛ كصاحب العمل المستقبلي المشغول الذهن دائما. سألني عن رحلتي، والترتيبات الخاصة بشأن إحضار حقيبتي. كان يريد أن يعرف شعوري بصدد العيش هنا في الغابة، وخاصة أنني كنت أقيم في تورونتو، وسألني إن كنت سأشعر بالملل نتيجة لذلك أم لا.
قلت له إنني لن أشعر بذلك على الإطلاق، وأضفت أن المكان جميل. «يبدو الأمر ... يبدو الأمر وكأنني داخل رواية روسية.»
نظر إلي باهتمام للمرة الأولى. «أحقا هو كذلك؟ فأي رواية روسية إذن؟»
كانت عيناه باللون الأزرق الفاتح اللامع المائل للون الرمادي، وقد رفع أحد حاجبيه الذي بدا وكأنه قبعة عسكرية صغيرة.
لم يكن الأمر أنني لم أقرأ روايات روسية على الإطلاق؛ بل إنني في الواقع قد قرأت بعضها بالكامل، في حين أنني قرأت أجزاء من البعض الآخر. لكن بسبب ذلك الحاجب الذي رفعه، وتعبير وجهه الذي شابه بعض اللطف والتحدي أيضا، لم أستطع أن أتذكر أيا من عناوين تلك الروايات سوى رواية «الحرب والسلام»، ولم أكن أرغب في أن أذكر اسم تلك الرواية التي كان سيذكرها أي شخص آخر كان في موقفي. «الحرب والسلام.» «حسنا ما لدينا فقط هنا هو السلام، لكن إن كنت متلهفة للحرب، فأعتقد أنه من الأحرى أن تنضمي لواحدة من تلك الوحدات النسائية وتسافري عبر البحار.»
شعرت بالغضب والإهانة لأنني لم أكن في الواقع أتباهى بذلك أو أتعمد ذلك؛ كل ما هنالك أنني أردت أن أعبر عن مدى تأثير ذلك المنظر الجميل في نفسي.
كان من الواضح أنه من أولئك الأشخاص الذين يعمدون طرح أسئلة شبيهة بالفخاخ للإيقاع بك.
قال فيما يشبه الاعتذار: «كنت أتوقع أن تأتي إلى هنا معلمة عجوز. يبدو الأمر كما لو أنه من حق أي فرد مؤهل بعض الشيء، وفي سن معقول، أن يعود إلى النظام هذه الأيام. إنك لم تدرسي كي تصبحي معلمة، أليس كذلك؟ ما الذي تخططين لعمله عند حصولك على البكالوريوس؟»
قلت في اقتضاب: «أعكف على تحضير رسالة ماجستير.» «إذن، ما الذي جعلك تغيرين رأيك؟» «أعتقد أنني بحاجة لبعض المال.» «تفكير سليم، بالرغم من أنني أخشى أنك لن تجني الكثير من المال هنا. آسف لتطفلي، لكنني فقط أردت أن أتأكد من أنك لن تغادري المكان فجأة. هل تعتزمين الزواج قريبا؟» «لا.» «حسنا، حسنا. إذن أنت ليس عليك أي التزامات الآن، هل أثبطت من عزمك؟»
أشحت بوجهي. «لا.» «عليك الذهاب لمكتب رئيسة الممرضات في الردهة بالأسفل، وستخبرك بكل ما تحتاجين لمعرفته. ستتناولين طعامك مع الممرضات، وستخبرك أيضا بالمكان الذي ستنامين فيه. حاولي فقط ألا تصابي بالبرد. لا أعتقد أن لك أي تجربة مع مرض السل؟» «حسنا، لقد قرأت ...» «أعلم، أعلم. لقد قرأت رواية «الجبل السحري».»
إنه شرك آخر، لكن بدا أنه قد تراجع، وقال: «لقد تغيرت الأمور وتقدمت بعض الشيء عن ذلك، آمل في ذلك. لدي أشياء قد كتبتها بشأن الأطفال هنا ورأيي فيما يمكن أن تقومي به من دور معهم. إنني في بعض الأحيان أفضل التعبير عن نفسي من خلال الكتابة. ستعطيك رئيسة الممرضات كافة المعلومات الأساسية.» •••
لم يمر أسبوع على تواجدي بالمكان حتى بدت كل أحداث اليوم الأول متفردة ولا يحتمل تكرارها مرة أخرى؛ فالمطبخ وغرفة إيداع الملابس التابعة له حيث يحتفظ العمال بملابسهم ويخفون سرقاتهم؛ أضحيا مكانين لم أرهما ثانية، وكان من المحتمل ألا أطأهما فيما بعد. وبالمثل لم يكن من المسموح دخول حجرة الطبيب، وكانت حجرة رئيسة الممرضات هي المكان المناسب لتلقي كل الاستفسارات والشكاوى وإعادة تنظيم الأمور العادية. كانت رئيسة الممرضات قصيرة القامة ذات قوام ممتلئ، وبشرة وردية، وترتدي نظارة بلا إطار، وتتنفس بشيء من الصعوبة. وكان أي شيء يطلبه المرء يثير دهشتها، ويسبب بعض الصعوبات من وجهة نظرها، لكنها في آخر الأمر تقوم بالبت فيه أو توفره. كانت في بعض الأحيان تتناول طعامها في غرفة الطعام الخاصة بالممرضات حيث كان يعد لها نوع من الحلوى، وكانت عادة ما تخلق جوا غير مريح في المكان، ولكنها كانت تبقى معظم الوقت في غرفتها الخاصة.
كان يوجد إلى جانب رئيسة الممرضات ثلاث ممرضات أخريات معتمدات، ولم تكن أي واحدة منهن في الثلاثينيات من العمر مثلي. عدن للعمل بعدما تجاوزن سن التقاعد حتى يؤدين واجبهن أثناء فترة الحرب. وكان يوجد أيضا ثلاث ممرضات مساعدات كن يقاربنني في العمر أو كن حتى أصغر سنا، ومعظمهن متزوجات أو مخطوبات أو يسعين للخطبة بوجه عام من رجال مجندين في الجيش. كن يتحدثن طوال الوقت الذي لا توجد خلاله رئيسة الممرضات والممرضات، ولم يبدين أدنى اهتمام بي؛ فلم تكن لديهن الرغبة في معرفة أي شيء عن تورونتو، بالرغم من أن بعضهن يعرفن أشخاصا ذهبوا إلى هناك لقضاء شهر العسل، ولم يهتممن بمعرفة أي شيء يتعلق بطريقة تدريسي أو عملي قبل أن آتي إلى هذا المكان. لكن هذا لا يعني أنهن كن يتسمن بالوقاحة؛ فقد كن يمررن الزبد إلي أثناء الطعام (كن يطلقن عليها زبدا بينما هي في الواقع بعض من السمن النباتي المختلط بالبرتقال، وتلون في المطبخ وذلك بحسب الطريقة الوحيدة المتعارف عليها في تلك الأيام)، وقد حذرنني من تناول فطيرة الراعي حيث قالوا إنها تحوي لحم مرموط خنزير الأرض. كل ما في الأمر أنهن كن لا يهتممن بكل ما يحدث في أماكن لا يعرفنها، أو لأشخاص لا تربطهم بهن أي صلة، أو في أوقات لا يعرفنها؛ فهي أشياء قد تسبب ضيقهن أو تعترض طريقهن. كن يغلقن الراديو وقت إذاعة الأخبار كلما سنحت لهن الفرصة، ويحاولن سماع الموسيقى. «أرقص مع فتاة جميلة ذات جورب مثقوب ...»
كان الممرضات والممرضات المساعدات يبغضن سماع إذاعة سي بي سي، التي نشأت على الاعتقاد بأنها تنقل الثقافة والمعرفة للأماكن النائية. ومع ذلك فقد كن يشعرن بالإعجاب والتبجيل تجاه الطبيب فوكس، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه قد قرأ العديد من الكتب.
كما قلن إنه ليس هناك أحد مثله يمكنه توجيه النقد بنحو لاذع إن أراد ذلك.
ولم أستطع أن أتبين إن كن يشعرن أن هناك علاقة تربط ما بين قراءته العديد من الكتب وتوجيه النقد والتعنيف للآخرين. ••• «مفاهيم علم أصول التدريس الأساسية مفتقدة هنا. البعض من أولئك الأطفال سيعاود دخوله للعالم أو النظام من جديد، بينما لن يدخل البعض الآخر؛ لذا، من الأفضل ألا يوضعوا تحت ضغط عصبي شديد؛ بمعنى لا مزيد من الاختبارات والحفظ وتصنيف الأشياء وكل هذا الهراء.
لا يولي أي اعتبار تماما لموضوع الصفوف والتقييم. فمن كان بحاجة إلى التقييم فمن الممكن أن يتم ذلك له فيما بعد أو يغفل ذلك تماما بالنسبة له؛ فكل ما يحتاج إليه الأطفال في الواقع هو تعلم بعض المهارات البسيطة للغاية، ومجموعة من الحقائق، وما شابه ذلك، تلك الأمور اللازمة للدخول في هذا العالم. وماذا عن الأطفال الذين يطلق عليهم «الأطفال المتفوقون»؟ ذلك المصطلح الباعث على الاشمئزاز. إن كانوا يتمتعون ببعض الذكاء من الناحية الأكاديمية، فيمكنهم اللحاق بالطلاب الآخرين بسهولة.
عليك أن تنسي تماما أمر أنهار أمريكا الجنوبية، وبالمثل الميثاق العظيم للحريات.
لا بأس من تعليم الرسم والموسيقى، وقص بعض الحكايات.
وممارسة الألعاب مسموح بها، لكن حذار من شدة الانفعال أو المنافسة.
يكمن التحدي في الابتعاد عن الشعور بالملل، وفي نفس الوقت تلافي الوقوع تحت ضغط عصبي؛ فالملل هو لعنة المستشفيات.
إن لم توفر لك رئيسة الممرضات الأشياء التي تحتاجينها، فستجدين في بعض الأحيان أن الحارس سيحضرها ويخفيها لك في مكان ما.
رحلة سعيدة.» •••
تفاوتت أعداد الأطفال الذين يأتون الفصل؛ فتارة كان يأتي خمسة عشر طفلا، وتارة أجد أن عددهم انخفض ليصل إلى ستة. وكانوا يأتون في أوقات الصباح فقط؛ أي من التاسعة صباحا حتى وقت الظهيرة، بما في ذلك أوقات الراحة. وكان الأطفال يمنعون من الحضور إن ارتفعت درجة حرارتهم، أو إن كانوا يجرون بعض التحاليل الطبية. كان يغلب عليهم الهدوء أثناء تواجدهم في الفصل، وكان من السهل التعامل معهم والسيطرة عليهم، بيد أنهم لم يظهروا أي اهتمام ملحوظ بما أقدمه لهم. لقد أيقنوا على الفور أنها مجرد مدرسة شكلية، وأنهم غير ملتزمين فيها بتعلم أي شيء، تماما كما لم يكن مطلوبا منهم تعلم كيفية أداء العمليات الحسابية أو القيام بالمهام التي تعتمد على الحفظ والاستظهار. لكن تلك الحرية لم تصعب السيطرة عليهم، كما أنها لم تترك داخلهم أي إحساس بالملل بصورة مزعجة؛ إنما جعلت منهم أشخاصا حالمين منصاعين للأوامر. كانوا يرددون الأغاني بصوت هادئ، ويمارسون لعبة «إكس أو»، وكان هناك شبه شعور بالانكسار والإحباط داخل هذا الفصل الارتجالي الخالي من أشكال الدراسة الفعلية.
عزمت على تنفيذ نصائح الطبيب، أو على الأقل تنفيذ بعضها، وخاصة فيما يتعلق بأن الشعور بالملل هو العدو الأكبر.
كنت قد لمحت شكلا مجسما للكرة الأرضية في حجرة الحارس الضيقة، وطلبت إحضارها إلى الفصل. وبدأت تدريس بعض المعلومات الجغرافية البسيطة؛ أسماء المحيطات والقارات وأشكال المناخ. وسألت نفسي: لم لا أعرض معلومات عن الرياح والتيارات الهوائية، والدول والمدن، ومدار السرطان ومدار الجدي؟ ولم لا أذكر أنهار أمريكا الجنوبية؟ وعرضت لهم بالفعل تلك المعلومات.
كان يوجد بعض الأطفال الذين تعلموا تلك الأشياء من قبل، لكنهم بالكاد كانوا يتذكرونها؛ فلقد تلاشى من أذهانهم ذلك العالم الذي يكمن خلف البحيرة والغابة. خيل إلي أنهم شعروا بالبهجة، كما لو أنهم كانوا يقيمون علاقات صداقة مرة أخرى مع الأشياء التي كانوا يعرفونها من قبل. لم أغرقهم بتلك المعلومات مرة واحدة بالطبع، وكان علي أن أتمهل وأبسط الأشياء للأطفال الذين لم يتعلموا تلك الأشياء من قبل بسبب إصابتهم بالمرض في عمر مبكر.
لقد نجحت في هذه المهمة واستطعت توصيل المعلومات في شكل لعبة يمارسونها؛ فقد قسمتهم إلى فرق، وكنت أجعلهم يقولون أسماء الأشياء وأنا أحرك المؤشر هنا وهناك سريعا على الشكل المجسم للكرة الأرضية. كنت أحرص على ألا يمتد شعورهم بالإثارة لفترة طويلة. لكن في أحد الأيام مر الطبيب بجوار الفصل، وكان خارجا لتوه من عملية جراحية كان يجريها في الصباح، وقد لمحني وأنا ألعب معهم هذه اللعبة. لم أستطع أن أتوقف مرة واحدة وأوقف هذا الحماس، لكنني حاولت أن أهدئ من حدة المنافسة بين الأطفال. دخل وجلس بيننا، وكانت تبدو عليه أمارات التعب والاستسلام؛ فلم يبد أي اعتراض، وبعد عدة دقائق انضم إلينا، فراح يردد إجابات مضحكة، ولم تكن الإجابات خاطئة، بل خيالية. ثم راح شيئا فشيئا يخفض من صوته؛ فأخذ يتمتم في البداية، ثم تحدث بصوت هامس، ثم لم يعد هناك شيء يمكن أن يسمع منه على الإطلاق. ومن خلال هذه الطريقة، وهذا الأسلوب العبثي المثير للضحك، تمكن من إحكام السيطرة على الفصل؛ وراح الأطفال جميعهم يقلدونه ويتحدثون بصوت خافت، وكانت أعينهم مثبتة على شفتيه.
وفجأة أطلق زمجرة خفيفة جعلتهم جميعا ينفجرون في الضحك. «لماذا تحملقون في هكذا بحق الجحيم. أهذا ما علمتكم إياه معلمتكم؟ أن تحدقوا هكذا في الأشخاص الذين لا يسببون لأحد أي ضيق أو إزعاج؟»
ضحك معظم الأطفال، بينما لم يستطع البعض الآخر منع أنفسهم من النظر إليه وهو يقول ذلك. لقد كانوا متعطشين لمثل هذ الأشياء المثيرة للضحك. «هيا، توقفوا عن هذا، وتصرفوا على هذا النحو السيئ في مكان آخر.»
راح يعتذر لي فيما بعد عن اقتحامه الفصل بهذا الشكل، بينما شرحت أنا له الأسباب في جعل هذا الدرس يبدو وكأنه يعرض في فصل حقيقي.
قلت في حماس: «بالرغم من أنني أتفق معك في شأن ضرورة تجنب الأشياء المسببة للضغط العصبي ... أنا أتفق تماما مع ما أمليته علي من تعليمات، إلا أنني اعتقدت أنه ...» «أية تعليمات؟ أوه، إنها مجرد أفكار جالت بذهني، ولم أكن أقصد قط أن تنفذ كما هي حرفيا دون تغيير.» «كنت أعني أنهم ما داموا لا يعانون من مرض شديد ...» «أنا واثق من أنك على حق، ولا أعتقد أن في ذلك ضررا.» «نعم وإلا بدا عليهم الفتور واللامبالاة.»
قال: «ليس ثمة داع لكل تلك التفسيرات.» ثم استدار مبتعدا.
ثم استدار نحوي مرة أخرى فيما يشبه الاعتذار الفاتر.
وقال: «يمكننا التحدث بشأن هذا في وقت لاحق.»
كنت أعتقد أن هذا الوقت لن يأتي مطلقا، وكان من الواضح أنه يراني شخصا أحمق يثير الإزعاج.
ثم علمت فيما بعد من الممرضات المساعدات أثناء وقت الغداء أن هناك طفلا توفي أثناء إجراء جراحة له هذا الصباح؛ لذا اتضح لي أنه لم يكن لغضبي أي مبرر؛ ولهذا السبب شعرت أني كنت أتسم حقا بالحماقة والغباء. •••
لم أكن أؤدي أي عمل في فترة ما بعد الظهيرة كل يوم، وكان تلاميذي يذهبون للنوم في تلك الفترة، وكنت أنا أميل لفعل نفس الشيء في بعض الأحيان. كانت حجرتي باردة، بل بدا كل جزء في المبنى باردا، أكثر برودة من شقتي التي في طريق أفنيو، بالرغم من أن جدي وجدتي كانا يشغلان جهاز التدفئة على درجة أقل، بدافع التوفير من أجل إعلان المصلحة الوطنية. كانت الأغطية خفيفة؛ وبالقطع يحتاج من يعاني من مرض السل غطاء ثقيلا أكثر.
لكني لم أكن أعاني بالقطع من السل، ومن ثم كانوا يبخلون في تقديم الكثير من الأشياء لأناس مثلي.
كان النعاس يغالبني لكني لم أستطع النوم؛ ففي الطابق الأعلى كنت أسمع الأصوات المزعجة للأسرة المتحركة وهم ينقلونها إلى الشرفات المفتوحة حتى يتعرض الأطفال لهواء فترة ما بعد الظهيرة البارد .
أما المبنى والأشجار والبحيرة فلم تبد لي ثانية كما رأيتها في أول يوم لي في هذا المكان، حينما أسرني غموضها وخلفت أثرا بالغا في نفسي حينها؛ ففي ذلك اليوم شعرت بأنني غير مرئية، أما الآن فبدا لي أن الأمر لم يكن حقيقيا قط. «ها هي المعلمة. ما الذي تتطلع إليه؟» «إنها تنظر صوب البحيرة.» «لم؟» «لا يوجد شيء أفضل لتفعله.» «بعض الأشخاص محظوظون.» •••
ذات مرة أغفلت وجبة الغداء، بالرغم من أنها جزء مما أتقاضاه من راتبي. ذهبت إلى أمندسون، حيث تناولت الطعام في مقهى هناك. كانت القهوة المقدمة بديل القهوة بوستم، وأفضل ما لديهم من سندوتشات هو السلمون المعلب، إن تواجد بالأساس، أما سلطة الدجاج فكان ينبغي تفحصها جيدا خشية أن يكون بها شيء من الجلد والعظام، ومع هذا فقد شعرت براحة أكبر في هذا المكان حيث لا يمكن لأحد أن يعرف من أنا.
وربما كنت مخطئة في هذا.
لم يكن بالمقهى حمام للسيدات؛ لذا كان علي الذهاب إلى الفندق المجاور والمرور أمام باب الحانة المفتوح، تلك الحانة التي عادة ما تكون مظلمة، وصاخبة، وتنبعث منها رائحة الجعة والويسكي، والدخان الكثيف للسجائر والسيجار الذي يغمرك ويخنقك. ومع هذا شعرت بالراحة هناك أيضا؛ فلن تجد الحطابين - أولئك الرجال الذين يعملون في مصنع نشر الأخشاب - يصرخون في وجهك كما يفعل الجنود والطيارون في تورونتو؛ لقد كانوا غارقين في عالم الرجال، يقصون روايتهم بصوت عال، منهمكين لا يبالون بالبحث عن امرأة. ربما كانوا في الواقع أكثر حرصا على الابتعاد عن صحبة النساء الآن أو إلى الأبد.
كانت لدى الطبيب عيادة في الشارع الرئيسي، وهي مبنى من طابق واحد؛ لذا فلا بد أنه كان يقيم في مكان آخر، وقد سمعت عن طريق الممرضات المساعدات أنه لم يكن متزوجا. وفي الشارع الجانبي الوحيد وجدت المنزل الذي كان يحتمل أنه منزله؛ كان مغطى بزخارف الجص، ذا نافذة ناتئة تعلو الباب الأمامي، وكانت هناك مجموعة من الكتب المكدسة على حافة تلك النافذة. كانت بالمكان مسحة من الكآبة ، إلا أنه كان يبدو منظما، مما يوفر قدرا من الراحة قد يهفو إليه رجل وحيد، بل رجل وحيد يتسم بالتنظيم الشديد.
كانت المدرسة التي تقع في نهاية ذلك الشارع السكني مكونة من طابقين، ويدرس بالطابق السفلي الطلاب حتى الصف الثامن، وبالطابق العلوي الطلاب حتى الصف الثاني عشر. لمحت ماري هناك فيما بعد ظهيرة أحد الأيام، وكانت تشارك في اللعب مع أقرانها بإلقاء كرات من الثلج بعضهم على بعض. كان من الواضح أنه فريق من الصبية ضد فريق من الفتيات. وحينما وقع بصرها علي، صاحت قائلة: «مرحى، أيها المعلمة.» ثم قذفت بكرتي الثلج اللتين كانتا في يديها بنحو عشوائي، وهرولت تعبر الطريق. قالت في إثارة وهي تلتفت وراءها: «أراكم في الغد.» بدا كلامها بنحو أو بآخر وكأنه نوع من التحذير حتى لا يتبعها أحد.
قالت: «أنت في طريقك للعودة إلى المدرسة، أليس كذلك؟ وأنا كذلك. إنني عادة ما أذهب في صحبة ريدي، لكنه يرجع في وقت متأخر جدا. وأنت؟ ماذا ستفعلين؟ هل ستستقلين الترام؟»
رددت عليها بالإيجاب، فقالت ماري: «أوه، يمكن أن أريك الطريق الآخر، وهكذا توفرين نقودك. إنه طريق الغابة.»
قادتني عبر طريق يمكن المرور به بالرغم من ضيقه، يعلو عن البلدة ثم يقطع الغابة ويمر بمصنع نشر الأخشاب.
قالت: «هذا هو الطريق الذي يسلكه ريدي. قد يكون عاليا لكنه يصير قصيرا عندما تتجهين إلى الأسفل نحو المصحة.»
مررنا في طريقنا بمصنع نشر الأخشاب، وكان يوجد بأسفلنا بعض الأشجار المقطوعة على نحو عشوائي في الغابة، وعدد من الأكواخ الصغيرة التي بدا أنها مأهولة بالسكان، ويتضح ذلك من خلال أكوام الحطب، وأحبال الغسيل، والدخان المنبعث منها. وفجأة، انطلق من أحدها كلب كبير يشبه الذئب، وأخذ ينبح ويزمجر بصوت عال.
صاحت به ماري: «اسكت.» وصنعت على الفور كرة من الثلج وألقتها نحوه، فأصابت ما بين عينيه؛ فاستدار سريعا متقهقرا للخلف، وأمسكت بكرة أخرى من الثلج استعدادا لإلقائها نحو ردفيه. ظهرت امرأة ترتدي مئزرا من داخل الكوخ وراحت تصيح قائلة: «لقد كان من الممكن أن تقتليه.» «يا ليته مات!» «سأجعل زوجي الضخم يمسك بك.» «هذا لن يحدث مطلقا؛ فزوجك هذا لا يستطيع أن يضرب بعوضة.»
تبعهم الكلب لمسافة ما، في شبه تهديد لهم.
قالت ماري: «لا تقلقي أستطيع التعامل مع أي كلب، بل أراهن أنني أستطيع مواجهة دب إن صادفنا واحدا ونحن في طريقنا.» «ألا تكون الدببة في بيات شتوي في هذا الوقت من العام؟»
كنت أشعر بفزع شديد من ذلك الكلب، لكني تظاهرت باللامبالاة. «بلى، لكن من يدري ماذا سيحدث. لقد ظهر أحدهم ذات مرة في الصباح الباكر، واختبأ وسط القمامة في المصحة. استدارت أمي ووجدته أمامها؛ فأحضر ريدي بندقيته وقتله.» «كان ريدي يأخذني أنا وأنابل لنتنزه باستخدام المزلجة، وكان يأخذ في بعض الأحيان أطفالا آخرين. إن له صفيرا خاصا كان يطلقه فتفزع منه الدببة وتفر هاربة. لقد كان صفيره عاليا بدرجة لا تحتملها الأذن البشرية.» «حقا؟ أرأيت ذلك؟» «لا، لم يكن من هذا النوع. أعني ذلك الصوت الذي يمكن أن يصدره من فمه.»
كنت أفكر في الأداء في الفصل. «لا أدري، لربما كان ذلك حتى لا تفزع أنابل، لقد قال ذلك حينها. فلم تكن تستطيع التزلج، فكانت تجلس على المزلجة ويجرها هو. كنت أجلس عادة خلفها، وأحيانا كنت أقفز على المزلجة، وكان يقول: ما الذي أصاب ذلك الشيء، إنه يزن طنا؟ ثم كان يحاول أن يستدير للخلف سريعا ليمسك بي، لكنه لم يستطع قط أن يفعل ذلك. ثم كان يسأل أنابل ما الذي جعل المزلجة ثقيلة الوزن هكذا، ويسألها عما تناولته في وجبة الإفطار، لكنها لم تكن تخبره أبدا. وكنت لا أفعل ذلك عندما يصطحب أطفالا آخرين؛ فالأمر لا يكون لطيفا إلا حينما نتواجد أنا وأنابل فقط. لقد كانت أفضل صديقة يمكن أن أعرفها في حياتي.» «وماذا عن الفتيات الأخريات في المدرسة؟ ألسن صديقاتك؟» «إنني فقط ألهو معهن حينما لا يكون هناك أحد أتحدث إليه. إنهن لا يعنين أي شيء لي.» «كان عيد ميلادي أنا وأنابل في نفس الشهر؛ شهر يونيو . وفي عيد ميلادنا الحادي عشر اصطحبنا ريدي إلى البحيرة في أحد القوارب، وعلمنا السباحة، أو بالأحرى كنت أنا من يتعلم؛ فقد كان عليه دائما أن يمسك بأنابل وهو يعلمها السباحة؛ حيث لم يكن بمقدورها السباحة بمفردها. وحين ذهب للسباحة بمفرده، ملأنا حذاءه بالرمال. وفي عيد ميلادنا الثاني عشر لم نستطع أن نذهب لأي مكان كهذا، لكننا ذهبنا إلى منزله وصنع لنا كعكة بهذه المناسبة. لم تستطع هي أن تتناول ولو قطعة صغيرة منها؛ لذا أخذنا في سيارته وأخذنا نلقي ببعض قطع الكعك من نوافذ السيارة لإطعام طيور النورس التي أخذت تتصارع وتصرخ بجنون. انفجرنا في نوبة من الضحك الشديد، وكان عليه التوقف بالسيارة وحمل أنابل خشية أن تصاب بنوبة نزف.»
وأضافت: «بعد ذلك، لم يعد من المسموح لي رؤيتها؛ فلم تكن أمي تريد أن أخالط ثانية أطفالا مصابين بالسل، لكن ريدي تحدث معها في هذا الأمر وأخبرها أنه سيمنعني عندما تستدعي الحالة ذلك. وقد حدث هذا بالفعل فيما بعد وكدت أجن، ولكن لم يكن باستطاعة أنابل أن تلهو ثانية حيث اشتد بها المرض. سأجعلك ترين قبرها، لكن ليس ثمة علامات فوقه تميزه. سنضع أنا وريدي علامات عليه فيما بعد حينما يتسع وقته لذلك. لو كنا قد سرنا مباشرة في خط مستقيم عبر الطريق بدلا من الانحراف للأسفل كما فعلنا، لكنا قد ذهبنا للجبانة التي دفنت فيها، المخصصة لمن ليس لديهم من يأتون ليأخذوهم ويدفنوهم حيث ينتمون.»
وفي تلك الأثناء هبطنا وسرنا على الأرض الممهدة مقتربين من المصحة.
قالت: «أوه، كدت أنسى.» وأخرجت حفنة من التذاكر. «إنها من أجل عيد الحب. إننا سنمثل مسرحية بالمدرسة تحمل اسم «بينافور». علي بيع كل تلك التذاكر التي بحوزتي، ويمكن أن تكوني أنت أول من يشتري مني. أنا سأمثل فيها.» •••
كنت محقة بشأن المنزل الذي رأيته في أمندسون؛ فقد كان منزل الطبيب بالفعل. لقد دعاني إلى هناك لتناول العشاء. لقد كانت الدعوة وليدة اللحظة، وذلك عندما التقى بي في الردهة. فربما لم يتذكر على نحو غير مريح قوله بأنه علينا أن نلتقي للحديث بشأن بعض أفكار التدريس.
كان مساء اليوم الذي حدده للقاء هو نفس يوم عرض مسرحية «بينافور» التي اشتريت تذكرتها من ماري، وأخبرته بذلك فقال: «في واقع الأمر، لقد ابتعت واحدة أنا الآخر. لكن هذا لا يعني أنه علينا الحضور.» «لكني تقريبا وعدتها أنني سأذهب.» «حسنا، والآن يمكنك أن ترجعي في وعدك غير المؤكد هذا؛ فأنت لن تحتملي مشاهدتها، صدقيني.»
فعلت كما قال بالرغم من أنني لم أر ماري لأخبرها. انتظرت حيث طلب مني، في الشرفة المفتوحة خارج الباب الأمامي. كنت أرتدي أفضل ثيابي، الذي كان لونه أخضر داكنا، ومحاكا من قماش الكريب، وأزراره تشبه حبات اللؤلؤ الصغيرة، وياقته مزينة بالدانتيل. وحشرت قدمي في حذاء ذي كعب عال من جلد سويدي داخل حذاء الثلج العالي الرقبة. انتظرت لفترة بعد الوقت المحدد وأنا أشعر بالقلق؛ أولا: كنت أخشى أن تخرج رئيسة الممرضات من حجرتها وتلمحني، وثانيا: كنت أخشى أن يكون هو قد نسي موعدنا.
لكني لمحته يأتي من بعيد وهو يزرر معطفه، وحين اقترب، اعتذر عن التأخير.
قال: «دائما يجب علي الانتهاء من بعض الأشياء القليلة قبل ذهابي للمنزل.» ثم قادني تحت ضوء النجوم الساطع، وسرنا حول المبنى حتى وصلنا إلى سيارته.
قال: «هل تستطيعين السير على نحو جيد؟» وعندما رددت بالإيجاب، لم يمد ذراعه نحوي لمساعدتي، بالرغم من أني كنت أجد بعض الصعوبة في السير بهذا الحذاء ذي الجلد السويدي.
كانت سيارته قديمة وفي حالة سيئة، كما هو حال بالنسبة إلى معظم السيارات في تلك الأيام، ولم تكن بها وحدة للتدفئة. وعندما أخبرني أننا سنذهب لمنزله شعرت بالارتياح؛ فلا أدري كيف كنا سنجلس وسط هذا الحشد من الناس الموجود في الفندق، وكنت قد تمنيت ألا أتناول تلك السندوتشات التي تناولتها من قبل في المقهى.
وعندما وصلنا إلى منزله طلب مني ألا أخلع معطفي حتى يدفأ المكان بعض الشيء، وانهمك على الفور في إشعال النيران في المدفأة التي تعمل بالخشب.
قال: «أنا اليوم الحارس والطاهي والخادم لك.»
ثم أردف قائلا: «سرعان ما ستجدين المكان باعثا على الراحة، ولن يستغرق مني إعداد الطعام وقتا طويلا. لا داعي لعرض المساعدة؛ فأنا أفضل العمل بمفردي. أين تفضلين الانتظار؟ بإمكانك إلقاء نظرة على الكتب الموجودة في الغرفة الأمامية، إن كنت ترغبين في ذلك. سيكون المكان محتملا هناك وأنت ترتدين معطفك. إنني أضع مدفأة في كل مكان بالمنزل، لكني لا أدفئ أي غرفة لا أستخدمها. ستجدين زر الإضاءة بمجرد دخولك من الباب. أعتقد أنك لن تمانعي إن استمعت إلى الأخبار؟ إنها عادة قديمة لدي.»
اتجهت نحو الغرفة الأمامية، وشعرت أنني أنفذ الأوامر التي تقال لي بطريقة أو بأخرى، وتركت باب المطبخ مفتوحا، فجاء من خلفي وأغلقه وهو يقول: «سأغلقه حتى يسري بعض الدفء في المطبخ.» ثم عاد يستمع إلى صوت المذيع بإذاعة سي بي سي الدرامي على نحو متجهم، والذي يحمل الكثير من الوقار وهو يعرض أخبار هذه السنة الفائتة من الحرب. لم أتمكن من سماع ذلك الصوت منذ غادرت شقة جدي وجدتي، وكنت أفضل المكوث في المطبخ. لكن كانت هناك أعداد كبيرة من الكتب التي يمكن الاطلاع عليها، ولم تكن الكتب مرصوصة فقط فوق الأرفف، لكنها كانت أيضا فوق المقاعد والمناضد وعلى حافة النافذة، بل كانت مكدسة فوق الأرض أيضا. وبعد أن ألقيت نظرة على العديد منها، توصلت إلى أنه يفضل شراء كميات كبيرة من الكتب دفعة واحدة، وأنه ربما يكون منضما للعديد من نوادي الكتب. وجدت كلاسيكيات هارفرد، والأعمال التاريخية لويل ديورانت وزوجته آريل؛ لقد كانت مشابهة لمجموعة الكتب التي يمكن أن تجدها في مكتبة جدي. لم يكن هناك الكثير من كتب الشعر والأدب، بالرغم من تواجد بعض الكلاسيكيات المبهرة الخاصة بالأطفال.
وقد وجدت كتبا عن الحرب الأهلية الأمريكية، وحرب البوير الثانية، والحروب النابليونية، والحروب البيلوبونيزية، والحملات العسكرية ليوليوس قيصر، وكتب «استكشافات منطقة الأمازون والقطب الشمالي»، و«شاكلتون علق في الجليد»، و«مصير فرانكلين»، و«جماعة دونر»، و«القبائل المفقودة: المدن المدفونة في أفريقيا الوسطى»، و«نيوتن والخيمياء»، و«أسرار جبال الهندوكوش». كانت نوعية الكتب تعكس شخصية تسعى وراء المعرفة وجمع الكثير من المعلومات في مختلف المجالات؛ ربما ليس شخصا له أذواق محددة وثابتة لا تتغير في القراءة.
لذا عندما سألني: «أية رواية روسية؟» كان من المحتمل أنه ليست لديه ثقافة كبيرة كما توقعت.
وعندما نادى قائلا: «الطعام جاهز.» وفتحت الباب، كنت قد تسلحت حينها بتلك الشكوك الجديدة عن مدى معرفته ومعلوماته.
قلت له: «مع من تتفق نابهتا أم ستمبريني؟» «ماذا تقولين؟» «أعني في رواية «الجبل السحري» من كنت تهوى أكثر؛ شخصية نابهتا أم ستمبريني؟» «لكي أكون أمينا، أنا أعتقد أنهما اثنان من الثرثارين، وأنت؟» «شخصية ستمبريني أكثر إنسانية، لكن شخصية نابهتا أكثر إمتاعا وتشويقا.» «هل أخبروك بذلك في المدرسة؟»
قلت بثبات: «لم أقرأها مطلقا حين كنت في المدرسة.»
رمقني بنظرة سريعة ثم رفع حاجبه. «اسمحي لي أن أقول لك إنه إن كان هناك ما يجذب اهتمامك في تلك الكتب، فلك مطلق الحرية في أن تأتي إلى هنا وقتما تشائين، وتقرئي ما يحلو لك وقت فراغك. وهناك مدفأة كهربائية يمكن أن أديرها لك؛ حيث إنني أعتقد أنه لا دراية لك بالمدفأة التي تعمل بالخشب. ما رأيك في هذا العرض؟ يمكن أن أصنع لك نسخة إضافية من المفتاح.» «شكرا لك.»
كان طعام العشاء شرائح من لحم الخنزير، والبطاطس المهروسة، والبازلاء المعلبة. أما التحلية ففطيرة تفاح جلبها من عند الخباز، كانت ستصبح أشهى إن فكر في تسخينها.
راح يسألني عن حياتي في تورونتو، ودراستي الجامعية، وعن جدي وجدتي، وقال إنه يعتقد أنني نشأت على بعض القيم والأخلاقيات الصارمة. «كان جدي رجل دين متحررا، وكان متأثرا بأفكار الفيلسوف الألماني بول تيليتش.» «وماذا عنك؟ هل أنت الحفيدة الصغيرة المسيحية المتحررة أيضا؟» «لا.» «حسنا، هل تعتقدين أنني وقح؟» «هذا يعتمد على الصورة التي تحادثني بها؛ إن كنت تحادثني على أنك صاحب العمل، فأنت لست كذلك على الإطلاق.» «إذن، سأستمر في طرح بعض الأسئلة. هل لديك رفيق؟» «نعم.» «إنه في الجيش بحسب ما أعتقد، أليس كذلك؟»
قلت له إنه في سلاح البحرية. أدهشني اختياري الجيد هذا؛ حيث إنني لم أعرف يوما مكانه، كما أنني لم أكن أتلقى منه خطابات بصورة منتظمة، لكني أعتقد أنه لم يستطع الحصول على إجازة ليراني.
ذهب الطبيب وأحضر الشاي. «على أي نوع من المراكب يوجد هو؟» «الكورفيت.» كان هذا اختيارا جيدا أيضا؛ فبعد قليل، كان من الممكن أن أقول له إن سفينته تعرضت للقذف ونسفت، وذلك كما يحدث دوما لهذا النوع من السفن. «إنه لفتى شجاع. هل تريدين بعضا من السكر أو اللبن؟» «شكرا، لا أريد أيا منهما.» «هذا جيد لأنه ليس لدي أي منهما. أتدرين أن وجهك يفضحك تماما حينما تكذبين؛ حيث يتورد بشدة ويشع حرارة؟»
إن لم يكن قد حدث ما يقوله من قبل في أثناء حوارنا، فقد حدث الآن؛ فقد شعرت بفورة وحرارة تنبعثان من قدمي وتسريان عبر جسمي، وتدفق العرق بشدة أسفل الإبطين وتمنيت ألا يتلف الثوب الذي ألبسه. «إنني عادة ما أشعر بتلك الحرارة والفورة عندما أحتسي الشاي.» «أوه، لاحظت ذلك.»
عزمت على مواجهته؛ فالأمور لن تزداد سوءا عما هي عليه. غيرت دفة الحوار وسألته عن إجرائه للعمليات؛ فهل استأصل حقا رئتين، كما سمعت؟
كان بمقدوره أن يجيب بسخرية واستعلاء أكثر، وهما ربما يمثلان مفهومه عن المشاكسة، ولكني أظن أنه لو حدث ذلك بالفعل لارتديت معطفي وغادرت المنزل في ذلك البرد القارس. وربما فطن هو إلى ذلك؛ لذا راح يتحدث عن عمليات رأب الصدر، وكيف أنها ليست سهلة على المريض مثل انكماش الرئة أو انخماصها وغير ذلك من الأمور المعروفة جميعها حتى لدى أبقراط. كما أن استئصال أحد فصوص الرئة أصبح أيضا أمرا معروفا وشائعا في الآونة الأخيرة.
قلت: «لكن ألا تفقد بعضا منهم؟»
لا بد أنه اعتقد أن الوقت مناسب للمزاح ثانية.
قال: «بالطبع، إنهم يهربون ويختبئون وسط أشجار الغابة، ونحن لا ندري إلى أين يذهبون، أو إن كانوا يقفزون في البحيرة. أم أنك تقصدين أن منهم من يتوفى؟ هناك حالات لا تنجح. نعم.»
لكنه أضاف أننا في طريقنا لاكتشافات كبيرة؛ فالطريقة التي تجرى بها العمليات ستصبح قديمة كطريقة الفصد؛ فهناك عقار جديد في طريقه للظهور، وهو عقار الستربتوميسين، الذي كان في مرحلة التجربة. وكانت هناك بعض المشكلات التي يسببها وهذا أمر طبيعي؛ فهو يؤدي إلى تسمم الجهاز العصبي. لكن بالقطع ستكون هناك طريقة لتلافي ذلك. «سيفقد بعض الجراحين أمثالي وظائفهم بسبب تلك الاكتشافات.»
غسل الأطباق وجففتها أنا، وقد وضع مئزرا حول خصري حتى لا يتسخ ثوبي، وعندما عقد طرفي رباط المئزر جيدا، وضع يده أعلى ظهري. شعرت بضغطة يده وملمس أصابعه المتفرقة؛ ربما كان يتفحص جسدي بطريقة ماهرة. وعندما أويت إلى الفراش في تلك الليلة، كنت لا أزال أستشعر ضغطة يده هذه، وشعرت كيف أن قوتها قد زادت بدءا من إصبع الخنصر وحتى إصبع الإبهام. لقد استمتعت بذلك؛ كان ذلك بالنسبة إلي في واقع الأمر شيئا أهم من تلك القبلة التي طبعها على جبيني فيما بعد، في اللحظة التي سبقت مغادرتي لسيارته. كانت قبلة جافة سريعة ورسمية، أعطاني إياها على عجل. •••
رأيت مفتاح منزله ملقى على أرض غرفتي؛ فقد دسه من أسفل الباب عندما كنت خارج الغرفة، لكني لم أستطع استخدامه على أية حال. لو أن أحدا آخر قدم لي ذلك العرض، لكنت قبلت تلك الفرصة على الفور، خاصة إن كانت هناك مدفأة؛ لكن في تلك الحالة، فإن تعامله السابق والمستقبلي سينزع كل الشعور العادي بالارتياح من الموقف، ويستبدل به نوعا من المتعة المحدودة والمجهدة للأعصاب بدلا من أن تكون كبيرة؛ فلن أتوقف عن الارتعاد حتى عندما لا تكون هناك برودة، ولا أدرى إن كنت سأستطيع قراءة ولو كلمة واحدة من تلك الكتب. •••
ظننت أن ماري قد تظهر كي توبخني بسبب عدم حضوري لمسرحية «بينافور»، وفكرت أن أقول لها إنني لم أكن على ما يرام، وإنني قد أصبت بنزلة برد، لكني سرعان ما تذكرت أن نزلات البرد كانت بالأمر الخطير في هذا المكان؛ حيث يستوجب ذلك ارتداء الأقنعة واستخدام المطهرات والإقصاء . وسرعان ما أيقنت أنه لا فائدة من إخفاء زيارتي لمنزل الطبيب بأي حال من الأحوال؛ فلم تخف الزيارة على أحد، حتى بالطبع عن الممرضات اللائي لم يتفوهن بكلمة بشأنها، وذلك إما بسبب الغطرسة والتحفظ الشديدين من جانبهن، وإما لأن مثل هذه الأشياء لم تعد تثير اهتمامهن، لكن الممرضات المساعدات تعمدن إغاظتي. «هل استمتعت بطعام العشاء الليلة السابقة؟»
لكن كانت نبرة صوتهن ودودة، وبدا أن الأمر يروق لهن، وكأنما اتحد أسلوبي الغريب مع طريقة الطبيب الغريبة التي يألفونها، بل يكنون لها أيضا كل احترام، وكان هذا شيئا جيدا ويصب في مصلحتي. وارتفعت أسهمي في المكان؛ فقد أصبحت الآن - بغض النظر عما كنت قبل ذلك - امرأة لها رجل يهتم بها.
لم تظهر ماري طوال الأسبوع. ••• «موعدنا السبت القادم.» كانت تلك هي الكلمات التي قالها حتى قبل أن يشرع في تقبيلي، وهكذا انتظرت ثانية عند الشرفة الأمامية، لكنه لم يتأخر عن موعده هذه المرة. استقللنا السيارة حتى منزله، واتجهت أنا صوب الغرفة الأمامية بينما كان يشعل النيران في المدفأة، ولمحت هناك المدفأة الكهربائية التي علاها الغبار.
قال: «إنك لم تقبلي عرضي. هل جال بخاطرك أنني لم أكن أعني ما أقول؟ إنني دائما أعني ما أقول.»
قلت له إنني لم أرغب في الذهاب إلى البلدة خشية أن أقابل ماري. «لأنني لم أحضر العرض المسرحي الذي قدمته.»
قال: «هذا إذا كنت سترتبين حياتك وفقا لما يناسب ماري.»
كانت قائمة الطعام هي تقريبا نفس القائمة السابقة؛ قطع لحم خنزير، وبطاطس مهروسة، وذرة معلبة بدلا من البازلاء المعلبة. وقد سمح لي هذه المرة أن أساعده في المطبخ، بل طلب مني أيضا أن أعد المائدة.
قال: «بمقدورك أن تعرفي أماكن الأشياء أيضا، وأعتقد أن كل الأشياء تقريبا في أماكنها المنطقية.»
كان هذا يعني أنني يمكنني أن أراه وهو يعد الطعام أمام الموقد. تولد بداخلي تتابع من الحرارة والبرودة وأنا أشاهده وهو يعمل في سلاسة وتركيز ويتحرك بخطوات قليلة ومحددة.
لم نكد نبدأ في تناول الطعام حتى سمعنا قرعا على الباب. نهض من مكانه وجذب مزلاج الباب، فوجدنا ماري تندفع إلى الداخل.
كانت تحمل صندوقا من الكرتون وضعته على المائدة، ثم خلعت معطفها وظهرت في رداء يمزج بين اللونين الأحمر والأصفر.
قالت: «عيد حب سعيد، وإن كان متأخرا. بما أنك لم تأت لحضور العرض، فقد أحضرت أنا العرض إليك. كما أحضرت لك هدية في هذا الصندوق.»
ساعدها توازنها الرائع على أن تقف على قدم واحدة، بينما ركلت إحدى فردتي حذائها العالي الرقبة بالقدم الأخرى، وهكذا فعلت بالفردة الثانية؛ حيث غيرت الوضع ووقفت على القدم الأخرى. ثم أزاحتهما بعيدا عن طريقها وراحت تثب وتدور برشاقة حول المائدة، وتشدو في نفس الوقت بصوت يافع شجي، لكنه مليء بالحيوية، قائلة:
يدعونني باتركاب الصغيرة،
باتركاب الصغيرة المسكينة،
بالرغم من أني لا أدري لم يدعونني هكذا.
لكنهم لا يزالون يدعونني باتركاب
باتركاب الصغيرة المسكينة
عزيزتي باتركاب الصغيرة إنني ...
نهض الطبيب من مكانه حتى قبل أن تشرع ماري في الغناء. كان يقف أمام الموقد منهمكا في تقليب شرائح اللحم الموضوعة داخل المقلاة.
صفقت لها قائلة: «يا له من ثوب رائع!»
وكان حقا هكذا؛ فقد كانت ترتدي تنورة حمراء وتنورة تحتية ذات لون أصفر زاه، ومئزرا أبيض يهتز مع حركته، وصدرية مطرزة. «لقد صنعته لي أمي.» «وهل هي التي قامت بالتطريز أيضا؟» «بالطبع، لقد ظلت مستيقظة حتى الرابعة صباحا حتى تستطيع الانتهاء منه في الليلة السابقة على العرض.»
وراحت تقوم ثانية بحركات دائرية وتسير ببطء كي تعرضه أمامي. سمعت رنين صوت الأطباق وهو يجذبها من فوق الأرفف، وصفقت ثانية بحماس. ولم تكن كلتانا تريد سوى شيء واحد فقط؛ وهو أن يستدير الطبيب نحونا ويتوقف عن تجاهلنا. كنا نبغي أن يتفوه بكلمة واحدة لطيفة وإن كانت على مضض.
قالت ماري: «انظري ماذا هناك أيضا من أجل عيد الحب.» ثم فتحت الصندوق الذي كان بداخله بعض كوكيز عيد الحب، التي كانت كلها على شكل قلوب صغيرة ومغطاة بطبقة سكرية كثيفة ذات لون أحمر.
قلت: «يا لروعتها!» وواصلت ماري رقصاتها وهي تغني قائلة:
أنا قبطان بينافور.
قبطان طيب حقا!
ولتعلموا أنكم طيبون بشدة،
فأنا أقود طاقما رائعا جدا.
استدار الطبيب نحونا أخيرا فحيته ماري.
قال: «حسنا، هذا يكفي.»
لكنها تجاهلته وواصلت قائلة:
ثم فلتهللوا ثلاثا، ثم مرة أخرى
من أجل قبطان بينافور الجسور ... «قلت كفى.» «من أجل قبطان بينافور الباسل ...» «ماري نحن نتناول عشاءنا، وأنت لست بمدعوة، هل تفهمين ذلك؟ لست بمدعوة.»
هدأت أخيرا، بيد أن ذلك الهدوء لم يستمر إلا للحظة واحدة. «ما هذا السخف؟ أنت لست بشخص لطيف على الإطلاق.» «كما يمكنك أن تتخلي عن هذه الكوكيز؛ بل عليك أن تمتنعي عن تناول الكوكيز كلية؛ فأنت في طريقك لأن تصبحي بدينة مثل الخنزير الصغير.»
امتعض وجه ماري بشدة وكانت على وشك البكاء، لكنها قالت بدلا من ذلك: «انظروا من الذي يتحدث؛ فكل عين من عينيك تنظر في اتجاه مختلف.» «يكفي هذا.» «هما هكذا بالفعل.»
التقط الطبيب حذاءها العالي الرقبة ووضعه أمامها. «ارتد هذا.»
فعلت ما قاله لها وكانت الدموع تملأ عينيها وراح أنفها يسيل، وأخذت تتنشق بقوة. أحضر لها معطفها، لكنه لم يعاونها على ارتدائه بينما مدت هي يدها ووجدت طريقها إلى أزراره. «لقد نجحت في ارتدائه. والآن، كيف أتيت إلى هنا؟»
رفضت الإجابة. «لقد جئت سيرا على الأقدام، أليس كذلك؟ أين أمك؟» «تلعب اليوكر.» «حسنا، يمكن أن أصطحبك إلى المنزل بسيارتي، حتى لا يكون هناك احتمال أن تندفعي باتجاه كومة ثلجية وتسقطي وتتجمدي حتى الموت وأنت تشعرين بأنك ضحية.»
لم أتفوه بكلمة، ولم تنظر ماري نحوي ولو مرة واحدة؛ فقد كانت اللحظة صادمة ولا تحتمل أي عبارات وداع.
وعندما ترامى إلى مسامعي صوت السيارة وهي تدور، شرعت في رفع الأطباق عن المائدة. لم نتناول التحلية التي كانت فطيرة تفاح أيضا. ربما لم يكن يعرف نوعا آخر من التحلية، أو ربما لم يكن لدى الخباز سوى ذلك الصنف فقط.
أخذت واحدة من الكوكيز التي على شكل قلب وتناولتها، كانت الطبقة السكرية شديدة الحلاوة، ولم تكن لها نكهة الكريز أو التوت؛ مجرد سكر ولون أحمر صناعي. تناولت واحدة تلو الأخرى.
كنت أعرف أنه كان يجب علي أن أودعها على الأقل، كان ينبغي أن أشكرها، لكن لم يكن ذلك يمثل أهمية. حدثت نفسي قائلة إن ذلك لم يكن ليمثل أهمية في شيء، فالعرض الذي أدته لم يكن من أجلي على أية حال، أو بالأحرى، جزء صغير منه فقط كان من أجلي.
لقد كان قاسيا معها. لقد صدمتني قسوته الشديدة تلك، وخاصة تجاه شخص في شدة الاحتياج لمعاملة طيبة، لكنه فعل ذلك لأجلي، حسبما أرى؛ وذلك حتى لا يقتطع أحد جزءا من الوقت الذي يمضيه معي. لقد أشبعت تلك الفكرة غروري، وشعرت بالخجل إزاء شعوري هذا، ولم أكن أدري ماذا كنت سأقول له عند عودته.
لم يكن يريدني أن أتفوه بشيء، بل قادني نحو الفراش. هل كان هذا أمرا أعد له مسبقا، أم أنه وليد اللحظة وقد كان مفاجئا له مثلما كان بالنسبة إلي؟ لم تبد عذريتي على الأقل مثارا لدهشته على الإطلاق؛ فقد أحضر منشفة وواقيا ذكريا، وعزم على أن تسير الأمور بسلاسة قدر المستطاع. ربما كانت رغبتي المحمومة بمنزلة مفاجأة لكلينا؛ فقد اتضح أن الخيال قد يكون جيدا ومهما كاستعداد، مثله مثل التجربة تماما.
قال: «إنني أنوي الزواج منك.»
قبل أن يصطحبني إلى المنزل ألقى كل الكوكيز؛ ألقى كل تلك القلوب الحمراء وسط الثلوج من أجل إطعام الطيور في ذلك الشتاء القارس. •••
وهكذا تم الاتفاق بيننا على الأمر؛ فأصبحت خطوبتنا المفاجئة، بالرغم من تحفظه بعض الشيء على تلك الكلمة، حقيقة واقعة يعرفها كلانا فقط، فلم يكن علي أن أكتب لجدي وجدتي لأخبرهما بذلك. وكان الزفاف سيتم حالما يستطيع هو أن يأخذ راحة لمدة يومين متتاليين، وقال إن حفل الزفاف سيكون بسيطا خاليا من أية بهرجة. وكان علي أن أتفهم أن فكرة إقامة حفل زفاف هي فكرة لا تروق له وليس على استعداد لقبولها؛ ذلك لأن الحفل كان سيقام في حضور بعض الأشخاص الذين لا تحظى أفكارهم باحترامه، والذين كانوا سيتغامزون علينا ويتصنعون الضحك أمامنا.
ولم يكن يفضل أيضا الخواتم الماسية، وأخبرته أنني لم أكن لأرغب في واحد منها على الإطلاق، وكنت كذلك بالفعل، لأنني لم أفكر فيه قط من قبل. أخبرني أن هذا شيء جيد؛ فقد كان يعلم أنني لست من ذلك النوع من الفتيات التقليديات الحمقاوات.
وقال إن من الأفضل أن نتوقف عن تناول العشاء معا؛ ليس فقط بسبب الأحاديث التي ستدور حولنا، لكن لأنه من الصعب الحصول على لحم يكفي فردين من خلال بطاقة طعام واحدة. ولم تكن البطاقة الخاصة بي متاحة؛ حيث سلمتها للمسئولين عن المطبخ - أي لوالدة ماري - بمجرد أن شرعت في تناول الطعام في المصحة.
فمن الأحرى ألا نجذب أنظار الآخرين إلينا. •••
بالطبع ارتاب الجميع في وجود علاقة بيننا؛ فلقد أصبحت الممرضات الأكبر سنا يعاملنني بود، حتى رئيسة الممرضات كانت تبتسم في وجهي ابتسامة واهنة تعبر عن الامتعاض. وكنت أتأنق على نحو بسيط دون أن أقصد شيئا من وراء ذلك. وكنت أحيط نفسي بإطار من السكينة والهدوء، وأتحدث دوما وأنا أخفض بصري. ولم يجل بخاطري مطلقا أن أولئك الممرضات كن ينتظرن ليرين أي منعطف يمكن أن تأخذه تلك العلاقة، وأنهن كن على استعداد أن يعدن إلى سابق عهدهن من التظاهر بالورع إن قرر الطبيب أن يهجرني.
أما الممرضات المساعدات، فقد كن في صفي بكل ما أوتين من قوة، وكن يمزحن بأنهن كن يرين أجراس زفاف وهن يتطلعن إلى أوراق الشاي في قدحي؛ وذلك تيمنا بزفافي.
كان شهر مارس شهرا كئيبا ومزدحما بكثير من العمل في المستشفى. كانت الممرضات المساعدات يقلن إنه دوما أسوأ الشهور وتحدث خلاله المشاكل والمتاعب. ولأسباب عدة، كان الناس يعتقدون أنهم سيموتون فيه، وذلك على الرغم من أنهم استطاعوا تجاوز أزماتهم الصحية في فصل الشتاء. ولو حدث أن تغيب أحد الأطفال في الفصل الدراسي، فلم أكن أدري حينها إن كان هذا معناه أن حالته قد ازدادت سوءا على نحو مفاجئ، أم أنهم جعلوه يرتاح في سريره لأن هناك شكا في إصابته بنوبة برد. كانت لدي سبورة متنقلة أدون على جوانبها أسماء الأطفال، ولم أعد الآن أضطر لمحو أسماء الأطفال الذين كان يطول غيابهم؛ إذ كان يقوم بذلك بعض الأطفال الآخرين دون أن يخبروني؛ فقد كانوا يتفهمون جيدا القواعد التي كان لا يزال علي تعلمها.
وأخيرا سنح الوقت للطبيب بأن يقوم ببعض ترتيبات الزفاف؛ فقد دس رسالة قصيرة أسفل باب حجرتي يخبرني فيها بأنه علي أن أستعد للزواج بحلول الأسبوع الأول من شهر أبريل؛ فقد كان بمقدوره أخذ يومين راحة، ما لم تطرأ أي أزمات ومشاكل حقيقية في المستشفى. •••
سنتجه إلى هنتسفيل.
سنذهب إلى هنتسفيل، وهي المدينة التي ستشهد زفافنا.
بدأنا ذلك اليوم الذي أثق تماما أنني سأظل أذكره طوال حياتي. أرسلت ثوبي الأخضر المصنوع من قماش الكريب لكي ينظف تنظيفا جافا، ولففته بعناية ووضعته في حقيبة الرحلات القصيرة؛ فقد علمتني جدتي ذات يوم حيلة للف الثياب بعناية، وهي أفضل من طيها تلافيا لتجعدها. وهكذا اعتقدت أنه كان علي أن أغير ملابسي في أي حمام في مكان ما. رحت أرقب الطريق لأرى إن كانت هناك بعض الزهور البرية التي ربما ظهرت قبل أوانها، وذلك حتى أتمكن من قطف بعضها لأصنع منه باقة. هل كان سيوافق هو على أن أحمل باقة من الزهور؟ لكن على أية حال كان الوقت مبكرا جدا حتى لنمو زهور أذريون الماء، ولم يكن المرء ليرى شيئا على ذلك الطريق الخالي المتعرج سوى أشجار التنوب المارياني الرفيعة، ومساحات ممتدة من نبات العرعر وبعض المستنقعات. وتناثرت بصورة عشوائية عبر الطريق بعض الكتل الصخرية التي ألفت رؤيتها هنا، والتي كانت أرصفة صخرية مائلة من الجرانيت ملطخة باللون الأحمر.
كان الراديو يذيع موسيقى حماسية؛ حيث كانت قوات الحلفاء تتقدم أكثر فأكثر نحو برلين. وقال الطبيب، الذي كان اسمه الأول أليستر، إنهم يتأخرون في تقدمهم حتى يسمحوا للروس أن يدخلوا أولا. وأضاف أنهم سيندمون على ذلك.
والآن وبعد أن ابتعدنا كثيرا عن أمندسون، كان بإمكاني أن أناديه بأليستر. كانت هذه هي أطول رحلة قطعناها معا بالسيارة، وقد أثارني تجاهله الذكوري لوجودي - الذي كنت أدري تماما بأنه سرعان ما كان سينقلب إلى النقيض - وراقت لي مهارته الطارئة في القيادة. وأثارتني أيضا حقيقة كونه جراحا بالرغم من أنني لم أكن لأعترف بذلك، ولكني كنت أعتقد في تلك اللحظة أنني على استعداد لأن أسلم نفسي له في أي مستنقع، أو حتى في حفرة موحلة، أو أن أشعر باحتكاك عمودي الفقري بأي من الصخور المترامية على جانبي الطريق، إن أراد هو مضاجعتي. كنت أدرك أيضا أنه كان يجب علي أن أحتفظ بتلك المشاعر لنفسي.
تحولت للتفكير في المستقبل. توقعت بمجرد وصولنا إلى هنتسفيل أننا سنذهب إلى أحد القساوسة، ونقف حينها جنبا إلى جنب في إحدى غرف المعيشة التي ستشبه في روعتها شقة جدي وجدتي، وأجمل غرف المعيشة التي عرفتها طوال حياتي. إنني أتذكر تلك الأوقات التي كان يستدعى فيها جدي ليقوم بطقوس الزفاف حتى بعد تقاعده، وكيف كانت جدتي تضع بعضا من البودرة الحمراء على وجنتيها، وترتدي سترتها المزينة بالدانتيل ذات اللون الأزرق الداكن التي تدخرها لمثل هذه المناسبات.
لكنني اكتشفت أن هناك طرقا أخرى للزواج، واكتشفت إحساسا بالنفور تجاه عريسي لم أتبين كنهه؛ فهو لم يكن يريد أن يتم الزواج على يد أحد القساوسة، بل من المفترض أننا كنا سنملأ في مبنى بلدية هنتسفيل نموذجين نتعهد فيهما أننا لسنا متزوجين، ونأخذ موعدا للزواج على يد قاضي صلح في وقت لاحق من نفس اليوم.
حل موعد الغداء، وتوقف أليستر خارج مطعم يشبه تماما ذلك المقهى المتواجد في أمندسون. «هذا سيفي بالغرض.»
لكن نظرة واحدة إلى وجهي جعلته يغير رأيه على الفور.
قال: «أنت لا تريدين هذا، أليس كذلك؟ حسنا.»
وانتهى بنا الأمر إلى تناول الغداء في الشرفة الأمامية الباردة لأحد المطاعم الأنيقة التي تعلن عن تقديم وجبات دجاج للعشاء. كان الطعام باردا جدا، ولم يكن ثمة أحد آخر يتناول عشاءه سوانا، ولم يكن بالمكان أي صوت موسيقى آت من الراديو؛ فلم يوجد سوى رنين أدوات المائدة وهي تصطك بعضها ببعض ونحن نحاول أن نقطع أجزاء الدجاج الجامدة العصية على المضغ. كنت أثق تماما بأنه كان يحدث نفسه بأن المطعم الأول الذي اقترحه كان أفضل حالا بكثير من ذلك المكان.
ومع هذا كان لدي من الشجاعة ما جعلني أسأله عن مكان حمام السيدات، وهناك أخرجت ثوبي الأخضر وارتديته وسط ذلك الهواء البارد الذي كان يفوق في برودته هواء الشرفة الأمامية مما يثبط من عزم المرء، ووضعت طلاء شفاه مرة أخرى، وأصلحت من هيئة شعري.
عندما عدت إلى الشرفة مرة أخرى نهض أليستر من مكانه لتحيتي وهو يبتسم ويمسك يدي بقوة ويخبرني بمدى جمالي.
اتجهنا بخطى هادئة نحو السيارة مرة أخرى، وكان كل منا يمسك بيد الآخر. فتح لي باب السيارة وأدخلني وذهب نحو الباب الآخر، ودلف للداخل واستقر خلف عجلة القيادة ووضع المفتاح وأدار محرك السيارة، ثم ما لبث أن أوقفه ثانية.
كانت السيارة تقف أمام متجر الأدوات المعدنية. كانت هناك تخفيضات على مجارف إزالة الثلوج حيث كانت تباع بنصف الثمن، وكانت لا تزال هناك لافتة تقول إنه يمكن شحذ المزالج بداخل المتجر.
على الجانب الآخر من الطريق كان يوجد منزل خشبي مطلي بطلاء أصفر زيتي، كانت درجات سلمه الأمامي متهالكة وغير آمنة للصعود، وقد ثبتت في مكانها باستخدام لوحين من الخشب موضوعين على شكل حرف إكس.
كانت الشاحنة التي تقف أمام سيارة أليستر من طراز السيارات التي صنعت في فترة ما قبل الحرب، وكانت ذات دواسة جانبية، وقد علت رفارفها طبقة من الصدأ. غادر المتجر رجل كان يرتدي رداء عمل ودلف إلى الشاحنة، وبعد عدة محاولات ومقاومة من جانب المحرك أعقبتها بعض الأصوات والاهتزازات، انطلق بها بعيدا. ظهرت الآن إحدى شاحنات التوصيل التي تحمل اسم المتجر، وحاولت أن تقف في المكان الذي أصبح شاغرا الآن. لم تكن هناك مساحة كافية تتسع لوقوفها، فغادر السائق الشاحنة واتجه نحونا وأخذ يطرق زجاج سيارة أليستر. تفاجأ أليستر؛ ولو لم يكن يتحدث معي بجدية، لكان قد لاحظ المشكلة من قبل . فتح زجاج السيارة وقال له الرجل إننا إذا كنا نركن في هذا المكان بغية شراء شيء من المتجر، فلا مانع، وإن لم يكن الأمر كذلك، فهو يرجونا أن نترك المكان.
قال أليستر، ذلك الرجل الذي كان يجلس بجواري والذي كان يعتزم الزواج مني، أما الآن فلم يكن ينوي الإقدام على ذلك: «لقد كنا على وشك الرحيل.» «كنا!» لقد قال «كنا.» وللحظة توقفت عند تلك الكلمة، ثم دار بخلدي أنها قد تكون المرة الأخيرة؛ المرة الأخيرة التي ستحتويني صيغة الجمع التي يتفوه بها.
لكن لم تكن كلمة «كنا» هي ما يهم، ولم تكن هي التي خبرتني بالحقيقة، لكنها النبرة الذكورية التي كان يتحدث بها إلى السائق، بجانب اعتذاره الهادئ والمنطقي. كنت أتمنى الآن لو نعود إلى ما كان يقوله قبل ذلك، عندما لم يلاحظ حتى تلك الشاحنة وهي تحاول أن تركن؛ فما قاله حينها كان فظيعا، لكن إمساكه المحكم بعجلة القيادة وشروده وصوته كانت جميعها أشياء تشي بما داخله من ألم. لم يكن يهمني ما قاله وما كان يعنيه؛ فقد كان حديثه نابعا حينها من نفس المكان السحيق الذي تحدث منه عندما كان معي في الفراش، لكنه لم يكن هكذا الآن بعدما تحدث إلى رجل آخر. أغلق زجاج السيارة وأولى اهتمامه للسيارة كي يخرجها من تلك المساحة الضيقة وينقلها إلى مكان لا تحتك فيه بالشاحنة.
وبعد لحظة شعرت أنني كنت سأسعد حتى بالعودة إلى ذلك الوقت الذي أدار خلاله عنقه للخلف كي يرى ما وراءه؛ فذاك أفضل من القيادة، حيث إنه كان يقود الآن، عبر شارع هنتسفيل الرئيسي كما لو أنه لم يكن هناك المزيد ليقوله أو يقدمه.
قال حينها إنه لا يستطيع القيام بذلك.
أخبرني أنه لا يستطيع إتمام الأمر.
وليس بمقدوره شرح الأسباب.
إنه مجرد خطأ.
اعتقدت أنني لن أتمكن مطلقا من النظر إلى أي أحرف متعرجة تشبه تلك الموجودة في اللافتة التي تشير إلى إمكانية شحذ المزالج بالمتجر، أو النظر إلى الألواح الخشبية القوية التي تثبت على شكل حرف إكس كتلك المثبتة على درجات المنزل الأصفر المواجه للمتجر؛ دون أن أسمع صوته. «سأصطحبك بالسيارة إلى المحطة الآن، وسأشتري لك تذكرة إلى تورونتو، وإنني واثق من أن هناك قطارا متجها إلى تورونتو في وقت متأخر من بعد ظهيرة اليوم. وسأختلق قصة مقبولة جدا لأجعل أحدهم يحزم أشياءك، ولتعطيني عنوانك في تورونتو؛ فأنا لا أعتقد أنني قد احتفظت به. أوه، وسأكتب توصية عنك؛ فقد أديت عملا جيدا. صحيح أنك لم تنهي الفصل الدراسي على أية حال، لكني لم أخبرك بعد بأن الأطفال سينقلون؛ فكل أنواع التغييرات الكبرى تتم في وقت واحد.»
تغيرت نبرة صوته لنبرة جديدة تعبر عن ثقة في النفس؛ نبرة قاسية من الارتياح. كان يحاول أن يكبح جماح ذلك ولا يعبر عن ارتياحه حتى أنصرف.
أخذت أتطلع إلى الشوارع، وكان الأمر أشبه بمن يساق إلى مكان إعدامه. لا ليس بعد، بعد فترة قليلة. ولم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي أسمع صوته فيها. ليس بعد.
لم يكن بحاجة لأن يسأل عن الطريق، وتساءلت بصوت عال إن كان قد اصطحب العديد من الفتيات إلى محطة القطار من قبل.
قال: «لا تنظري للأمور على هذا النحو.»
بدا لي كل منعطف نمر به وكأنه يحطم ما تبقى من حياتي.
كان هناك قطار متجه إلى تورونتو في الخامسة مساء. طلب مني أن أنتظر في السيارة بينما ذهب هو كي يتحقق من الموعد. عاد وهو يحمل التذكرة في يده وخيل إلي أنه كان يخطو بخطوات أكثر خفة، ولا بد أنه لاحظ ذلك؛ حيث أصبحت خطواته أكثر رصانة حين أخذ يقترب من السيارة. «إن الطقس لطيف ودافئ في المحطة، وهناك غرفة انتظار خاصة للسيدات.»
وفتح لي بعدها باب السيارة. «أم تفضلين أن أنتظر وأودعك؟ ربما يكون هناك مكان يمكننا أن نتناول فيه فطيرة تفاح شهية؛ فقد كان العشاء الذي تناولناه فظيعا.»
أثارني حديثه هذا بعض الشيء، فغادرت السيارة وتقدمته في السير نحو المحطة، وأشار إلى غرفة انتظار السيدات. تفاجأ بما فعلت وحاول أن يمزح معي للمرة الأخيرة. «ربما في يوم من الأيام تعتبرين أن هذا اليوم هو واحد من أكثر أيام حياتك حظا.» •••
وقع اختياري في غرفة الانتظار على مقعد كان يواجه أبواب المحطة الأمامية؛ حتى يمكنني رؤيته إن عاد مرة أخرى؛ فربما يعود ليخبرني أن ما فعله كان مجرد مزحة، أو هو نوع من الاختبار لي تماما كما يحدث في بعض المسرحيات التي تعود للقرون الوسطى.
أو ربما غير رأيه بعدما قاد سيارته عبر الطريق السريع، ورأى ضوء شمس الربيع وهي تلقي بضوئها الخافت على الصخور التي كنا نشاهدها معا منذ وقت قريب، وبمجرد أن أدرك مدى حماقته تراجع في منتصف الطريق وعاد إلي مسرعا.
مرت ساعة على الأقل قبل دخول قطار تورونتو إلى المحطة، لكنني بالكاد شعرت بما مر من وقت، وما زالت الخيالات تجتاح عقلي إلى الآن. صعدت على متن القطار كما لو أن هناك قيودا تكبل كاحلي. ألصقت وجهي بالنافذة وأخذت أتطلع إلى رصيف المحطة حيث كانت الصافرة تعلن عن رحيل القطار. حتى في تلك اللحظة، قد لا يكون الأوان قد فات كي أقفز من القطار؛ أقفز بحرية وأهرول عبر المحطة إلى الشارع حيث ركن سيارته لتوه وراح يصعد الدرج معتقدا هو الآخر أن الوقت لم يفت، ويبتهل بألا يكون قد فات الأوان بالفعل.
وأركض كي ألتقي به، فلم يفت الأوان بعد.
ما كل هذا الهرج والصياح والصراخ الذي لم يكن صادرا عن شخص واحد بل مجموعة من الأشخاص المتأخرين وهم يتخبطون بين المقاعد. كانوا مجموعة من فتيات المدرسة الثانوية في زيهن الرياضي، ولم يأبهن بما يسببنه من إزعاج. شعر المحصل بالاستياء وحثهن على الإسراع بالجلوس بينما كن يندفعن نحو مقاعدهن.
كانت ماري واحدة منهن، وأغلب الظن أنها كانت أعلاهن صوتا.
أدرت رأسي ولم أنظر نحوهن ثانية.
لكن ها هي تناديني باسمي وتريد أن تعرف أين كنت.
أخبرتها بأنني كنت في زيارة لإحدى صديقاتي.
ألقت بنفسها بجواري وأخبرتني بأنهن كن يلعبن مباراة في كرة السلة ضد فريق هنتسفيل، وكانت المباراة ممتعة وقد خسرنها.
صاحت في سرور واضح: «لقد هزمنا، أليس كذلك؟» وهمهمت الفتيات في حزن وبعدها انفجرن في الضحك. ثم ذكرت النتيجة التي كانت مخزية جدا بالفعل.
قالت: «إنك في كامل هيئتك.» لكنها لم تكترث كثيرا بما قلته، وبدا أنها لم تظهر اهتماما حقيقيا بما قدمته من أسباب.
وبالكاد لاحظت أنني قلت إني ذاهبة إلى تورونتو كي أزور جدي وجدتي، فقط لتشير إلى أنهما بالقطع طاعنان في السن. لم تتفوه بكلمة عن أليستر، حتى ولو كلمة سيئة. إنها لم تكن لتنسى ما حدث، لكنها فقط طوت ذلك المشهد ووضعته في خزانة مع ما صادفته في حياتها من قبل، أو ربما كانت من ذلك النوع من الأشخاص الذين بمقدورهم التعامل بعدم اكتراث مع أي مهانة.
إنني ممتنة لها الآن حتى لو لم يكن بمقدوري أن أشعر بذلك حينها. إذا كنت قد سافرت بمفردي، فماذا كان يمكن أن أفعل عندما نصل إلى أمندسون؟ ماذا لو قفزت وغادرت القطار وهرعت إلى منزله وطلبت أن أعرف لم فعل ذلك، لم! كان سيصير عارا علي إلى الأبد. أمهلت المحطة الفتيات بالكاد وقتا كافيا كي يلملمن أنفسهن وينقرن على النوافذ كي ينبهن من جاءوا لتوصيلهن لأماكن وجودهن، بينما حذرهن المحصل من أنه إذا لم يسرعن فسيحملهن القطار نحو تورونتو. •••
ظللت لسنوات أعتقد أنه ربما ألتقي به مصادفة. لقد عشت وما زلت أعيش في تورونتو. كان يخيل إلي أن كل شخص ينتهي به المطاف في تورونتو حتى ولو لفترة قصيرة، لكن ذلك كان يعني أنك سترى ذلك الشخص لو أنك ترغب في هذا بأي حال من الأحوال.
وها هو قد حدث أخيرا. كنت أعبر طريقا مزدحما حيث لا يمكنك حتى أن تبطئ من خطاك، كنا نسير في اتجاهين معاكسين. وقد كانت النتيجة، في نفس اللحظة، صدمة قوية ارتسمت على وجهينا اللذين حفر الزمان آثاره عليهما بشدة.
رفع صوته قائلا: «كيف حالك؟» فأجبته: «بخير.» ثم أضفت قائلة: «وسعادة.»
في تلك اللحظة كان ذلك صحيحا بوجه عام فقط؛ فقد أنهيت لتوي شجارا مع زوجي بسبب سدادنا دينا تراكم على واحد من أبنائه، وقد ذهبت فيما بعد ظهيرة ذلك اليوم إلى عرض في أحد المعارض الفنية حتى أكون في حالة مزاجية أفضل.
رفع صوته مرة أخرى قائلا: «عظيم.»
ما زال يبدو وكأن بمقدورنا أن نشق طريقنا خارج ذلك الزحام ونكون معا في غضون لحظة، لكن من المؤكد أن كلا منا كان سيستأنف السير في الطريق الذي كان ذاهبا إليه، وهكذا فعلنا. ليس ثمة بكاء لاهث، ولا يد أشعر بها على كتفي عندما وصلت إلى الرصيف؛ لم يكن هناك سوى ذلك البريق الذي رأيته للحظة عندما اتسعت حدقة إحدى عينيه، وقد كانت عينه اليسرى، دائما هي العين اليسرى، حسبما أتذكر. كانت تبدو دائما غريبة جدا، يقظة وتشي بالتساؤل، كما لو أن شيئا مستحيلا خطر بباله؛ شيئا جعله على وشك الضحك.
أما أنا، فقد كنت أحمل شعورا يماثل شعوري عندما غادرت أمندسون والقطار يحملني، وهو الشعور بالذهول وعدم التصديق التام.
حقا لم يتغير شيء بشأن الحب.
الرحيل عن مافرلي
في الأيام التي كانت فيها دار لعرض الأفلام في كل بلدة، كانت واحدة في تلك البلدة أيضا، بلدة مافرلي، وقد أطلق عليها «كابيتل»، كما هو المعتاد في تسمية هذه الدور في تلك الفترة. وكان مورجان هولي هو المالك والمسئول عن عرض الأفلام، وكان لا يحب التعامل مع الجمهور - فقد كان يفضل الجلوس في مكتبه الصغير بالأعلى حيث يتولى عملية عرض الأفلام على الشاشة - لذا فمن الطبيعي أن يصيبه الضيق عندما أخبرته الفتاة عاملة التذاكر أنها مضطرة إلى ترك العمل لأنها تنتظر مولودا. ربما توقع ذلك - فالفتاة متزوجة منذ ستة أشهر، وكان من المفترض في هذه الأيام أن تختفي المرأة عن أعين الناس قبل أن يبدأ بطنها في الظهور - لكنه كان يبغض بشدة التغيير وفكرة أن تكون للأفراد حياة خاصة، لدرجة جعلته يتفاجأ بشدة بالأمر.
لكن لحسن الحظ أنها أتت بفتاة يمكن أن تحل محلها، وكانت تلك الفتاة تقطن في شارعها، وقد أخبرتها أنها ترغب في أن تحصل على وظيفة مسائية؛ إذ لم يكن باستطاعتها العمل في الصباح لأنه يجب عليها أن تساعد أمها في العناية بإخوتها الصغار. كانت تتسم بالذكاء بدرجة تجعلها تنجح في ذلك بالرغم من خجلها.
قال لها مورجان إن ذلك شيء جيد؛ فهو لا يعين عاملة تذاكر كي تثرثر مع رواد المكان.
وهكذا عينت الفتاة، وكان اسمها ليا، والسؤال الأول والأخير الذي طرحه عليها مورجان كان عن المصدر الذي اشتق منه اسمها، فأخبرته أنه مستوحى من الإنجيل. ثم لاحظ أنها لا تضع أي مساحيق تجميل على وجهها، وأن شعرها ينساب بطريقة غير جذابة فوق رأسها، وأنها تثبته ببعض دبابيس الشعر. انتابه القلق للحظات مما إذا كانت في السادسة عشرة من عمرها بالفعل، وإن كان التحاقها بالوظيفة صحيحا من الناحية القانونية أم لا؛ لكن عندما نظر إليها عن قرب رأى أنه من المرجح أن تكون هذه هي الحقيقة. أخبرها أنها ستعمل فترة عرض واحدة بدءا من الثامنة مساء في كل أيام الأسبوع، ما عدا السبت الذي ستعمل فيه فترتي عرض بدءا من السابعة مساء، وستكون مسئولة بعد غلق دار العرض عن عد الحصيلة وحفظها في مكان آمن.
لم تكن هناك سوى مشكلة واحدة، فقد قالت إنه يمكنها أن ترجع إلى منزلها بمفردها كل أيام الأسبوع ما عدا يوم السبت؛ إذ لن يسمح لها بذلك، ولن يكون بمقدور والدها أن يأتي ليصطحبها لأنه هو نفسه يعمل في وظيفة مسائية في الطاحونة.
قال لها مورجان إنه ليس هناك ما يستدعي الخوف في مكان كهذا، وكان على وشك أن يلغي تعيينها لولا أنه تذكر الشرطي الليلي الذي عادة ما كان يقطع دورياته كي يشاهد جزءا صغيرا من الفيلم المعروض، والذي من الممكن أن يحمل على عاتقه مسئولية اصطحاب ليا إلى منزلها.
قالت إنها ستخبر والدها بذلك.
وافق والدها، ولكن هناك اعتبارات أخرى يريد أن يطمئن بشأنها؛ فيجب ألا تشاهد ليا ما يعرض على الشاشة من أفلام أو تستمع لأي من حواراتها؛ فالدين الذي تعتنقه العائلة لا يسمح بذلك. رد مورجان على ذلك قائلا إنه لا يعين عمال التذاكر كي يشاهدوا ما يعرض مجانا، أما الحوارات المدارة، فقد كذب بشأنها وقال إن قاعة العرض عازلة للصوت. •••
التحق راي إليوت شرطي الدوريات الليلية بوظيفته تلك كي يعين زوجته في أعمالها، على الأقل في جزء من النهار؛ فكانت تكفيه خمس ساعات نوم فقط في الصباح، ثم من الممكن أن يغفو قليلا في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهيرة، لكنه لم يكن يغفو عادة في ذلك الوقت إما بسبب بعض المهام التي يجب عليه إنجازها، وإما لأنه يتجاذب أطراف الحديث مع زوجته التي كانت تدعى إيزابيل. لم يرزقا بأطفال؛ لذا كانا من الممكن أن يتحدثا في أي وقت عن أي شيء. كان يأتيها بأخبار البلدة التي عادة ما كانت تثير ضحكاتها، وكانت هي تخبره عن الكتب التي تقرؤها.
شارك راي في الحرب بمجرد أن بلغ الثامنة عشرة من عمره، وقد اختار أن ينضم للقوات الجوية التي تعد المرء، كما يقال، بأسرع وسائل الموت وأكثرها إثارة. كان يشغل موقع مدفعي البرج الأوسط العلوي للطائرة المقاتلة - وهو موقع لم تستطع إيزابيل استيعابه بسهولة - ولكنه نجا من الموت. وقبل أن تضع الحرب أوزارها، نقل إلى طاقم عمل جديد، وفي غضون أسبوعين أسقط العدو طائرة طاقمه القديم الذي حلق بصحبته مرات عديدة وفقد جميع أفراده. عاد إلى وطنه وهو يحمل في ذهنه فكرة مبهمة عن أنه يجب عليه أن يفعل شيئا ذا قيمة بالحياة التي منحت له دون سبب معلوم، لكنه لم يدر ما هو هذا الشيء الذي عليه فعله.
بداية، كان عليه أن ينهي دراسته الثانوية، وكانت قد تأسست في بلدته التي نشأ بها مدرسة خاصة من أجل المحاربين العائدين من الحرب الذين كانوا يرغبون في إكمال دراستهم الثانوية ويأملون في الالتحاق بالجامعة، وذلك بمنزلة تعبير من المواطنين عن امتنانهم لهم. كانت إيزابيل مدرسة الأدب واللغة الإنجليزية، وكانت تبلغ من العمر ثلاثين عاما ومتزوجة، وكان زوجها من المحاربين العائدين من الحرب أيضا، لكنه كان يفوق كثيرا في رتبته كل الطلاب المتواجدين في فصلها. وكانت تنوي التدريس ذلك العام بدافع من الوطنية، ثم تتقاعد بعد ذلك من أجل إنجاب طفل. وقد ناقشت هذا الأمر على الملأ مع طلابها الذين قالوا، بعيدا عن مسامعها، بأن بعض الرجال يحالفهم الحظ عندما يتزوجون امرأة مثلها.
