فإذا أحب بعضهم أن يذهبوا إلى أكثر من ذلك تواصوا فيما بينهم ألا يخبروني؛ لأني لا أصلح لمثل موقفهم.
وانضم إلى جماعتنا ثلاثة
2
من نوابغ خريجي مدرسة الحقوق كانت لهم ثقافتهم القانونية والسياسية، ودب في الجماعة روح التفكير القومي: فهذا البلد ضعيف مسكين متأخر في جميع مرافقه، ونحن الشباب يجب أن نفكر ونعمل في تقدمه وإعلاء شأنه رغم الاحتلال وسيطرته، فلنؤلف لجانا لدراسة مصر من نواحيها المختلفة: لجنة للناحية الاقتصادية، وأخرى للناحية السياسية ولجنة للتربية والتعليم، ولتفعل كل لجنة فعل الطبيب يشخص المرض ويصف العلاج، وفعلت اللجان ذلك وبدأت الجماعة تعمل؛ لكن عصفت الرياح باللجان كلها؛ وبقيت - بحمد الله - «لجنة التأليف والترجمة والنشر» سن قانونها أحد الأعضاء القانونيين، وقرئ على الأعضاء مجتمعين، وعدل ونقح، والتزم كل عضو أن يدفع عشرة قروش في كل شهر، وأن يجتمع مجلس إدارتها في بيت عضو من أعضائها، وبدأ بعض الأعضاء العلميين يؤلف كتبا في الكيمياء لطلبة المدارس الثانوية، يحضر كل بابا ويقرؤه على الآخرين فينقحونه ويهذبونه، فإذا فرغوا منه قدموه للطبع؛ فإذا لم يكف ما جمع من عشرات القروش أقرض اللجنة بعض الأغنياء من الأعضاء ليتم طبع الكتاب؛ فكان هذا أول حجر في بناء اللجنة.
وقد تكونت اللجنة على هذا المنوال سنة 1914. ونحن الآن سنة 1953 فيكون قد مضى عليها أكثر من ست وثلاثين سنة، وقد طبعت من الكتب أكثر من مائتي كتاب، وكانت لا تقرر كتابا إلا إذا حولته على اثنين خبيرين بالموضوع يبديان فيه رأيا بالصلاحية أو عدمها، أو حاجته إلى التعديل، ولبثت طول هذه المدة رئيسا للجنة يعاد انتخابي فيها رئيسا لها كل عام. وازداد عدد أعضائها إلى أكثر من ثمانين عضوا من خيرة المتعلمين. وزادت رابطة الألفة بين الأعضاء، حتى شبهها الناس بالماسونية. وكل عضو فيها يشجع اللجنة بما يقدر عليه، وأسست لها مطبعة خاصة. كما أسست مجلة اسمها الثقافة تنشر فيها الآراء على مبادئها واستمرت نحو أربعة عشر عاما ثم أوقفتها هذا العام سنة 1953 لما تتكبد فيها من خسائر، وقد حزن الأعضاء والقارئون على وقوفها، ولكن ماذا يجدي الحزن العاطفي أمام الخسائر الفادحة؟
ونمت مالية اللجنة من هذه العشرات من القروش ومن الأرباح من الكتب حتى بلغت أكثر من ستين ألفا من الجنيهات. وشغلت هذه اللجنة جزءا كبيرا من حياتي. فكنت أذهب إليها كل يوم أدير شئونها وأطلع على مشاركها: وأقرأ بريدها وأؤشر على ما يلزم في هذا البريد. ولم ينقطع ترددي عنها كثيرا إلا بعد مرضي؛ وقد كانت اللجنة تسكن أولا في بيت عضو من أعضائها. ثم استأجرت مكانا متواضعا في حي بلدي. ثم اشترت بيتا في حي أرستقراطي بنحو 20 ألف جنيه. وأخيرا وبعد أن وقفت على رجليها منحتها الحكومة مبلغا من المال يقرب من تسعمائة جنيه كل سنة،أفردناه في دفاتر خاصة وطبعنا به كتبا خاصة، نبيعها بتكاليفها تقريبا، وتحاسبنا الوزارة على هذا البند وحده، وعلى الجملة كانت هذه اللجنة مشغلة لي، أسأل عنها، وأحاسب نفسي عنها كما أحاسبها على أولادي، وأستعين بأعضاء مجلس إدارتها الكرام على تنظيم شئونها، وترتيب أمورها، وأحمد الله على التوفيق فيها.
3
على كل حال كانت هذه اللجنة نتيجة لصداقة هؤلاء الأصحاب الذين ذكرت بعض صفاتهم. وحظيت بصداقتهم.
وبهؤلاء الصحاب أحسست أني أقرب من عقليتهم ومزاجهم وثقافتهم شيئا فشيئا، وأبتعد عن عقلية زملائي الأقدمين ومزاجهم شيئا فشيئا، ورأيتني - بفضل ما شوقوني من كتب - أكون لنفسي نواة من الكتب الإنجليزية بجانب الكتب العربية، وأحضر دروسي منها في الأخلاق والمنطق، وأملأ الفراغ بالمطالعة في هذه وتلك، وإذا العين تنفتح والأفق يتسع.
الفصل التاسع عشر
Неизвестная страница