كان راي يكره أن يسمع ذلك النوع من الأحاديث، والسبب في هذا هو أنه وقع في حبها، وقد وقعت هي الأخرى في حبه، وهو الأمر الذي بدا مفاجئا أكثر بدرجة كبيرة؛ لقد كان أمرا منافيا للعقل بالنسبة إلى الجميع فيما عداهما. ووقع الطلاق بينها وبين زوجها، الذي كان بمثابة فضيحة لعائلتها المرموقة وصدمة قوية لزوجها الذي رغب في الزواج منها منذ أن كانا طفلين. لم يمر راي بوقت عصيب مثلها لأن عائلته لم تكن كبيرة، ومن أخبرهم بما حدث قالوا له إنهم لا يرقوا لمستواه الآن حيث إنه سيصاهر عائلة كبيرة، وإنهم سيبتعدون عن طريقه في المستقبل ولن يسببوا له أي مشاكل. وبالرغم من أنهم كانوا يتوقعون من جانبه أي نوع من الإنكار أو الاطمئنان بسبب ذلك، فلم يحدث ذلك. يكفي ما قاله بنحو أو بآخر؛ الزمن كفيل بأن يوجد بداية جديدة. قالت إيزابيل إنها يمكن أن تستمر في التدريس حتى ينتهي راي من دراسته الجامعية ويحقق نجاحا في أي مجال يريد أن يعمل فيه.
لكن كان يجب أن يتغير ما خططا له؛ فلم تكن تشعر بأنها على ما يرام. في البداية اعتقدا أنه قد يكون مجرد شعور بالتوتر. الاضطراب الداخلي. الانفعال الشديد.
ثم بدأ الشعور بالألم. كانت تشعر بالألم كلما تنفست بعمق؛ ألم أسفل عظام الصدر وفي كتفها الأيسر. لكنها تجاهلته، وكانت تمزح قائلة إن الرب يعاقبها بسبب تلك المغامرة الغرامية، وقالت إنه كان يهدر وقته لأنها حتى لم تكن تؤمن به.
كانت مصابة بمرض يسمى التهاب غشاء القلب. كان الأمر خطيرا، لكنها تجاهلته بالرغم من تحذيرات الأطباء؛ فهو مرض لا شفاء منه، لكن بمقدورها أن تتعايش معه ببعض الصعوبة. ولم يعد بمقدورها التدريس مطلقا مرة أخرى؛ فأي عدوى تصاب بها ستكون لها عواقب خطيرة، وأي مكان تكون العدوى فيه أكثر انتشارا من الفصل الدراسي؟ ولم يكن هناك أحد الآن لمساندتها سوى راي، وقد حصل على وظيفة شرطي في تلك البلدة الصغيرة التي تسمى مافرلي التي تقع على الحدود بين مقاطعتي جراي وبروس، ولم يمانع في شغل تلك الوظيفة، وبعد فترة لم تعد تبالي هي الأخرى بشبه العزلة التي كانت تحيا فيها.
كان هناك شيء واحد لم يتحدثا بشأنه؛ فطالما تساءل كل منهما إذا ما كان الآخر يبالي بعدم مقدرته على إنجاب الأطفال. وقد خطر ببال راي أن خيبة الأمل هذه قد تكون لها علاقة برغبة إيزابيل في سماع كل شيء عن الفتاة التي كان يجب عليه اصطحابها إلى منزلها في ليالي السبت. «هذا شيء يبعث على الأسى.» قالت ذلك عندما علمت بأنه محظور على الفتاة أن تشاهد الأفلام، بل شعرت أيضا بمزيد من الاستياء عندما أخبرها بأن الفتاة أجبرت على ترك مدرستها الثانوية كي تساعد في أعمال المنزل. «وتقول إنها تتسم بالذكاء؟»
لم يتذكر راي أنه قال ذلك؛ فكل ما قاله إنها خجولة بدرجة غريبة؛ لذا كان عليه خلال سيرهما معا أن يقدح زناد فكره حتى يعثر على موضوع يصلح للحوار، ووجد أن بعض الأسئلة التي فكر فيها لن تكون مجدية؛ أسئلة مثل: ما المادة المفضلة لديك في المدرسة؟ فقد رأى أن الإجابة على مثل هذا السؤال كان سيعود بهما إلى الماضي، وأنه لم يعد يجدي الآن إن كانت تفضل أيها أم لا. أو ما المهنة التي تريدين أن تعملي بها حين تكبرين؟ إنها عمليا الآن كبيرة بدرجة كافية، وعليها الآن أن تقوم بأعمال شاقة، سواء أرادت ذلك أم لم ترد. أما سؤالها عما إذا كانت تروق لها تلك البلدة، وما إذا كانت تفتقد المكان الذي كانت تعيش فيه، فكان سؤالا بلا جدوى. وتطرقا في حديثهما بالفعل، دون إسهاب، إلى أسماء الأطفال الأصغر سنا في عائلتها وأعمارهم ، وعندما تساءل إن كان لديها كلب أو قطة، أخبرته بأنها لا تربي أيا منهما.
وأخيرا طرحت هي سؤالا على مسامعه، فسألته عما كان يثير ضحك الحاضرين في الفيلم الذي كانوا يشاهدونه في تلك الليلة.
لم يكن يعتقد أنه يجب أن يذكرها بأنها ليس من المفترض أن تسمع شيئا، لكنه لم يستطع تذكر ما هو ذلك الشيء الطريف الذي من الممكن أن يكون قد أثار الضحكات؛ لذا قال لها لا بد أنها لقطة سخيفة؛ فالمرء لا يمكنه معرفة السبب الذي يثير ضحك الجمهور. وقال إنه لا يولي كامل تركيزه للأفلام المعروضة؛ فهو لا يرى سوى لقطات متفرقة فقط منها، ونادرا ما يتابع حبكاتها.
قالت: «الحبكات.»
اضطر أن يخبرها بمعنى تلك الكلمة؛ وهو أن كل الأفلام لها قصص تحاول سردها. ومنذ ذلك الوقت لم تكن ثمة مشكلة في فتح باب الحوار بينهما، ولم يكن بحاجة أيضا إلى أن يحذرها من أنه قد لا يكون من الحكمة أن تردد في المنزل أيا مما يقصه على مسامعها. وقد أدركت ذلك. لم يكن لزاما عليه أن يقص على مسامعها أي قصة بعينها، وهو أمر يستطيع بالكاد أن يفعله على أية حال، بل مجرد أن يشرح لها أن القصص كانت تدور في العادة حول مجموعة من المحتالين والأبرياء، وأن هؤلاء المحتالين ينجحون بوجه عام في البداية في ارتكاب جرائمهم ويخدعون بمظهرهم الكاذب الأشخاص الذين يغنون في الملاهي الليلية (والتي تشبه صالات الرقص)، أو يخدعون أحيانا - لسبب لا يعلمه إلا الرب - الذين يغنون فوق قمم الجبال، أو في أي أماكن خارجية أخرى بعيدة الاحتمال، ويحتالون عليهم. أحيانا، تكون الأفلام بالألوان. ويرتدي الممثلون ملابس فاخرة إن كانت القصة تدور في الماضي، ويبالغ هؤلاء الممثلون في أداء المشاهد التي يقتل فيها كل منهم الآخر، وتنسال الدموع على وجنات السيدات، التي هي في حقيقة الأمر قطرات جليسرين. وربما يحضر القائمون على الأفلام حيوانات من حدائق الحيوان لتكون بمنزلة حيوانات الغابة، ويثيرون غضبها في أغلب الأحوال حتى تكون ردود أفعالها أكثر ضراوة. وينهض الأشخاص الذين قتلوا بأساليب متنوعة في اللحظة التي تبتعد عنهم فيها الكاميرات، ويكونون أحياء وبصحة جيدة بالرغم من رؤيتهم لتوهم وهم يتلقون طلقات رصاص، أو فوق مقصلة الإعدام حيث تتدحرج رءوسهم بعدها إلى إحدى السلال.
قالت إيزابيل: «كان عليك ألا تعقد لها الأمور هكذا؛ فأنت هكذا قد تجعل الكوابيس تهاجمها.»
قال راي إن هناك ما أثار اندهاشه في تلك الفتاة؛ فقد كانت لديها قدرة كبيرة على تفهم الأمور واستيعابها بدلا من أن تنزعج أو تشعر بالارتباك؛ فهي على سبيل المثال لم تسأل قط عن شكل مقصلة الإعدام أو تبد مندهشة من فكرة وضع الرءوس بها. وأخبر إيزابيل بأن هناك شيئا ما في تلك الفتاة؛ شيئا يجعلها ترغب في استيعاب كل ما يقصه المرء على مسامعها بدلا من مجرد الشعور بالدهشة أو الإثارة حياله. وقد اعتقد بنحو ما أنها كانت تنأى بنفسها عن عائلتها، ولكن هذا لا يعني أنها كانت تزدريهم أو تقسو عليهم، لكن كل ما في الأمر أنها لم تكن تمنحهم سوى الحد الأدنى من الاهتمام.
لكنه قال بعد ذلك ما جعله أكثر أسفا مما لو عرف السبب. «ليس لديها الكثير لتتطلع إليه على أي صعيد.»
قالت إيزابيل: «حسنا، يمكننا أن نختطفها إذن.»
فحذرها هو من الحديث على هذا النحو، وطلب منها أن تكون جادة. «لا تحاولي حتى التفكير في هذا.» •••
قبل حلول عيد الميلاد بوقت قصير (وعلى الرغم من أن برد الشتاء قد هجم بضراوة حينئذ)، جاء مورجان إلى قسم الشرطة في نحو منتصف الليل ذات ليلة في وسط الأسبوع ليقول إن ليا قد اختفت.
فقد باعت التذاكر كالمعتاد، وأغلقت نافذة التذاكر، ووضعت النقود في مكانها المعتاد، واتجهت صوب منزلها وذلك على حد علمه. وقد أغلق المكان بعد انتهاء العرض، لكنه عندما خرج ظهرت له امرأة لا يعرفها وسألته عما حدث لليا. كانت هذه المرأة هي الأم؛ والدة ليا. كان الأب لا يزال في عمله بالطاحونة، وخمن مرجان أنه قد يكون قد طرأ على ذهن الفتاة أن تذهب إليه في عمله. بدا أن الأم لا تعي ما يتحدث عنه؛ لذا قال لها إنه يمكنهما أن يذهبا إلى الطاحونة ليعرفا إن كانت الفتاة قد ذهبت إلى هناك أم لا، ولكنها بكت وتوسلت إليه ألا يفعلا ذلك؛ لذا اصطحبها مورجان بالسيارة إلى منزلها معتقدا أنه يمكن أن تكون الفتاة قد عادت للمنزل الآن، لكن لسوء الحظ لم يحدث ذلك؛ لذا اعتقد أنه من الأحرى أن يذهب ويخبر راي بما حدث.
ولم ترق له فكرة أن ينقل خبر اختفاء الفتاة إلى الأب.
قال راي إن عليهما أن يذهبا إلى الطاحونة على الفور؛ فهناك احتمال ضئيل أن تكون هناك، لكن عندما وصلا إلى مكان عمل الأب، لم يكن يعرف عنها شيئا، وقد استشاط غضبا لخروج زوجته على هذا النحو بينما لم يأذن لها أن تغادر المنزل.
سأل راي عن صديقاتها ولم يندهش عندما علم أنها ليس لديها أي صديقات، ثم طلب من مورجان أن يعود إلى منزله، وذهب هو بنفسه إلى منزل الفتاة حيث وجد الأم في حالة كبيرة من الذهول تماما كما وصفها مورجان. كان الأطفال لا يزالون مستيقظين، أو بعض منهم، واتضح أيضا أنهم كانوا عاجزين عن الكلام، وكانوا يرتجفون إما من الخوف وريبهم من وجود شخص غريب بالبيت، وإما من البرد الذي لاحظ راي أنه كان يتزايد حتى في داخل المنزل. قد يكون الأب قد وضع قواعد صارمة بشأن التدفئة أيضا.
كانت ليا ترتدي معطفها الشتوي، وكان ذلك أقصى ما علمه منهم. كان يعرف ذلك المعطف البني الفضفاض ذا المربعات، وخمن أنه كان سيمنحها الدفء لفترة على الأقل. في الفترة ما بين ذهاب مورجان إلى قسم الشرطة وحتى الآن، كانت الثلوج قد بدأت تتساقط بغزارة نوعا ما.
عاد راي إلى المنزل عندما انتهت ورديته الليلية، وقص على إيزابيل ما حدث، ثم خرج مرة أخرى ولم تحاول أن تمنعه. •••
وبعد ساعة، عاد دونما أي نتائج، وذاعت الأخبار بأنه من المحتمل غلق الطرق بسبب هبوب أول عاصفة ثلجية كبيرة في هذا الشتاء.
وبحلول الصباح، كان هذا ما حدث بالفعل؛ فقد أغلقت شوارع البلدة لأول مرة في ذلك العام، وكان الشارع الرئيسي هو الوحيد الذي حاولت جرافات الثلوج أن تبقيه مفتوحا. كانت كل المتاجر تقريبا مغلقة، وقد انقطعت الكهرباء في ذلك الجزء من البلدة الذي تعيش فيه عائلة ليا، ولم يكن ثمة شيء يمكن فعله حيال ذلك مع تحريك الريح الأشجار لأسفل بقوة، حتى بدا الأمر وكأنها كانت تحاول كنس الأرض.
خطرت لشرطي دورية الصباح فكرة لم تدر بخلد راي؛ لقد كان أحد رعايا الكنيسة المتحدة، وكان يعلم، أو زوجته على الأحرى هي التي كانت تعلم، أن ليا تقوم بكي الملابس كل أسبوع لزوجة القس، وقد ذهب هو وراي إلى منزل القس ليريا إن كان هناك أحد يعلم شيئا يمكن أن يفسر اختفاء الفتاة، لكن لم تكن هناك أية معلومات عن ذلك، وبعد أن كان هناك بصيص من أمل، بدا أن عملية البحث أضحت حتى أكثر صعوبة من ذي قبل.
أصاب راي بعض الدهشة من أن الفتاة كانت تمارس عملا آخر ولم تذكر شيئا عنه. وعلى الرغم من ذلك، ومقارنة بعملها في دار عرض الأفلام، فإنه ليس بالعمل الذي يمكنها من التعرف أكثر على العالم الخارجي.
حاول أن ينام في وقت ما بعد الظهيرة، وبالفعل غفا لمدة ساعة أو نحو ذلك. حاولت إيزابيل أن تفتح مجالا للحديث على العشاء، لكن الحوار لم يستمر؛ فكان حديث راي يعود ليدور مرة أخرى حول زيارة القس، وكيف أن زوجته أظهرت تعاونا واهتماما بقدر المستطاع، بيد أن القس لم يتصرف بالطريقة التي قد يتوقعها المرء من رجل في مكانته؛ لقد فتح لهما الباب وأجابهما بنفاد صبر كما لو أنهما قاطعاه وهو يكتب موعظته أو شيئا ما. نادى زوجته وعندما حضرت كان عليها أن تذكره بمن تكون الفتاة، فقالت له: هل تذكر الفتاة التي تأتي لتساعد في أعمال الكي؟ ليا؟ ثم قال إنه يأمل بأن تكون هناك أخبار عنها في القريب العاجل، بينما كان يحاول أن يغلق الباب في وجه الريح.
قالت إيزابيل: «حسنا، ما الذي كان بإمكانه فعله أكثر من ذلك؟ أن يصلي من أجلها؟»
اعتقد راي أن هذا لن يضر في شيء.
قالت إيزابيل: «كان سيسبب هذا الحرج للجميع، ويظهر عدم جدوى ما يقوم به.» ثم أضافت أنه ربما يكون قسا مسايرا للعصر ويميل أكثر للأشياء الرمزية.
كان لا بد من إجراء بعض عمليات البحث، بغض النظر عن حالة الطقس؛ فكان هناك عدد من الأكواخ الخلفية وكذلك إسطبل قديم للخيل لم يستخدم منذ سنوات، يجب اقتحامها وتفتيشها بدقة حيث يحتمل أن تكون قد أوت إلى أي منها. ولكن لم يعلن عن أي نتائج، وأخطرت الإذاعة المحلية بأمر الاختفاء، وقد أذاعت وصفا دقيقا لها.
واعتقد راي أنه إذا كانت ليا قد أوقفت إحدى السيارات المارة على الطريق لتسافر فيها، فإنها بذلك تكون قد ركبتها قبل هبوب العاصفة، وهو أمر يمكن أن يكون جيدا أو سيئا.
قالت الإذاعة إنها كانت أقل من الطول المعتاد بقليل، في حين أن راي كان يرى أنها تجاوزت الطول المعتاد بقليل؛ وإنها ذات شعر مسترسل يتوسط لونه بين البني الفاتح والبني الداكن، بينما كان يرى راي أن شعرها بني داكن جدا يكاد يقترب من اللون الأسود.
لم يشارك والدها في عمليات البحث؛ ولا أي من إخوتها. بالطبع لن يشاركوا؛ فالأولاد كانوا يصغرونها ولا يغادرون المنزل مطلقا دون موافقة والدهم على أية حال. وعندما ذهب راي إلى منزلها سيرا على الأقدام واتجه ليقرع الباب، فتح بالكاد، ولم يتوان والدها عن أن يقول له إن ابنته أغلب الظن قد هربت، وأن عقابها ليس في يده الآن بل هو بيد الرب. ولم يدع راي للدخول إلى المنزل ويستشعر بعض الدفء؛ فربما ما زال المنزل خاليا من أي نوع من أنواع التدفئة.
سكنت العاصفة بالفعل في منتصف اليوم التالي تقريبا، وظهرت جرافات الثلوج وجرفت الثلج من شوارع البلدة، وقد فعلت جرافات المقاطعة نفس الشيء في الطريق السريع، وأخطر السائقون بأن ينتبهوا؛ فقد يكون هناك شخص متجمد وسط أكوام الثلوج.
وفي اليوم التالي، وصلت سيارة البريد وكانت تحمل خطابا، ولم يكن الخطاب موجها لأي فرد من عائلة ليا، بل كان من أجل القس وزوجته. كان الخطاب مرسلا من ليا تخبرهم فيه أنها قد تزوجت، والعريس هو ابن القس الذي كان عازفا لآلة الساكسفون في فرقة من فرق موسيقى الجاز. كان هو من أضاف كلمتي «مفاجأة، مفاجأة» في أسفل الخطاب، أو هكذا قال البعض، بالرغم من أن إيزابيل تساءلت كيف يمكن لأي شخص أن يعرف هذا، إلا إن كان العاملون في مكتب البريد لديهم عادة فتح مظاريف الخطابات بالبخار.
لم يكن عازف الساكسفون يعيش في هذه البلدة عندما كان طفلا؛ فقد كان والده يعمل قسا في مكان آخر حينها، وكان هو لا يزور البلدة إلا نادرا جدا، ومعظم الناس لم يكن يمكنهم حتى أن يصفوا لك شكله؛ فهو لم يكن يذهب إلى الكنيسة مطلقا، وقد أحضر معه امرأة إلى المنزل منذ عامين، وكانت شديدة الأناقة والتبرج. وقيل إنها زوجته، لكن من الواضح أنها لم تكن كذلك.
كم مرة ذهبت فيها الفتاة إلى بيت القس للقيام بأعمال الكي وكان لاعب الساكسفون موجودا هناك حينها؟ حاول البعض استنباط ذلك. لم تكن سوى مرة واحدة فقط؛ كان هذا ما ترامى إلى مسامع راي في قسم الشرطة حيث يمكن أن تنتشر النميمة هناك تماما مثلما تنتشر بين السيدات.
رأت إيزابيل أنها قصة رائعة. ولم يكن ما حدث نتيجة خطأ من هربا؛ فهما لم يستدعيا العاصفة الثلجية، على أية حال.
واتضح أنها هي نفسها كانت تعرف بعض المعلومات القليلة عن عازف الساكسفون؛ فقد رأته ذات مرة في مكتب البريد عندما تصادف أن كان في إحدى زيارته لمنزله، وكانت هي وقتها في حالة صحية جيدة مكنتها من الخروج من المنزل. كانت قد أرسلت في طلب إحدى الأسطوانات الموسيقية لكنها لم تأت. سألها عن محتوى الأسطوانة وأجابته حينها، وهو شيء لا تستطيع تذكره الآن، وقد أخبرها آنذاك عن معرفته بنوع آخر من الموسيقى . هناك شيء جعلها واثقة من أنه ليس من أهل البلدة؛ الطريقة التي كان ينحني بها نحوها، ورائحة لبان جوسي فروت القوية التي كانت تفوح منه. لم يذكر لها شيئا عن القس، لكن أخبرها أحدهم عن صلته به، وذلك بعدما ودعها وتمنى لها حظا سعيدا.
كانت كلماته أقرب إلى المغازلة، أو تعبيرا عن ثقته من أنها لن تصده. أو بعض الهراء كدعوته للاستماع إلى الأسطوانة حال وصولها. وتمنت أن يكون قصده من كل ذلك مجرد المزاح.
عمدت إلى إغاظة راي، وتساءلت إن كان وصفه للعالم الخارجي كما تصوره الأفلام هو الذي جعل فكرة الهروب تخطر على بالها.
لم يفصح راي عن مدى الحزن الذي شعر به عندما فقدت الفتاة، وهو نفسه كان بالكاد يصدق مشاعره تلك؛ لكنه بالطبع شعر بالارتياح عندما علم بما حدث.
لكنها في كل الأحوال قد رحلت؛ رحلت على نحو غير مألوف ولا يحمل في طياته أي أمل للرجوع على الإطلاق. والشيء السخيف هو أنه شعر بالإهانة؛ كما لو أنها كان بمقدورها أن تقدم على الأقل ولو تلميحا إلى أن هناك جانبا آخر في حياتها.
وسرعان ما رحل أيضا والداها وكل إخوتها، وبدا أن ليس هناك من كان يعرف إلى أين ذهبوا. •••
لم يغادر القس ولا زوجته البلدة عندما بلغ سن التقاعد.
لقد استطاعا أن يحتفظا بنفس المنزل وما زال أهل البلدة يشيرون إليه ببيت القس، بالرغم من أنه لم يعد هكذا الآن. فقد اشتكت زوجة القس الجديد الشابة من بعض جوانب المنزل التي لم ترق لها، وبدلا من أن يصلح مسئولو الكنيسة المنزل، قرروا أن يشيدوا منزلا جديدا حتى لا يمكنها أن تشتكي مرة أخرى. وبيع المنزل القديم إلى القس السابق بثمن منخفض، فخصص حجرة به لابنه الموسيقي وزوجته ليقيما بها حينما يأتيان للزيارة هما وأطفالهما.
كان قد أنجب طفلين، وقد ظهر اسمهما في الجريدة عندما ولدا. جاء الولد أولا ثم البنت، وكانا يأتيان للزيارة بين الحين والآخر بصحبة ليا فقط؛ فالأب كان دائما مشغولا برقصاته أو لأي أسباب أخرى. ولم يلتق بهم راي أو إيزابيل خلال تلك المرات.
تحسنت حالة إيزابيل، بل كادت تكون طبيعية. وكانت تطهو وجبات شهية، حتى إنها هي وزوجها قد زاد وزنهما، وكان عليها أن تتوقف عن ذلك، أو على الأقل تطهو تلك الأطعمة الدسمة على نحو أقل. كانت تلتقي بنساء أخريات في البلدة من أجل قراءة ومناقشة ما يسمى بالكتب العظيمة، التي تعد أهم كتب الأدب الغربي. لم يفهم بعضهن كيف سيتم هذا، وتركن المشاركة في ذلك، ولكن بعيدا عنهن حققت تلك اللقاءات نجاحا مدهشا. وكانت إيزابيل تضحك بسبب الغضب التي سيعم السماء وهن يتناولن ملحمة دانتي المسكين.
ثم تعرضت لبعض حالات الإغماء أو ما يشبه الإغماء، لكنها لم تذهب للطبيب حتى غضب منها راي، فزعمت أن حدته هي السبب وراء مرضها. ثم اعتذرت له وتصالحا، بيد أن قلبها لم يرتض ذلك وقررا أن يتم إحضار ممرضة ممارسة لتمكث معها حينما لا يكون راي موجودا بالمنزل. ولحسن الحظ، كان لديهما بعض النقود تحصلا عليها - هي من إرث لها، وهو نتيجة لزيادة بسيطة في راتبه - بالرغم من استمراره في العمل في وردية الليل فقط.
وفي صباح أحد أيام الصيف، وهو في طريقه إلى منزله، مر بمكتب البريد ليرى إن كان قد تم فرز البريد أم لا؛ ففي بعض الأحيان كانت ينتهي الفرز بحلول ذلك الوقت، وفي أحيان أخرى لم يكن يحدث هذا؛ وفي ذلك الصباح لم يحدث هذا.
والآن بينما كان يسير على الرصيف، رأى ليا وهي تتجه نحوه في نور الصباح المبكر الوضاء. كانت تدفع عربة أطفال تجلس بداخلها طفلة صغيرة يقارب عمرها العامين، وكانت تضرب بقدميها مسند القدمين المعدني. وكان هناك طفل آخر أكثر إدراكا وكان يتشبث بتنورة أمه، أو بالأحرى بما كان بنطالا طويلا برتقاليا، ترتدي معه بلوزة بيضاء فضفاضة أشبه بالقميص التحتي. كان شعرها لامعا بصورة أكبر عن ذي قبل، وبدت ابتسامتها التي لم يرها مطلقا من قبل وكأنها تغمره بالسعادة.
ربما كانت واحدة من صديقات إيزابيل الجدد اللواتي كن في معظم الأحيان يصغرنها أو وصلن مؤخرا إلى البلدة، بالرغم من أنه كان هناك القليل ممن كن أكبر سنا منها، وكن من السكان المتحفظين الذين اعتنقوا معتقدات تلك الحقبة الجديدة البراقة؛ فطرحن جانبا وجهات نظرهن السابقة، وتغيرت لغتهن ومالت إلى أن تكون سطحية وبها شيء من الفظاظة.
شعر بخيبة أمل عندما لم يعثر على أية مجلات جديدة في مكتب البريد، ولم يكن الأمر أن تلك المجلات كانت تعني الكثير بالنسبة إلى إيزابيل الآن؛ فقد كانت في السابق تهتم بالمجلات التي تتناول جميعها موضوعات جادة تحث على التفكير ولكنها تحتوي أيضا على رسوم كاريكاتورية بارعة كانت تثير ضحكها. وحتى إعلانات المجوهرات والفراء كانت تجعلها تضحك أيضا، وكان يتمنى - ولا يزال - أن ترفع تلك الأشياء من معنوياتها، وها قد أصبح لديه الآن شيء ليخبرها به، ألا وهو ليا.
حيته ليا بصوت جديد وتظاهرت بالدهشة من أنه قد عرفها، حيث إنها - بحسب قولها - قد كبرت وقاربت أن تكون امرأة عجوزا. قدمت له الطفلة الصغيرة التي لم ترفع بصرها نحوه واستمرت تدق بقدميها على مسند القدمين بصورة إيقاعية منتظمة، وقدمت له الصبي الذي شاح بوجهه وراح يتمتم بكلمات غير مفهومة. راحت توبخ الصبي الصغير لأنه لم يكن يريد التوقف عن التشبث بملابسها. «نحن على جانب الطريق الآن، يا صغيري العزيز.»
كان اسمه ديفيد، والصغيرة تدعى شيلي. لم يكن راي يتذكر هذين الاسمين من الجريدة، وكان يعتقد أنهما اسمان عصريان للغاية.
قالت إنهم كانوا يقيمون مع والدي زوجها.
إنهم ليسوا في زيارة لهما؛ بل هم مقيمون معهما. لم يفكر في ذلك إلا لاحقا، وربما لم يكن يعني شيئا. «لقد كنا في طريقنا إلى مكتب البريد.»
أخبرها بأنه كان عائدا من هناك لتوه، ولم يكونوا قد انتهوا من عملية الفرز بعد. «أوه، هذا سيئ. اعتقدنا أنه يمكن أن يكون قد وصل خطاب من أبيهما، أليس كذلك يا ديفيد؟»
تعلق الصبي الصغير بملابسها مرة أخرى. «سننتظر حتى ينتهوا من عملية الفرز؛ فربما يكون هناك خطاب منه.»
كان هناك شعور بأنها لا تريد أن تفارق راي بعد، ولم يكن هو يريد ذلك أيضا، لكن كان من الصعب التفكير في شيء آخر ليفتح مجالا للحوار.
قال: «إنني في طريقي إلى الصيدلية.» «أوه، حقا؟» «علي شراء بعض الأشياء من هناك من أجل زوجتي.» «أوه، أتمنى ألا تكون مريضة.»
شعر بعدها كما لو أنه قد أفشى سرا، وقال في اقتضاب: «لا، ليس شيئا خطيرا.»
نظرت خلف راي، وحيت شخصا آخر بنفس الصوت الذي تملؤه البهجة، والذي حيت به راي منذ لحظات.
لقد كان القس الجديد للكنيسة المتحدة، أو الذي تم تعيينه مؤخرا نسبيا، والذي كانت زوجته قد طلبت منزلا عصريا.
سألت الرجلين إن كانا يعرف كل منهما الآخر، وردا بالإيجاب، لكنهما تحدثا بنبرة تبين أن علاقتهما لم تكن وثيقة، وربما أظهر ذلك بعض الاقتناع من جانبهما بأنه ينبغي أن يكون الأمر كذلك. لاحظ راي أن القس لم يكن يرتدي ياقته الإكليريكية.
قال القس؛ ربما ظنا منه بأنه عليه أن يكون أكثر مرحا: «أنتما بالطبع لا تريدان أن تزجا بي في أي شيء يخالف القانون، أليس كذلك؟» وصافح راي.
قالت ليا: «إنني محظوظة؛ فقد كنت أرغب في أن أطرح عليك بعض الأسئلة، وها أنت هنا.»
قال القس: «ماذا تريدين؟»
قالت ليا: «أنا أقصد إنني كنت أتساءل بشأن مدرسة الأحد؛ فلدي طفلان صغيران يشبان الآن وكنت أتساءل عن متى يمكنهما الالتحاق بها، وعن الإجراءات وكل شيء متعلق بذلك.»
قال القس: «أوه، فهمت.»
استطاع راي أن يلاحظ أن القس أحد أولئك الذين لا يفضلون القيام بمهامهم الكنسية على الملأ، ولا يرغبون أن يطرح عليهم مثل هذه الأمور في كل مرة يسيرون بها في الطريق. لكن القس أخفى عدم ارتياحه قدر استطاعته، ولا بد أن قد وجد بعض العزاء في التحدث إلى فتاة مثل ليا.
قال: «علينا أن نناقش ذلك الأمر. فلنحدد موعدا في أي وقت يناسبك.»
قال راي إنه يجب عليه أن يذهب الآن.
وقال لليا: «جميل أن أصادفك.» ثم أومأ برأسه إلى القس.
وذهب في طريقه وهو يحمل معلومتين جديدتين؛ فهي كانت ستمكث هنا لبعض الوقت، وقد اتضح ذلك من سعيها لإنهاء الترتيبات الخاصة بانضمام طفليها لمدرسة الأحد، كما أنها كانت لا تزال متمسكة بدينها الذي نشأت عليه.
تطلع لمقابلتها مرة أخرى لكن ذلك لم يحدث.
عندما عاد إلى منزله أخبر إيزابيل عن كيف أن الفتاة قد تغيرت، وقالت: «يبدو كل هذا مألوفا على أية حال.»
بدت عصبية بعض الشيء، ربما لأنها كانت تنتظره كي يعد لها قهوتها، والفتاة التي كانت تعاونها لم تصل حتى التاسعة، وكان محظورا عليها - بعد تعرضها لحادث سقوط ماء ساخن عليها - أن تحاول إعداد القهوة بنفسها. •••
حدث تدهور في صحتها، وانتابهما الفزع عدة مرات نتيجة لذلك حتى حلول وقت عيد الميلاد، ثم حصل راي على إجازة من عمله، وهرعا إلى المدينة حيث يمكنهما إيجاد بعض الأطباء المتخصصين هناك. ودخلت إيزابيل المستشفى على الفور، واستطاع راي أن يحصل على إحدى الغرف المخصصة لاستخدام الأقارب ممن هم من خارج المدينة. وفجأة، لم يصبح لديه أي مسئوليات سوى زيارة إيزابيل لساعات طويلة كل يوم ومتابعة كيفية استجابتها للعلاجات المختلفة. في البداية، حاول أن يصرف انتباهها عن مرضها من خلال أحاديثه المرحة عن الماضي، أو بإبداء ملاحظات عن المستشفى أو بعض المرضى الذين شاهدهم. كان يقوم بجولات سيرا على الأقدام تقريبا كل يوم بالرغم من سوء الطقس، وكان يخبرها أيضا بكل تلك الجولات. وكان يحضر الصحيفة معه ويقرأ الأخبار على مسامعها، وأخيرا قالت: «هذا لطف منك يا عزيزي، لكن يبدو أنني قد تجاوزت كل هذا.»
رد قائلا: «ماذا تجاوزت؟» لكنها قالت: «أوه، أرجوك.» وبعد ذلك وجد نفسه يقرأ بصمت أحد كتب مكتبة المستشفى. قالت: «لا تقلق إن أغمضت عيني؛ فأنا أعلم أنك موجود هنا.»
كانت قد انتقلت منذ فترة وجيزة من وحدة الرعاية الوجيزة الخاصة بالحالات الحرجة، إلى حجرة تضم أربع سيدات كن بنحو أو بآخر في نفس حالتها، بالرغم من أن هناك واحدة منهن كانت تنهض بين الحين والآخر وتصيح قائلة لراي: «امنحنا قبلة.»
ثم حدث أن جاء في اليوم التالي ووجد امرأة أخرى في فراش إيزابيل. اعتقد للحظات أنها قد توفيت ولم يخبره أحد بذلك، لكن المريضة الثرثارة الممددة على الفراش المائل بنحو قطري قالت له: «إنها بالأعلى.» وذلك بشيء من البهجة أو الانتصار.
وكان هذا هو ما حدث؛ فلم تستطع إيزابيل أن تستيقظ في ذلك الصباح، ونقلت إلى طابق آخر يبدو أنهم يحجبون فيه الأشخاص الذين ليس لديهم أي فرصة في التحسن - أو فرصتهم أقل ممن يوضعون في الحجرة السابقة - ولكنهم كانوا يرفضون الموت.
قالوا له: «من الأفضل أن تعود إلى منزلك.» وأخبروه أنهم سيخطرونه حال حدوث أي تغيير.
كان هذا منطقيا؛ فمن جهة، هو قد استنفد كل وقته في مكان إقامة الأقارب، ومن جهة أخرى، قد استنفد أكثر من الوقت المسموح به بعيدا عن قوات الشرطة في مافرلي. كل الدلائل كانت تشير إلى أن الشيء الصحيح الذي كان عليه فعله هو العودة إلى البلدة مرة أخرى.
لكنه بدلا من ذلك مكث في المدينة، وحصل على وظيفة ضمن طاقم الصيانة بالمستشفى حيث كان يقوم بأعمال التنظيف، وإزالة الفضلات، وأعمال المسح. وقد عثر على شقة مفروشة، تحتوي على الأشياء الضرورية فقط، والتي لم تكن تبعد كثيرا عن المستشفى.
عاد إلى منزله ولكن لفترة قصيرة فقط، وبمجرد أن وصل إلى هناك، شرع في إجراء بعض الترتيبات لبيع المنزل ومحتوياته، وعهد بذلك الأمر إلى أحد الوكلاء العقاريين، وكان يريد أن ينتهي من ذلك بأسرع ما يستطيع؛ فلم يكن يود أن يشرح أي شيء لأحد؛ فلم يعد يهتم بأي شيء حدث في هذا المكان، وبدا أن كل تلك السنوات التي أمضاها في البلدة، وكل ما يعرفه عنها، قد اختفى تماما من ذهنه.
لقد سمع شيئا بينما كان هناك، فضيحة قد تورط فيها قس الكنيسة المتحدة الذي كان يريد من زوجته أن تطلقه بسبب ارتكابه جريمة الزنا؛ فارتكاب جريمة الزنا مع أحد رعايا الأبرشية لهو شيء سيئ بنحو كاف، لكن القس، بدلا من أن يتكتم الأمر ويختفي لتطهير ذاته مما اقترفه، أو للخدمة في أبرشية في منطقة نائية، اختار أن يتلقى العقاب من منبر الوعظ. وكان لديه الكثير ليعترف به؛ قال إن كل شيء كان زائفا، وأضاف أنه لم يكن يؤمن تماما بكل ما كان يرتله من الأناجيل أو من الوصايا العشر، وأن كل خطبه الواعظة عن الحب والجنس، وتوصياته التقليدية التي تحمل طابع الخجل والمراوغة كلها زيف. إنه رجل حر طليق الآن، حر كي يخبرهم بمدى الراحة التي يشعر بها المرء عندما يمجد حياة الروح وحياة الجسد معا. وبدا أن المرأة التي فعلت به هذا كانت ليا، وقد علم راي من البعض أن زوجها الموسيقي قد عاد ليصطحبها معه منذ فترة، لكنها لم ترد الذهاب معه. وألقى هو باللوم على القس، لكنه كان ثملا ولم يدر من حوله هل يصدقونه فيما قال أم لا. لكن لا بد أن أمه قد صدقته بالرغم من ذلك؛ لأنها طردت ليا واحتفظت بالطفلين.
وعلى حد اعتقاد راي، كان كل ذلك مجرد ثرثرة باعثة على الاشمئزاز. جرائم الزنا، وحالات السكر، والفضائح؛ لا أحد يعرف من المصيب، ومن المخطئ. من الذي يمكن أن يهتم؟ لقد شبت هذه الفتاة كي تتجمل وتساوم، مثلها مثل الباقين. إنه إهدار للوقت، ومضيعة للحياة من أشخاص يسعون فقط وراء الإثارة دون الانتباه لأي شيء آخر قد يهم.
وبالطبع عندما كان بمقدوره التحدث إلى إيزابيل، كانت تغير رؤيته للأشياء؛ فلم تكن إيزابيل تبحث عن إجابات، لكنها كانت بالأحرى تجعله يشعر كما لو أن هناك جوانب أخرى لم يضعها في الحسبان. وفي النهاية كانت تضحك.
كان يحرز تقدما جيدا في عمله، وطلبوا منه أن ينضم لفريق البولينج، لكنه شكرهم وأخبرهم أنه ليس لديه وقت كاف. لكن في الحقيقة كان لديه متسع من الوقت، لكنه أراد أن يمضيه مع إيزابيل، بانتظار حدوث أي تغيرات في حالتها، أي تفسير لما هي عليه؛ فلم يكن يرغب أن يفوته شيء.
اعتاد أن يذكر الممرضات باسمها ويقول: «اسمها إيزابيل .» وذلك إذا ما نادينها قائلات: «والآن، سيدتي.» أو «حسنا، أيها السيدة، لنذهب لأعلى.»
ثم اعتاد سماعهن وهن يتحدثن إليها بتلك الطريقة. وهكذا طرأت بعض التغيرات، على أية حال، لكنها لم تكن تغيرات في حالة إيزابيل، بل إنها حدثت بداخله.
ولفترة طويلة، ظل يراها مرة يوميا، ثم جعلها مرة كل يومين، ثم مرتين في الأسبوع. •••
مرت أربع سنوات، اعتقد خلالها أنها تقترب من تحقيق رقم قياسي، وسأل المسئولين عن رعايتها إن كان الأمر كذلك، وأجابوه قائلين: «حسنا، إنها على وشك ذلك.» تلك هي عادتهم دائما المتمثلة في عدم الوضوح فيما يتعلق بأي شيء.
يغلب على الفكرة التي كانت تسيطر عليه أنها تعي وتفكر، ولم يعد ينتظر أن تفتح عينيها؛ كل ما في الأمر أنه لم يكن يستطيع أن يمضي ويتركها بالمستشفى بمفردها.
لقد تغيرت من امرأة نحيفة جدا، ليس إلى ما يشبه الطفلة بل إلى مجموعة من العظام غير المتجانسة القبيحة المنظر، التي يعلوها بعض الشعر الذي يشبه ريش الطائر، والتي كانت معرضة للموت في كل لحظة مع أنفاسها غير المنتظمة.
كانت هناك بعض الحجرات الكبيرة الملحقة بالمستشفى والمخصصة لإعادة التأهيل وممارسة التمرينات الرياضية، وكان يراها في العادة وهي خالية فقط؛ حيث كل الأجهزة موضوعة جانبا والأضواء مغلقة. ولكنه ذات ليلة، بينما كان يغادر المستشفى، سلك طريقا مختلفا عبر المبنى لسبب ما ورأى إحدى الحجرات وقد تركت الأضواء مضاءة بها.
وعندما اتجه إليها ليتبين الأمر، رأى أن ثمة شخصا لا يزال بالداخل. كانت امرأة، كانت تجلس منفرجة الساقين على إحدى كرات التمرين المنفوخة؛ لقد كانت تستريح فوقها فقط، أو ربما تحاول أن تفكر أين كان يفترض بها أن تتجه فيما بعد.
كانت تلك المرأة هي ليا. لم يتعرف عليها في أول الأمر، لكنه نظر ثانية وتأكد أنها ليا. ربما لم يكن ليدلف إن كان عرف من هي من البداية، لكنه الآن كان في منتصف الطريق لأداء إحدى مهام عمله المتمثلة في إغلاق الأضواء. ورأته.
انزلقت من مكانها العالي. كانت ترتدي نوعا من الملابس الرياضية المخصصة للتمرين، وقد اكتسبت بعض الزيادة في الوزن.
قالت: «كنت أعتقد أني سألتقي بك مصادفة يوما ما. كيف حال إيزابيل؟»
انتابته بعض الدهشة عندما سمعها تنادي إيزابيل باسمها الأول مجردا، أو عندما تحدثت عنها كما لو أنها كانت تعرفها.
أخبرها بإيجاز عن حالة إيزابيل؛ فلم تكن ثمة وسيلة أخرى الآن سوى أن يشرح لها الأمر بإيجاز.
قالت: «هل تتحدث إليها؟» «ليس بالكثير الآن.» «أوه، بل عليك أن تفعل. يجب ألا تتوقف عن الحديث إليها.»
كيف لها أن تعتقد أنها أضحت تعرف الكثير عن كل شيء؟
قالت: «أنت لم تتفاجأ من رؤيتي هنا، ولا بد أنك سمعت بكل شيء، أليس كذلك؟»
لم يعرف كيف يجيبها على ذلك.
قال: «نعم.» «لقد عرفت منذ فترة أنك موجود هنا، وعرفت كل ما حدث لك؛ لذا أعتقد أنك تعلم بأمر تواجدي هنا أيضا.»
أجابها بأنه لم يكن يعلم.
قالت له: «إنني أساعد المرضى - أعني مرضى السرطان - على القيام ببعض التمرينات ليروحوا عن أنفسهم، وذلك إن كانت حالتهم تسمح بذلك.»
قال إنه يعتقد أنها فكرة جيدة. «إنها رائعة، أعني بالنسبة إلي أيضا. إنني أفضل الآن على نحو كبير، لكن الأمور تتقافز إلى ذهني في بعض الأحيان؛ أعني خاصة وقت تناول العشاء، فهذا هو الوقت الذي يمكن أن تنتاب فيه المرء مشاعر غريبة.»
لاحظت أنه لم يفهم ما كانت تتحدث عنه، وكانت على استعداد - وربما متلهفة - لأن تشرح له. «أعني دون وجود الطفلين وكل شيء. ألم تعلم أن أباهما قد انتزعهما مني؟»
قال: «نعم.» «أوه، حسنا، لأنهم في واقع الأمر اعتقدوا أن أمه يمكن أن تعتني بهما. إنه في مصحة لعلاج مدمني الكحوليات، لكن لم يكن الحكم ليكون كذلك لولا أمه.»
أخذت تتنشق وانهمرت الدموع من عينيها بغير اكتراث تقريبا. «لا داعي للشعور بالحرج؛ فالأمر ليس سيئا كما يبدو، فأنا أبكي بصورة تلقائية. إن البكاء ليس سيئا بالنسبة إليك أيضا ما دمت لا تفعله على نحو منتظم بحيث يعرف عنك ذلك.»
إن الرجل الذي في المصحة كان هو عازف الساكسفون. لكن ماذا عن القس، وماذا كان يجري هناك؟
قالت كما لو كان قد سألها بصوت عال عن ذلك: «أوه، كارل. كان ما حدث بيننا وكل ما هو متعلق به غريبا. لا بد وأني قد جننت حينها.»
وأكملت حديثها قائلة: «تزوج كارل ثانية، وهذا جعله في حالة أفضل. أعني أن ذلك ساعده على أن يتجاوز كل ما فعله معي. إنه لشيء مثير للضحك. لقد ذهب وتزوج من قسيسة. لا بد أنك تعلم أنهم يسمحون الآن بأن تكون السيدات قسيسات، أليس كذلك؟ حسنا، إنها واحدة منهن. إذن فهو في وضع يشبه وضع زوجة القس. أعتقد أن هذا أمر سخيف.»
جفت دموعها الآن وابتسمت. كان يعلم أن هناك أشياء كثيرة أخرى ستحدث، لكنه لم يستطع أن يخمن ما يمكن أن تكون. «لا بد أنك متواجد هنا منذ فترة طويلة. هل لديك مكان خاص بك تقيم فيه؟» «نعم.» «هل تعد العشاء بنفسك وتقوم بكل الأمور الأخرى المشابهة؟»
أجابها بأن هذا هو الحال. «إنني أستطيع القيام بذلك بدلا منك بين الحين والآخر. هل تبدو هذه فكرة جيدة؟»
لمعت عيناها وهي تحتضن عينيه.
قال إنها ربما تكون فكرة جيدة، لكن في الواقع ليس هناك في شقته سوى مساحة تكفي لأن يتحرك فيها شخص واحد فقط في المرة الواحدة.
ثم قال إنه لم يلق نظرة على إيزابيل منذ يومين، وعليه أن يذهب ويقوم بذلك الآن.
أومأت برأسها قليلا كمن توافقه، ولم يبد عليها أنها استاءت أو أنه خذلها. «أراك لاحقا هنا.» «أراك لاحقا.» •••
كانوا يبحثون عنه في كل مكان؛ فقد رحلت إيزابيل أخيرا. لقد قالوا «رحلت» كما لو أنها نهضت من فراشها وغادرت. عندما ذهب أحدهم ليلقي نظرة على حالتها منذ ساعة، وجدها كما هي بنفس حالتها دائما، لكنها رحلت الآن.
وكان كثيرا ما يتساءل ما الفرق الذي كان سيحدثه هذا.
لكن الفراغ الذي خلفته وراءها كان فظيعا.
نظر إلى الممرضة في تعجب، فاعتقدت أنه كان يريد أن يسألها عما كان عليه أن يفعله بعد ذلك، وبدأت هي بالفعل تشرح له، وراحت تعطيه بعض المعلومات. كان يعي ما تقوله جيدا، لكن ذهنه كان مشتتا.
كان يعتقد دائما أن ذلك قد حدث لإيزابيل منذ فترة طويلة، لكنه لم يحدث، حتى الآن.
لقد كانت موجودة، لكنها لم تعد هكذا الآن. إنها ليست موجودة على الإطلاق كما لو أنها لم تكن موجودة على الإطلاق من قبل. وراح الناس يهرولون من حوله كما لو أنه يمكن التغلب على تلك الحقيقة الفظيعة بإجراء بعض الترتيبات المنطقية. هو أيضا قام بما هو متعارف عليه في مثل هذه الأحوال، ووقع أينما طلب منه وأخذ يرتب، كما أخبروه، لاستلام بقاياها.
يا لها من كلمة مذهلة! «بقاياها»! كما لو أنها تماثل شيئا ترك ليجف ويتلف في رف خزانة ملطخ بالسخام.
وسرعان ما وجد نفسه بالخارج متظاهرا بأن لديه سببا مقبولا وعاديا كأي شخص آخر كي يستمر في حياته.
وما كان يحمله معه الآن، كل ما كان يحمله معه، هو ضيق، شيء يقترب من ضيق في التنفس؛ أي إن رئتيه لم تكونا تقومان بمهامهما الطبيعية على النحو الأكمل، وهي مشكلة افترض أنها ستستمر معه إلى الأبد.
إن الفتاة التي كان يتحدث إليها، والتي كان على معرفة بها من قبل، كانت تتحدث عن أطفالها؛ عن فقد أطفالها، وعن محاولة الاعتياد على ذلك. إنها تواجه مشكلة في وقت العشاء.
يمكن أن يطلق عليها أنها خبيرة في الفقد، أما هو فيعد مبتدئا الآن مقارنة بها، وهو الآن لم يكن باستطاعته تذكر اسمها؛ لقد ضاع اسمها من باله، بالرغم من أنه كان يعرفه جيدا. الفقد، الضياع. لقد انقلبت المزحة عليه.
كان يصعد الدرج المؤدي لمنزله عندما خطرت على باله.
ليا.
شعر بارتياح لا مثيل له عندما تذكر اسمها.
حفرة الحصى
كنا نعيش في ذلك الوقت بجوار حفرة من حصى. لم تكن حفرة عميقة خلفتها إحدى الآلات الضخمة، وإنما مجرد حفرة صغيرة لا بد أن أحد الفلاحين قد جنى من ورائها بعض المال منذ سنوات مضت ؛ إنها في الواقع كانت ضحلة بدرجة تجعلك تعتقد أنه ربما كان هناك غرض آخر من ورائها؛ كأساسات لمنزل، ربما، لم يستكمل قط.
كانت أمي هي من تصر على جذب الانتباه إليها؛ فكانت تقول للناس: «نحن نعيش بالقرب من حفرة الحصى القديمة، بعيدا عن الطريق الذي توجد به محطة الوقود.» وتضحك من فرط السعادة لأنها خلفت وراءها كل شيء يتعلق بالبيت، والشارع، والزوج، والحياة التي كانت تعيشها من قبل.
أما أنا فبالكاد أتذكر تلك الحياة؛ أي إنني أتذكر جوانب منها بوضوح، لكن دون الروابط التي يحتاجها المرء لكي يكون عنها صورة متكاملة؛ فكل ما أتذكره عن منزل البلدة كان ورق الحائط الموجود في غرفتي القديمة، الذي كانت عليه صور الدب تيدي. أما في ذلك المنزل الجديد، الذي كان منزلا متنقلا في حقيقة الأمر، فلم يكن لدي أنا وكارو أختي، سوى سريرين صغيرين كل منهما موضوع فوق الآخر. عندما انتقلنا إلى هناك لأول مرة، كانت كارو تحدثني كثيرا عن منزلنا القديم في محاولة منها لتذكيري ببعض الأشياء. كانت تتحدث عن ذلك الأمر عندما كنا نأوي إلى الفراش، وبوجه عام كان ينتهي الحديث بعدم مقدرتي على التذكر وشعورها هي بالغضب نتيجة لذلك. وفي بعض الأحيان كنت أعتقد أنني تذكرت بالفعل، ولكني بدافع من معارضتها فحسب أو خوفي من عدم فهمي الصحيح للأشياء، كنت أتظاهر بخلاف ذلك.
كان الصيف قد حل عندما انتقلنا إلى المنزل المتنقل، واصطحبنا كلبتنا معنا، وكان اسمها بليتزي. كانت أمي تقول: «إن بليتزي تحب المكان هنا.» وكان ذلك صحيحا؛ فأي كلبة تلك التي لا تريد أن تستبدل بشارع في بلدة، حتى إن كان يضم مروجا واسعة ومنازل ضخمة، ذلك الريف الرحب؟ راحت تنبح عند مرور أي سيارة كما لو أنها ملكت الشارع، وكانت تحضر إلى المنزل بين الحين والآخر سنجابا أو مرموط خنزير أرض قتلته. في البداية، كانت كارو تتضايق جدا من ذلك الأمر، وكان نيل يتحدث إليها شارحا لها طبيعة الكلب ودورة الحياة التي يضطر فيها بعض الأشياء أن يأكل أشياء أخرى.
جادلته كارو قائلة: «ولكنها تحصل على طعامها.»، لكن نيل قال لها: «ولكن افترضي أنها لم تحصل عليه. تخيلي أننا تركناها جميعا في أحد الأيام وكان عليها أن تعتمد على نفسها.»
قالت كارو: «لن أفعل ذلك. فأنا لن أتركها، وسأظل أعتني بها دائما.»
قال نيل: «هل تعتقدين ذلك؟» وتدخلت أمي كي تجعله يغير مجرى الحوار. كان نيل على استعداد دائما كي يتحدث عن موضوع الأمريكيين والقنبلة الذرية، وكانت أمي تعتقد أننا غير مؤهلتين لسماع ذلك بعد، ولم تكن تعلم أنه حينما كان يثير ذلك الموضوع كنت أظنه يتحدث عن نوع من الكعك. كنت أدري أن هناك خطأ ما في ذلك التفسير، لكني لم أكن على استعداد لأن أطرح أي أسئلة فيسخروا مني بعدها.
كان نيل ممثلا، وكان يوجد في البلدة مسرح صيفي احترافي، وهو شيء كان جديدا في ذلك الوقت، وقد تحمس له البعض، وشعر آخرون بالقلق حياله خشية أن يجذب إليه الدهماء. ولكن أبي وأمي كانا من بين من أيدوا فكرة وجوده، وكانت أمي أكثر انخراطا في هذا الشأن؛ لأنها كانت تملك متسعا من الوقت؛ فقد كان أبي وكيل تأمين، وكان يسافر كثيرا. سعت أمي بشتى الطرق لجمع تبرعات من أجل المسرح، وتبرعت هي بخدماتها وعملت داخله بوظيفة مرشد للمقاعد. كانت حسنة المظهر وصغيرة السن بدرجة تجعل البعض يظن خطأ أنها إحدى الممثلات. وقد بدأت ترتدي كالممثلات أيضا، فقد كانت تضع الأوشحة، وترتدى التنانير الطويلة والقلادات المتدلية، وكانت تترك شعرها مسترسلا، وتوقفت عن وضع مساحيق التجميل. بالطبع لم أفهم أو حتى ألاحظ تلك التغييرات بوجه خاص في ذلك الوقت؛ فأمي بالنسبة إلي هي أمي لم يتغير بها شيء، لكن كارو لاحظ ذلك بلا شك، وبالقطع فعل أبي. ومع ذلك، ومن خلال فهمي لطبيعته ومشاعره حيال أمي، فإني أعتقد أنه ربما كان فخورا وهو يرى كم كانت أمي جميلة في أنماط اللبس المتحررة تلك، وكيف أنها كانت تماثل من يعملن في المسرح. وعندما تحدث عن ذلك الوقت، فيما بعد، قال إنه كان دائما يشجع الفنون. يمكن أن أتخيل الآن كيف كانت سترتبك أمي وهي تتوارى وتضحك كي تخفي إحساسها بالحرج، إن كان قد قال هذا أمام أصدقائها بالمسرح.
لكن حدث تطور لم يكن ممكنا لأي أحد أن يتوقعه، وربما قد توقعه البعض فيما عدا أبي، ولا أدري إن كان قد حدث لأي من المتطوعين الآخرين غير أمي. إنني أعلم - بيد أنني لا أتذكر - أن أبي كان يبكي وظل طوال يوم كامل يتتبع أمي في المنزل ولا يجعلها تغيب عن عينه، ورفض أن يصدقها فيما تقول، وبدلا من أن تخبره بشيء يجعله في حالة أفضل، أخبرته بما زاد حالته سوءا.
فقد قالت له إن الطفل هو ابن نيل.
هل كانت واثقة؟
بالقطع؛ فقد كانت تتابع الأمر جيدا.
وماذا حدث بعد ذلك؟
توقف أبي عن البكاء، وكان عليه أن يعود لعمله، وحزمت أمي أمتعتنا واصطحبتنا معها للعيش مع نيل في المنزل المتنقل الذي عثر عليه، وذلك بعيدا في الريف، وقد أخبرتنا فيما بعد أنها قد بكت هي الأخرى لما حدث. لكنها قالت إنها شعرت أيضا بأنها على قيد الحياة، وربما لأول مرة في حياتها وجدت نفسها تحيا بحق. شعرت كما لو أنها قد منحت فرصة أخرى؛ لقد بدأت حياتها من جديد، وتخلت عن أشيائها الفضية وتلك المصنوعة من الخزف، وديكورات منزلها، وحديقتها المزدانة بالزهور، وحتى الكتب الموجودة في الخزانة الخاصة بها؛ فهي كانت ستحيا الآن ولن تقرأ. لقد تركت ملابسها معلقة في الخزانة، وأحذيتها ذات الكعب العالي في قوالبها، وتركت أيضا خاتمها الماسي وخاتم الزفاف فوق التسريحة، وكذلك ملابس نومها الحريرية في الدرج الخاص بها. كانت تبغي التجول عارية على الأقل لبعض الوقت في الريف، ما دام الجو دافئا.
لكن ذلك لم يفلح؛ لأنها حينما حاولت أن تجرب ذلك، ذهبت كارو واختبأت في فراشها، وحتى نيل قال إنه لا يتحمس لتلك الفكرة. •••
لكن ماذا كان رأي نيل في كل ذلك؟ كانت فلسفته، كما أوضحها لاحقا، هي الترحاب بأي شيء يحدث ؛ فكل شيء هو بمنزلة عطية، ونحن نأخذ ونعطي في المقابل.
أرتاب من الأشخاص الذين يتحدثون على هذا النحو، لكني لا أستطيع الجزم بأني على حق في ذلك.
لم يكن نيل ممثلا بالأساس، ولكنه - كما قال - دخل مجال التمثيل بدافع التجربة، ليرى ما الذي يمكن أن يكتشفه في نفسه من قدرات؛ ففي الجامعة، وقبل أن يترك الدراسة فيها، اشترك في مسرحية «أوديب ملكا» كواحد من الجوقة، وقد راق له ذلك؛ فجميل أن يندمج المرء تماما في العمل الذي يؤديه، وأن يذوب كلية مع الآخرين. ثم حدث في يوم من الأيام، بينما كان يسير في أحد شوارع تورونتو، أن التقى بصديق له كان في طريقه إلى الاختبار من أجل الالتحاق بوظيفة صيفية مع فرقة مسرحية جديدة في بلدة صغيرة، فذهب معه؛ إذ لم يكن لديه عمل أفضل من هذا يمكن أن يؤديه، والتحق بالوظيفة بينما أخفق صديقه في ذلك. كان سيؤدي شخصية بانكو، وفي بعض الأحيان كانوا يجعلون شبح بانكو مرئيا، وفي أحايين أخرى ما كانوا يفعلون ذلك، لكنهم في تلك المرة كانوا يريدونه مرئيا في المسرحية، وكان حجم جسم نيل هو المناسب. حجم رائع، شبح قوي البنية.
كان يفكر في أن يمضي الشتاء في بلدتنا على أية حال، وذلك قبل أن تفجر أمي مفاجأتها. كان قد عثر على المنزل المتنقل بالفعل، وكانت لديه خبرة كافية في أعمال النجارة تساعده في إعادة تجديد المسرح، وهو العمل الذي سيمكنه من سداد تكاليف معيشته حتى فترة الربيع. وكان هذا الحد هو ما كان يتطلع إليه في المستقبل كما اعتاد أن يفكر دائما.
لم تكن كارو بحاجة لأن تغير مدرستها؛ فقد كانت تستقل حافلة المدرسة عند نهاية الطريق القصير الذي يمر بمحاذاة حفرة الحصى، وكان عليها أن تكون صداقات جديدة مع أطفال الريف، وربما توضح بعض الأمور لأطفال البلدة الذين كانوا أصدقاءها في العام الماضي، ولكن إن كانت قد واجهت صعوبات في ذلك، فهذا شيء لم أسمع به قط.
كانت بليتزي دائما تنتظر قدومها إلى المنزل على قارعة الطريق.
لم أذهب إلى الحضانة لأن أمي لم تكن تقتني سيارة، لكني لم أشعر بالضيق لعدم وجود أطفال آخرين ألعب معهم؛ إذ كانت كارو كافية بالنسبة إلي عندما تعود إلى المنزل. وفي أغلب الوقت، كانت أمي على استعداد للهو معي؛ فبمجرد أن بدأت الثلوج تتساقط في هذا الشتاء، صنعت أنا وهي رجل ثلج وسألتني قائلة: «هل ندعوه نيل؟» ووافقتها في ذلك، وألصقنا به بعض الأشياء كي نجعله مضحكا. ثم قررنا أنني سأندفع خارج المنزل حينما تأتي سيارة نيل وأقول: ها هو نيل، ها هو نيل! مشيرة حينها إلى رجل الثلج، وهذا ما قمت به بالفعل، لكن نيل نزل من سيارته غاضبا، وراح يصيح بأنه كان من الممكن أن يصدمني بالسيارة.
كانت هذه واحدة من المرات القلائل التي رأيته يتصرف فيها كأب.
لا بد أن أيام الشتاء القصيرة هذه كانت تبدو غريبة بالنسبة إلي؛ ففي البلدة، كانت الأضواء تنار وقت الغسق. لكن الأطفال يعتادون التغيير سريعا. كنت أتساءل في بعض الأحيان عن منزلنا الآخر، لكني لم أكن أفتقده في الواقع، أو أود العيش هناك مرة أخرى، ولكني تساءلت فقط أين ذهب.
كانت أوقات أمي السعيدة مع نيل تبدأ في الليل؛ فإذا حدث أن استيقظت وكنت أريد أن أذهب إلى الحمام، كنت أنادي عليها. كانت تأتيني بسعادة وليس على عجل، وكانت تلف جسدها بقطعة من القماش أو بأحد الأوشحة، وتنبعث منها رائحة كانت ترتبط في ذهني بضوء الشموع، والموسيقى، بل الحب أيضا. •••
وقع شيء غير مريح بالمرة، لكني لم أحاول أن أفهمه جيدا في ذلك الوقت. لم تكن كلبتنا بليتزي ضخمة الحجم، لكنها أيضا لم تكن صغيرة بدرجة يمكن معها إخفاؤها أسفل معطف كارو، ولا أدري كيف نجحت كارو في هذا، ليس لمرة واحدة بل لمرتين. لقد أخفت الكلبة تحت معطفها في حافلة المدرسة، وبدلا من أن تذهب إلى المدرسة، ذهبت ببليتزي إلى منزلنا القديم في البلدة الذي كان يبعد بأقل من مربع سكني واحد. كان هذا هو المكان الذي وجد فيه أبي الكلبة، في الشرفة المغطاة، التي لم تكن محكمة الغلق، وذلك عندما عاد إلى المنزل لتناول غدائه وحيدا. كانت مفاجأة كبيرة أن تصل إلى هناك، وأن تجد سبيلها إلى المنزل مثل الكلاب في القصص. أحدثت كارو ضجة كبيرة، وادعت أنها لم تر الكلبة طوال فترة الصباح، لكنها ارتكبت خطأ عند محاولتها الإقدام على ذلك مرة أخرى، ربما بعد مرور أسبوع، ولكن هذه المرة، وبالرغم من أنها لم تثر شكوك أحد في الحافلة أو في المدرسة، أثارت شكوك أمي.
لا أستطيع أن أتذكر إن كان أبونا قد أعاد بليتزي إلينا أم لا؛ فلا أستطيع تخيله في المنزل المتنقل أو عند بابه، أو حتى في الطريق المؤدي إليه. ربما ذهب نيل إلى منزلنا في البلدة وأخذها، ولم يكن تخيل هذا أيضا أسهل على أي نحو.
إذا ما جعلت الأمر يبدو كما لو أن كارو كانت حزينة أو تصنع المكائد طوال الوقت، فليست هذه هي الحقيقة على الإطلاق. وكما ذكرت من قبل، كانت تدفعني للحديث عن بعض الأشياء عندما نأوي إلى فراشنا بالليل، لكنها لم تكن تعبر عن شكواها باستمرار؛ فليست من طبيعتها أن تبدو متجهمة؛ فقد كانت حريصة كل الحرص على أن تعطي للناس انطباعا جيدا عنها. فقد كانت تحب أن يحبها الآخرون، وتبغي دوما أن تبعث في أي مكان جوا أشبه بالبهجة والمرح؛ فقد كانت تفكر في ذلك الأمر أكثر مما أفعل أنا.
وأعتقد الآن أنها كانت أكثر شبها بأمي مني.
ومن المؤكد أنه حدث نوع من الاستجواب حول ما فعلته بالكلبة، وأعتقد أنني يمكنني تذكر بعضه: «لقد فعلت ذلك على سبيل المزاح.» «هل تودين الذهاب والعيش مع والدك؟»
أعتقد أن هذا السؤال قد طرح، وأظن أنها أجابت بالنفي.
أما أنا، فلم أسألها عن شيء؛ فما فعلته لم يبد غريبا بالنسبة إلي. وهذا عادة هو حال الأطفال الأصغر سنا؛ فما يفعله الطفل الأكبر الذي يتمتع بقوة غريبة لا يبدو استثنائيا لمن هو أصغر منه.
كان بريدنا يوضع في صندوق من الصفيح مثبت فوق أحد الأعمدة على جانب الطريق، وكنت أسير أنا وأمي إلى هناك كل يوم، إلا في الأيام التي يكون فيها الجو عاصفا بشدة، لنرى ما وصل إلينا من خطابات. وكنا نفعل ذلك بعدما أستيقظ من قيلولتي، وفي بعض الأحيان تكون هذه هي المرة الوحيدة التي نغادر خلالها المنزل طوال اليوم. ففي الصباح، كنا نشاهد برامج الأطفال بالتليفزيون، أو كانت هي تقرأ بينما أشاهد أنا تلك البرامج. (فلم تتوقف أمي عن القراءة لفترة طويلة.) وكنا نسخن بعضا من الحساء المعلب من أجل الغداء، ثم أخذت أنا قيلولتي، بينما كانت تشرع أمي في قراءة المزيد. لقد زاد حجمها على نحو كبير الآن بسبب حملها، وكان الجنين يتحرك بالفعل في أحشائها، حتى إنني كنت أشعر بحركته، وكانا سيطلقان عليه اسم براندي - لقد أطلقا عليه بالفعل اسم براندي - سواء أكان ذكرا أم أنثى.
وفي أحد الأيام وبينما كنا نسير عبر الطريق القصير كي نحضر البريد، ولم نكن في الواقع نبعد كثيرا عن صندوق البريد، توقفت أمي وظلت ساكنة في مكانها بلا حراك.
ثم قالت لي: «التزمي الهدوء.» بالرغم من أني لم أنبس بكلمة، ولم أكن أجر قدمي في الثلج بحذائي العالي الرقبة.
قلت: «أنا هادئة.» «اصمتي، ودعينا نرجع.» «لكننا لم نأت بالبريد.» «لا يهم، سيري فقط.»
ثم لاحظت أنه لا أثر لبليتزي التي كانت تسير دوما معنا سواء خلفنا أم أمامنا، بل كان هناك كلب آخر على الجانب المقابل من الطريق على بعد أقدام قليلة من صندوق البريد.
هاتفت أمي المسرح بمجرد عودتنا إلى المنزل وسمحت لبليتزي، التي كانت تنتظرنا، بالدخول إلى المنزل. لكن لم يجبها أحد. هاتفت المدرسة وطلبت ممن رد عليها أن يطلب من سائق الحافلة إحضار كارو حتى باب المنزل، واتضح أن السائق لم يكن بإمكانه ذلك لأن الثلوج هطلت عقب آخر مرة قام فيها نيل بجرف الثلوج عن الطريق القصير، لكن السائق راقبها حتى وصلت إلى باب المنزل، ولم ير أحد أثرا لأي ذئب بحلول ذلك الوقت.
وكان نيل يرى أنه لم يوجد من قبل أي ذئب في هذه المنطقة، وقال إنه إذا تصادف أن كان هناك واحد بالفعل، فإنه لن يمثل أية خطورة بالنسبة إلينا لأنه سيكون ضعيفا، ربما بسبب البيات الشتوي.
قالت كارو إن الذئاب لا تدخل في حالة بيات شتوي، وأضافت: «هذا ما تعلمناه عنها في المدرسة.»
وأرادت أمي أن يشتري نيل بندقية.
لكنه قال بهدوء: «هل تعتقدين أنني سأشتري بندقية وأذهب لأصوب النار على ذئبة أم مسكينة ربما لديها مجموعة من الصغار بالخلف في الدغل، وكل ما تفعله هو محاولة حمايتها، تماما مثلما تفعلين أنت مع صغارك.»
قالت كارو: «هما اثنان فقط؛ فهي تنجب اثنين في كل مرة.» «حسنا، حسنا. إنني أتحدث إلى أمك.» «لكنك لست متأكدا من ذلك؛ فأنت لا تدري إن كان لديها صغار جائعون أو شيء من هذا القبيل.»
لم أتخيل مطلقا أنها يمكنها أن تتحدث إليه على هذا النحو.
قال: «هوني عليك، هوني عليك. ولنفكر في الأمر قليلا. إن البنادق أشياء مفزعة، وإذا ذهبت وحصلت على بندقية، فماذا عساي أن أقول إذن؟ أقول إن حرب فيتنام كانت خطوة صحيحة؟ وإنني ربما أذهب إلى فيتنام؟» «إنك لست أمريكيا.» «إنك بالطبع لا تريدين أن تثيري حفيظتي.»
هذا بالتقريب ما دار بينهما من حوار، وانتهى الأمر بعدم ذهاب نيل لشراء بندقية، ولم نر الذئب قط مرة أخرى، هذا إن كان ذئبا حقا، وأعتقد أن أمي توقفت عن الذهاب لإحضار البريد، لكن ربما كان هذا بسبب زيادة حجمها بدرجة لا تشعرها بالراحة في القيام بذلك على أية حال.
قلت الثلوج على نحو كبير، لكن الأشجار كانت لا تزال دون أوراق، وكانت أمي تأمر كارو بارتداء معطفها في الصباح، لكنها كانت تعود إلى المنزل بعد انتهاء اليوم الدراسي وهي تجره خلفها.
قالت أمي إنها ستضع توءما، لكن الطبيب قال إن هذا ليس صحيحا.
قال نيل مؤيدا فكرة التوءم: «إنه شيء رائع. رائع. الأطباء لا يعرفون شيئا.»
امتلأت الحفرة عن آخرها بالثلج الذائب وماء الأمطار؛ لذا كان يتعين على كارو أن تسير حولها بحذر وهي في طريقها لتستقل حافلة المدرسة. لقد كانت تبدو كبحيرة صغيرة ساكنة تتلألأ أسفل السماء الصافية، وتساءلت كارو - لكن دون الكثير من الأمل - إن كان يمكننا أن نلهو فيها.
حذرتها أمي من أن تفقد صوابها، وقالت: «لا بد أنها على عمق عشرين قدما.»
قال نيل: «ربما عشر.»
قالت كارو: «لكنها لن تكون عميقة عند الأطراف.»
أخبرتها أمي بأنها كذلك. قالت: «إنها تتضاءل في الحجم فقط. تبا لهذا، إن الأمر لا يشبه الذهاب إلى الشاطئ. ابتعدي عنها فحسب.»
لقد بدأت تتفوه بكلمة «تبا» كثيرا، ربما أكثر مما فعل نيل وبنبرة أكثر سخطا.
سألته: «هل علينا أن نبعد الكلبة عنها أيضا؟»
قال نيل إن هذا ليس بمشكلة، مضيفا: «الكلاب بمقدورها السباحة.» •••
وفي أحد أيام السبت، شاهدت كارو معي برنامج الأطفال التليفزيوني «العملاق فريندلي»، وصدر عنها بعض التعليقات التي أفسدت متعة المشاهدة. كان نيل مستلقيا على الأريكة التي تبسط لتصبح فراشه هو وأمي. كان يدخن النوع المفضل لديه من السجائر، الذي لم يكن مسموحا بتدخينه أثناء العمل؛ لذا كان يدخن أكبر قدر منه في عطلات نهاية الأسبوع. كانت كارو في بعض الأحيان تزعجه وتطلب منه أن تجرب واحدة، وذات مرة تركها تفعل لكن طلب منها ألا تخبر أمها.
لكن كنت أنا هناك ورأيتها وأخبرت أمي.
كان هناك تحذير لكنه لم يصل إلى حد الشجار.
قالت أمي: «أنت تعلم أنه قد يأخذ الطفلتين من هنا في أي وقت. لا تفعل هذا ثانية.»
قال نيل بلطف: «لن أفعل هذا ثانية. لكن ماذا لو أطعمهما بواقي فاسدة من رقائق رايس كريسبيز.»
لم نكن نرى أبانا في بادئ الأمر على الإطلاق، وبعد انقضاء عيد الميلاد وضعنا خطة لرؤيته في أيام السبت، ودائما ما كانت أمي تسألنا، بعد أن نزوره، إن كنا قد أمضينا وقتا طيبا معه أم لا، وكنت أرد بالإيجاب دائما، وكنت أعني ذلك حقا؛ لأنه في اعتقادي إذا ما ذهب المرء لمشاهدة أحد الأفلام، أو التطلع إلى بحيرة هورون، أو تناول طعامه في أحد المطاعم، فهذا كان يعني أنه قد أمضى وقتا طيبا بالفعل. وكانت كارو ترد بالإيجاب أيضا، لكن بنبرة كانت توحي بأنه ليس من شأن أمي التدخل في ذلك. ثم حدث أن أمضى أبي عطلة الشتاء في كوبا (وقد علقت أمي على ذلك ببعض الدهشة، وربما بعض الاستحسان)، لكنه عاد وهو يعاني من نوع من الأنفلونزا يحتاج وقتا طويلا في الشفاء منه؛ مما أدى إلى انقطاع زيارتنا له، وكان من المفترض أن نستأنفها في فصل الربيع، لكن لم يحدث ذلك حتى الآن.
وبعد أن أغلق التليفزيون، أرسلتني أمي أنا وكارو إلى الخارج كي نلهو قليلا، كما تقول، ونتنسم بعضا من الهواء العليل. وأخذنا معنا الكلبة.
وكان أول شيء فعلناه عندما خرجنا من المنزل هو حل تلك الأوشحة التي كانت تلفها أمي حول أعناقنا وسحبها خلفنا. (في الواقع، كانت أمي كلما تقدمت في حملها، ازداد ميلها للتصرف كأم تقليدية، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالأوشحة التي لا نحتاجها، أو بتناول وجباتنا بنحو منتظم، بالرغم من أننا ربما لم نكن نربط بين الأمرين؛ فلم يعد هناك ميل كبير نحو التصرفات الغريبة كما كان الأمر في الخريف.) وسألتني كارو عما أريد أن أفعله، وأجبتها بأني لا أدري. كان ذلك بمنزلة سؤال شكلي من جانبها، ولكنها كانت إجابة صادقة من جانبي. وعلى أية حال، جعلنا الكلبة تقودنا، وكان اقتراح بليتزي هو الذهاب وإلقاء نظرة على الحفرة. كانت الريح تجعل الماء تضطرب لتكون أمواجا صغيرة، وسرعان ما شعرنا بالبرد؛ لذا أعدنا ربط الأوشحة حول أعناقنا.
لا أدري كم مر من الوقت ونحن نتجول حول حافة الماء، ونحن نعلم أنه لن يكون بإمكان أحد أن يرانا من منزلنا المتنقل، وبعد فترة أدركت أنني تلقيت بعض الأوامر بهذا الشأن.
فكان علي أنا أعود إلى المنزل المتنقل وأخبر أمي ونيل بشيء.
أخبرهما بأن الكلبة سقطت في الماء.
أن الكلبة سقطت في الماء، وأن كارو كانت تخشى أن تغرق.
بليتزي ... تغرق.
تغرق .
لكن بليتزي لم تكن في الماء.
قد تكون. وكارو يمكن أن تقفز كي تنقذها.
أعتقد أني أخذت أجادلها فيما يتعلق بأنها لم تسقط في الماء، وأنها لم تلق بها، وأنه يمكن أن يحدث ذلك لكن الأمر ليس كذلك. كما تذكرت أيضا أن نيل قال إن الكلاب لا تغرق.
أمرتني كارو أن أفعل ما أملته علي.
لماذا؟
ربما أكون قد قلت هذا، أو من الجائز أني وقفت في مكاني فقط ولم أطع أوامرها؛ في محاولة مني كي أجادل معها ثانية.
أستطيع أن أراها في ذهني وهي تحمل بليتزي وتقذفها في الماء، بالرغم من أن بليتزي كانت تحاول أن تتشبث بمعطفها. ثم رجعت خطوات للوراء، رجعت للوراء لكي تجري مسرعة صوب الماء. تجري، وتقفز، وعلى نحو مفاجئ تلقي بنفسها في الماء. لكني لا أستطيع أن أتذكر صوت رذاذ الماء وهو يتناثر إثر ارتطامها بها، لم أدر إن كانت دفقات الماء قليلة أم كبيرة، ربما استدرت عائدة نحو المنزل في ذلك الوقت؛ لا بد أني فعلت هذا.
عندما أحلم بذلك، أراني دائما أجري. وفي أحلامي أنا لا أجري نحو المنزل بل نحو حفرة الحصى. يمكنني أن أرى بليتزي وهي تصارع الماء وكارو تسبح نحوها، تسبح بقوة، وهي في طريقها لإنقاذها. أرى معطفها البني الفاتح ذا المربعات، ووشاحها المنقوش، ووجهها الذي تعلوه أمارات الانتصار والفخر، وشعرها المائل للون الأحمر وقد أضحت ضفائره داكنة اللون بفعل الماء. وكان كل ما علي فعله في نهاية الأمر هو أن أنظر إلى ما يحدث في سعادة، دون أن أكون مطالبة بأي شيء آخر.
لكن ما قمت به حينها بالفعل هو أنني اجتزت ذلك المنحدر الصغير وهرعت نحو المنزل المتنقل، وحينما وصلت إلى هناك جلست، كما لو أنه كان هناك مقعد أو شرفة، بالرغم من أن المنزل المتنقل لم يكن به أي من هذا. جلست وانتظرت ما كان سيحدث بعد ذلك.
أدرك ذلك لأنه حقيقة، ومع هذا فلا أدري ماذا كانت خطتي أو فيما كنت أفكر. ربما كنت أنتظر الحدث التالي في مسرحية كارو، أو بالأحرى مسرحية الكلبة.
لا أدري إن كنت قد مكثت هناك لمدة خمس دقائق، أم أكثر، أم أقل. ولم يكن الطقس باردا جدا.
لقد ذهبت لأستشير إخصائية نفسية بشأن هذا وأقنعتني، لبعض الوقت، أنه لا بد أنني قد حاولت فتح باب المنزل ووجدته محكم الغلق؛ محكم الغلق لأن أمي ونيل كانا يتضاجعان وقد أغلقاه خشية أن يزعجهما أحد، ولو حدث أن قرعت الباب بقوة، لكانا سيغضبان. شعرت الإخصائية النفسية بالارتياح لأننا توصلنا لهذه النتيجة، وشعرت أنا أيضا بهذا، لكن لفترة من الوقت؛ لأنني لم أعد أعتقد أن ذلك كان صحيحا؛ فلا أظن أنهما قد أغلقا الباب لأنهما لم يفعلا ذلك ذات مرة عندما كانا يتضاجعان، ودلفت كارو إلى المنزل وراحا يضحكان من النظرة التي ارتسمت على وجهها.
ربما تذكرت أن نيل قد قال ذات مرة بأن الكلاب لا تغرق، وهو ما يعني أن إنقاذ كارو لبلينزي لم يكن له داع؛ لذا فهي في هذه الحالة لن تتمكن من الاستمرار في لعبتها. وهناك الكثير من الألعاب، مع كارو.
هل اعتقدت حينها أن بمقدورها السباحة؟ إن العديد من الأطفال يستطيعون السباحة في عمر التاسعة. وقد اتضح، في الواقع، أنها تلقت درسا واحدا في السباحة في الصيف الماضي، لكننا انتقلنا إلى منزلنا المتنقل فلم تتلق هي المزيد. ربما اعتقدت هي أن بمقدورها السباحة بنحو جيد، وربما اعتقدت أنا بالفعل أن بمقدورها أن تفعل أي شيء تريده.
لم تشر الإخصائية النفسية إلى أنني ربما أكون قد سئمت من تنفيذ أوامر كارو، لكن ذلك كان يجول بخاطري بالفعل، على الرغم من أنه ليس صحيحا تماما. ربما قد يكون هذا شعوري لو كنت أكبر سنا؛ ففي ذلك الوقت كنت لا أزال أراها تملأ عالمي.
كم مر من الوقت وأنا أجلس هناك؟ من المرجح أنه لم يكن وقتا طويلا، ومن المحتمل أنني قد طرقت الباب بالفعل، بعد فترة؛ ربما بعد دقيقة أو اثنتين. إن أمي تفتح الباب على أية حال في بعض الأحيان دون سبب، لقد كان هذا هاجسا.
ما حدث بعد ذلك أنني دخلت المنزل، وكانت أمي تصيح في نيل وتحاول أن تجعله يفهم شيئا. نهض من مكانه ووقف هناك وهو يتحدث إليها، ملامسا إياها في دعة ورقة ونوع من التعزية، لكن أمي لم تكن تريد ذلك على الإطلاق، وابتعدت بنفسها عنه وجرت مسرعة خارج المنزل. هز رأسه ونظر لأسفل نحو قدميه العاريتين، وأصابعهما الضخمة البائسة.
أعتقد أنه قال لي شيئا بنبرة حزن رتيبة. لقد كان غريبا.
وبخلاف ذلك ليس لدي أي تفاصيل أخرى. •••
لم تلق أمي بنفسها في الماء، ولم تلد مبكرا بسبب الصدمة؛ فلم يولد أخي برينت إلا بعد مرور أسبوع أو عشرة أيام بعد الجنازة، وقد ولد في ميعاده، ولا أعلم شيئا عن المكان الذي مكثت به في انتظار ولادة الطفل؛ ربما أودعت أحد المستشفيات وأعطوها مهدئات بما يتناسب مع حالتها.
إنني أتذكر يوم الجنازة جيدا؛ لقد اصطحبتني سيدة لطيفة ومريحة جدا لا أعرفها - اسمها جوسي - في رحلة قصيرة. ذهبنا إلى مكان به بعض الأراجيح وما يشبه بيت الدمى الذي كان كبيرا بما يكفي كي أدلف داخله، وتناولنا طعام الغداء الذي احتوى على أطعمتي المفضلة، لكنه لم يكن بالكثير بحيث أصاب بالتخمة. وأصبحت جوسي من الأشخاص الذين توثقت صلتي بهم فيما بعد. لقد أقام أبي معها علاقة صداقة عندما كان في كوبا، وبعد الطلاق أصبحت زوجة أبي؛ أي زوجته الثانية.
تعافت أمي، وكان لزاما عليها ذلك؛ فقد كان هناك برينت الذي يجب عليها أن تعتني به، وكذلك أنا لمعظم الوقت. أعتقد أني أقمت مع أبي وجوسي حالما تستقر هي في المنزل الذي عزمت على الإقامة فيه لبقية حياتها، ولا أتذكر أني أقمت مع برينت حتى كبر بدرجة تمكن فيها من الجلوس في كرسي الطعام العالي خاصته.
عادت أمي إلى ممارسة مهامها القديمة في المسرح، وربما كانت تؤدي نفس العمل الذي كانت تؤديه من قبل؛ وهو مرشدة مقاعد متطوعة، لكن بحلول الوقت الذي التحقت فيه بالمدرسة كانت لديها وظيفة بالفعل، بمرتب ثابت، ومسئوليات على مدار العام؛ لقد أصبحت مديرة المسرح. واستمر المسرح، على الرغم من مروره بالعديد من التقلبات، ولا يزال مستمرا حتى الآن.
لم يكن نيل يؤمن بالجنازات؛ لذا لم يحضر جنازة كارو، ولم ير برينت مطلقا. ولقد ترك خطابا - وقد علمت ذلك فيما بعد - يقول فيه إنه ما دام لا ينوي أن يتصرف كأب، فمن الأحرى أن ينسحب من البداية. ولم أذكر شيئا عنه مطلقا لبرينت؛ لأني كنت أعتقد أن ذلك الأمر سيغضب أمي، وكذلك لأن برينت لم يكن يشبه كثيرا نيل، بل كان في الواقع يشبه أبي بصورة أكبر، لدرجة أنني تساءلت عما حدث وقتما حملت به أمي. ولم يذكر أبي شيئا عن هذا مطلقا ولن يفعل؛ إنه كان يعامل برينت مثلما يعاملني تماما، لكنه كان من ذلك النوع من الرجال الذي كان سيفعل ذلك على أية حال.
لم يرزق هو وجوسي بأي أطفال، لكن في اعتقادي أن ذلك لم يسبب لهما أي ضيق. كانت جوسي هي الوحيدة التي تتحدث عن كارو، لكنها لم تكن تفعل ذلك كثيرا؛ كانت تقول إن أبي لا يحمل أمي مسئولية ما حدث، لكنه قال أيضا إنه لا بد أنه كان شخصا تقليديا عندما أرادت أمي بعض الإثارة في حياتها، وقد كان بحاجة إلى صدمة قوية حتى يفيق، وها قد حدثت. ولا داعي للشعور بالأسى حيالها، فلولا تلك الصدمة ما كان له أن يعثر على جوسي، وأن يحصل الاثنان على ذلك القدر من السعادة التي يعيشان فيها الآن.
كنت أقول له: «أي اثنين؟» لمجرد أن أخفف من حدة الكلام، وكان هو يقول في غضب: «جوسي، جوسي بالطبع.»
لم يكن يمكنني أن أجعل أمي تتذكر أيا من هذه الأوقات، ولم أشأ أن أزعجها بذلك. أعلم أنها قد ذهبت بسيارتها عبر الطريق القصير الذي كنا نعيش فيه، ووجدته قد تغير كثيرا؛ حيث شيدت المنازل العصرية التي تراها الآن فوق الأراضي غير المستغلة، وقد ذكرت هذا بشيء من الاحتقار الذي بعثته تلك المنازل في داخلها. لقد ذهبت أنا بنفسي إلى ذلك المكان، لكني لم أخبر أحدا بهذا؛ كنت أرى أن التقسيم الذي يحدث داخل العائلات هذه الأيام من جراء ذلك لهو خطأ كبير.
حتى المكان الذي توجد به حفرة الحصى، قد شيد فوقه منزل الآن، وسويت الأرض تحته. •••
لدي صديقة الآن تدعى روثان، وهي تصغرني لكني أعتقد أنها أكثر حكمة مني بعض الشيء، أو على الأقل أكثر قدرة على مواجهة حالتي المزاجية المتقلبة، ولولا تشجيعها لي، ما كنت لأتواصل مع نيل ثانية. بالطبع، ولفترة طويلة، لم تكن لدي وسيلة للتواصل معه، كما لم يكن لدي استعداد لذلك، وظل الوضع هكذا لفترة طويلة، حتى راسلني هو أخيرا؛ فقد بعث برسالة قصيرة يعرب فيها عن تهانيه لي بعدما رأى صورتي في مجلة «ألوميني جازيت»، ولا أدري ما الذي جعله يتصفح تلك المجلة. فقد حصلت على إحدى الدرجات العلمية مع مرتبة الشرف، وهي مسألة كانت تعد هامة لكن وسط دائرة محددة، ولم تكن كذلك خارجها.
كان يقطن على بعد خمسين ميلا تقريبا من المكان الذي أعمل فيه بالتدريس، والذي تصادف أيضا أنه كان مكان الجامعة التي كنت أدرس بها، وتساءلت في نفسي: هل كان هناك في ذلك الوقت؟ على مقربة كبيرة مني هكذا؟ هل أصبح أستاذا؟
لم أكن أنوي في البداية أن أرد على رسالته، لكني أخبرت روثان بالأمر، وقالت إنه علي أن أفكر في الرد عليه؛ وهكذا، كانت النتيجة أنني بعثت إليه برسالة إلكترونية، وحددنا موعدا للمقابلة. كان من المفترض أن أقابله في بلدته، في مكان خال من أي إزعاج بمطعم الجامعة، وحدثت نفسي بأنه إذا بدا لي شخصا غير محتمل - ولم أكن أدري تماما ما كنت أعنيه بذلك - فبإمكاني أن أتركه وأمضي.
وجدته أقصر قامة مما كان عليه، وهكذا يبدو لنا البالغون في العادة بعدما نكبر. كان شعره خفيفا، مصففا بعناية فوق رأسه. طلب لي قدحا من الشاي، وكان هو يحتسي قدحا من الشاي أيضا.
ماذا كان يعمل لكسب عيشه؟
قال إنه كان يعطي دروسا للطلبة من أجل تأهيلهم للامتحانات، كما أنه أيضا كان يعاونهم في كتابة المقالات المطلوبة منهم، وبمقدورك أن تقول إنه أحيانا كان يكتب تلك المقالات لهم، وبالطبع كان يأخذ مقابل ذلك. «بمقدوري أن أقول لك إن هذا العمل ليس مربحا على نحو كبير.»
أخبرني أنه كان يعيش في أحد المنازل المتواضعة، أو شبه المتواضعة، وقد كان يروق له. وكان يحصل على بعض الملابس من منظمة جيش الخلاص الخيرية، ولم يكن هذا بالشيء السيئ أيضا بالنسبة إليه. «إن هذا يتناسب مع مبادئي.»
لم أهنئه على أي من هذا، ولكني، حقا، كنت أشك في أنه كان يتوقع مني ذلك. «على أية حال، لا أعتقد أن أسلوبي في الحياة أسلوب مشوق جدا، وأعتقد أنك ربما تريدين أن تعرفي كيف وقع الأمر.»
لم أدر كيف أرد.
قال: «لقد كنت حينها واقعا تحت تأثير المخدرات، وإضافة إلى ذلك لم أكن أستطيع السباحة؛ فلم يكن هناك الكثير من المسابح في المكان الذي نشأت به، وكنت سأغرق أنا الآخر لو حاولت إنقاذها. أهذا ما كنت تبغين معرفته؟»
قلت له إنه في الواقع لم يكن الشخص الذي كنت أتساءل بشأنه.
ثم أضحى ثالث شخص أسأله: «في اعتقادك ماذا كان يدور في ذهن كارو؟»
كانت الإخصائية النفسية قد قالت إنه ليس بمقدورنا أن نعرف ذلك، وأضافت: «من المرجح أنها هي نفسها لم تكن تعرف ما الذي تريده. أهو جذب الانتباه؟ لا أعتقد أنها كانت تريد أن تغرق نفسها. هل كانت محاولة لجذب انتباه الآخرين لمدى سوء حالتها النفسية؟»
وقد قالت روثان: «هل قصدت أن تدفع أمك لفعل ما كانت تريده هي، أم قصدت أن تدفعها لإعادة التفكير في حياتها وأن ترى ضرورة العودة إلى والدك؟»
قال نيل: «هذا لا يهم الآن. ربما اعتقدت أنه يمكنها تحريك أطرافها بنحو أفضل مما قامت به، أو ربما لم تدرك كيف أن حجم ملابس الشتاء الثقيلة التي كانت ترتديها من الممكن أن يتسبب في غرقها، أو ربما لم يكن هناك أحد في وضع يسمح له بمساعدتها.»
قال لي: «لا تضيعي وقتك. إنك تفكرين فيما كان يمكن أن يحدث لو أسرعت وأخبرتنا، أليس كذلك؟ هل تحاولين أن تلقي باللائمة على نفسك؟» قلت له إنني فكرت فيما كان يقوله، لكن الأمر ليس كذلك.
قال: «المهم أن تكوني سعيدة، بغض النظر عن أي شيء. عليك أن تحاولي فقط. إن بمقدورك ذلك، وسيصبح الأمر أخف وطأة؛ فنحن ليس بأيدينا أن نفعل شيئا حيال الظروف. قد لا تعتقدين أن ما حدث خير. تقبلي كل شيء كما هو، وسيتلاشى شعورك بالمأساة، أو قد يقل، على أية حال، وها أنت هنا تشقين طريقك بسلاسة في هذا العالم.»
ثم ودعني وذهب. •••
فهمت ما كان يقصده، وهو حقا الشيء الصحيح الذي ينبغي علي فعله. لكني ما زلت أرى كارو في ذهني وهي تجري صوب الماء وتقذف بنفسها فيه، كما لو أنها حققت انتصارا، وما زلت أنا مشدوهة، بانتظار أن تفسر لي ما حدث، بانتظار دفقة الماء عند وقوعها فيها.
الملاذ
وقع كل هذا في سبعينيات القرن الماضي، بالرغم من أنه في تلك البلدة والبلدات الصغيرة الأخرى المشابهة لها، لم تكن فترة السبعينيات كما نتصورها نحن الآن، أو حتى كما عرفتها أنا في فانكوفر. كان شعر الصبية أطول من المعتاد قبل ذلك، لكنه لم يكن يتدلى على ظهورهم، ولم يبد أن هناك أي قدر غير معتاد من التحرر أو التحدي السافر من جانبهم.
بدأ زوج خالتي في مضايقتي بسبب صلاة مباركة الطعام؛ لأني لم أكن أقوم بها. كنت وقتها في الثالثة عشرة من عمري، وأعيش معه ومع خالتي، وذلك في العام الذي مكث فيه والداي في أفريقيا. إنني لم أحن رأسي مطلقا من قبل أمام أي طبق طعام.
قال العم جاسبر بينما كنت ممسكة بشوكة الطعام في الهواء، وتوقفت عن مضغ البطاطس واللحم اللذين كانا في فمي بالفعل: «بارك لنا يا رب طعامنا هذا ليفيد أجسادنا، وباركنا لنكون في خدمتك.»
قال: «هل تشعرين بالدهشة؟» وذلك بعدما أنهى الصلاة قائلا: «بيسوع. آمين.» كان يريد أن يعرف إذا ما كان والداي يرددان صلاة مختلفة، ربما بعد فروغهما من تناول الطعام.
قلت له: «إنهما لا يرددان أي شيء.»
قال: «ألا يفعلان حقا؟» تفوه بهذه الكلمات باندهاش مصطنع، وأضاف: «إنك بالقطع لا تعنين هذا؟ كيف لأشخاص لا يتلون صلاة مباركة الطعام أن يذهبوا إلى أفريقيا كي يعظوا الوثنيين؟ فكري في هذا.»
بدا أن والدي لم يقابلا في غانا - حيث كانا يعملان كمدرسين - أيا من الوثنيين؛ فالمسيحية منتشرة بنحو باعث على الدهشة في كل مكان حولهم، ويتجلى ذلك حتى في اللافتات الملصقة على ظهور الحافلات.
قلت، ولسبب ما استثنيت نفسي: «إن والدي من الموحدين.»
هز العم جاسبر رأسه وطلب مني أن أفسر له معنى الكلمة؛ أليسا مؤمنين برب موسى؟ أو برب إبراهيم؟ هما بالقطع ليسا من اليهود ولا المسلمين، أليس كذلك؟ «في الغالب، كل شخص له فكرته الخاصة به عن الإله.» قلت ذلك ربما بنحو أكثر حزما مما توقع. كان لدي أخوان في الجامعة، لكن يبدو أنهما لن يصبحا من الموحدين؛ لذا كنت معتادة على المناقشات الحادة الدينية - وكذلك تلك التي تحتوي على أفكار إلحادية - حول مائدة العشاء.
وأضفت قائلة: «لكنهما يؤمنان بفعل الخير، وبأن يحيا المرء حياة صالحة.»
لقد أخطأت عندما قلت هذا؛ فلم يرتسم فقط على وجه زوج خالتي تعبير ينم عن الارتياب - حيث رفع حاجبيه وأومأ برأسه في تعجب - وإنما بدت الكلمات التي خرجت من فمي غريبة حتى بالنسبة إلي أنا أيضا؛ خلتها مجرد كلمات رنانة مفرغة من المضمون.
لم أكن راضية عن فكرة ذهاب والدي إلى أفريقيا؛ فقد كنت معترضة على إلقائي هكذا إلى خالتي وزوجها، وذلك على حد وصفي للأمر، بل إنني ربما كنت سأخبر والدي الشديدي الصبر، أن أعمالهما الصالحة ما هي إلا درب من الحماقة؛ ففي منزلنا كان لنا مطلق الحرية في أن نعبر عن أنفسنا كما يحلو لنا. هذا بالرغم من أنني لا أعتقد أن والدي أنفسهما كان سيتحدثان أبدا عن «الحياة الصالحة»، أو «فعل الخير».
شعر زوج خالتي بالرضا للحظة ، وقال إنه يجب علينا أن نتوقف عن الحديث في هذا الموضوع؛ لأنه هو ذاته بحاجة إلى أن يعود إلى عيادته ليمارس أعماله الصالحة بحلول الساعة الواحدة.
أعتقد أن خالتي أمسكت حينها بشوكتها وشرعت في الأكل. لقد كانت ستنتظر حتى تنتهي تلك المشاحنة؛ قد يكون ذلك بدافع العادة، أكثر منه بدافع الانزعاج من وقاحتي. لقد كانت معتادة على الانتظار حتى تتأكد من أن زوجها قد انتهى من كل ما يبغي قوله، وحتى لو تحدثت إليها بطريقة مباشرة، كانت تنتظر وتنظر إليه لترى إن كان يريد أن يجيب هو نيابة عنها. وكان دائما كل ما تتفوه به مبهجا، وكانت تبتسم بمجرد أن تعرف أنه لا بأس من ابتسامها؛ لذا كان من الصعب أن يعتقد المرء أنها شخصية مقهورة. وكان من الصعب أيضا الاعتقاد بأنها أخت أمي؛ لأنها كانت تبدو أصغر سنا، وأكثر نضارة وهنداما، إضافة إلى أنها كانت دوما توزع تلك الابتسامة الوضاءة.
أما أمي فكانت تسبق أبي في الحديث إن كان لديها شيء تريد أن تفصح عنه حقا، وكان هذا ما يحدث في العادة. وكان أخواي - حتى ذاك الذي كان يقول إنه يفكر في اعتناق الإسلام كي يؤدب النساء - ينصتان إليها دائما معتبرين إياها مكافئة لهما.
كانت أمي تقول في محاولة منها لأن تكون محايدة: «إن حياة دون مكرسة لخدمة زوجها.» أو قد تقول في غلظة: «إن حياتها تدور في فلك هذا الرجل.»
كان هذا شيئا قد قالته في ذلك الوقت، ولم يكن يقصد من ورائه دائما أي نوع من الإساءة، لكني لم أر امرأة تبدو بهذا القدر من الصدق كالخالة دون.
كانت أمي تقول إن الأمر كان سيختلف تماما، بالطبع، لو رزقا بأطفال.
لنتخيل هذا؛ أطفال يعترضون سبيل العم جاسبر، ويسعون بقوة من أجل الحصول على جزء من اهتمام أمهم، وتراهم يمرضون، ويتجهمون، ويشيعون الفوضى في المنزل، ويرغبون في تناول طعام لا يفضله هو.
هذا درب من المستحيل؛ فالمنزل ملكه هو فقط، وقائمة الطعام هو الذي يختارها، وكذلك برامج التليفزيون والراديو. وحتى لو كان في عيادته بالجوار، أو في زيارة منزلية، يجب انتظار موافقته قبل القيام بأي شيء.
لكن شيئا فشيئا أدركت أن هذا النظام يمكن أن يكون نظاما مريحا للغاية؛ فها هي الملاعق والشوكات الفضية الخالصة اللامعة، والأرضيات الداكنة اللون المتلألئة، والأغطية الكتانية الباعثة على الراحة؛ كانت كل تلك الأشياء المنزلية الرائعة تشرف عليها خالتي، وتعمل برنيس الخادمة على نظافتها والحفاظ عليها. كانت برنيس تقوم بكل أعمال الطهي وكي مناشف المائدة؛ كان كل الأطباء الآخرين في البلدة يرسلون الأغطية الكتانية خاصتهم إلى المغسلة الصينية، بينما كانت برنيس والخالة دون نفسها تعلقان أغطيتنا على حبل الغسيل، وهكذا تصبح ذات لون أبيض زاه عند تعرضها للشمس، وعطرة من أثر الريح، وكذا تجد كل الملاءات وما شابهها فائقة النظافة وذات رائحة جميلة. كان زوج خالتي يرى أن الآسيويين الصفر يضعون الكثير من النشا عند غسلهم تلك الأشياء.
وكانت خالتي تقول بصوت هادئ يحمل بعض المزاح، كما لو أنه كان يجب عليها أن تعتذر لكل من زوجها ومن يعملون في المغسلة: «إن اسمهم الصينيون.»
قال زوج خالتي بصوت عال: «بل الآسيويون الصفر.»
كانت برنيس هي الوحيدة التي كانت تردد تلك الكلمة بصورة تلقائية.
وبالتدريج أصبحت أقل ولاء لمنزلي، بكل ما يحويه من جدية فكرية وفوضى فعلية. بالطبع، كانت المحافظة على بيت أو ملاذ كهذا تستنزف كل طاقة أي امرأة؛ فلا يمكنك أن تفعلي هذا وأنت تكتبين بيانات رسمية عن الفكر التوحيدي، أو وأنت في طريقك للهروب إلى أفريقيا. (كنت أقول في بادئ الأمر: «إن والدي قد ذهبا «للعمل» في أفريقيا.» وذلك في كل مرة كان يتحدث فيها أي شخص في ذلك المنزل عن هروبهما، ثم سئمت بعد ذلك من تصحيح الأمر.)
كانت الكلمة المهمة هنا هي الملاذ. «إن أهم وظيفة لأي امرأة هي أن تكون بمنزلة الملاذ لزوجها.»
هل قالت الخالة دون هذا بالفعل؟ لا أعتقد هذا؛ فهي تتجنب التصريح بمثل هذه العبارات. ربما قرأتها في واحدة من مجلات الإدارة المنزلية الموجودة في هذا المنزل، والتي كانت ستصيب أمي بالغثيان. •••
في البداية، أخذت أستكشف البلدة، وقد عثرت على دراجة قديمة ثقيلة الوزن في الجزء الخلفي من الجراج، وأخرجتها كي أقودها دون التفكير في الحصول على إذن بذلك. وبينما كنت أهبط أحد المنحدرات في طريق مفروش بالحصب حديثا فوق الميناء، اختل توازني؛ أصبت بخدوش شديدة في إحدى ركبتي، وكان علي أن أذهب إلى زوج خالتي في عيادته الملحقة بالمنزل. تعامل بخبرة مع الجرح، وكان مركزا بشدة في عمله وجادا مع بعض الرفق، ولكن دون إظهار أي مشاعر، ولا أي نوع من المزاح. قال إنه ليس بمقدوره أن يتذكر من أين جاءت تلك الدراجة؛ إنها بمنزلة وحش قديم غادر، وإنني إذا ما كنت أحب قيادة الدراجات فإنه يمكنني التفكير في إحضار دراجة ملائمة لي. وعندما تعودت أكثر على مدرستي الجديدة، والقواعد المتعلقة بما تفعله الفتيات بعدما يصلن إلى سن المراهقة، أدركت أنه كان غير مسموح لنا بقيادة الدراجات؛ لذا لم أحصل على واحدة. لكن ما أثار دهشتي هو أن زوج خالتي نفسه لم يثر أي مسألة تتعلق بقواعد اللياقة، أو ما ينبغي أو لا ينبغي أن تفعله الفتيات؛ فقد بدا أنه نسي في عيادته أنني شخص بحاجة إلى من يقومني في العديد من الأمور، أو لمن يحثني، وخاصة على مائدة العشاء، على أن أحذو حذو الخالة دون. «هل قدت الدراجة إلى هناك هكذا بمفردك؟» هذا ما قالته عندما سمعت بالأمر، وأضافت: «عم كنت تبحثين؟ لا عليك، فسرعان ما سيكون لديك بعض الأصدقاء.»
كانت محقة بشأن اكتسابي بعض الأصدقاء، وبشأن الطريقة التي يمكن أن تحد من الأشياء التي كان يمكنني فعلها.
لم يكن العم جاسبر مجرد طبيب، لكنه كان طبيبا ذا مكانة كبيرة؛ فقد كان هو من وقف وراء بناء مستشفى البلدة، رافضا أن يطلق اسمه عليه. لقد نشأ فقيرا، لكنه كان ذكيا، وقد درس بالمدرسة حتى يتمكن من تحمل تكاليف دراسته للطب. وقد أجرى عمليات ولادة، وعمليات استئصال للزائدة الدودية في مطابخ المنازل الريفية، بعدما كان يشق الطريق بسيارته عبر العواصف الثلجية، وحتى في فترة الخمسينيات والستينيات، كانت تقع مثل هذه الحالات. كان ينظر إليه على أنه شخص لا يستسلم أبدا، وكان يعالج حالات تسمم الدم والالتهاب الرئوي، وينجح في إنقاذ المرضى في الأيام التي لم تكن قد عرفت فيها العقاقير الجديدة بعد.
ومع هذا، كان يبدو هادئا في عمله مقارنة بأسلوبه في المنزل؛ بدا الأمر كما لو أن المنزل في حاجة إلى مراقبة مستمرة، أما الإشراف في العيادة فلا ضرورة له بالرغم من أن المرء قد يعتقد أن العكس تماما هو المطلوب. حتى الممرضة التي تعمل هناك لم يكن يوجد في تعاملها معه أي شكل من أشكال الخنوع؛ فهي لم تكن كالخالة دون. أطلت برأسها من باب الحجرة حيث كان يعالج جروح ركبتي، وقالت إنها ستغادر إلى منزلها مبكرا. «عليك أن تجيب على مكالمات الهاتف، دكتور كاسل. تذكر أني أخبرتك.»
قال: «حسنا.»
كانت بالطبع متقدمة في العمر، ربما تخطت الخمسين، وامرأة في مثل هذا العمر يمكن أن تحظى بقدر من السلطة.
لكني لا يمكنني تخيل أن الخالة دون يمكنها أن تحصل أبدا على هذا القدر. كانت لا تتغير في شبابها الزاهي الذي يحدوه الخوف. وفي أيام إقامتي الأولى معهما، عندما كنت أعتقد أن لدي الحق في التجول في أي مكان، صعدت إلى غرفة نوم خالتي وزوجها كي ألقي نظرة على صورة لها موضوعة على طاولة الفراش التي بجواره.
كانت لا تزال تتمتع بتلك المنحنيات الجذابة في جسدها، والشعر المموج ذي اللون الداكن، اللذين كانت تظهر بهما في تلك الصورة، لكنها كانت تضع فوق رأسها قبعة حمراء غريبة الشكل تخفي جزءا من ذلك الشعر، وترتدي كيبا ذا لون أرجواني. وعندما نزلت للطابق السفلي، سألتها عما كانت ترتديه في تلك الصورة، فردت: «ماذا تقصدين؟ أوه! إنه لباس طالبات التمريض.» «هل كنت ممرضة؟»
قالت: «أوه، لا.» ثم ضحكت كما لو أن ذلك يحمل قدرا من الجرأة الشديدة. ثم أضافت: «لم أكمل دراستي في هذا المجال.» «هل هذا هو ما جعلك تلتقين بالعم جاسبر؟» «أوه، لا. لقد كان يمارس الطب قبل ذلك بسنوات عديدة، لقد التقيت به عندما كانت زائدتي الدودية على وشك الانفجار. لقد كنت أقيم عند إحدى صديقاتي - أعني عند عائلة إحدى صديقاتي هنا - وشعرت بآلام شديدة لكني لم أدر كنهها، وشخص هو الحالة وأستأصل زائدتي الدودية.» أحمرت وجنتاها عند هذا الجزء أكثر من المعتاد، وقالت إنه ربما علي ألا أصعد إلى غرفة النوم إلا عندما أحصل على إذن بذلك، لكني فهمت أن هذا كان يعني أنه ليس من حقي ذلك مطلقا. «هل ما زالت صديقتك هذه تقيم هنا؟» «أوه، يجب أن تعرفي أن المرء لا يحتفظ بصداقاته بمجرد أن يتزوج.»
وتقريبا في نفس الوقت الذي علمت فيه هذه الحقائق، اكتشفت أيضا أن العم جاسبر لديه عائلة، وذلك بخلاف ما كنت أعتقد من قبل؛ فقد كانت له أخت تحقق هي الأخرى نجاحات كبيرة، على الأقل من وجهة نظري؛ فقد كانت عازفة؛ عازفة كمان. وكان اسمها مونا، وربما هذا هو اسم الشهرة، أما اسمها الحقيقي الذي عمدت به فهو مود، كان اسمها مونا كاسل. المرة الأولى التي علمت فيها بوجودها كانت عندما أقمت في البلدة لنحو نصف العام الدراسي، ولمحت في طريق عودتي من المدرسة إلى المنزل ذات يوم ملصقا من الملصقات الموضوعة على نافذة مكتب الجريدة، يعلن عن إقامة حفل موسيقي في مبنى البلدية بعد أسبوعين، وسيحيي الحفل ثلاثة عازفين من تورونتو. كانت مونا كاسل في الإعلان هي المرأة الطويلة القامة ذات الشعر الشائب، وكانت تمسك بيدها آلة كمان، وعندما عدت إلى المنزل أخبرت الخالة دون بتشابه الأسماء، ولكنها قالت: «أوه، نعم. إنها أخت زوجي.»
ثم أردفت قائلة: «لكن لا تذكري شيئا عن هذا ثانية.»
ثم شعرت أن عليها أن تفصح عن المزيد. «أتعلمين أن زوجي لا يروق له مثل هذا النوع من الموسيقى؛ الموسيقى السيمفونية؟»
ثم أضافت المزيد.
قالت إن أخته تكبره ببضع سنوات، وقد حدث شيء ما حينما كانا صغيرين؛ فقد رأى بعض الأقارب أنه لا بد من أخذ الفتاة ومنحها فرصة أفضل لأنها تتمتع بموهبة موسيقية كبيرة؛ لذا فقد شبت بطريقة مختلفة، ولم تكن ثمة صفات مشتركة بينها وبين أخيها. وقد كان هذا بالفعل هو كل ما تعرفه عنها، وحتى هذا القدر الضئيل الذي حكته لي خالتي من القصة، ما كان العم جاسبر ليرضى بأن تقصه على مسامعي.
قلت: «هل هو لا يحب حقا هذا النوع من الموسيقى؟ إذن ما نوع الموسيقى الذي يفضله؟» «يمكنك القول إنه يفضل الأشكال الأكثر قدما من الموسيقى، لكن بالقطع ليس الموسيقى الكلاسيكية.» «هل يحب فرقة البيتلز؟» «أوه يا إلهي، بالطبع لا.» «ولا موسيقى لورنس ويلك؟» «لا يجوز لنا أن نناقش هذا، أليس كذلك؟ لم يكن ينبغي علي الخوض في هذا.»
تجاهلت ما قالته. «إذن ماذا تفضلين أنت؟» «إنني أحب كل أشكال الموسيقى.» «لكن يجب أن تفضلي بعض الأشكال على الأشكال الأخرى.»
لم تقل شيئا واكتفت بواحدة من ابتساماتها الصغيرة. كانت ابتسامة يشوبها بعض التوتر، وكانت تشبه تلك الابتسامة التي تمنحها، على سبيل المثال، للعم جاسبر وهي تسأله عن رأيه في طعام العشاء، وإن كانت هذه الابتسامة تنم عن قلق أكبر. وكان في الغالب تقريبا يعبر لها عن استحسانه، لكن مع إبداء بعض الملاحظات؛ فكان يقول: جيد، لكنه حار بعض الشيء، أو تنقصه بعض التوابل، وربما كان يقول إنه يحتاج إلى مزيد من النضج، أو إنها قد تركته ينضج لفترة طويلة. وذات مرة قال: «إنه لا يروق لي.» ورفض أن يفصح عن السبب، وتلاشت ابتسامتها ومطت شفتيها وسيطرت على أعصابها بنحو بطولي.
ماذا كان يحتوي هذا العشاء؟ أعتقد أنه كان كاري، لكن ربما اعتقدت كذلك لأن والدي لم يكن يفضله، بالرغم من أنه لم تكن تصدر عنه أي شكوى عندما كان يطهى. وقد نهض زوج خالتي وصنع لنفسه سندوتشا من زبدة الفول السوداني، وتأكيده على رأيه هو ما كان يرقى لمستوى الشكوى. ولم تكن خالتي تهدف إلى إثارة استفزازه من خلال تقديم أي نوع من الطعام، وربما كان هناك شيء غير مألوف قليلا في إحدى المجلات وبدا بمثابة وجبة جيدة. وحسبما أتذكر، تناول العم جاسبر وجبته عن آخرها قبل أن يصدر حكمه؛ لذا فما كان يحركه ليس هو الشعور بالجوع، لكنها الحاجة إلى التفوه بعبارة تنم بصورة تامة وقوية عن عدم استحسانه لنوع الطعام المقدم له.
يخيل إلي الآن أنه ربما يكون قد حدث شيء خطأ بالمستشفى في ذلك اليوم؛ فربما توفي أحدهم، ولم يكن من المفترض أن يحدث ذلك، وربما لم تكن المشكلة تكمن في الطعام على الإطلاق، لكني لا أعتقد أن ذلك قد خطر على ذهن الخالة دون، وإن حدث ذلك بالفعل، فإنها لم تفصح عن شكوكها؛ فقد كانت آسفة بشدة على ما حدث. •••
في ذلك الوقت، كانت الخالة دون تواجه مشكلة أخرى، ولكني لم أدركها إلا فيما بعد؛ فقد كانت لديها مشكلة مع الزوجين اللذين يقطنان في المنزل المجاور. لقد انتقلا إلى منزلهما الجديد في نفس الوقت الذي قدمت فيه أنا تقريبا إلى منزل خالتي. كان الزوج هو المفتش على مدرسة المقاطعة، وكانت الزوجة معلمة موسيقى، وقد كانا تقريبا في نفس عمر الخالة دون، وكان يصغران العم جاسبر. ولم يكن لديهما أطفال أيضا، مما جعلهما يتفرغان للحياة الاجتماعية. كما أنهما كانا في مرحلة التعرف على مجتمع جديد يبدو فيه كل شيء مشرقا وبسيطا؛ ومن هذا المنطلق، فقد دعوا الخالة دون والعم جاسبر إلى منزلهما لتناول بعض المشروبات. كانت الحياة الاجتماعية لخالتي وزوجها محدودة للغاية، ومعروف في المدينة أنها كذلك، حتى إن خالتي لم تعتد أن ترد بالرفض لأي دعوة من قبل؛ وهكذا، وجدا أنفسهما يزورانهما، ويتناولان المشروبات معهما ويتجاذبان أطراف الحديث، وأتخيل أن العم جاسبر قد راقت له تلك المناسبة، على الرغم من أنه لم يغفر لخالتي فداحة جرمها بقبول دعوة هذه الزيارة.
والآن قد أصبحت خالتي في مأزق؛ فقد أدركت أنه حينما يدعوك أحد لمنزله وتذهب بالفعل، فمن المفترض أن ترد أنت أيضا له الدعوة؛ فتقدم له المشروبات وكذلك القهوة في المقابل، وليس ثمة داع لإعداد طعام لهم. لكن حتى ذلك القدر الضئيل المطلوب لم تدر كيف تقدمه. لم يجد زوج خالتي ما يعيب الجيران، لكنه ببساطة لا يحبذ استضافة شخص غريب في منزله، تحت أي ظرف.
ثم لاحت إمكانية لحل تلك المعضلة من خلال الأخبار التي أحضرتها إليها؛ فالموسيقيون الثلاثة الذين كانوا سيأتون من تورونتو - والذين من بينهم مونا بالطبع - كانوا سيقدمون عرضهم في مبنى البلدية لليلة واحدة فقط، وتصادف أنها تلك الليلة التي سيكون فيها العم جاسبر خارج المنزل ويضطر للبقاء خارجه لوقت متأخر بعض الشيء؛ فهي ليلة الاجتماع والعشاء السنويين العامين لأطباء المقاطعة. وهي ليست بوليمة، وكانت الزوجات غير مدعوات.
كان الجاران ينويان حضور الحفل الموسيقي، وكان لزاما عليهما هذا، إذا ما وضعنا في الاعتبار مهنة الزوجة. لكنهما وافقا على رد الزيارة بمجرد أن ينتهي الحفل الموسيقي، لتناول القهوة والأطعمة الخفيفة، وأن يلتقوا - وهو الأمر الذي جاوزت به خالتي حدودها - الموسيقيين الثلاثة الذين سيأتون للزيارة أيضا ويمكثون لبضع دقائق.
لا أدري القدر الذي أفصحت عنه خالتي بشأن علاقتها بمونا كاسل. وإن كان لديها القليل من حسن التقدير، فمن المفترض ألا تكون قد أفصحت عن شيء. وحسن التقدير هو شيء تتمتع بالكثير منه معظم الوقت، وأنا على ثقة من أنها قد أوضحت بالفعل أن زوجها لن يتمكن من الحضور في تلك الليلة، لكنها ما كانت لتتجاوز حدود المنطق وتخبرهما بأنه ينبغي أن يخفى أمر ذلك اللقاء عنه. وماذا عن إخفائه عن برنيس التي تعود لمنزلها في وقت العشاء، وبالقطع ستشتم رائحة تلك الترتيبات؟ لا أدري. والأهم من هذا كله كيف استطاعت خالتي توجيه الدعوة للعازفين؟ هل كانت على اتصال بمونا طوال الوقت؟ لا ينبغي أن أفكر على هذا النحو؛ فليس من شيمها بالقطع أن تخدع زوجها هكذا على مدى طويل.
أتخيل أنها قد تصرفت بتهور وكتبت رسالة وذهبت بها إلى الفندق الذي كان يقيم فيه أفراد الفرقة؛ فلم يكن لديها عنوانهم في تورونتو.
وحتى عندما دخلت الفندق، لا بد أنها تساءلت عمن يمكن أن يكون قد لمحها، وتضرعت للرب بألا تصل الرسالة إلى المدير، الذي كان يعرف زوجها، لكن الموظفة الجديدة، التي كانت سيدة شابة، كانت غريبة بعض الشيء عن البلدة، وربما حتى لا تعرف أنها زوجة الطبيب.
وربما تكون قد ألمحت للعازفين أنها لا تتوقع أن يمكثوا إلا لفترة قليلة؛ حيث إن الحفلات الموسيقية متعبة للغاية، ويكون على العازفين فيها أن يشقوا طريقهم إلى بلدة أخرى مبكرا في صباح اليوم التالي.
لكن لماذا تحملت تلك المخاطرة؟ لماذا لم تستقبل الجارين فقط وترحب بهما بنفسها؟ من الصعب التكهن بذلك. ربما شعرت بأن ليس بمقدورها إدارة الحوار بمفردها؛ ربما أرادت أن تظهر لمحة من الصداقة أو القبول لأخت زوجها، التي لم تلتق بها مطلقا من قبل على حد علمي.
لا بد أنها كانت تشعر بالارتباك بسبب تآمرها ذلك، فضلا عن قلقها الشديد وتضرعها بأن يسير كل شيء كما تريده، وأن يحالفها الحظ خلال الأيام السابقة على اللقاء، عندما كانت هناك خطورة بأن يكتشف العم جاسبر الأمر عن طريق الصدفة؛ فقد يلتقي بمعلمة الموسيقى، على سبيل المثال، في الشارع، وتشرع في التعبير له بحماس عن شكرها وترقبها للقاء. •••
لم يكن العازفون يشعرون بإرهاق شديد بعد انتهاء الحفلة الموسيقية، كما قد يعتقد المرء، ولم تثبط همتهم بسبب صغر عدد الجمهور في مسرح مبنى البلدية، وهو الأمر الذي ربما لم يمثل مفاجأة؛ فحماس الجارين، والدفء الذي كان يشع من غرفة المعيشة (حيث كان مبنى البلدية شديد البرودة)، وكذلك توهج الستائر القطيفة ذات اللون الأحمر الفاتح، التي كانت تبدو ذات لون كستنائي باهت أثناء النهار لكنها كانت باعثة على البهجة بعد أن يحل الظلام؛ كل تلك الأشياء كانت كفيلة برفع معنوياتهم؛ فالوحشة التي لمسوها بالخارج كانت تتناقض مع ما شعروا به في الداخل، وقد أدت القهوة التي قدمت إلى أن يسري الدفء في أوصال أولئك الغرباء الذين أعياهم الطقس السيئ، فضلا عن خمر الشيري الذي أعقب القهوة؛ فقد قدم خمر الشيري أو البورت في كئوس من الكريستال ذات أحجام وأشكال ملائمة، بجانب قطع الكعك الصغيرة المزينة بشرائح جوز الهند، والبسكويت الناعم الذي على شكل معين أو هلال، وبسكويت ويفر الشوكولاتة. إنني لم أر مثل هذه الأشكال من قبل؛ فأبواي كانا يقيمان حفلات يتناول فيها الضيوف الفلفل الحار في أواني من الفخار.
ارتدت الخالة دون ثوبا ذا تصميم بسيط مصنوع من قماش الكريب باللون القرنفلي المائل للون الأصفر، وكان من ذلك النوع من الثياب الذي يمكن أن ترتديه امرأة أكبر سنا منها ويجعلها وقورة في ثوب لا يخلو من زينة، لكن خالتي كانت تبدو وكأنها تشارك في احتفال فاضح بعض الشيء. وكانت جارتها متأنقة هي الأخرى، وربما بصورة أكثر مما تتطلبها المناسبة. أما الرجل القصير الممتلئ الذي كان يعزف على آلة التشيلو، فقد ارتدى بذلة سوداء، ورابطة عنق فراشية الشكل أنقذته من أن يظهر بمظهر متعهد دفن الموتى، وارتدت عازفة البيانو، التي كانت زوجته، ثوبا أسود اللون به الكثير من الكشكشة التي لا تلائم قوامها العريض. لكن مونا كاسل كانت مشرقة كالقمر بفستانها الانسيابي ذي الحلى الفضية؛ كانت ذات قوام ضخم، وأنف كبير كأنف أخيها.
لا بد أن الخالة دون قد أعدت البيانو، وإلا لما التفوا حوله هكذا. (وإذا ما بدا أن وجود البيانو في المنزل شيء غريب، مع الوضع في الاعتبار آراء عمي عن الموسيقى التي سرعان ما سيكشف عنها، فلا يسعني إلا أن أقول إن كل المنازل التي من نفس طراز منزل خالتي، وتنتمي لنفس الفترة التي كان موجودا فيها؛ كان يجب أن تضم واحدا.)
طلبت جارتنا أن تستمع إلى مقطوعة «موسيقى الليل الصغيرة» لموتسارت، وقد أيدتها في طلبها كنوع من التباهي؛ والواقع أنني لم أكن أعرف شيئا عن المقطوعة الموسيقية سوى عنوانها فقط، وذلك من خلال دراستي للغة الألمانية في مدرستي القديمة بالمدينة.
ثم طلب الزوج أن يستمع لمقطوعة ما، وبالفعل عزفه العازفون، وعندما انتهوا طلب الصفح من الخالة دون بسبب وقاحته لأنه أسرع بطلب عزف مقطوعته المفضلة قبل أن يتسنى للمضيفة أن تطلب اللحن الذي تفضل سماعه.
قالت الخالة دون إن عليه ألا ينزعج بشأنها، فإنه يروق لها سماع كل شيء، ثم غرقت في موجة من الخجل الشديد. ولا أدري إذا ما كانت تهتم بالموسيقى على الإطلاق، لكن بدا الأمر بالقطع كما لو أنها تشعر بالإثارة بشأن شيء ما؛ ربما لأنها مسئولة شخصيا عن هذا اللحظات، عن تلك البهجة المنتشرة في المكان.
هل يمكن أن تكون قد نسيت، لكن كيف يتسنى لها هذا؟ ينتهي اجتماع أطباء المقاطعة، العشاء السنوي، وكذلك انتخاب المسئولين في الغالب بحلول العاشرة والنصف، وقد أضحت الآن الحادية عشرة مساء.
لقد فات الأوان، لقد فات الأوان. ولاحظ كلانا تأخر الوقت. •••
إن الباب الخارجي الحاجز كان يفتح آنئذ، ثم الباب المؤدي إلى البهو الأمامي، ودون أن يتوقف العم جاسبر هناك كعادته كي يخلع حذاءه العالي الرقبة، أو معطفه الثقيل أو وشاحه، دلف بخطى واسعة إلى غرفة المعيشة.
لم يتوقف العازفون الذين كانوا في منتصف عزفهم لإحدى القطع الموسيقية، وحيا الجاران زوج خالتي بابتهاج لكن بصوت خفيض مراعاة للموسيقى التي كانت تعزف. وقد بدا بضعف حجمه الحقيقي بمعطفه الذي فك أزراره، ووشاحه الذي حله، وبحذائه العالي الرقبة الذي كان لا يزال يرتديه. حدق بغضب، لكن لم تكن نظراته مصوبة نحو شخص بعينه، ولا حتى نحو زوجته.
ولم تكن هي تنظر باتجاهه، وقد شرعت في رفع الأطباق من المائدة التي بجوارها واضعة كل طبق فوق الآخر، ولم تلحظ حتى وجود بقايا الكعك التي تفتتت بدورها عند وضع الأطباق بعضها فوق بعض.
وبخطوات ليست بسريعة أو وئيدة، سار عبر غرفة المعيشة المزدوجة، ومنها إلى غرفة الطعام، ومر عبر الباب الدوار إلى المطبخ.
كانت عازفة البيانو تجلس ويدها ساكنة فوق مفاتيح البيانو، وقد توقف عازف التشيلو عن عزفه، أما عازفة الكمان فقد استمرت في العزف بمفردها؛ ولا أدري حتى الآن إن كانت تلك طريقة عزف المقطوعة، أم أنها كانت تهزأ به عن عمد. لم ترفع بصرها - بقدر ما أستطيع أن أتذكر - لمواجهة ذلك الرجل المتجهم، واهتز رأسها الضخم، الذي كان يكسوه الشعر الأبيض الذي يشبه شعره، لكنه كان أكثر جفافا وتلفا بفعل الطقس السيئ بعض الشيء، لكن ربما كانت تهتز طوال الوقت من قبل.
عاد وهو يحمل في يده طبقا مليئا بقطع لحم الخنزير وحبات الفاصوليا. لا بد أنه فتح لتوه إحدى عبوات الطعام المعلب وأفرغ محتوياتها باردة في الطبق. لم يأبه بخلع معطفه الثقيل، وشرع في تناول الطعام كما لو كان يجلس بمفرده ويشعر بالجوع، وظل كما هو لا يتطلع إلى أحد وإنما كان يحدث ضجيجا بشوكة الطعام. قد تعتقد أنهم لم يقدموا ولو القليل من الطعام في الاجتماع والعشاء السنويين لأطباء المقاطعة.
لم أره يأكل على هذا النحو مطلقا من قبل؛ فسلوكياته على المائدة كانت دوما تحمل بعض الغطرسة، لكنها كانت مهذبة.
انتهت المقطوعة التي كانت أخته تعزفها، ربما بعد أن عزفت بالكامل، وقد انتهت قبل إحضار العم جاسبر لحم الخنزير والفاصوليا بقليل. نهض الجاران واتجها نحو البهو الأمامي وارتديا ملابس الخروج وأومآ برأسيهما مرة واحدة تعبيرا عن وافر امتنانهما، وذلك بعد أن تملكهما اليأس من البقاء.
والآن شرع العازفون في المغادرة لكن دون عجالة؛ فعليهم حزم الآلات الموسيقية أولا بنحو مناسب، حيث لا يمكن أن تدس بنحو عشوائي فحسب في حقائبها. لقد رتب العازفون أشياءهم بطريقتهم التي لا بد أنها المعتادة وبصورة منظمة، ثم رحلوا هم أيضا بعد ذلك. لا يمكنني تذكر شيء آخر مما قيل بعد ذلك، وما إذا كانت الخالة دون قد استجمعت شتات نفسها كي تعبر عن شكرها لهم، أو تتبعهم حتى باب المنزل؛ فلم يكن بإمكاني أن أعير ذلك اهتماما لأن العم جاسبر قد شرع في الحديث بصوت عال جدا، والشخص الذي وجه إليه كلامه هو أنا. أعتقد أنني أتذكر أن عازفة الكمان صوبت إليه نظرها حينما شرع في الحديث، لكنه تجاهلها تماما أو ربما لم يرها من الأساس. لم تكن نظرة تنم عن الغضب كما يتوقع المرء، أو حتى توحي بالدهشة؛ لقد كانت متعبة بشدة فحسب، وكان وجهها باهتا بصورة ربما لا يتخيلها المرء.
قال العم جاسبر موجها حديثه نحوي كما لو أنه لا يوجد غيري بالمكان: «والآن أخبريني: هل يستمتع والداك بمثل هذه الأشياء؟ أعني، هذا النوع من الموسيقى؟ الحفلات الموسيقية وما شابهها؟ هل دفعا نقودا من قبل من أجل الجلوس لساعتين وهم يتململان من التعب في مقعديهما من أجل الاستماع لشيء لن يتذكراه بعد انقضاء نصف يوم فقط؟ هل يدفعان النقود هكذا ببساطة لكي يخدعا على هذا النحو؟ هل تعرفين إن كانا يفعلان ذلك أم لا؟»
أجبت بالنفي، وكانت هذه هي الحقيقة؛ فلم أرهما يذهبان إلى حفلة موسيقية من قبل، بالرغم من أنهما كانا يحبان الحفلات الموسيقية بوجه عام. «أرأيت؟ إنهما يتحليان بقدر كبير من التعقل؛ الكثير من التعقل الذي يمنعهما من الانضمام إلى كل هؤلاء الأشخاص الذين يحدثون كل ذلك الهرج والتصفيق، ويستمرون في تلك الحماقة كما لو أن الأمر من إحدى عجائب العالم، هل تعرفين تلك النوعية من الأشخاص التي أعنيها؟ إنهم كاذبون، مجرد كومة من روث الخيول؛ إنهم يفعلون ذلك على أمل أن يبدوا من أبناء الطبقة العليا، أو على الأرجح أن يجعلوا زوجاتهم يظهرن بمظهر من ينتمين للطبقة العليا. تذكري ذلك عندما تخرجين إلى العالم. اتفقنا؟»
وافقته في ذلك. إنني لم أشعر بالدهشة على الإطلاق حيال ما قاله؛ إن الكثير من الأشخاص كانوا يفكرون على هذا النحو، وبخاصة الرجال؛ فهناك الكثير من الأشياء التي يبغضها الرجال، أو التي ليس لها أي فائدة، كما كانوا يقولون. وهذا شيء صحيح تماما؛ فهم لا يرون طائلا من ورائها؛ ومن ثم فهم يكرهونها. وربما كان ذلك هو نفس شعوري تجاه علم الجبر؛ فأنا أشك بشدة في أنه سيكون له أي استخدام بالنسبة إلي.
لكني لم أرغب في تجاوز الحدود بالرغبة في أن يمحى هذا العلم من الوجود تماما من أجل ذلك السبب. •••
عندما هبطت للأسفل في الصباح، كان العم جاسبر قد غادر المنزل بالفعل، وكانت برنيس تنظف الأطباق في المطبخ، والخالة دون تضع الكئوس الكريستالية في الخزانة المخصصة للأواني الخزفية. ابتسمت لي لكن لم تكن يداها ثابتتين تماما؛ لذا اصطكت الأكواب بعضها ببعض قليلا محدثة صوتا تحذيريا.
قالت: «إن منزل الرجل هو قلعته الحصينة.»
قلت لها كي أروح عنها: «هذه تورية، إنك تقصدين العم كاسل (في إشارة إلى النطق المتشابه لاسمه ونطق المقابل الإنجليزي لكلمة «قلعة» في العبارة السابقة).»
ابتسمت ثانية، لكني أعتقد أنها لم تكن تعرف حتى ما الذي أتحدث عنه.
قالت: «عندما تكتبين لأمك في غانا، لا أعتقد أنه ينبغي أن تذكري لها ... أعني أنني أعتقد أنه لا ينبغي أن تذكري لها تلك المشكلة البسيطة التي حدثت ليلة أمس؛ أعني أنها عندما ترى الكثير من المشكلات الحقيقية، والناس الذين يتضورون جوعا وكل تلك الأشياء، فسنبدو أمامها أشخاصا تافهين متسمين بالأنانية.»
لقد تفهمت ما قالته، لكني لم أهتم أن أقول لها إنه حتى الآن لم ترد أنباء بأن هناك مجاعة في غانا.
وعلى أية حال لم أرسل لوالدي أية خطابات إلا في الشهر الأول فقط، وكانت مليئة بالوصف الساخر والشكوى؛ أما الآن فقد أصبح الوضع أكثر تعقيدا بدرجة يصعب شرحها.
بعد حوارنا عن الموسيقى، أضحى تعامل العم جاسبر معي أكثر احتراما؛ فقد كان يستمع لآرائي عن الرعاية الصحية التي تقدمها الحكومة كما لو أنها آرائي وليست مستقاة من آراء والدي. وقال ذات مرة إنه من دواعي سروره أن يجد شخصية ذكية مثلي يتجاذب معها الحديث أثناء تناول الطعام، وقد وافقته خالتي الرأي، لمجرد أن تبدو شخصية لطيفة، لكن عندما ضحك بطريقة غريبة، احمر وجهها خجلا. كانت معاملته لها قاسية في تلك الفترة، لكن بحلول عيد الحب كان قد سامحها، وتلقت منه هدية وهي عقد من عقيق الهيلوتروب، مما جعلها تبتسم وتتنحى جانبا لتذرف في نفس الوقت دموعا تنم عن ارتياحها. •••
إن شحوب وجه مونا الشديد، وبروز عظامها التي لم ينجح ثوبها الفضي في إخفائه؛ ربما كانا من علامات مرضها. لقد أعلنت الجريدة المحلية عن موتها في ذلك الربيع مع ذكر للحفل الموسيقي الذي قدمته في مبنى البلدية. أعادت جريدة تورونتو نشر النعي الخاص بها بجانب لمحة عن مسار حياتها بدت ملائمة لتعزيز مكانتها، إن لم تكن جيدة جدا. وعبر العم جاسبر عن دهشته، لكن ليس حيال موتها، إنما لأنها كانت ستدفن في تورونتو. ستقام مراسم الجنازة والدفن في كنيسة هوزاناس التي تقع على بعد أميال قليلة من شمال بلدته؛ أي في الريف. لقد كانت كنيسة العائلة عندما كان العم جاسبر ومونا/مود صغيرين، وكانت كنيسة أنجليكانية. كان العم جاسبر والخالة دون من رعايا الكنيسة المتحدة آنئذ، كما كان يفعل معظم الموسرين في البلدة حينها، وكان رعايا تلك الكنيسة متشددين في معتقداتهم، لكنهم لم يعتقدوا أنه ينبغي عليهم أن يذهبوا للكنيسة كل أحد، وكانوا لا يرون أن الرب يغضب من تناول أحدهم كأسا من الخمر بين الحين والآخر. (كانت برنيس، الخادمة، تذهب إلى كنيسة أخرى وتعزف على آلة الأرغن هناك، وكانت رعايا تلك الكنيسة صغار العدد وغريبي الأطوار؛ فقد كانوا يتركون منشورات عند أبواب المنازل في البلدة، وكانت تضم قوائم بأسماء الأشخاص الذين سيذهبون إلى الجحيم، الذين لم يكونوا من الأشخاص العاديين، إنما من الأشخاص المعروفين مثل رئيس الوزراء بيير ترودو.)
قال العم جاسبر: «إن كنيسة هوزاناس لم تعد تقيم أي طقوس دينية، فما الجدوى من إحضارها إلى هنا؟ فلا أعتقد حتى أن ذلك مسموح به.»
لكن اتضح أن الكنيسة قد فتحت أبوابها لممارسة كل الطقوس الدينية؛ فالأشخاص الذين كانوا يترددون عليها في شبابهم كانوا يفضلون الذهاب إليها لإقامة مراسم الجنازات، وفي بعض الأحيان كانوا يزوجون أولادهم فيها. كانت بحالة جيدة من الداخل، بفضل هبة بمبلغ كبير أوصى بها أحد رعاياها لتطويرها، وكانت وسائل التدفئة بها عصرية. •••
وصلنا أنا والخالة دون إلى هناك بسيارتها، وكان العم جاسبر مشغولا حتى آخر لحظة.
لم أحضر من قبل أي جنازات؛ فلم يكن أبواي يعتقدان أن الطفل بحاجة إلى أن يمر بتجربة كهذه، حتى إن كان يشار إليها - حسبما أتذكر - في محيط معارفهم بتأبين الميت.
لم تتشح الخالة دون بالسواد ، كما كنت أتوقع، وإنما كانت ترتدي بذلة من اللون الأرجواني الفاتح الهادئ، وسترة من جلد الحمل الفارسي، وقبعة صغيرة مستديرة تماثلها. كانت تبدو جميلة للغاية، وبدا أن معنوياتها كانت مرتفعة بدرجة لم تستطع إخفاءها.
لقد انتهت من مشكلة كانت تؤرقها؛ الخلاف الذي كان بينها وبين العم جاسبر؛ وهذا الأمر جعلها تشعر بالسعادة.
لقد تغير بعض أفكاري خلال الفترة التي قضيتها مع خالتي وزوجها؛ فعلى سبيل المثال: لم أعد شخصية غير ناقدة لأشخاص مثل مونا، أو لمونا نفسها، ولموسيقاها، وحياتها المهنية. فلم أعد أعتقد أنها شخصية استثنائية، أو كانت كذلك، لكني أستطيع أن أتفهم كيف أن بعض الأشخاص قد يرونها كذلك. ولم تكن المسألة تتعلق ببنيتها الضخمة، وأنفها الأبيض الضخم، والكمان والطريقة المضحكة التي تحمله بها؛ وإنما الأمر يتعلق بالموسيقى نفسها وحبها الشديد لها. إن ولع المرأة الشديد بشيء ما قد يجعلها تبدو سخيفة.
لكن ذلك لا يعني أنني اعتنقت طريقة تفكير زوج خالتي بالكامل؛ إنما كل ما في الأمر أنها لم تعد غريبة جدا بالنسبة إلي كما كانت من قبل. بينما كنت أنسل ذات مرة من أمام غرفة نوم خالتي وزوجها المغلقة في الصباح الباكر في أحد أيام الآحاد، وأنا في طريقي لكي أحضر واحدة من كعك القرفة الذي كانت تعده خالتي في ليلة كل سبت، ترامت إلى مسامعي أصوات لم يصدر مثلها عن أبي وأمي أو عن أي شخص آخر، كانت أصوات همهمات وصيحات ممزوجة بالمتعة التي توحي بالاشتراك في اقتراف شيء ما، وتوحي بحالة من التقصير أربكتني وأحبطتني.
قالت الخالة دون: «لا أعتقد أنه سيأتي الكثيرون من تورونتو إلى هنا. وحتى آل جيبسون لن يتمكنا من المجيء أيضا؛ فالزوج لديه اجتماع، والزوجة لن تتمكن من تغيير جدول حصص طلابها.»
آل جيبسون هما من يقطنان بالمنزل المجاور لنا، وقد استمرت صداقتنا لهما لكنها كانت محدودة؛ فلم تكن هناك زيارات متبادلة بيننا وبينهما.
قالت لي فتاة بالمدرسة: «انتظري حتى يجعلوك تلقين النظرة الأخيرة عليها؛ فلقد كان علي أن ألقي نظرة على جثمان جدتي، وقد فقدت الوعي بعدها.»
لم أسمع من قبل عن النظرة الأخيرة هذه، لكني استطعت أن أخمن ما يجب أن تكون، وقررت أن أنظر لجثمان مونا بمؤخرة عيني وأتظاهر بأنني أحدق فيه.
قالت الخالة دون: «ما دامت الكنيسة لا تحتوي على تلك الرائحة العطنة، فإنها لن تؤثر على الجيوب الأنفية لزوجي.»
لم تكن هناك أية رائحة عطنة، ولا يوجد أي أثر لرطوبة شديدة تتسرب من الأرضية والجدران الحجرية مما يوقع الكآبة في النفس. لا بد أن أحدهم قد استيقظ في الصباح الباكر وأدار جهاز التدفئة.
امتلأت المقاعد تقريبا عن آخرها.
قالت الخالة دون بصوت هادئ: «هناك كثير من المرضى الذين يعالجهم زوجي جاءوا إلى هنا، هذا شيء لطيف. ما من طبيب آخر في البلدة يفعل المرضى من أجله شيئا كهذا.»
كانت عازفة الأرغن تعزف مقطوعة أعرفها جيدا؛ فلدي صديقة، في فانكوفر، قد عزفتها في إحدى الحفلات الموسيقية في عيد الفصح. إنها مقطوعة «أيها المسيح، يا فرحة رغبة الإنسان.»
كانت السيدة التي تعزف على آلة الأرغن هي عازفة البيانو في الحفلة الصغيرة التي أقيمت في المنزل ولم تكتمل، وكان عازف التشيلو يجلس في أحد مقاعد الجوقة بالجوار، وربما كان سيعزف إحدى المقطوعات لاحقا.
بعدما جلسنا ننصت لفترة شعرنا ببعض الجلبة في خلفية الكنيسة. لم أدر رأسي كي أعرف مصدرها لأنني لاحظت لتوي الصندوق الداكن اللون الخشبي اللامع الذي كان موضوعا بالعرض أسفل المذبح مباشرة؛ النعش، وكان بعض الناس يطلق عليه التابوت. وقد كان مغلقا. لم يكن علي أن أشعر بالقلق حيال النظرة الأخيرة على الجثمان إلا ريثما يفتحونه، ومع هذا تخيلت شكل مونا بداخله؛ بأنفها الضخم البارز الذي يشير قليلا إلى أعلى، وجسمها وقد نحل تماما، وعينيها المغلقتين. رحت أثبت تلك الصورة جيدا في مخيلتي حتى شعرت بدرجة من القوة كفيلة بأن تمنعني من الشعور بالغثيان.
ولم تدر الخالة دون رأسها هي الأخرى مثلي كي ترى ما الذي كان يدور خلفنا.
كان مصدر ذلك الإزعاج الطفيف يأتي من الممر الجانبي، وتبين أن العم جاسبر هو المتسبب فيه. لم يتوقف عند المقعد الذي كنا نجلس فيه أنا والخالة دون حيث احتفظنا بمكان له؛ مر بجوارنا بخطى وقورة لكنها عملية، وكان بصحبته شخص ما.
الخادمة برنيس التي كانت في كامل زينتها، وقد ارتدت بذلة بلون أزرق داكن وقبعة بنفس اللون مزركشة ببعض الورود. لم تكن تنظر نحونا أو باتجاه أي شخص، وقد احمرت وجنتاها وأطبقت شفتيها.
ولم تكن الخالة دون أيضا تنظر نحو أحد؛ فقد انهمكت في تلك اللحظة في قلب صفحات كتاب الترانيم الذي أخذته من جيب المقعد الذي أمامها.
لم يتوقف العم جاسبر عند النعش؛ فقد كان يقود برنيس نحو آلة الأرغن. كانت هناك دقات عالية غريبة تثير الدهشة في الموسيقى التي تعزف، ثم تبعتها نغمات خافتة، ثم ما لبثت أن توقفت، وبعدها ساد الصمت فيما عدا الأصوات الصادرة من بعض الأشخاص الذين كانوا يتحركون ببطء ويحاولون الإصغاء لما يدور في القاعة.
اختفت الآن عازفة البيانو التي كانت تعزف على الأرغن وكذلك عازف التشيلو، لا بد أن هناك بابا جانبيا قد خرجا منه. أجلس العم جاسبر برنيس مكان المرأة.
وبمجرد أن بدأت برنيس في العزف، تحرك عمي للأمام، وأشار إلى الجمع في القاعة. كانت هذه الإيماءة تعني أن ينهضوا ويشرعوا في الغناء، وقد فعل عدد قليل منهم بالفعل ما أراد، ثم زاد عددهم إلى أن أصبح الجميع يغني.
راحوا يهمهمون وهم يقلبون صفحات كتب الترانيم الذي بأيديهم، لكن معظمهم استطاع أن يبدأ الغناء قبل حتى أن يعثر على الكلمات: «الصليب العتيق القوي.»
انتهت مهمة العم جاسبر، وكان بمقدوره الآن أن يعود ويشغل المكان الذي كنا نحتفظ له به.
لكن كانت هناك مشكلة واحدة؛ شيء لم يأخذه في الحسبان.
هذه كنيسة أنجليكانية، أما في الكنيسة المتحدة التي يتردد عليها العم جاسبر، فإن أفراد الجوقة كانوا يدلفون من باب خلف منبر الوعظ، ويستقرون في أماكنهم قبل أن يدخل القس، وهكذا كانوا يتمكنون من التطلع نحو الجمع المتواجد ولسان حالهم يقول: نحن نشعر بالطمأنينة لتواجدنا معا في هذا المكان. ثم كان يدخل القس، ودخوله كان بمنزلة إشارة لإمكانية بدأ الطقوس. أما في الكنيسة الأنجليكانية فإن أفراد الجوقة يسيرون عبر الممر حيث يأتون من الخلف، وهم ينشدون ويعلنون عن ظهورهم بطريقة جادة لا تكشف عن شخصية أحد منهم. يرفعون أعينهم عن الكتب من أجل التطلع إلى المذبح فقط، ويبدون مختلفين قليلا وكأنهم قد انسلخوا عن هوياتهم المعتادة، ولا يدرون من حولهم من أقارب أو جيران أو أي أحد آخر في الجموع المتواجدة.
وها هم يأتون عبر الممر الآن ويرددون كالباقين: «الصليب العتيق القوي»، ولا بد أن العم جاسبر قد تحدث إليهم قبل أن يشرعوا في الغناء، وربما قد أوضح لهم أنها الترنيمة المفضلة لدى المتوفاة.
أما المشكلة فكانت تكمن في المساحة المتاحة وأعداد الأشخاص المتواجدين. فمع تواجد أفراد الجوقة في الممر، لم يكن هناك سبيل كي يعود العم جاسبر إلى مقعدنا؛ فما من سبيل أمامه للرجوع.
ولم يكن أمامه سوى شيء واحد يفعله، وبسرعة، وقد فعله. فلم يكن أفراد الجوقة قد بلغوا المقعد الأمامي بعد؛ لذا فقد أقحم نفسه بداخله، واعترت الدهشة من يقفون بجواره لكنهم أفسحوا له مكانا بينهم؛ أي أفسحوا له مكانا قدر المستطاع. وكانوا بالمصادفة ممتلئي الجسم، وكان هو عريض المنكبين على الرغم من كونه شخصا نحيفا.
سأتمسك بذلك الصليب العتيق المهترئ
حتى لا أتباهى بما قمت به من أعمال صالحة.
سأتشبث بالصليب العتيق المهترئ
وسأستبدل به تاجا في يوم ما.
هذا ما كان عمي يغنيه، وبكل ما أوتي من حماسة في المساحة التي أتيحت له، ولم يكن بمقدوره أن يستدير ليواجه المذبح، بل كان عليه أن ينظر جانبا نحو الخارج باتجاه أفراد الجوقة الذين كانوا يتحركون. ولم يستطع أن يخفي شعوره بأنه قد حوصر في مكانه. سار كل شيء على ما يرام، ولكن ليس بنفس الصورة التي تخيلها تماما. وحتى بعد أن انتهى الغناء، بقي في مكانه؛ حيث جلس حاشرا نفسه قدر المستطاع في تلك المساحة الضيقة مع أولئك الأشخاص. ربما ظن أنها لن تكون خاتمة مناسبة آنئذ أن ينهض ويعود أدراجه عبر الممر كي ينضم إلينا.
لم تشارك الخالة دون في الغناء لأنها لم تعثر على مكان الترنيمة في كتاب الترانيم؛ يبدو أنها لم تتعقبها بالطريقة التي فعلتها أنا.
أو ربما لمحت أثرا من خيبة أمل على وجه العم جاسبر حتى قبل أن يشعر هو نفسه به.
أو ربما أدركت، ولأول مرة في حياتها، أنها لم تكن تهتم. لم تكن تهتم على الإطلاق. •••
قال القس: «دعونا نصل.»
الكبرياء
هناك بعض الأشخاص الذين لا تسير أمورهم وفق أهوائهم. كيف لي أن أوضح ذلك؟ أعني أنهم هؤلاء الذين قد يكون كل شيء ضدهم - يتعرضون لصدمة تلو الأخرى - وبعدها يسير كل شيء على ما يرام. إنهم هؤلاء الذين يرتكبون الأخطاء في وقت مبكر - على سبيل المثال، يوسخون بناطيلهم في الصف الثاني - وبعدها يستكملون حياتهم في بلدة كبلدتنا حيث لا ينسى بها أي شيء (أي بلدة، أعني أن أي بلدة تكون هكذا)، وينجحون في ذلك، ويظهرون بمظهر الأشخاص الودودين، المرحين الذين يزعمون أنهم لن يرضوا بالعيش في مكان آخر غير هذا، ويعنون ذلك حقا.
أما بالنسبة إلى بعض الأشخاص الآخرين، فالأمر مختلف؛ إنهم لا ينتقلون لأي مكان آخر، لكنك تتمنى لو أنهم فعلوا ذلك، وبمقدورك أن تقول إن هذا من أجل مصلحتهم هم. ومهما كانت الأخطاء التي يقعون فيها حينما يكونون صغارا - والتي لا تكون واضحة بأي حال من الأحوال كخطأ توسيخ بناطيلهم - فإنهم يستمرون في ارتكابها، وباقتدار، بل يبالغون أيضا في ذلك ما دام ثمة احتمال بألا يلاحظها أحد.
لقد تغيرت الأمور بالطبع؛ فأضحى هناك من يقدمون الاستشارات النفسية، وهناك العطف والتفهم. يقال لنا إن الحياة قاسية أكثر بالنسبة إلى البعض. إنه ليس خطأهم، حتى لو كانت الصدمات التي يتعرضون لها وهمية تماما. إن هذه الصدمات يستشعرها بشدة من يتعرض لها ومن لا يتعرض لها على حد سواء، وذلك وفقا للحالة.
لكن يمكن تحقيق الاستفادة الجيدة من كل شيء، وذلك إذا ما رغب المرء في هذا. •••
لم تذهب أونيدا للمدرسة مع بقيتنا، على أية حال؛ أعني أنه لم يكن بها ما يؤهلها جيدا للحياة. لقد ذهبت إلى مدرسة للبنات، مدرسة خاصة، لا أستطيع تذكر اسمها، هذا إن كنت أعرفه بالأساس. حتى في أوقات الصيف لم تكن تتواجد هنا كثيرا. أعتقد أن عائلتها كانت تمتلك منزلا آخر يطل على بحيرة سيمكو؛ كانوا يمتلكون أموالا كثيرة، بل كانت كثيرة جدا في واقع الأمر بدرجة لا يمكن معها تصنيفهم مع أي شخص آخر في البلدة، حتى لو كانوا الأثرياء بها.
كان أونيدا اسما غير مألوف، ولا يزال كذلك، ولم يكن متداولا حينها هنا. ولقد اكتشفت فيما بعد أنه اسم هندي، ومن الأرجح أنه كان اختيار أمها التي ماتت حينما كانت أونيدا في فترة المراهقة، وأعتقد أن والدها كان يناديها بإيدا.
تجمعت لدي كل الأوراق؛ أكوام من الأوراق عن تاريخ البلدة الذي كنت أعكف على دراستها. لكن على الرغم من ذلك كانت هناك بعض الفجوات؛ فلم يكن ثمة تفسير مرض عن كيفية اختفاء الأموال. ومع ذلك لم تكن هناك حاجة لذلك؛ فما يتناقله الأشخاص شفهيا كان كافيا لإيضاح الأمر، لكن الغريب هو تلاشي ما تناقله الأشخاص بمرور الوقت.
كان والد إيدا يدير المصرف، وحتى في تلك الأيام، كان المصرفيون يغيرون باستمرار، وكان يحدث ذلك في رأيي حتى لا تتوطد صلاتهم بالعملاء. لكن آل جانتزن كانوا قد أمضوا بالبلدة وقتا طويلا جعلهم لا يخضعون لأي لوائح أو قواعد، أو هكذا بدا الأمر. كان هوراس جانتزن بالقطع من الرجال الذين كان يبدو عليهم أنهم خلقوا ليكونوا ذوي نفوذ. كانت لديه لحية بيضاء كثيفة، بالرغم من أن اللحى، طبقا للصور الفوتوغرافية، كانت تعد نمطا قديما، وذلك بحلول الحرب العالمية الأولى. كان ذا قامة متوسطة، وسمينا، ويحمل وجهه تعبيرات تتسم بالجدية.
في تلك الأوقات الصعبة التي اتسمت بها فترة الثلاثينيات من القرن العشرين، كان الناس لا يزالون يأتون بأفكار جديدة، وكانت السجون تأوي الرجال الذين كانوا يتسكعون بخطوط السكك الحديدية، ولكن حتى بعضهم، بالتأكيد، كانت لديهم فكرة كان من الممكن أن تجلب لهم الملايين من الدولارات.
والمليون دولار في ذلك الوقت كان بالفعل مبلغا كبيرا جدا.
ومع ذلك لم يكن أحد متسكعي السكك الحديدية هؤلاء هو من ذهب إلى المصرف لكي يتحدث إلى هوراس جانتزن، ولا أحد يدري إن كان من ذهب إليه شخصا واحدا أم مجموعة من الأشخاص؛ ربما كان أحد الغرباء أو بعضا من أصدقاء الأصدقاء. ومن المؤكد أنه كان متأنقا وذا مظهر مقبول؛ إذ كان هوراس يهتم بالمظاهر، ولم يكن بالشخص الأحمق، لكنه لم يستشعر سريعا - كما هو المفترض منه - أنه قد تكون هناك خدعة.
كانت الفكرة تدور حول تجديد السيارات التي تعمل بالبخار، وهو نوع من السيارات كان متواجدا في مطلع القرن العشرين، وربما كان هوراس جانتزن نفسه يمتلك واحدة وربما كان مولعا بها كثيرا. وبالطبع سيكون هذا الطراز الجديد نسخة محسنة، من مزاياه توفير الوقود وعدم إحداث جلبة كبيرة أثناء السير.
ليس لدي المزيد من التفاصيل عن هذا الأمر؛ إذ كنت في المدرسة الثانوية حينها، لكني أستطيع تخيل الكلام الذي تسرب، وكم السخرية والحماسة والأخبار التي كانت تتوارد عن استعداد بعض أصحاب الأعمال في تورونتو، أو وندسور، أو كتشنر للتصنيع المحلي لهذا الطراز، الذين قيل إن بعضهم لديه من الأموال ما يكفي للاستثمار في هذا المشروع، في حين أن البعض الآخر تساءل إن كان من الممكن أن يحصلوا على بعض الدعم من أجل القيام بذلك.
حصلوا بالفعل على هذا الدعم؛ لأن المصرف قدم قرضا لهم من أجل تنفيذ المشروع، وكان هذا قرار جانتزن، وتضاربت الأقوال حول إن كان قد شارك بأمواله فيه أم لا. ربما فعل هذا، لكن تبين فيما بعد أنه أخذ من أموال المصرف على نحو غير مسئول، معتقدا بالطبع أنه سيرد هذه الأموال دون أن يعلم أحد بشيء. ربما لم تكن القوانين صارمة جدا حينها. كان هناك بعض الرجال الذين تم تعيينهم بالفعل، وقد أخلي الإسطبل القديم الخاص بتربية الخيول ليصبح مكان عملهم. وعند هذا الحد تخونني ذاكرتي لأني كنت قد تخرجت في المدرسة الثانوية، وكان علي أن أفكر في كسب عيشي، إن كان هذا ممكنا؛ فإعاقتي في الكلام، حتى بعد خياطة الشفاه، جعلتني أستبعد أي عمل يتضمن الكثير من الكلام؛ لذا فقد وقع اختياري على مسك الدفاتر الحسابية؛ ولذلك كان علي أن أغادر البلدة كي أتدرب لدى إحدى الشركات في جودريتش. وبحلول الوقت الذي عدت فيه إلى البلدة، كان يتم الحديث بازدراء عن مشروع السيارة التي تعمل بالبخار من قبل أولئك الأشخاص الذين كانوا ضد الفكرة، أما من روجوا لها، فلم يذكروا عنها شيئا على الإطلاق، وقد اختفى زوار البلدة ممن كانوا يساندون تلك الفكرة تماما.
وخسر المصرف الكثير من الأموال.
وترددت أقاويل ليس عن الغش، بل عن سوء الإدارة. وكان لا بد من معاقبة أحد، ولو كان المدير شخصا عاديا لأجبر على ترك وظيفته، لكن لأن المدير هو هوراس جانتزن، لم يتم هذا. ما حدث له كان أسوأ؛ فقد نقل لوظيفة مدير مصرف في قرية هوكسبرج الصغيرة، التي تبعد حوالي ستة أميال عن الطريق السريع، ولم يكن لهذا المصرف مدير قبل ذلك على الإطلاق؛ لأنه لم يكن بحاجة إلى مدير؛ فلم يكن هناك سوى صراف وصراف أول، وكلاهما كان امرأة.
كان بمقدوره الرفض بالطبع، لكن كبرياءه، كما اعتقد البعض، اختار الذهاب إلى هناك؛ ونتيجة لهذا الاختيار كان يصطحب بالسيارة كل صباح هذه الأميال الستة، كي يجلس خلف حاجز جزئي مصنوع من ألواح خشبية مطلية رخيصة، لم يكن مكتبا لائقا على الإطلاق. وكان يجلس هناك دون أن يفعل شيئا حتى يأتي موعد اصطحابه بالسيارة إلى منزله.
والشخص الذي كان يصطحبه بالسيارة هو ابنته. في وقت ما خلال سنوات القيادة هذه، جعلت الناس ينادونها بأونيدا بدلا من إيدا، وها هي أخيرا قد قامت بشيء ما. ومع هذا لم تقم بإدارة المنزل؛ لأنهم لم يستطيعوا الاستغناء عن السيدة بيرتش، وهذا هو أحد الاحتمالات. وهناك احتمال آخر وهو أنهم لم يدفعوا مطلقا للسيدة بيرتش قدرا كافيا من النقود بحيث لا تضطر للذهاب إلى ملجأ لإيواء الفقراء، هذا إن كانوا قد فكروا من قبل في مسألة الاستغناء عنها.
إذا تخيلت أونيدا ووالدها في هذه الانتقالات من هوكسبرج وإليها، فإنني أراه يجلس في المقعد الخلفي، وهي في المقعد الأمامي كالسائق الخاص به. ربما كان مكتنزا جدا بدرجة يصعب معها الجلوس بجوارها، أو ربما كانت لحيته تحتاج إلى مساحة. لم أر أونيدا تشعر بالاضطهاد أو التعاسة إزاء هذه الترتيبات، ولم تبد أمارات التعاسة على والدها أيضا؛ كل ما كان يمتلكه هو الكرامة، الكثير منها في الواقع. أما هي، فكان لديها شيء مختلف؛ فحينما كانت تذهب إلى أحد المتاجر أو حتى كانت تسير في الشارع، كانت تبدو وكأن حولها مساحة صغيرة خالية مجهزة لتحقيق ما قد تريد، أو لتسع التحيات التي قد توزعها في طريقها. كان يبدو عليها قليل من الارتباك الممزوج بالكياسة، وكانت على استعداد للسخرية قليلا من نفسها أو من الموقف الذي كانت فيه. بالطبع، كانت ذات بنية قوية، ونظرات مشرقة، وبشرة بيضاء براقة، وشعر أشقر لامع؛ لذا ربما كان من الغريب أن أشعر بالأسف حيالها؛ حيث كانت الطريقة التي تتعامل بها مع الأشياء في الظاهر توحي بشعورها بالاطمئنان والثقة في النفس.
تخيلوا أنني كنت أشعر بالأسف حيالها. •••
اشتعلت الحرب، وبدا الأمر وكأن الأشياء تغيرت بين عشية وضحاها، ولم يعد المحتالون يتسكعون بخطوط السكك الحديدية؛ فقد أتيحت الوظائف، ولم يعد الشباب الصغار يبحثون عن وظيفة أو يسافرون متطفلين على أصحاب السيارات، وإنما تراهم في كل مكان بزيهم العسكري ذي اللون الأزرق الباهت أو الكاكي. قالت أمي إن الوضع الذي كنت عليه لهو من حسن حظي، وأعتقد أنها كانت محقة، لكني أخبرتها بألا تتحدث عن هذا عندما تكون خارج المنزل. فقد عدت إلى بلدتي من جودريتش بعدما أنهيت فترة تدريبي، وحصلت سريعا على عمل حيث كنت مسئولة عن الدفاتر في متجر آل كريبس المتعدد الأقسام. بالطبع، ربما ردد البعض - وأعتقد أن هذا قد حدث بالفعل - أنني حصلت على الوظيفة بفضل أمي التي كانت تعمل هناك في قسم المنسوجات، لكن تصادف أيضا أن انضم كيني كريبس، المدير الشاب للمتجر، إلى القوات الجوية وقد لقي مصرعه في أحد تدريبات الطيران.
كانت هناك صدمات من هذا القبيل، ومع هذا كانت هناك هالة من النشاط في كل مكان، وكان الناس يتنقلون وبجيوبهم نقود. شعرت بالانعزال عن الرجال ممن هم في مثل عمري، لكن هذا الانعزال لم يكن بالشيء الجديد بالنسبة إلي. وكان هناك آخرون في نفس وضعي؛ فقد أعفي أبناء المزارعين من الخدمة العسكرية كي يعتنوا بالمحاصيل والحيوانات، وقد علمت أن البعض منهم قد حصل على الإعفاء بالرغم من وجود من يستأجرونه للقيام بأعمالهم الزراعية. أعلم أنه إذا حدث أن سألني أحدهم عن عدم التحاقي بالخدمة العسكرية، فإن الأمر كان سيبدو مزحة، ولكني كنت جاهزا بالإجابة المناسبة، وهي أنه علي أن أهتم بالدفاتر الحسابية؛ دفاتر متجر آل كريبس ودفاتر أخرى لاحقا. كان علي أن أهتم بالحسابات، ولم يكن مقبولا حينها أن تؤدي المرأة هذه المهمة، واستمر ذلك الأمر حتى حلول نهاية الحرب عندما كن يقمن بجانب منها لفترة من الوقت؛ فقد كان الكثيرون لا يزالون يعتقدون أن الرجل هو خير من يقوم بهذا العمل.
وقد سألت نفسي في بعض الأحيان: لماذا تعد الشفة الأرنبية - ذات المظهر المقبول إن لم يكن بالطبيعي تماما، والصوت الغريب بعض الشيء لكن يمكن فهمه - من الأشياء التي تجعل صاحبها يبقى في المنزل ولا ينضم للخدمة العسكرية؟ لا بد أنني قد تسلمت إخطارا بالالتحاق بالخدمة العسكرية، ولا بد أنني قد ذهبت للطبيب المعني كي أحصل على الإعفاء. إنني ببساطة لا أتذكر ما حدث حينها تماما؛ هل ذلك لأني اعتدت الحصول على الإعفاء من شيء تلو الآخر، حتى إنني نظرت إلى ذلك الأمر كشيء مسلم به، شأنه في ذلك شأن الأمور الأخرى؟
ربما أخبرت أمي ألا تتحدث بشأن بعض الأمور، لكن ما كانت تقوله لم يكن عادة يمثل أهمية كبيرة بالنسبة إلي. ومن الواضح أنها كانت تنظر للجانب المشرق من الأمور. وقد علمت بعض الأشياء لكن ليس عن طريقها؛ فقد علمت أنه بسبب حالتي كانت تخشى أن تنجب أطفالا آخرين، وخسرت رجلا كان يحبها في إحدى المرات عندما أخبرته بذلك. لكن لم يخطر ببالي أن أشعر بالأسف حيال أي منا؛ فأنا لم أفتقد أبا قد توفي حتى قبل أن أراه، أو فتاة كان يمكن أن أقيم معها علاقة لو كان مظهري مختلفا، كما أنني لم أفتقد ذلك الشعور الوجيز بالتيه الخاص بالذهاب للمشاركة في الحرب.
كنا أنا وأمي نفضل تناول أشياء بعينها على العشاء، وكنا نحب الاستماع إلى برامج إذاعية معينة، ودائما ما كانت الأخبار العالمية من قناة بي بي سي، وذلك قبل أن نأوي إلى الفراش. كانت عينا أمي تلمعان عندما يتحدث الملك أو وينستون تشرشل. وقد اصطحبتها لمشاهدة فيلم «السيدة مينيفر»، وقد تأثرت به أيضا. لقد كانت الدراما تملأ حياتنا، سواء أكانت الخيالية أم الواقعية. الانسحاب من دانكرك، السلوك الذي اتسم بالشجاعة من جانب العائلة الملكية، انفجارات لندن المتتالية، وساعة بيج بن التي لا تزال تدق معلنة الأخبار الكئيبة. سفن فقدت في البحر، والأكثر فزعا، غرق مركب مدني، زورق، ما بين كندا ونيوفوندلاند، بالقرب من شواطئنا.
لم أستطع النوم في تلك الليلة، وخرجت للمشي في شوارع البلدة. أخذت أفكر في أولئك الأشخاص الذين استقروا في قاع البحر؛ لا بد أنه كانت هناك سيدات عجائز، تقريبا في مثل عمر أمي، وقد تشبثن بما كن يحكينه من أشياء، وطفل انزعج من ألم أسنانه التي اصطكت من الخوف، وآخرون أمضوا نصف الساعة الأخيرة قبل غرقهم وهم يعانون من دوار البحر. انتابني شعور غريب جدا، وحسبما أستطيع وصفه: كان شعورا يتقاسمه الفزع، والإثارة الممزوجة بالتبلد. لقد تبدد كل شيء، وظهرت فجأة المساواة، علي أن أقول ذلك؛ المساواة، بين أشخاص مثلي ومن هم أسوأ حالا مني وبين الآخرين.
لقد تلاشى ذلك الشعور بالطبع عندما اعتدت رؤية أشياء أخرى أثناء الحرب فيما بعد. لقد رأيت أردافا عارية ممتلئة بالصحة، وأخرى هزيلة ، يساق أصحابها كالقطيع إلى غرف الإعدام بالغاز.
وحتى لو لم يتلاش ذلك الشعور تماما، فقد تعلمت أن أكتمه بداخلي. •••
لا بد أنني قد التقيت مصادفة أونيدا خلال هذه السنوات، وتتبعت مسار حياتها. وكان علي أن أفعل هذا؛ فلقد مات والدها مباشرة قبل اليوم الذي أعلن فيه انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وامتزجت مراسم الجنازة الحزينة باحتفالات انتهاء الحرب بطريقة غريبة. وقد تكرر ذلك مع أمي التي ماتت في الصيف التالي، وذلك بعدما سمع الجميع عن القنبلة الذرية. وقد ماتت بطريقة أكثر غرابة وأمام الناس، وذلك في مكان عملها، بعدما قالت: «أريد أن أجلس.»
لم ير أحد والد أونيدا أو يسمع عنه شيئا خلال السنة الأخيرة من عمره. انتهت تمثيلية هوكسبرج الزائفة، لكن بدت أونيدا أكثر انشغالا من ذي قبل. وربما كان سينتابك حينها ذلك الشعور بأن كل من تقابله منهمك في شيء ما؛ إما في تتبع دفاتر الحصص التموينية، وإما في إرسال خطابات للجبهة، وإما في الحديث عن الخطابات التي تسلموها من هناك.
أما بالنسبة إلى أونيدا، فقد كانت منهمكة في العناية بالمنزل الكبير الذي كانت تعيش فيه، والذي أصبح عليها الآن إدارة شئونه بمفردها.
أوقفتني ذات يوم في الشارع وقالت لي إنها تريد مشورتي بشأن بيعه؛ أي المنزل. أخبرتها أنني لست الشخص المناسب الذي ينبغي أن تتحدث إليه في أمر كهذا. قالت ربما كان الأمر كذلك، ولكنها تعرفني. بالقطع، هي كانت لا تعرف عني شيئا يزيد عما تعرفه عن أي شخص آخر في البلدة، ولكنها صممت على رأيها، وجاءت إلى منزلي لنتحدث أكثر عن الأمر. أبدت إعجابها بأعمال الطلاء التي قمت بها، وإعادة ترتيب موضع الأثاث، وأشارت إلى أن التغيير لا بد أنه ساعدني على التغلب على الشعور بفقد أمي.
هذا صحيح، لكن معظم الأشخاص كانوا سيترددون كثيرا قبل أن يقولوا ذلك على نحو مباشر.
لم أكن معتادا على استقبال أحد؛ لذا لم أقدم لها أي مرطبات، وكل ما فعلته أنني أسديت إليها بعض النصائح التحذيرية والجادة بشأن البيع، ورحت أذكرها بأني لست بخبير في هذه الأمور.
لكنها استمرت قدما في عملية البيع، وضربت بكلامي عرض الحائط، وباعته عند أول عرض تلقته، وقد فعلت ذلك خاصة لأن المشتري حدثها عن مدى حبه للمكان، وأنه يتطلع أن تنشأ عائلته به. وكان آخر شخص بالبلدة يمكن أن أثق به، سواء أكان لديه أطفال أم لا، وكان السعر الذي اشترى به المنزل زهيدا جدا، وكان علي أن أخبرها بهذا. قلت لها إن الأطفال سيشيعون الفوضى في المكان، فردت أن هذا ما يفعلونه دائما؛ فهم يحدثون جلبة شديدة وإزعاجا كبيرا لكل من حولهم، وذلك على العكس تماما مما كانت عليه وهي طفلة. ولكن في الواقع، لم تكن لتتاح لهم الفرصة لذلك؛ لأن المشتري شرع في هدم المنزل وأقام مكانه عمارة سكنية، تتكون من أربعة طوابق، وبها مصعد كهربائي، وقد أحال الدور الأرضي إلى جراج للسيارات. وقد كان أول بناء حقيقي من نوعه تشهده البلدة. جاءت إلي وهي مصدومة بشدة عندما بدأ كل هذا، وكانت تريد أن تعرف إن كان بمقدورها أن تفعل شيئا حيال الأمر؛ كأن تعلن أن المبنى أثري، أو أن تقاضي المشتري لأنه أخل بكلمته التي لم تسجل في العقد، أو ما شابه. كانت مندهشة من أن يقدم شخص على شيء كهذا؛ شخص يتردد باستمرار على الكنيسة.
قالت: «لم أكن لأفعل شيئا كهذا، بالرغم من أنني لا أذهب إلى هناك إلا في عيد الميلاد.»
ثم هزت رأسها وانفجرت في الضحك.
قالت: «يا لحماقتي! كان ينبغي علي أن أنصت لنصيحتك، أليس كذلك؟»
كانت تعيش في نصف منزل مستأجر مقبول في ذلك الوقت، لكنها كانت تشتكي من أن كل ما يمكنها رؤيته هو منزلها وهو يقف ممتدا عبر الشارع.
قالت هذا كما لو أن معظم الناس لا يرون هذا، لكني لم أقل لها ذلك.
وعندما تم الانتهاء من بناء جميع الشقق بالعمارة، كان كل ما فعلته أنها عادت لتقطن في إحداها في الطابق العلوي، وكنت أعلم أنها لن تحصل على إيجار مخفض أو أنها لن تطلب حتى ذلك. لقد تخلصت من مشاعرها السلبية نحو المالك، بل راحت أيضا تثني على المنظر الخارجي للمكان وحجرة تنظيف الملابس الموجودة في البدروم، حيث كانت تدفع عملة معدنية في المكان المخصص للدفع في كل مرة تنظف فيها ملابسها.
قالت: «إنني أتعلم أن أكون مدبرة، بدلا من منح أشياء دون مقابلها الحقيقي حينما تحدوني الرغبة في التخلص منها.»
ثم تحدثت عن محاميها غير الشريف قائلة: «على أية حال، إن أمثال هؤلاء هم من يديرون هذا العالم.» ثم دعتني للزيارة كي أرى المنظر من شقتها، لكني اعتذرت.
ومع هذا كانت تلك بداية فترة عرف فيها كل منا الكثير عن الآخر؛ فقد اعتادت أن تزورني بمنزلي كي تتحدث عن مشكلات شقتها وقرارها بشأنها، واستمرت على هذا المنوال حتى بعد استقرار الأمور فيها بالنسبة إليها. كنت قد اشتريت تليفزيونا، وهو شيء لم تفعله هي؛ لأنها قالت إنها تخشى أن تدمن مشاهدته.
أما أنا، فلم أخش من شيء كهذا لأني أتواجد خارج المنزل معظم اليوم. وكان يوجد الكثير من البرامج الجيدة في تلك الأيام، وبوجه عام، كانت ميولنا متوافقة؛ فقد كنا نهوى مشاهدة قنوات التليفزيون الحكومية، وبخاصة المسلسلات الكوميدية البريطانية التي شاهدنا بعضها مرارا وتكرارا، وكانت تستهوينا كوميديا الموقف وليس مجرد إطلاق النكات. وقد كنت في البداية أشعر بالخجل وأنا أرى مدى جرأة المسلسلات البريطانية، التي قد تصل إلى حد الإسفاف، لكن أونيدا كانت تستمتع بذلك أكثر من أي شيء آخر. وكنا نتذمر عندما تبدأ إعادة أحد المسلسلات مرة أخرى، لكننا سرعان ما ننجذب لمشاهدته ومتابعته مرة أخرى؛ لقد كنا حتى نشاهد هذه المسلسلات حين كانت الألوان باهتة فيها. وفي الوقت الحاضر، قد أصادف في بعض الأحيان واحدا من هذه المسلسلات القديمة وقد تم تلوينه وأصبح كالحديث تماما، ولكني أغير القناة لأنه يجعلني أشعر بالحزن.
كنت قد تعلمت منذ وقت مبكر أن أكون طاهيا جيدا، وحيث إن بعضا من أفضل البرامج التليفزيونية كانت تعرض مباشرة بعد العشاء، فقد كنت أعد لكلينا وجبة العشاء، وكانت تأتي هي ببعض الحلوى من المخبز. واشتريت طاولتين من ذلك النوع الذي يمكن طيه، وكنا نتناول الطعام ونحن نشاهد الأخبار، وبعدها نتابع برامجنا المفضلة. كانت أمي تصر دوما على أن نتناول طعامنا على المائدة؛ لأنها كانت تعتقد أنها الطريقة الوحيدة كي يكون المرء ذا مستوى اجتماعي جيد، لكن يبدو أن أونيدا لم يكن لديها أي محظورات في هذا الشأن.
ربما تجاوزت الساعة العاشرة عندما كانت تغادر المنزل، ولم تكن تمانع في الذهاب إلى منزلها سيرا على الأقدام، لكني لم أكن أحبذ الفكرة؛ لذا كنت أحضر سيارتي كي أصطحبها إلى المنزل. لم تشتر هي مطلقا أي سيارة أخرى بعدما تخلصت من تلك السيارة التي اعتادت أن تقل فيها أباها إلى عمله. لم تكن تخشى على الإطلاق أن يراها أحد وهي تتجول في البلدة، بالرغم من أن الناس كانوا يسخرون من ذلك؛ وكان هذا قبل أن يصبح كل من المشي وممارسة التمرينات الرياضية شيئا شائعا.
لم نذهب مطلقا لأي مكان معا، وكانت تمر أوقات دون أن أراها لأنها كانت تذهب خارج البلدة، أو ربما تظل بها لكن تستضيف بشقتها بعض الأشخاص الذين لا أعرفهم ولم أسع للقائهم.
لا، فذلك كان يشعرني بالتجاهل؛ لذا لم أفعل. إن مقابلة أناس جدد كانت تمثل مشكلة لي، ولا بد أنها كانت تتفهم ذلك. أما اعتيادنا تناول الطعام معا، وقضاء الأمسيات أمام شاشة التليفزيون، فذاك كان أمرا مريحا وهينا ولم تكن لدي أية صعوبة في التعامل معه. ولا بد أن كثيرين كانوا يعلمون بهذا الأمر، لكن لأنها كانت تمضي الوقت معي أنا تحديدا، لم يعيروا الأمر الكثير من الاهتمام. وكان معروفا أيضا أنني أنا من يقوم بحساب ضريبة الدخل لها، ولم لا؟ فهو شيء أعرف كيف أفعله جيدا بينما لا يتوقع أحد منها أن تعرف كيف تقوم به.
ولا أدري إن كان أحد يعلم أنها لم تسدد لي أي شيء مطلقا مقابل ذلك. كنت سأطلب منها مبلغا بسيطا كي تسير الأمور بنحو طبيعي، لكنها لم تثر الموضوع، ليس لأنها بخيلة، بل لأن الأمر لم يرد بخاطرها.
وإذا ما حدث أن تفوهت باسمها لأي سبب من الأسباب، فكان يصدر عني في بعض الأحيان اسم إيدا بنحو عفوي. وكانت تتعمد إغاظتي قليلا إذا ما قلت ذلك أمامها، وكانت توضح لي كيف أنني أفضل دائما أن أنادي الأشخاص بألقابهم القديمة التي كانوا يعرفون بها أيام الدراسة، إن أتيحت لي الفرصة لذلك. ولكني لم ألحظ ذلك بنفسي.
قالت: «لا أحد يهتم بهذا، أنت فقط من يفعل هذا.»
كان ذلك يغضبني قليلا، بالرغم من أنني كنت أحاول جاهدا أن أخفي شعوري هذا؛ فأي حق تمتلكه هي كي تعلق على ما يشعر به الناس حيال الأشياء التي أفعلها أو التي لا أفعلها؟ قد يكون مغزى ما تقول أنني إلى حد ما أفضل الرجوع لأيام طفولتي؛ لذا كنت أرغب في البقاء في تلك المرحلة، وجعل الآخرين يبقون معي فيها.
كان هذا يجعل الأمور بسيطة للغاية؛ فلقد أمضيت كل سنوات دراستي، كما تراءى لي، في الاعتياد على مظهري - أي مظهر وجهي - وعلى مظهر الأشخاص الآخرين مقارنة به. كنت أعتقد أنه انتصار من نوع ما أن أنجح في ذلك، وأن أعرف أنه بمقدوري التعايش هنا وكسب قوت يومي، وألا يكون علي باستمرار أن أعتاد على أناس جدد. ولكن أن نعود جميعنا للصف الرابع ونتوقف عند تلك المرحلة، لا، لم أكن أريد ذلك.
ومن تكون أونيدا حتى تكون لها آراء سديدة؟ لم يبد لي أنها قد استقرت بعد؛ ففي الواقع، لقد ضاع منها المنزل الكبير، وضاع معه جزء كبير منها. وكانت البلدة تتغير، ومكانها بها كان يتغير هو الآخر، وهي بالكاد كانت تعرف ذلك. بالطبع كانت هناك دائما تغيرات تطرأ، لكن في الأوقات التي سبقت الحرب كان التغير يتمثل في ترك أهل البلدة لها للبحث عن فرص أفضل في مكان آخر، أما في فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فتبدلت أحوال البلدة من خلال النوعيات الجديدة من الأشخاص الذين توافدوا إليها. قد تعتقد أن أونيدا كانت ستقر بذلك عندما ذهبت للعيش في العمارة السكنية، لكنها لم تدرك ذلك على الإطلاق؛ فما زال فيها ذلك التردد الغريب والطيش، كما لو أنها كانت تنتظر الحياة لتبدأ.
كانت تذهب بالطبع في رحلات خارج البلدة، وربما اعتقدت أن الحياة كانت ستبدأ هناك، لكن هذا لم يحدث. •••
وخلال تلك الأعوام عندما شيد مركز التسوق الجديد على الأطراف الجنوبية للبلدة، وأغلق متجر آل كريبس (لم يكن ذلك يمثل مشكلة لي؛ فقد كان لدي الكثير من الأعمال التي كانت تمكنني من الاستغناء عن العمل به)، بدا أن هناك المزيد والمزيد من الأشخاص في البلدة الذين كانوا يذهبون في رحلات في فصل الشتاء، وكان هذا يعني الذهاب إلى المكسيك أو جزر الهند الغربية أو أي مكان لم نعتد السماع عنه. وتكون النتيجة، في رأيي، العودة محملين بأمراض لم نعتد السماع عنها أيضا، وقد حدث ذلك لفترة ما. ربما يتم الإعلان عن انتشار مرض ما في كل عام، ويكون له اسم مميز خاص به، وربما لا تزال تلك الأمراض منتشرة، لكن لم يعد أحد يلاحظها كثيرا الآن، أو أن الأشخاص ممن هم في مثل عمري الآن قد تخطوا مرحلة الملاحظة. يمكن أن تثق في أنك لن تموت بسبب مرض خطير؛ لأنه لو كان هناك مرض خطير، لكنت قد أصبت به ومت الآن.
وفي إحدى الأمسيات نهضت في نهاية أحد البرامج التليفزيونية كي أعد لكلينا قدحين من الشاي، وذلك قبل أن تغادر أونيدا إلى منزلها. واتجهت نحو المطبخ وفجأة شعرت بألم شديد، ترنحت وسقطت على ركبتي ثم على الأرض. جذبتني أونيدا وعاونتني على النهوض والجلوس فوق أحد المقاعد، واستعدت الوعي. أخبرتها بأن تلك النوبات كانت تنتابني في بعض الأحيان، وأنه لا داعي للقلق. وتلك كانت كذبة، ولا أدري لم قلت هذا، لكنها لم تصدقني على أية حال. اصطحبتني إلى غرفتي الموجودة بالطابق السفلي حيث خلدت إلى النوم، وقد خلعت عني حذائي، ثم ساعدتني - بعد قليل من الاعتراض من جانبي - في خلع ملابسي وارتداء ملابس النوم. كنت أدرك الأشياء من حولي بصعوبة. طلبت منها أن تستقل إحدى سيارات الأجرة وتعود إلى منزلها، لكنها لم تعر كلامي أي اهتمام.
نامت في تلك الليلة على الأريكة المتواجدة في غرفة المعيشة، وبعد استكشاف بقية غرف المنزل في اليوم التالي أقامت في غرفة نوم والدتي. لا بد أنها ذهبت إلى شقتها خلال النهار كي تحضر بعض الأشياء التي تحتاجها، وربما ذهبت أيضا إلى المركز التجاري من أجل شراء بعض البقالة كي تكمل بها ما ينقصني من أشياء. كما أنها تحدثت أيضا إلى الطبيب، وأحضرت بعض الأدوية من الصيدلية، وقد كنت أتناولها عندما كانت تعطيني إياها.
انتابتني لبقية الأسبوع حالة من فقدان الوعي واستعادته والإعياء والحمى. كنت بين الحين والآخر أخبرها بأنني شفيت، وأن باستطاعتي تصريف أموري بنفسي، لكن لم يكن هذا صحيحا؛ فقد كنت معظم الوقت أطيع أوامرها وأعتمد عليها بنفس الأسلوب الذي يعتمد فيه المرء على إحدى الممرضات في المستشفى. لكن لم تكن لديها نفس مهارة الممرضة في التعامل مع الجسم المحموم، وإذا ما توافرت لدي الطاقة في بعض الأحيان، كنت أتذمر كطفل في السادسة من عمره، وكانت تعتذر حينها ولا تشعر بأي استياء. وعندما كنت أخبرها بأني أصبحت أفضل، وأن عليها أن تعود إلى منزلها، كنت أنانيا بدرجة تجعلني أنادي عليها بلا سبب سوى أن أطمئن أنها كانت لا تزال متواجدة.
ثم أصبحت على نحو أفضل، وشعرت بالقلق من أن تلتقط المرض الذي أصابني، أيا كان نوعه. «ينبغي أن ترتدي كمامة طبية.»
قالت: «لا تقلق. لو كنت قد التقطت أي شيء، لظهر علي الآن بالفعل.»
وعندما شعرت لأول مرة بأني قد أصبحت أفضل بالفعل، كنت أتوانى في الاعتراف بحقيقة أنني أشعر أحيانا كما لو أنني طفل صغير مرة أخرى.
لكنها ليست بالطبع أمي، وكنت سأستيقظ ذات صباح وأدرك ذلك. وكان علي أن أفكر في كل الأشياء التي فعلتها من أجلي، وكان هذا يشعرني بحرج شديد؛ وهذا هو الحال بالنسبة إلى أي رجل، وبخاصة أنا عندما أتذكر مظهري. كنت قد نسيت ذلك بنحو أو بآخر، وبدا لي الآن أنها لم تكن تشعر بالحرج، وأنها تفعل تلك الأشياء بصورة تلقائية لأني كنت بالنسبة إليها مجرد شخص ناقص أو طفل بائس.
أصبحت لطيفا الآن وامتزجت كلماتي ما بين التعبير عن الامتنان، ورغبتي الصادقة في أن تعود إلى منزلها.
وفهمت الرسالة التي أردت إيصالها لها، ولم تشعر بأي ضيق. لا بد أن التعب قد ألم بها من فترات النوم المتقطعة والعناية التي لم تعتدها بشخص آخر. قامت لآخر مرة بالتسوق من أجل شراء الأشياء التي كنت أحتاجها، وراحت تقيس درجة حرارتي للمرة الأخيرة ثم رحلت وهي تشعر، في اعتقادي، برضا شخص أدى مهمته على الوجه الأكمل، وقبل أن تفعل ذلك مباشرة كانت قد انتظرت في الغرفة الأمامية لترى إن كان بمقدوري ارتداء ملابسي دونما مساعدة، وشعرت بالارتياح لقدرتي على ذلك. وبالكاد خرجت من المنزل عندما أحضرت بعض الحسابات وعكفت على استئناف العمل الذي كنت أؤديه في اليوم الذي أصابني فيه المرض.
كان عقلي يعمل على نحو أبطأ، لكن بدقة، وهو الأمر الذي أشعرني بارتياح كبير.
تركتني بمفردي حتى ذلك اليوم - أو بالأحرى المساء - الذي اعتدنا فيه مشاهدة التليفزيون معا، ثم وصلت وهي تحمل في يدها عبوة من الحساء، التي لم تكن تكفي لصنع وجبة متكاملة قائمة بذاتها، ولم تكن شيئا صنعته بنفسها، ومع هذا كانت بمنزلة مساهمة لا بأس بها في الطعام. وقد وصلت مبكرة كي يكون هناك وقت كاف لذلك. فتحتها أيضا دون أن تسألني. كانت تعرف طريقها جيدا إلى المطبخ؛ سخنتها، وأحضرت سلطانيتي حساء وتناولنا ما بهما معا. ذكرني سلوكها بأني رجل مريض يحتاج إلى تغذية عاجلة، وكان هذا صحيحا بدرجة ما؛ فقد كنت في ظهيرة ذلك اليوم غير قادر - بسبب رعشة ألمت بي - على استخدام فاتحة العبوات بنفسي.
كان هناك برنامجان نشاهدهما معا، الواحد تلو الآخر، لكننا في تلك الأمسية لم نشاهد البرنامج الثاني مطلقا، ولم تستطع هي الانتظار حتى ينتهي البرنامج الثاني لتشرع في حوار لم يكن مريحا بالنسبة إلي.
وخلاصة ذلك الحوار أنها كانت تعد نفسها للانتقال للعيش معي في منزلي.
قالت إنها من ناحية لا تشعر بالسعادة في الشقة التي تعيش فيها، والتي كان الانتقال إليها بمنزلة خطأ كبير؛ حيث إنها تحب الإقامة في المنازل. لكن هذا لم يكن يعني أنها تشعر بالندم لأنها تركت المنزل الذي ولدت فيه؛ فقد كانت على وشك الإصابة بالجنون وهي تعيش في ذلك المنزل بمفردها. وخطؤها أنها اعتقدت أن الشقة يمكن أن تكون ببساطة هي الحل. وأضافت أنها لم تكن سعيدة على الإطلاق في هذا المكان، ولن تكون كذلك أبدا. وما جعلها تدرك تلك الحقيقة هو الوقت الذي أمضته في هذا المنزل، عندما كنت مريضا، وقد كان عليها أن تدرك ذلك منذ فترة طويلة جدا، عندما كانت فتاة صغيرة وترى منازل بعينها وتمنت أن تعيش فيها.
والشيء الآخر الذي قالته هو أننا غير قادرين بنحو كامل على الاعتناء بأنفسنا؛ فماذا لو مرضت أنا وكنت بمفردي تماما؟ وماذا لو تكرر ذلك الأمر ثانية؟ أو ماذا لو حدث هذا الأمر لها؟
قالت إننا نكن بعض المشاعر أحدنا تجاه الآخر، وهي ليست بالمشاعر المعتادة. وأضافت أن بمقدورنا العيش معا كأخ وأخت، وأن يعتني كل منا بالآخر على هذا النحو، وسيكون ذلك من أكثر الأشياء الطبيعية في هذا العالم. وقالت إن الجميع سيتقبل ذلك الأمر، ولم لا يفعلون هذا؟
كنت أشعر بالانزعاج طوال الوقت الذي تتحدث فيه، بل أيضا بالغضب والخوف والروع، وكان الأسوأ هو ما ختمت به حديثها عندما قالت إنه ما من أحد سيعتقد أن في الأمر شيئا ما. وكنت أستطيع أن أستشف ما تقصده، وربما أتفق معها أن الناس سيعتادون على الأمر، وربما يلقون بمزحة أو مزحتين سيئتين، وقد لا نسمع حتى بهما.
قد تكون محقة، وربما يكون حديثها منطقيا.
شعرت حينها كما لو أن أحدهم قد ألقى بي في قبو وصفق الباب فوق رأسي.
ولكنني لم أكن لأجعلها تعرف عن الأمر شيئا.
قلت لها إنها فكرة جيدة، لكن هناك شيئا يجعلها مستحيلة.
قالت: ما هو هذا الشيء؟
قلت لها إنني نسيت أن أخبرها، مع كل ما مر بي من المرض والقلق وسائر الأشياء الأخرى، بأنني عرضت المنزل للبيع، وقد اشتراه أحدهم.
قلت في نفسي: أوه، أوه! ولم لم أخبرها بذلك؟
قلت بصدق حينها، إنه لم يكن لدي أدنى معرفة بما كانت تريده، لم أعرف أنها تخطط في ذهنها لذلك.
قالت: «إن هذا الأمر لم يرد على ذهني في الوقت المناسب، شأنه شأن كثير من الأمور الأخرى في حياتي. يبدو أنه شيء يتعلق بي أنا؛ فإنني لا أفكر في الأمور في وقتها الصحيح؛ دائما ما أعتقد أن هناك متسعا من الوقت.»
لقد أنقذت نفسي ولكن ليس دون تكلفة؛ فقد كان علي أن أعرض المنزل، هذا المنزل، للبيع وأبيعه بأسرع ما يمكن، تماما كما فعلت هي بمنزلها.
وقد بعته بالسرعة نفسها تقريبا، لكن لم أكن مجبرا أن أقبل عرضا تافها كما فعلت هي. ثم كان علي أن أواجه مهمة التعامل مع كل الأشياء التي تراكمت في المنزل منذ أن انتقل إليه والداي في شهر العسل، حيث لم يكن معهما نقود للقيام بأي رحلة.
واندهش الجيران مما حدث. لم يكونوا جيراني منذ وقت طويل؛ فهم لم يكونوا يعرفون أمي، لكنهم قالوا بأنهم اعتادوا مجيئي وذهابي، ومواعيدي المنضبطة.
كانوا يريدون أن يعرفوا خططي بخصوص الوقت الحاضر، وأدركت أن ليس لدي أي خطط؛ فبخلاف عملي لم يكن هناك ما أفعله، وقد كنت بالفعل قد أقللت من مهام عملي حيث كنت أتطلع أن أمضي شيخوختي بعناية وحرص. •••
بدأت أجوب البلدة بحثا عن مكان أعيش به، واتضح أنه من بين كل الأماكن التي يمكن أن تناسبني لم يكن هناك سوى مكان واحد فقط شاغر، وكان هذا المكان شقة في العمارة التي شيدت مكان منزل أونيدا القديم، ولم تكن الشقة بأعلى طابق، وتطل على منظر رائع كما كانت شقتها، بل كانت بطابق سفلي. وعلى أية حال، لم أكن أهتم بأن تطل شقتي على منظر رائع؛ لذا أخذتها، ولم أدر ما الذي يمكنني أن أفعله بعد ذلك.
بالطبع كنت أنوي أن أخبرها بالأمر، ولكنه ذاع حتى قبل أن أنتقل إلى شقتي. وعلى أية حال، فقد كانت لها خططها الخاصة بها، وكان فصل الصيف قد حل، ولم تكن برامجنا تذاع في ذلك الوقت. وفي تلك الأيام، لم نكن يرى كل منا الآخر بانتظام، ولم أعتقد أنه عندما يحدث ذلك يجب علي أن أعتذر لها أو أطلب إذنها بالسماح لي بالإقامة في نفس عمارتها. وعندما ذهبت لألقي نظرة على المكان وأوقع عقد الإيجار، لم تكن هي متواجدة هناك.
هناك شيء واحد أدركته في تلك الزيارة، أو حينما فكرت بها فيما بعد. تحدث إلي رجل لم أتعرف عليه في البداية، وبعد دقيقة أدركت أنه شخص عرفته لسنوات، وظللت نصف عمري أحييه في الطريق. لو كنت رأيته هناك لكنت عرفته بالرغم من آثار تقدم العمر، لكني لم أتعرف عليه، وقد ضحكنا على ذلك، وأراد أن يعرف إن كنت سأنتقل بالقرب من ساحة العظام (أي منطقة تخزين وتفكيك المركبات القديمة).
قلت له إنني لم أكن أدري أنهم يطلقون عليها ذلك، ولكني كنت سأفعل.
ثم أراد أن يعرف إن كنت أمارس لعبة اليوكر، وقلت إني ألعبها، ولكن ليس كثيرا.
قال: «هذا شيء جيد.»
ثم فكرت حينها أن العيش لفترة طويلة بدرجة كافية كفيل بأن يمحو كل المشكلات، ويضعك ضمن مجموعة مختارة من الناس. ومهما كانت إعاقتك، فإن مجرد العيش حتى هذا العمر الذي كنت فيه يمحوها إلى حد بعيد؛ فكل وجه سيعاني، وليس وجهك فقط.
وهذا جعلني أفكر في أونيدا، وكيف كان مظهرها حينما كانت تتحدث عن الانتقال إلى منزلي؛ فلم تعد رشيقة، لكنها كانت هزيلة متعبة، بلا شك، من الليالي التي أمضتها مستيقظة بجواري، لكن عمرها كان يكشف عما هو أبعد من ذلك. كانت تتمتع بجمال هادئ طوال الوقت؛ فقد كانت امرأة شقراء تعلو وجهها حمرة، وبه ذلك المزيج الغريب الذي يكشف عن رغبة في الاعتذار، وينم عن ثقة أبناء الطبقة العليا حيال ما تمتلكه وما فقدته. عندما قدمت عرضها لي كانت تبدو متوترة ويعلو وجهها تعبير غريب.
بالطبع لو كان لي الحق في الاختيار، لكنت بطبيعة الحال، وبالنسبة إلى طولي، اخترت فتاة أقل حجما، كالفتاة الجامعية الجميلة، ذات الشعر الداكن، التي كانت من معارف آل كريبس، وعملت في متجرهم لفترة الصيف.
وفي أحد الأيام قالت لي هذه الفتاة بطريقة لطيفة إنه يمكنني الحصول على نتيجة أفضل بالنسبة إلى وجهي في هذه الأيام، وقالت إنني سأندهش من النتيجة، وإن ذلك لن يكلفني كثيرا خصوصا في ظل برنامج التأمين الصحي بأونتاريو.
كانت محقة، لكن كيف لي أن أوضح لها أنني لا أستطيع الذهاب إلى عيادة أحد الأطباء وأقول له إنني أرغب في شيء لا أعرف كنهه؟ •••
بدت أونيدا على نحو أفضل مما كانت عليه قبل ذلك، وذلك عندما ظهرت أثناء حزمي لأمتعتي وأشيائي وتخلصي من بعضها. كان شعرها مصففا، وقد تغير لونه بعض الشيء، ربما أضحى بنيا أكثر.
قالت: «لا يتعين عليك أن تلقي بكل شيء دفعة واحدة؛ أي كل ما جمعته عن تاريخ هذه البلدة.»
قلت لها إنني كنت انتقائيا في فرز الأشياء، بالرغم من أن ذلك لم يكن صحيحا تماما. بدا لي أن كلينا كان يتظاهر بالاهتمام بما حدث بدرجة أكبر مما نحن عليه بالفعل، وعندما فكرت في تاريخ البلدة في ذلك الوقت، تراءى لي أن كل البلدات يجب أن تشبه بعضها بعضا في النهاية.
لم نذكر أي شيء عن انتقالي إلى العمارة التي تقطن بها، كما لو أننا ناقشنا الأمر بالكامل وأصبح شيئا مسلما به منذ فترة طويلة.
قالت إنها ستذهب في واحدة من رحلاتها، وفي هذه المرة ذكرت اسم المكان؛ وهو جزيرة سافاري، كما لو أن هذا كان كافيا.
سألتها بأدب عن المكان الذي كانت ستقيم فيه، فأجابت قائلة: «أوه، إنه قبالة الساحل.»
قالت ذلك وكأن هذه إجابة وافية لسؤالي.
وأردفت قائلة: «حيث تعيش صديقة قديمة لي.»
بالتأكيد، قد يكون ذلك صحيحا. «لقد بعثت لي رسالة بالبريد الإلكتروني، وقالت إن ذلك ما يجب أن أفعله. أنا لست مهتمة بالأمر إلى حد ما، لكن ربما علي أن أجرب الذهاب إلى هناك.» «أعتقد أنك لن تعرفي شيئا عن المكان إلا إذا جربت الذهاب إليه.»
شعرت كما لو أنه كان علي أن أضيف شيئا آخر؛ كأن أسأل عن أحوال الطقس هناك، أو شيء آخر يتعلق بالمكان الذي كانت ستذهب إليه، لكن قبل حتى أن أفكر فيما يجب أن أقوله، أطلقت صيحة أو صرخة صغيرة غريبة، ثم وضعت يدها على فمها، وسارت بخطوات شديدة الحذر نحو نافذتي.
قالت: «سر بهدوء، بهدوء. انظر، انظر هناك.»
كانت تضحك بلا صوت تقريبا، ضحكة قد توحي حتى بأنها كانت تتألم، وأشارت إلي بيدها من خلف ظهرها بينما كنت أنهض من مكاني حتى أتحلى بالهدوء.
كان يوجد بالفناء الخلفي لمنزلي حوض للطيور، ولقد وضعته منذ سنوات حتى تتمكن أمي من مشاهدة الطيور. كانت مولعة جدا بها، وكان بمقدورها التعرف عليها من خلال أصواتها وأشكالها كذلك. كنت قد أهملته لفترة، لكني ملأته بالماء هذا الصباح.
والآن ماذا حدث؟
امتلأ بالطيور، طيور ذات لونين أبيض وأسود تندفع نحوه كالعاصفة.
لم تكن طيورا؛ فقد كانت أكبر حجما من طيور أبي الحناء وأصغر من الغربان.
قالت: «إنها ظرابي، ظرابي صغيرة. إن اللون الأبيض بها يفوق اللون الأسود.»
لكن يا لجمالها! كانت تتحرك برشاقة وتتمايل، ولا يعترض أحدها طريق الآخر، حتى إنك لا تستطيع أن تعرف عددها، وأيها تحرك أو توقف.
وبينما كنا نشاهدها، دفع كل منها بنفسه الواحد تلو الآخر خارج المياه، وشرعت في السير عبر الفناء بسرعة لكن في خط قطري مستقيم، كما لو أنها كانت تزهو بنفسها لكن في هدوء. كان عددها خمسة.
قالت أونيدا: «يا إلهي! في البلدة.»
بدت علامات الانبهار على وجهها. «هل رأيت مثل هذا المنظر من قبل؟»
قلت لها لا، مطلقا.
خيل إلي أنها ربما تقول شيئا آخر قد يفسد المشهد، لكنها لم تفعل، لم يفعل كلانا ذلك.
كنا في أقصى قدر من السعادة يمكن أن نصل إليه.
كوري
قال السيد كارلتون: «إنه ليس بالشيء الجيد أن تتركز الأموال كلها في عائلة واحدة، كما هو الحال في مكان كهذا؛ أعني بالنسبة إلى فتاة كابنتي كوري هنا. ما أقصده على سبيل المثال أنه ليس بالشيء الجيد لفتاة مثلها؛ فما من أحد في مستواها.»
كانت كوري تجلس قبالة المائدة وأخذت تنظر مباشرة في عيني الضيف، وكان يبدو لها الحوار باعثا على الضحك.
وأردف والدها قائلا: «من ذا الذي يمكن أن تتزوجه؟ لقد أصبحت في الخامسة والعشرين من عمرها.»
رفعت كوري حاجبيها وتظاهرت بأنها متجهمة.
ثم قالت: «لقد أسقطت عاما، إنني في السادسة والعشرين.»
قال والدها: «استمري، اضحكي كما يحلو لك.»
ضحكت بصوت عال، وحقا، ماذا عساها أن تفعل غير ذلك؟ هذا ما حدث به الضيف نفسه، الذي كان اسمه هاورد ريتشي، وكان يكبرها بأعوام قليلة، لكن كانت له زوجة وعائلة صغيرة بالفعل، وهذا ما اكتشفه والدها لتوه.
تغيرت تعبيرات وجهها بسرعة شديدة. كانت أسنانها بيضاء لامعة، وشعرها قصيرا مجعدا يميل لونه للسواد، وكانت وجنتاها عريضتين على نحو جذاب، ولم تكن ضعيفة البنية ولا ممتلئة، وهو الشيء الذي يمكن لوالدها أن يقوله لاحقا. كان هاواد ريتشي ينظر إليها على أنها من ذلك النوع من الفتيات اللاتي يمضين أوقاتا طويلة في لعب الجولف والتنس، وبالرغم من لسانها اللاذع، فإنه توقع أن يكون لها عقل تقليدي.
كان يعمل مهندسا معماريا، وكان في بداية حياته العملية، وأصر السيد كارلتون على أن يناديه بالمعماري الكنسي؛ وذلك لأنه كان يقوم في الوقت الحالي بترميم برج الكنيسة الأنجليكانية بالبلدة؛ وهو البرج الذي كان على شفا الانهيار حتى هب السيد كارلتون لإنقاذه. ولم يكن السيد كارلتون أنجليكانيا، وقد أشار لهذا الأمر مرات عدة؛ فقد كان أحد رعايا الكنيسة الميثودية، وكان ميثوديا حتى النخاع، ولهذا السبب لم يكن يحتفظ في منزله بأي نوع من الخمور، لكن لم يكن يجوز ترك كنيسة عريقة كالكنيسة الأنجليكانية تتعرض للانهيار، ولا أمل في انتظار الأنجليكانيين لكي يفعلوا شيئا؛ فهم فئة فقيرة من البروتستانت الأيرلنديين الذين كان من الممكن أن يزيلوا البرج ويضعوا مكانه شيئا يؤدي إلى تشويه منظر البلدة. إنهم كانوا بالقطع لا يمتلكون نقودا كافية لإصلاح البرج، وما كان لهم أن يفهموا أن الأمر بحاجة إلى مهندس معماري أكثر منه إلى نجار؛ معماري كنسي.
كانت غرفة الطعام قبيحة الشكل، في رأي هاورد على الأقل. كانت هذه فترة منتصف خمسينيات القرن العشرين، لكن بدا كل شيء وكأنه قبل مطلع القرن. كان الطعام مقبولا إلى حد ما، ولم يتوقف الرجل الذي يجلس على رأس المائدة عن الحديث مطلقا، وقد يخيل إليك أن الفتاة قد أصابها التعب من فرط حديثه، لكن كانت تبدو وكأنها على وشك الضحك معظم الوقت. وقبل أن تنتهي من تناول الحلوى، أشعلت سيجارة، وعرضت على هاورد واحدة وهي تقول بصوت مسموع: «لا عليك من أبي.» وتناولها لكن لم ترق له شخصيتها.
فقد رآها فتاة ثرية مدللة، ليست مهذبة.
وفجأة سألته عن رأيه في تومي دوجلاس، حاكم مقاطعة ساسكاتشوان.
قال إن زوجته تؤيده، لكنها لم تكن تعتقد في الواقع أنه يساري راديكالي بالقدر الكافي، ولكنه لم يكن ليخوض في ذلك. «إن أبي يحبه؛ فأبي شيوعي.»
نخر السيد كارلتون تعبيرا على اعتراضه على ما تقول، لكن لم يمنعها هذا من الاستمرار.
فقالت لأبيها: «حسنا، إنك تضحك على نكاته.»
وبعد ذلك بفترة قصيرة، اصطحبت هاورد للخارج ليلقي نظرة على الأراضي المحيطة بالمنزل. كان المنزل يطل مباشرة على الطريق ويقع قبالة المصنع الذي ينتج الأحذية العالية الرقبة وأحذية العمل الخاصة بالرجال؛ ومع ذلك كانت توجد خلف المنزل مساحة شاسعة من المروج، وذلك النهر الذي يلتف حول البلدة بنحو جزئي، وكان هناك طريق غير ممهد منحدر يصل لضفته. قادت هي الطريق إلى النهر، وتمكن من رؤية شيء لم يكن واثقا من وجوده من قبل؛ فقد كان لديها عرج في إحدى رجليها.
سألها قائلا: «ألن يكون الصعود عبر هذا الطريق المنحدر صعبا؟» «أنا لست معاقة.»
قال: «أرى أن لديك قارب تجديف.» معتبرا هذا شبه اعتذار . «سأصطحبك في نزهة به ولكن ليس الآن، أما الآن فعلينا أن نشاهد منظر الغروب.» وأشارت إلى مقعد مطبخ قديم قالت إنه يستخدم من أجل مشاهدة الغروب، وطلبت منه أن يجلس هناك، أما هي فقد جلست على الحشائش. وكان على وشك أن يسألها إن كان بمقدورها أن تنهض بمفردها، لكنه رأى أن ليس من الصواب أن يفعل ذلك.
قالت: «إنني أعاني من شلل الأطفال، وهذا كل ما في الأمر. وكانت أمي تعاني منه أيضا وقد ماتت.» «يا له من أمر مؤسف!» «أعتقد أنه كذلك، لكني لا أستطيع تذكرها. إنني ذاهبة إلى مصر الأسبوع المقبل. لقد كنت متلهفة جدا للذهاب إلى هناك، لكني لم أعد أهتم بهذا كثيرا الآن. هل تعتقد أنها ستكون رحلة ممتعة؟» «أنا لا أريد أن أخسر عملي.»
دهش مما قاله، وبالطبع جعلها ذلك تنفجر في الضحك.
قالت بغرور بعد أن انتهت من الضحك: «إنني أتحدث بوجه عام.» «وأنا أيضا.»
قد يتهافت عليها أحد صائدي الفرص ويوقعها في شباكه؛ ربما يكون أحد المصريين أو غيرهم. كانت تتسم بالجرأة والسلوك الطفولي في نفس الوقت؛ إنها قد تأسر أي رجل في البداية، لكن فيما بعد ستصبح صراحتها ورضاها عن نفسها، إن صح ذلك، مصدر إزعاج له. لكن بالطبع هناك أموالها، وبالنسبة إلى بعض الرجال لن تكون حينها أي من هذه الأشياء مصدر إزعاج لهم على الإطلاق.
قالت: «يجب ألا تذكر أي شيء يتعلق برجلي أمام أبي وإلا فسيغضب غضبا شديدا؛ فلقد فصل ذات مرة ليس فقط طفلا تعمد إغاظتي، بل عائلته بأسرها؛ أعني حتى أقاربه.» •••
أرسلت من مصر عدة بطاقات بريدية غريبة على عنوان شركته، وليس منزله. وهذا طبيعي بالقطع؛ فكيف كان لها أن تعرف عنوان منزله؟
ولم تحمل هذه الكروت صورا لهرم واحد من الأهرامات، أو حتى صورة لأبي الهول.
لكن كان أحدها يحمل بدلا من ذلك صورة لصخرة جبل طارق وبجوارها تعليق يشير إلى أنها صورة لهرم منهار، وكان هناك آخر يحتوي على منظر لحقول ممتدة يغلب عليها اللون البني الداكن، والرب وحده يعلم أين مكانها، وكتب عليها: «بحر الظلمات.» كانت توجد رسالة أخرى مكتوبة بخط صغير تقول: «العدسة المكبرة متوافرة، أرسل النقود.» ولحسن الحظ لم يلحظ أيا من تلك البطاقات أحد في المكتب.
لم يكن ينوي أن يرد على تلك الرسالة، بيد أنه فعل وقال: «العدسة المكبرة معيبة، نرجو رد النقود.»
قاد سيارته إلى بلدتها من أجل القيام بعملية فحص غير ضرورية لبرج الكنيسة، وهو يعلم أنها قد عادت من بلد الأهرامات، لكنه لم يدر إن كانت في منزلها أم خرجت في نزهة قصيرة.
لقد كانت في المنزل، وستمكث به لبعض الوقت؛ فقد أصيب والدها بسكتة دماغية.
لكن لم يكن هناك الكثير من الأشياء لتفعلها في حقيقة الأمر؛ فهناك ممرضة تأتي إلى المنزل يوما بعد يوم، وكان ثمة فتاة تدعى ليليان وولف مسئولة عن إيقاد النار التي دائما ما كانت تشعل عندما يصل هاورد، وبالطبع كانت لها مهام منزلية أخرى. أما كوري نفسها فلم يكن باستطاعتها إشعال النيران بصورة صحيحة، أو إعداد وجبة من الوجبات، وهي لا تستطيع كذلك النسخ على الآلة الكاتبة، أو قيادة السيارة، حتى مع وجود حذاء خاص لمعاونتها في ذلك. عندما وصل هاورد تولى أمور المنزل؛ فقد اعتنى بمسألة إيقاد النيران وتحمل مسئولية العديد من الأشياء الأخرى في المنزل، حتى إنهم اصطحبوه لرؤية والد كوري، إن كانت حالة الرجل تسمح بذلك.
لم يكن يدري كيف كان سيتعامل مع رجلها العرجاء في الفراش، لكنها كانت بنحو ما تبدو أكثر جاذبية وتفردا عن باقي جسمها.
أخبرته بأنها ليست عذراء؛ لكن اتضح أن ذلك بمنزلة نصف حقيقة معقدة، نتيجة لتحرش مدرس البيانو بها جنسيا حينما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. لقد كانت تتجاوب مع ما كان يريده مدرس البيانو هذا؛ لأنها كانت تتعاطف مع الأشخاص الذين كانوا في حاجة ماسة لأشياء معينة.
قالت: «لا تعتبر ذلك بمنزلة إهانة.» موضحة أنها لم تعد تتعاطف مع الناس على هذا النحو.
قال: «آمل ألا يحدث ذلك.»
ثم كانت لديه أشياء ليخبرها بها عن نفسه؛ فحقيقة أنه عرض استخدام واق ذكري لم تكن تعني أنه اعتاد غواية النساء. ففي واقع الأمر، لم تكن هي سوى ثاني امرأة يضاجعها، والأولى كانت زوجته؛ فلقد نشأ في منزل شديد التدين وكان لا يزال يؤمن، إلى حد ما، بالرب. وقد احتفظ بذلك كأحد الأسرار التي لم يخبر بها زوجته، التي كانت ستتندر على ذلك، لكونها يسارية راديكالية.
قالت كوري إنها كانت سعيدة لأن ما كانا يفعلانه - أو ما فعلاه معا لتوهما - لا يبدو مصدر إزعاج له بالرغم من معتقداته الدينية، وقالت إنها هي ذاتها لم يكن لديها قط أي وقت لعبادة الرب؛ لأن والدها كان كافيا للانشغال عن مثل ذلك الأمر.
لم يكن الأمر صعبا بالنسبة إليهما؛ فوظيفة هاورد كانت تتطلب منه السفر في فترة النهار من أجل إجراء عمليات فحص للمباني أو لرؤية أحد العملاء، ولم تكن المسافة من كتشنر تستغرق وقتا طويلا بالسيارة، وقد أصبحت كوري بمفردها في المنزل الآن؛ فلقد توفي والدها، أما الفتاة التي كانت تعمل لديها فقد ذهبت للبحث عن وظيفة في المدينة، واستحسنت كوري تلك الفكرة، بل إنها منحتها نقودا من أجل دروس الكتابة على الآلة الكاتبة، وذلك حتى تعمل على تحسين مستواها.
قالت: «إنك أكثر مهارة من مجرد الخدمة في المنازل، ولتخبريني كيف ستمضي الأمور معك.»
وسواء أنفقت ليليان وولف النقود على دروس الكتابة على الآلة الكاتبة أم على شيء آخر، فهذا أمر لا يعلمه أحد، لكنها استمرت في الخدمة في المنازل، وقد انكشف ذلك الأمر في إحدى المناسبات التي دعي فيها هاورد وزوجته لتناول العشاء، بصحبة آخرين، في منزل أحد الأشخاص المهمين الذين وصلوا مؤخرا إلى كتشنر، وكانت ليليان تقف عند المائدة، والتقت وجها لوجه مع الرجل الذي رأته في منزل كوري؛ الرجل الذي طالما رأته يطوق كوري بذراعيه عندما كانت تدلف لرفع الأطباق أو توزيع النيران. وكشف الحوار الدائر أن الزوجة التي كانت تجلس على المائدة كانت زوجته أيضا وقتذاك كما هو حالها الآن. •••
قال هاورد إنه لم يخبر كوري بشأن حفل العشاء في حينه لأنه كان يأمل ألا يحمل هذا الأمر الكثير من الأهمية، ولم يكن المضيف والمضيفة من الأصدقاء المقربين له أو لزوجته. بالقطع لم يكونا كذلك بالنسبة إلى زوجته التي سخرت منهما فيما بعد من منطلق سياسي. لقد كانت إحدى مناسبات العمل الاجتماعي، ومن المرجح أن المنزل لم يكن من ذلك النوع الذي تثرثر فيه الخادمات مع ربة المنزل.
في واقع الأمر، لم يكن من ذلك النوع، وقالت ليليان إنها لم تثرثر بشأن ذلك الأمر على الإطلاق. قالت هذا في خطاب، ولم تكن سيدتها هي من كانت تنوي أن تتحدث إليها عن هذا الأمر، إن كان يجب عليها ذلك، بل إنها زوجته هي من تود إخبارها. ترى هل كانت ستهتم زوجته بالحصول على تلك المعلومة؟ كان ذلك هو الأسلوب الذي صاغت به الخطاب. لقد أرسلت الخطاب على عنوان مكتبه الذي تمكنت بذكاء من العثور عليه، ولكنها عرفت أيضا عنوان منزله؛ لقد كانت تتلصص عليه. لقد ذكرت له ذلك في الخطاب، كما أشارت إلى معطف زوجته الفضي اللون المصنوع من فراء الثعلب، وكان هذا المعطف يسبب ضيقا لزوجته، وكانت عادة ما تشعر بأنها مضطرة لأن تخبر الناس بأنها ورثته ولم تشتره. وكانت هذه هي الحقيقة بالفعل؛ ومع ذلك كانت تحب ارتداءه في مناسبات معينة، كحفل العشاء هذا، وذلك لكي تكون مساوية للآخرين، كما بدا، حتى لو كانوا أناسا لا حاجة لها بهم.
وكانت ليليان قد كتبت في الخطاب: «أكره أن أكسر قلب تلك المرأة اللطيفة ذات الياقة الفضية اللون المصنوعة من فراء الثعلب.» •••
قالت كوري، عندما شعر أنه كان يجب عليه أن ينقل لها تلك الأخبار: «كيف لليليان أن تعلم بأمر الياقة الفضية التي من فراء الثعلب؟ إنها لا تفقه شيئا، هل أنت واثق أن هذا هو ما قالته؟» «تمام الثقة.»
كان قد أحرق الخطاب على الفور، فقد شعر أنه قد تأذى منه.
قالت كوري: «لا بد أنها علمت بأمر الكثير من الأشياء حين كانت هنا. دائما ما كنت أعتقد أنها ماكرة. أعتقد أن قتلها ليس أحد الخيارات المطروحة، أليس كذلك؟»
لم يرسم حتى ابتسامة على شفتيه؛ لذا قالت بجدية شديدة: «إنني أمزح فقط.»
كان ذلك في شهر أبريل، ولكن الطقس كان لا يزال باردا بدرجة تجعلك ترغب في إيقاد النيران للتدفئة. عزمت على أن تطلب منه ذلك طوال فترة العشاء، لكن سلوكه الغريب المتسم بالكآبة جعلها تحجم عن ذلك.
أخبرها أن زوجته لم تكن تريد أن تذهب إلى ذلك العشاء، قال: «إنه مجرد حظ عاثر.»
قالت: «كان عليك أن تأخذ بنصيحتها.»
قال: «إنه أسوأ شيء، أسوأ شيء يمكن أن يحدث.»
كان كلاهما يحدق في الشبكة الحديدية السوداء للمدفأة، ولم يمسسها سوى مرة واحدة فقط، وذلك عندما حياها.
قالت كوري: «لا، ليس الأمر كذلك. لا.» «لا؟»
قالت: «لا، بمقدورنا أن نمنحها النقود. إنه ليس بمبلغ كبير في حقيقة الأمر.» «أنا لا أمتلك ...» «ليس أنت، بل أنا الذي بمقدوري ذلك.» «أوه، لا.» «نعم.»
أخذت تتكلم برفق، لكنها كانت تتجمد من شدة البرد. ماذا لو رفض؟ لا، لا يمكن أن أسمح لك بذلك. لا، إنها علامة؛ علامة على أننا ينبغي أن نتوقف عما نفعله. كانت واثقة من أن هناك شيئا يدل على هذا في صوته، قسمات وجهه. كل ما يتعلق بتلك الخطيئة القديمة، هذا الشر.
قالت: «إن تلك النقود لا تعني لي شيئا، وحتى إن استطعت أن تدبرها بسهولة، فإنك لن تستطيع أن تدفعها لها؛ إنك ستشعر حينها بأنك تنتزع شيئا من حق عائلتك؛ فكيف سيكون بمقدورك أن تفعل ذلك؟»
العائلة! ما كان ينبغي لها أن تقول ذلك مطلقا، ما كان يجب عليها أن تتفوه بتلك الكلمة على الإطلاق.
لكن في الواقع تهللت أساريره، وقال: لا، لا، لكن كان يشوب صوته بعض الشك. ثم أدركت أن كل شيء سيكون على ما يرام، وبعد فترة قصيرة استطاع التحدث بطريقة عملية، وقد تذكر شيئا آخر من الخطاب؛ فقال إنه يجب أن يدفع لها نقدا وليس بشيكات حيث إنها لا تستخدمها.
كان يتحدث دون أن يرفع بصره وكأنه يعقد إحدى صفقات العمل. كان الدفع نقدا شيئا جيدا بالنسبة إلى كوري أيضا؛ فهو لم يكن ليورطها في شيء.
قالت: «حسنا، إنه ليس بمبلغ ضخم على أية حال.»
لكنه حذرها قائلا: «لكن يجب ألا تدرك أننا نرى الأمر على هذا النحو.»
كانت النقود سترسل على صندوق بريدي باسم ليليان، وتوضع النقود في مظروف موجه لها، وترسل لها النقود مرتين في العام، والتواريخ كانت متروكة لها. وينبغي ألا يكون هناك تأخير في إرسال النقود حتى ليوم واحد، وإلا فإنها ستبدأ في القلق، على حد قولها.
لم يلمس كوري إلا حينما حياها بتحية وداع تنم عن الامتنان وتكاد تكون شبه رسمية، وكان لسان حاله يقول: إن هذا الموضوع ينبغي أن يكون بعيدا كل البعد عما بيننا. سنبدأ من جديد، وسنشعر ثانية بأننا لا نجرح أحدا ولا نقترف إثما. هذا ما أفصحت عنه لغته الصامتة، أما ما أفصحت عنه لغتها، فقالت فيما يشبه المزاح الذي لم يفلح في تخطي الأمر. «لقد ساهمنا بالفعل في تعليم ليليان؛ فهي لم تكن على هذا القدر من الذكاء من قبل.» «نحن لا نريدها أن تصبح أكثر ذكاء، وتطلب المزيد من النقود.» «سنفكر حينها فيما يجب فعله. على أية حال يمكننا حينئذ أن نهدد بإبلاغ الشرطة، بل بمقدورنا فعل ذلك من الآن.»
قال: «لكن هذا معناه نهاية علاقتنا أنا وأنت.» وكان بالفعل قد حياها بتحية الوداع وأدار رأسه مبتعدا، وكانا حينها يقفان في الشرفة الخارجية.
قال: «وأنا لا أستطيع تحمل نهاية علاقتنا أنا وأنت.»
قالت كوري: «إنني سعيدة لسماع ذلك.» •••
مر الوقت سريعا حتى إنهما لم يعودا يتحدثان عن هذا الأمر. كانت تعطيه النقود بالفعل في مظروف حتى يرسله لليليان. في البداية، كان ينخر تعبيرا عن اشمئزازه من الأمر، لكن هذا الصوت تحول فيما بعد إلى تنهد ينم عن الإذعان، كما لو أن أحدهم قد ذكره بأن عليه أداء مهمة روتينية ما. «كم يمر الوقت سريعا!» «حقا، أليس كذلك؟»
ربما قد قالت كوري: «مال ليليان الحرام.» وبالرغم من أنه لم ينتبه إلى هذا التعبير في البداية، فإنه قد اعتاد هو الآخر أن يستخدمه فيما بعد. وكانت تسأله في البداية إن كان قد رأى ليليان ثانية، أو إن كانت هناك حفلات عشاء أخرى.
فكان يذكرها قائلا: «إنهما ليسا من أصدقائنا المقربين.» ويضيف أنه بالكاد يلتقي بهما ولا يدري حتى إن كانت ليليان لا تزال تعمل لديهما أم لا.
ولم تكن كوري تراها هي الأخرى، وكان أهلها يعيشون في الريف، وإن حدث أن أتت ليليان لزيارتهم، فإنه من غير المرجح أن يأتوا للتسوق في هذه البلدة، التي كانت تتدهور الأحوال فيها على نحو سريع؛ فقد أضحى الشارع الرئيسي خاليا من المتاجر إلا من متجر صغير يشتري منه الناس تذاكر اليانصيب أو البقالة التي يحتاجونها، ومتجر آخر للأثاث تعرض واجهته نفس المناضد والأرائك منذ فترة طويلة، ويبدو أنه لا يفتح أبوابه مطلقا، ومن المحتمل ألا يحدث هذا، وظل هكذا حتى مات مالكه في فلوريدا.
بعد وفاة والد كوري، تولى إدارة مصنع الأحذية إحدى الشركات الكبيرة التي وعدت - أو هكذا اعتقدت كوري - بأن تستمر في تشغيله في نفس النشاط. ولكن خلال عام واحد أضحى المبنى خاويا، ونقلت الآلات إلى بلدة أخرى، ولم يتبق فيه سوى بعض الآلات التي عفى عليها الزمن والتي كانت تستخدم من قبل في صناعة كل من الأحذية العادية والأحذية العالية الرقبة. وتبادرت إلى ذهن كوري فكرة أن تقيم متحفا صغيرا طريفا لعرض مثل هذه الأشياء، وشرعت هي ذاتها في ترتيب الأمر، وكانت ستقوم بدور المرشدة التي ستشرح كيف كانت تصنع الأحذية باستخدام تلك الآلات. كان المدهش في الأمر معرفة كيف أنها أصبحت على هذا القدر الكبير من المعرفة، لكن الذي ساعدها في ذلك بعض الصور الفوتوغرافية التي كان والدها قد التقطها كي تكون وسائل توضيحية في محاضرة ربما يكون قد ألقاها هو بنفسه - وكانت مكتوبة على الآلة الكاتبة بنحو سيئ - على الملتحقات بمعهد السيدات، حينما كن يدرسن الصناعات المحلية وقتها. وبالفعل، بحلول نهاية فصل الصيف استطاعت كوري جلب بعض الزائرين إلى المكان، وكانت على ثقة من أن الأمور ستكون أفضل في العام التالي، وخاصة بعد أن وضعت لافتة دعائية عن المكان على الطريق السريع، ووضعت إعلانا عنه في أحد الكتيبات الدعائية السياحية.
تطلعت من النافذة صباح يوم في بداية فصل الربيع، فرأت مجموعة من الغرباء يشرعون في هدم المبنى، واتضح فيما بعد أن العقد الذي أبرمته مع الشركة واعتقدت أنه يمكنها من استخدام المبنى ما دامت تسدد مبلغا من المال كإيجار؛ لا يسمح لها بعرض أي أشياء موجودة داخل المبنى أو الاستيلاء عليها، مهما بدت تلك الأشياء عديمة القيمة. وليس ثمة شك في أن تلك الآلات كانت تئول إليها، بل إنه في واقع الأمر من حسن حظها أنه لم يتم استدعاؤها للمحكمة بعد أن علمت الشركة - التي كانت متعاونة جدا في وقت من الأوقات - ما كانت مقدمة عليه.
ولولا اصطحاب هاورد عائلته إلى أوروبا الصيف الماضي، عندما بدأت هذا المشروع، لكان قد استطاع الاطلاع على العقد ووفر عليها الكثير من المتاعب.
قالت عندما هدأت: لا بأس مما حدث. وسرعان ما عثرت على مصدر اهتمام جديد.
وقد بدأ الأمر عندما قررت أنها قد سئمت من ذلك المنزل الكبير الخاوي، فأرادت أن تتركه، وعزمت على أن تكون وجهتها المكتبة العامة التي تقع في الطريق الرئيسي.
كان مبنى المكتبة جميل الشكل، يسهل إدارته، وكان مشيدا من الطوب الأحمر، ولكون المكتبة واحدة من مكتبات كارنيجي، فلم يكن من السهل التخلص منها بالرغم من أنه لا يفد إليها سوى عدد قليل من الناس، لم يكن كافيا لسداد أتعاب أمين المكتبة.
كانت كوري تذهب إلى هناك مرتين في الأسبوع، وتفتح الأبواب وتجلس أمام مكتب أمين المكتبة. وكانت تزيل الغبار كلما دعت الحاجة لذلك، وتهاتف الأشخاص الذين أظهرت السجلات أنهم قد استعاروا بعض الكتب منذ سنوات ولم يعيدوها للمكتبة. وفي بعض الأحيان كان الأشخاص الذين يجيبون عليها يزعمون أنهم لم يسمعوا مطلقا عن هذه الكتب ؛ مدعين أنه لا بد أنه قد استعارتها إحدى العمات أو الجدات في عائلاتهم التي اعتادت القراءة، والتي ماتت الآن. ثم كانت تتحدث فيما بعد عن ملكية المكتبة للكتب، وكان الكتاب يظهر في بعض الأحيان بالفعل في سلة المرتجعات.
أما الشيء المزعج الوحيد الذي كان يتعلق بالجلوس في المكتبة فهو الضوضاء المحيطة، وكان مصدرها هو جيمي كازنس، الذي كان يجز الحشائش حول مبنى المكتبة، وكان يقوم بما يقوم به عدة مرات إذ ليس ثمة شيء آخر لديه ليفعله؛ لذا استأجرته ليقلم لها الحديقة في منزلها؛ وهو الشيء الذي كانت تفعله بنفسها كنوع من التمرينات البدنية، لكن بنيتها لم تكن تحتاج إليه في واقع الأمر، كما أنها كانت بطيئة جدا في القيام به بسبب إعاقتها.
كان هاورد منزعجا إلى حد ما من التغيير الذي حدث في حياتها. صحيح أنه كان نادرا ما يأتي في الوقت الحالي، لكنه كان بمقدوره المكوث لفترة أطول في كل مرة. يعيش الآن في تورونتو، بالرغم من أنه يعمل في نفس الشركة. كان من أولاده من هم في مرحلة المراهقة أو المرحلة الجامعية، وكانت الفتيات يبلين بلاء حسنا في دراستهن على عكس الصبية بخلاف ما كان يأمل، لكن كان هذا هو الحال مع الصبية دائما. كانت زوجته تعمل بدوام كامل، بل أحيانا ما يزيد عن دوام كامل وذلك لدى أحد الساسة المحليين، وكان راتبها ضئيلا للغاية، بيد أنها كانت سعيدة، بل أكثر سعادة مما رآها من قبل.
وفي الربيع الماضي كان قد اصطحبها إلى إسبانيا، وكانت الرحلة بمنزلة مفاجأة بمناسبة عيد ميلادها. وظلت كوري لا تعرف عنه شيئا لفترة في ذلك الحين؛ فليس من اللائق أن يكتب لها أثناء العطلة التي يقضيها مع زوجته في عيد ميلادها. ما كان له أن يفعل شيئا كهذا مطلقا، وهي ما كان ليروق لها أن يفعل ذلك أيضا.
قالت كوري بعدما عاد من رحلته: «من خلال طريقة زيارتك لي، يخيل إلي أنك ترى منزلي على أنه أحد المزارات.» ورد قائلا: «هذا صحيح تماما.» لقد أصبح الآن عاشقا لكل شيء في الحجرات الفسيحة، بأسقفها المزخرفة، وجدرانها الداخلية المكسوة بالألواح الخشبية الداكنة الكئيبة. كان هناك شيء عبثي كبير يغلفها، لكنه استطاع أن يستشف أن الأمر مختلف بالنسبة إليها، وأنها بحاجة إلى مغادرة المنزل في نزهة للخارج بين الحين والآخر. وبدآ في الذهاب في رحلات قصيرة، ثم رحلات أطول بعض الشيء حيث كانا يمكثان لليلة واحدة في أحد الفنادق الصغيرة الموجودة على الطرق العامة - ولم يتعد الأمر أكثر من ليلة واحدة على الإطلاق - وكانا يتناولان الطعام في أحد المطاعم التي تميل للفخامة.
لم يصادفا مطلقا أحدا يعرفانه، وكانا متأكدين تماما أن هذا كان سيحدث في إحدى المرات. أما الآن فقد اختلفت الأمور، بالرغم من أنهما كانا لا يعرفان سبب ذلك؛ هل لأنهما لن يواجها أي خطر في حالة إن حدث هذا بالفعل؟ فالحقيقة أن الناس الذين كان من المحتمل أن يلتقيا بهم، ولم يحدث هذا مطلقا، لن يشكوا في أنهما ذلك الثنائي الآثم الذي هما عليه الآن؛ إذ يمكنه أن يقدمها على أنها ابنة عم له دون أن يخلف أي انطباع؛ فهي مجرد قريبة عرجاء فكر أن يمر لزيارتها. وقد كان لديه بالفعل بعض الأقارب الذين لم ترغب زوجته في أن تزعج نفسها بمعرفتهم على الإطلاق. ومن ذا الذي سيلاحق امرأة في منتصف العمر ذات قدم عرجاء؟ لن يحتفظ أحدهم بتلك المعلومة الخطيرة كي يفصح عنها في لحظة حاسمة.
لقد التقينا بهاورد عند شاطئ بروس مع أخته، ألن يكون الأمر هكذا؟ كان يبدو على ما يرام. ربما ابنة عمه هي التي كانت في صحبته. هل هي عرجاء؟
لا يبدو أن الأمر يستحق كل هذا العناء.
وبالطبع كانا لا يزالان يتضاجعان، وفي بعض الأحيان كانا يفعلان ذلك بحذر، متجنبين ما قد يؤثر على الكتفين أو الركبتين. كانا تقليديين في ذلك الأمر، وظلا هكذا وهما يهنئان أنفسهما بأنهما لم يكونا في حاجة إلى أي عوامل خارجية مثيرة؛ فقد كان هذا من أجل المتزوجين فقط.
وفي بعض الأحيان كانت الدموع تملأ عيني كوري، التي كانت تدفن وجهها بين ذراعيه.
كانت تقول: «إننا محظوظان بشدة.»
ولم تسأله على الإطلاق إن كان سعيدا أم لا، لكنه أشار بطريقة غير مباشرة إلى أنه كان كذلك بالفعل، وقال إنه قد أصبح لديه أفكار أكثر تحفظا، أو ربما أقل تفاؤلا، فيما يخص مجال عمله. (وقد احتفظت لنفسها برأيها الذي يقول إنه كان دوما يميل لأن يكون محافظا.) كان يتلقى دروس البيانو، مما أثار دهشة زوجته وعائلته؛ إنه لشيء جيد أن يكون للمرء نوع من الاهتمامات الخاصة به، أثناء ارتباطه بعلاقة زواج.
قالت كوري: «أنا واثقة من هذا.» «لم أكن أعني ...» «أعلم هذا.» •••
وفي أحد الأيام، وكان في شهر سبتمبر، دلف جيمي كازنس إلى المكتبة ليخبرها بأنه لن يتمكن من تقليم الحشائش في حديقة منزلها اليوم لأنه يجب عليه الذهاب إلى الجبانة كي يحفر أحد القبور، وقال إنه من أجل أحد الأشخاص الذين كانوا يعيشون هنا.
سألته، وهي تضع إصبعها بين صفحات رواية «جاتسبي العظيم»، عن اسم الشخص المتوفى، وقالت إنه لشيء مثير أن يظهر بعض الأشخاص هنا، أو جثامينهم، ويطلبون ذلك المطلب الأخير من أقربائهم، الذي قد يكون مصدر إزعاج لهم؛ فربما يكونون قد أمضوا حياتهم بأسرها في مدن قريبة أو بعيدة، وبدا أنهم كانوا يشعرون بالرضا عن حياتهم في تلك الأماكن، لكن لم تكن لديهم رغبة في البقاء بها بعد وفاتهم. إن كبار السن هم من لديهم تلك الأفكار دوما.
قال جيمي إن المتوفاة ليست امرأة عجوزا، واسمها هو وولف، لكن اسمها الأول سقط من ذاكرته. «ليليان؟ ليليان وولف؟»
كان يعتقد أنه كذلك.
واتضح أن اسمها كان موجودا في النسخة التي تصل للمكتبة من الجريدة المحلية، التي لم تكن تقرؤها كوري على الإطلاق. لقد توفيت ليليان في كتشنر عن عمر يناهز السادسة والأربعين، ومن المفترض أن تقام مراسم دفنها في كنيسة أصفياء الرب، وستبدأ المراسم في الساعة الثانية.
هذا جيد.
كان هذا أحد يومي الأسبوع الذي من المفترض أن تفتح المكتبة أبوابها خلالهما؛ ولذا، لم يكن باستطاعة كوري الذهاب.
كانت كنيسة أصفياء الرب من الكنائس الجديدة في البلدة، ولم تكن تزدهر أي معتقدات أخرى في تلك البلدة فيما عدا تلك التي كان يطلق عليها والدها «ديانات غريبة». كان بمقدورها رؤية مبنى الكنيسة من إحدى نوافذ المكتبة.
وقفت أمام النافذة قبل الساعة الثانية تتابع عددا لا بأس به من الأشخاص وهم يدلفون إلى الكنيسة.
ولم يكن ارتداء القبعات شيئا ضروريا في تلك الأيام في الجنائز، سواء بالنسبة إلى الرجال أم النساء.
كيف لها أن تخبره بهذا؟ ينبغي أن ترسل خطابا له على مكتبه. كان بمقدورها أن تهاتفه، لكن حينها سيتسم رده بالحذر والتحفظ الشديدين، مما كان سيضيع نصف السعادة التي كان سيشعر بها لتخلصهما من تهديد ليليان.
استأنفت قراءة الرواية، لكنها كانت تقرأ الكلمات فحسب دون تركيز. لقد كانت تشعر بالارتباك. أغلقت المكتبة وراحت تتجول عبر البلدة.
كان الناس يقولون دوما إن هذا البلدة كانت تبدو وكأنها في مراسم جنازة ما، لكن حينما كان يكون بها جنازة بالفعل، تجدها وقد بدت في أوج حيويتها. لقد تذكرت ذلك عندما رأت، على بعد بناية، الأشخاص الذين حضروا الجنازة وهم يخرجون من أبواب الكنيسة، ويتجاذبون أطراف الحديث للتسرية عن أنفسهم وللحد من هيبة الموقف. ويا لدهشتها حين رأت بعد ذلك العديد منهم يسيرون حول الكنيسة متجهين نحو باب جانبي بها حيث يعاودون دخولها مرة أخرى.
كانت قد نسيت ذلك بالطبع. بعد انتهاء مراسم الجنازة، ووضع التابوت المغلق في مكانه على عربة نقل الموتى، اتجه الجميع لتناول المرطبات المقدمة بعد القداس، فيما عدا أولئك المقربين من المتوفاة الذين تبعوها حتى واروها الثرى. وكانت تلك المرطبات تنتظر من يتناولها في جزء آخر من الكنيسة حيث توجد حجرة خاصة بمدرسة الأحد ومطبخ عامر.
لم تر أي سبب يمنعها من الانضمام إليهم.
لكن في آخر لحظة كانت ستقرر أن تسير مبتعدة عنهم.
لكن كان الأوان قد فات؛ فقد نادتها امرأة بصوت فيه تحد - أو على الأقل خال بنحو كبير من أي نبرة حزن - وذلك من خلال الباب الذي يدخل منه الآخرون.
قالت لها تلك المرأة، مقتربة منها: «لقد افتقدناك في القداس.»
لم يكن لدى كوري أي فكرة عمن تكون هذه المرأة. قالت إنها آسفة لأنها لم تتمكن من حضور القداس، لكن كان عليها أن تبقي المكتبة مفتوحة.
قالت المرأة: «نعم، بالطبع.» لكنها في نفس الوقت كانت قد استدارت بالفعل لتتحدث مع امرأة أخرى تحمل في يدها قطعة من الكعك. «هل توجد مساحة في الثلاجة من أجل تلك القطعة؟» «لا أدري، يا عزيزتي. عليك أن تذهبي وتري بنفسك.»
خيل إلى كوري من خلال الرداء المزين بالزهور الذي كانت ترتديه تلك المرأة التي حيتها؛ أن كل النساء بالداخل كن يرتدين فساتين مماثلة؛ أفضل الملابس التي يرتديها المرء يوم الأحد، فضلا عن أفضل ملابس للحداد. لكن ربما تكون أفكارها عن ملابس يوم الأحد قد أضحت أفكارا بالية؛ فبعض النساء هنا كن يرتدين بناطيل عادية، مثلها تماما.
أحضرت امرأة أخرى قطعة من كعكة التوابل في طبق من البلاستيك.
قالت: «لا بد أنك جائعة؛ فالجميع هنا كذلك.»
قالت امرأة كانت مصففة شعر كوري: «لقد أخبرت الجميع أنك ربما ستأتين إلى هنا، وقلت لهم إنك لن تتمكني من ذلك قبل موعد غلق المكتبة. وقلت أيضا إنه لشيء سيئ أن يفوتك القداس. لقد قلت ذلك.»
قالت امرأة أخرى: «لقد كان قداسا رائعا. من المؤكد أنك سترغبين في قدح من الشاي بمجرد انتهائك من تناول تلك القطعة.»
وهكذا سارت الأمور على هذا المنوال؛ لم تستطع أن تتذكر اسم واحدة منهن. لم يكن يوجد إلا الكنيسة المتحدة والكنيسة المشيخية، وقد أغلقت الكنيسة الأنجليكانية منذ زمن بعيد. أهي المكان الذي كان يذهب إليه الجميع؟
لم تكن هناك سوى امرأة واحدة فقط تحظى بنفس القدر من الاهتمام الذي حظيت به كوري في الغرفة، وكانت ترتدي تماما ما تتوقع كوري أن ترتديه أي امرأة تذهب لحضور جنازة؛ كان رداء جميلا يمزج بين اللونين الرمادي والبنفسجي الفاتح، وكانت ترتدي فوق رأسها قبعة صيفية من اللون الرمادي الهادئ.
دعت النساء تلك المرأة لمقابلة كوري، كان عنقها محاطا بقلادة رقيقة من اللؤلؤ الخالص.
قالت في صوت ناعم حاولت أن تجعله سعيدا بأقصى ما تسمح به المناسبة: «أوه، نعم. لا بد أنك كوري. كوري التي سمعت عنها كثيرا. وبالرغم من أننا لم نلتق من قبل، فإنني أشعر أني أعرفك. لكن لا بد أنك تتساءلين من أكون.» ثم ذكرت اسمها الذي لم يعن شيئا لكوري، ثم هزت رأسها وأطلقت ضحكة صغيرة تنم عن الآسف.
ثم قالت: «كانت ليليان تعمل لدينا منذ أن قدمت إلى كتشنر. وكان الأطفال متيمين بها، ثم الأحفاد؛ فقد كانوا يهيمون بها في واقع الأمر. أوه يا إلهي، في يوم عطلتها كنت أنا أكثر البدائل غير المرضية لليليان، لقد كنا جميعا نحبها في واقع الأمر.»
قالت ذلك بأسلوب فيه ارتباك لكنه لم يكن يخلو من ابتهاج. إن مثل هذا النوع من السيدات قد يظهر بعضا من الاستخفاف بالنفس ولكن على نحو جذاب. لقد نظرت إلى كوري على أنها الشخص الوحيد في الحجرة الذي يمكن أن يتحدث لغتها ولا يأخذ كلامها على علاته.
قالت كوري: «لم أكن أعلم أنها كانت مريضة.»
قالت المرأة التي كانت تحمل إبريق الشاي، والتي عرضت المزيد منه على السيدة التي ترتدي قلادة اللؤلؤ لكنها رفضت: «لقد ماتت بسرعة.»
قالت السيدة التي تحمل قدح الشاي: «إن من في مثل عمرها تتدهور حالتهم بصورة أسرع ممن هم أكبر عمرا.» ثم سألت في صوت يشوبه بعض الحسد بسبب تلك اللآلئ: «كم مكثت في المستشفى؟» «إنني أحاول أن أتذكر، هل كان عشرة أيام؟» «ما ترامى إلى مسامعي أنه كان وقتا أقصر من هذا، بل أقصر من هذا عندما أخطروا ذويها في بلدها.»
قالت المرأة التي كانت تعمل لديها ليليان، بهدوء وثبات: «لقد كانت تحتفظ بالأمر لنفسها، إنها لم تكن من ذلك النوع من الأشخاص الذين يحدثون جلبة.»
قالت كوري: «لا، لم تكن كذلك.»
وفي تلك اللحظة انضمت إليهن سيدة شابة بدينة تعلو وجهها ابتسامة ، وقدمت نفسها على أنها القسيسة.
سألتهن: «هل تتحدثن عن ليليان؟» ثم هزت رأسها في تعجب، وقالت: «إن ليليان كانت مباركة؛ لقد كانت من الشخصيات التي يندر وجودها.»
وافقها الجميع الرأي، بما فيهن كوري. •••
كتبت كوري لهاورد في ذلك الخطاب الطويل الذي أخذت تعده في ذهنها وهي في طريقها لمنزلها: «أشك في القسيسة ميلادي.»
وفيما بعد في مساء ذلك اليوم جلست وشرعت في كتابة الخطاب، بالرغم من أنها لن تتمكن بعد من إرساله؛ فقد كان هاورد يمضي أسبوعين في كوخه في مسكوكا بصحبة عائلته. لكن كان الجميع هناك يشعرون ببعض الاستياء، وذلك وفقا لما وصفه قبل ذلك - فزوجته كانت تجلس دون ممارسة للسياسة، وهو دون عزف على البيانو خاصته - لكنهم لم يريدوا التخلي عن عادة الذهاب لهذا الكوخ في هذا الوقت من العام.
كتبت تقول له: «من السخف الاعتقاد بأن مال ليليان الحرام يمكن أن يبنى به كنيسة، لكني أراهن على أنها شيدت برج الكنيسة. إنه برج ذو مظهر مضحك على أية حال؛ لم أفكر مطلقا فيما تنم عنه تلك الأبراج المقلوبة التي تشبه مخروط الآيس كريم. إن غياب الإيمان موجود هناك، أليس كذلك؟ إنها لا تدري ذلك، لكنها تعلن عنه.»
مزقت الخطاب، وبدأت من جديد بنبرة أكثر ابتهاجا. «ولت أيام الابتزاز، وقد عاد كل شيء كما كان من قبل.»
وأضافت أنها لم تدرك مطلقا من قبل كم كان هذا الأمر يثقل كاهلها، لكنها أصبحت ترى ذلك بوضوح الآن. إن الأمر لم يكن يكمن في النقود؛ فكما كان يعرف هو جيدا، لم تكن تهتم هي كثيرا بشأن النقود، وعلى أية حال، لقد أضحى المبلغ ضئيلا وقلت قيمته بمرور السنوات، بالرغم من أنه يبدو أن ليليان لم تلحظ ذلك قط. إنه ذلك الشعور بعدم الراحة، الشعور بعدم الأمان المطلق، الثقل الذي كان يرزح تحته حبهما الطويل، هو ما جعلها تشعر دوما بالتعاسة. لقد كان ينتابها هذا الشعور في كل مرة ترسل فيه نقودا لليليان.
تساءلت في نفسها إن كان من الممكن أن يسمع بتلك الأخبار قبل أن يصل إليه الخطاب. لا، ليس هذا ممكنا؛ إنه لم يصل لمرحلة الاطلاع على صفحة الوفيات بعد.
كان شهرا أغسطس وفبراير من كل عام هما الشهرين اللذين تضع خلالهما كوري تلك النقود الخاصة في مظروف ويدسها هو في جيبه، وربما كان يعيد عد تلك العملات الورقية فيما بعد ثم يكتب اسم ليليان على المظروف قبل أن يضعه في صندوقها البريدي.
والسؤال هو: هل نظر في الصندوق ليرى إن كانت قد أخذت النقود المرسلة لها في الصيف؟ لقد كانت ليليان على قيد الحياة عندما حولت لها كوري النقود، لكن لم يكن باستطاعتها بالتأكيد التوجه إلى الصندوق البريدي. بالقطع لم يكن باستطاعتها ذلك.
آخر مرة رأت كوري فيها هوارد كانت قبل مغادرته إلى الكوخ بوقت قصير، وقد أعطته خلالها مظروف النقود. حاولت أن تعرف متى حدث ذلك على وجه التحديد، وهل كان لديه وقت ليلقي نظرة ثانية على الصندوق بعد وضع مظروف النقود، أم أنه توجه مباشرة إلى الكوخ. في بعض الأحيان وأثناء وجوده في الكوخ في وقت سابق، كان يجد الوقت ليكتب خطابا لكوري، لكنه لم يفعل ذلك هذه المرة. •••
أوت إلى فراشها ولم تكن قد انتهت بعد من خطابها الذي كانت سترسله إليه.
واستيقظت مبكرا عندما كانت السماء مضيئة، ولم تكن الشمس قد أشرقت بعد.
هناك دائما صباح لأحد الأيام تدرك فيه أن الطيور جميعها قد اختفت.
لقد أدركت شيئا، ولقد أيقنته في منامها.
ليس ثمة أخبار تقصها عليه. ليس هناك أخبار؛ لأنه لم تكن هناك أخبار مطلقا من قبل.
ليس هناك أخبار بشأن ليليان؛ لأن ليليان غير مهمة ولم تكن ذات أهمية مطلقا. ولا يوجد صندوق بريدي؛ لأن النقود كانت تذهب مباشرة لأحد الحسابات أو ربما تستقر في حافظة نقود؛ وذلك من أجل المصروفات العامة، أو لتكن مجموعة مدخرات متواضعة، أو لتنفق في رحلة لإسبانيا. من ذا الذي يهتم؟ إن الأشخاص الذين لديهم عائلات، ولديهم أكواخ يمضون فصل الصيف بها، وأطفال بحاجة إلى التعليم، وفواتير ليسددوها، لا يتساءلون كيف ينفقون ذلك القدر من النقود؛ إنه حتى لا يطلق عليه كسب غير متوقع. وهم ليسوا بحاجة إلى تحديد تفسير له.
نهضت من فراشها وارتدت ملابسها على عجل، وسارت عبر كل حجرة من حجرات المنزل وكأنما تعلم الجدران والأثاث بتلك الفكرة الجديدة. كانت تشعر وكأن هناك فجوة في كل مكان، وبالأحرى في صدرها هي. صنعت قدحا من القهوة لكنها لم تتناوله، ثم انتهى بها المطاف إلى حجرة نومها مرة أخرى، واكتشفت أن عرض هذا الواقع الجديد ينبغي أن يتكرر ثانية. •••
كان أقصر خطاب بعثت به. «لقد ماتت ليليان، ودفنت بالأمس.»
لا يهم إن كانت قد أرسلته إلى مكتبه أو بعثته بالبريد السريع.
أغلقت الهاتف، حتى لا تعاني من الانتظار. إنه صمت مطبق.
لكن سرعان ما وصل خطاب كان مقتضبا مثل خطابها. «كل شيء على ما يرام الآن، ابتهجي. أراك عما قريب.»
إذن ذلك هو الحد الذي سيتركان الأمر عنده؛ فالوقت قد فات لفعل شيء آخر؛ فقد كان من الممكن أن يحدث ما هو أسوأ من ذلك، أسوأ من ذلك بكثير.
القطار
إنه لقطار بطيء على أية حال، وقد ازداد بطئا عند المنعطف. كان جاكسون هو الراكب الوحيد المتبقي، وكانت المحطة التالية، وهي كلوفر، تبعد نحو عشرين ميلا، وكان يعقبها ريبلي، ثم كينكاردين، ثم البحيرة. إنها كانت فرصته وعليه ألا يضيعها. أخذ كعب تذكرته بالفعل من المكان المخصص لها بأعلى ظهر المقعد.
ألقى بحقيبته ورآها وهي تستقر بين القضبان تماما. ليس ثمة خيار الآن؛ فالقطار لن يهدئ من سرعته أكثر من ذلك.
لذا انتهز الفرصة. كان شابا ذا بنية قوية، خفيف الحركة كعهده دائما، لكن القفزة - سقوطه على الأرض - أحبطته؛ لقد كانت أصلب مما تخيل، فقد جعله ثباته يندفع إلى الأمام، واستقرت راحتاه بقسوة على الحصب الموجود بين العوارض، مما أدى إلى خدش جلده. كان هذا بسبب شعوره بالقلق.
غاب القطار عن الأنظار الآن، وترامى إلى مسامعه صوته وقد زاد من سرعته قليلا بعدما تجاوز المنعطف. بصق على يديه المخدوشتين وراح يزيل الحصب بعيدا عنهما، ثم رفع حقيبته وشرع في أن يعود أدراجه في نفس الاتجاه الذي كان قد قطعه لتوه بالقطار. لو كان قد تعقب القطار لوصل إلى محطة كلوفر تماما بعد حلول الظلام. لا يزال قادرا على التبرم من أنه قد غط في النوم واستيقظ مشوش الذهن معتقدا أن النوم غلبه أثناء محطته، بينما لم يفعل. قفز وهو مرتبك تمام الارتباك، ثم كان عليه أن يسير.
كان سيعتقد هذا لأن العودة من مسافة بعيدة جدا، العودة للوطن من الحرب، كفيلة بأن تجعل الأمور مشوشة في ذهنه. لكن الوقت لم يتأخر بعد؛ فقد كان سيصل إلى المكان الذي من المفترض أن يذهب إليه قبل منتصف الليل.
لكنه كان يسير في الاتجاه الخاطئ طوال الوقت الذي فكر فيه على هذا النحو.
لم يكن يعرف العديد من أسماء الأشجار؛ هناك أشجار القيقب التي يعرفها الجميع، وأشجار الصنوبر، وليس هناك المزيد. اعتقد أن المكان الذي قفز به هو إحدى الغابات لكنه لم يكن كذلك. كانت الأشجار تمتد بطول الطريق فحسب وتزداد كثافتها عند الجسر، لكن كان بمقدوره أن يلمح وميض الحقول من ورائها، وكان لون الحقول أخضر أو أحمر مائلا للون الأصفر أو أصفر؛ فقد كانت مراعي أو محاصيل، أو بقايا زرع بعد الحصاد. لم يكن يعرف سوى هذا فقط، وقد كان لا يزال في شهر أغسطس.
بمجرد أن تلاشى ضجيج القطار أدرك أن المكان لا يسوده ذلك الهدوء الأمثل الذي كان يمكن توقعه؛ فهناك الكثير من الإزعاج هنا وهناك؛ صوت أوراق أغسطس الجافة وهي تهتز لكن ليس بفعل الرياح، وضجيج بعض الطيور التي لم يكن يراها، ذاك الضجيج الذي بدا وكأنه يعاقبه.
من المفترض أن يكون القفز من القطار لحظة انفصال؛ فأنت تحرك جسدك، وتهيئ ركبتيك، لكي تدخل في كتلة مختلفة من الهواء؛ إنك تتطلع إلى الخواء. لكن ماذا تحصل بدلا من ذلك؟ تحصل على بعض من الأجواء المحيطة الجديدة التي تأتيك على عجل وتحاول جذب انتباهك بطريقة لم تفعلها حينما كنت جالسا في القطار وتتطلع فقط خارج النافذة. ماذا تفعل هنا؟ إلى أين أنت ذاهب؟ شعور بأنك مراقب من أشياء لا تعرف عنها شيئا، شعور بأنك مصدر إزعاج. وتأتي الحياة من حولك ببعض الاستنتاجات عنك من خلال نقاط مراقبة ليس بمقدورك أن تراها.
بدا أن الأشخاص الذين التقى بهم في السنوات القليلة الماضية كانوا يعتقدون أنه ما لم يكن المرء من المدينة، فهو من الريف. وهذا ليس صحيحا؛ فهناك بعض الفروق التي يمكن أن تفوتك بين الريف والمدينة إن لم تكن قد عشت في الريف؛ فجاكسون نفسه كان ابنا لسباك، ولم يخط داخل إسطبل طوال حياته، أو قام برعي الأبقار، أو تجميع حزم الحبوب، أو وجد نفسه كما هو الآن يمشي بخطى متثاقلة عبر قضبان السكك الحديدية التي بدت وكأنما حادت عن هدفها الطبيعي المتمثل في نقل الأفراد والبضائع، لكي تصبح منطقة تغطيها أشجار التفاح البرية وشجيرات التوت الشائكة وعناقيد العنب المتدلية والغربان - لقد كان يعرف اسم هذا النوع من الطيور على الأقل - التي تنعق من أماكن عالية لا تستطيع رؤيتها. والآن ثمة واحدة من أفاعي الغرطر التي تزحف بين القضبان، والتي كانت على ثقة تامة من أنه لن يكون بالسرعة الكافية التي تمكنه من السير فوقها وقتلها. كان لديه من المعرفة ما يمكنه من إدراك أنها لا تضر، لكن تلك الثقة أثارته. •••
كانت البقرة الجيرزي الصغيرة، التي تدعى مارجريت روز، تأتي عادة عند باب الحظيرة لكي تحلب مرتين في اليوم؛ صباحا ومساء. وفي الغالب لم تكن بيل بحاجة إلى إحضارها، لكن في هذا الصباح كان هناك شيء ما يثير اهتمامها بشدة أسفل منحدر عند حقول المرعى أو في الأشجار التي تخفي قضبان السكك الحديدية على الجانب الآخر من السياج. لقد سمعت صفير بيل ثم نداءها وشرعت في السير نحوها مرغمة، لكنها قررت بعد ذلك أن تعود لكي تلقي نظرة أخرى.
وضعت بيل الدلو والمقعد الصغير وشرعت في السير عبر حشائش الصباح المبتلة. «ماذا بعد، يا صغيرتي؟ ماذا بعد؟»
قالت ذلك بنبرة يشوبها الاستمالة والتوبيخ في نفس الوقت. كان هناك شيء يتحرك وسط الأشجار؛ صوت رجل يقول إن كل شيء على ما يرام.
بالطبع، كان كل شيء على ما يرام. هل دار بخلده أنها كانت تخشاه؟ من الأحرى به أن يخاف هو من البقرة التي كانت لا تزال تمتلك قرنين.
عندما تسلق سياج السكك الحديدية، لوح بأسلوب ربما اعتقد أنه مطمئن.
كان هذا بالشيء الكثير بالنسبة إلى مارجريت روز؛ لذا كان لزاما عليها أن تستعرض بعضا من قدراتها. قفزت للأمام، ثم للخلف، ثم راحت تهز قرنيها الصغيرين الحادين، ولا شيء أكثر من هذا، لكن أبقار الجيرزي دائما ما تفاجئك بطريقة غير سارة، بسرعتها وبالتغير المفاجئ في حالتها المزاجية. صاحت بيل لتنهرها ولتطمئنه. «إنها لن تؤذيك. عليك فقط ألا تتحرك. إنها فقط تشعر بالقلق.»
لاحظت الآن الحقيبة التي كان يحملها، وهذا هو ما تسبب في تلك المشكلة. اعتقدت أنه كان يسير بالخارج فحسب على القضبان، لكنه كان يتجه لمكان ما. «إنها منزعجة من حقيبتك. هل يمكن أن تضعها على الأرض للحظات؟ على أن أعيدها إلى الحظيرة لحلبها.»
نفذ ما طلبته، ووقف يرقب ما يحدث وهو لا يرغب في التحرك قيد أنملة.
أعادت مارجريت روز إلى حيث يوجد الدلو والمقعد الصغير عند ذلك الجانب من الحظيرة.
قالت له: «بإمكانك أن تحملها الآن.» وتحدثت إليه بلطف وهو يقترب منها قائلة: «ما دمت لا تحركها نحوها، فستبقى هادئة. إنك جندي، أليس كذلك؟ إن انتظرت حتى أنتهي من حلبها، فبمقدوري أن أعد لك بعضا من طعام الإفطار. مارجريت روز، يا له من اسم سخيف عليك أن تناديها به!»
كانت امرأة قصيرة القامة، قوية البنية، ذات شعر مسترسل رمادي اللون ممتزج بما تبقى من شعرها الأشقر، الذي اتخذت مقدمته مظهرا طفوليا جميلا.
قالت وهي تستوي على مقعدها: «أنا المسئولة ها هنا. أنا أؤيد الملكية أو اعتدت أن أكون كذلك. أصنع بعضا من العصيدة خلف الموقد، ولن يستغرق حلب البقرة وقتا طويلا. إن لم يكن لديك مانع، خذ جولة حول الحظيرة وانتظر حيث لا يمكنها رؤيتك. إنه لشيء سيئ ألا أستطيع أن أقدم لك بيضة. لقد كنا نربي دجاجا، لكن الثعالب أخذت تنقض عليها وتأكلها حتى مللنا تربيتها.»
اعتدنا، اعتدنا أن نربي دجاجا. كان هذا يعني أن هناك رجلا في مكان ما هنا. «تكفي العصيدة. ويسرني أن أدفع مقابلها.» «لا داعي لذلك. عليك فقط أن تبتعد قليلا. إنها منتبهة بدرجة تمنع نزول اللبن.»
غادر المكان ليتجول حول الحظيرة. كانت في حالة سيئة. اختلس النظر بين الألواح الخشبية ليرى نوع السيارة التي كانت تقتنيها، لكن كان كل ما رآه هو عربة صغيرة قديمة وبقايا لبعض الآلات الأخرى المتحطمة.
كان المكان ينم عن بعض الترتيب، وفي المنزل كان كل الطلاء الأبيض مقشرا وأخذ يحيل للون الرمادي، وكانت هناك نافذة مثبت عليها ألواح خشبية لا بد أنها وضعت مكان لوح زجاج محطم. وها هي حظيرة الدجاج المتهدمة التي ذكرت أن الثعالب كانت تنقض على ما فيها من دجاج. وكانت هناك كومة من الألواح الخشبية الصغيرة.
إن كان هناك رجل في المكان، فلا بد أنه مقعد، أو أن ما يعجزه هو الكسل.
كان هناك طريق يمتد بطول المنزل؛ حقل صغير محاط بسياج أمام المنزل، طريق قذر. وبداخل الحقل يقف حصان مرقط ذو مظهر مسالم. كان يمكنه أن يرى أسباب الاحتفاظ بالبقرة، لكن ماذا عن الحصان؟ إن الناس في المزارع حتى قبل الحرب كانوا يتخلصون من الخيول؛ فالجرارات كانت هي البديل. ولم تكن هي من ذلك النوع الذي يمكنه أن يتنزه فوق ظهر أحد الخيول من أجل المتعة.
ثم جالت بذهنه صورة العربة الصغيرة المتواجدة في الحظيرة؛ إنها لم تكن أثرا قديما، بل هي كل ما تملكه.
أخذ يترامى إلى مسامعه الآن لفترة قليلة صوت غريب. كان الطريق يرتفع عبر تل، ومن فوق ذلك التل كانت هناك أصوات تشبه صوت الخيول، ويختلط بها القليل من الجلجلة أو الصفير.
وبعدها قدمت من فوق التل عربة صغيرة تسير على عجل يجرها حصانان صغيران للغاية؛ لقد كانا أصغر من ذلك الموجود في الحقل لكنهما كانا يفوقانه حيوية. وكان يجلس في العربة ستة أو نحو ذلك من الرجال القصار القامة؛ كانوا جميعهم يتشحون بالسواد ويرتدون فوق رءوسهم قبعات سوداء تلائم ما يرتدونه.
كان هناك صوت يصدر عنهم؛ لقد كان صوت غناء، وكانت أصواتهم بسيطة وعالية ورصينة، عذبة بقدر المستطاع. لم ينظروا باتجاهه مطلقا وهم يمرون من جانبه.
أصابه ذلك بالانزعاج؛ فلم تكن العربة الصغيرة في الحظيرة ولا الحصان في الحقل يمثلان شيئا عند المقارنة بتلك العربة.
كان لا يزال واقفا ينظر هنا وهناك حينما سمعها تناديه قائلة: «لقد انتهيت.» كانت تقف بجوار المنزل.
قالت عن الباب الخلفي: «من هنا تستطيع أن تلج وتخرج؛ فالباب الأمامي عالق منذ الشتاء الماضي، ونعجز عن فتحه. يمكن أن يعتقد المرء أنه لا يزال متجمدا.»
سارا فوق بعض الألواح الخشبية الموضوعة فوق أرضية متسخة غير مستوية، وفي عتمة تسببت فيها الألواح الخشبية التي تغطي النافذة. كان المكان باردا هناك مثله مثل الحفرة التي كان ينام فيها؛ فقد كان يستيقظ مرات ومرات وهو يحاول أن يجعل نفسه في موضع يستشعر معه بعض الدفء. لم تكن المرأة ترتجف هناك؛ بل كانت تنبعث منها رائحة النشاط الذي ينم عن الصحة وما يشبه رائحة جلد البقرة.
صبت اللبن الطازج في وعاء خزفي وغطت الوعاء بقطعة من القماش الجبني كانت تحتفظ بها بجانبه، ثم قادته نحو الجزء الرئيسي من المنزل. لم تكن هناك ستائر فوق النوافذ، ولذا كان الضوء يتسلل منها، وكانت المدفأة التي تعمل بالحطب أيضا مشتعلة. كان هناك حوض بمضخة يدوية، ومنضدة مغطاة بغطاء من المشمع كانت بعض جوانبه بالية وممزقة، وأريكة عليها لحاف قديم مرقع.
وكانت هناك أيضا وسادة برز منها بعض بطانتها.
إلى الآن لا يبدو الأمر سيئا، بالرغم من أن كل شيء كان قديما وباليا. هناك فائدة لكل شيء يمكن أن تقع عليه عيناك، ولكن عندما ترفع عينيك لأعلى سترى فوق الأرفف أكواما متراكمة من المجلات أو الصحف، أو ربما مجرد نوع ما من الأوراق التي تكاد تصل إلى السقف.
كان عليه أن يسألها إن كانت لا تخشي النيران؛ نيران الموقد الذي يعمل بالحطب، على سبيل المثال. «أوه، إنني أتواجد هنا دوما؛ أعني أنني أنام هنا. ليس هناك مكان آخر يمكن أن أحتفظ فيه بهذه الأوراق، ولكني أتخذ حذري؛ إنني حتى لا أمتلك مدخنة. لقد حدث مرتين أن ازداد لهيب النيران مما جعلني ألقي بعضا من مسحوق الخبيز عليها، وهذا أمره هين.»
وأضافت: «كان ينبغي أن تتواجد أمي هنا على أية حال. لم يكن ثمة مكان آخر يمكن أن تشعر بالراحة فيه غير هذا المكان، وقد كنت أضع فراشها هنا. أنا أراقب كل شيء هنا. ولقد فكرت بالفعل أن أنقل كل الأوراق إلى الغرفة الأمامية لكنها شديدة الرطوبة وستتلف جميعها.»
ثم ذكرت أن عليها أن توضح الأمور، فقالت: «إن أمي متوفاة. لقد توفيت في شهر مايو عندما تحسنت حالة الطقس. لقد كانت على قيد الحياة عندما انتهت الحرب وسمعت هذا الخبر في الراديو. لقد كانت تعي ذلك جيدا. صحيح أنها فقدت القدرة على الكلام منذ فترة طويلة، لكن كان بمقدورها أن تعي ما يجري حولها. لقد اعتدت على عدم حديثها لدرجة أنه يخيل إلي في بعض الأوقات أنها موجودة هنا، لكنها بالطبع ليست كذلك.»
شعر جاكسون أنه يجب عليه أن يعبر عن أسفه. «أوه، لا بأس. إنه أمر حتمي، ومن حسن الحظ أنه لم يحدث في فصل الشتاء.»
قدمت له عصيدة الشوفان، وصبت له بعضا من الشاي. «هل تريده ثقيلا؟ أعني الشاي.»
هز رأسه بالموافقة وفمه ممتلئ بالطعام. «إنني لا أقتصد على الإطلاق عند وضع الشاي. إن كان الاقتصاد في ذلك، فلم لا نحتسي الماء المغلي إذن؟ لقد نفد أو توقف كل شيء بالفعل لدينا عندما ساءت أحوال الطقس في الشتاء الماضي؛ فلقد نفد الماء وتعطل الراديو، ونضب الشاي. لقد كان لدي حبل عند الباب الخلفي لكي أتشبث به عندما أخرج للحلب، وكنت سأصطحب مارجريت روز إلى المطبخ الخلفي ، لكني أدركت أنها قد تشعر بالانزعاج الشديد من جراء العاصفة ولم أكن لأقوى على الإمساك بها. على أية حال، لقد تخطت الأمر، وتخطيناه جميعا.»
سألها عندما وجد مساحة للحديث: هل هناك أي أقزام في الجوار؟ «لم ألحظ ذلك.» «الأشخاص القصار الذين كانوا يركبون عربة صغيرة؟» «أوه، هل كانوا يغنون؟ لا بد أنهم أولاد المينوناتيين الصغار. إنهم يقودون عربتهم إلى الكنيسة وينشدون طوال الطريق، أما الفتيات فعليهن أن يذهبن في عربات أخرى مع آبائهن الذين يدعون الصبية يستقلون العربة الصغيرة.» «لقد بدوا وكأنهم لم يروني مطلقا.» «إنهم لم يفعلوا. لقد اعتدت أن أقول لأمي إننا نحيا على الطريق القويم لأننا كنا مثل المينوناتيين تماما؛ الحصان والعربة القديمة وشرب اللبن غير مبستر. والاختلاف الوحيد هو أنه لا أحد منا يمكنه الغناء.»
وأضافت: «عندما توفيت أمي أحضروا الكثير من الطعام الذي ظللت أتناوله لأسابيع. لا بد أنهم اعتقدوا أنه ستكون هناك حفلة تأبين قبل الدفن أو نحو ذلك. إنني محظوظة لأنهم يعيشون بجواري، لكني حدثت نفسي قائلة إنهم أيضا محظوظون لأنه من المفترض أنهم يمارسون العمل الخيري، وها أنا ذا تقريبا أقطن بالقرب من عتبة دارهم وسبب للعمل الخيري.»
عرض أن يدفع لها حينما ينتهي من الأكل، ولكنها رفضت أن تأخذ نقوده.
لكنها قالت إنها تطلب منه شيئا واحدا، وهو إن كان بمقدوره أن يصلح لها حاوية علف الحصان قبل أن يمضي.
كان هذا في الواقع يعني صنع حاوية جديدة، ومن أجل أن يفعل ذلك كان عليه أن يبحث عن المواد أو الأدوات التي كان يحتاجها ويمكن أن يجدها. وقد استغرق ذلك اليوم بأكمله، وقدمت هي له على العشاء بعض الفطائر المحلاة وشراب القيقب الذي أعده المينوناتيون. وأخبرته أنه لو قدم بعد أسبوع فقط فقد تقدم له بعضا من المربى الطازجة؛ فلقد قطفت عناقيد من التوت البري الذي كان ينمو على امتداد السكة الحديدية.
جلسا على كرسيي المطبخ خارج الباب الخلفي إلى ما بعد غروب الشمس. كانت تقص له شيئا عن كيفية قدومها إلى المكان، وكان ينصت لها، لكنه لم يكن يعيرها كامل اهتمامه؛ لأنه كان يتفحص المكان حوله، ويرى أن المكان في حالة مزرية، لكنه ليس ميئوسا منه على الإطلاق إذا أراد المرء الاستقرار فيه وإصلاح الأشياء الموجودة فيه. لقد كان يحتاج إلى استثمار بعض المال فيه لإصلاحه، لكن قدر الوقت والطاقة المطلوب استثماره فيه كان أكثر. قد يكون الأمر نوعا من التحدي. كان على وشك الشعور بالندم لأنه كان سيرحل.
والسبب الآخر في أنه لم يعر كامل اهتمامه لما كانت تخبره به بيل - ذلك كان اسمها - هو أنها كانت تتحدث عن حياتها التي لم يمكن بمقدوره تخيلها جيدا.
قالت له إن والدها - الذي كانت تناديه بأبي - قد اشترى ذلك المكان فقط من أجل قضاء الصيف فيه، ثم قرر أنه من الممكن أن يقيموا أيضا فيه طوال العام. لقد كان بإمكانه العمل في أي مكان؛ لأنه كان يكسب عيشه من خلال كتابة عمود في صحيفة «تورونتو إيفننج تليجرام»، وكان رجل البريد يأخذ ما يكتب ثم يرسل عن طريق القطار. لقد كتب عن كل الأشياء التي وقعت حولنا، بل إنه حتى ذكر بيل في مقالاته، مشيرا إليها بالقطة بوسي. وقد كان يذكر أيضا أم بيل بين الحين والآخر، لكنه كان يطلق عليها الأميرة كاساماسيما، وهو اسم مستقى من كتاب لم يعد اسمه يعني شيئا على الإطلاق، كما قالت أمها. ربما كانت أمها السبب في بقائهم في هذا المكان طوال العام؛ فلقد أصيبت بوباء الإنفلونزا الرهيب الذي انتشر عام 1918 وتوفي بسببه العديد من الأشخاص، وعندما تعافت أضحت غريبة. لكنها لم تكن بكماء تماما؛ لأنه كان بإمكانها إنتاج بعض الكلمات، لكنها فقدت العديد منها، أو بالأحرى الكلمات هي التي فقدتها. لقد كان عليها أن تتعلم من جديد كيف تطعم نفسها وتذهب إلى الحمام. وبجانب الكلمات كان عليها أيضا أن تتعلم عدم خلع ملابسها في الطقس الحار؛ فأنت لا تريدها أن تكون مجرد شخص هائم يصبح أضحوكة في شوارع المدينة.
كانت بيل تذهب في الشتاء إلى المدرسة. كان اسم المدرسة الأسقف ستراون، وقد اندهشت لأنه لم يسمع بها مطلقا من قبل؛ فراحت توضح له تهجئة الاسم. لقد كانت تلك المدرسة في تورونتو، وكانت مليئة بالفتيات الثريات، لكنها كانت تضم فتيات مثلها ممن كن يتلقين إعانات من الأقارب أو يذكرن في وصايا من أجل الذهاب إلى هناك. قالت إنها علمتها أن تكون متغطرسة بعض الشيء، ولم تساعدها في معرفة ما تفعله من أجل كسب العيش.
لكن الحادث تولى أمر ذلك كله؛ فقد صدم القطار والدها وهو يسير بجانب السكة الحديدية كما كان يحب أن يفعل في الغالب في أمسيات الصيف. وكانت هي وأمها قد خلدتا إلى فراشهما قبل أن يحدث ذلك، وقد اعتقدت بيل أنه حيوان هارب من أحد المزارع عند السكك الحديدية، لكن أمها كانت تئن بنحو فظيع، وبدت وكأنها عرفت الأمر قبل أن يعلمه أحد.
في بعض الأحيان كانت تراسلها إحدى صديقاتها بالمدرسة لتسألها عما يمكن أن تفعله في هذا المكان، ولكنهن لم يعلمن إلا القليل عن الأمر؛ فهناك الحلب والطهي والعناية بأمها، كما كان لديها أيضا الدجاج آنذاك. ولقد تعلمت أن تقطع البطاطس بحيث يكون لكل جزء عين أو برعم، ثم تزرعها وتجمعها الصيف التالي. لم تتعلم القيادة، وعندما اندلعت الحرب باعت عربة أبيها. لقد جعلها المينوناتيون تقتني حصانا لم يعد يصلح لعمل الحقل، وعلمها أحدهم كيف تسوسه وتقوده.
جاءت إحدى صديقاتها القدامى - تدعى روبين - لزيارتها، وكانت تعتقد أن أسلوب الحياة الذي كانت تعيشه مثير للضحك، وكانت تريدها أن تعاود إلى تورونتو، لكن ماذا عن أمها؟ لقد أصبحت أمها أكثر هدوءا الآن، وكانت لا تخلع ملابسها، كما أنها كانت تستمتع أيضا بالاستماع إلى الراديو؛ حفلات الأوبرا في أوقات ما بعد ظهيرة أيام السبت. يمكنها أن تفعل ذلك بالطبع في تورونتو، لكن بيل لم تكن تبغي أن تقتلعها من المكان. قالت روبين إنها تتحدث عن نفسها هي؛ فهي كانت تخشى أن تقتلع نفسها من المكان الذي كانت تعيش فيه، لكنها ذهبت وانضمت إلى ما كانوا يطلقون عليه جيش النساء. •••
كان أول شيء عليه أن يفعله هو أن يجعل بعض الغرف بخلاف المطبخ ملائمة للنوم فيها؛ فالطقس البارد كان يقترب. وكان هناك بعض الفئران التي توجب عليه أن يتخلص منها، بل من بعض الجرذان أيضا، التي كانت تأتي الآن هربا من الطقس البارد. سألها لماذا لم تشتر قطة من قبل، وسمع جزءا من منطقها الغريب في هذا الشأن؛ إذ قالت إن القطة دائما ما ستقتل بعض الأشياء ثم تجلبها إليها لكي تريها إياها، وهو شيء لا تريد أن تفعله. راح ينصت باهتمام لأصوات المصايد، ثم تخلص منها قبل أن تعي ما حدث. ثم حظرها بشأن الأوراق التي تملأ المطبخ، ومشكلة التعرض للحريق، ووافقت على نقلها إذا ما أصبحت الغرفة الأمامية خالية من الرطوبة. وأصبحت تلك مهمته الأساسية؛ فقد اشترى مدفأة، وأصلح الجدران، وأقنعها بأن تمضي القسم الأكبر من الشهر في الصعود وإحضار الأوراق، وإعادة قراءتها وترتيبها ورصها في الأرفف التي صنعها.
أخبرته حينها أن الأوراق تحتوي على كتاب والدها، وكانت تطلق عليه رواية في بعض الأحيان. لم يفكر في أن يسألها عن تلك الرواية، لكنها أخبرته ذات يوم أنها عن شخصين يدعيان ماتيلدا وستيفن، وأنها رواية تاريخية. «هل تتذكر تاريخك؟»
لقد أنهى خمس سنوات من الدراسة الثانوية بدرجات مقبولة، وأداء جيد جدا في علم حساب المثلثات والجغرافيا، لكنه لم يكن يتذكر الكثير من التاريخ. وفي عامه الأخير، على أية حال، كان كل ما يمكنه تذكره هو أنه ذاهب للحرب.
قال: «ليس تماما.» «كنت ستتذكره تماما إن كنت قد ذهبت إلى مدرسة الأسقف ستراون؛ إذ كنت ستجبر حينها على حفظه. إنه التاريخ الإنجليزي، على أية حال.»
قالت إن ستيفن كان بطلا؛ كان رجلا رفيع الأخلاق، شديد الصلاح مقارنة بمن هم في عصره؛ فقد كان من الأشخاص النادرين الذين لا يكرسون حياتهم من أجل ذاتهم، ولا يخرقون عهدا في الوقت الذي كان من المناسب فيه أن تفعل ذلك؛ ونتيجة لذلك لم ينجح في حياته في النهاية.
ثم بعد ذلك ذكرت ماتيلدا. كانت تنحدر مباشرة من نسل ويليام الفاتح، وكانت تتسم بالقسوة والغطرسة كما هو متوقع، بالرغم من أنه قد يكون هناك أشخاص أغبياء بدرجة كافية بحيث يدافعون عنها لأنها امرأة. «لو أمكنه الانتهاء منها، لأصبحت رواية رائعة جدا.»
كان جاكسون يعلم بالطبع أن الكتب تظهر للنور لأن هناك أشخاصا يجلسون ويكتبونها؛ فهي لا تظهر من عدم. لكن السؤال هو: لم ذلك؟ كانت هناك كتب موجودة بالفعل، هناك الكثير منها، ومنها اثنان كان عليه أن يقرأهما أيام المدرسة؛ «قصة مدينتين» و«مغامرات هاكلبيري فين»، وكان كل منهما مكتوبا بلغة تتعبك على الرغم من اختلاف أسلوبهما في هذا الإطار. وكان ذلك شيئا مفهوما؛ فلقد كتبا في الماضي.
لكن الشيء الذي أثار حيرته، بالرغم من أنه لم يكن ينوي الإفصاح عنه، هو السبب وراء رغبة أي شخص في تأليف كتاب آخر في الحاضر؛ أي في وقتنا هذا.
قالت بيل في خفة: المأساة. ولم يكن جاكسون يدري إن كانت تتحدث عن والدها أم عن أحد الأشخاص الموجودين في الكتاب الذي لم يكتمل.
على أية حال، والآن بعد أن أصبحت هذه الغرفة ملائمة للعيش، كان تفكيره يتجه نحو سقفها؛ فليس ثمة فائدة من إصلاح غرفة وحالة سقفها تجعلها غير ملائمة للعيش ثانية في غضون سنة أو اثنتين. لقد نجح في ترميمه، وهكذا سيظل صالحا لفصلي شتاء آخرين، لكنه لم يكن ليضمن لها أكثر من ذلك. وكان لا يزال عازما على الرحيل بحلول عيد الميلاد. •••
كانت عائلات المينوناتيين في المزرعة المجاورة تعتمد على الفتيات الأكبر سنا؛ حيث إن الصبية الأصغر سنا الذين رآهم لم يكونوا على درجة كافية من القوة تمكنهم من أداء المهام الأكثر صعوبة. وقد استطاع جاكسون أن يحصل على عمل لديهم خلال فترة الحصاد في فصل الخريف، وقد تمت دعوته لتناول الطعام مع الآخرين، ويا لدهشته حين وجد أن الفتيات كن يتصرفن بحماس وهن يقدمن له الطعام، ولاحظ أنهن لا يعانين من البكم، كما توقع. لاحظ أن الأمهات كانت تعتني بهن ، وأن الآباء كانوا يراقبونه هو عن كثب، وشعر بالسعادة لعلمه أنه كان بمقدوره إرضاء كلا الطرفين. ولقد لمسوا أن ليس ثمة ما يثير المشاكل بالنسبة إليه؛ فكل شيء كان على ما يرام.
وبالنسبة إلى بيل، فليس بالطبع ثمة شيء يشوبها.
لقد كانت تكبره بستة عشر عاما، وهذا هو ما اكتشفه. وذكر ذلك، وحتى المزاح بشأنه، كان سيفسد كل شيء؛ فهي امرأة ذات طبيعة خاصة، وهو نوع خاص من الرجال. •••
كانت البلدة التي كانا يذهبان إليها للتسوق، حينما كانا يحتاجان إلى ذلك، تسمى أوريول. كانت تقع في الاتجاه المعاكس من البلدة التي نشأ بها. ربط الحصان في المكان المخصص لذلك والملحق بالكنيسة المتحدة، حيث لم تكن توجد بالطبع مرابط للحيوانات في الشارع الرئيسي. في البداية كان يشعر بالارتياب تجاه متجر الأدوات المعدنية وصالون الحلاقة، لكنه سرعان ما أدرك شيئا عن البلدات الصغيرة، وهو شيء كان ينبغي أن يدركه من خلال نشأته في واحدة من تلك البلدات؛ فليس بينها أي علاقة، اللهم إن كانت هناك مباريات بين فرقها في ملاعب البيسبول أو ملاعب الهوكي؛ حيث يكون ثمة نوع مصطنع ومحموم من العداء بينها. وحينما كانا بحاجة إلى شراء شيء لا توفره لهما المتاجر التي يتعاملان معها، كانا يذهبان إلى إحدى المدن. وكانا يفعلان ذلك بالمثل عندما يريدان استشارة طبيب بخلاف الأطباء الذين توفرهم لهما بلدتهما. ولم يكن يلتقي بأي شخص يعرفه، ولم يظهر أحد فضولا نحوه، بالرغم من أنهم قد ينظرون باهتمام نحو الحصان الذي كان معه. ولأن الطرق الخلفية في شهور الشتاء، أو غيرها، لم تكن تجرف، فقد كان يجب على الأشخاص الذين يأخذون ألبانهم إلى متجر الألبان أو بيضهم إلى متجر البقالة؛ الاستعانة بالخيول، مثلما كان يفعل هو وبيل.
كانت بيل دائما ما تتوقف لترى ما هي الأفلام المعروضة، بالرغم من أنها لم تكن تنوي الذهاب لمشاهدة أي منها. كانت معلوماتها عن الأفلام ونجومها غزيرة، ولكنها كانت مستقاة منذ سنوات مضت؛ مثل رواية ستيفن وماتيلدا، فيمكنها على سبيل المثال أن تخبرك عن المرأة التي تزوجها كلارك جيبل في الواقع قبل أن يمثل شخصية ريت بتلر.
وسرعان ما أصبح جاكسون يحلق رأسه حينما يكون بحاجة إلى ذلك، ويشتري التبغ حينما ينفد ما لديه منه. وقد أصبح الآن يدخن مثله مثل أي مزارع؛ فقد كان يلف سجائره ولا يشعلها مطلقا داخل المنزل.
ظلت السيارات المستعملة غير متاحة لفترة، ولكن عندما أضحت متاحة مع ظهور الأنواع الجديدة أخيرا، ومع وجود مزارعين كسبوا نقودا من خلال الحرب وكانوا على استعداد للتخلي عن السيارات القديمة؛ كان عليه حينها أن يتحدث عن الأمر مع بيل؛ فالرب وحده كان يعلم كيف أصبح الحصان فريكلز عجوزا وعنيدا عند صعود أي تل.
اكتشف أن تاجر السيارات كان يلاحظ وجوده، بالرغم من عدم توقعه زيارته له.
قال تاجر السيارات: «لقد كنت أعتقد دائما أنك أنت وأختك من المينوناتيين، لكنكما ترتديان ملابس مختلفة.»
صدم هذا الكلام جاكسون قليلا، لكنه على الأقل كان أفضل من وصفهما بأنهما زوج وزوجة، ولقد جعله ذلك يدرك أنه لا بد أن العمر قد تقدم به وشابه التغيير عبر السنوات، وكيف أن الشخص الذي قفز من القطار، ذلك الجندي الهزيل المحطم الأعصاب، لم يعد ليعرفه أحد وقد توارى خلف الرجل المتمثل الآن. هذا بخلاف بيل التي توقفت، بقدر ما يراها الآن، عند نقطة بعينها في الحياة حيث ظلت طفلة كبيرة. وحديثها يرسخ ذلك الانطباع؛ فقد كانت تقفز للأمام والخلف، تقفز نحو الماضي وتخرج منه ثانية، بحيث كان يبدو الأمر وكأنها لا تفرق بين رحلتها الأخيرة للبلدة والفيلم الأخير الذي شاهدته بصحبة والدها ووالدتها، أو الحادث الطريف الذي وجهت فيه مارجريت روز - التي نفقت الآن - قرنيها نحو جاكسون القلق. •••
كانت تلك هي السيارة الثانية التي امتلكاها، وكانت مستعملة بالطبع، وقد أقلتهم لتورونتو في صيف عام 1962. لم تكن هذه الرحلة في حسبانهما، وجاءت في وقت حرج بالنسبة إلى جاكسون؛ فقد كان يبني إسطبل خيول جديدا للمينوناتيين، الذين كانوا مشغولين بالمحاصيل، وهناك سبب آخر وهو اقتراب موسم حصاد خضرواته التي كان يبيعها لمتجر البقالة في أوريول. لكن بيل كان لديها ورم، وقد أقنعت أخيرا بأن تعيره بعض الاهتمام، وقد حجز موعد لها لإجراء عملية في تورونتو.
ظلت بيل تقول: يا له من تغيير! هل أنت على يقين من أننا ما زلنا في كندا؟
كان هذا قبل أن يمرا بكتشنر، وبمجرد أن وصلا إلى الطريق السريع الجديد، شعرت بالذعر بالفعل، وأخذت تستجديه أن يبحث عن طريق جانبي، أو يلف ثانية ويعود أدراجه إلى المنزل. وجد نفسه يتكلم بحدة فيما يتعلق بهذا؛ فالمرور قد أثار دهشته هو الآخر. ظلت هادئة بعد ذلك طوال الطريق، ولم يكن يدري إن كانت أغلقت عينيها لأنها قد استسلمت للأمر، أم أنها كانت تصلي. لم يعرف عنها قط أنها كانت تصلي.
حتى في هذا الصباح كانت تحاول أن تثنيه عن رأيه بشأن الذهاب؛ فقالت إن الورم كان يقل حجمه ولا يزيد، وقالت إنه منذ أن أصبح هناك تأمين صحي لكل فرد، أضحى كل شخص لا يفعل شيئا سوى أن يهرع إلى الطبيب، ويجعل من حياته دراما طويلة من المستشفيات والعمليات الجراحية التي لا تعود بشيء إلا بإطالة الفترة التي يكون فيها الشخص مصدر قلق في نهاية الحياة.
هدأت وابتهجت عندما وصلا إلى الطريق الفرعي الذي يقصدانه وأصبحا بالفعل في المدينة، ووجدا نفسيهما في طريق أفنيو، وبالرغم من تعجبها من الكيفية التي قد تغير بها كل شيء، فقد كان بمقدورها عند كل بناية أن تتعرف على شيء كانت لها به معرفة مسبقة؛ فهناك عمارة كان يقطن بها أحد معلميها في مدرسة الأسقف ستراون، وأسفلها كان هناك متجر يمكنك أن تشتري منه اللبن والسجائر والصحف. قالت: ألن يكون غريبا أن تدلف إليه فتجد صحيفة «تورونتو إيفننج تليجرام» التي لن يكون بها اسم والدها فحسب، وإنما أيضا صورته غير الواضحة التي التقطت له عندما كان بشعره كاملا.
ثم أطلقت صيحة خفيفة، وعند شارع جانبي رأت الكنيسة التي تزوج بها والداها؛ لقد كادت تقسم أنها ذات الكنيسة. لقد اصطحباها إلى هناك لكي يرياها إياها، بالرغم من أن هذا المكان لم يكن كنيسة على الإطلاق؛ فهما لم يرتادا أية كنيسة قط. لقد كانت مزحة؛ فقد قال والدها إنهما تزوجا في الطابق الأرضي بالكنيسة، لكن أمها قالت إنهما تزوجا في غرفة الاجتماعات والصفوف الملحقة بالكنيسة.
لقد كانت أمها تتكلم بسهولة وقتذاك، فكانت مثلها مثل أي شخص عادي.
ربما كان هناك قانون في ذلك الوقت يلزمك بالزواج في الكنيسة وإلا فلن يعد الزواج قانونيا.
وعند محطة إيجلنتون رأت علامة مترو الأنفاق. «تخيل أنني لم أستقل مترو الأنفاق مطلقا من قبل.»
قالت ذلك بمزيج من الألم والكبرياء. «تخيل أن تظل بذلك الجهل.»
وفي المستشفى كانوا مستعدين لاستقبالها، واستمرت هي في حيويتها، مخبرة إياهم بفزعها من المرور ومن التغيرات التي طرأت على كل شيء، متسائلة إن كان لا يزال هناك ذلك العرض الذي يقام في عيد الميلاد بجوار متجر إيتون، وإن كان لا يزال أحد يقرأ صحيفة «تورونتو إيفننج تليجرام».
قالت إحدى الممرضات: «كان عليك أن تزوري الحي الصيني؛ فقد أصبح الآن شيئا آخر.»
قالت: «أتطلع لرؤيته في طريق عودتي إلى المنزل.» ثم ضحكت قائلة: «هذا إن رجعت إلى المنزل.» «لا تكوني سخيفة.»
كانت هناك ممرضة أخرى تتحدث مع جاكسون عن المكان الذي ركن به سيارته، وأخبرته أين ينقلها حتى لا يحصل على مخالفة. وتأكدت أيضا من معرفته بكل شيء يتعلق بإقامة أقارب المرضى الذين يقيمون خارج المدينة، ومن أنها أقل تكلفة مما سيدفعونه إن أقاموا في أحد الفنادق.
قالوا إنه يجب على بيل أن تأوي إلى الفراش حالا وسيأتي أحد الأطباء لفحصها، وبمقدور جاكسون أن يأتي لاحقا لكي يودعها قبل النوم، لكنه قد يجدها شبه مخدرة في ذلك الوقت.
ترامى إلى مسامعها ما يقولون، وقالت إنها لم تكن في كامل وعيها طوال الوقت، وإن كونها شبه مخدرة ما كان ليدهشه، وقد ظلل المرح المكان بعض الشيء.
أخذته الممرضة لكي يوقع على شيء قبل أن يغادر. تردد عندما طلب منه أن يكتب صلة القرابة، فكتب «صديق ». •••
عندما عاد في المساء، رأى بالفعل تغييرا، بالرغم من أنه ما كان ليصف بيل وقتها بأنها شبه مخدرة. لقد ألبسوها رداء فضفاضا أخضر اللون ترك عنقها ومعظم ذراعيها عاريين. نادرا ما رآها عارية هكذا أو لاحظ تلك الحبال المشدودة الممتدة بين عظمة الترقوة والذقن.
كانت غاضبة من أن فمها كان جافا. «إنهم لا يسمحون لي بشيء سوى رشفة من الماء.»
كانت تريده أن يذهب ويأتي إليها بزجاجة ماء غازية، وهو شيء لم تشربه في حياتها من قبل على حد علمه. «هناك ماكينة في البهو بالأسفل؛ لا بد أن تكون هناك واحدة. لقد رأيت أناسا يمرون بي وهم يحملون زجاجة ماء غازية في أيديهم، وقد جعلني هذا أشعر بعطش شديد.»
قال إنه لا يستطيع أن يخالف الأوامر.
رقرقت عيناها بالدموع وأشاحت وجهها في تذمر. «أريد العودة إلى المنزل.» «سرعان ما ستعاودين.» «هل يمكنك أن تساعدني في العثور على ملابسي؟» «لا يمكنني ذلك.» «إن لم تفعل، فسأقوم بذلك بنفسي. وسأذهب إلى محطة القطار بمفردي.» «لم يعد هناك أي قطار ركاب يذهب لبلدتنا من هنا.»
وفجأة بدا أنها تخلت عن خططها في الهرب، وفي غضون لحظات راحت تسترجع المنزل وكل التحسينات التي أدخلاها، وبالأحرى التي أدخلها هو، عليه؛ الطلاء الأبيض الذي كان يتلألأ على واجهة المنزل، حتى المطبخ الخلفي الذي طلي بالجير وفرش بالألواح الخشبية، والسقف الذي أعيدت تغطيته بالخشب، والنوافذ التي استعادت طرازها القديم البسيط، وأعظم الأشياء كلها، أنابيب الماء التي كانت تمثل متعة في أوقات الشتاء. «لو لم تظهر أنت لكنت سأحيا الآن في مكان قذر للغاية.»
لم يفصح عن رأيه بأنها كانت بالفعل تعيش في مكان كهذا.
قالت: «حينما أخرج من هنا سأكتب وصية؛ سيئول المنزل كله إليك. فلن يضيع جهدك هباء.»
كان قد فكر في ذلك بالطبع، ومن المتوقع أن آمال التملك كانت ستجلب له شعورا رصينا بالرضا، بالرغم من أنه كان سيعبر عن رغبة صادقة وودودة بألا يحدث شيء من هذا القبيل في القريب العاجل. لكن ليس الآن . بدا أن الأمر لم يكن يعنيه كثيرا؛ فقد كان من المبكر التفكير في هذا.
استعادت شعورها بالغضب مرة أخرى. «أوه، أتمنى لو كنت هناك وليس هنا.» «ستشعرين بأنك أفضل كثيرا عندما تستفيقين بعد العملية.»
على الرغم من أن ذلك كان كذبة كبيرة، وذلك من خلال كل ما سمعه من الأطباء.
وفجأة انتابه شعور بتعب شديد. •••
كان ما قاله أقرب إلى الحقيقة أكثر مما يمكن أن يتصور. وبعد مرور يومين من استئصال الورم كانت بيل تجلس في حجرة منفصلة متلهفة لرؤيته، ولم يزعجها على الإطلاق التأوهات الصادرة عن السيدة التي كانت تقبع خلف الستارة على الفراش المجاور. كان ذلك تقريبا هو حال بيل في اليوم السابق حينما لم يجعلها تفتح عينيها مطلقا أو تلاحظ وجوده كلية.
قالت بيل: «لا تعرها اهتماما؛ فهي فاقدة للوعي تماما، ومن المحتمل أنها لا تشعر بشيء. لكنها إما ستستعيد وعيها في الغد وتتحسن صحتها، وإما لن يحدث ذلك على الإطلاق.»
أظهرت سيطرة قوية وراضية بعض الشيء؛ شيئا من صلابة المتمرسين. كانت تجلس على الفراش ترتشف بعضا من عصير البرتقال اللامع باستخدام ماصة ملتوية بعناية. لقد بدت أصغر سنا بكثير من المرأة التي أحضرها إلى المستشفى منذ وقت قصير. •••
أرادت أن تعرف هل كان يحصل على قسط كاف من النوم، وهل عثر على مكان جيد يتناول فيه طعامه، وهل الطقس لم يكن دافئا بدرجة منعته من المشي، وهل وجد الوقت الكافي لزيارة متحف أونتاريو الملكي، كما نصحته بحسب اعتقادها.
لكنها لم تكن قادرة على التركيز في إجاباته. لقد بدا أنها في حالة من الدهشة؛ دهشة بمقدورها السيطرة عليها.
قالت وهي تقاطع تبريره لعدم الذهاب إلى المتحف: «أوه، علي أن أخبرك بشيء. أوه لا تبدو منزعجا هكذا، ستجعلني أضحك من تعبيرات وجهك، وذلك سوف يفسد الغرز. ترى لم علي أن أفكر في الضحك على أية حال؟ إنه شيء مؤلم بشدة في الواقع. إنها لمأساة. إنك تعرف أشياء عن والدي، ما أخبرتك به عن والدي ...»
الشيء الذي لاحظه هو أنها قالت «والدي» بدلا من «أبي». «لقد كان والدي ووالدتي ...»
بدا أنه كان عليها أن تبحث عن الكلمات وتبدأ من جديد. «لقد كان المنزل في هيئة أفضل من تلك التي رأيتها عليها أول مرة. لقد كنا نستخدم تلك الغرفة الكائنة أعلى الدرج للاستحمام، وكان علينا بالطبع أن نحمل الماء النظيف لأعلى ثم نحمل الماء القذر لأسفل. ولم يحدث أن استخدمت، إلا مؤخرا عندما أتيت أنت، لهذا الغرض الغرفة الموجودة في الطابق السفلي؛ المكان الذي كان يحتوي على الأرفف، والذي كان بمنزلة مخرن، أتتذكره؟»
كيف لم يتسن لها أن تتذكر أنه هو الذي فك الأرفف من تلك الغرفة التي حولها إلى حمام؟
قالت وكأنها تتعقب أفكاره: «أوه، حسنا، فيم يهم ذلك؟» ثم أضافت: «ذات مرة، سخنت بعض الماء وحملته لأعلى كي أستحم، وخلعت ملابسي. حسنا، كنت أفعل. كانت هناك مرآة كبيرة فوق الحوض، لقد رأيت كيف كان هناك حوض وكأنه حمام حقيقي، وكان كل ما على المرء فعله هو أن يجذب سدادة الماء، ثم يصرف الماء في الدلو حينما ينتهي. أما المرحاض، فقد كان في مكان آخر. هل تخيلت المنظر؟ وهكذا شرعت في الاستحمام وكنت عارية تماما، بطبيعة الحال. لا بد أن الساعة كانت نحو التاسعة مساء، حيث كان هناك قدر من الضوء. وقد كنا في الصيف، ألم أقل ذلك؟ كانت تلك الغرفة الصغيرة تواجه الغرب.»
ثم استمرت قائلة: «ثم سمعت وقع خطوات، وكانت خطوات أبي بالطبع. لا بد أنه كان قد انتهى من وضع أمي في فراشها، لقد سمعت وقع خطواته وهو يصعد لأعلى، ولاحظت أنها بدت ثقيلة، ليست كالمعتاد بعض الشيء؛ كانت متمهلة جدا، أو ربما كان هذا انطباعي فيما بعد؛ فالمرء يميل لتهويل الأمور فيما بعد. توقفت الخطوات خارج باب الحمام تماما، وإن كان قد دار بخلدي شيء وقتها، فهو أنه لا بد أنه كان يشعر بالتعب. لم يكن باب الحمام مغلقا بالمزلاج؛ لأنه بالطبع لم يكن هناك مزلاج به، وكنا نفترض أن هناك أحدا بداخل الحمام إن كان بابه مغلقا.
وهكذا كان هو يقف بالخارج ولم أفكر أنا في شيء، ثم فتح هو الباب ووقف في مكانه وراح يتطلع إلي. علي أن أصرح بما أعنيه؛ كان يتطلع إلى كل جزء في جسدي، ليس فقط وجهي. كان وجهي ينظر نحو المرآة وهو ينظر إلي في المرآة وأيضا إلى ما كان خلفي ولا أستطيع أن أراه. لم تكن بنظرة طبيعية بأي حال من الأحوال.
سأخبرك بما اعتقدت وقتها؛ لقد اعتقدت أنه يسير أثناء نومه. لم أدر ما أفعله لأنه ليس من المفترض أن تفزع شخصا يسير أثناء النوم.
ثم قال بعد ذلك: «معذرة.» وأدركت حينها أنه لم يكن نائما، لكنه تحدث بصوت حاول أن يبدو مرحا، أعني أنه كان صوتا غريبا، غريبا للغاية كما لو أنه كان يشعر نحوي بالاشمئزاز، أو أنه غاضب مني، لا أدري. ثم ترك الباب مفتوحا وغادر ونزل إلى البهو بالأسفل. جففت جسدي وارتديت رداء النوم وآويت إلى الفراش وخلدت إلى النوم على الفور، وحينما استيقظت في الصباح كانت لا تزال هناك المياه التي لم أصرفها، ولم أكن أريد أن أقترب منها، لكني فعلت.
بدا كل شيء طبيعيا، وكان قد استيقظ هو بالفعل وكان يكتب على الآلة الكاتبة بعيدا. ألقى تحية الصباح فقط وطلب مني تهجي كلمة ما؛ وهو ما كان يفعله عادة لأنني كنت أفضل في هجاء الكلمات. قلت له هجاء الكلمة التي كان يريدها، وأخبرته أنه يجب عليه أن يتعلم تهجئة الكلمات إن أراد أن يصير كاتبا. كان يائسا. لكن في وقت لاحق من اليوم عندما كنت أنظف بعض الأطباق أتى ووقف خلفي مباشرة وتسمرت مكاني. قال: «إني آسف يا بيل.» وقلت في نفسي: أوه، أتمنى لو أنه لم يقل ذلك. لقد أرعبني. أعرف أنه كان آسف بحق، لكنه أعلنها صراحة بطريقة لم أستطع تجاهلها، وكل ما قلته هو: «لا عليك.» لكني لم أستطع أن أجبر نفسي على قول ذلك بصوت عادي، أو كأن الأمور بالفعل على ما يرام.
لم أستطع، كان علي أن أجعله يفهم أنه قد غير كلا منا. ذهبت لكي ألقي بمياه تنظيف الأطباق، وعدت ثانية للأشياء الأخرى التي كنت أفعلها ولم أتفوه بكلمة. وفيما بعد، أيقظت أمي من قيلولتها وأعددت طعام العشاء وناديته، لكنه لم يأت. قلت لأمي لا بد أنه ذهب لكي يمشي لبعض الوقت؛ كان يفعل ذلك غالبا عندما ينهمك في الكتابة. ساعدت أمي في تقطيع طعامها، لكني لم أمنع نفسي من التفكير في أشياء مقززة، وبالأساس الضجيج الذي كنت أسمعه يأتي في بعض الأحيان من حجرتهما وكنت أتدثر حتى لا أسمعه. وتساءلت الآن بشأن أمي التي كانت تجلس هناك تتناول طعامها، وماذا كان اعتقادها آنذاك أو كانت تفهم من الأمر برمته.
لم أكن أعرف المكان الذي من الممكن أن يكون قد ذهب إليه. لقد وضعت أمي في فراشها وجهزتها للنوم على الرغم من أن هذه كانت مهمته هو. ثم سمعت صوت القطار يقترب، وفجأة سمعت الهرج وذلك الصرير الذي صدر عن فرامل القطار، ولا بد أنني علمت بما حدث بالرغم من أنني لا أدري متى علمت بالفعل.
لقد أخبرتك قبل ذلك أن القطار صدمه مما أدى إلى وفاته.
لكني أخبرك بهذا، وليس هدفي أن أفزعك. في البداية لم أستطع تحمل ذلك، وظللت لفترة طويلة أقنع نفسي بأنه كان يسير على شريط السكك الحديدية وذهنه مشغول بعمله ولم يسمع صوت القطار. تلك هي القصة التي كنت أراها ملائمة. لم أترك نفسي لتعتقد أن الأمر كان يتعلق بي أو حتى أفكر في الشيء الذي كان يتعلق به في المقام الأول.
الجنس.
لقد فهمت الآن، لقد فهمت حقيقة الأمر. إنه لم يكن خطأ أحد؛ إنه خطأ الجنس البشري في وضع مأساوي. نشأتي أنا هناك، وحالة أمي التي كانت عليها، وأبي والحالة التي كان من الطبيعي أن يكون عليها. إنها لم تكن غلطتي أو غلطته.
يجب أن يكون هناك إقرار بذلك، هذا كل ما أعنيه، يجب أن تكون هناك أماكن يمكن للأشخاص الذهاب إليها إن كانوا في وضع صعب، ويجب ألا يشعروا بالخزي أو الذنب حيال ذلك. إن كنت تعتقد أنني أقصد بيوت الدعارة، فأنت على حق. وإن فكرت في العاهرات، فأنت محق أيضا. هل تفهمني؟»
قال جاكسون نعم، وهو يتطلع فوق مستوى رأسها: «أشعر بأني أزحت شيئا عن كاهلي. لا يعني الأمر أنني لا أستشعر المأساة، لكن ما يعنيه هو أنني خرجت منها. إنها خطايا البشرية. لا تعتقد أنني لا أشعر بالشفقة لمجرد أنني أبتسم؛ إنني أشعر بالشفقة الشديدة. لكن يجب أن أقول إنني استرحت، أشعر إلى حد ما بالسعادة. إنك لا تشعر بالحرج لسماعك لكل هذا، أليس كذلك؟» «بلى.» «إنك تدرك أنني لست في حالة طبيعية. أعلم أنني كذلك بالفعل. لقد أضحى كل شيء واضحا أمامي. إنني ممتنة جدا لذلك.»
لم تخفف المرأة التي تتمدد على الفراش المجاور من حدة أنينها المنتظم خلال كل ذلك. شعر جاكسون بأن ذلك الصوت الرتيب كان يتردد داخل رأسه.
سمع صوت حذاء الممرضة الخفيف في البهو، وتمنى لو تدلف إلى تلك الحجرة. وقد فعلت.
قالت الممرضة إنها جاءت لتعطيها قرصا منوما. خشي أن يطلب منه أن يمنحها قبلة قبل أن يتركها ويخرج؛ فقد لاحظ تبادل القبلات كثيرا في المستشفى، وشعر بالسرور لأنه لم يأت ذكر ذلك عندما نهض. «أراك غدا.» •••
استيقظ مبكرا وقرر أن يمشي لبعض الوقت قبل تناول الإفطار. لقد أخذ قسطا وافرا من النوم، لكنه حدث نفسه بأنه يجب عليه أن يأخذ راحة من جو المستشفى. لم يكن يشعر بقلق شديد بسبب التغيير الذي طرأ على بيل؛ فقد كان يعتقد أن من الممكن أو حتى من المحتمل أنها ستعود إلى حالتها الطبيعية خلال يوم أو خلال عدة أيام. إنها ربما حتى لن تتذكر القصة التي قصتها على مسامعه، وتلك نعمة في حد ذاتها.
كانت الشمس ساطعة، كما يمكن أن يتوقع المرء في ذلك الوقت من العام، وكانت الحافلات وعربات الترام ممتلئة بالفعل عن آخرها. سار قليلا باتجاه الجنوب، ثم اتجه نحو الغرب إلى شارع دانداس، وبعد فترة وجد نفسه في الحي الصيني الذي كان قد سمع به. كانت هناك أكوام من خضراوات معروفة، وأكوام أكثر من خضراوات غير معروفة تماما يتم نقلها إلى المتاجر، كما كانت هناك حيوانات صغيرة منزوعة الجلد بدت صالحة للأكل معلقة ومعروضة للبيع. كانت الشوارع ممتلئة بالشاحنات التي ركنت بنحو غير قانوني، وشذرات صاخبة من اللغة الصينية بدت يائسة. اللغة الصينية. كل ذلك الصخب العالي بدا وكأن هناك حرب دائرة، لكن من المحتمل أن ذلك بالنسبة إليهم هو مجرد شيء اعتيادي يحدث كل يوم. ومع ذلك شعر أنه كان يرغب في الابتعاد عن كل هذا، فذهب إلى مطعم يديره الصينيون لكنه كان يعلن عن إفطار عادي مكون من البيض ولحم الخنزير المقدد، وعندما غادر المكان كان ينوي أن يستدير ويعود أدراجه من حيث أتى.
لكنه وجد نفسه يتجه أكثر نحو الجنوب، وسار في شارع سكني تصطف فيه منازل عالية وضيقة بعض الشيء مصنوعة من الطوب. لا بد أنها بنيت قبل أن يستشعر الأشخاص في هذه المنطقة حاجتهم إلى ممرات خاصة بالسيارات، أو ربما حتى قبل أن يقتنوا سيارات بالأساس، أو حتى قبل أن تكون هناك تلك الأشياء المعروفة بالسيارات. سار حتى وجد لافتة كتب عليها شارع كوين ستريت الذي سمع عنه. استدار متجها نحو الغرب ثانية، وبعد عدة بنايات وجد أمامه عائقا؛ فأمام متجر لبيع الكعك المحلى وجد جمعا صغيرا من الناس.
كانت قد أوقفتهم سيارة إسعاف ركنت مباشرة فوق رصيف المشاة بحيث لا يتمكن أحد من المرور. كان بعضهم يتذمر من التأخير ويتساءل بصوت عال إن كان ركن سيارة الإسعاف فوق الرصيف تصرفا قانونيا، بينما بدا البعض الآخر هادئا وهم يتحدثون عما يمكن أن يكون كنه المشكلة. لقد أتى ذكر الموت، وتحدث بعض الناظرين عن الأشخاص الذين من المحتمل أن ماتوا، بينما قال البعض الآخر إن الموت هو الذريعة القانونية الوحيدة لأن تتواجد المركبة في هذا المكان.
لم يكن الرجل الذي خرج محمولا ومحزما إلى النقالة قد فارق الحياة، وإلا فإنهم كانوا سيغطون وجهه؛ ومع هذا، كان فاقد الوعي، وكانت بشرته بلون الإسمنت الرمادي. لم يكن محمولا من داخل متجر الكعك المحلى، كما توقع البعض وهم يتندرون - حيث كان هذا نوعا من الانتقاد لجودة الكعك المقدم في هذا المتجر - إنما من داخل الباب الرئيسي للبناية. كانت بناية سكنية ذات مظهر مقبول، مصنوعة من الطوب ومكونة من خمسة طوابق. وكان يقع في الطابق الرئيسي مغسلة تعمل بالعملة ومتجر الكعك المحلى. وكان الاسم المحفور فوق الباب الرئيسي يوحي بالكبرياء وببعض من حمق الماضي.
بوني داندي.
وأخيرا خرج من المبنى رجل لا يرتدي زي رجال الإسعاف، وقف ينظر في سخط نحو الجمع الذي كان يفكر الآن في أن ينفض. والشيء الأخير الذي يمكن انتظاره الآن هو صوت سيارة الإسعاف الهائل الذي يشبه العويل وهي تشق طريقها وتختفي بعيدا.
كان جاكسون واحدا من أولئك الذين لم يهتموا بالانصراف. لم يكن ليقل إنه كان ينتابه الفضول بشأن أي من هذا، أكثر من أنه كان ينتظر المنعطف الذي لا مفر منه، والذي كان ينتظر أن يمر منه لكي يعود به من حيث أتى. سار نحوه الرجل الذي خرج من المبنى وسأله إن كان على عجل. «لا، ليس بوجه خاص.»
كان هذا الرجل مالك المبنى، أما الرجل الذي حملته سيارة الإسعاف فهو الحارس والملاحظ. «يجب أن أذهب إلى المستشفى لأعرف ما المكروه الذي وقع له. لقد كان على ما يرام بالأمس، ولم يشتك من شيء من قبل، وليس هناك شخص قريب الصلة به يمكن أن أتصل به، بقدر علمي. والأسوأ من هذا أنني لا يمكنني إيجاد المفاتيح. لم تكن معه أو في المكان الذي يعتاد الاحتفاظ بها فيه؛ لذا علي أن أعود إلى منزلي وأحضر النسخة الاحتياطية، وإنني أتساءل إن كان بمقدورك أن تحرس المكان في هذه الأثناء؟ علي أن أذهب إلى المنزل والمستشفى أيضا. بإمكاني أن أطلب ذلك من أحد المستأجرين، لكني أفضل ألا أفعل هذا، إن كنت تدري ما أقصد؛ فأنا لا أريد أن يزعجوني بالسؤال عما حدث في حين أنني لا أعرف أكثر مما يعرفون.»
وسأل ثانية إن كان جاكسون لا يمانع، وأجاب جاكسون أنه لا بأس في هذا. «عليك فقط أن تراقب أي شخص يدلف أو يغادر، ويطلب رؤية مفتاحه، وأخبره أنها مجرد حالة طوارئ ولن تستمر طويلا.»
غادر، ثم استدار مرة أخرى. «يمكنك أيضا أن تجلس.»
كان هناك مقعد لم يره جاكسون. كان قد طواه أحدهم وأزاحه عن الطريق حتى تستطيع سيارة الإسعاف أن تركن. كان أحد المقاعد المصنوعة من القماش، لكنه كان مريحا بدرجة كافية ومتينا. وضعه جاكسون في مكان لا يزاحم فيه المارة أو قاطني العقار، وذلك بعد أن شكره. لم يلاحظه أحد. كان على وشك أن يذكر للرجل المستشفى، وأنه هو ذاته عليه أن يعود إلى هناك بعد فترة قصيرة، لكن الرجل كان في عجلة من أمره، وكان لديه بالفعل ما يكفي لينشغل به ذهنه، وقد أوضح أنه سيعود سريعا بقدر ما يستطيع.
أدرك جاكسون، بمجرد أن جلس، طول الوقت الذي ظل فيه واقفا على قدميه وهو يتجول هنا وهناك.
كان الرجل قد أخبره أنه إذا رغب في بعض القهوة أو أي شيء ليتناوله، فعليه أن يطلبه من محل الكعك المحلى. «فقط قل لهم إنك من طرفي.» لكن جاكسون لم يكن يعرف هذا الرجل.
وحينما عاد المالك، اعتذر له عن تأخيره، والسبب أن الرجل الذي حملته سيارة الإسعاف قد فارق الحياة، ويجب إعداد بعض الترتيبات، وأضحى من الضروري أن تكون هناك مجموعة جديدة من المفاتيح، وها هي معه. سيكون هناك شكل من أشكال الجنازة يضم الأشخاص الذين يقطنون بالمبنى منذ فترة طويلة، ونشر خبر وفاته في الجريدة قد يجلب المزيد من المعزين. ستكون فترة عمل مزعجة حتى يتم ترتيب كل هذا.
إن كان في مقدور جاكسون أن يقوم بالحراسة، فهذا من شأنه أن يحل المشكلة. مؤقتا؛ سيكون الأمر بنحو مؤقت فقط.
سمع جاكسون نفسه وهو يعلن عن موافقته على العرض وأنه غير معترض.
وإن كان يود أن يعمل لفترة قليلة، فيمكن تدبير ذلك الأمر . لقد سمع هذا الرجل - رئيسه الجديد - وهو يقول ذلك. بعد الجنازة مباشرة والتخلص من بعض الأغراض، يمكنه بعدها بأيام قلائل أن يدبر أموره وينتقل إلى المكان.
قال جاكسون إن ذلك ليس ضروريا؛ فأموره مدبرة بالفعل وممتلكاته فوق ظهره.
كان من الطبيعي أن يثير ذلك بعض الشك. ولم يندهش جاكسون بعد أن علم بعد مرور يومين أن رئيسه الجديد قد ذهب إلى قسم الشرطة، لكن من الواضح أنه لم يكن هناك أي شيء عليه؛ فقد بدا أنه واحد من أولئك المحبين للانعزال الذين يمرون بظروف صعبة بطريقة أو بأخرى، لكنه ليس متهما بخرق القانون.
وبدا كما لو أن لا أحد يبحث عنه على أية حال. •••
بوجه عام، كان جاكسون يفضل أن يضم المبنى أشخاصا عجائز؛ وبوجه عام، أشخاصا عزابا. لكن ليس ممن يمكن أن يوصفوا بالتقليديين، لكن ممن لديهم اهتمامات خاصة، أو يمكن أن تقول في بعض الأحيان موهبة. تلك الموهبة التي يلاحظها المرء فيما مضى، ويكسب قوت عيشه من ورائها، لكنها لا تكفي للاعتماد عليها خلال الحياة. ها هو مذيع كان صوته مألوفا في الراديو منذ سنوات مضت خلال الحرب، لكن أحباله الصوتية قد تلفت الآن. معظم الناس اعتقدوا أنه مات، لكن ها هو ذا في شقته الصغيرة يتابع الأخبار ويشترك في صحيفة «ذا جلوب أند ميل» التي كان يعطيها لجاكسون في حالة ما إذا كان هناك شيء يثير اهتمامه فيها.
كان هناك ذات مرة شيء من هذا القبيل.
ماتت مارجوري إيزابيلا تريس، ابنة ويلارد تريس الذي ظل يكتب عمودا لفترة طويلة لصحيفة «تورونتو إيفننج تليجرام»، وزوجته هيلينا (أبوت)، التي كانت الصديقة الطويلة لروبين (شلنجهام) فورد، وذلك بعد معركة شجاعة مع السرطان. صحيفة أوريول، عدد 18 يوليو 1965.
لم يرد ذكر المكان الذي كانت تعيش فيه؛ ربما كان ذلك في تورونتو بصحبة روبين الذي كان يعلم كل شيء عنها. ربما عاشت أكثر مما هو متوقع، وربما كانت حتى تحيا في راحة لا بأس بها وروح معنوية عالية حتى قرب النهاية بالطبع. لقد أظهرت قدرة كبيرة على التكيف مع الظروف، ربما أكثر من تلك التي كان يمتلكها هو نفسه.
لم يكن يمضي وقته في تخيل الغرف التي شاركها فيها أو العمل الذي قام به في منزلها. لم يكن بحاجة إلى ذلك؛ فتلك الأشياء عادة ما كان يسترجعها في أحلامه، ويكون شعوره حينها أقرب إلى الغيظ منه إلى الحنين، كما لو أنه كان عليه العودة على الفور لاستئناف شيء لم يكتمل بعد.
كان المستأجرون في مبنى بوني داندي يشعرون بالقلق بوجه عام حيال أي شيء يمكن أن يطلق عليه تحسينات، معتقدين أن ذلك قد يؤدي لرفع قيمة الإيجار. كان ينجح في إقناعهم بأساليب لائقة وحس مالي جيد. أدخلت تحسينات على المكان وزاد الإقبال عليه لدرجة أن أصبحت هناك قائمة انتظار للراغبين في الإقامة به. وكان المالك يشتكي من أنه قد يصبح مأوى لغريبي الأطوار، لكن جاكسون أخبره بأنهم بوجه عام أكثر نظاما من الناس العاديين، وأنهم ناضجون بدرجة كافية تمنعهم من سوء التصرف. هناك سيدة كانت تعزف في وقت من الأوقات في الأوركسترا السيمفوني لتورونتو، ومخترع لم يستفد بعد من مخترعاته لكنه ما زال متفائلا، ولاجئ مجري مهنته التمثيل كانت لكنته عائقا أمام نجاحه، لكن كان لا يزال هناك إعلان تجاري عنه في مكان ما في العالم. كانوا جميعا يتصرفون بنحو لائق، ويوفرون بعض النقود للذهاب إلى مطعم إيبكيور وقص حكايتهم طوال فترة ما بعد الظهيرة. وكان لديهم أيضا بعض الأصدقاء الذين كانوا حقا من المشاهير، والذين نادرا ما كانوا يأتون لرؤيتهم، والشيء المثير للاهتمام أن مبنى بوني داندي كان يسكن به كاهن متنقل كان على خلاف مع الكنيسة، أيا كان طبيعته، لكنه كان دائما ما يرأس القداس حينما يتم استدعاؤه لذلك.
كان من عادة الأشخاص البقاء حتى يصبح الرحيل ضرورة، ولكن ذلك كان أفضل بكثير من التسلل والهروب.
والاستثناء الوحيد كان لزوجين شابين يدعيان كانديس وكوينسي لم يصفيا حسابهما وهربا في منتصف الليل، وتصادف أن المالك كان هو المسئول حينما قدما للبحث عن غرفة، والتمس العذر لنفسه على اختياره السيئ بقوله إن الوجوه الشابة كان مطلوبا تواجدها في المكان. بالطبع وجه كانديس وليس وجه صديقها؛ فصديقها كان أحمق. •••
في يوم حار من أيام الصيف فتح جاكسون الأبواب الخلفية المزدوجة وأبواب التوصيل ليدخل أكبر قدر من الهواء بينما كان منهمكا في طلاء طاولة. كانت طاولة جميلة حصل عليها دون مقابل لأن طلاءها قد اختفى تماما، ورأى أنها ستبدو جميلة في المدخل عندما تستخدم لوضع البريد عليها.
ابتعد عن المكان الذي كان يجلس فيه لأن المالك كان هناك يتفحص بعض الإيجارات.
كان هناك قرع خفيف على الباب الأمامي. كان جاكسون على استعداد لكي يترك مكانه، وراح ينظف فرشاة الطلاء لأنه اعتقد أن المالك قد لا يرغب في المقاطعة وهو يقوم بحساب الأرقام. لكن لا بأس، فقد سمع الباب وهو يفتح وترامى إلى مسامعه صوت نسائي. وبالرغم من أن الصوت كان على عتبة التعب، فإنه كان لا يزال يحتفظ بشيء من سحره، وثقته المطلقة بأن أيا ما يقول فهو كفيل بإقناع أي شخص يكون في محيط السمع.
ربما ورثت ذلك من أبيها الكاهن. كان جاكسون يعتقد ذلك قبل أن يصيبه ذلك التأثير.
قالت إن ذلك كان آخر عنوان لديها لابنتها. لقد كانت تبحث عن ابنتها؛ ابنتها كانديس، التي ربما كانت ترتحل مع صديق لها. وأضافت أنها جاءت من كولومبيا البريطانية، وتحديدا من كيلونا حيث كانت تقيم هي ووالد الفتاة.
إنها إليان؛ لقد عرف جاكسون صوتها دون شك. تلك المرأة هي إليان.
سمعها وهي تطلب الإذن بالجلوس. فسحب المالك مقعده؛ مقعد جاكسون.
كانت تورونتو أكثر حرارة مما توقعت، بالرغم من أنها كانت تعرف أونتاريو حيث إنها قد نشأت هناك.
وتساءلت إن كان من الممكن أن تحصل على كوب من الماء.
لا بد أنها وضعت رأسها بين يديها لأن صوتها أخذ يخفت. خرج المالك إلى المدخل وأسقط فكة في الماكينة لكي يخرج لها علبة سفن أب. ربما اعتقد أنها أنسب للسيدات من الكوكاكولا.
ولمح جاكسون يقف في الركن يستمع إلى ما يدور، وأشار له بأن يتولى الأمر حيث إنه ربما أكثر تعودا منه على التعامل مع المستأجرين الذين يشوبهم الاضطراب. لكن جاكسون هز رأسه بالنفي بشدة.
لا.
ولم تبق مضطربة كثيرا.
استماحت المالك عذرا، فقال لها إن الحرارة قد تسبب مشاكل هذه الأيام.
والآن بالنسبة إلى كانديس، فقد غادرت هي وصديقها المكان خلال الشهر الجاري؛ ربما منذ ثلاثة أسابيع، ولا يوجد عنوان للمكان الجديد يمكن مراسلتها عليه. «في هذه الحالات، غالبا ما لا يكون هناك واحد.»
فهمت ما كان يرمي إليه. «أوه، بالطبع، بإمكاني أن أصفي حسابها ...»
كان هناك بعض الهمهمات والأصوات الخافتة أثناء تسوية ذلك.
قالت بعدها: «أعتقد أنه لا يمكنك أن تجعلني ألقي نظرة على المكان الذي كانا يعيشان فيه ...» «إن المستأجر غير متواجد الآن. وحتى إن كان هنا، فأنا لا أعتقد أنه سيوافق على ذلك.» «بالطبع؛ فهذا أمر سخيف.» «هل هناك شيء بعينه تهتمين بمعرفته؟» «أوه، لا. شكرا لسعة صدرك. لقد أخذت كثيرا من وقتك.»
نهضت الآن، وتحركا إلى خارج المكتب، ثم أسفل السلالم المؤدية للباب الأمامي، ثم انفتح الباب وابتلعت ضوضاء الشارع كلمات الوداع إن كان هناك أي منها.
مهما كان قدر خيبة أملها، فستنجح في تخطي ذلك عن طيب نفس.
خرج جاكسون من مخبئه أثناء عودة المالك للمكتب.
كل ما قاله المالك هو: «إنها لمفاجأة. لقد استرددنا أموالنا.»
كان رجل يتسم باللامبالاة في الأساس، على الأقل فيما يخص الأمور الشخصية. وهو شيء كان يكن له جاكسون التقدير.
بالطبع كان جاكسون يرغب في رؤيتها. والآن وقد رحلت، بدا نادما على ضياع الفرصة. وبالطبع ما كان ليحط من قدره ويسأل المالك إن كان شعرها لا يزال داكنا؛ مائلا إلى السواد، وهل يتسم جسمها بالطول والنحافة ولا يزال نهداها صغيرين. لم يتكون لديه انطباع عن الشكل من خلال ابنتها؛ كانت ذات شعر أشقر لكنه على الأرجح مصبوغ. كان عمرها لا يزيد على عشرين عاما بالرغم من أنه من الصعب في بعض الأحيان التكهن بذلك في هذه الأيام. كانت واقعة بشدة تحت سيطرة صديقها؛ الهروب من المنزل، والتهرب من سداد الفواتير، والتسبب في كسر قلب الوالدين، كل هذا من أجل أمر كئيب مثل الارتباط بصديق.
أين تقع كيلونا؟ في مكان ما بالغرب. ألبرتا، كولومبيا البريطانية. طريق طويل قطعته للبحث عن ابنتها. بالطبع هذه الأم هي امرأة مثابرة، متفائلة. ربما ظل هذا منطبقا عليها. لقد تزوجت، اللهم إن كانت تلك الفتاة ولدت خارج نطاق الزواج، ولكن طاف بذهنه أن ذلك غير محتمل تماما. ستكون واثقة، واثقة من نفسها أنه في المرة القادمة لن تتعرض لمأساة، وهكذا الحال بالنسبة إلى الفتاة التي كانت ستعود إلى المنزل حينما يضيق بها الحال. وقد تعود وفي يدها طفل، لكن كان ذلك هو الحال في تلك الأيام. •••
قبل عيد الميلاد بفترة قصيرة من عام 1940 كانت هناك جلبة شديدة في المدرسة الثانوية، حتى إنها بلغت الطابق الثالث حيث كان ضجيج الآلات الكاتبة وآلات الجمع يحجب ضوضاء الطابق الأرضي. كانت الفتيات الأكبر سنا يتواجدن بالأعلى؛ وهن الفتيات اللاتي كن يدرسن في السنة الأخيرة اللغة اللاتينية والأحياء والتاريخ البريطاني، ويتعلمن الآن النسخ على الآلة الكاتبة.
وكانت إليان بيشوب واحدة من تلك الفتيات، والشيء الغريب أنها كانت ابنة لأحد القساوسة، بالرغم من أنه لم يكن هناك أساقفة في كنيسة والدها التابعة للكنيسة المتحدة. قدمت إليان بيشوب مع أسرتها، وهي في الصف التاسع، وظلت لخمس سنوات تجلس خلف جاكسون آدامز، بسبب اتباع طريقة الترتيب الأبجدي في الجلوس. وفي ذلك الوقت كان خجل جاكسون وصمته الشديدان قد أصبحا أمرا يقبله الجميع غيرها في الفصل، لكنه كان أمرا جديدا بالنسبة إليها، وخلال الخمس سنوات التالية، ودون الاعتراف بذلك نجحت في أن تولد بينهما نوعا من الألفة. كانت تقترض منه المماحي وأسنان الأقلام الحبر والأدوات الهندسية، ولم يكن ذلك لكسب صداقته بقدر ما كان سببه أنها كانت شخصية غير منظمة. وكان يتبادلان حلول بعض المسائل، وكانا يصححان الاختبارات كل منهما للآخر. وحينما كانا يلتقيان في الطريق، كانا يتبادلان التحية، وتحيته بالنسبة إليها كانت في الواقع همهمة غير واضحة. ولم يكن هناك أي شيء آخر فيما وراء ذلك، فيما عدا أنهما كان يتبادلان بعض النكات. لم تكن إليان فتاة خجولة، لكنها كانت ذكية ومتحفظة ولم يكن لها الكثير من الأصدقاء، وربما كان هذا يناسبه.
ومن موقعها فوق الدرج عندما ذهب الجميع لمشاهدة مصدر الجلبة، دهشت إليان عندما علمت أن أحد الولدين المتسببين فيها هو جاكسون، والآخر كان بيلي واتس. لقد تغير الآن الأولاد الذين كانوا منذ عام واحد فقط يجلسون منكبين فوق كتبهم وينتقلون على نحو مطيع من فصل إلى آخر؛ فبدوا في زي الجيش أكبر مرتين من حجمهم الأصلي، وكانت أحذيتهم العالية الرقبة تحدث جلبة كبيرة وهم يركضون بها. وكانوا يهتفون بأن الدراسة قد ألغيت في ذلك اليوم لأن الجميع يجب أن يذهب إلى الحرب. كانوا يوزعون السجائر في كل مكان، ويلقون بها على الأرض حيث يمكن أن يلتقطها الأولاد الذين حتى لم يحلقوا أذقانهم من قبل.
كانوا جنودا طائشين، مقاتلين متهورين. سكارى حتى الثمالة. «أنا لا أهاب شيئا.» كان هذا هو ما يهتفون به.
حاول مدير المدرسة تنظيمهم، لكن لأن هذا كان في وقت مبكر من الحرب، وكان لا يزال هناك بعض التقدير والاحترام الخاص للأولاد الذين انضموا للجيش، لم يستطع إظهار القسوة التي أظهرها بعد ذلك بعام.
قال: «اهدءوا، اهدءوا.»
قال له بيلي واتس: «أنا لا أهاب شيئا.»
هم جاكسون بفتح فمه ربما ليقول نفس الشيء، لكن في تلك اللحظة التقت عيناه بعيني إليان بيشوب وتبادلا خلالها معلومة ما.
أدركت إليان بيشوب أن جاكسون كان ثملا بالفعل، لكنه لم يكن ثملا تماما، وهكذا فإن مظاهر السكر الواضحة عليه كان يمكن السيطرة عليها. (بيلي واتس كان ثملا تماما بحيث لا يمكن السيطرة عليه.) ومع تفهم ذلك هبطت إليان الدرج وهي تبتسم، وقبلت سيجارة قدمت إليها وأمسكت بها بين إصبعيها دون أن تشعلها. شبكت كل ذراع بذراع لكل من البطلين، وسارت بهما خارج المدرسة.
وبمجرد أن أصبحوا في الخارج، أشعلوا السجائر .
كان هناك تضارب في الآراء بشأن ذلك فيما بعد، بين رعايا كنيسة والدها؛ فقال البعض إن إليان لم تدخن سيجارتها، بل كانت تتظاهر فقط بذلك لكي تسترضي الولدين، بينما قال البعض الآخر إنها بالتأكيد دخنت سيجارتها؛ ابنة قسهم دخنت سيجارتها.
طوق بيلي إليان بذراعيه وحاول تقبيلها، لكنه تعثر وجلس على درج المدرسة وراح يصيح كالديك.
ومات خلال عامين.
في ذلك الوقت كان ينبغي أن تتم إعادته إلى منزله، فجذبه جاكسون حتى يضعا ذراعيه فوق كتفيهما ويجرانه لمنزله بطول الطريق. لحسن الحظ لم يكن المنزل بعيدا عن المدرسة. تركاه هناك وهو غير واع، عند الدرج، ثم دخلا في حوار.
جاكسون لم يكن يرغب في العودة إلى منزله؟ لماذا؟ قال لأن زوجة أبيه كانت تقيم هناك، وهو كان يبغضها. لم؟ دون سبب.
كانت إليان تعلم أن والدته توفيت في حادث سيارة حينما كان صغيرا جدا؛ ربما كان ذلك يذكر أحيانا لتفسير خجله. اعتقدت أن الشراب ربما جعله يبالغ، لكنها لم تحاول أن تجعله يتحدث عن الأمر أكثر من هذا.
قالت: «لا بأس، يمكنك أن تقيم في منزلي.»
تصادف أن والدة إليان كانت بعيدة عن المنزل لأنها كانت تعتني بجدة إليان المريضة. كانت إليان في ذلك الوقت تدير المنزل لوالديها وأخويها الأصغر سنا بأسلوب عشوائي، وكان هذا أمرا سيئا في رأي البعض؛ ليس لأن أمها كانت ستحدث جلبة بشأنه، ولكن لأنها كانت ستريد معرفة التفاصيل، ومن عساه يكون ذلك الولد. على الأقل، كانت ستجعل إليان تذهب إلى المدرسة كالمعتاد.
جندي وفتاة، أصبحا فجأة قريبين جدا كل منهما من الآخر، بينما لم يكن بينهما شيء طوال هذا الوقت سوى تبادل المعلومات بشأن تصريف الأسماء واللوغاريتمات.
لم يعرهم والد إليان أي اهتمام؛ لقد كان يهتم بالحرب بصورة أكبر مما يعتقد بعض أفراد رعيته أن يكون عليها قس، وجعله هذا يفتخر بأن لديه جنديا في منزله. لكنه كان أيضا حزينا لعدم تمكنه من إرسال ابنته إلى الجامعة، كان عليه أن يدخر لكي يرسل أخويها هناك في يوم ما؛ فعليهما أن يعملا كي يكسبا عيشهما. وجعله هذا يتساهل مع إليان في أي شيء تفعله.
لم يكن جاكسون وإليان يذهبان للسينما لمشاهدة الأفلام، ولا لصالة الرقص؛ كان يذهبان للتمشية، وذلك في أي طقس، وعادة ما يكون هذا بعد حلول الظلام. وفي بعض الأحيان كانا يذهبان إلى المطعم ويحتسيان القهوة، لكنهما لم يحاولا أن يتقربا لأي أحد. ما خطبهما؟ أوقعا في الحب؟ حينما كانا يسيران جنبا إلى جنب، قد تتلامس أيديهما بالمصادفة، وقد عود جاكسون نفسه على ذلك. وحينما غيرت هي هذا الأمر العرضي إلى أمر متعمد، وجد أن بمقدوره الاعتياد على ذلك أيضا، متغلبا على شعوره ببعض الارتباك.
أصبح أكثر هدوءا، بل حتى أكثر استعدادا أيضا لتبادل القبلات معها. •••
ذهبت إليان بنفسها إلى منزل جاكسون لكي تحزم حقيبته. كشفت زوجة أبيه عن أسنانها الصناعية اللامعة، وحاولت أن تبدو وكأنها مستعدة لبعض اللهو.
سألتها عما كانا ينويان فعله.
فقالت لها: «من الأحرى الاهتمام بأشيائه.»
كانت مشهورة بسلاطة لسانها، وكانت ألفاظها قبيحة بالفعل. «اسأليه إن كان لا يزال يتذكر أني كنت أنظف مؤخرته.»
قالت إليان، وهي تبلغه بما حدث، إنها كانت تتعامل معها بأدب جم وصل إلى حد الغطرسة؛ إذ لم يكن بإمكانها تحمل تلك المرأة.
لكن جاكسون شعر بالإحراج والقلق واليأس، وهي نفس المشاعر التي كانت تنتابه حينما كان يلقى عليه سؤال بالمدرسة.
قالت إليان: «ما كان ينبغي علي حتى أن أذكرها. ستعتاد على السخرية من الأشخاص بما أنك تحيا في بيت قس.»
قال لها إنه على ما يرام.
اتضح أن ذلك الوقت هو آخر إجازة يمضيها جاكسون معها، وأخذا يتراسلان. كتبت له إليان عن انتهائها من دراسة الكتابة على الآلة الكاتبة والاختزال، وحصولها على وظيفة في مكتب كاتب مجلس البلدة. كانت ساخرة بشدة بشأن كل شيء بصورة أكبر مما كانت عليه في المدرسة؛ ربما كان ذلك بسبب اعتقادها أن الشخص الذي يحارب بحاجة إلى المزاح، وكانت هي تصر على أن تكون الشخص العالم ببواطن الأمور؛ فحينما كان يجب ترتيب زيجات على عجل في مكتب كاتب مجلس البلدة، كانت تشير إلى العروس بأنها العروس العذراء.
وحينما ذكرت أن أحد القساوسة قد زار منزلهم ونام في الحجرة الإضافية، تساءلت إن كانت مرتبة الفراش تثير بداخله أحلاما غريبة.
كتب لها يحدثها عن الحشود في منطقة إيل دو فرانس والتحرك بحذر لتجنب الغواصات الحربية الألمانية، وأنه حينما ذهب إلى إنجلترا، اشترى دراجة وأخبرها عن الأماكن التي زارها بالدراجة، إذا كان مسموحا بزيارتها.
وبالرغم من هذا كانت خطاباته أقل تشويقا من خطابتها، فإنها كانت تذيل دائما بعبارة «مع خالص حبي». وحينما حلت ساعة الصفر ووقت الهجوم، ساد ما وصفته بالصمت المؤلم، لكنها كانت تتفهم سبب ذلك، وحينما عاد لمراسلتها أخبرها أن كل شيء على ما يرام، بالرغم من أن التفاصيل لم يكن البوح بها مسموحا.
تحدث في هذا الخطاب، مثلما كانت تفعل هي، عن الزواج.
وأخيرا جاء يوم النصر والعودة إلى الوطن. وكما قال كانت تلمع فوق رأسه مجموعات من نجوم الصيف.
كانت إليان قد تعلمت الحياكة، وكانت تصنع رداء صيفيا جديدا على شرف عودته إلى الوطن؛ كان رداء من الحرير الصناعي ذا لون أخضر ليموني، وذا تنورة طويلة وأكمام قصيرة ويلبس مع حزام ضيق من الجلد الصناعي الذهبي اللون. وأرادت أن تضع شريطا من اللون الأخضر بنفس خامة الرداء حول مفرق قبعتها الصيفية. «لقد وصفت لك كل هذا حتى تلاحظني وتعرف أنه أنا التي تنتظرك، وذلك حتى لا تهرب مع امرأة جميلة أخرى يتصادف وجودها في محطة القطار.»
أرسل لها خطابا من مدينة هاليفاكس يخبرها بأنه سيستقل القطار الذي سيصل في مساء يوم السبت، وقال إنه يتذكرها جيدا، وليس ثمة احتمال في أن يخلط بينها وبين امرأة أخرى، حتى إن كانت محطة القطار تعج بالنساء الجميلات في ذلك المساء. •••
وفي مسائهما الأخير معا قبل أن يرحل، جلسا حتى وقت متأخر في مطبخ منزل القس حيث علقت صورة الملك جورج السادس التي تراها في كل مكان هذا العام. وكانت الكلمات المكتوبة أسفلها كالتالي :
وقلت للرجل الذي كان يقف على أعتاب العام: «امنحني ضوءا حتى أخطو في أمان نحو المجهول.»
ورد قائلا: «اخرج إلى الظلام وضع يدك في يدك في يد الرب؛ هذا أفضل لك من الضوء وأكثر أمانا من الخطو في طريق معلوم.»
ثم صعدا للطابق العلوي بهدوء شديد، وأوى إلى فراشه في الحجرة الإضافية. لا بد أن قدومها إليه كان باتفاق مشترك بينهما، ولكن ربما لم يفهم تماما السبب وراء ذلك.
لقد كانت بمنزلة كارثة؛ لكن الطريقة التي تصرفت بها كانت تنبئ بأنها ربما لم تكن تدرك هذا. وكلما ازدادت أركان الكارثة واصلت هي بطريقة محمومة. لم تكن ثمة طريقة يستطيع أن يوقف بها محاولاتها أو أن يوضح لها. هل من الممكن أن فتاة يمكن أن تعرف هذا القدر الضئيل عن الأمر؟ وافترقا أخيرا كما لو أن الأمور سارت على ما يرام. وودع كل منهما الآخر في صباح اليوم التالي في حضور والدها وأخويها، وبدأ تبادل الخطابات بينهما في غضون فترة وجيزة.
ذات مرة، ثمل وحاول مرة أخرى في ساوثهامبتون، لكن المرأة التي حاول إقامة علاقة معها قالت له: «يكفي هذا، يا صغيري، إنك ضعيف.»
كان الشيء الذي لا يهواه هو تأنق السيدات والفتيات؛ القفازات، والقبعات، والتنورات التي تصدر حفيفا أثناء السير، وكل تلك الأشياء التي يطلبنها ويهتممن بها. لكن كيف كان لها أن تعرف هذا؟ اللون الأخضر الليموني. لم يكن واثقا من أنه يعرف هذا اللون؛ لقد بدا وكأنه نوع من الأحماض.
ثم خطر على باله بسهولة بأنها من الممكن ألا تأتي لاستقباله.
هل كانت ستحدث نفسها أو تحدث أي شخص آخر بأنها لا بد أنها أخطأت في التاريخ؟ يمكنه أن يقنع نفسه بأنها ستعثر على كذبة ما، بالطبع ستفعل. إنها واسعة الحيلة، على أية حال. •••
والآن وقد خرجت إلى الطريق، شعر جاكسون بالفعل برغبة في رؤيتها. لم يكن بإمكانه قط أن يسأل المالك عن هيئتها؛ هل كان شعرها داكنا أو تسلل إليه الشيب، وهل كانت لا تزال نحيفة أم أضحت بدينة. إن صوتها حتى في لحظات الكرب لم يتغير، وذلك على نحو يثير الدهشة. فهو يرسم كل الأهمية لنفسه، لطبقاته الموسيقية، وفي نفس الوقت يصدر نبرات الأسف الشديدة.
لقد قطعت مسافة طويلة، لكن بمقدورك أن تقول إنها امرأة مثابرة.
وستعود الابنة؛ فهي مدللة بدرجة تمنعها من الإقامة بعيدا لفترة طويلة. أي ابنة لإليان ستكون حتما مدللة، ترتب العالم والحقيقة لتلائم ما تريد وكأنه ليس ثمة شيء يمكن أن يهزمها طويلا.
لو كانت رأته، أكانت ستعرفه؟ اعتقد أنها كانت ستفعل، مهما كانت التغيرات التي طرأت عليه. وكانت ستسامحه، نعم، على الفور؛ كي تحافظ عن فكرتها عن ذاتها، على الدوام.
وفي اليوم التالي تلاشت أي راحة كان يشعر بها حيال خروج إليان من حياته. لقد عرفت ذلك المكان، وربما تعاود مرة أخرى. ربما تبقى هنا لفترة وتجوب الشوارع وهي تحاول أن تقتفي أثر ابنتها. كانت تطرح الاستفسارات على الناس بتواضع، لكنه ليس تواضعا في الواقع، بذلك الصوت الذي يحمل رنة التوسل ويشوبه الدلال في نفس الوقت. كان من الممكن أن يلتقي بها مصادفة خارج ذلك الباب؛ وحينها لن تصيبها الدهشة إلا للحظة، كما لو أنها كانت دائما تتوقع قدومه. لقد كانت تتوقع كل احتمالات الحياة، وهذا هو الأسلوب الذي كانت تعتقد أن بمقدورها دائما اتباعه.
يمكن إيقاف كل الأشياء، ولا يستلزم الأمر سوى بعض التصميم. حينما كان صغيرا في السادسة أو السابعة من عمره، استطاع أن يوقف حماقات زوجة أبيه، ما كانت تطلق عليه هي حماقات أو مضايقات؛ فقد هرب إلى الشارع بعد حلول الظلام، واستطاعت إرجاعه، لكنها شعرت أن من الممكن أن يكون هناك هروب حقيقي من جانبه إن لم تتوقف عن مضايقته، فتوقفت، وقالت إن ذلك ليس مزاحا من جانبه؛ لأنها لا تستطيع أن تقول مطلقا أن شخصا ما يكرهها. •••
أمضى ثلاث ليال أخرى في المبنى الذي كان يطلق عليه بوني داندي. كتب للمالك بيانا بما تدفعه كل شقة وموعد استحقاق مصاريف الصيانة وما تتضمنه من بنود. قال إنه تم استدعاؤه، وذلك دون الإشارة لجهة الاستدعاء والسبب. صرف كل الأموال الموجودة بحسابه المصرفي وحزم أشياءه القليلة، وفي المساء، في وقت متأخر من المساء استقل القطار.
أخذ يغفو ويستيقظ أثناء الليل، وفي واحدة من تلك الغفوات القصيرة رأى أولاد المينوناتيين الصغار في عربتهم الصغيرة، وسمع أصواتهم الصغيرة وهم ينشدون.
وفي الصباح هبط في كابوسكايسينج، وتسللت إلى أنفه رائحة المصانع، وقد شجعه الهواء البارد. سيعمل هناك، بالطبع سيعمل في بلدة مليئة بالغابات.
على مرأى من البحيرة
ذهبت سيدة إلى طبيبتها لتجديد تذكرتها الطبية، إلا أنها لم تجدها؛ إذ كان هذا يوم عطلتها. في واقع الأمر، ذهبت السيدة في اليوم الخطأ؛ فقد اختلطت عليها الأيام ولم تفرق بين يوم الإثنين ويوم الثلاثاء.
كان ذلك هو الأمر الذي أرادت أن تتحدث مع طبيبتها بشأنه، إلى جانب تجديد تذكرتها الطبية. أرادت أن تعرف ما إذا كان عقلها قد بدأ ينسى قليلا.
توقعت أن تقول لها الطبيبة: «يا لها من مزحة! عقلك أصح من عقل الجميع.» (ليس هذا لأن الطبيبة كانت تعرفها جيدا إلى هذه الدرجة، ولكن لأن هناك العديد من الأصدقاء المشتركين فيما بينهما.)
بدلا من ذلك، تلقت السيدة - التي كانت تدعى نانسي - مكالمة هاتفية من مساعدة الطبيبة لتخبرها بأن تذكرتها الطبية جاهزة، وأنه قد تم ترتيب موعد لها لفحصها من قبل اختصاصي فيما يتعلق بالمشكلة العقلية تلك التي تعاني منها.
لم يتعلق الأمر بعقلها، وإنما فقط بذاكرتها.
وأيا كان الأمر، كان هذا الطبيب متخصصا في علاج المرضى المسنين.
في واقع الأمر، علاج المرضى المسنين الذين لديهم مشكلة في عقولهم.
ضحكت الفتاة. أخيرا، هناك من ضحك.
وأخبرتها أن مقر عمل الاختصاصي يبعد عن المكان الذي تقطن فيه نانسي بعشرين ميلا أو قرابة ذلك، في قرية تسمى هايمن.
قالت نانسي: «أوه، يا عزيزتي، هل هو اختصاصي في الشئون الزوجية؟» (كان هجاء اسم القرية هو
Highman ، لكن نانسي مازحتها متظاهرة بأنها سمعته
Hymen
التي تعني غشاء البكارة.)
لم تسمع الفتاة ما قالته، وطلبت منها بأدب أن تعيده. «لا عليك ، سأكون هناك في الميعاد.»
ما حدث خلال السنوات القليلة الأخيرة هو أن الاختصاصيين تقع مقار عملهم في أماكن متباعدة؛ فتجد أن اختصاصي الأشعة المقطعية الذي تتعامل معه موجود في بلدة ما، واختصاصي السرطان في بلدة أخرى، واختصاصي المشكلات الرئوية في بلدة ثالثة، وهكذا. وعلى الرغم من أنك لن تضطر إلى الذهاب إلى المستشفى المركزي بالمدينة، فإن زيارة هؤلاء الاختصاصيين قد تستغرق منك نفس الوقت الذي كنت ستستغرقه إذا ذهبت لهذا المستشفى؛ نظرا لأنه لا توجد مستشفيات في كل البلدات، وسيكون عليك البحث الدءوب عن مقر عمل الاختصاصي الذي تريده بمجرد وصولك إلى بلدته.
وكان هذا هو السبب وراء أن نانسي قررت الذهاب بسيارتها إلى القرية التي كان يعمل فيها اختصاصي المسنين - كان ذلك هو اللقب الذي قررت أن تطلقه عليه - في عشية اليوم السابق على موعدها معه. كان هذا سيمنحها متسعا من الوقت لمعرفة مكانه تحديدا، ومن ثم لن تعرض نفسها للذهاب في حالة ارتباك أو التأخر قليلا عن موعدها، تاركة انطباعا سيئا عنها من اللقاء الأول.
كان في إمكان زوجها الذهاب معها، إلا أنها كانت تعلم أنه يرغب في مشاهدة إحدى مباريات كرة القدم على التليفزيون. كان عالم اقتصاد يشاهد المباريات الرياضية في النصف الأول من الليل، ويمضي النصف الآخر في تأليف كتابه، على الرغم من أنه طلب منها أن تقول للناس إنه على المعاش.
أعربت نانسي عن رغبتها في العثور على المكان بنفسها، وقد أخبرتها مساعدة الطبيبة على الهاتف بكيفية الوصول إلى البلدة المرادة.
كان المساء بديعا، ولكنها عندما تركت الطريق السريع، متجهة بسيارتها إلى الغرب، وجدت أن الشمس انخفضت بالدرجة الكافية بحيث سطعت في وجهها. إلا أنه كان باستطاعتها أن تبقي عينيها في الظل بجلوسها مستقيمة على مقعدها ورفعها ذقنها لأعلى. كما كانت لديها نظارة شمسية جيدة، وكان بمقدورها قراءة اللافتة التي تشير إلى أن أمامها ثمانية أميال للوصول إلى قرية هايمن.
هايمن. كان ذلك هو اسم القرية؛ ليست هناك دعابة في الأمر. كان تعداد سكانها 1553 نسمة .
لماذا هذه الدقة في كتابة التعداد؟
لا يوجد شخص غير مهم.
كان من عادتها تفقد الأماكن الصغيرة من قبيل التسلية فقط، لترى ما إذا كان في مقدورها العيش هناك أم لا. وبدا أن ذلك المكان مناسب تماما؛ فهناك سوق كبيرة، حيث يمكنك شراء خضراوات طازجة إلى حد ما، بالرغم من أنها ربما لم تكن تجلب من المزارع المحيطة، وكذلك كان هناك مكان جيد لتناول القهوة، وكانت هناك أيضا مغسلة تعمل بالعملة، وصيدلية حيث يمكنك صرف تذاكرك الطبية، لكن لم يكن بها مجموعات المجلات الشهيرة التي قد ترغب في شرائها.
هناك شواهد بالطبع على أن ذلك المكان شهد أياما كان على حال أفضل فيها؛ فهناك ساعة متوقفة عن العمل تعلو نافذة عرض متجر تنم عن أنه كان يعرض بها مجوهرات، أما الآن فبدت مليئة بأوان خزفية وقدور ودلاء قديمة، وأكاليل سلكية مفككة.
بدأت تتفحص بعض تلك النفايات لأنها اختارت الوقوف بسيارتها أمام المتجر الذي كان يعرضها، ورأت أن في مقدورها أيضا البحث عن مقر عمل ذلك الطبيب سيرا على الأقدام. وما حدث بسرعة كبيرة وجعلها تشعر بالرضا هو أنها رأت على بعد بناية ذات طابق واحد مبنية من قرميد بني، وبدا من طرازها النفعي أنها تعود للقرن الماضي، وكانت مستعدة للتخمين بأنها وجهتها المقصودة؛ فقد اعتاد الأطباء في البلدات الصغيرة على جعل أماكن عملهم جزءا من منازلهم، موفرين مساحة كافية لانتظار سيارات مرضاهم، وكان هذا هو نوع البنايات التي يقيمون فيها. ها هو القرميد البني المائل للحمرة، وبالطبع اللافتة المكتوب عليها طبيب/طبيب أسنان، وساحة الانتظار التي توجد خلف البناية.
كان اسم الطبيب في قصاصة ورقية موجودة في جيبها، فأخرجت القصاصة لتقرأ ما فيها. كان مكتوبا على باب البناية الذي كان من الزجاج البلوري الدكتور إتش دبليو فورثيز؛ طبيب أسنان، والدكتور دونالد ماكميلن؛ طبيب.
لكن لم يكن أي من هذين الاسمين مكتوبا في القصاصة الورقية التي كانت مع نانسي، ولا عجب في ذلك؛ إذ لم يكن مكتوبا على القصاصة سوى رقم وحرف؛ أ 7,5. كان الرقم يمثل مقاس حذاء أخت زوجها، أوليفيا، التي توفيت. واستغرق الأمر منها برهة قبل أن تتذكر أن الحرف هو أول حروف اسم أوليفيا الذي دونته بسرعة، وتمكنت بالكاد أن تتذكر أمر شراء أحذية لأوليفيا عندما كانت في المستشفى.
ليس لهذا فائدة على أية حال.
ربما تمثل أحد الحلول في أن الطبيب الذي كانت تقصده قد انتقل مؤخرا إلى تلك البناية، ولم يغير بعد الاسم الذي على الباب الخارجي. كان عليها أن تسأل أحدهم، وكان عليها أن تدق الجرس لتعرف إن كان أحد بالداخل، يعمل لوقت متأخر. فعلت هذا، ومن حسن حظها إلى حد ما أن أحدا لم يجبها؛ لأن اسم الطبيب الذي كانت تقصده قد ذهب للحظة عن بالها.
فكرة أخرى راودتها؛ أوليس من الممكن جدا أن هذا الشخص - طبيب المجانين، كما اختارت أن تطلق عليه في ذهنها - يدير عمله من المنزل؟ (أو أنها لم تفترض ذلك الاحتمال تلقائيا، مثل معظم الناس في عمرها) فهذا منطقي وأقل تكلفة، وهو ليس بحاجة إلى العديد من الأجهزة لعلاج المرضى العقليين.
ومن ثم، استأنفت سيرها بعيدا عن الشارع الرئيسي، وها هو اسم الطبيب الذي كانت قد نسيته عاد إلى ذاكرتها مرة أخرى، وكان ذلك وارد الحدوث في الأوقات التي تخلو من التوتر. شيدت معظم المنازل التي كانت تمر بها في القرن التاسع عشر؛ بعضها كان من الخشب والبعض الآخر من القرميد. وكانت البنايات القرميدية في الغالب مكونة من طابقين كاملين، أما الخشبية فكانت على نحو ما أكثر تواضعا؛ حيث كانت مكونة من طابق ونصف، مع وجود سقف مائل في غرفها العلوية. كان بعض الأبواب الأمامية مفتوحا على بعد أقدام قليلة من الرصيف، والبعض الآخر على شرفات واسعة، عادة ما تكون محاطة بجدران من الزجاج. منذ قرن مضى، في مساء مثل هذا، كان الناس سيجلسون في شرفاتهم أو ربما على الدرجات الأولى أمام منازلهم. كانت ربات المنزل ستجلس هناك بعد فراغها من غسيل الأطباق وتنظيف المطبخ، وكذلك الرجال بعد تجميع الخراطيم التي استخدموها في تندية حشائش حدائقهم بالماء. حينها لم يكن ثمة أثاث حدائق، ذاك الذي لم يكن ليخلو من الناس مثلما هو الحال الآن، بل مجرد درجات خشبية أو بعض كراسي المطبخ. وكانت المحادثات في أغلبها ستدور حول الطقس، أو حصان هارب، أو شخص أصبح طريح الفراش ولا يتوقع له التعافي. كانوا سيبدءون التخمين بشأنها بمجرد أن تبعد وتصبح غير قادرة على سماعهم.
ولكن ألن تريح فضولهم حينها، وتتوقف لتسألهم مباشرة: رجاء، هل يمكن أن تخبروني بمكان منزل الطبيب؟
موضوع جديد للحديث. ما حاجتها للطبيب؟ (كانوا سيتحدثون في هذا عندما لم يعد بإمكانها سماعهم.) •••
الآن كان جميع الناس داخل منازلهم برفقة مراوحهم أو مكيفات الهواء خاصتهم. وظهرت الأرقام على المنازل، تماما كما هو الحال في المدن. ولم تكن توجد لافتة لطبيب على أي منها.
ومع انتهاء الرصيف، كان هناك مبنى قرميدي ضخم به جمالونات وبرج ساعة. ربما كان هذا المبني مدرسة، قبل أن ينقل الطلاب إلى مركز للتعلم أكثر اتساعا وكآبة. توقفت عقارب ساعة البرج عند الثانية عشرة، صباحا أو مساء، ولكنها حتما لم تكن تشير إلى الوقت الصحيح. كما كانت هناك وفرة من أزهار الصيف التي بدت منسقة بعناية؛ بعضها ممتد من عربة يدوية، والكثير منها من أحد جوانب دلو لبن. وكانت هناك لافتة لم تتمكن من قراءة ما كتب عليها بسبب سطوع الشمس عليها مباشرة؛ لذا، اشرأبت على المرج حتى تتمكن من رؤية المكتوب عليها من زاوية أخرى.
بيت جنازات. كان بإمكانها الآن رؤية الجراج الذي ربما كانت تقبع فيه سيارة نقل الموتى.
لا مشكلة. كان عليها أن تواصل البحث.
انعطفت إلى شارع جانبي حيث كانت توجد أماكن منظمة بشدة حقا، مما يثبت أنه حتى بلدة بهذا الحجم كان يمكن أن تكون لها ضاحية سكنية. اختلفت المنازل هناك قليلا بعضها عن بعض، إلا أنها بصفة عامة كانت بنفس الشكل؛ دهنت جدرانها الصخرية بدهان رقيق والقرميدية بلون فاتح، أما نوافذها فكانت مقببة أو مستديرة، مما يعبر عن رفض للمظهر النفعي، النمط الريفي الذي كان سائدا في العقود السابقة.
كان هناك أشخاص. لم يتمكن الجميع هنا من البقاء في منازلهم برفقة مكيفاتهم؛ فهناك صبي كان يقود دراجته، متخذا مسارات قطرية عبر الرصيف. كان هناك شيء غريب في قيادته للدراجة، بيد أنها لم تتمكن من معرفته في البداية.
كان يقود على نحو عكسي؛ هذا هو الغريب في الأمر. امتد الجاكيت الذي يرتديه بفعل الهواء على نحو يجعل المرء - أو يجعلها - غير قادر على معرفة ما يحدث.
وكانت توجد سيدة ربما تبدو أكبر سنا من أن تكون أمه - لكنها بدت في الوقت نفسه مهندمة ومفعمة بالحيوية جدا - تقف هناك في الشارع تراقبه. وكانت تمسك في يدها حبل نط وتتحدث إلى رجل لا يمكن أن يكون زوجها، بدا أن هناك علاقة ودية شديدة كانت تجمع بينهما.
كان الشارع ينتهي بطريق مسدود منحن، ولم يكن هناك مجال للمضي قدما.
قاطعت نانسي حديث الرجل والمرأة، متأسفة لهما عن ذلك، وأخبرتهما عن أمر بحثها عن الطبيب.
قالت نانسي: «كلا كلا، لا تنزعجا. أرغب فقط في معرفة عنوانه؛ اعتقدت أنكما ربما تعرفانه.»
ثم ظهرت المشكلة من جديد حين أدركت أنها لا تزال غير متيقنة من الاسم. وكانا من دماثة الخلق ما جعلهما لا يظهران اندهاشهما من ذلك، إلا أنهما في نهاية الأمر لم يتمكنا من مساعدتها.
تقدم الصبي على دراجته متمايلا مندفعا، عابرا بجوارهم مباشرة، وبالكاد لم يصدمهم.
ضحك الرجل والمرأة، ولم يوبخاه على ذلك. كان صبيا صغيرا شديد التهور، ولكن من الواضح أنهما كانا يحبانه بشدة. تحدثا عن جمال ذلك المساء، في الوقت الذي استدارت فيه نانسي لتعود أدراجها.
لم تعد كل الطريق الذي قطعته؛ فإنها لم ترجع حتى إلى بيت الجنازات. كان هناك شارع جانبي تجاهلته قبل ذلك، ربما لأنه لم يكن مرصوفا ولم تفكر أنه من الممكن أن يعيش فيه طبيب.
فلم يكن هناك رصيف، وكانت المنازل محاطة بالقمامة. وجدت رجلين مشغولين أسفل غطاء محرك شاحنة، ورأت أن فكرة مقاطعتهما لن تجدي نفعا، هذا علاوة على أنها لمحت شيئا مثيرا أمامها.
كان هناك سياج من الشجيرات يقترب من الشارع، كان مرتفعا بالقدر الذي لا تتوقع أن يكون في مقدورها رؤية ما يحجبه من فوق، لكنها اعتقدت أنها قد يمكنها النظر فيما بين الشجيرات.
لم يكن هذا ضروريا؛ فعندما تجاوزت السياج، وجدت أنه كان يخفي قطعة أرض - تبلغ مساحتها نحو مساحة أربع قطع أرض زراعية مندمجة معا - مفتوحة تماما على الشارع الذي كانت تسير فيه الآن. بدت قطعة الأرض هذه أشبه بمتنزه، ذي ممرات مبلطة تتقاطع قطريا عبر الحشائش المقصوصة واليانعة، وفيما بين الممرات برز من الحشائش الكثير من الأزهار المختلفة. تعرفت على بعض من أنواع تلك الأزهار - على سبيل المثال: أزهار الأقحوان باللونين الذهبي الداكن والأصفر الفاتح، وأزهار الفلوكس القرنفلية والوردية والبيضاء ذات القلب الأحمر - ولكنها على الرغم من ذلك لم تكن بستانية بارعة؛ فقد كان أمامها العديد من الأزهار المتجمعة أو المتدلية من كافة الألوان التي لم تستطع تحديد أنواعها وأسمائها. كان بعضها يتسلق التعريشات، والبعض الآخر يفترش الأرض بحرية. كان كل شيء رائعا ومتقنا، حتى تلك النافورة التي ترتفع مياهها سبع أقدام أو نحو ذلك قبل أن تهبط ثانية على حوضها المبطن بالصخور. مشت عبر هذا المكان لتترطب ببعض الرذاذ البارد للمياه الخارج من النافورة، وهناك وجدت مقعدا من الحديد المطاوع حيث كان يمكنها الجلوس.
قدم رجل عبر أحد الممرات حاملا في يده مقص حشائش؛ من الواضح أن البستانيين هنا يعملون لأوقات متأخرة. لكن هذا الرجل لم يكن يبدو عليه أنه عامل أجير. كان طويل القامة وبالغ النحافة ويرتدي قميصا أسود اللون وبنطالا ملاصقا بشدة لجسده.
لم يخطر ببالها أن هذا المكان لا يمكن أن يكون بأي حال متنزه البلدة. «هذا جميل حقا.» قالت هذا موجهة الحديث للرجل بصوت واثق ومؤيد، وأضافت: «إنك تحسن الاعتناء بالمكان حقا.»
قال لها: «شكرا لك، مرحبا بك هنا.»
أخبرها ببعض الغلظة أن هذا المكان ليس متنزها عاما وإنما ملكية خاصة، وأنه صاحبه وليس عاملا أجيرا فيه . «كان علي أن أطلب الإذن منك أولا.» «لا بأس.»
قال هذا وهو منهمك في قص أحد النباتات الزاحفة على الممر. «إنه ملكك، أليس كذلك؟ هل كله ملك لك؟»
بعد دقيقة من الانشغال، رد: «كله ملك لي.» «كان علي إدراك ذلك. إنه أروع من أن يكون مكانا عاما؛ فهو ليس بالمكان العادي على الإطلاق.»
لم تتلق ردا. كانت على وشك أن تسأله إن كان يحب الجلوس هنا في المساء، ولكنها فضلت ألا تزعجه أكثر من ذلك؛ حيث بدا أنه ليس من الأشخاص الذي يسهل التعامل معهم؛ ربما كان أحد هؤلاء المفتخرين بأنفسهم فيما يتعلق بهذا الأمر. كانت ستشكره بعد دقيقة وتنصرف.
ولكن ما حدث، في واقع الأمر، أن الرجل بعد مرور دقيقة ذهب وجلس إلى جوارها، وتحدث كما لو كان ثمة سؤال قد طرح عليه. «إنني حقا أشعر فقط بالارتياح حين أفعل شيئا يتطلب العناية والانتباه؛ فإذا جلست، يجب أن أحول نظري عن كل شيء هنا، وإلا فسأكتشف المزيد من العمل الذي علي القيام به.»
كان عليها أن تدرك على الفور أنه رجل لا يحب المزاح، ولكن الفضول كان لا يزال يثيرها.
ماذا كان هنا قبل ذلك؟
قبل أن تنشأ الحديقة؟ «كان هناك مصنع حياكة. كل تلك الأماكن الصغيرة كان بها شيء مثل ذلك، حيث تستطيع أن تفلت بالأجور الضعيفة التي تعطيها لعمالك. ولكن بمرور الوقت أفلس المصنع، وكان هناك مقاول فكر في تحويل المكان إلى دار لرعاية المسنين، إلا أن مشروعه واجه بعض المشكلات؛ حيث رفض المسئولون بالبلدة منحه التصريح اللازم؛ حيث اعتقدوا أن البلدة ستصبح ملتقى للكثير من المسنين مما سيجعلها بلدة كئيبة؛ لذا أضرم المقاول النار في المكان أو هدمه، لا أدري على وجه التحديد.»
أدركت أنه ليس من هذه المنطقة. علمت أنه لو كان كذلك، لما تحدث أبدا على هذا النحو المنفتح جدا.
وأردف قائلا: «أنا لست من هذه المنطقة. لكن كان لدي صديق يعيش هنا وعندما توفي، جئت فقط لأبيع أرضه وأذهب.» «لكنني حصلت على تلك الأرض بثمن زهيد؛ نظرا لأن المقاول تركها مجرد بقعة مهملة، وكان شكلها مقبضا.» «أعتذر إذا ما بدوت فضولية.» «ليس ثمة داع للاعتذار. إني لا أقدم على تفسير شيء ما لم تكن لدي الرغبة في ذلك.»
قالت: «لم آت إلى هنا من قبل. بالطبع لم أفعل وإلا لوقعت عيناي على تلك البقعة. كنت أتجول هنا باحثة عن أمر ما، واعتقدت أن فرص وصولي إليه ستكون أفضل لو تركت سيارتي وترجلت بحثا عنه. إني أبحث في الواقع عن طبيب.»
شرحت موضحة له أنها ليست مريضة، وأن كل ما في الأمر أن لديها موعدا معه في الغد، ولا ترغب في الهرع صباح الغد بحثا عن المكان. ثم أخبرته عن ركن سيارتها ودهشتها حيال عدم العثور على اسم الطبيب في أي مكان. «ولم يمكنني كذلك البحث في دليل الهاتف؛ لأن أدلة وأكشاك الهواتف لم تعد، كما تعلم، متوافرة الآن؛ حيث اختفت جميعا، أو تجد أن محتوياتها قد اقتلعت. بدأ حديثي يتسم بالسخافة الشديدة.»
أخبرته باسم الطبيب الذي كانت تبحث عنه، ولكنه قال إن الاسم لم يتبادر إلى مسامعه من قبل. «ولكني لا أذهب للأطباء.» «ربما أنت من الذكاء بحيث لا تفعل ذلك.» «أوه، لا أعني ذلك.» «على أية حال، من الأفضل أن أعود إلى سيارتي.»
نهض الرجل حين نهضت هي، وقال إنه سوف يتمشى معها. «هل سترافقني حتى لا أضل الطريق؟» «لا، ليس لهذا السبب على الإطلاق. إنني دائما ما أحب أن أرخي رجلي في مثل هذا الوقت من كل مساء؛ فأعمال البستنة يمكن أن تصيبها بالشد.» «إني على يقين من أن ثمة تفسيرا ما منطقيا بشأن هذا الطبيب. هل فكرت من قبل في أن ثمة تفسيرات للأمور كانت في الماضي أكثر منطقية مما هي عليه الآن؟»
لم يجبها؛ ربما تذكر صديقه الراحل، وربما عدت الحديقة بمنزلة نصب تذكاري لصديقه المتوفى.
وبدلا من شعورها بالإحراج نظرا لطرحها سؤالا دون تلقي جواب عليه من جانبه، شعرت بعذوبة وسلام في الحوار.
مشيا معا دون أن يصادفا أحدا.
وسرعان ما وصلا إلى الشارع الرئيسي؛ حيث كانت البناية الطبية على بعد بناية واحدة، وشعرت لدى رؤية تلك البناية ببعض من عدم الارتياح، ولكنها لم تكن تعرف سبب ذلك، وبعد دقيقة صار ذلك الشعور هو المسيطر عليها. كان يتملكها حينها شعور غريب بالانزعاج؛ ماذا لو أن الشخص المطلوب، الشخص الذي ذكرت أنها لم تتمكن من العثور عليه، كان موجودا هناك طوال ذلك الوقت؟ تحركت بسرعة أكبر، واكتشفت أنها كانت ترتجف، وبنظرها الجيد إلى حد بعيد، قرأت الاسمين الموجودين على باب البناية كما حدث من قبل، واكتشفت أن اسم الطبيب الذي كانت تريده لم يكن من بينهما.
تظاهرت بأنها كانت تسرع لرؤية الأشياء المعروضة بنافذة العرض الخاصة بالمتجر الذي ركنت سيارتها أمامه؛ الدمى ذات الرءوس الخزفية والزلاجات القديمة والأوعية المستخدمة كمباول والألحفة التي كانت جميعها بالية ورثة.
قالت: «أنا حزينة.»
لكنه لم يكن منتبها لما تقول، وقال إنه قد واتته فكرة لتوه.
قال: «هذا الطبيب.» «ماذا بشأنه؟» «أفكر فيما إذا كانت له صلة بدار الرعاية.»
مشيا معا مرة أخرى حيث مرا بشابين جالسين على رصيف الشارع، أحدهما كانت رجلاه ممدودتين مما جعلهما يلفان من حوله ليتمكنا من مواصلة السير. لم يلق الرجل المرافق لنانسي بالا للشابين، ولكنه أخفض صوته بعض الشيء.
قالت: «دار الرعاية؟» «ما كان لك أن تلاحظي مكانها إذا كنت قادمة من الطريق السريع، لكنك إذا واصلت السير للخروج من البلدة باتجاه البحيرة التي مررت بها، على مسافة لا تتجاوز نصف ميل، فستمرين بكومة من الحصى على الجانب الجنوبي من الطريق، وهي لا تبعد كثيرا عن هناك، على الجانب الآخر. لا أدري إن كان هناك طبيب مقيم أم لا، ولكن من المنطقي أنه ربما يوجد واحد هناك؟»
قالت: «من المنطقي أنه ربما يوجد واحد هناك.»
كانت تأمل بألا يعتقد أنها تردد ما قاله عن قصد؛ فهذا يجعل من الأمر دعابة سخيفة. والحقيقة الظاهرة أنها كانت تريد أن تطيل الحديث معه، سواء بدعابات سخيفة أم بأي شيء آخر.
لكن ظهرت الآن مشكلة أخرى من مشاكلها؛ إذ كان عليها أن تتذكر مكان مفاتيح السيارة، وذلك كما كانت تفعل غالبا قبل ركوبها إياها؛ فكثيرا ما كان يعتريها القلق بشأن إن كانت قد تركت المفاتيح داخل السيارة أم أضاعتها في مكان ما. وها هي تشعر بأن حالة من الذعر المألوفة والمزعجة تقترب من السيطرة عليها، ولكنها الآن وجدت المفاتيح في جيبها.
قال: «الأمر يستحق المحاولة.» وأبدت هي موافقتها على ذلك. «لا يزال لديك وفرة من المساحة لتغيير اتجاهك والخروج عن الطريق السريع وإلقاء نظرة هناك. فإذا كان يوجد طبيب مقيم بانتظام هناك، فلن يكون في حاجة إلى ترك اسمه - أو اسمها، حسبما يقتضي الأمر - على لافتة في البلدة.»
بدا هو أيضا غير منشغل على الإطلاق بالانصراف. «إني مدينة لك بالشكر.» «لا عليك، كان هذا مجرد تخمين.»
فتح لها باب السيارة كي تدخل، وأغلقه وراءها وانتظر حتى استدارت بالسيارة لتذهب في الاتجاه الصحيح، ثم لوح لها مودعا.
بينما كانت في طريقها إلى خارج البلدة، رأته مرة أخرى في مرآة الرؤية الخلفية، ووجدته قد انحنى ليتحدث إلى الصبيين أو الشابين اللذين كانا يجلسان على رصيف الشارع ويسندان ظهريهما إلى جدار المتجر. كان قد تجاهلهما قبل ذلك لدرجة جعلت نانسي تفاجأ الآن بحديثه معهما.
ربما كان عليه أن يقول لهما ملحوظة بشأنها؛ دعابة حول غرابتها أو سخافتها، أو ربما حدثهما فقط عن عمرها. ربما كانت ملحوظة ضدها من أكثر الرجال لطفا.
اعتقدت أن عليها أن تعود مرة أخرى إلى البلدة لتشكره ثانية وتخبره إن كانت قد وجدت الطبيب الذي كانت تبحث عنه أم لا. كان في مقدورها حينها أن تتمهل في قيادتها وتضحك وتناديه عبر النافذة.
ولكنها الآن قررت أن تسلك طريق شاطئ البحيرة وتبتعد عن طريقه تماما.
قالت في نفسها إن عليها نسيانه، وها هي ترى كومة الحصى تقترب، وكان عليها أن تنتبه إلى وجهتها.
كما قال لها تماما، كانت هناك لافتة؛ إشارة إلى دار رعاية ليكفيو. ومن هناك بالفعل كان يمكن رؤية البحيرة ، على هيئة خيط رفيع باللون الأزرق الفاتح بطول الأفق.
كانت هناك ساحة انتظار فسيحة للسيارات، وجناح طويل به ما يشبه مقصورات منفصلة، أو غرفا بمساحات جيدة على الأقل، لكل منها حديقة صغيرة أو مكان للجلوس. وهناك سياج مشبك عال جدا أمام كل واحد منها مراعاة للخصوصية أو حفاظا على السلامة. لكن لم يكن أي من النزلاء جالسا هناك في ذلك الوقت بحسب ما يمكنها رؤيته.
بالطبع لا يوجد أحد هناك؛ فموعد النوم يكون مبكرا في تلك المؤسسات.
أعجبها نمط التشبيك في السياج وكيف أنه كان مبتكرا. لقد تغير شكل البنايات العامة في السنوات القليلة الماضية، كما هو الحال بالنسبة إلى المنازل الخاصة؛ فاختفى الشكل المعماري الرتيب الكئيب، الذي كان الخيار الوحيد المتاح في فترة شبابها. وهنا أوقفت السيارة أمام قبة براقة لها مظهر مرحب معبر عن الإفراط المبهج. افترضت أن بعض الناس ربما يجدون أن لتلك القبة مظهرا زائفا، ولكن ألم يكن هذا هو الشيء المطلوب؟ كل هذا الزجاج يجب أن يبهج أرواح المسنين، أو ربما بعض الناس الذين ليسوا بالضرورة من كبار السن ولكن يعانون من اضطراب عقلي ما.
بحثت عن زر لتضغط عليه أو جرس لتدقه، عندما وصلت إلى الباب. ولكن لم يكن هذا ضروريا؛ فقد فتح الباب من تلقاء نفسه، وعندما دخلت وجدت أن المكان أكثر رحابة واتساعا وفخامة، وأن هناك مسحة زرقاء على الزجاج، والأرض كلها كانت مغطاة بالبلاط الفضي اللون، الذي كان من النوع الذي يحب الأطفال التزحلق عليه، وللحظة تصورت المرضى وهم يتزحلقون ويسقطون من أجل المتعة، وقد جعلتها تلك الفكرة تشعر بالبهجة. ولكنها قالت في نفسها إنه بالطبع لا يمكن أن يكون زلقا كما يبدو؛ فالمسئولون بالدار لا يريدون لمرضاهم أن يصابوا بأذى.
قالت في صوت ساحر لشخص ما في رأسها، ربما كان زوجها: «أنا لا أجرؤ على تجربة ذلك بنفسي. لا يمكنني فعل هذا، أليس كذلك؟ فقد أجد نفسي أمام الطبيب، الشخص الذي يستعد لاختبار اتزاني العقلي؛ فماذا سيكون رد فعله حينها ؟»
في تلك اللحظة، لم تكن ترى أي طبيب.
قالت في نفسها: حسنا، لن يكون هناك أي منهم، أليس كذلك؟ فالأطباء لا يجلسون خلف هذه المكاتب في انتظار المرضى للكشف عليهم.
كما أنها ليست هنا حتى للحصول على استشارة طبية، وستكون مضطرة لأن تشرح مجددا أنها قادمة للتأكد من الوقت والمكان الخاصين بموعد في الغد. كل هذا جعلها تشعر بالتعب بعض الشيء.
كان هناك مكتب مستدير، مرتفع من الوسط، تبدو ألواحه التي من الخشب الداكن كأنها مصنوعة من خشب الماهوجني، على الرغم من أنها من المحتمل ألا تكون كذلك. لم يكن أحد يجلس وراءه الآن؛ فقد انتهت ساعات العمل الرسمية بطبيعة الحال. راحت تبحث عن جرس ولكنها لم تجد واحدا؛ فراحت تبحث إن كانت هناك قائمة بأسماء الأطباء أو اسم الطبيب المسئول عن المكان، ولكنها لم تجد شيئا أيضا. يظن المرء أن هناك سبيلا لإيجاد شخص يمكن استدعاؤه في مكان كهذا، بغض النظر عن الوقت.
لم تكن هناك أشياء هامة خلف المكتب أيضا؛ لا كمبيوتر ولا هاتف ولا أوراق ولا حتى أزرار ملونة يمكن الضغط عليها. بالطبع، لم تكن قادرة على الوصول إلى ما وراء المكتب؛ إذ ربما يوجد بعض الأقفال أو بعض المقصورات التي لا تستطيع رؤيتها، أو أزرار يمكن لموظف الاستقبال أن يصل إليها ولكن لا يمكنها ذلك.
تجاهلت أمر المكتب للحظة، وأخذت تفحص أرجاء المكان الذي وجدت نفسها فيه. كان سداسي الشكل، به أبواب في أماكن متباعدة، وكانت هناك أربعة أبواب: أولها كان الباب الكبير الذي يدخل منه ضوء الشمس والزائرون، وثانيها كان بابا رسميا وخاصا يوجد خلف المكتب ولم يكن من السهل الوصول إليه، أما البابان الآخران، فكانا متشابهين تماما ويواجه كل منهما الآخر، وبدا أن كلا منهما يعد مدخلا إلى الأجنحة الطويلة، وإلى الممرات والغرف التي يوجد فيها النزلاء. وكل باب من تلك الأبواب كان له جزء علوي من الزجاج الشفاف الذي يمكن الرؤية بوضوح من خلاله.
ذهبت نانسي إلى أحد هذين البابين اللذين من الممكن الوصول إليهما وطرقت عليه، ثم حاولت فتح المقبض ولكنها لم تستطع؛ فقد كان مغلقا تماما. كما أنها لم تستطع الرؤية من خلال الجزء الزجاجي من الباب؛ فبالاقتراب منه وجدت زجاجه مموجا ومموها بشدة.
حاولت مع الباب المقابل، لكنها صادفت نفس المشكلة مع الزجاج ومع مقبض الباب.
وقع صوت حذائها على الأرض، وتموه الزجاج وعدم فتح البابين باستخدام المقابض المصقولة، كلها أمور جعلتها تشعر بالإحباط بقدر أكبر مما يمكن أن تعترف به.
ومع ذلك، لم تستسلم، وظلت تحاول مرة أخرى مع البابين بنفس الطريقة، ولكن هذه المرة حركت المقبضين ونادت: «هل هناك من أحد؟» بصوت بدا في البداية ضعيفا وسخيفا، ثم بدا مهموما ويائسا.
حشرت نفسها وراء المكتب وطرقت على الباب الذي وراءه، في يأس كامل في واقع الأمر؛ فهذا الباب كان بلا مقبض، فقط ثقب مفتاح.
قالت في نفسها إنه لم يعد أمامها سوى ترك هذا المكان والعودة إلى منزلها.
اعتقدت أن كل شيء هنا مبهج وفخم جدا، ولكن لا يوجد ما يدل على أنه مكان يقدم خدمة للجمهور. بالطبع كانوا يدفعون النزلاء أو المرضى، أو أيا كانت التسمية، إلى النوم مبكرا؛ إنها نفس القصة القديمة في كل مكان، بغض النظر عن روعة الأجواء المحيطة.
بينما كانت تفكر في هذا، دفعت باب الدخول، لكنه كان ثقيلا جدا. دفعته مرة أخرى.
ومرة ثالثة، لكنه لم يتزحزح.
كان في مقدورها من مكانها رؤية أصص الزرع بالخارج في الخلاء، وسيارة تمر على الطريق، وضوء المساء اللطيف.
والآن كان عليها أن تتوقف وتفكر.
ليست هناك أضواء صناعية هنا، وكان المكان سيصبح مظلما. الآن، وعلى الرغم من الضوء المتناقص بالخارج، فقد بدأ المكان يظلم، وبدا أن لا أحد سيأتي؛ فقد أتموا مهام عملهم أو على الأقل المهام الخاصة بهذا الجزء من المكان. وأيا كان المكان الذي ذهبوا إليه الآن، فهو المكان الذي سيبقون فيه حتى صباح اليوم التالي.
فتحت فمها لتصرخ ولكن بدا أنه لن يخرج منه أي صوت. كان كل جسمها ينتفض، ومهما حاولت ، فما كان بإمكانها أن تتنفس. بدا الأمر وكأن هناك شيئا يسد حلقها. كانت تعاني من اختناق. كانت تعرف أنه يجب عليها أن تتصرف بنحو مختلف، والأكثر من ذلك، يجب عليها أن تفكر بطريقة مختلفة؛ فكان عليها أن تستعيد هدوءها ثم تحاول التنفس تدريجيا.
لم تدر إن كانت نوبة الهلع تلك استغرقت وقتا طويلا أم قصيرا. كان قلبها يخفق بشدة، إلا أنها أصبحت الآن في أمان تقريبا. •••
كانت توجد امرأة هنا تدعى ساندي؛ هذا ما كان مكتوبا على الشارة التي كانت ترتديها، وكانت نانسي تعرفها على أية حال.
قالت ساندي: «ما الذي سنفعله معك؟ كل ما نريده هو أن نجعلك ترتدين ملابس النوم، وأن تتصرفي كالدجاجة التي تخشى أن تذبح وتؤكل في وجبة العشاء.»
وأردفت قائلة: «لا بد أن هناك حلما قد راودك. ما الذي حلمت به لتوك؟» «لا شيء. لقد عدت إلى الماضي حين كان زوجي على قيد الحياة وكنت لا أزال أقود سيارتي.» «هل لديك سيارة لطيفة؟» «فولفو.» «أترين كيف أنك تتمتعين بذاكرة قوية؟»
دوللي
شهد ذلك الخريف بعض النقاش حول الانتحار، عن انتحارنا أنا وفرانكلين. ولما كان فرانكلين في عامه الثالث والثمانين، وكنت أنا في عامي الحادي والسبعين، خططنا كما اقتضت العادة لجنازتنا (حيث قررنا ألا تقام لنا جنازة)، ولدفننا (الذي رأينا أن يتم مباشرة بعد موتنا)، وذلك في قطعة أرض اشتريناها بالفعل. وقررنا ألا تحرق جثتانا، على الرغم من شيوع هذا بين أصدقائنا. وكانت الطريقة الفعلية للانتحار هي فقط الأمر الذي لم نفكر فيه أو تركناه للصدفة.
في أحد الأيام كنا نقود السيارة متجولين في الريف في مكان ليس ببعيد عن مسكننا، ثم وجدنا طريقا لم نرتده من قبل. بدا أن الأشجار هناك، أشجار القيقب والبلوط وغيرهما، قد نمت من جديد، وإن كان على نحو كثيف بحيث وصلت إلى حجم كبير؛ مما يشير إلى أن المنطقة أخليت قبل ذلك واقتلعت أشجارها، وأنها احتوت فيما مضى على مزارع ومروج ومنازل وحظائر، ولكن لم يبق أثر لأي من هذا . أما الطريق، فكان غير مرصوف، إلا أنه كان مطروقا؛ فقد بدا أنه ربما كان يشهد القليل من المركبات كل يوم، ويرجح أن تكون شاحنات متخذة إياه كطريق مختصر.
قال فرانكلين إن هذا الطريق كان مثاليا؛ فلم يكن واردا أن نرغب في أن نبقى هناك لمدة يوم أو يومين أو حتى أسبوع، دون أن يمر بنا أحد، ولا أن نترك السيارة خالية، ويكون على الشرطة اجتياز الأشجار للبحث عما قد تبقى منا بعد هجوم ذئاب البراري علينا.
كذلك، يجب ألا يكون اليوم الذي سننتحر فيه هناك كئيبا للغاية؛ فيجب ألا تكون هناك أمطار أو ثلوج. أما الأوراق، فيجب أن تكون قد انحنت ولكن لم يسقط منها الكثير، ويجب أن تبدو وكأنها مكسوة بطبقة من الذهب، كما كان الحال في ذلك اليوم. لكن ربما يجب ألا تكون الشمس ساطعة، حتى لا يشعرنا هذا اللون الذهبي وسحر اليوم بأننا مدللان.
اختلفنا بشأن ترك خبر عن رحيلنا؛ أي إن كان واجبا علينا أن نعلم الآخرين بالأمر أم لا. كنت أرى أن معارفنا يستحقون منا تفسيرا لما سنقوم به؛ حيث ينبغي أن يعلموا أنها ليست مسألة مرض مميت، أو بداية إحساس بالألم منع احتمال عيشنا لحياة كريمة. يجب أن يكونوا متأكدين أنه كان قرارا جاء بصفاء ذهن، ويمكن القول أيضا إنه كان قرارا مبهجا.
أن نرحل حين يكون الرحيل الخيار الأفضل.
رد فرانكلين: لا. أعترض على ذلك؛ فهذه وقاحة وإهانة.
رأى فرانكلين أن تقديم أي تفسير - مهما كان - يعد إهانة، ليس للآخرين، ولكن لنا، لنا نحن؛ فحياتنا ملك لنا وحدنا، وأي تفسير سنقدمه كان سيجعله ينتحب.
أدركت ما كان يقصده، ولكن كنت لا أزال أميل للاختلاف معه.
وتلك المسألة - مسألة خلافنا - بدا أنها جعلته يستبعد احتمال قيامنا بالأمر من رأسه.
قال إن الأمر كله لا قيمة له، وإنه لا بأس بالنسبة إليه، ولكني ما زلت صغيرة جدا، وإنه يمكننا أن نتحدث مرة أخرى عن الأمر عندما أصل إلى الخامسة والسبعين من العمر.
قلت إن الشيء الوحيد الذي أزعجني، قليلا، كان الافتراض بأنه لن يحدث شيء أكثر مما حدث في حياتنا، وأنه لا شيء مهم بالنسبة إلينا، ولا شيء يمكن أن ننجح فيه بعد الآن.
قال إننا قد دخلنا في جدال للتو، فماذا عساي أن أرغب في أكثر من ذلك؟
قلت له إن هذا لطف كبير منه. •••
لم أشعر يوما بأنني أصغر سنا من فرانكلين، ربما باستثناء النقاش الذي كان يأتي فيه ذكر الحرب - أعني هنا الحرب العالمية الثانية - وذلك قلما يحدث في الوقت الحاضر. يرجع هذا لسبب واحد، وهو أنه كان يقوم بمجهود بدني أكبر كثيرا مني؛ فلبعض الوقت كان يشرف على إسطبل؛ أعني أحد الإسطبلات حيث يربي الناس خيول الركوب، وليس خيول السباق. إنه لا يزال يذهب هناك مرتين أو ثلاث مرات أسبوعيا، ويركب حصانه، ويتحدث مع الرجل المسئول هناك الذي يطلب نصيحته من آن لآخر، هذا على الرغم من أنه في معظم الوقت يقول إنه يحاول تجنب ذلك.
إنه في واقع الأمر شاعر؛ شاعر حقيقي ومدرب خيول بارع. وقد عمل لمدة فصل دراسي واحد في كليات مختلفة، ولكن لم يعمل يوما في مناطق بعيدة جدا بحيث تنقطع صلته بالإسطبلات. كما أنه يعترف بقراءة شعره على الناس، ولكن - كما يقول - كان هذا يحدث على نحو نادر جدا؛ فهو لا يركز على العمل في مجال الشعر. وأحيانا أنزعج من هذا الموقف - أرجع هذا لشخصيته الخجولة - ولكن أستطيع أن أتفهم وجهة نظره؛ فعندما تنشغل بالخيول، فإن الانشغال سيبدو عليك بالفعل، ولكن عندما تنشغل بكتابة قصيدة، فستبدو كما لو كنت في حالة من الكسل، وستشعر بشيء من الغرابة أو الإحراج بحيث يكون عليك تفسير ما يحدث.
هناك مشكلة أخرى قد تتمثل في أنه على الرغم من كونه شخصا متحفظا، فإن القصيدة التي اشتهر بها في المنطقة هنا - أقصد المنطقة التي نشأ فيها - يمكن وصفها بأنها فجة؛ فجة بعض الشيء، وقد سمعته يقول عنها ذلك بنفسه، ليس بدافع الاعتذار ولكن ربما لدفع شخص ما لعدم قراءتها. إن لديه مراعاة لمشاعر الناس الذين يعرفهم والذين قد ينزعجون من أمور معينة، على الرغم من أنه يدافع بشدة عن حرية التعبير بوجه عام.
لا يعني هذا أنه لم تحدث تغيرات هنا بشأن ما يمكن قوله علنا وما يمكن أن يقرأ في الأعمال المطبوعة. كانت الجوائز عاملا مساعدا في هذا الشأن، بالإضافة إلى تداول الأعمال في الصحف. •••
خلال جميع السنوات التي قمت بالتدريس بها في مدرسة ثانوية لم أدرس مادة الأدب، كما قد تتوقع، ولكن كنت أدرس الرياضيات. لكن بعد مكوثي في المنزل، بدأت أشعر بالملل وحصلت على عمل جديد، تمثل في كتابة سير ذاتية جيدة ومشوقة - حسبما أتمنى - للروائيين الكنديين الذين أهملوا دون أن يستحقوا هذا، أو الذين لم يلقوا قط الاهتمام الملائم. أعتقد أني لم أكن لأحصل على هذا العمل لولا فرانكلين وخلفيتي الأدبية التي لم نكن نتحدث عنها؛ حيث ولدت في اسكتلندا، ولم أكن أعرف في واقع الأمر أي كتاب كنديين.
أنا لا أرى على الإطلاق أن فرانكلين أو أي شاعر آخر يستحق التعاطف الذي أمنحه للروائيين؛ أعني بسبب ضعف إنتاجهم أو حتى اختفائهم. وأنا لا أعرف لماذا أعتقد هذا على وجه التحديد؛ ربما لأني أعتقد أن نظم الشعر يميل أكثر إلى أن يكون غاية في حد ذاته.
أحببت هذا العمل واعتقدت أنه مهم، وبعد سنوات قضيتها داخل الفصول الدراسية، كنت مسرورة من قدرتي على التحكم في عملي والحصول على بعض الهدوء. وعلى الرغم من ذلك، ربما كان هناك وقت - لنقل نحو الساعة الرابعة عصرا - تراودني فيه الرغبة في الاسترخاء والحصول على بعض الصحبة. •••
خلال تلك الفترة تقريبا في يوم كئيب مزدحم، جاءت امرأة تدق على بابي وهي تحمل كمية كبيرة من مستحضرات التجميل. في أي وقت آخر ما كان لي أن أسعد لرؤيتها، لكني سررت حينها. كان اسمها جوين، قالت إنها لم تحضر إلى هنا من قبل لأن البعض أخبرها أنني لست ممن قد يهتمون بما تقدمه.
قالت: «لكني قررت أن آتي إلى منزلك أيا كان الأمر، وقلت في نفسي: لماذا أترك الآخرين يتحدثون بالنيابة عنها؟ فكل ما عليها هو أن ترفض دخولي، وتجعلني أغادر منزلها.»
فسألتها إن كانت ترغب في الحصول على كوب من القهوة كنت قد صنعته للتو، فلم تمانع.
ثم قالت إنها كانت تستعد للرحيل على أية حال. ثم وضعت أغراضها على الأرض وهي تتأوه. «أعتقد أنك لا تستخدمين مستحضرات التجميل. أنا أيضا ما كنت لأستخدمها ما لم أكن في هذا المجال.»
إن لم تقل ذلك، لظننت أن وجهها خال من مساحيق التجميل مثل وجهي؛ فوجهها كان خاليا من مساحيق التجميل، وشاحبا، وبه مجموعة غريبة من التجاعيد حول الفم. كما كانت ترتدي نظارة أعطت حجما أكبر لعينيها ذواتي اللون الأزرق الفاتح. كان الشيء الوحيد اللافت في مظهرها هو الشعر الخفيف النحاسي اللون المتدلي على جبهتها.
ربما شعرت بعدم الارتياح لسماحي لها بالدخول؛ فراحت تتفحص المكان بنظرات قصيرة مضطربة.
ثم قالت: «الطقس شديد البرودة اليوم.»
ثم أضافت سريعا: «أنا لا أرى أي منفضة سجائر هنا. ألا توجد واحدة؟»
وجدت واحدة في إحدى الخزانات وأحضرتها، فأخرجت علبة سجائرها واستراحت في جلستها شاعرة ببعض الارتياح. «ألا تدخنين؟» «كنت أدخن في السابق.» «ليس الجميع مثلك.»
صببت لها القهوة.
قالت: «من دون لبن.» ثم أضافت: «أوه، يبدو أنك تقومين بعمل كبير. آمل أنني لم أقاطع ما كنت تفعلينه، هل كنت تكتبين رسائل؟»
وجدت نفسي أخبرها عن الكتاب المهمشين، حتى إنني ذكرت لها اسم الكاتبة التي كنت أعمل على كتابة سيرتها الذاتية في ذلك الوقت؛ مارثا أوستنسو، التي ألفت كتابا بعنوان «الإوز البري» وحشدا آخر من الكتب التي أصبحت كلها الآن طي النسيان. «هل تقصدين أن كل هذه الأشياء ستظهر في شكل مطبوع مثل الصحف؟»
رددت قائلة إنها ستظهر في سلسلة كتب. زفرت بطريقة متوترة بعض الشيء، وأدركت أنني كنت أرغب في إخبارها بشيء أكثر إثارة للاهتمام. «من المفترض أن زوج هذه الكاتبة كتب أجزاء من هذا الكتاب، ولكن الشيء الغريب هو أن اسمه لم يرد في أي مكان به.»
قالت : «ربما لم يرغب في أن يسخر منه الرجال.» ثم أضافت: «كما تعلمين، كيف سينظرون للرجل الذي يؤلف كتبا؟» «لم أفكر في ذلك.»
قالت: «لكنه لم يكن سيمانع في أخذ المال؛ أنت تعرفين كيف يفكر الرجال.»
ثم بدأت تبتسم وتهز رأسها، وقالت: «لا بد أنك شخص حاد الذكاء. انتظري حتى أخبر من أسكن معهم أنني رأيت كتابا وهو في مرحلة التأليف.»
للابتعاد عن هذا الموضوع الذي بدأ في التسبب بشعوري بالإحراج، سألت عن هؤلاء الذين كانت تقيم معهم.
فذكرت أناسا كثرا لم أستطع استيعابهم كلهم، أو ربما لم أهتم بذلك. ولم أكن متأكدة من الترتيب الذي ذكرتهم به، باستثناء أنها ذكرت زوجها في النهاية وقالت إنه قد فارق الحياة. «في العام الماضي. إلا أنه لم يكن زوجي رسميا. أنت تدركين ما أعنيه.»
قلت: «إن زواجي لم يكن رسميا أيضا؛ أعني ليس كذلك.» «هل هذا صحيح؟ هناك كثيرون يفعلون ذلك الآن، أليس كذلك؟ كان رد الفعل تجاه هذا الأمر هو: يا إلهي! أليس هذا أمرا مفزعا؟ أما الآن، فأصبح: ولم لا؟ وهناك من يعيشون معا لفترة طويلة، وفي النهاية يتزوجون رسميا. حينها تتساءل لماذا يفعلون ذلك؛ هل من أجل الهدايا؟ أم من أجل فكرة تأنق العروس وارتدائها الثوب الأبيض. إن هذا يمكن أن يضحكك، لكن يمكن أن يجعلني أموت.»
ثم أضافت أن لديها ابنة مرت بعملية التفاخر والاحتفال بتلك الطريقة بالكامل، ولم يعد ذلك عليها بأي نفع لأنها الآن في السجن بتهمة الاتجار غير المشروع. كم هي غبية! إن الرجل الذي ذهبت وتزوجته هو من ورطها في هذا الأمر. والآن يجب عليها أن تبيع مستحضرات التجميل إلى جانب الاعتناء بابنتي ابنتها الصغيرتين؛ فما من أحد آخر يمكن أن يعتني بهما.
طوال الوقت الذي كانت تخبرني فيه بقصة ابنتها، كانت تتمتع بروح دعابة مدهشة، ولم تصبح مترددة ومنزعجة بعض الشيء إلا عندما بدأت تحدثني عن موضوع آخر يتعلق بابنة أخرى لها كانت ناجحة إلى حد بعيد وتعمل ممرضة معتمدة، لكنها تقاعدت وذهبت لتعيش في فانكوفر.
هذه الابنة أرادت منها أن تترك كل مسئولياتها وتذهب للعيش معها. «ولكني لا أحب فانكوفر. أعلم أن الجميع يحبها، لكني لا أحبها فحسب.»
إلا أن المشكلة الحقيقية كانت تتمثل في أنها إن ذهبت للعيش مع ابنتها، فسيجب عليها الإقلاع عن التدخين. فلم يكن الأمر يتعلق بهذه المدينة، بل بالتخلي عن التدخين.
دفعت ثمن أحد مستحضرات التجميل الذي قد يضفي على بشرتي بعض الحيوية، ووعدتني هي بأنها ستحضره في المرة القادمة التي تأتي فيها إلى المنطقة. •••
أخبرت فرانكلين بكل شيء عنها، وقلت له إن اسمها جوين.
وأضفت: «لكنها من عالم آخر مختلف استمتعت به بشدة.» ثم أحسست بأن ما قلته لم يرق لي إلى حد بعيد.
فقال لي إنني ربما أكون بحاجة إلى الخروج والتنزه على نحو أكبر، وإنني يجب أن أسعى للعمل كمدرسة بديلة. •••
اندهشت عندما جاءت جوين بعد ذلك بفترة قصيرة جالبة معها مستحضر التجميل الذي كنت أريده. كنت قد دفعت ثمنه بالفعل، ولم تحاول حتى أن تبيعني أي شيء آخر، وبدت تقريبا أكثر ارتياحا لذلك، ولم يكن أمرا مخططا له من جانبها. قدمت لها قهوة مرة أخرى وتحادثنا بكل أريحية واندفاع كما في المرة السابقة. أعطيتها نسخة كتاب «الإوز البري» التي كنت أستخدمها للكتابة عن مارثا أوستنسو، وقلت لها إن باستطاعتها الاحتفاظ بها لأنني سوف أحصل على نسخة أخرى عندما تصدر السلسلة التي كنت أؤلفها.
فقالت إنها سوف تقرؤه، أيا كانت الظروف، وأضافت أنها لا تتذكر آخر مرة قرأت فيها كتابا لكونها مشغولة للغاية، ولكنها وعدتني بأن تقرأ هذا الكتاب.
ثم استطردت قائلة إنها لم تلتق قط بشخص مثلي يجمع ما بين التعليم الراقي والبساطة في التعامل. شعرت حينها بقليل من الإطراء، والتحفظ في الوقت نفسه، تماما كما تشعر عندما تدرك أن أحد الطلاب معجب بشدة بك. ثم شعرت بالإحراج لأنه لم يكن لدي الحق في أن أشعر بأنني أعلى منزلة منها.
حل الظلام عندما خرجت من المنزل وبدأت تدير سيارتها، ولكنها لم تتمكن من ذلك . حاولت مرارا وتكرارا وأصدر المحرك صوتا مزعجا، ثم توقف عن العمل تماما. عندما وصل فرانكلين إلى فناء المنزل ولم يستطع تجاوزه ودخول المنزل، ذهبت لإخباره بالمشكلة؛ أما هي، فنزلت من السيارة عندما رأته قادما نحوها، وشرعت في شرح الموقف قائلة إن السيارة كانت تضعها في مواقف سيئة للغاية خلال الآونة الأخيرة.
حاول هو أيضا إدارتها، في حين وقفنا إلى جانب شاحنته، مفسحتين له المجال، ولكنه لم يستطع إدارتها كذلك، ودخل إلى المنزل ليتصل بورشة إصلاح السيارات الخاصة بالقرية؛ أما هي، فلم ترغب في الدخول إلى المنزل مرة أخرى، على الرغم من أن الجو كان باردا في الخارج. بدا أن وجود رجل المنزل جعلها متحفظة؛ فانتظرت معها، ثم خرج فرانكلين إلينا لإخبارنا بأن الورشة مغلقة.
لم يعد هناك ما يمكن القيام به سوى أن أطلب إليها البقاء لتناول العشاء وقضاء الليلة معنا. قدمت اعتذارات كثيرة ثم أخذت تشعر براحة أكبر عندما أدخلتها وجلست وأشعلت سيجارة جديدة. بدأت في إعداد الطعام، وذهب فرانكلين لتغيير ملابسه. سألتها إن كانت تريد أن تهاتف أحدا في منزلها.
قالت: نعم، من الأفضل أن أفعل ذلك.
اعتقدت أنه ربما يأتي أحدهم لاصطحابها للمنزل؛ فلم أكن أتطلع إلى الحديث طوال المساء مع وجود فرانكلين مستمعا لما أقوله. بالطبع كان من الممكن أن يذهب إلى غرفته الخاصة - التي ما كان يسميها مكتبه - ولكن كنت سأشعر أن إقصاءه بتلك الطريقة كان خطئي. كذلك، كنا نود مشاهدة نشرة الأخبار، وكانت هي سترغب في التحدث خلالها. فحتى أكثر صديقاتي ذكاء كن يفعلن هذا، وكان هو يكره ذلك.
أو ربما كانت ستجلس صامتة في استغراب شديد، وكان ذلك سيكون أمرا سيئا كذلك.
بدا أن أحدا لم يرد على مكالمتها، فاتصلت بمنزل جيرانها حيث كانت الطفلتان الصغيرتان، وفي أثناء تلك المكالمة قدمت قدرا كبيرا من الاعتذارات وهي تضحك، ثم تحدثت إلى الطفلتين لحثهما على أن تسلكا سلوكا مهذبا، ثم عادت للحديث مع الجيران مرة أخرى مقدمة لهم الشكر العميق والمزيد من التأكيدات على أن الطفلتين لن تحدثا الكثير من الجلبة. كان هذا على الرغم من أنه تبين أن هؤلاء الجيران كانوا سيذهبون إلى مكان ما في اليوم التالي، ومن ثم كان عليهم أخذ الطفلتين معهم، وهو الأمر الذي لم يكن ممكنا في نهاية المطاف.
عاد فرانكلين إلى المطبخ تماما في الوقت الذي أنهت فيه المكالمة؛ فالتفتت هي إلي وقالت إن جيرانها للأسف خططوا للخروج، وإن ذلك كان طبعهم؛ حيث كانوا ينسون كل المواقف التي وقفت إلى جانبهم فيها عندما احتاجوا إليها.
وفجأة ظهرت علامات الاندهاش على وجهي فرانكلين وجوين في نفس الوقت.
صاحت جوين: «يا إلهي.»
قال فرانكلين «لا. إنه أنا.»
تسمرا في مكانهما، وتساءلا كيف أنهما لم ينتبها من قبل إلى الأمر. وأدركا، بحسب افتراضي، أنه لا يمكنهما أن يفتحا ذراعيهما ليتعانقا. بدلا من ذلك، قاما ببعض الحركات الغريبة غير المترابطة، كما لو كان عليهما أن ينظرا في كل ما كان حولهما من أجل التأكد أنهما لا يحلمان. كما كرر كل منهما اسم الآخر بنبرة تحمل بعض السخرية والارتباك، وعلى نحو لم أكن لأتوقعه تماما. «فرانك.» «دوللي.»
بعد لحظات، أدركت أن اسم جوين، جويندولين، يمكن في الواقع أن يختزل إلى دوللي.
وأن أي شاب كان سيفضل أن يدعى فرانك بدلا من فرانكلين.
لم ينسيا وجودي - أو لم ينس فرانكلين ذلك - إلا في تلك اللحظة. «هل سمعتني أذكر اسم دوللي؟»
أصر صوته على العودة إلى الوضع الطبيعي، في حين أصر صوت دوللي أو جوين على تضخيم المفارقة الكبيرة أو حتى المذهلة المتعلقة بإيجاد كل منهما الآخر. «لا أستطيع أن أذكر لك آخر مرة نوديت فيها بهذا الاسم؛ فما من شخص آخر في العالم أجمع يعرفني بهذا الاسم؛ دوللي.»
كان الشيء الغريب حينها أنني بدأت المشاركة في جو البهجة العام الذي كان يسود المكان؛ فالدهشة كانت تتغير إلى بهجة أمام عيني، هذا ما كان يحدث. كان على هذا الاكتشاف أن يجعل هذا التغير سريعا. وكم كنت حريصة، على ما يبدو، على أداء دوري في الأمر ، حتى إنني أحضرت زجاجة من النبيذ.
كان فرانكلين قد أقلع حينها عن شرب الكحول. لم يكن يشرب كثيرا في الأساس وقد أقلع عنه تماما في هدوء؛ فكان الأمر متروكا لي ولجوين للشرب والدردشة والإسهاب عن الاكتشاف الجديد، وذلك بمعنويات مرتفعة وللحديث عن دور الصدفة في الحياة.
قالت لي إنها كانت تعمل مربية أطفال عندما عرفت فرانكلين، وإنها كانت تعمل في تورونتو وترعى طفلين إنجليزيين أرسلهما والداهما إلى كندا لإبعادهما عن الحرب. كان هناك مساعدون آخرون يعملون في المنزل، فكانت تقضي معظم أمسياتها بالخارج لقضاء بعض الوقت السعيد، كما تفعل أي فتاة شابة. والتقت فرانكلين عندما كان في إجازته الأخيرة قبل سفره للخارج، وقضيا معا وقتا صاخبا مجنونا، وربما كتب لها رسالة أو رسالتين ولكنها كانت مشغولة جدا بحيث لم تستطع الرد عليها. وعندما انتهت الحرب انطلقت على متن سفينة في أقرب وقت ممكن لإعادة الطفلين الإنجليزيين إلى بلدهما، والتقت رجلا على متنها وتزوجته.
لكن هذا الزواج لم يستمر طويلا؛ فإنجلترا كانت مكانا موحشا للغاية بعد الحرب، حتى إنها ظنت أنها ستموت هناك، فعجلت بعودتها إلى كندا.
لم أكن أعرف شيئا عن هذا الجانب من حياتها، ولكنني لمت بشأن الأسبوعين اللذين قضتهما مع فرانكلين، وهكذا - كما قلت - فعل الكثير غيري. على الأقل إن كانوا قد قرءوا شعره.
كانوا يدركون كم كانت معطاءة في حبها له، لكن لم يعلم أحد، مثلما علمت أنا، كيف أنها اعتقدت أنها لا تستطيع الإنجاب لأنها أحد توءمين، وترتدي دلاية حول عنقها بها خصل من شعر توءمها المتوفاة. كانت تؤمن بكافة المعتقدات المماثلة، وقدمت لفرانكلين سنا سحرية - لم تكن تعرف صاحبها - لحمايته عندما سافر إلى خارج البلاد، لكنه فقدها بعد ذلك على الفور ولكن لم يفقد حياته.
كانت لديها قاعدة أخرى، وهي أنها إن نزلت عن الرصيف مستخدمة القدم الخطأ، أصبح ذلك اليوم يوما سيئا بالنسبة إليها، ويتعين عليها وعلى فرانكلين العودة مرة أخرى لهذا الرصيف والقيام بالأمر على النحو الصحيح. وكان فرانكلين معجبا بقواعدها تلك.
حقيقة ، لم أكن بنحو شخصي معجبة بتلك الأمور عندما علمت بها.
تأملت كيف أن الرجال يعجبون بالأمور الغريبة فقط إذا صدرت عن فتاة حسناء. بالطبع لم يعد هذا معتادا الآن أو على الأقل آمل أن يكون كذلك؛ كل هذا الإعجاب بالعقل الأنثوي الطفولي. (عندما بدأت العمل في مهنة التدريس أخبروني أنه منذ وقت غير بعيد كان النساء لا يقمن بتدريس مادة الرياضيات لأن مستوى ذكائهن المحدود حال دون ذلك.)
بالطبع تلك الفتاة الفاتنة، التي ألححت على أن يخبرني عنها، يمكن أن تكون بوجه عام صنيعة أحدهم. ولكنني لا أعتقد ذلك؛ فهي نتاج خياراتها الجريئة، كما أنها أحبت بشدة نفسها على ما هي عليها.
بطبيعة الحال لم أخبر أحدا بما قاله لي أو ورد عنها في القصيدة. وكذلك، لم يكن فرانكلين يتحدث عن ذلك معظم الوقت، إلا ليذكر بعض الأشياء عن تورونتو، وكيف كانت في أيام الحرب الصاخبة هذه، وعن قوانين الخمور السخيفة أو مهزلة مواكب الجنود وهي ذاهبة للكنيسة. لو اعتقدت في تلك المرحلة أنه قد يجعلها ملهمة لإحدى كتاباته، لبدا لي أنني كنت مخطئة.
أحس بالتعب وذهب إلى النوم، بينما جهزت أنا وجوين أو دوللي الأريكة لتنام عليها، ثم جلست هي على جانب منها وهي تدخن سيجارتها الأخيرة، طالبة مني ألا أقلق؛ حيث إنها لن تتسبب في إحراق المنزل لأنها ما كان لها أن تنام حتى تنتهي من تدخين سيجارتها.
كانت غرفتنا باردة، والنوافذ مفتوحة أكثر من المعتاد. وكان فرانكلين نائما؛ كان كذلك بالفعل حيث كان بإمكاني دوما تحديد ما إذا كان يتصنع النوم أم لا.
كنت أكره النوم مع علمي بوجود أطباق متسخة على الطاولة، ولكنني شعرت فجأة بتعب شديد بحيث لم أستطع غسلها، مع علمي بأن جوين كانت ستساعدني في القيام بذلك. بيد أنني نويت الاستيقاظ مبكرا في الصباح لغسلها وترتيب المكان.
لكنني استيقظت على ضوء الشمس وصوت جلبة آت من المطبخ، ورائحة الإفطار، وكذلك رائحة السجائر؛ هذا بالإضافة إلى صوت حديث، وكان المتحدث هو فرانكلين، بينما كنت أتوقع أن تكون جوين. سمعتها تضحك على كل ما يقوله؛ فنهضت على الفور وارتديت ملابسي وصففت شعري، وهو شيء لم أكن أهتم بفعله عادة في وقت مبكر كهذا.
تلاشى كل ما أحسست به في المساء من بهجة وأمان، وأحدثت قدرا كبيرا من الجلبة وأنا أنزل درجات السلم.
وكانت جوين تقف أمام حوض الغسيل وبجانبها صف من الأوعية الزجاجية النظيفة البراقة الموضوعة على لوح التجفيف. «غسلت الأطباق كلها يدويا لأنني خشيت ألا أستطيع تشغيل غسالة الأطباق بطريقة صحيحة. ثم رأيت تلك الأوعية الموجودة هناك وظننت أنه يجب علي أن أغسلها أيضا بما أني بجانب حوض الغسيل.»
قلت لها: «إنها لم تغسل منذ فترة طويلة للغاية.» «حقا؟ لم أعتقد ذلك.»
قال فرانكلين إنه خرج وحاول إدارة السيارة مرة أخرى، لكنه فشل مجددا، لكنه نجح في الاتصال بورشة إصلاح السيارات، وقالوا إن شخصا قد يأتي ويلقي نظرة على السيارة عصر ذلك اليوم. لكنه ظن أنه من الأفضل بدلا من الانتظار جر السيارة إلى الورشة، بحيث يمكن إصلاحها خلال هذا الصباح.
قلت: «إن هذا يعطي لجوين الفرصة لغسل ما تبقى من أشياء في المطبخ.» ولكن لم يهتم أي منهما بالمزحة التي قلتها، ورفض هو ذلك وقال إنه من الأفضل لجوين أن تذهب معه لأنهم سيرغبون في الورشة في التحدث معها؛ نظرا لأنها مالكة السيارة.
لاحظت أن ثمة صعوبة كانت لديه في ذكر اسم جوين، حيث كان عليه مقاومة ذكر اسم دوللي.
فقلت إنني كنت أمزح.
سألني إن كنت أرغب في أن يعد إفطارا لي، ورددت عليه بالرفض.
قالت جوين: «هذا هو سر حفاظها على قوامها.» وبطريقة ما، تحولت هذه المجاملة إلى شيء يمكن أن يضحكا عليه معا.
لم تظهر عليهما أي علامة تدل على معرفتهما بما كنت أشعر به، على الرغم من أنه بدا لي أنني كنت أتصرف على نحو غريب، وكانت كل ملحوظة تصدر عني نوعا من السخرية الهشة. اعتقدت أنهما كانا مزهوين بنفسيهما بشدة، وكان هذا تعبيرا طرأ على ذهني دون أن أعلم مصدره. عندما خرج فرانكلين لتجهيز السيارة لجرها، تبعته جوين على الفور كما لو أنها أرادت ألا يغيب عن نظرها ولو حتى للحظة واحدة.
وبينما كانت تغادر تذكرت أن تخبرني أنها لن تستطيع أن تفيني حقي من الشكر.
أطلق فرانكلين نفير سيارته ليودعني، وهو شيء لم يكن يفعله في العادة.
وددت أن ألحق بهما وأن أقطعهما إربا. رحت أسير في المكان في كل اتجاه مع ازدياد تمكن انفعالي الموجع هذا مني، ولم يعد لدي شك على الإطلاق فيما كان يجب علي أن أفعله.
وخلال وقت قصير إلى حد ما، خرجت من المنزل وركبت سيارتي، بعد أن مررت مفتاح منزلي عبر الفتحة الموجودة في الباب الأمامي، ووضعت حقيبة السفر بجانبي على الرغم من أني بنحو أو بآخر نسيت ماذا وضعت بداخلها. كما أنني كتبت رسالة مختصرة تقول إنني ذهبت لأتحقق من بعض المعلومات عن مارثا أوستنسو، ثم بدأت في كتابة رسالة أطول كنت أنوي توجيهها إلى فرانكلين دون أن تراها جوين عندما تعود معه مرة أخرى إلى المنزل، وهو الأمر الذي كان سيحدث بالتأكيد. قلت في هذه الرسالة أنه حر في القيام بالشيء الذي يريده، وأن الشيء الوحيد الذي كان غير محتمل بالنسبة إلي هو الخداع، أو ربما قصدت الخداع الذاتي؛ فلم يكن هناك داع لما فعله، ولكن كان عليه فقط أن يعترف ويكشف عن رغبته. لقد كان شيئا سخيفا وقاسيا منه أن يجعلني أرى ذلك المشهد؛ ولذلك وددت فقط أن أفسح لهما المجال.
أضفت أنه لا توجد أكاذيب، في نهاية المطاف، قوية مثل تلك التي نخبر بها أنفسنا، وللأسف نستمر في إخبار أنفسنا بها، حتى تستقر بداخلنا وتبدأ في القضاء علينا، وذلك كما سيكتشف في القريب العاجل. ظللت أوجه اللوم له حتى لم تعد هناك مساحة تكفي مع تكرار الأفكار وتخبطها دون إبداء أي نوع من الكياسة أو الاهتمام بكرامتي. ثم أدركت أنه سوف يتعين علي إعادة كتابة الرسالة قبل إعطائها إلى فرانكلين، فاضطررت لأخذها معي وإرسالها بالبريد بعد ذلك .
في نهاية الممر المؤدي إلى الطريق اتخذت الاتجاه الآخر الذي لا يؤدي إلى القرية وورشة إصلاح السيارات، وخلال وقت قصير، كما بدا لي، كنت أتجه شرقا على طريق سريع رئيسي. سألت نفسي إلى أين أنا ذاهبة.
فإذا لم يطرأ شيء على خاطري بسرعة، فسوف أجد نفسي في تورونتو، وبدا لي أنه على الرغم من أنني قد أجد هناك مكانا كي أختبئ به، فقد أصادف أناسا وأماكن تذكرني بفرانكلين والأوقات السعيدة التي قضيتها معه.
ولتجنب حدوث هذا، استدرت بالسيارة وتوجهت إلى كوبورج، البلدة التي لم نذهب إليها معا قط.
لم يكن وقت الظهر قد حان بعد عندما استأجرت غرفة في نزل في وسط البلدة. مررت بعاملات النظافة اللواتي كن ينظفن الغرف التي كانت مشغولة في الليلة الماضية. أما غرفتي، فنظرا لأنها لم تكن مشغولة في الليلة السابقة، فقد كانت باردة جدا. شغلت المدفأة ثم قررت الذهاب للتمشية، وعندما حاولت فتح الباب لم أستطع حيث كنت أرتجف وأرتعش؛ فأوصدت الباب وذهبت للنوم وأنا مرتدية ملابسي كاملة، وكنت لا أزال أرتجف؛ لذا سحبت الغطاء حتى غطى أذني.
استيقظت من نومي قبل الغروب بفترة، وكانت ملابسي ملتصقة بجسدي من العرق؛ فأغلقت المدفأة وأخرجت بعض الملابس من حقيبتي وارتديتها ثم خرجت من الغرفة. مشيت بسرعة شديدة. كنت جائعة لكنني شعرت بأنه لا يمكنني أن أبطئ أبدا من خطواتي، أو حتى أن أجلس لتناول الطعام.
اعتقدت أن ما حدث لي كان أمرا مألوفا، في الكتب وفي الحياة، وقد تكون - بل يجب أن تكون - هناك طريقة ما مجربة يمكن التعامل بها معه. والمشي على هذا النحو يعد إحداها بكل تأكيد، ولكن كان يجب عليك أن تتوقف، حتى في بلدة بهذا الحجم الصغير، للسماح بمرور السيارات وحين تكون إشارات المرور حمراء. كما كان هناك أيضا أشخاص يجوبون الطرقات بطريقة خرقاء، يقفون ثم يسيرون مرة أخرى، بالإضافة إلى حشود من تلاميذ المدارس مثل أولئك الذين اعتدت أن أجعلهم يلتزمون بالنظام. لماذا كان يوجد العديد منهم؛ الحمقى بصراخهم وصياحهم؟ ولماذا هذا التكرار في أفعالهم وعدم الضرورة الكاملة لوجودهم؟ كانت رؤيتهم في كل مكان إهانة في وجهك.
كما كانت أيضا المتاجر ولافتاتها إهانة، وكذلك ضوضاء السيارات مع توقفها وسيرها؛ كل مكان يعلن أن هذه هي مظاهر الحياة، كما لو كنا في حاجة إلى المزيد منها.
بعدما انتهى أخيرا صف المتاجر، كانت توجد بعض الكبائن الخالية، المغطاة نوافذها بالألواح، التي كان من المنتظر هدمها. هذه الكبائن هي الأماكن التي اعتاد الناس البقاء فيها في رحلات العطلات البسيطة قبل ظهور الفنادق. ثم تذكرت أنني أيضا أقمت هناك؛ نعم، في واحدة من تلك الكبائن عندما كان هناك تخفيض في أسعار الإقامة بها - ربما لأنه لم يكن موسم العطلات - بحيث يذهب إليها الآثمون في فترة ما بعد الظهيرة، والذين كنت واحدة منهم. كنت حينها أعمل بمهنة التدريس وأنا لا أزال طالبة، وما كنت سأتذكر أن ما حدث كان في هذه البلدة، لولا تلك الكبائن المغلقة بالألواح الآن. كان الرجل يعمل مدرسا وكان أكبر سنا مني، وكانت زوجته ربة منزل، ومن دون شك كان لديهما أطفال، حياة أشخاص يتم العبث بها. كان يجب ألا تعرف؛ لأن ذلك كان سيكسر قلبها. وكنت لا أهتم بهذا على الإطلاق؛ فلينكسر قلبها.
كان من الممكن أن أتذكر أكثر من ذلك إذا حاولت، لكنه أمر لم يكن يستحق العناء. إلا أن هذا التذكر جعلني أبطئ من حركتي وأعود إلى وتيرة أكثر طبيعية، وألتفت وأعود إلى النزل.
وهناك على التسريحة كانت توجد الرسالة التي كتبتها، مختومة ولكن ينقصها طابع؛ فخرجت مرة أخرى وذهبت لمكتب البريد واشتريت طابعا ووضعت الظرف في المكان المخصص لإرساله، دون أي تفكير أو تخوف. كان من الممكن أن أتركه على الطاولة هناك، فما جدوى الأمر في نهاية المطاف؟ فقد انتهى كل شيء.
وأثناء سيري كنت قد لاحظت مطعما ينزل إليه عبر بضع درجات. تمكنت من الذهاب إليه مرة أخرى، ونظرت إلى قائمة الطعام المعلقة.
لم يكن فرانكلين يفضل تناول الطعام خارج المنزل، بينما كنت أفضل ذلك. مشيت بعض خطوات أخرى، بوتيرة طبيعية هذه المرة، منتظرة حتى يفتح المكان أبوابه. رأيت وشاحا أعجبني في واجهة متجر، وارتأيت أن أدخل وأشتريه حيث ظننت أنه سيكون ملائما لي. ولكن عندما أمسكته تركته على الفور؛ فقد أصابني ملمسه الحريري بالغثيان.
وفي المطعم شربت بعض النبيذ وانتظرت وقتا طويلا حتى وصل طعامي. كان هناك عدد قليل جدا من الأشخاص الذين كانوا منشغلين بإعداد المكان للفرقة الموسيقية التي كانت ستعزف هناك في المساء. ذهبت إلى الحمام، واندهشت من مدى التغير الكبير الذي طرأ على مظهري، وتساءلت في نفسي هل كان من الممكن أن يفكر رجل - رجل متقدم في السن - في التعرف علي وإقامة علاقة معي. لكن الفكرة كانت منفرة بالنسبة إلي؛ ليس بسبب كبر سنه المحتمل، ولكن لأنني لم أكن لأفكر قط في أي رجل غير فرانكلين.
بالكاد استطعت تناول بعض الطعام عندما وضع أمامي. لم يكن السبب أن الطعام كان سيئا، ولكن غرابة جلوسي وتناولي للطعام بمفردي، والشعور الفظيع بالوحدة والذهول مما كان يحدث لي.
فكرت في إحضار أقراص منومة على الرغم من أنني لم أستخدمها إلا نادرا. في الواقع كان لدي بعضها منذ فترة طويلة جدا، حتى إنني تساءلت إن كانت لا تزال صالحة للاستخدام أم لا. إلا أنها كانت فعالة؛ إذ نمت حتى حوالي الساعة السادسة صباحا، دون أن أستيقظ خلال نومي ولو لمرة واحدة.
كانت بعض الشاحنات الكبيرة تخرج بالفعل من أماكن انتظارها داخل النزل.
كنت أعرف أين أنا، كما كنت أعرف أيضا ما فعلته، وأدرك أنني ارتكبت خطأ فظيعا؛ لذا، ارتديت ملابسي وفي أسرع وقت ممكن وغادرت النزل. وبالكاد استطعت تحمل المحادثة الودية التي أجرتها معي موظفة الفندق؛ حيث أخبرتني أن الثلوج سوف تتساقط في وقت لاحق، وأن علي الاعتناء بنفسي.
كان الزحام يشتد بالفعل على الطريق السريع، كما كان هناك حادث أدى إلى بطء السير بصورة أكبر.
ظننت أن فرانكلين ربما خرج ليبحث عني، وأنه قد يتعرض لحادث أيضا، وأننا حينها قد لا يرى كل منا الآخر مرة أخرى.
لم أكن أفكر في جوين إلا باعتبارها الشخص الذي عطل سير حياتنا وخلق مشاكل سخيفة، برجليها البدينتين القصيرتين، وشعرها المضحك، وتجاعيد وجهها المتشابكة. يمكن أن تقول إنها كانت شخصية كاريكاتورية، شخصا لا يمكن إلقاء اللوم عليه ولا يجب أبدا أخذه على محمل الجد.
وصلت إلى المنزل، الذي لم يتغير فيه شيء، وتوجهت إلى الممر ورأيت سيارته، وحمدت الرب أنه كان موجودا هناك.
لاحظت أن السيارة لم تكن متوقفة في مكانها المعتاد.
وكان السبب أن سيارة أخرى، سيارة جوين، كانت متوقفة في مكانها.
لم أستطع استيعاب الأمر؛ فطوال تلك الرحلة، نظرت إليها - هذا إن كانت قد جالت بخاطري على الإطلاق - كشخص كان سينحى جانبا، وأنها منذ الفراق الأول لا يمكن أن يكون لها دور في حياتنا. كان الشعور بالراحة لا يزال يغمرني لعودتي إلى المنزل، ولكون فرانكلين أيضا في المنزل سالما. سرى الاطمئنان عبر كل أوصالي، حتى إن جسدي كان على استعداد للخروج من السيارة والذهاب مسرعا إلى المنزل. حتى إني أخذت أبحث عن مفتاح المنزل، ناسية ما فعلته به.
لم أكن أحتاجه على أي حال؛ كان فرانكلين قد فتح باب منزلنا، ولم تبد عليه المفاجأة أو الارتياح، حتى عندما نزلت من السيارة وأخذت أتجه نحوه. نزل درجات المنزل بطريقة متوازنة وأوقفتني كلماته قبل أن أصل إليه.
قال: «انتظري.»
انتظري. بالطبع، كانت هي موجودة بالداخل.
ثم أضاف: «عودي إلى السيارة مرة أخرى. لا يمكننا أن نتحدث في الخارج هكذا؛ إن الجو بارد جدا.»
وعندما دخلنا إلى السيارة، قال: «إن الحياة لا يمكن أبدا التنبؤ بأحداثها.»
كان صوته على غير المعتاد رقيقا وحزينا. لم يكن ينظر إلي، بل ينظر باتجاه الزجاج الأمامي للسيارة، ومنزلنا.
قال لي: «أعرف أنه لا جدوى من الاعتذار لك.»
ثم تابع: «كما تعلمين، لا يتعلق الأمر حتى بالشخص؛ إنه نوع من الهالة، أو السحر المرتبط به. لا شك أن الأمر يتعلق بالشخص، ولكنه يحيط بهذه الهالة والسحر ويجسدهما، أو هما من يجسدانه، لا أعرف الصواب على وجه التحديد. هل تفهمين قصدي؟ إنه أمر يحدث فجأة ككسوف الشمس أو ما شابه.»
هز رأسه المحني، في حيرة كاملة.
كان بإمكانك أن تشعر أنه كان يتطلع للحديث عنها، ولكن تلك الطريقة المعسولة في الحديث كانت ستجعله يشعر بالغثيان في المعتاد؛ وهذا ما جعلني أفقد الأمل.
شعرت ببرودة شديدة تسري عبر جسدي. كنت سأسأله إن كان قد أخبر الطرف الآخر بهذا التحول، ولكني ظننت أنه بالتأكيد فعل هذا، وأنها كانت هنا، في المطبخ مع الأشياء التي كانت تلمعها.
كان افتتانه حزينا جدا، وكان مثل افتتان أي شخص آخر، حزينا.
فقلت: «توقف عن الكلام. لا تتكلم فحسب.»
التفت ونظر إلي للمرة الأولى، وتحدث دون أي من نبرات الحيرة الهادئة التي كانت في صوته.
قال: «يا إلهي! لقد كنت أمزح. اعتقدت أنك ستكتشفين الأمر. حسنا، حسنا. أوه، بالله عليك، اصمتي، واستمعي إلي.»
ففي أثناء ذلك، كنت أصرخ من الغضب والارتياح. «حسنا، لقد كنت غاضبا منك بعض الشيء. قررت أن أجعلك تمرين ببعض الوقت العصيب عقابا لك على ذلك. ماذا كان من المفترض أن أظن عندما عدت إلى المنزل وقد رحلت عنه لتوك؟ حسنا، أنا أحمق. كفي عن هذا. كفي عن هذا.»
لم أرغب في التوقف عن الصراخ. أدركت أن كل شيء كان على ما يرام الآن، ولكنه كان من المريح لي أن أصرخ بتلك الطريقة. ثم وجدت أمرا جديدا ألومه عليه. «ما الذي تفعله سيارتها هنا إذن؟» «إنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا مع تلك السيارة؛ فهي مجرد خردة.» «لكن لم هذه السيارة موجودة هنا؟»
قال إنها موجودة هنا لأن بها بعض الأجزاء الصالحة للعمل، وهي ليست كثيرة، وإنها أصبحت ملكه أو ملكنا الآن.
لأنه قد اشترى لها سيارة. «سيارة؟ جديدة؟»
سيارة جديدة بما يكفي لتعمل على نحو أفضل من السيارة التي كانت تمتلكها. «إنها تريد أن تذهب إلى مدينة نورث باي لأن لديها هناك أقارب أو ما شابه ذلك. وتلك المدينة هي المكان الذي أرادت أن تتجه إليه عندما تستطيع الحصول على سيارة تساعدها على القيام بذلك.» «إن لديها أقارب هنا، في المكان الذي تعيش فيه. كما أن لديها طفلتين في الثالثة من عمرهما يجب أن تعتني بهما.» «حسنا من الواضح أن أقاربها في نورث باي هم من يلائمونها الآن. إنها لم تخبرني عن أي أطفال في الثالثة من عمرهم. ربما ستأخذهما معها.» «هل طلبت منك أن تشتري لها سيارة؟» «لم تطلب أي شيء.»
قلت: «إذن، أصبحت هي الآن جزءا من حياتنا.» «إنها في نورث باي. لنذهب إلى داخل المنزل؛ إنني حتى لم أرتد معطفا.»
ونحن في طريقنا، سألته ما إذا كان قد أخبرها عن قصيدته، أو ربما قرأها لها.
قال: «يا إلهي، لا. ولم أفعل ذلك؟»
كان أول شيء رأيته داخل المطبخ لمعان الأوعية الزجاجية النظيفة. جذبت كرسيا ووقفت عليه وبدأت في وضع تلك الأوعية بأعلى الخزانة.
قلت: «هل يمكنك مساعدتي؟» وأخذ يناولني إياها.
تساءلت في نفسي: هل من الممكن أن يكون قد كذب بشأن القصيدة؟ وهل من الممكن أن تكون قد استمعت إليها منه؟ أو أعطاها لها وقرأتها هي بنفسها؟
إذا كان الأمر كذلك، فإن رد فعلها لم يكن مرضيا، مهما كان.
فإذا افترضنا أن رأيها هو أن القصيدة جميلة، فإنه كان سيكره ذلك.
أو ربما أنها قد تساءلت كيف أنه لم يحاسب على فعلته تلك؛ على الكلام البذيء الذي تحتويه. ربما كان هذا ما قالته. كان سيكون هذا أفضل، ولكن ليس للدرجة التي قد تظنها.
فمن يستطيع أن يخبر شاعرا بالرأي المثالي بشأن قصائده؟ الرأي الذي لا يبالغ في الثناء عليه أو الانتقاص من حقه، ولكن يوضح الحقيقة كما هي.
وضع ذراعيه حولي وأنزلني عن الكرسي.
قال: «إننا لم نعد نتحمل الشجار.»
هذا صحيح بالطبع؛ فقد نسيت تقدمنا في العمر، نسيت كل شيء، معتقدة أن هناك مزيدا من الوقت للمعاناة والشكوى.
تمكنت من رؤية المفتاح، ذلك المفتاح الذي أدخلته عبر فتحة الباب الأمامي. كان داخل شق بين ممسحة الأرجل البنية المزغبة وعتبة الباب.
كما كان يجب أن أكون حذرة من تلك الرسالة التي كتبتها أيضا وأمنعها من الوصول إليه.
ماذا لو مت قبل وصولها؟ يمكنك أن تظن أنك في حالة صحية جيدة، ثم يأتي الموت هكذا بكل بساطة؛ فهل يتعين علي أن أترك رسالة بهذا الشأن لفرانكلين من باب الاحتياط؟
أقول له فيها: إن وصلتك رسالة مني، فمزقها.
أعتقد أنه كان سيفعل ما طلبته منه. أما أنا فلو كنت مكانه، لما كنت لأفعل هذا؛ كنت سأفتحها، بغض النظر عن كل الوعود التي قطعتها له في هذا الشأن.
أما هو، فكان سيطيعني.
يا له من مزيج من الغضب والإعجاب الذي كنت أحس به لاعتقادي باستعداده للقيام بذلك؛ وكان هذا ينطبق على حياتنا بأكملها التي قضيناها معا.
خاتمة
«ليست الأعمال الأربعة الأخيرة في هذا الكتاب قصصا بالمعنى المعروف؛ إنها تمثل وحدة منفصلة، وحدة تعد سيرة ذاتية في طابعها، بالرغم من أنها في بعض الأحيان لا تكون كذلك تماما فيما يتعلق بالتفاصيل. أعتقد أنها أول وآخر الأشياء - وأكثرها خصوصية كذلك - التي علي أن أقولها بشأن حياتي.»
العين
حينما كنت في الخامسة من عمري، أنجب والداي فجأة ولدا، وقالت أمي عنه إنه الشيء الذي لطالما كنت أريده. لا أدري من أين أتت بتلك الفكرة، وأدخلت عليها بعض التفاصيل التي كانت كلها خيالية، لكن كان من الصعب مخالفتها.
وبعدها بعام أنجبا بنتا، وكانت هناك ضجة أخرى، لكنها كانت أقل من المرة الأولى.
حتى مجيء الطفل الأول، لم أكن أدري بأنني يمكن أن أشعر بشيء يختلف عن ذلك الذي تقول أمي إنني أشعر به. وحتى ذلك الوقت، كانت روح أمي تملأ المنزل بالكامل؛ بخطواتها وصوتها وحتى رائحة بودرة التجميل التي كانت تفوح منها، المنذرة بسوء، التي كانت تملأ كل الغرف حتى لو لم تكن موجودة بها.
لماذا أقول إنها كانت منذرة بسوء؟ فأنا لم أكن أشعر بالخوف من أمي. الأمر لم يكن أن أمي كانت تملي علي ما يجب أن أشعر به حيال الأشياء؛ فقد كانت لها سلطة في ذلك دون أن أستطيع مناقشتها، ليس فقط في مسألة أخي، وإنما أيضا في مسألة حبوب ريد ريفر التي رأت أنها مفيدة لي وأن علي أن أحبها. وكذلك فيما يتعلق برؤيتي للصورة المعلقة في الجزء السفلي من فراشي، التي تظهر المسيح وهو يسمح للأطفال الصغار بأن يأتوا إليه. ليست المشكلة هنا في مسألة دعوة المسيح لهم، وإنما في الطفلة الصغيرة التي كانت شبه منزوية في أحد الأركان؛ لأنها كانت ترغب في الذهاب إلى المسيح ولكن الخجل يعتريها. قالت أمي إنني تلك الطفلة، وافترضت أنا أن الأمر كذلك، بالرغم من أنني لم أكن لأكتشف هذا إن لم تخبرني هي به، وكنت آمل ألا يكون الأمر كذلك.
لكن الشيء الذي شعرت حقا بالحزن حياله هو أليس في بلاد العجائب، وكيف أنها حشرت وهي كبيرة الحجم في جحر الأرنب، لكني ضحكت لأن أمي بدت سعيدة.
ولكن مع قدوم أخي للحياة ومع التأكيدات المستمرة من جانب أمي بأنه كان على نحو ما هبة بالنسبة إلي، بدأت أدرك كيف أن أفكار أمي عني قد تختلف بقدر هائل عن أفكاري عن نفسي.
أعتقد أن كل هذا كان يعدني للقاء سادي التي جاءت لتعمل لدينا. انشغلت أمي قليلا عني لتعتني بالطفلين، ومع عدم تواجدها بقربي كثيرا، كنت أستطيع أن أحدد ما هو صواب وما هو غير ذلك. وكنت واعية بما يكفي بحيث لا أتحدث عن ذلك لأي شخص.
كان الشيء غير المألوف فيما يتعلق بسادي - على الرغم من أنه لم يكن أمرا مهما في منزلنا - هو أنها كانت شخصية معروفة؛ فبلدتنا كانت بها محطة إذاعة كانت سادي تعزف فيها على الجيتار وتشدو بالأغنية الافتتاحية التي كانت من تأليفها. «مرحبا، مرحبا، مرحبا بالجميع ...»
وبعد نصف ساعة، تصبح «وداعا، وداعا، وداعا للجميع.» وبين هذا وذاك، كانت تشدو بالأغاني التي تطلب منها، وكذلك ببعض الأغاني التي تختارها هي بنفسها. وكان الناس الأكثر رقيا في البلدة ينزعون إلى التندر على أغانيها وعلى المحطة بأكملها التي يقال عنها إنها أصغر محطة بكندا. كان هؤلاء الأشخاص يستمعون إلى محطة بتورونتو التي كانت تذيع الأغاني الشعبية الذائعة الصيت في ذلك الوقت - مثل «السمكات الثلاث الصغار والسمكة الأم أيضا» - وجيم هانتر وهو يذيع الأخبار البائسة الخاصة بالحرب. لكن الأشخاص في المزارع أحبوا الإذاعة المحلية وأنواع الأغاني التي كانت تشدو بها سادي؛ كان صوتها قويا وحزينا، وكانت تغني عن الوحدة والحزن.
وأنا أستند إلى الحاجز العلوي القديم
في حظيرة واسعة
نظرت عبر الطريق وقت الغسق
بحثا عن صديقي الذي فقدته منذ وقت طويل.
كانت معظم المزارع في هذا الجزء من البلاد قد أزيلت منذ نحو 150 عاما، وبمقدورك أن تنظر من أي بيت ريفي وسترى أن أقرب بيت ريفي آخر يقع على بعد بضعة حقول. إلا أن الأغاني التي كان يريدها المزارعون كانت كلها عن رعاة البقر الذين يعانون الوحدة، وسحر ووهم الأماكن البعيدة، والجرائم الشنعاء التي أدت إلى موت المجرمين وشفاههم تنطق أسماء أمهاتهم أو تنطق اسم الرب.
كان هذا ما تغنيه سادي بأسى وبأخفض طبقات الصوت النسائية، لكن في عملها معنا كانت تمتلئ بالحيوية والثقة، وكانت سعيدة عندما تتحدث، وبالأخص عندما تتحدث عن نفسها، لكن في الأغلب لم يكن هناك أحد تتحدث إليه سواي؛ فالمهام التي كانت تقوم بها وتلك الخاصة بأمي لم تكن تجمعهما معا معظم الوقت، وإلى حد بعيد، أعتقد أنهما ما كانا ليستمتعا بالحديث معا على أية حال. كانت أمي شخصية جادة كما سبق أن أشرت، شخصية اعتادت التدريس في المدارس قبل أن تدرس لي، وربما أرادت أن تكون سادي شخصا يمكن أن تعاونه وتعلمه كيف ينطق الكلمات على نحو سليم. لكن سادي لم تعط أي إشارة على أنها كانت تحتاج إلى مساعدة أحد أو أن تتحدث بطريقة تختلف عما اعتادت التحدث بها دائما.
بعد الغداء، وجبة الظهيرة، نكون أنا وسادي بمفردنا في المطبخ. وكانت أمي تقتطع بعض الوقت لكي تغفو قليلا، وإن حالفها الحظ كان يغفو معها الصغيران أيضا، وعندما تستيقظ ترتدي ثيابا مختلفة كما لو أنها تتوقع أن تكون فترة ما بعد الظهيرة هادئة دون متاعب، بالرغم من أن ثمة المزيد من الحفاضات التي كان يجب بالتأكيد تغييرها، وأيضا بعض ذلك العمل غير المألوف الذي حاولت جاهدة ألا أتطلع إليه مطلقا، حينما كانت أختي الرضيعة تلتقم أحد ثدييها وتلتهم اللبن منه.
كان أبي يحصل على غفوة هو الآخر؛ ربما لخمس عشرة دقيقة في الرواق، واضعا صحيفة «ساترداي إيفننج بوست» على وجهه قبل أن يعود إلى عمله في الحظائر.
كانت سادي تسخن المياه على الموقد وتغسل الأطباق بمساعدتي، وكانت تغلق الستائر حتى تحتفظ بالحرارة. وحينما كنا ننتهي من ذلك كانت تمسح الأرضية وكنت أجففها بطريقتي التي ابتكرتها؛ حيث كنت أتزلج في أنحاء المطبخ على خرق التنظيف. ثم كنا ننزع بعدها لفائف الورق الصائد للذباب اللزج الأصفر التي وضعناها بعد الإفطار، والتي امتلأت عن آخرها بالذباب الأسود الميت أو ذلك الذي يطن وعلى وشك الموت، ونعلق اللفائف الجديدة التي ستضحى مليئة بذباب ميت جديد بحلول وقت العشاء. طوال هذا الوقت، كانت سادي تخبرني عن حياتها.
لم أكن حينها أستطيع بسهولة أن أصدر أحكاما بشأن أعمار الناس؛ كان الناس بالنسبة إلي إما أطفالا وإما كبارا، وكنت أعتقد أنها كبيرة؛ ربما كانت في السادسة عشرة من عمرها، وربما في الثامنة عشرة أو العشرين. وأيا ما كان عمرها، فلطالما أعلنت أنها لم تكن تتعجل الزواج.
كانت تذهب لحفلات رقص كل عطلة نهاية أسبوع، لكنها كانت تذهب بمفردها. كانت تذهب بمفردها ولأجل نفسها، بحسب قولها.
كانت تحدثني عن صالات الرقص. كانت هناك واحدة في البلدة على مقربة من الشارع الرئيسي حيث تقام ساحة لممارسة لعبة الكيرلنج في الشتاء؛ كانت تدفع عشرة سنتات من أجل الرقصة الواحدة، ثم تصعد وترقص على المنصة والناس حولها يحدقون فيها ببلاهة، لكنها لم تكن تعيرهم اهتماما. كانت تفضل دائما أن تدفع ثمن الرقصة حتى لا تكون مدينة بالفضل لأحد، لكن في بعض الأحيان كان يأتي إليها أحد الأشخاص قبل أن تصعد لمنصة الرقص، ويسألها إن كانت ترغب في الرقص، وأول شيء كانت تقوله له بفظاظة هو: هل تستطيع أنت الرقص؟ هل تستطيع الرقص؟ فكان ينظر هو إليها بسخرية ويرد بالإيجاب، ولسان حاله يقول: هل هناك سبب آخر لتواجدي هنا؟ ويتضح في الغالب بعد ذلك أن ما كان يعنيه بالرقص هو جر قدميه ببطء وعشوائية مع وضع يديه البدينتين المتعرقتين حولها. وفي بعض الأحيان كانت تبتعد عنه وتتركه وحيدا وترقص بمفردها؛ وهو الشيء الذي كانت تحب أن تفعله على أية حال. ثم كانت تنهي الرقصة التي دفع مقابلها، وإذا ما اعترض جامع النقود وأراد أن تدفع ثمن رقصتين، بينما هي رقصة واحدة فقط، كانت تقول إن ذلك يكفي بالنسبة إليه. كان من الممكن أن يضحك الجميع عليها وهي ترقص بمفردها إن أرادوا ذلك.
أما صالة الرقص الأخرى، فكانت خارج البلدة على الطريق السريع، وهناك كان المرء يدفع مقابل الرقص عند الباب، ولكن ليس من أجل رقصة واحدة وإنما لليلة بمجملها؛ كان اسم هذا المكان هو رويال-تي، وكانت تدفع لنفسها هناك أيضا. وبنحو عام، كان مستوى الراقصين هناك أفضل، لكنها كانت تحاول أن تأخذ فكرة عن طريقة رقصهم قبل أن تجعلهم يصطحبونها إلى ساحة الرقص. كانوا في الغالب من سكان البلدة، بينما كان الأشخاص في المكان الآخر ريفيين. كانوا يرقصون - أي سكان البلدة - على نحو جيد، لكن لم تكن طريقة الرقص ما كان يشغلها دائما، وإنما المكان الذي يرغبون أن يمسكوا بها منه. كان عليها أن توبخهم بشدة في بعض الأحيان وتخبرهم بما ستفعله بهم إن لم يتوقفوا عن ذلك، وكانت تجعلهم يعرفون أنها أتت لهذا المكان من أجل الرقص، وأنها دفعت لنفسها من أجل هذا. إضافة إلى ذلك، كانت تعرف أين تضربهم، وكان هذا كفيلا بأن يجعلهم يحسنون من سلوكهم. وفي بعض الأحيان يكون هناك راقصون جيدون، وكانت تستمتع حينها بالرقص معهم. وعندما كانت تنتهي الرقصة الأخيرة، كانت تندفع بسرعة إلى المنزل.
قالت إنها ليست كالبعض؛ فهي لم تكن تريد أن تقع في أسر أحد.
الأسر. عندما قالت ذلك، تخيلت شبكة ضخمة من الأسلاك وهي تهبط، وبعض الكائنات الصغيرة الشريرة وهي تلفها حول شخص ما وتحكم ربطها حتى تخنقه ولا يستطيع أبدا الفكاك منها. لا بد أن سادي لمحت شيئا كهذا على وجهي لأنها طلبت مني ألا أخاف. «ليس ثمة شيء في هذا العالم يثير الخوف، فقط اهتمي بنفسك ولا تهتمي بشأن الآخرين.» •••
قالت أمي: «أنت وسادي تتحدثان كثيرا معا.»
كنت أدري أن هناك شيئا آتيا يجب علي أن أنتبه إليه، لكني لم أكن أعلم ما هو. «إنك تحبينها، أليس كذلك؟»
قلت نعم. «بالطبع أنت تحبينها، وأنا أيضا أحبها.»
تمنيت أن يكون هذا كل ما في الأمر، وللحظة اعتقدت أنه كذلك.
ثم قالت: «أنا وأنت لا نجد الآن الوقت الكافي لنمضيه معا بسبب الطفلين؛ إنهما لا يمنحاننا الكثير من الوقت لنكون معا، أليس كذلك؟ لكننا نحبهما، أليس كذلك؟»
سريعا قلت نعم.
قالت: «حقا؟»
ولم تكن لتكف إلا إن قلت حقا إنني أحبهما، فقلت هذا. •••
كانت أمي تحتاج إلى شيء ما بشدة؛ هل كان صديقات لطيفات؟ نساء يلعبن البريدج ويذهب أزواجهن إلى العمل مرتدين بذلات كاملة؟ لا، ليس تماما، وليس ثمة أمل في حدوث ذلك على أية حال. أم كان هذا الشيء هو أنا كما اعتدت أن أكون، بخصلات شعري التي تشبه النقانق التي لم تكن تعجبني، وتلاواتي القديرة للكتاب المقدس في مدرسة الأحد؟ لم يعد لديها وقت لتهتم بذلك، كما أن هناك شيئا بي كان يفقد ولاءه لها، بالرغم من أنها لم تكن تدري سبب ذلك، وأنا كذلك. لم أكون أي صداقات بالبلدة في مدرسة الأحد، لكني بدلا من ذلك كنت أحب سادي بشدة؛ سمعت أمي تقول ذلك لأبي: «إنها تحب سادي حبا يصل لدرجة التقديس.»
قال أبي إن سادي عطية من الرب. ماذا كان يعني بذلك؟ كان يبدو مبتهجا؛ ربما كان يعني أنه ما كان ليأخذ جانب أحد.
قالت أمي: «كنت أتمنى أن تكون لدينا أرصفة ملائمة لها أمام المنزل؛ فلو كانت لدينا الأرصفة الملائمة، فلربما كانت قد تعلمت التزلج بأحذية ذات عجلات وتكوين صداقات.»
كنت أرغب بالفعل في الحصول على أحذية تزلج ذات عجلات، لكني الآن، ودون أدنى فكرة عن السبب، أعلم أنني لم أكن لأقر بذلك قط.
ثم قالت أمي شيئا عن الأمر، وأنه سيتحسن حينما تبدأ الدراسة؛ شيئا يتعلق بي سيحسن من وضعي، أو شيئا يتعلق بسادي سيكون أفضل بالنسبة إليها. لم أرغب في سماع ما كانت تقوله.
كانت سادي تعلمني بعض أغانيها، وكنت أعلم أنني لا أغني جيدا، وتمنيت ألا يكون ذلك هو الشيء الذي ينبغي أن يتحسن وإلا فسيتوقف. لكني لم أكن أرغب أن يتوقف في حقيقة الأمر.
لم يكن لدى أبي الكثير ليقوله؛ فقد كانت أمي المسئولة عني إلا لاحقا حينما أصبحت أرد بوقاحة وكان الأمر يستلزم العقاب. وكان ينتظر حتى يشب أخي ويكون من اختصاصه هو؛ فالصبي لا يكون التعامل معه بمثل هذا التعقيد.
وبالقطع لم يكن أخي صعبا في التعامل معه؛ فقد شب ليصبح إنسانا رائعا. •••
والآن بدأت الدراسة؛ بدأت منذ أسابيع وذلك قبل أن تصطبغ أوراق الأشجار باللونين الأحمر والأصفر. والآن قد تساقط معظمها. في أحد الأيام، خرجت مع أمي، ولم أكن أرتدي معطف المدرسة، وإنما ارتديت معطفي الجميل الذي أساور كمه وياقته ذوات لون مخملي داكن. كانت أمي ترتدي المعطف الذي تذهب به إلى الكنيسة وغطاء للرأس يغطي معظم شعرها.
كانت أمي تقود السيارة إلى المكان الذي كنا متجهين إليه. في أغلب الأحيان لم تكن تقود، وقيادتها دائما كانت أكثر روية، ولكن أقل وثوقا، من قيادة أبي. وكانت تطلق النفير عند كل منعطف.
قالت: «الآن.» لكنها استغرقت بعض الوقت لكي تركن السيارة. «ها قد وصلنا إذن.» بدا أن نبرة صوتها كان الهدف منها تشجيعي. لمست يدي كي تعطيني فرصة أن أمسك بيدها، لكني تظاهرت بأني لم ألحظ ذلك، فأبعدت هي يدها.
لم يكن للمنزل ممر خاص أو حتى رصيف. كان منزلا جميلا لكنه بسيط للغاية. رفعت أمي يدها التي كان يغطيها قفاز لتطرق الباب، لكن اتضح أننا لم نكن بحاجة إلى ذلك؛ فقد انفتح الباب من أجلنا . شرعت أمي في قول شيء مشجع لي - شيء من قبيل أن الأمر سيمر بأسرع مما أظن - لكنها لم تكمل حديثها. كانت النبرة التي تحدثت بها تحمل بعضا من الحزم، لكنها كانت أيضا باعثة على بعض الارتياح، إلا أنها تغيرت حينما فتح الباب لتصبح خافتة وناعمة أكثر؛ تهيبا للموقف.
فتح الباب لكي يخرج بعض الأشخاص وليس فقط لكي نلج نحن منه، وقالت إحدى السيدات المغادرات - وقد استدارت برأسها - بصوت لم تحاول أن تخفضه على الإطلاق: «إنها السيدة التي كانت تعمل لديها، والطفلة الصغيرة التي كانت تعمل على رعايتها.»
ثم جاءت امرأة متأنقة بعض الشيء وتحدثت إلى أمي وساعدتها في خلع معطفها. وبعد انتهاء ذلك، خلعت أمي معطفي عني وقالت للمرأة إنني كنت مغرمة بسادي بشدة، وإنها تأمل بألا يكون ثمة إزعاج من إحضاري.
قالت المرأة: «أوه، أيتها الصغيرة العزيزة.» وربتت أمي علي برفق كي أحيي المرأة.
قالت المرأة: «سادي تحب الأطفال. إنها كذلك بالفعل.»
لاحظت أنه كان يوجد طفلان هناك؛ صبيان. كنت أعرفهما من المدرسة، أحدهما كان معي في الصف الأول، والآخر كان يكبرني. كانا يختلسان النظر إلينا من مكان الأرجح أنه كان المطبخ. كان الصبي الأصغر يمتلئ فمه بقطعة كعك كاملة على نحو مضحك، وكان الآخر، الأكبر سنا، ترتسم على وجهه أمارات الاشمئزاز؛ ليس تجاه الطفل الذي كان فمه ممتلئا بالطعام، وإنما تجاهي أنا. كانا يبغضانني بالطبع؛ فالأولاد إما يتجاهلونك إن صادفوك في مكان آخر بخلاف المدرسة (وهم يتجاهلونك هناك أيضا)، وإما يرسمون تلك التعبيرات على وجوههم ويسبونك بألفاظ قبيحة. اعتقدت أنه إن حدث أن اقتربت من أحدهما، فسأشعر بالتوتر ولا أدري ماذا أفعل. بالطبع يختلف الأمر إن كان هناك بعض البالغين في المكان. بقيا الولدان هادئين، لكني شعرت ببعض التعاسة حتى جاء شخص وجذبهما إلى المطبخ. ثم انتبهت بعدها إلى صوت أمي الشديد الرقة والتعاطف، بل إنه كان أكثر تهذيبا من تلك المرأة التي كانت تتحدث إليها، وأعتقد أن تعبير وجه الصبي كانت أمي هي المقصودة به؛ ففي بعض الأحيان كان الناس يقلدون صوتها حينما كانت تنادي علي في المدرسة لتصحبني إلى المنزل.
كانت المرأة التي تحادثها أمي، والتي بدا أنها الشخص المسئول في المكان، تقودنا إلى جزء من الحجرة حيث كان يجلس رجل وامرأة على أريكة، وقد بدا عليهما كما لو كانا لا يدريان تماما سبب تواجدهما هناك. انحنت أمي نحوهما وحدثتهما باحترام شديد وعرفتهما بي.
قالت: «إنها تحب سادي بشدة.» كنت أدرك أن علي أن أتفوه بشيء حينها، لكن قبل أن أفعل، أطلقت المرأة الجالسة هناك صرخة عالية. لم تكن تنظر إلى أي منا، وبدا الصوت الذي صدر عنها أشبه بالصوت الذي يطلقه المرء حينما يعضه حيوان ما أو يضايقه. راحت تضرب ذراعيها بيديها كما لو أنها قد أرادت التخلص من الشيء الذي كان عليها، لكنه لم يتركها. نظرت إلى أمي كما لو أن أمي هي الشخص الذي ينبغي أن يفعل شيئا حيال ذلك.
طلب منها الرجل أن تصمت.
قالت المرأة التي كانت تقودنا: «إنها منزعجة من الأمر بشدة. إنها لا تدري ماذا تفعل.» ثم انحنت أكثر وقالت: «اهدئي. ستفزعين البنت الصغيرة.»
قال الرجل بإذعان: «ستفزعين الطفلة الصغيرة.»
بمجرد أن انتهى من قول هذا، كانت المرأة قد كفت عن صراخها، وراحت تربت على ذراعيها اللذين خدشتهما بيديها كما لو أنها لم تكن تعرف ما الذي ألم بهما.
قالت أمي: «يا لها من امرأة مسكينة!»
قالت المرأة التي كانت تقودنا: «هي مجرد طفلة أيضا.» ثم قالت لي: «لا تقلقي.»
كنت أشعر بالقلق، لكن ليس حيال الصراخ.
كنت أدري أن سادي في مكان ما هنا، ولم أكن أرغب في رؤيتها. لم تقل أمي لي صراحة إنه علي أن أراها، كما أنها لم تقل أيضا إنه لا يتعين علي أن أراها.
لقيت سادي مصرعها في طريق عودتها إلى المنزل مشيا من قاعة رقص رويال-تي؛ لقد صدمتها سيارة في ذلك الطريق الضيق المفروش بالحصى بين ساحة انتظار السيارات التابعة لصالة الرقص وبداية الرصيف الرسمي للبلدة. لا بد أن سادي كانت تسير مسرعة متبعة نفس المسار الذي اعتادت دائما أن تسلكه، وهي تعتقد دون شك أن السيارات لا يمكن أن تراها، أو ربما كانت تسير في المسار الصحيح كما هو الحال بالنسبة إلى السيارات، وانحرفت السيارة التي كانت تسير خلفها عن طريقها وصدمتها، أو ربما كانت تسير في مسار غير المسار الذي كانت تعتقد أنه المناسب. لقد صدمتها السيارة من الخلف، والسيارة التي صدمتها كانت تفسح الطريق لسيارة كانت تسير خلفها، وتلك السيارة الثانية كانت تريد أن تأخذ المنعطف الأول نحو أحد شوارع البلدة. كان هناك أناس يحتسون الشراب في قاعة الرقص بالرغم من أنه لم يكن مسموحا بشراء الخمور هناك، ودائما ما كان هناك بعض الصراخ وإطلاق لنفير السيارات وتغيير السيارات اتجاهها بسرعة كبيرة بعد انتهاء الرقص. ربما كانت سادي تنطلق مسرعة حتى دون مصباح جيب وتتصرف كما لو أنه من واجب الآخرين أن يبتعدوا عن طريقها.
قالت المرأة التي كانت تحاول مصادقة أمي: «فتاة دون صديق تذهب للرقص سيرا على الأقدام.» كانت تتحدث بصوت منخفض جدا وغمغمت أمي بشيء ينم عن الآسف.
أضافت هذه المرأة - وإن كان بصوت أكثر خفوتا - أن هذا كان يعني أنها كانت تسعى وراء المشاكل.
كنت قد سمعت حديثا في المنزل لم أفهم كنهه. أرادت أمي فعل شيء ربما كانت له علاقة بسادي والسيارة التي صدمتها، لكن أبي طلب منها أن تنسى الأمر، وقال إننا ليست لدينا مصالح بالبلدة. لم أحاول حتى أن أعرف ماهية هذا الأمر لأني كنت أحاول ألا أفكر في سادي على الإطلاق، فضلا عن مسألة موتها. وحينما أدركت أننا ذاهبون إلى منزل سادي، تمنيت ألا نذهب، لكني لم أجد أي طريقة للهروب إلا بالتصرف بطريقة تنطوي على مهانة شديدة.
والآن وبعد نوبة صراخ السيدة العجوز، بدا لي أن علينا أن نغادر ونعود إلى المنزل. لم أكن لأعترف مطلقا بالحقيقة، وهي أنني في واقع الأمر أشعر برعب شديد عند رؤية أي شخص ميت.
وبينما كنت أفكر في أن هذا قد يكون ممكنا ، سمعت أمي والمرأة التي بدا أنها كانت تتآمر معها يتحدثان عن أمر أسوأ من أي شيء آخر.
كان هذا الأمر هو رؤية سادي.
كانت أمي تقول: نعم. بالطبع، ينبغي أن نرى سادي.
جثة سادي.
كنت قد أبقيت بصري تقريبا لأسفل، ولم أكن أرى تقريبا سوى هذين الصبيين اللذين كانا يفوقانني طولا بالكاد، والرجل والمرأة العجوزين اللذين كانا يجلسان. لكن أمي الآن أمسكت بيدي وسارت بي في اتجاه آخر.
اتضح أنه كان ثمة تابوت في الحجرة طوال الوقت لكني ظننته شيئا آخر. وبسبب قلة خبرتي، لم أكن أعرف تحديدا كيف يكون شكل ذلك الشيء؛ كنت أعتقد أن الشيء الذي كنا نقترب منه ربما يكون رفا توضع فوقه الزهور، أو بيانو مغلقا.
ربما كان الناس الملتفون حوله قد أخفوا إلى حد ما حجمه الحقيقي وشكله والغرض منه، لكن هؤلاء الأشخاص الآن أخذوا يفسحون الطريق باحترام، وأخذت أمي تتحدث بنبرة صوت جديدة شديدة الهدوء.
قالت لي: «اقتربي الآن.» لكن رقة صوتها بدت لي بغيضة، تعكس انتصارها.
انحنت لتنظر إلى وجهي، وكنت متأكدة أنها فعلت ذلك لكي تمنعني مما خطر في ذهني أن أفعله حينها؛ وهو أن أطبق عيني بشدة. ثم أبعدت نظرها عني لكنها كانت تقبض على يدي بشدة بين يدها. نجحت في أن أخفض جفني بمجرد أن أبعدت عينيها عني، لكني لم أغلقهما تماما خشية أن أتعثر أو أن يدفعني شخص آخر إلى حيث لا أريد. لم أستطع أن ألمح سوى طيف الزهور المتيبسة ولمعة الخشب المطلي.
ثم سمعت أمي وهي تشهق وشعرت بها تبتعد، وسمعت صوت حقيبتها وهي تفتح. كان عليها أن تدس يدها في داخلها، وهكذا تراخت قبضة يدها عن يدي، واستطعت أن أحرر نفسي منها. كانت تبكي، وكانت شهقاتها ودموعها هي ما حررني من قبضتها.
ونظرت مباشرة إلى التابوت ورأيت سادي.
لم يصب عنقها ولا وجهها بسوء في الحادث، لكني لم أر كل هذا على الفور؛ فقط تكون لدي انطباع بأن ليس هناك أماكن متضررة بشدة بجسدها كما كنت أخشى. أغلقت عيني بسرعة، لكني لم أقو على منع نفسي من النظر إليها ثانية. نظرت أولا للوسادة الصفراء الصغيرة الموضوعة أسفل عنقها، التي أخفت حنجرتها وذقنها ووجنتها التي كان بمقدوري أن أراها بسهولة. كانت الحيلة التي اتخذتها تتمثل في أن أرى جزءا منها سريعا، ثم أعود للنظر إلى الوسادة، وفي المرة التالية أستطيع رؤية المزيد من الأجزاء التي لست خائفة من النظر إليها؛ وهكذا حتى نظرت لجسد سادي، كله أو على الأقل كل ما كان يمكنني رؤيته من الجانب المتاح لي.
لقد تحرك شيء. لقد رأيته، تحرك جفنها الذي كان من ناحيتي. لم يكن مفتوحا أو شبه مفتوح أو أي شيء من هذا القبيل، لكنه ارتفع بمقدار ضئيل جدا بحيث يتيح لها، لو كنت مكانها، لو كنت بداخلها، أن ترى ما بالخارج من خلال الرموش؛ ربما فقط للتمييز بين النور والظلام بالخارج.
لم أندهش حينها أو أشعر بالخوف على الإطلاق؛ فعلى الفور، عبرت هذه النظرة عن كل ما عرفته عن سادي، وبطريقة ما عبرت عن هذه التجربة الشديدة الخصوصية بالنسبة إلي. ولم أسع قط للفت نظر أحد إلى ما كان هناك، لأنه لم يكن موجها لهم، وإنما كنت أنا المعنية به بالكامل.
أمسكت أمي بيدي ثانية وقالت إن علينا الرحيل. كان هناك المزيد من الحوارات، لكن لم يمر وقت طويل، أو هكذا خيل إلي، حتى وجدنا أنفسنا بالخارج.
قالت لي أمي: «أحسنت صنعا.» ثم أمسكت يدي بقوة وقالت: «والآن، انتهى الأمر.» كان عليها أن تتوقف وتتحدث إلى شخص آخر كان في طريقه إلى داخل المنزل، ثم ولجنا بعدها في السيارة وشرعنا في القيادة صوب المنزل. كنت أعتقد أنها تنتظر مني أن أقول شيئا، أو ربما حتى أن أخبرها بشيء، لكني لم أفعل.
لم يرد على ذهني مطلقا أي خاطر بشأن هذا الأمر، بل في الواقع تلاشت سادي من ذهني بسرعة كبيرة بسبب صدمة الذهاب إلى المدرسة؛ حيث تعلمت إلى حد ما أن أواجه الأمر بمزيج غريب من الشعور بالخوف الشديد والتظاهر بالتماسك. وفي حقيقة الأمر تلاشى بعض من أهميتها لدي في الأسبوع الأول من ديسمبر، حينما قالت إن عليها أن تمكث في المنزل لتعتني بأبيها وأمها، وهكذا لم تعد تعمل لدينا منذ ذلك الحين.
وبعدها اكتشفت أمي أنها كانت تعمل في معمل الألبان.
ومع هذا ولفترة طويلة، حينما كنت أفكر فيها، لم أتشكك مطلقا فيما كنت أعتقد أنه تكشف لي، وبعد ذلك بفترة طويلة جدا حينما كنت لا أهتم على الإطلاق بأي أشياء غير طبيعية، كنت لا أزال أعتقد أن الأمر قد وقع بالفعل. كنت أومن بحدوثه ببساطة بنفس الأسلوب الذي قد تؤمن به، بل في الواقع بنفس الأسلوب الذي قد تتذكر من خلاله أنه كان لديك صف آخر من الأسنان، وقد تلاشى من ذاكرتك لكنه أمر حقيقي وقع على الرغم من ذلك. حتى جاء ذلك اليوم، اليوم الذي ربما كنت فيه في سنوات المراهقة وأدركت مع وجود بقعة معتمة في داخلي أنني لم أعد أومن بذلك بعد الآن.
الليل
حينما كنت صغيرة، بدا لي أنه لم توجد قط عملية مخاض أو انفجار في الزائدة الدودية أو أي عملية جراحية خطيرة أخرى، إلا كانت تحدث مع هبوب عاصفة ثلجية؛ فتكون الشوارع مغلقة ولا مجال على الإطلاق لإنقاذ أي سيارة تغرس عجلاتها في الثلوج، وكان ينبغي ربط بعض الخيول بالسيارة حتى يمكن أن تشق طريقها عبر المدينة للوصول إلى المستشفى. ومن حسن الحظ أنه كان لا يزال هناك بعض الخيول؛ لأنه وفق التطور الطبيعي للأمور كان سيتم التخلي عن استخدام الخيول، لكن الحرب وترشيد استهلاك البنزين غير كل ذلك، على الأقل في ذلك الوقت.
لذلك، حينما داهمني ألم شديد في جانبي، كان يجب أن يحدث في الساعة الحادية عشرة ليلا وأن تهب عاصفة ثلجية، وبما أننا لم نكن حينها نربي أي خيول، كان ينبغي أن نستدعي مجموعة الخيول التي كان يمتلكها جيراننا لاصطحابي إلى المستشفى؛ وهي رحلة لم تكن تتجاوز الميل ونصف الميل، لكنها كانت مغامرة على الرغم من ذلك. كان الطبيب في الانتظار، والغريب أنه قد استعد لاستئصال زائدتي الدودية.
هل كان يستأصل الكثير من الزوائد الدودية حينها؟ أعلم أن عملية الاستئصال هذه لا تزال تحدث، وأنها شيء ضروري - بل إنني أعرف شخصا مات لأنه لم يخضع لتلك العملية في الوقت المناسب - لكن كما أتذكر كان ذلك نوعا من الطقوس التي يجب أن يمر بها الكثير من الأشخاص ممن هم في مثل عمري، ليس بأعداد كبيرة على الإطلاق لكن ليس على نحو غير متوقع جدا، وربما ليس على نحو غير سعيد جدا بهذه الطريقة؛ لأنه كان يعني الحصول على إجازة من المدرسة، ووضعا خاصا بعض الشيء يميزك، ولو لفترة وجيزة، عن الآخرين باعتبارك شخصا ضربك الموت بجناحه، وذلك في وقت من حياتك يتراءى لك فيه أن هذا يمكن أن يكون شيئا مفرحا.
وهكذا بقيت في الفراش، دون زائدتي الدودية، لبضعة أيام في المستشفى أتطلع أثناءها عبر إحدى نوافذها إلى الثلوج وهي تتساقط على نحو كئيب عبر بعض الأشجار الدائمة الخضرة. لا أعتقد أنه دار بخلدي يوما أن أتساءل كيف كان سيدفع أبي مقابل هذا التميز. (أعتقد أنه باع مزرعة أشجار كان يحتفظ بها عند بيعه مزرعة أبيه؛ كان يأمل في استخدامها في إنتاج السكر أو صيد الحيوانات بالشراك، أو ربما كانت تمثل له نوعا من الحنين للماضي الذي لم يفصح عنه.)
ثم عدت إلى المدرسة واستمتعت بإعفائي من أداء التمرينات البدنية لفترة أطول من اللازم، وفي صباح أحد أيام السبت عندما كنت أنا وأمي نقف بمفردنا في المطبخ، أخبرتني أنهم استأصلوا زائدتي الدودية في المستشفى، كما كنت أعتقد تماما، لكنها لم تكن الشيء الوحيد الذي استأصلوه. لقد رأى الطبيب أنه من المناسب استئصالها أثناء فحصي، لكن الشيء الأهم الذي أثار قلقه هو وجود ورم؛ ورم قالت عنه أمي إنه كان في حجم بيضة ديك رومي.
لكنها قالت إنه يجب علي ألا أقلق لأن الأمر قد انتهى الآن.
لم يطرأ قط على ذهني وقتها مرض السرطان، ولم تأت هي على ذكره مطلقا. لا أعتقد أنه يمكن أن يكون هناك كشف كهذا اليوم دون طرح بعض الأسئلة والاستفسارات عما إذا كان ورما سرطانيا أم لا؛ ورما سرطانيا أم حميدا؛ فسنبغي معرفة ذلك في الحال. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن أفسر بها عدم قدرتنا على الحديث حول هذا الأمر؛ هي أنه لا بد أن ثمة ضبابية كانت تحيط بتلك الكلمة مثلما كانت هناك ضبابية عندما يأتي ذكر الجنس. بل إن السرطان أسوأ حتى من الجنس؛ فالجنس شيء مقزز لكن يتخلله بعض المتعة - بالطبع، كنا نعي بوجود هذه المتعة بالرغم من أن أمهاتنا لم تكن تعي ذلك - بينما كلمة سرطان كانت تجعلك تتخيل كائنا داكن اللون عفنا ذا رائحة كريهة لن تنظر إليه حتى أثناء إبعادك إياه عن طريقك.
لذا لم أسأل ولم يخبرني أحد بشيء، ولم يكن أمامي سوى أن أفترض أنه حميد، أو أنهم تخلصوا منه ببراعة شديدة لأنني ما زلت حية حتى الآن. وهكذا، قليلا ما كنت أفكر في هذا الأمر طوال حياتي، لدرجة أنه حينما يطلب مني ذكر العمليات التي خضعت لها، كنت تلقائيا أقول أو أكتب فقط: «الزائدة الدودية.»
ربما دار ذلك الحوار الذي كان بيني وبين أمي في عطلات عيد الفصح عندما انتهت كل العواصف الثلجية، وذابت كل الجبال الجليدية، وفاضت جداول المياه محتضنة كل ما استطاعت أن تصل إليه، وكان الصيف الشديد الحرارة على الأبواب؛ فطقسنا لا يعرف المزاح أو الرحمة.
وفي أوائل شهر يونيو الحار، تخرجت في المدرسة حيث حصلت على درجات جيدة تعفيني من خوض الاختبارات النهائية. كانت حالتي الصحية جيدة، وكنت أؤدي بعض المهام المنزلية، وكنت أقرأ كتبا كالمعتاد، ولم يكن ثمة أحد يدري أن هناك شيئا كان يؤثر علي.
علي الآن أن أصف ترتيبات النوم في الغرفة التي كنت أشغلها أنا وأختي. كانت غرفة صغيرة لا تتسع لفراشين يوضعان جنبا إلى جنب؛ لذا كان الحل هو فراشا بطابقين مزودا بسلم كي يساعد من ينام في الطابق العلوي على الوصول إلى فراشه، وكان هذا الشخص هو أنا. وحينما كنت أصغر سنا وأميل إلى مضايقة الآخرين، كنت أرفع جانب مرتبتي الرفيعة وأهدد بالبصق على وجه أختي الصغيرة التي كانت تستلقي مغلوبة على أمرها في الفراش السفلي. بالطبع لم تكن أختي - التي كان اسمها كاثرين - مغلوبة على أمرها تماما؛ فقد كان بمقدورها أن تختبئ أسفل أغطيتها، لكن الحيلة التي كنت أمارسها حينها أن أظل أراقبها حتى تشعر بالاختناق أو يدفعها فضولها إلى أن تخرج من أسفل الأغطية، وفي تلك اللحظة أبصق عليها، أو أتظاهر بأنني نجحت في البصق على وجهها، الأمر الذي يثير حنقها الشديد.
كنت قد كبرت على فعل مثل هذه الحماقات، بالطبع كبرت بما يكفي في ذلك الحين. كانت أختي في التاسعة من عمرها وأنا في الرابعة عشرة. كانت العلاقة بيننا دوما غير مستقرة، وإن لم أكن أضايقها أو أعمد إلى إغاظتها بأسلوب أحمق، كنت أتقمص دور الناصحة الخبيرة أو راوية القصص المخيفة؛ فكنت أجعلها ترتدي بعضا من الملابس القديمة التي كانت موجودة في صندوق جهاز العروس الخاص بأمي، والتي كانت لا تزال بحالة جيدة بحيث لا يمكن أن تحول إلى أغطية للفراش، لكن طرازها كان قديما بحيث يكون من الصعب أن يرتديها أحد. وكنت أضع طلاء الشفاه وبودرة التجميل القديمين الخاصين بأمي على وجهها وأخبرها كم هي جميلة. كانت جميلة دون أدنى شك، بالرغم من أن ما كنت أضعه على وجهها يجعلها تبدو كدمية أجنبية غريبة الشكل.
لا أدعي أني كنت أحكم سيطرتي عليها بالكامل، أو أن حياتنا كانت متشابكة على الدوام؛ فقد كان لها أصدقاؤها ولعبها الخاصان بها. وكانت تنزع في لعبها نحو تقليد الحياة المنزلية وليس الإثارة؛ فقد كانت تأخذ الدمى للتمشية في العربات الخاصة بها، أو كانت في بعض الأحيان تجعل القطط الصغيرة ترتدي بعض الملابس وتضعها في عربات الدمى وتتمشى بها، وكانت القطط دائما ما تشعر باهتياج شديد وترغب في الفكاك منها. كانت هناك أيضا جلسات للعب عندما يتقمص أحدهم دور المعلم ويكون بإمكانه ضرب الآخرين على معصمهم، وجعلهم يتظاهرون بالبكاء عقابا لهم على المخالفات والحماقات التي ارتكبوها.
في شهر يونيو، كما ذكرت من قبل، كنت قد أنهيت الدراسة وأصبحت أفعل ما يحلو لي، ولا أتذكر أنني كنت على هذا النحو في أي فترة أخرى من فترات نشأتي. كنت أؤدي بعض المهام المنزلية، لكن لا بد أن أمي كانت بصحة جيدة وقتها بحيث تقوم بمعظم هذه المهام، أو ربما كان لدينا ما يكفي من المال في ذلك الوقت كي نوظف ما كانت تطلق عليه أمي خادمة بالرغم من أن الجميع كانوا يطلقون عليها أجيرة. أنا لا أتذكر على أي حال أنه كان علي تولي أي من المهام التي تراكمت لأؤديها في فصول الصيف اللاحقة، حينما جاهدت طواعية كي أحافظ على المظهر اللائق لمنزلنا. يبدو أن بيضة الديك الرومي الغامضة لا بد أنها قد أثرت علي بشدة بحيث كان من الممكن أن أمضي بعضا من الوقت وأنا أتجول في المنزل تائهة وكأنني أحد الزائرين.
لكن هذا لم تنتج عنه مشاكل كبيرة، وما كان لأي من أفراد عائلتي نسيان ذلك إن حدث. كان الأمر كله داخليا؛ شعورا بعدم النفع والغرابة. لكن الشعور بعدم النفع لم يكن دائما؛ فأنا أتذكر أني كنت أجلس القرفصاء لكي أهذب براعم الجزر كما ينبغي أن يفعل المرء في كل فصل ربيع حتى تنمو الجذور لتصل لحجم مناسب يسمح بتناولها.
لا بد أنني لم أكن أقوم بأي مهام منزلية طوال اليوم، كما كان الأمر في فصول الصيف السابقة أو اللاحقة.
لذا، ربما كان ذلك هو السبب وراء بداية معاناتي من مشاكل في النوم. في البداية، بحسب اعتقادي، كان ذلك يعني أن أبقى مستيقظة ربما حتى منتصف الليل تقريبا، وأتساءل إلى أي مدى ظللت مستيقظة بينما بقية أفراد المنزل غارقون في النوم. ربما كنت أقرأ وأشعر بالتعب بالطريقة المعتادة وأطفئ الأضواء وأنتظر، وما كان أحد ينادي علي في وقت مبكر ليطلب مني أن أطفئ الأضواء وأخلد للنوم، ولأول مرة على الإطلاق (ولا بد أن هذا كان يدل أيضا على وضعي الخاص) يتركونني أتخذ قراري بشأن ذلك الأمر.
كان الأمر يستغرق فترة لكي يتحول المنزل من ضوء النهار ومن الأنوار الصناعية التي كانت تضاء في وقت متأخر إلى وقت المساء. وبعد أن يتوقف الضجيج العام المصاحب للأعمال المفترض القيام بها والمؤجلة والمنجزة، كان المنزل يضحى مكانا أكثر غرابة يتلاشى فيه الأشخاص والأعمال التي تملي عليهم نوع حياتهم، وتتلاشى أيضا استخداماتهم لكل شيء حولهم، وترى الأثاث وقد تقوقع على ذاته ولم يعد موجودا لعدم وجود من يعبأ به.
قد تعتقد أن ذلك كان نوعا من التحرر. ربما كان كذلك في البداية؛ إنها الحرية، الغرابة. لكن مع ازدياد عدم قدرتي على النوم واستمرار استيقاظي حتى حلول الفجر، أصبحت أكثر انزعاجا بسبب ذلك، وبدأت في ترديد كلام مسجوع، ثم أشعار حقيقية، في البداية كوسيلة لمساعدتي في الغياب عن الوعي والنوم، لكن الأمر خرج عن سيطرتي بعد ذلك، وبدا أن هذا النشاط كان يسخر مني. كنت أسخر من ذاتي حيث تحولت الكلمات إلى عبارات سخيفة، إلى أسخف كلام عشوائي.
لقد كنت شخصا آخر.
كنت أسمع الناس يرددون هذا بين الحين والآخر، وذلك طوال حياتي ولم أفكر فيما يمكن أن يعنيه هذا.
من تظنين نفسك إذن؟
كنت أسمع ذلك أيضا، لكن دون أن أربطه بأي نوع من التهديد الحقيقي، بل كنت أعتبره مجرد نوع من السخرية العادية.
وفكرت ثانية.
وبحلول ذلك الوقت لم يكن النوم هو مبتغاي؛ كنت أعلم أن مجرد النوم لم يكن ممكنا، بل ربما لم يكن مرغوبا. كان هناك شيء يحاول السيطرة علي، وكان من شأني أن أمنعه - وكنت آمل ذلك - كان لدي شعور بأنه يجب علي أن أفعل ذلك، لكني بالكاد كنت أقوى على ذلك، وذلك كما بدا لي. وأيا ما كان كنه هذا الشيء، فقد كان يحاول أن يطلب مني القيام ببعض الأفعال، ليس لسبب معلوم على وجه التحديد، بل لمعرفة إن كانت تلك الأفعال ممكنة أم لا. كان يخبرني أن الدوافع ليست ضرورية.
كان الشيء الضروري فقط هو أن أستسلم له. يا له من أمر غريب! أن تفعل شيئا، ليس بدافع الانتقام أو من أجل أي سبب عادي، وإنما لمجرد أنه طرأ على ذهنك.
لقد فكرت في الأمر بالفعل، وكلما أزحته عن ذهني، زادت ملاحقته لي. ليست ثمة رغبة في الانتقام، أو شعور بالضغينة؛ ليس هناك سبب، كما سبق أن ذكرت، فقط هو شيء أشبه بفكرة عميقة شريرة تميل لأن تكون نوعا من التأمل أكثر من كونها رغبة ملحة. كان ينبغي علي ألا أفكر حتى فيها، لكني فعلت.
كانت صدى تلك الفكرة يتردد في ذهني.
فكرة أنه يمكنني أن أخنق أختي الصغيرة التي كانت تغط في النوم في الفراش الذي يوجد أسفل فراشي، والتي كنت أحبها أكثر من أي شخص آخر في هذا العالم.
قد أفعل ذلك لكن ليس بدافع الغيرة، أو الشر، أو الغضب؛ بل بسبب ضرب من الجنون ربما يكون مستلقيا بجانبي هنا في الظلام. لكنه ليس بجنون شديد أيضا، إنما شيء يمكن أن تصفه بأنه مزعج؛ اقتراح كسول، مزعج، نصف بليد بدا أنه كان متواريا منذ وقت طويل.
ربما كان يقول: ولم لا تفعلين ذلك؟ لم لا تجربين الأسوأ؟
الأسوأ. هنا في أكثر مكان مألوف لنا؛ في الحجرة التي عشنا فيها حياتنا كلها واعتقدنا أنها أكثر مكان نشعر فيه بالأمان؛ قد أقدم على فعله بلا سبب مفهوم لي أو لغيري سوى أنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من القيام به.
الشيء الذي كان علي فعله هو النهوض، والخروج من تلك الحجرة ومن ذلك المنزل. هبطت درجات السلم دون أن أنظر على الإطلاق ولو لمرة واحدة إلى المكان الذي كانت أختي تغط فيه في النوم، ثم هبطت الدرج بهدوء، دون أن أزعج أحدا، ومنه اتجهت نحو المطبخ حيث كان كل شيء مألوفا لي بدرجة جعلتني أتلمس طريقي دون أن أشعل الأضواء. لم يكن باب المطبخ محكم الغلق في الواقع؛ لم أكن حتى واثقة أننا كنا نمتلك مفتاحا له. وضع كرسي أسفل مقبض الباب كان الهدف منه أن يحدث دفعه جلبة كبيرة إن حاول أحد أن يدخل المكان، لكن كان يمكن تحريكه ببطء وبحذر دون أن تصدر عنه أي ضوضاء على الإطلاق.
بعد الليلة الأولى تمكنت من التجول دون توقف؛ لذا استطعت أن أكون بالخارج، كما بدا لي، في غضون ثانيتين سريعتين.
بالطبع لم يكن هناك أي أضواء بالشارع؛ فقد كنا نبعد كثيرا عن المدينة.
كان كل شيء أكبر من حجمه الطبيعي، وكانت الأشجار التي تحيط بالمنزل دائما ما تسمى بأسمائها؛ شجرة الزان، شجرة الدردار، شجرة البلوط، أما أشجار القيقب، فدائما ما كان يتحدث عنها الناس بصيغة الجمع، ولا يميزون إحداها عن الأخرى لأنها تتشابك بعضها مع بعض، والآن أضحت جميعها شديدة السواد، وهكذا كان الحال بالنسبة إلى شجرة الليلك البيضاء (التي لم تعد تحتفظ بأزهارها)، وشجرة الليلك الأرجوانية، اللتين كانتا تصنفان دائما ضمن الأشجار وليس الشجيرات؛ لأنهما أضحتا كبيرتي الحجم للغاية.
أما المروج الأمامية والخلفية والجانبية، فكان من السهل تجاوزها لأني كنت أقلمها بنفسي بهدف منح المكان بعض المظهر اللائق الشبيه بمظهر المدينة.
وكان كل من الجانب الشرقي والجانب الغربي للمنزل يطل على عالم مختلف، أو هكذا تراءى لي. كان الجانب الشرقي هو جانب المدينة، بالرغم من أن من الممكن ألا ترى أية مدينة؛ فعلى بعد لا يزيد عن ميلين، كان بمقدورك أن ترى منازل مصطفة، بها أعمدة إنارة ومياه جارية. وبالرغم من أنني قلت إنه من الممكن ألا ترى أيا من هذا، فإنني لست واثقة من أنك لن تستطيع أن تلمح بعض البريق إذا ما مددت بصرك لمسافة أبعد.
أما ناحية الغرب، فلا يوجد ما يمكن أن يوقف المنحنى الطويل للنهر والحقول والأشجار وغروب الشمس؛ وهي أشياء لا علاقة لها بالناس، في رأيي، ولا بالحياة العادية مطلقا.
رحت أقطع المكان جيئة وذهابا. في البداية سرت بالقرب من المنزل ثم غامرت بالسير هنا وهناك؛ حيث اعتمدت على بصري وتلافيت بقدر المستطاع الارتطام بمقبض المضخة أو المنصة المدعمة لحبل الغسيل. بدأت الطيور تتحرك ثم شرعت في الغناء ، كما لو أن كلا منها فكر في ذلك على حدة، هناك أعلى الأشجار. لقد استيقظت الطيور في وقت مبكر جدا عما اعتقدت أنه وقت استيقاظها، لكن سرعان ما بدأت خيوط الضوء تتسلل عقب هذا الغناء المبكر للطيور، وفجأة بدأ النعاس يغلبني، فعدت إلى المنزل حيث كانت الظلمة تغمر المكان، وشرعت بدقة وهدوء وحذر شديد في وضع الكرسي المائل أسفل مقبض الباب، وصعدت لأعلى دون أن يصدر عني أي صوت، وفتحت الأبواب وصعدت الدرج بالحذر المطلوب بالرغم من أني كنت شبه نائمة، وارتميت على فراشي، واستيقظت في وقت متأخر؛ والوقت المتأخر في منزلنا كان يعني نحو الثامنة صباحا.
كنت أستطيع تذكر كل شيء حينها، لكن الأمر كان سخيفا جدا - أو بالأحرى كان الجزء السيئ منه في واقع الأمر سخيفا جدا - لدرجة استطعت معها نسيانه بسهولة كبيرة. كان أخي وأختي قد ذهبا لتلقي دروسهما في المدرسة الحكومية، لكن طبقيهما كانا لا يزالان على المائدة، مع وجود بضع حبات من الأرز المنفوش في اللبن المتبقي.
يا له من سخف!
عندما كانت أختي تعود من المدرسة كنا نتأرجح على الأرجوحة الشبكية حيث كان يجلس كل منا في أحد طرفيها. •••
كنت أمضي معظم النهار على تلك الأرجوحة، وربما كان هذا ما يفسر عدم استطاعتي النوم في الليل. وحيث إنني لم أفصح عن الصعوبات التي كنت أواجهها في النوم بالليل، فلم يذكر أحد المعلومة البسيطة التي مفادها أنه من الأفضل بالنسبة إلي القيام ببعض النشاط أثناء النهار حتى أستطيع النوم.
عادت الصعوبات التي كنت أواجهها بحلول الليل بالطبع. سيطرت علي الشياطين مرة أخرى؛ كنت أدري الوضع بما يكفي بحيث أنهض وأغادر فراشي دون التظاهر بأن الأمور ستتحسن، وأنني في الواقع سأغط في النوم إذا ما حاولت ذلك جاهدة. شققت طريقي بحذر إلى خارج المنزل كما فعلت من قبل. كنت أستطيع تلمس طريقي بنحو أكثر يسرا؛ فحتى محتوى الحجرات أصبح بالنسبة إلي أكثر وضوحا وإن كان أكثر غرابة. استطعت أن أتبين سقف المطبخ المصنوع من ألواح خشبية ، الموجود منذ بناء المنزل ربما قبل مائة عام، وكذلك إطار النافذة الشمالية الذي أتلف جزئيا على يد كلب كان قد حبس بالداخل لليلة كاملة، وذلك قبل أن أولد. لقد تذكرت ما كنت قد نسيته تماما؛ وهو أنه كان لدي ملعب رملي موجود هناك بالخارج؛ حيث كانت تستطيع أمي أن تراقبني من خلال هذه النافذة الشمالية، لكن نمت مكانه الآن مجموعة كبيرة من الشجيرات المزهرة المفرطة النمو، وأضحى من الصعب أن ترى ما بالخارج.
أما الجدار الشرقي للمطبخ، فلم يكن به أي نوافذ، لكن كان به باب يطل على منصة كنا نقف عليها كي ننشر قطع الغسيل المبتلة الثقيلة، ونجمعها حينما تجف وتفوح منها رائحة ذكية باعثة على الفخر، بدءا من الملاءات البيضاء وحتى أردية العمل الثقيلة الداكنة اللون.
وكنت في بعض الأحيان أعرج على تلك المنصة أثناء جولاتي الليلية. لم أجلس عليها قط، ولكنها كانت تسهل علي النظر باتجاه المدينة، ربما فقط لتلمس سكينتها؛ فكل سكانها كانوا قد استيقظوا بالفعل قبل ذلك بفترة طويلة وذهبوا لمتاجرهم التي يعملون بها، وفتحوا أبواب منازلهم لإدخال زجاجات اللبن بالداخل، وكانت الحركة تدب في كل مكان.
وفي إحدى الليالي - لا أدري إن كانت العشرين أم الثانية عشرة أم فقط الثامنة أو التاسعة التي استيقظت خلالها وخرجت للسير - غمرني شعور بأن هناك شخصا على مقربة مني، وقد انتابني هذا الشعور متأخرا بحيث كان من الصعب أن أغير من سرعتي. كان هناك شخص موجود هناك ولم يكن بوسعي أن أفعل شيئا سوى أن أستأنف المسير؛ فإن استدرت، فسيمسك بي وسيكون الأمر هكذا أسوأ من أن أكون بمواجهته.
من عساه يكون؟ لم يكن سوى والدي. كان هو الآخر يجلس على المنصة يتطلع نحو المدينة وذلك الضوء الخافت البعيد الاحتمال. كان يرتدي ملابس كان يلبسها بالنهار؛ بنطال العمل الداكن اللون القريب الشبه بذلك الخاص بأردية العمل، وقميصا داكنا من القماش الخشن وحذاء عالي الرقبة. كان يدخن سيجارة، واحدة لفها هو بنفسه بالطبع. ربما نبهني دخان السيجارة لوجود شخص آخر هناك، بالرغم من أنه كان من الممكن أن تشم رائحة دخان التبغ في كل مكان في تلك الأيام، داخل المباني وخارجها؛ لذا فلم يكن هناك سبيل لملاحظته.
ألقى علي تحية الصباح بأسلوب ربما بدا طبيعيا بالرغم من أنه ليس هناك أي شيء طبيعي بصدده على الإطلاق؛ فلم نعتد في عائلتنا إلقاء مثل هذه التحيات بعضنا على بعض. لم يكن هناك أي شيء غير ودي في هذا الشأن؛ كل ما في الأمر، بحسب افتراضي، أننا كنا نعتقد أن ليس ثمة شيء ضروري ما دام من الممكن رؤية ووداع بعضنا بعضا في أوقات مختلفة من اليوم.
رددت عليه تحية الصباح. لا بد أن الوقت قد اقترب بالفعل من الصباح، وإلا لما كان أبي قد لبس وتهيأ ليوم عمل هكذا. ربما شق الضوء السماء لكنه لا يزال يختبئ بين الأشجار الكثيفة، وكانت الطيور تغرد أيضا. كنت قد اعتدت أن أظل بعيدة عن فراشي حتى وقت متأخر أكثر من ذلك، ومع هذا ما عدت أشعر بالراحة كما كنت في البداية؛ فاحتمالات عدم الراحة التي كنت أشعر بها فقط في غرفة النوم، وفي الفراش ذي الطابقين، كانت تحتل كل أركان المكان.
والآن فكرت في الأمر، في السبب وراء عدم ارتداء أبي رداء العمل؛ إذ كان يرتدي ملابس مختلفة كما لو كان ذاهبا إلى المدينة من أجل القيام بشيء ما؛ أول شيء يفعله في الصباح.
لم أستطع استئناف السير؛ حيث قطع وجود أبي إيقاع الأمر كله.
قال: «هل تعانين من مشاكل في النوم؟»
كنت أود أن أجيب بالرفض، لكني فكرت في صعوبات شرح سبب تجولي بالخارج في ذلك الوقت، فآثرت أن أرد بالإيجاب.
قال إن ذلك هو الحال عادة في ليالي الصيف. «إنك تذهبين للفراش متعبة وعندئذ تتصورين أنك ستغطين في النوم، فإذا بك تظلين مستيقظة. أليس هو الحال معك؟»
قلت بلى.
أيقنت الآن أنه لم يسمعني عندما استيقظت وتجولت في تلك الليلة فقط؛ فالشخص الذي تقطن ماشيته في مكان ما بالمنزل، ويحتفظ بما يكسبه من أموال على مقربة منه، ويحتفظ بمسدس في درج مكتبه، كان بالتأكيد سينتفض لسماع أقل صوت تسلل على الدرج وأقل إدارة لمقبض الباب.
لست واثقة من نوع الحوار الذي أراد أن يدور حينها، فيما يتعلق بمسألة استيقاظي. ويبدو أنه قال إن مسألة عدم القدرة على النوم أمر مزعج، لكن أكان هذا كل ما في الأمر؟ كنت أنوي بالقطع ألا أخبره بالمزيد؛ فلو كان قد ألمح لي ولو تلميحا بسيطا بأنه يعرف أن هناك المزيد في الأمر، بل لو حتى أشار إلى أنه جاء هنا بنية معرفة هذا الأمر، فلا أعتقد أنه كان سيخرج مني بشيء على الإطلاق. كان علي أن أكسر حاجز الصمت بإرادتي، وذلك بأن أقول إنني لم أكن أستطيع النوم، وإنه كان علي أن أغادر الفراش وأسير في الأنحاء.
وما سبب ذلك؟
لست أدري.
هل الكوابيس هي السبب؟
لا.
قال: «يا له من سؤال أحمق! فلا يمكن أن يترك المرء فراشه بسبب الأحلام الجميلة.»
تركني لكي أكمل حديثي، ولم يطرح علي أي أسئلة. كنت أنوي التوقف عن الكلام، لكني استمررت في الحديث، وأخبرته بالحقيقة ولكن مع تعديل واحد بسيط.
حينما تحدثت عن أختي الصغيرة، قلت إنني كنت أخشى أن ألحق بها أذى، واعتقدت أن هذا كان يكفي، يكفي لأن يعرف ما كنت أعنيه.
قلت بعدها: «أخشى أن أخنقها.» لم أستطع أن أمنع نفسي من قول هذا في نهاية الأمر.
والآن بما أنني كنت لا أستطيع أن أرجع فيما قلت، فلم يكن بإمكاني أن أعود نفس الشخص الذي كنت عليه قبل ذلك.
سمع أبي ما قلته؛ لقد سمع أنني اعتقدت أني كنت قادرة، بلا مبرر، على خنق كاثرين الصغيرة أثناء نومها.
قال: «حسنا.»
ثم قال إنني يجب ألا أشعر بالقلق، وأضاف: «ينتاب الناس في بعض الأحيان مثل هذا النوع من الأفكار.»
قال ذلك بجدية تامة ودون أن يظهر عليه أي نوع من الانزعاج أو الاندهاش الشديد. ينتاب الأشخاص مثل هذه النوعية من الأفكار، أو المخاوف إن صح التعبير، لكن ليس هناك داع للقلق حيال ذلك، فبمقدورنا القول إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد حلم من الأحلام.
لم يقل تحديدا إنني لست معرضة لارتكاب مثل هذا الفعل؛ فقد بدا أنه كان يعتقد أن مثل هذا الفعل لا يمكن أن يحدث. قال إن ذلك ربما يكون ناتجا عن تأثير مركب الإيثر، الذي أعطوني إياه في المستشفى، وأن الأمر لا يتعدى مجرد حلم؛ فلا يمكن أن يقع مثل ذلك الأمر مثلما لا يمكن أن يضرب نيزك منزلنا (بالطبع يمكن أن يحدث ذلك، لكن احتمالية حدوث ذلك تضعه في قائمة الأشياء التي لا يمكن أن تحدث).
لكنه لم يلمني حتى لأني فكرت في الأمر؛ كل ما قاله إنه لم يتعجب من ذلك.
هناك أشياء أخرى كان من الممكن أن يقولها؛ كان يمكن أن يطرح علي المزيد من الأسئلة عن موقفي من أختي الصغيرة أو عدم رضاي عن حياتي بوجه عام. لو كان ذلك قد حدث اليوم، فلربما حدد لي موعدا لدى طبيب نفسي. (أعتقد أن ذلك ما يجب أن أفعله حيال أحد أطفالي، مع تطور الأمور وزيادة دخل الأسرة.)
الحقيقة أن ما فعله قد نجح معي بالفعل؛ لقد أعاد لي استقراري النفسي، دون سخرية أو انزعاج، في العالم الذي كنا نعيش فيه.
فقد تتكون لدى الأشخاص بعض الأفكار التي سرعان ما يتخلون عنها. يحدث هذا في الحياة.
إن عشت فترة طويلة كأب، فستكتشف أنك ارتكبت أخطاء لم تهتم بمعرفتها بجانب الأخطاء التي تعلمها جيدا. قد تشعر إلى حد ما ببعض المهانة في داخلك أو بعض الاشمئزاز من نفسك، لكني لا أعتقد أن أبي انتابته مشاعر من هذا القبيل. أنا أعلم أنني لو كنت قد لمته يوما، حينما عاقبني بضربي بالمشحذة أو بحزامه، لكان قال شيئا عن اضطراره لفعل الأمر. إن حالات العقاب البدني هذه كانت ستظل باقية حينها في ذهنه - هذا إن بقيت من الأساس - على أنها ليست أكثر من كونها الردع الملائم والضروري لطفلة ثرثارة تتخيل أن بإمكانها إحكام السيطرة على الأمور. «إنك تعتقدين أنك شديدة الذكاء.» هذا ما كان يمكن أن يقوله كمبرر لعقابه لي، وبالفعل إن المرء كان يسمع ذلك كثيرا في تلك الأيام؛ حيث يتجسد هذا النوع من الذكاء في شكل طفل شقي بغيض ينبغي أن يعاقب على وقاحته، وإلا فستكون هناك مخاطرة أن يشب معتقدا أنه ذكي، أو ذكية، بحسب الحالة. •••
ومع هذا فقد منحني في ذلك الصباح ما كنت بحاجة إلى سماعه، وما كنت حتى سأنساه سريعا.
فكرت أنه ربما كان يرتدي أفضل ملابس العمل لديه؛ لأن لديه موعدا في الصباح للذهاب إلى المصرف ليعلم، دون أي اندهاش من جانبه، أنه لن يستطيع مد فترة سداد القرض الذي أخذه. لقد كان يعمل بكل جهده، لكن السوق ما كانت لتتغير أحوالها، وكان عليه أن يجد سبيلا آخر لينفق علينا ويسدد ما علينا من ديون في آن واحد. أو ربما اكتشف أن هناك اسما آخر للرجفة التي كانت تعاني منها أمي، وأن ذلك ما كان ليتوقف. أو ربما كان يحب امرأة يستحيل الوصول إليها.
لم ألق بالا لذلك؛ فمنذ ذلك الحين، أصبحت أستطيع النوم.
الأصوات
حين بدأت أمي تدخل مرحلة النضوج، كانت تذهب هي وأفراد عائلتها جميعا إلى حفلات الرقص، وكانت تلك الحفلات تقام في المدرسة وأحيانا في أحد المنازل الريفية الذي كان يحوي حجرة أمامية كبيرة بما يكفي للوفاء بهذا الغرض. وكان الصغار والكبار على حد سواء يذهبون لتلك الحفلات، وكان أحدهم يعزف على البيانو - البيانو الخاص بالمنزل المستضيف للحفل أو الخاص بالمدرسة - وكان آخر يحضر آلة كمان. وكانت أنماط أو خطوات الرقص الرباعي معقدة، وكان يحددها للراقصين شخص معروف بموهبته الخاصة في الرقص، وذلك بأعلى صوته (فهو دائما ما يكون رجلا) وبسرعة غريبة للغاية لن تكون ذات جدوى على الإطلاق، إلا إذا كنت تعرف تفاصيل هذا الرقص بالأساس، وهو الأمر الذي كان الجميع يتعلمونه حينما كانوا يبلغون العاشرة أو الثانية عشرة من العمر.
كانت أمي، المتزوجة الآن ولديها ثلاثة أطفال، لا تزال في عمر وفي مزاج يجعلانها تستمتع بتلك الرقصات إن كانت تعيش في البيئة الريفية الحقيقية التي لا تزال تمارس فيها تلك الرقصات. كانت ستستمتع أيضا بالرقص الدائري الذي يؤديه أزواج من الراقصين، والذي حل إلى حد ما محل أسلوب الرقص القديم. لكنها كانت في موقف غريب، كنا جميعا هكذا؛ كانت عائلتنا تقيم خارج المدينة، لكنها لم تكن فعليا تقطن في الريف.
أما أبي، الذي كان محبوبا أكثر من أمي، فكان يؤمن بضرورة التكيف مع كل الظروف. لم تكن أمي كذلك؛ فقد نشأت في إحدى المزارع لتصبح معلمة، لكن ذلك لم يكن كافيا؛ حيث لم يمنحها ذلك الوضع الذي كانت تتمناه، أو الأصدقاء الذين كانت تود أن تحظى بهم في المدينة. كانت تعيش في المكان الخطأ، ولم يكن لديها ما يكفي من النقود، لكنها لم تكن مهيأة لذلك على أية حال. كان بإمكانها لعب اليوكر وليس البريدج، وكانت تشعر بالضيق لمرأى امرأة تدخن. أعتقد أن الناس كانوا يرونها عدوانية وتستعرض في استخدام قواعد النحو؛ كانت تقول عبارات من قبيل «عن طيب خاطر» و«وهو حقا كذلك»؛ كانت تبدو وكأنها نشأت في عائلة غريبة تتحدث دوما بهذا الأسلوب. لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إليها، وكذا بالنسبة إلى عائلتها؛ كان أخوالي وخالاتي في مزارعهم يتحدثون بنفس الأسلوب الذي كان يتحدث به أي شخص آخر، كما أنهم أيضا لم يكونوا يحبون أمي كثيرا.
لا أعني أنها كانت تمضي كل وقتها وهي تتمنى لو كانت الأمور مختلفة عما هي عليه الآن؛ فشأنها شأن أي امرأة أخرى كانت لديها أوعية غسيل تحملها إلى المطبخ، وليست لديها مياه جارية، وكانت في حاجة إلى أن تمضي معظم أوقات الصيف وهي تعد الطعام الذي سيتم تناوله في الشتاء. كانت مشغولة دوما، حتى إنه لم يكن بمقدورها أن تخصص وقتا أكثر بخلاف ذلك الذي كانت تخصصه للشعور بخيبة الأمل تجاهي، متسائلة عن سبب عدم جلبي للأصدقاء الملائمين، أو أي أصدقاء على الإطلاق، إلى المنزل من مدرسة المدينة؛ أو سبب تجنبي المشاركة في تلاوات الكتاب المقدس في مدرسة الأحد، وهو شيء اعتدت المداومة عليه؛ أو سبب عودتي إلى المنزل وقد فككت جدائل شعري، وهو خرق للنظام كنت أمارسه حتى قبل أن أذهب إلى المدرسة لأنه ما من أحد كان يصفف شعره على النحو الذي كانت تصففه لي؛ أو في واقع الأمر سبب تعلمي التوقف عن استخدام قدرتي الهائلة على الحفظ في حفظ الشعر، حيث إنني كنت أرفض الآن أن أستخدمها من أجل التباهي بها. •••
لكني لم أكن دوما في حالات غضب وخلاف. ليس بعد؛ فها أنا ذا أتذكر حين كنت في حوالي العاشرة من عمري وكنت حريصة على التأنق ومرافقة أمي إلى إحدى حفلات الرقص.
كانت الحفلة مقامة في منزل ذي مظهر لائق - إن لم يكن شديد الفخامة - كان يقع في طريقنا؛ كان منزلا خشبيا ضخما يقطنه أشخاص لم أكن أعرف أي شيء عنهم، فيما عدا أن صاحبه كان يعمل في المسبك بالرغم من أنه كان متقدما في العمر بدرجة كافية لأن يكون في عمر جدي. إن المرء لم يكن في ذلك الوقت ليترك عمله في المسبك؛ فقد كان يعمل ما دام العمل باستطاعته، ويحاول أن يدخر النقود للوقت الذي لا يكون باستطاعته أن يعمل فيه؛ فقد كان من العار - حتى في أثناء ما تعلمت أن أطلق عليه فيما بعد الكساد العظيم - أن تجد أنه يجب عليك أن تتقدم للحصول على معاش شيخوخة، وكان من العار على أبنائك البالغين أن يسمحوا بذلك، مهما كانت الضوائق المالية التي كانوا يمرون بها.
يقفز الآن إلى ذهني بعض الأسئلة التي لم تقفز إليه حينها.
هل كان الأشخاص الذين يعيشون في هذا المنزل يقيمون الحفلة لمجرد خلق مناخ من البهجة؟ أم أنهم طلبوا نقودا مقابل ذلك؟ ربما وجدوا أنفسهم يمرون بمشاكل مالية، حتى لو كان الأب يعمل. إنها فواتير الأطباء؛ أعلم مدى العبء الذي يمكن أن تلقيه هذه الفواتير على كاهل أي عائلة. كانت صحة أختي الصغيرة ضعيفة، كما كان الناس يقولون، وقد استأصلنا لها لوزتيها بالفعل. وكنت أعاني أنا وأخي من التهاب شعبي حاد كل شتاء مما ينتج عنه قدوم الطبيب لعلاجنا؛ يتكلف العلاج الكثير من النقود.
السؤال الآخر الذي ربما يكون قد قفز لذهني هو: لماذا اخترت أن أصحب أمي بدلا من أبي؟ لكن الأمر لم يكن لغزا كبيرا؛ فربما كان أبي لا يهوى الرقص بعكس أمي. أيضا كان هناك طفلان آخران يجب الاعتناء بهما في المنزل، ولم أكن كبيرة وقتها بدرجة تكفي للقيام بذلك، ولا أستطيع أن أتذكر أن والدي قد استأجرا يوما جليسة أطفال، ولست واثقة إن كان هذا المصطلح حتى مألوفا في تلك الأيام أم لا؛ فحينما كنت في سنوات المراهقة وجدت وظائف في هذا المجال، لكن الوقت كان قد تغير حينها.
تأنقنا للذهاب. في رقصات الريف التي تذكرتها أمي، لم يكن هناك أي ظهور على الإطلاق لملابس الرقص الرباعي القديمة الطراز التي ستراها لاحقا في التليفزيون؛ فقد كان كل شخص يرتدي أفضل ما لديه، ويعد عدم فعل ذلك - أي ارتداء أي شيء من قبيل الملابس المكشكشة والمناديل التي كانت تلف حول الرقبة، وهي الملابس المعروفة لدى أهل الريف - بمنزلة إهانة للمضيفين وللجميع. ارتديت ثوبا صنعته أمي من أجلي، من الصوف الشتوي الناعم؛ كانت التنورة قرنفلية اللون والجزء العلوي من الثوب أصفر، مع وجود قلب من الصوف القرنفلي محاك في المكان الذي كان سيظهر فيه نهدي الأيسر في يوم من الأيام. وكان شعري مصففا ومبللا ويتخذ شكل جدائل عريضة طويلة شبيهة بالنقانق التي كنت أفكها كل يوم وأنا في طريقي إلى المدرسة. وقد تذمرت من تصفيف شعري على هذا النحو في حفلة الرقص بحجة أنه لا أحد يصفف شعره على هذا النحو؛ فردت أمي بأنه ليس هناك أحد محظوظ جدا مثلي. كففت عن الشكوى لأني كنت أرغب في الذهاب بشدة، أو ربما لأني اعتقدت أنه لن يتواجد أحد من المدرسة في الحفلة؛ لذا لم يكن يهم ذلك الأمر، كانت سخرية أقراني مني هي دوما الشيء الذي كنت أخشاه.
لم يكن ثوب أمي من صنع يديها؛ كان أفضل ثوب لديها، وكان شديد الأناقة بحيث لا يمكن ارتداؤه عند الذهاب إلى الكنيسة، ومبهجا جدا بحيث لا يمكن ارتداؤه في أي جنازة؛ لذا نادرا ما كانت ترتديه. كان مصنوعا من القطيفة السوداء، بكمين يصلان حتى مرفقيها، وتقويرة عالية، والشيء الرائع به هو انتشار حبات الخرز الصغيرة، ذات اللون الذهبي والفضي ومن كل الألوان، المحاكة جميعها في كل أنحاء الجزء العلوي من الثوب، والتي كانت تمتص الضوء، وتتلألأ متى تحركت أمي أو حتى تنفست. ضفرت شعرها، الذي كان لا يزال معظمه باللون الأسود، ثم ثبتته بتاج صغير بأعلى رأسها. لو كانت شخصا آخر غير أمي، لكنت رأيت أنها جميلة بدرجة مثيرة. أعتقد أني كنت أراها هكذا، لكن بمجرد أن ولجنا هذا المنزل الغريب، لاحظت أن أفضل ثوب لديها لا يشبه ثوب أي امرأة أخرى، بالرغم من أنهن كن يرتدين أفضل ما لديهن أيضا.
والنساء الأخريات التي أتحدث عنهن كن يتواجدن في المطبخ؛ حيث توقفنا ورحنا ننظر إلى الأشياء المرصوصة على منضدة كبيرة؛ كان عليها كل أنواع التارت والكوكيز والفطائر والكعك، وقد وضعت أمي هي الأخرى نوعا فاخرا من الحلوى كانت قد أعدته وراحت ترتبه باهتمام حتى تحسن من مظهره، وعقبت بأن كل شيء كان يبدو مسيلا للعاب.
هل أنا واثقة من أنها قالت ذلك؛ مسيلا للعاب؟ أيا كان ما قالته، فلم يكن يبدو صحيحا تماما. تمنيت حينها أن يكون أبي موجودا لأن كلامه دائما ما يكون ملائما بشدة للمناسبة، حتى لو كان يتحدث بأسلوب نحوي سليم. كان يفعل ذلك داخل المنزل ولكن ليس بسهولة خارجه. كان يندمج في أي حديث بسهولة؛ كان يعي أن الشيء الذي ينبغي عمله هو عدم التفوه بكل ما هو غريب؛ أما أمي، فكانت على النقيض تماما؛ فبالنسبة إليها، كان كل شيء واضحا، ورنانا، ويهدف إلى جذب الانتباه.
كان ذلك يحدث الآن وسمعتها تضحك في سعادة، كما لو أنها كانت تحاول تعويض عدم حديث أي شخص معها. كانت تتساءل عن المكان الذي يمكن أن نضع فيه معطفينا.
اتضح أن بإمكاننا أن نضعهما في أي مكان، وقال أحدهم إنه بمقدورنا، إن رغبنا، أن نضعهما على الفراش بالطابق العلوي. إنك تستطيع الوصول إلى الطابق العلوي من خلال درج تحيط به الجدران، ولم يكن هناك أي أضواء إلا بالأعلى. طلبت مني أمي أن أصعد، وقالت لي إنها ستلحق بي في غضون دقيقة، وقد فعلت.
والسؤال الذي قد يطرح نفسه الآن: هل كان يدفع مقابل نقدي لحضور تلك الحفلة؟ كان من الممكن ألا تحضرها أمي وتنتظر حتى ترتب أخرى في منزلها. ومن ناحية أخرى، هل كان يطلب من الناس أن يدفعوا مقابل حضور الحفل، وفي نفس الوقت يحضرون كل أنواع الحلوى هذه؟ وهل كانت تلك الحلوى كثيرة حسبما أتذكر؟ والحاضرين كلهم من الفقراء؟ لكنهم ربما كانوا بالفعل لا يشعرون بأنهم فقراء جدا، مع وجود وظائف الحرب وما يرسله الجنود من نقود إلى منازلهم. إن كنت وقتها حقا في العاشرة من عمري، وأعتقد أني كنت كذلك، فقد كانت تلك التغيرات إذن قد بدأت تحدث منذ عامين.
كان الدرج الذي يبدأ عند المطبخ، وكذا الذي يبدأ عند الغرفة الأمامية، يلتقيان في شكل مجموعة من الخطوات التي تؤدي إلى غرف النوم. وبعدما تحررت من المعطف ومن حذائي العالي الرقبة في غرفة النوم الأمامية المرتبة، كان لا يزال بإمكاني سماع صوت أمي يرن في المطبخ، لكن كان بإمكاني أيضا سماع صوت الموسيقى وهي تأتي من الحجرة الأمامية؛ لذا هبطت في اتجاهها.
أخليت الحجرة من كل قطع الأثاث فيما عدا البيانو، وكانت تنسدل على النوافذ مجموعة من الستائر القماشية ذات اللون الأخضر الداكن، من النوع الذي كنت أراه كئيبا. لكن لم يكن هناك أي جو من الكآبة داخل الحجرة؛ فقد كان يرقص هناك الكثير من الأشخاص، ويمسك كل منهم بالآخر بوقار، ويتحركون أو يتمايلون في دوائر صغيرة. كانت هناك فتاتان لا تزالان في المدرسة ترقصان بطريقة أضحت شائعة حينها منذ فترة قصيرة، حيث كانتا تتحركان وكل منهما تواجه الأخرى، مشبكتين أيديهما في بعض الأحيان. ابتسما بالفعل لتحيتي عندما رآني، وحينها غمرني شعور بالسعادة، وهو الشعور الذي كان يعتريني عادة عندما تعيرني اهتمامها أي فتاة تكبرني لديها ثقة في نفسها.
كان في الحجرة امرأة لا يمكن ألا تلفت انتباه المرء، امرأة ترتدي ثوبا يفوق بالتأكيد ثوب أمي روعة وأناقة؛ لا بد أنها كانت تكبر أمي كثيرا؛ كان شعرها شائبا، ينسدل في نعومة ورقي فيما كان يطلق عليه الشعر المموج الذي على طراز مصمم الشعر الفرنسي مارسيل جراتو، بالقرب من فروة رأسها. كانت امرأة ضخمة ذات كتفين ممتلئتين ووركين عريضتين، وكانت ترتدي ثوبا ذا لون برتقالي مائل إلى الذهبي من قماش التفتة، كان ذا رقبة مربعة الشكل ومكشوف الصدر، وتنورة تغطي ركبتيها فقط. وكان كماه القصيران ملتصقين بشدة بذراعيها، فبدا لحمهما مكتنزا، وناعما، وأبيض مثل شحم الخنزير.
كان مظهرها يبعث على الدهشة؛ كنت أعتقد أنه لا يمكن أن يكون الشخص متقدما في العمر وفي نفس الوقت لافتا للأنظار، ضخما ولكنه جميل، جريئا لدرجة الوقاحة ومع ذلك شديد الرصانة. بمقدورك أن تصفها بأنها صفيقة، وربما كان هذا ما قالته أمي عنها لاحقا؛ فتلك كانت الكلمة التي تستخدمها دوما. ربما يصفها أحدهم الأقل عدائية تجاهها بأنها مهيبة. لم تكن في واقع الأمر تتباهى بذاتها، فيما عدا شكل فستانها ولونه. كانت هي والرجل الذي كان بصحبتها يرقصان معا بوقار وبذهن شارد بعض الشيء، تماما مثل الأزواج.
لم أكن أعرف اسمها؛ فأنا لم أرها من قبل، ولم أكن أعرف أنها كانت سيئة السمعة في مدينتا، وربما في أماكن أبعد من ذلك، بحسب علمي.
أعتقد أنني لو كنت أكتب عملا أدبيا بدلا من أن أتذكر حدثا مررت بي، ما كنت لأجعلها أبدا ترتدي ذلك الثوب؛ فهو نوع من الدعاية لنفسها ليست بحاجة إليه.
بالطبع لو كنت أعيش في المدينة، بدلا من أن أذهب إليها وأعود منها كل يوم عند ذهابي للمدرسة، لربما كنت سأعلم أنها عاهرة معروفة، ولكنت بالطبع رأيتها يوما ما، وإن كانت غير مرتدية هذا الثوب البرتقالي ، ولما كنت استخدمت كلمة عاهرة، كنت سأستخدم امرأة سيئة على الأرجح، ولكنت سأعلم أن هناك شيئا باعثا على الاشمئزاز، وخطيرا، ومثيرا وجريئا بشأنها، دون أن أعرف تحديدا كنه هذا الشيء. وإذا ما حاول أحدهم أن يخبرني به، أعتقد أنني لم أكن لأصدقه.
كان هناك العديد من الأشخاص في المدينة الذين كانوا يبدون غير عاديين، وربما كانت هي ستبدو بالنسبة إلي واحدة منهم. كان هناك ذلك الرجل الأحدب الذي كان يلمع أبواب مبنى مجلس المدينة كل يوم، وعلى حد علمي لم يكن يفعل أي شيء آخر. وهناك أيضا المرأة ذات المظهر الجيد التي لا تتوقف أبدا عن الحديث لنفسها بصوت مرتفع، موجهة السباب لأشخاص غير موجودين حولها.
وكنت سأعلم قبلا اسمها وأكتشف في النهاية أنها كانت حقا تفعل الأشياء التي لم أكن أصدق أنها يمكن أن تفعلها، وأن الرجل الذي رأيته يراقصها، والذي ربما لم أكن لأعرف اسمه على الإطلاق، هو مالك صالة البلياردو. في أحد الأيام حينما كنت في المدرسة الثانوية تحدتني فتاتان من المدرسة أن أستطيع الدخول إلى صالة البلياردو حينما مررنا بجوارها، وقد فعلت، وكان متواجدا بها، كان هو نفس الرجل الذي كان يراقصها. هذا بالرغم من أن مساحة الصلع زادت في رأسه الآن وزاد وزنه، وكان يرتدي ملابس أقل أناقة، ولا أتذكر أنه قال شيئا لي حينها، بل لم يكن عليه ذلك؛ فقد عدت أدراجي إلى صديقتي، اللتين لم تكونا من صديقاتي القريبات في واقع الأمر، ولم أخبرهما بشيء.
حينما رأيت مالك صالة البلياردو، استرجعت مشهد الرقص بالكامل؛ البيانو الضخم، والموسيقى المعزوفة على الكمان، والثوب البرتقالي الذي كنت سأصفه حينها بالسخيف، وظهور أمي المفاجئ بمعطفها الذي من المحتمل أنها لم تخلعه هناك على الإطلاق.
ها هي هناك، تناديني باسمي وسط الموسيقى المعزوفة بنبرة صوت كنت أبغضها على وجه الخصوص، النبرة التي بدا أنها كانت تذكرني بنحو خاص بأن لها الفضل في وجودي على تلك الأرض من الأساس.
قالت: «أين معطفك؟» قالت ذلك كما لو كنت قد فقدته في مكان ما. «بالطابق العلوي.» «حسنا، اذهبي وأحضريه.»
لو كانت صعدت إلى الطابق العلوي، لكانت رأته؛ لا بد أنها لم تتخط عتبة المطبخ، وأنها كانت ترتب الأطعمة وهي مرتدية معطفها الذي حلت أزراره ولكنها لم تخلعه، وذلك حتى نظرت باتجاه الغرفة التي كان بها الرقص وعرفت من هي الراقصة ذات الثوب البرتقالي.
قالت: «لا تتأخري.»
لم أكن أنوي أن أتأخر. فتحت الباب المؤدي إلى الدرج وهرولت عبر الدرجات الأولى، ووجدت أنه عند المكان الذي ينعطف عنده الدرج كان هناك أناس يجلسون ويعترضون طريقي. لم يشاهدوني وأنا أقترب منهم؛ فقد بدا أنهم كانوا منشغلين بشيء مهم؛ لم يكونوا منهمكين في نقاش على وجه التحديد، وإنما كان نوعا من الحوار العاجل.
كان هناك رجلان فقط من بين هؤلاء الأشخاص؛ شابان يرتديان زي القوات الجوية؛ كان أحدهما يجلس على إحدى الدرجات، والآخر يميل للأمام مستندا إلى درجة أسفل من تلك التي كان الشاب الآخر يقف عليها، واضعا يده على ركبته. وكانت هناك فتاة تجلس على الدرجة التي تعلوهما، وكان الشاب الأقرب إليها منهما يربت على رجلها على نحو مواس. اعتقدت أنها لا بد وأن سقطت على تلك الدرجات الضيقة وجرحت، لأنها كانت تبكي.
بيجي. كان اسمها بيجي. «بيجي، بيجي»، هذا ما كان يقوله الشابان بنبرة صوت متلهفة وحنونة أيضا.
قالت شيئا لم أستطع تبينه؛ كانت تتحدث بنبرة صوت طفولية. كانت تشتكي بنفس الأسلوب الذي يشتكي به المرء من شيء مجحف؛ فتجد نفسك تقول مرارا وتكرارا إن شيئا ما غير منصف، لكن بصوت يائس، كما لو أنك تتوقع أن هذا الشيء غير المنصف لا يمكن أن ينصلح أمره. «وضيع» هي كلمة أخرى يمكن أن تستخدم في ظل هذه الظروف. إنه وضيع للغاية؛ كان هناك شخص وضيع للغاية.
بإنصاتي إلى حديث أمي مع أبي حينما عدنا إلى المنزل، عرفت جانبا مما حدث، لكني لم أستطع أن أفهمه تماما. لقد ظهرت السيدة هتشيسون في حفلة الرقص، يصاحبها الرجل صاحب صالة البلياردو، الذي لم يكن معروفا لدي وقتذاك بأنه صاحب صالة البلياردو، ولا أدري الاسم الذي نادته به أمي، لكنها كانت مصدومة بشدة من سلوكه. ترددت بعض الأخبار عن حفلة الرقص وقرر بعض الشباب من بورت ألبرت - أي من قاعدة القوات الجوية - المجيء لحضوره. لم يكن هناك شيء يعيب هؤلاء الشباب، أما الخزي فقد تمثل في السيدة هتشيسون والفتاة.
لقد أحضرت إحدى بناتها معها.
قال أبي: «ربما اعتقدت أنها مجرد نزهة، ربما كانت ترغب فقط في الرقص.»
بدا أن أمي حتى لم تسمع ذلك، وقالت إنه من العار أن يحدث هذا. إنك تتوقع أن تمضي وقتا لطيفا، رقصة هادئة رقيقة في منزل قريب منك، ثم بعدها يفسد كل شيء.
كانت لدي عادة تقييم شكل الفتيات الأكبر سنا مني. لم أعتقد أن بيجي فتاة ذات جمال خاص؛ ربما فسد مكياجها بسبب بكائها، وقد تحرر شعرها الملفوف ذو اللون البني الفاتح من الدبابيس التي كانت تثبته، وكانت أظافرها مطلية بطلاء أظافر، لكنها كانت لا تزال تبدو كما لو أنها قضمتها. لم تبد أنضج كثيرا من أي من تلك الفتيات الأكبر سنا اللاتي كنت أعرفهن، المتذمرات، والمخادعات، الدائمات الشكوى؛ ومع ذلك، عاملها الشابان كما لو كانت شخصا لا يستحق مطلقا أن يواجه أي لحظة قاسية، شخصا يستحق التدليل والإسعاد، شخصا تنحني أمامه الرءوس.
عرض أحدهما عليها سيجارة جاهزة بالفعل، وقد رأيت أن ذلك متعة في حد ذاته؛ حيث إن أبي كان يلف سجائره بنفسه، تماما مثلما كان يفعل أي رجل كنت أعرفه. لكن بيجي هزت رأسها تعبيرا عن الرفض وتذمرت بنبرة صوتها المتألمة بأنها لا تدخن. ثم عرض عليها الرجل الآخر قطعة من اللبان، فقبلتها.
ماذا كان يجري؟ ليس ثمة سبيل لأن أعرف؛ فقد لاحظ وجودي الشاب الذي عرض عليها قطعة اللبان، بينما كان يفتش في جيبه، ثم قال: «بيجي، بيجي، هناك فتاة صغيرة أعتقد أنها تبغي الصعود لأعلى.»
أخفضت رأسها، فلم أستطع النظر نحو وجهها، وشممت رائحة عطر وأنا أمر من جانبها، وشممت رائحة سجائرهما أيضا وزيهما الصوفي الرجالي ، وأحذيتهما اللامعة العالية الرقبة.
حينما نزلت وأنا أحمل معطفي، كانوا لا يزالون في مكانهم، لكن في تلك المرة كانوا يتوقعون مجيئي؛ لذا لاذوا جميعا بالصمت أثناء مروري، فيما عدا أن بيجي أطلقت شهقة عالية، بينما راح الشاب الأقرب إليها يربت على الجزء العلوي من رجلها. لقد رفعت تنورتها ورأيت الحمالة التي تثبت جوربها.
ظللت لفترة كبيرة أتذكر الأصوات، وأمعن النظر فيها. ليس صوت بيجي، وإنما صوت الرجلين. أعلم الآن أن بعضا من رجال القوات الجوية الذين يتمركزون في بورت ألبرت في وقت مبكر من الحرب كانوا قادمين من إنجلترا، وأنهم كانوا يتلقون التدريب هناك لمحاربة الألمان؛ لذا، أتساءل إن كانت اللكنة الخاصة بجزء معين من بريطانيا هي التي وجدتها لطيفة وساحرة للغاية. من المؤكد أنني لم أسمع قط في حياتي رجلا يتكلم على هذا النحو، ويعامل امرأة كما لو أنها مخلوق رقيق ومقدر للغاية أيا كان، ويرى أن أيا كانت القسوة التي تعرضت لها، فهي تعد على نحو ما خرقا للقانون أو إحدى الخطايا.
ما الذي اعتقدت أنه قد حدث لبيجي وجعلها تبكي؟ لم يثر هذا السؤال اهتمامي كثيرا في ذلك الوقت؛ فأنا نفسي لم أكن شخصية شجاعة؛ فقد كنت أبكي حينما كان يطاردني البعض ويرمونني بالحصى وأنا في طريق عودتي إلى المنزل من مدرستي الأولى، وكنت أبكي حينما كانت تشير إلي المعلمة في مدرسة المدينة من بين كل طلاب الفصل لكي تجعلهم يرون عدم الترتيب الصادم لمكتبي، وكذلك عندما هاتفت أمي من أجل نفس المشكلة، وبكت أمي بعدما أنهت المكالمة، متحملة المعاناة لأني لم أكن مفخرة لها. بدا الأمر كما لو أن هناك أناسا بطبيعتهم يتسمون بالشجاعة، بينما لا يتسم بها البعض الآخر. لا بد أن أحدهم قال شيئا لبيجي، ولهذا كانت تشهق لأنها كانت مثلي؛ شخصية لا تتحمل المضايقات.
لكن لا بد أن السيدة ذات الثوب البرتقالي هي التي كانت الشخص الوضيع، على ما أعتقد، دون سبب محدد. كان يجب أن يكون امرأة؛ لأنه لو كان رجلا، لعاقبه أحد هذين الشابين المنتميين للقوات الجوية المواسيين لبيجي، ولطلبا منه أن ينتبه لما يقول، بل لربما جذباه إلى الخارج وضرباه.
لذا لم تكن بيجي هي من أثار اهتمامي، ولا دموعها، ولا نظراتها المنهارة؛ لقد كانت تذكرني كثيرا بنفسي. بل الشابان اللذان كانا يواسياها هما من أثار اهتمامي؛ أثارني كيف كانا ينحنيان ويعبران عن مشاعر الود أمامها.
ماذا كانا يقولان؟ لم يقولا شيئا محددا على وجه الخصوص؛ قالا إن كل شيء على ما يرام. لا تقلقي يا بيجي. الآن، كل شيء على ما يرام، يا بيجي.
إنه ذلك الحنان؛ أن يحمل الشخص كل هذا القدر من الحنان.
صحيح أن هؤلاء الشباب، الذين أتوا إلى بلادنا للتدريب على المهام الخاصة بالقصف الجوي، والتي يمكن أن يروح ضحيتها الكثير منهم، ربما كانوا يتحدثون باللكنة المعتادة لكورنوال، أو كنت، أو هال، أو اسكتلندا. لكنهم بدوا بالنسبة إلي غير قادرين على الحديث دون ترديد بعض عبارات المباركة، المباركة في الوقت الحاضر. لم يدر بخلدي أن مستقبلهم جميعا مرتبط بكارثة، أو أن حياتهم العادية ذهبت سدى ودمرت؛ كل ما فكرت فيه هو كلمات المباركة ومدى روعة أن يتلقاها المرء، وكيف أن بيجي كانت محظوظة على نحو غريب ولا تستحق المعاملة التي كانت تتلقاها.
لا أدري كم من الوقت ظللت أفكر فيهم؛ فقد كانوا يهدهدونني في ظلمات غرفة نومي الباردة حتى أغط في النوم. كان بإمكاني استدعاؤهم، استرجاع وجوههم، وأصواتهم، لكن الأدهى من ذلك، أن أصواتهم كانت موجهة نحوي وليس نحو طرف ثالث لا أهمية له. وكانت أيديهم تبارك فخذي النحيلين وأصواتهم تطمئنني أنني أيضا أستحق الحب. •••
وبينما كانوا لا يزالون يسكنون خيالاتي التي لم تكن جنسية بشدة حينها، إذا بهم يختفون من ذهني. لقد اختفى بعضهم، بل العديد منهم، إلى الأبد.
حياتي العزيزة
حينما كنت صغيرة، كنت أعيش في نهاية طريق طويل، أو طريق بدا لي طويلا. وكان يوجد خلفي، وأنا عائدة لمنزلي سيرا على الأقدام من المدرسة الابتدائية ثم المدرسة الثانوية بعد ذلك، المدينة الحقيقية بنشاطها وأرصفتها وأعمدة إنارة شوارعها التي كانت تضاء بعد حلول الظلام. وكان ما يميز نهاية المدينة وجود جسرين فوق نهر ميتلاند، أحدهما كان جسرا حديديا ضيقا كانت تحدث فيه أحيانا مشاجرات بين قائدي السيارات حول أي من السيارات يجب أن تنتظر حتى تمر السيارات الأخرى. وكان هناك ممشى خشبي حيث تجد من آن لآخر أحد ألواحه مفقودا، بحيث يكون بمقدورك أن تنظر لأسفل مباشرة نحو المياه الجارية البراقة. أحببت ذلك، لكن كان دائما ما يأتي أحدهم ويضع لوحا جديدا مكان اللوح المفقود.
وكان هناك واد صغير، به منزلان آيلان للسقوط تغمرهما المياه كل ربيع، لكن دائما كان هناك أناس - أناس مختلفون - يأتون ويعيشون فيهما على أية حال. وبعد ذلك، كان هناك الجسر الآخر، المقام فوق قناة الساقية، التي كانت ضيقة لكنها عميقة بما يكفي بحيث يمكن أن تغرق فيها. بعد ذلك كان ينقسم الطريق، جزء منه يتجه نحو الجنوب فوق أحد التلال وفوق النهر ثانية حتى يصبح طريقا سريعا، والجزء الآخر يمتد حول ساحة السوق القديمة ثم ينعطف نحو الغرب.
كان هذا الطريق المتجه نحو الغرب هو طريقي.
كان هناك أيضا طريق يتجه نحو الشمال، وكان به رصيف قصير لكنه حقيقي، وعدة منازل بعضها قريب من بعض، كما لو كانت في المدينة. وكان أحدها عليه لافتة على الجزء العلوي الزجاجي من بابه، مكتوب عليها «شاي سالادا»؛ وهو دليل على أن منتجات البقالة كانت تباع هناك في وقت من الأوقات. ثم كانت هناك مدرسة درست بها لمدة عامين في حياتي وتمنيت ألا أراها ثانية، وبعد هذين العامين، دفعت أمي أبي إلى شراء سقيفة قديمة في المدينة؛ حتى يكون خاضعا للضرائب الخاصة بالمدينة وأستطيع أن أذهب إلى مدرسة المدينة. واتضح أنها لم تكن بحاجة إلى ذلك لأنه في نفس السنة وذات الشهر الذي بدأت فيه الدراسة في مدرسة المدينة، أعلنت الحرب ضد ألمانيا، وعلى نحو مفاجئ هدأ الحال في المدرسة القديمة، المدرسة التي كان ينتزع مني زملائي المتنمرون علي طعام الغداء ويهددون بضربي، والتي لم يتعلم بها أحد أي شيء وسط الفوضى التي كانت تعلوها. وسرعان ما أصبح بها حجرة واحدة ومعلم واحد فقط ربما لم يكن حتى يغلق الأبواب في أوقات الراحة. وبدا أن نفس الصبية الذين طالما سألوني على نحو مؤثر ومزعج إن كنت أريد أن أضاجعهم؛ كانوا شغوفين لأن يحصلوا على وظائف مع انضمام إخوانهم الأكبر سنا للجيش.
لا أدري إن كانت حمامات المدارس قد تحسنت حالتها بحلول ذلك الوقت أم لا، لكنها كانت أسوأ شيء بها على الإطلاق؛ هذا لا يعني أننا لم نكن نقضي حاجتنا في حمام خارجي داخل المنزل، لكنه كان نظيفا وأرضيته من المشمع. وفي تلك المدرسة، وبدافع من الازدراء أو أيا ما كانت الدوافع، بدا أنه لم يكن أحد يهتم بقضاء حاجته في الحفرة المخصصة لذلك بالحمام، ولعدة أسباب لم يكن هذا الأمر سهلا علي في مدرسة المدينة أيضا؛ لأن الطلبة الآخرين كانوا معا منذ الصف الأول، وكان هناك العديد من الأشياء التي لم أتعلمها بعد، لكن رؤيتي لمقاعد الحمام النظيفة وسماعي لصوت المراحيض الدافقة المتحضرة كانا شيئين باعثين على راحتي.
خلال وجودي في مدرستي الأولى، كانت لدي صديقة واحدة. وقد التحقت هذه الفتاة التي سأناديها ديان بمدرستي بعد أن مضت فترة من عامي الثاني هناك. كانت في مثل عمري تقريبا، وكانت تعيش في واحد من تلك المنازل التي كان لها رصيف. سألتني ذات يوم إن كنت أعرف الرقص الشعبي الاسكتلندي، وعندما أجبت عليها بالنفي عرضت علي أن تعلمني إياه؛ ومن هذا المنطلق، ذهبنا إلى منزلها بعد المدرسة. كانت والدتها قد توفيت، وذهبت هي للعيش مع جدها وجدتها. أخبرتني أنه لكي أتمكن من أداء هذا النوع من الرقص، فأنا بحاجة إلى حذاء يصدر صوتا، وهو ما لم أكن أملكه بالطبع وكانت تملكه هي، لكن أقدامنا كان لها نفس المقاس تقريبا؛ لذا كان من الممكن أن نتبادل أحذيتنا بينما تحاول هي أن تعلمني. شعرنا بالعطش في نهاية المطاف، فأحضرت لنا جدتها بعض الماء، لكنه كان ماء فظيعا آتيا من بئر محفورة يدويا، تماما مثل ماء المدرسة. أخبرتهما بأمر الماء الرائع الذي كنا نحصل عليه من أحد الآبار المحفورة بالآلات بالمنزل، وقالت الجدة، دون أن تشعر بأي نوع من الإهانة، إنها تتمنى لو حصلت على مثل هذا الماء أيضا.
لكن سرعان ما كانت أمي بالخارج؛ فقد ذهبت إلى المدرسة وعرفت مكان تواجدي، وراحت تطلق نفير السيارة لكي تستدعيني، ولم ترد حتى على تلويح الجدة الذي كان ينم عن الود. كانت أمي لا تقود السيارة في العادة، وحينما كانت تفعل تكون هناك جدية يشوبها التوتر تغلف ذلك الحدث، وطلبت مني ونحن في طريقنا إلى المنزل ألا أدخل ذلك المنزل مرة أخرى. (لم يكن في ذلك أي صعوبة؛ لأن ديان توقفت عن المجيء إلى المدرسة بعدها بأيام قلائل؛ فلقد أرسلت إلى مكان ما.) قلت لأمي إن والدة ديان متوفاة، فردت علي بأنها تعلم ذلك. أخبرتها بأمر الرقص الشعبي الاسكتلندي، فقالت إنني يمكنني أن أتعلمه في وقت من الأوقات، لكن ليس في ذلك المنزل.
لم أكتشف حينها - ولم أفهم الأمر حينما اكتشفت - أن أم ديان كانت عاهرة، وأنها توفيت بسبب مرض ما بدا أن العاهرات قد أصبن به. أرادت أم ديان أن تدفن في منزلها، وقام قس كنيستنا بمراسم الدفن. كان هناك جدل حول نص الإنجيل الذي استخدمه؛ اعتقد البعض أنه كان يجب عليه ألا يذكر ذلك الجزء، لكن أمي اعتقدت أنه فعل الشيء الصواب.
إن جزاء الخطيئة هو الموت.
قالت أمي لي ذلك بعدها بفترة طويلة، أو ما بدا أنه فترة طويلة لاحقا، حينما وصلت لمرحلة كنت أكره خلالها العديد من الأشياء التي كانت تقولها، وخاصة حينما كانت تستخدم هذا الصوت المقنع المرتعش المبتهج.
كنت أزور الجدة بين الحين والآخر، ولطالما كانت تستقبلني بابتسامتها الصغيرة. وقالت إنه من الرائع أنني لا أزال أذهب إلى المدرسة، وذكرت أن ديان استمرت هي الأخرى في الذهاب إلى المدرسة لوقت لا بأس به، في المكان الذي كانت تعيش فيه، لكنه لم يكن طويلا كالوقت الذي أمضيته أنا. ووفقا لما قالته جدتها، فقد حصلت ديان بعد ذلك على وظيفة في أحد المطاعم في تورونتو حيث كانت ترتدي زيا مزينا بالترتر. وكنت قد كبرت بما يكفي حينها، وأصبحت شريرة بما يكفي لكي أفترض أنها ربما ذهبت إلى مكان يخلع فيه المرء الزي المزين بالترتر.
لم تكن جدة ديان هي الوحيدة التي كانت ترى أنني قد أمضيت وقتا طويلا بالمدرسة؛ فبطول الطريق الذي كنت أقطعه، كان هناك عدد من المنازل التي يصطف بعضها مبتعدا عن بعض، بدرجة أكبر من تلك المتواجدة في المدينة، لكن مع ذلك لم يكن لها الكثير من الملحقات. وكان أحد هذه المنازل، الواقع فوق أحد التلال الصغيرة، يمتلكه ويتي ستريتس، وهو محارب من المحاربين القدامى فقد إحدى ذراعيه أثناء مشاركته في الحرب العالمية الأولى. كان يربي بعض الخراف، وكان لديه زوجة لم أرها سوى مرة واحدة فقط طوال تلك السنوات، حينما كانت تملأ دلو الشرب من المضخة. كان ويتي يحب أن يمزح بشأن الوقت الطويل الذي أمضيته في المدرسة، وكم هو شيء باعث على الرثاء أنني لم أستطع مطلقا أن أجتاز اختباراتي وأنتهي من دراستي. وكنت أرد على مزاحه متظاهرة بأن ذلك صحيح. لم أكن واثقة مما كان يعتقد بالفعل؛ كان هذا هو الأسلوب الذي تتعرف به على الأشخاص على الطريق ويتعرفون عليك من خلاله؛ فإنك تبدأ بتحيتهم وهم يردون عليك التحية، ثم يقولون بعد ذلك شيئا عن أحوال الطقس، وإن كانت لدى أحدهم سيارة وشاهدك تسير على قدميك فإنه يذهب بك إلى المكان الذي تريده. إن المكان لم يكن يشبه الريف الحقيقي حيث كان الناس يعرف بعضهم دواخل منازل بعض، ويشترك الجميع بطريقة أو بأخرى في نفس الوسيلة التي يكسبون بها قوت يومهم.
لم أستغرق وقتا في إكمال دراستي الثانوية أطول مما استغرقه أي فرد أنهى صفوفه الخمسة بالكامل، لكن عدد الطلاب الذين فعلوا ذلك كان قليلا، ولم يتوقع أحد في تلك الأيام أن نفس العدد الذي التحق بالمدرسة الثانوية في الصف التاسع سيخرج منها، ذاخرا بالمعرفة وقواعد النحو الصحيحة، في نهاية الصف الثالث عشر؛ فقد كان هناك بعض الأشخاص الذين يحصلون على وظائف بدوام جزئي وتدريجيا يحصلون على وظائف بدوام كامل. أما الفتيات، فكن يتزوجن وينجبن أطفالا، بهذا الترتيب أو بعكسه. وفي الصف الثالث عشر، حيث لم يتبق سوى ربع عدد طلاب الفصل الأصلي، كان هناك إحساس باتساع المعرفة، بالإنجاز الحقيقي، أو ربما هو مجرد نوع خاص من الشعور بالمثالية، بغض النظر عما سيحدث لك فيما بعد.
شعرت كما لو أنني قد ابتعدت فترة طويلة جدا عن معظم الناس الذين عرفتهم في الصف التاسع، فضلا عمن عرفتهم في مدرستي الأولى. •••
كان هناك شيء في أحد أركان غرفة الطعام لطالما أثار دهشتي قليلا، وذلك حينما كنت أحضر المكنسة الكهربائية التي من طراز إلكترولكس كي أنظف الأرضية. كنت أعرف ما هو هذا الشيء؛ حقيبة جولف حديثة تحوي مضارب وكرات جولف. تساءلت فقط عما كانت تفعله في منزلنا؛ إنني بالكاد أعرف القليل عن هذه اللعبة، لكن كانت لدي تصورات عن نوعية الأشخاص الذين كانوا يمارسونها؛ لم يكونوا من أولئك الأشخاص الذين يرتدون أردية العمل، مثل والدي، بالرغم من أنه كان يرتدي بنطال العمل الأكثر أناقة حينما كان يذهب إلى وسط المدينة. كان يمكنني، إلى حد ما، تخيل أمي وهي ترتدي ذلك النوع من الملابس الرياضية التي ينبغي ارتداؤها لهذه اللعبة، رابطة وشاحا حول شعرها الناعم المتطاير، لكن لم يكن يمكنني تخيلها وهي تضرب الكرة لتسقط في حفرة في الملعب. إنها بالتأكيد كانت أبعد ما يكون عن فعل تفاهة كهذه.
لا بد أنها قد فكرت بطريقة مختلفة في وقت من الأوقات، لا بد أنها قد اعتقدت أنه يمكنها هي وأبي أن يحولا نفسيهما لنوع مختلف من الأشخاص؛ أشخاص يستمتعون بقدر من الرفاهية؛ لعب الجولف، وحفلات العشاء. ربما أقنعت نفسها بأن بعض الحدود لم تعد موجودة. لقد استطاعت أن تبتعد عن مزرعة في منطقة الدرع الكندي الجرداء - مزرعة أسوأ كثيرا من تلك التي قدم منها أبي - وأصبحت معلمة تتحدث بأسلوب جعل أقاربها لا يشعرون بالارتياح تجاهها. ربما اعتقدت أنها، بعد كل هذا الكفاح، ستكون من المرحب بهم في أي مكان.
أما أبي، فكانت لديه رؤى أخرى. لم يكن الأمر أنه اعتقد أن الناس في المدينة أو أي مكان آخر أفضل منه، لكنه ربما كان يعتقد أن ذلك هو ما كانوا يؤمنون به بالفعل؛ وعليه، فضل ألا يمنحهم أبدا الفرصة لأن يظهروا ذلك.
بالنسبة إلى مسألة الجولف، بدا أن أبي هو المنتصر.
بدا وكأنه لم يكن راضيا بالعيش بالأسلوب الذي توقع أبواه أن يعيشه، بإدارة مزرعتهم اللائقة؛ فحينما ترك هو وأمي أهلهما، واشتريا قطعة الأرض هذه الموجودة في نهاية طريق يقع بالقرب من مدينة لم يعلما عنها شيئا، كانت كل فكرتهما تنحصر بالتأكيد في الاغتناء من تربية الثعالب الفضية، ولاحقا حيوانات المنك. وكصبي، وجد أبي نفسه يشعر بسعادة وهو ينصب الشراك للحيوانات أكبر من قيامه بالمساعدة في المزرعة أو الذهاب إلى المدرسة الثانوية - واعتقد أنه سيصبح أغنى أيضا من أي وقت مضى - وراودته تلك الفكرة واستمر في تنفيذها طوال حياته. لقد وضع كل ما يملكه من نقود لتنفيذ هذا الأمر، وساهمت أمي بما كانت تدخره من وراء عملها في مجال التدريس، وبنى كل الحظائر والعشش التي كانت ستعيش بها الحيوانات، وكذلك الجدران السلكية التي كانت ستحبس وراءها. كان حجم قطعة الأرض الذي بلغ 12 فدانا هو الحجم المناسب لهذا الأمر، بجانب وجود حقل قش ومرعى كاف لبقرتنا وللخيول العجائز التي كانت بانتظار القتل لتكون طعاما للثعالب. وكان المرعى يمتد حتى النهر، ويحتوي على 12 شجرة دردار تظلله.
عندما أفكر في الأمر الآن، أجد أنه كان هناك الكثير من عمليات قتل الحيوانات في المزرعة؛ فكان يجب أن تقتل الخيول العجائز لتكون طعاما للثعالب، وكذلك الحال كل خريف بالنسبة إلى الحيوانات الحاملة للفراء، التي لم يكن يترك منها سوى ما كان يستخدم في الاستيلاد. لكني اعتدت على ذلك، وكان من اليسير أن أتجاهله بالكامل، راسمة لنفسي مشهدا نقيا يشبه شيئا نابعا من الكتب التي أحببتها مثل كتاب «آن في المرتفعات الخضراء»، أو «بات التي من سيلفر بوش». كان يساعدني في ذلك أشجار الدردار التي كانت تظلل المرعى، والنهر المتلألئ، والينبوع الذي كان يندفع فجأة من الضفة التي تعلو المرعى، موفرا الماء للخيول المحكوم عليها بالموت، وللبقرة ولي أيضا، وذلك من خلال قدح من الصفيح كنت أضعه هناك. كان السماد الحيواني الطازج موجودا دوما في كافة الأنحاء هناك، لكني كنت أتجاهله مثل آن التي لا بد وأنها كانت تفعل ذلك في المرتفعات الخضراء.
كان علي في تلك الأيام أن أساعد أبي في بعض الأحيان لأن أخي لم يكن قد كبر بدرجة كافية. كنت أضخ الماء النقي، وكنت أتنقل جيئة وذهابا بين الحظائر لأنظف العلب الصفيح التي يشرب منها الحيوانات وأعيد ملأها؛ وكنت أستمتع بذلك. وكان ما أحبه هو أهمية العمل والعزلة المتكررة فقط؛ ولاحقا كان علي أن أمكث بالبيت لأساعد أمي، وكان يملؤني حينها الاستياء وأرد عليها بعدوانية؛ وكان يطلق على هذا «الرد بوقاحة». حينها كانت أمي تقول إنني جرحت مشاعرها، وكانت النتيجة أنها كانت تذهب إلى الحظائر لتشكوني لأبي، والذي كان عليه حينها أن يقطع عمله لكي يضربني بحزامه. (كان هذا عقابا معتادا في تلك الأيام.) وبعدها كنت أرتمي على الفراش وأنا أبكي، وأضع خططا للهروب. لكني تخطيت تلك المرحلة أيضا وأصبحت في مرحلة المراهقة لينة الجانب، بل أصبحت حتى مرحة، ومعروفة بإعادة سردي المسلي للأشياء، سواء أكانت الأشياء التي سمعت عنها في المدينة أم تلك التي وقعت في المدرسة.
كان منزلنا ذا حجم معقول، ولا ندري متي شيد، لكن لا بد أن عمره يقل عن القرن؛ لأن عام 1858 كان العام الذي توقف فيه أول مستوطن في مكان يطلق عليه بودمين - وهو مكان اختفى الآن - وبنى لنفسه طوفا وعبر النهر لقطع الأشجار من الأرض التي أصبحت فيما بعد قرية كاملة؛ وسرعان ما أصبح بتلك القرية البدائية مصنع لنشر الأخشاب، وفندق، وثلاث كنائس، ومدرسة، وهي نفس المدرسة التي كانت مدرستي الأولى والتي كانت تشعرني بخوف شديد. ثم شيد جسر عبر النهر، ثم بدأ الناس يدركون أنه من الأحرى العيش على الناحية الأخرى، على أرض أعلى، وتقلصت المستوطنة الأصلية حتى أضحت أشبه بالقرية الحقيرة التي تحدثت عنها، والتي كانت غريبة حينها فقط.
لا يمكن أن يكون منزلنا ضمن تلك المنازل الأولى التي شيدت في هذه المستوطنة البدائية؛ لأنه كان مبنيا من الطوب، وكانت جميعا من الخشب، لكن من المحتمل أنه أقيم بعدها بفترة ليست بالطويلة؛ فقد كان ظهره يواجه القرية، كان يطل على ناحية الغرب عبر حقول تنحدر قليلا نحو المنحنى المختفي حيث صنع النهر ما كان يطلق عليه منطقة بيج بيند. وفيما وراء النهر كانت هناك مجموعة من الأشجار الدائمة الخضرة الداكنة اللون، ويحتمل أنها كانت أشجار أرز، لكنها كانت تقع على مسافة كبيرة يصعب معها تحديد نوعها بدقة. وهناك على مسافة أبعد على منحدر تل آخر، كان يوجد منزل آخر مواجه لمنزلنا حجمه متناهي الصغر من هذا البعد، لدرجة جعلتنا لم نزره مطلقا أو نعرف عنه شيئا، وكان بالنسبة إلي بمنزلة منزل أحد الأقزام في إحدى القصص. لكننا كنا نعرف اسم الرجل الذي كان يقطنه أو الذي كان يعيش هناك في وقت من الأوقات؛ لأنه ربما يكون قد توفي في الوقت الحاضر. كان اسمه رولي جرين، وهو لا دور له فيما أكتبه الآن بالرغم من اسمه الخرافي؛ لأن هذه ليست قصة، وإنما سرد لجانب من حياتي. •••
تعرضت أمي للإجهاض مرتين قبل أن تلدني؛ لذا عندما ولدت في عام 1931، لا بد أنه كان هناك شعور ببعض الرضا، لكن الأوضاع أخذت تسوء شيئا فشيئا بمرور الوقت. الحقيقة أن أبي دخل مجال تجارة الفراء متأخرا بعض الشيء، والنجاح الذي كان يأمل في تحقيقه كان من الأرجح أن يحدث في منتصف العشرينيات عندما كان الفراء شائعا وقتها منذ فترة قصيرة، وكان الناس تمتلك الأموال، لكنه لم يكن قد بدأ عمله وقتها. لكننا استطعنا الاستمرار في المجال، قبل اندلاع الحرب وخلالها، بل حتى بنهايتها لا بد أنه كانت هناك زيادة مشجعة في حركة البيع؛ لأن هذا الأمر كان في فصل الصيف الذي أصلح أبي المنزل خلاله؛ حيث أضاف طبقة من الطلاء البني فوق الطوب الأحمر القديم. لقد كانت هناك مشكلة ما في الطريقة التي وضع بها الطوب والألواح؛ فهما لم يمنعا دخول البرد كما من المفترض أن يفعلا؛ لذا رأينا أن طبقة الطلاء ستساعد في هذا الأمر، بالرغم من أني لا أتذكر أنها فعلت ذلك على الإطلاق. وبنينا حماما، وتحول مصعد نقل الطعام غير المستخدم إلى خزانات مطبخ، وأضحت غرفة الطعام الضخمة ذات السلم المفتوح غرفة عادية ذات سلم مغلق. أشعرني ذلك التغيير بالراحة بصورة غير ملحوظة؛ لأن ضرب أبي لي كان يتم في تلك الغرفة القديمة مع رغبتي في الموت من جراء ما كان يسببه ذلك من شعور بالبؤس والخزي. أما الآن فذلك التغيير في المكان جعل من الصعب حتى تخيل حدوث شيء كهذا بالأساس. كنت في المدرسة الثانوية وكان يتحسن أدائي كل عام، مع التخلي عن أنشطة مثل التطريز والكتابة بأقلام عادية، وتحول مادة الدراسات الاجتماعية إلى مادة التاريخ، وكان بمقدور المرء تعلم اللغة اللاتينية.
لكن بعد التفاؤل الذي أضفاه موسم إعادة تزيين المنزل هذا، تراجع عملنا ثانية، لكن في هذه المرة لم يرجع إلى سابق عهده ثانية. لقد سلخ أبي جلود كل الثعالب، ثم حيوانات المنك وحصل من ورائها على قدر ضئيل من النقود أصابه بالصدمة. ثم أصبح يعمل بالنهار في هدم الحظائر التي ولد فيها مشروعه ومات، قبل أن يذهب لتسلم دوام حراسة المسبك الذي يبدأ في الساعة الخامسة مساء، ولم يكن يعود إلى المنزل إلا بحلول منتصف الليل.
وبمجرد عودتي من المدرسة كنت أذهب لأعد طعام الغداء لأبي؛ فكنت أقلي شريحتين من لحم الخنزير وأضع الكثير من الكاتشب فوقهما، وكنت أملأ ترمسه بالشاي الأسود الثقيل، وأجهز له مافنا من النخالة وأضع بعض المربى فوقه أو قطعة كبيرة من فطيرة معدة بالمنزل. في بعض الأحيان في أيام السبت كنت أعد فطيرة، وفي أحيان أخرى كانت تعدها أمي بالرغم من أن مهارتها في الخبز كانت تقل مع الوقت.
ثم ألم بنا شيء كان غير متوقع بشكل كبير، وكان أكثر تدميرا من فقدان مصدر دخلنا الرئيسي بالرغم من أننا لم نكن قد عرفنا به بعد. كان ذلك هو بداية ظهور أعراض مرض الشلل الرعاش على أمي، التي أصيبت به حينما كانت في الأربعينيات من عمرها.
لم يكن الأمر سيئا جدا في البداية؛ إذ لم يكن بإمكانها تحريك عينيها لأعلى في شرود إلا نادرا، وكان اللعاب الزائد الذي يتساقط من فمها مرئيا بالكاد حول شفتيها، وكانت تستطيع ارتداء ملابسها في الصباح مع بعض المساعدة، وكانت قادرة على ممارسة المهام المنزلية المعتادة. كانت تستعين ببعض القوة الموجودة في داخلها لفترة طويلة على نحو مدهش.
قد يعتقد المرء أن هذا كان كثيرا؛ فقد ذهب العمل أدراج الرياح، وها هي صحة أمي آخذة في التدهور. ما كان لهذا أن يحدث حتى في الأعمال الأدبية، لكن الشيء الغريب هو أنني لا أتذكر أن هذه الأوقات كانت غير سعيدة؛ فلم تكن هناك حالة من اليأس على وجه الخصوص تحيط بالمنزل؛ ربما لم نكن نعي حينها أن حالة أمي لن تتحسن، بل ستزداد سوءا. وبالنسبة إلى أبي، كان يتمتع بصحة جيدة واحتفظ بها لفترة طويلة. كان يحب الرجال الذين يعملون معه في المسبك إذ يشبهونه إلى حد بعيد، ويعانون من نوع ما من التدهور الاقتصادي أو أضيف إلى أعبائهم الحياتية عبء إضافي. كان يحب العمل الشاق الذي يقوم به، إلى جانب عمله في الحراسة في أول الليل. كان هذا العمل يتضمن سكب المعدن المنصهر في قوالب. كان المسبك يصنع مواقد قديمة الطراز كانت تباع في جميع أرجاء العالم. كان عملا خطيرا، لكن الأمر يرجع إلى مدى حذر المرء، بحسب قول أبي، وكان يحصل على مقابل معقول، وكان أمرا جديدا بالنسبة إليه.
أعتقد أنه كان سعيدا بالابتعاد عن المنزل، حتى لو كان الثمن أداء عمل شاق وخطير. كان سعيدا بالابتعاد والبقاء في صحبة مجموعة من الرجال لديهم مشاكلهم الخاصة لكنهم يتعايشون معها.
وبمجرد أن يغادر المنزل، كنت أشرع في إعداد طعام العشاء. كنت أصنع الأشياء التي أعتقد أنها غريبة مثل المكرونة السباجيتي أو البيض الأومليت، ما دامت أشياء لا تكلف الكثير. وبعد الانتهاء من غسل الأطباق، كان يجب على أختي أن تجففها، وكان يجب علي التشاجر مع أخي ليلقي مياه غسل الأطباق بالخارج في الحقل المظلم (كان بمقدوري أن أفعل ذلك بنفسي، لكني كنت أحب إعطاء الأوامر). ثم كنت أجلس واضعة قدمي في فرن التسخين الذي انخلع بابه، وأقرأ الروايات العظيمة التي كنت أستعيرها من مكتبة المدينة، مثل رواية «شعب مستقل» التي كانت عن الحياة في أيسلندا، والتي كانت أصعب من حياتنا بكثير، لكن كان بها قدر من العظمة اليائسة؛ أو رواية «تذكر الأشياء الماضية» التي كانت عن شيء لم أستطع فهمه على الإطلاق، لكن ليس لدرجة تجعلني أقلع عن قراءتها؛ أو رواية «الجبل السحري» التي كانت عن مرض الدرن، وتحوي مقابلة عظيمة بين ما بدا من ناحية كتصور مبهج وتقدمي للحياة، ويأس مظلم ومثير بعض الشيء من الناحية الأخرى. كنت لا أؤدي واجبات مدرسية على الإطلاق خلال ذلك الوقت الثمين، لكن حينما كان يقترب موعد الامتحانات كنت أذاكر بكد وأظل مستيقظة طوال الليل تقريبا وأنا أحشو ذهني بكل ما كان يتعين علي معرفته. كانت لدي ذاكرة قصيرة الأمد مذهلة، وكنت أستفيد من ذلك جيدا لأحقق ما كان مطلوبا مني.
بالرغم من وجود العديد من المشكلات، كنت أرى نفسي شخصية محظوظة.
كنت أنا وأمي نتحدث معا في بعض الأحيان، في الغالب عن أيام شبابها. حينها، كنت نادرا ما أعترض على نظرتها للأشياء.
ولمرات عدة حكت لي قصة تتعلق بذلك المنزل الذي كان يمتلكه حينها المحارب القديم الذي كان يدعى ويتي ستريتس، الرجل الذي اندهش من طول الوقت الذي أمضيته كي أنهي دراستي. لم تكن القصة تتعلق به لكن بشخص عاش بهذا المنزل قبله بفترة طويلة، وهي امرأة عجوز مجنونة تدعى السيدة نيترفيلد. كانت السيدة نيترفيلد تتسلم بقالتها، كما كنا نفعل جميعا، وذلك بعد أن تطلبها من خلال الهاتف؛ وفي أحد الأيام، كما قالت أمي، نسي البقال أن يرسل لها الزبد، أو نسيت هي أن تطلبه، وبينما كان صبي التوصيل يفتح باب الشاحنة الخلفي، لاحظت الخطأ الذي حدث وشعرت بالاستياء، وكانت مستعدة للتعامل مع الأمر، بطريقة أو بأخرى. لقد كان معها فأس رفعته كما لو أنها كانت تريد عقاب صبي التوصيل - بالرغم من أن هذا الأمر لم يكن خطأه بالطبع - فهرع هو نحو مقعد القيادة وانطلق دون أن يغلق الباب الخلفي للشاحنة.
كانت هناك بعض الأشياء المحيرة بشأن هذه القصة، بالرغم من أنني لم أفكر فيها حينها وكذلك لم تفعل أمي؛ إذ كيف تأكدت السيدة العجوز أن الزبد لم يكن موجودا بين باقي طلبات البقالة؟ ولماذا أتت ومعها الفأس قبل أن تعرف أن هناك خطأ ستجده؟ وهل كانت تحمله معها طوال الوقت في حال وقوع أي شيء يثير حفيظتها بوجه عام؟
يقال إن السيدة نيترفيلد كانت سيدة رقيقة ذات سلوك مهذب حينما كانت أصغر عمرا.
هناك قصة أخرى أكثر إثارة عن السيدة نيترفيلد لأنني كنت جزءا منها، وقد وقعت أحداثها في محيط منزلنا.
كان يوما جميلا من أيام الخريف، ووضعتني أمي في عربة الأطفال لكي أنام، وذلك على الرقعة الصغيرة للمرج الجديد. كان أبي بالخارج في فترة ما بعد الظهيرة - ربما لمساعدة أبيه في المزرعة القديمة، كما كان يفعل في بعض الأحيان - وكانت أمي تغسل بعض الملابس في حوض الغسيل. ولأنني كنت أول مولود، فقد كان هناك كم كبير من ملابس التريكو والأشرطة، وهي أشياء يجب أن تغسل يدويا بحذر بالماء البارد. لم تكن هناك نافذة أمام أمي وهي تغسل وتعصر الأشياء في حوض الغسيل. ولكي تلقي نظرة على الخارج، كان يتعين عليك أن تعبر الغرفة لتصل إلى النافذة الشمالية؛ وذلك يجعلك ترى الطريق الخاص التابع للمنزل الممتد من صندوق البريد حتى المنزل.
لماذا قررت أمي أن تترك الغسيل والعصر لإلقاء نظرة على الطريق، خاصة أنها لم تكن تنتظر قدوم أي شخص؟ لم يكن أبي متأخرا؛ فربما طلبت منه أن يحضر شيئا من متجر البقالة؛ شيئا احتاجته لما كانت ستعده لطعام العشاء، وكانت تتساءل إن كان سيعود للمنزل في وقت مناسب لها لتعده. كانت طباخة مبذرة بعض الشيء في تلك الأيام، بل في الحقيقة كان الأمر أكثر من اللازم، وذلك وفقا لما تعتقده حماتها والنساء الأخريات في عائلة أبي، حيث كانوا يرون أنها تنفق كثيرا في إعداد الطعام.
أو ربما لم يكن الأمر له علاقة بالعشاء، لكن تضمن نوعية ملابس كان يريد شراءها، أو إحدى الخامات اللازمة لرداء جديد كانت تريد صنعه بنفسها.
لم تذكر أبدا لاحقا سبب قيامها بذلك.
لم تكن الهواجس حول طبخ أمي هي المشكلة الوحيدة مع عائلة أبي، بل لا بد أنه كان هناك بعض الجدل حول ملابسها أيضا. أتذكر كيف اعتادت ارتداء فستان لفترة ما بعد الظهيرة حتى لو كانت فقط ستغسل الملابس في حوض الغسيل. كانت تغفو لنصف ساعة بعد وجبة الظهيرة، ودائما ما كانت ترتدي فستانا مختلفا حينما تستيقظ، وحينما كنت أنظر إلى صورها فيما بعد، كنت أعتقد أن موضات اللبس في عصرها لم تكن تناسبها أو تناسب أي شخص. كانت الفساتين دون ملامح، ولم تكن قصة الشعر القصير تناسب وجه أمي الممتلئ الناعم. لكن هذا لم يكن وجه اعتراض أقارب أبي من النساء اللائي كن يعشن على مقربة منا بدرجة تكفي لمراقبتها عن كثب؛ كان كل خطئها يكمن في أن شكلها لم يكن يشبه الشخصية التي من المفترض أن تكون عليها؛ فلم يكن يبدو عليها أنها نشأت في مزرعة، أو أنها نوت أن تظل في إحداها. •••
لم تر سيارة أبي وهي تقترب من المرج، لكنها رأت بدلا منه السيدة العجوز، السيدة نيترفيلد. لا بد أن السيدة نيترفيلد أتت إلينا سيرا من منزلها، وهو نفس المنزل الذي كنت سأرى فيه فيما بعد الرجل ذا الذراع الواحدة الذي كان يغيظني، وامرأته ذات الشعر القصير التي صادفتها مرة واحدة فقط عند المضخة. كان ذلك هو المنزل الذي طاردت فيه السيدة المجنونة صبي التوصيل بفأس بسبب الزبد، وحدث ذلك قبل أن أعرف عنها أي شيء بفترة طويلة.
لا بد أن أمي شاهدت السيدة نيترفيلد مرات عدة قبل أن تراها وهي تسير عبر مرجنا. ربما لم يتحدثا معا من قبل مطلقا، ولكن من المحتمل أنهما قد فعلا. وربما رأت أمي أن هذا الأمر مهم، حتى لو كان أبي قد أخبرها أنه لم يكن ضروريا؛ فربما قال إنه قد يؤدي إلى حدوث مشكلة ما. لكن أمي كانت تبدي تعاطفا مع الأشخاص الذين هم على شاكلة السيدة نيترفيلد، ما داموا لطفاء.
لكنها الآن لم تكن تفكر في الصداقة أو اللطف؛ لقد هرعت خارج باب المطبخ لكي تنتزعني من عربة الأطفال، وتركت الأغطية والعربة في مكانهما وسارعت عائدة إلى المنزل، وهي تحاول أن تغلق باب المطبخ خلفها. لم تكن بحاجة إلى القلق بخصوص الباب الأمامي لأنه كان دوما محكم الغلق.
لكن كانت هناك مشكلة في باب المطبخ؛ على حد علمي، لم يكن به مزلاج ملائم مطلقا، لكن كانت هناك عادة نمارسها في المساء، وهي وضع أحد كراسي المطبخ خلف الباب وإمالته أسفل مقبض الباب بطريقة تجعل من يحاول دفعه للدخول يحدث ضجة فظيعة. في رأيي هذا أسلوب عشوائي إلى حد ما في التأمين، ولا يتماشى أيضا مع حقيقة امتلاك أبي لمسدس في المنزل في أحد أدراج المكتب. كما أنه كان من الطبيعي في منزل رجل كان كثيرا ما يطلق النار على الخيول ليقدمها كطعام للثعالب التي يربيها؛ أن تكون هناك بندقية وبندقيتا صيد، خالية من الرصاص بالطبع.
هل فكرت أمي في استخدام أي سلاح حينما انحشر مقبض الباب في مكانه؟ وهل حملت يوما بندقية، أو حشت واحدة، طوال حياتها؟
هل طاف بذهنها أن السيدة العجوز ربما قدمت فقط للزيارة كأحد الجيران؟ لا أعتقد هذا. لا بد أنه كان ثمة اختلاف في طريقة مشيتها؛ تصميم واضح في طريقة مشي السيدة يشي بأنها ليست بزائر قدم للزيارة عبر المرج، أو جاء بأسلوب فيه ود عبر طريقنا.
من الممكن أن تكون أمي قد ابتهلت حينها للرب ليساعدها في هذا الموقف، لكنها لم تذكر ذلك قط.
كانت تعرف أنه جرى تفقد للأغطية الموجودة في عربة الأطفال؛ لأنها قبل أن تغلق ستارة باب المطبخ، رأت واحدة من تلك الأغطية تتطاير لتستقر بعدها على الأرض. لم تحاول بعدها أن تغلق ستارة أي نافذة أخرى، لكنها جلست في مكان لا يستطيع أحد أن يلمحها منه وهي تمسك بي بين ذراعيها.
لم يكن ثمة طرق هادئ على الباب، ولا أي محاولة دفع للمقعد أيضا، ولم يكن هناك أي ضجيج أو جلبة. كانت أمي تختبئ في مكانها بجوار مصعد نقل الطعام ويراودها أمل يائس بأن الهدوء كان يعني أن السيدة غيرت رأيها وعادت أدراجها إلى منزلها.
لم يكن الأمر كذلك؛ فقد راحت تتجول حول المنزل في تمهل، وأخذت تتوقف عند كل نافذة من نوافذ الطابق السفلي. ولم تكن النوافذ الواقية من العواصف مركبة حينها لأننا كنا في الصيف؛ فكان بإمكانها أن تضغط بوجهها عبر كل لوح من الألواح الزجاجية للنوافذ. وكانت الستائر كلها مفتوحة تماما؛ لأن طقس ذلك اليوم كان جميلا. لم تكن السيدة العجوز طويلة جدا، لكن لم يكن عليها أن تشب لترى ما بداخل المنزل.
كيف عرفت أمي كل هذا؟ لم يكن الأمر أنها كانت تجري هنا وهناك وهي تحملني بين ذراعيها وتختبئ ما بين قطع الأثاث الواحدة تلو الأخرى، وهي تختلس النظر إلى الخارج، ويغمرها الفزع من أن تلتقي بالعيون المحدقة وربما بابتسامة شريرة.
كانت تجلس بالقرب من مصعد نقل الطعام؛ فماذا عساها أن تفعل غير ذلك؟
كان هناك القبو بالطبع، لكن النوافذ كانت صغيرة بدرجة يصعب معها أن يلج أحد خلالها. لكن لم يكن هناك خطاف داخلي لباب القبو، وسيكون الأمر أكثر رعبا إلى حد ما إذا حبست أمي هناك في الظلام ونجحت السيدة العجوز في نهاية المطاف في دخول المنزل والهبوط على درج القبو.
كان هناك أيضا بعض الغرف بالأعلى، لكن كي تصل أمي إليها، كان عليها المرور بالغرفة الرئيسية الكبيرة؛ تلك الغرفة التي سيضربني فيها أبي فيما بعد، والتي فقدت وظيفتها الشريرة عندما أغلق السلم.
لا أدري متى أخبرتني أمي لأول مرة بهذه القصة، لكن يبدو لي أن ذلك كان حيث توقفت الروايات الأولى لها؛ بقيام السيدة نيترفيلد بالضغط بوجهها ويديها على الزجاج بينما كانت أمي تختبئ. لكن في الروايات اللاحقة، كانت هناك نهاية لمجرد النظر للداخل؛ فقد نفد صبرها أو تملكها الغضب، ثم أعقب ذلك الضجيج والجلبة. لم يكن هناك ذكر لأي صراخ؛ ربما لم تكن لدى السيدة العجوز القوة لتفعل ذلك، أو ربما نسيت ما كانت قد قدمت من أجله، بمجرد أن خارت قواها.
على أي حال، يئست السيدة نيترفيلد، وهذا هو كل ما فعلته. وبعد أن أنهت جولتها حول كل الأبواب والنوافذ سارت مبتعدة. وأخيرا واتت أمي الشجاعة لكي تلقي نظرة وسط ذلك الصمت وتنتهي إلى أن السيدة نيترفيلد ذهبت إلى مكان آخر.
لكنها لم تزح المقعد بعيدا عن مقبض الباب حتى جاء أبي.
يجب ألا يفهم من كلامي أن أمي كانت تتحدث عن هذا الأمر كثيرا؛ فلم يكن جزءا من المخزون الذي علمته والذي كنت أجد جانبا كبيرا منه مشوقا؛ ككفاحها لتلتحق بالمدرسة الثانوية، والمدرسة التي تعلمت فيها في مقاطعة ألبرتا، والتي كان الطلاب يصلون إليها على ظهر الخيول، وأصدقائها في المعهد الذي درست به لكي تصبح معلمة، والحيل البريئة التي كانوا يمارسونها.
كنت أستطيع دوما تبين ما كانت تقوله، بالرغم من أن الآخرين في العادة كانوا لا يستطيعون ذلك بعد أن اعتل صوتها. كنت أنا مترجمتها، وفي بعض الأحيان كنت أشعر ببؤس شديد حينما يجب علي أن أعيد عبارات طويلة أو ما كانت تعتقد أنه مزاح، وكنت أرى أن الناس اللطفاء الذين أوقفتهم كي تتحدث إليهم يتوقون بشدة للتملص منها.
لم يكن تفقد السيدة نيترفيلد لمنزلنا - كما كانت أمي تطلق على زيارتها لنا - بشيء من المفترض أن أتحدث عنه ، لكن لا بد أني علمته منذ فترة طويلة. إني أتذكر أني سألتها في وقت ما إن كانت تعرف ما حدث لهذه السيدة فيما بعد.
قالت: «لقد أخذوها. أوه، أعتقد هذا. فلم يكن ليتركوها تموت وحيدة.» •••
بعدما تزوجت وانتقلت إلى فانكوفر، كانت الصحيفة الأسبوعية، التي كانت تنشر بالمدينة التي نشأت بها، لا تزال ترسل إلي؛ أعتقد أن شخصا ما، ربما أبي وزوجته الثانية، قد عمل لي اشتراكا بها كي تصل إلي في منزلي. ونادرا ما كنت ألقي نظرة عليها، وحينما فعلت ذات مرة، رأيت اسم نيترفيلد. لم يكن اسم شخص كان يعيش في المدينة في الوقت الحاضر، لكن على ما يبدو أنه كان لقب عائلة سيدة في بورتلاند، بأوريجون، كتبت خطابا إلى الصحيفة، وهذه السيدة كانت لا تزال مشتركة في جريدة مدينتها مثلي أنا، وقد كتبت قصيدة عن طفولتها هناك تقول فيها:
أعرف منحدر تل عشبي
فوق نهر رائق
إنه مكان يسوده الهدوء والبهجة
له ذكرى عزيزة جدا علي ...
كان هناك العديد من الأبيات، وبمجرد أن شرعت في قراءتها، بدأت أدرك أنها كانت تتحدث عن نفس سهول النهر التي اعتقدت أنني عشت بجوارها.
كتبت تقول: «إن أبيات الشعر المرفقة تتحدث عن ذكرياتي عند منحدر التل القديم هذا؛ فإن رأيتم أنها تستحق أن تشغل مساحة صغيرة في صحيفتكم المحترمة دوما، فسأكون شاكرة لذلك.»
الشمس الساطعة فوق النهر
تتمايل أشعتها دون توقف
وفوق الضفة الأخرى
زهور برية ومبهجة ...
تلك كانت ضفتنا؛ ضفتي. كان هناك بيت آخر عن مجموعة من أشجار القيقب، لكني أعتقد أنها أخطأت في ذلك؛ لأني أتذكر أنها كانت أشجار دردار، ماتت جميعها الآن بسبب مرض الدردار الهولندي.
أما باقي الخطاب، فقد جعل الأمور أوضح؛ إذ قالت المرأة إن أباها - الذي كان اسمه نيترفيلد - قد اشترى قطعة أرض من الحكومة عام 1883 في مكان أطلق عليه فيما بعد لوور تاون، وكانت تلك الأرض تنحدر نحو نهر ميتلاند.
عبر المجرى المحاط بزهور السوسن
يمتد ظل أشجار القيقب
وعلى الحقل الندي للنهر
تطعم أسراب الإوز الأبيض.
أغفلت، كما كنت سأفعل أنا تماما، كيف أن نبع المياه كان يتعكر ويتلطخ بسبب حوافر الخيول. وبالطبع لم تذكر أيضا الروث الذي كانت تخلفه.
في الواقع لقد ألفت ذات مرة بعض الأبيات التي كانت ذات طبيعة مشابهة جدا لتلك الأبيات، بالرغم من أنها قد فقدت كلها الآن، وربما لم أكن قد دونتها مطلقا بالأساس. كانت أبياتا تثني على الطبيعة التي كان من الصعب حينها بعض الشيء أن تتمها. ربما نظمتها تقريبا في الوقت الذي كنت فيه غير متسامحة مع أمي، وكان أبي يضربني بشدة لإخراج القسوة مني، أو لإخراج الجانب المظلم من داخلي، كما كان يقول الناس حينها.
قالت هذه المرأة إنها قد ولدت عام 1876، وأمضت شبابها، حتى تزوجت، في بيت أبيها الذي كان موجودا في آخر حدود المدينة وبداية العراء، ويمكن أن ترى من خلاله منظر الغروب بوضوح.
إن هذا هو منزلنا. •••
هل من الممكن أن أمي لم تكن تعرف ذلك مطلقا، لم تكن تعرف مطلقا أن منزلنا عاشت فيه عائلة نيترفيلد، وأن السيدة العجوز كانت تنظر عبر نوافذ ما كان منزلها يوما ما؟
من الممكن أن يكون الأمر كذلك؛ فحينما تقدمت في العمر، أصبح لدي شغف جعلني أبحث في السجلات وأقوم بالعمل الممل المتعلق بالتنقيب عن بعض الأشياء، وقد وجدت أن هناك عدة عائلات مختلفة امتلكت ذلك المنزل فيما بين الفترة التي باعته فيها عائلة نيترفيلد والوقت الذي انتقل فيه والداي للعيش به. قد يتساءل المرء: لم بيع بالرغم من أن المرأة كانت لا تزال على قيد الحياة، وكانت بصحة جيدة تؤهلها للعيش لعدة سنوات أخرى؟ هل لأنها أصبحت أرملة ولم يكن لديها ما يكفي من النقود؟ من عساه أن يعرف ذلك؟ ومن عساه أن يكون ذلك الشخص الذي جاء ليأخذها، كما قالت أمي؟ ربما كانت ابنتها؛ نفس المرأة التي كتبت القصيدة والتي عاشت في أوريجون. ربما كانت تلك الابنة، التي كبرت الآن وأضحت بعيدة، هي التي كانت تبحث عنها السيدة العجوز في عربة الأطفال، وذلك بعد أن انتزعتني أمي، كما قالت، خوفا على حياتي العزيزة عليها.
لم تكن الابنة تعيش بعيدا عني كثيرا لفترة ما في حياتي البالغة. كان بإمكاني مراسلتها، أو ربما زيارتها، لكني كنت مشغولة للغاية بعائلتي الصغيرة وكتاباتي التي كانت دوما غير مرضية بالنسبة إلي. لكن الشخص الذي كنت أود التحدث إليه حقا حينها هو أمي التي كانت قد ماتت حينها. •••
لم أعد إلى منزلي في فترة مرض أمي الأخير أو لحضور جنازتها؛ لقد كان لدي طفلان صغيران، ولم يكن هناك أحد في فانكوفر يمكن أن أتركهما عنده، وكنا بالكاد نستطيع تدبير نفقات الرحلة، وكان زوجي يزدري الرسميات، لكن لماذا ألقي باللوم عليه في هذا الشأن؟ لقد كان لدي نفس الشعور. نحن نقول عن أشياء إنها لا يمكن أن تغتفر، أو إننا لن نسامح أنفسنا بسببها، لكننا نفعلها؛ نفعلها طوال الوقت.
Неизвестная страница