لم تعد أمي تولي اهتماما كبيرا للأوبرا؛ فلقد حفظت الشخصيات والحبكة وصارت تتعرف على الألحان المشهورة ولم يعد هناك شيء جديد لتعرفه. أحيانا كانت تخرج من المنزل؛ إذ كانت لا تزال تقوم بجولاتها من أجل بيع الموسوعات، فكانت تذهب لأولئك الذين اشتروا الموسوعة كي تقنعهم بشراء الملحقات التي تصدر سنويا. لكنها لم تكن بخير، في البداية ابتليت بسلسلة من الأمراض غير الشائعة: الثآليل الأخمصية، والتهاب العين، وتورم الغدد، وطنين في الأذن، ونزيف الأنف، وطفح جلدي قشري غامض. ظلت ترتاد عيادة الطبيب، وكلما برئت من شيء أصابها شيء آخر. ما كانت تعاني منه فعلا هو نضوب طاقتها، وتدهور صحتها بشكل عام، وهو ما لم يعرفه أحد. غير أن هذه الحالة المتدهورة لم تكن ثابتة؛ فقد كانت في بعض الأحيان تكتب خطابات للصحيفة وكانت تحاول أن تعلم نفسها علم الفلك. لكنها كانت أحيانا تستلقي في فراشها وتناديني كي أدثرها بالغطاء، وكنت دائما ما أفعل هذا بعدم اكتراث، حتى إنها كانت تناديني ثانية كي أحكم الغطاء عند ركبتيها وحول قدميها، حينها كانت تقول بصوت شكس طفولي مصطنع: «قبلة لماما.» فكنت أطبع قبلة جافة هزيلة على صدغها. كان شعرها يخف، وكانت بشرتها الشاحبة لها مظهر غير صحي ينم عن المعاناة كنت أمقته.
على أية حال، فإنني كنت أفضل أن أكون بمفردي حينما أستمع إلى عروض أوبرالية مثل «لوشيا دي لامرمور» و«كارمن» و«لاترافياتا». مقاطع موسيقية معينة كانت تثيرني لدرجة لا أستطيع معها أن أظل ساكنة في مكاني، فأنهض وأظل أتحرك في أرجاء حجرة الطعام، وأغني في سري مع الأصوات التي تنبعث من الراديو وأنا أحتضن نفسي وأعتصر مرفقي. ثم تمتلئ عيناي بالدموع بينما تلتهب بداخلي التخيلات التي تتولد بسرعة ورفق. فتخيلت حبيبا، وتخيلت جوا عاصفا، وتخيلت المجد الخافق لعاطفتنا المقدر له الفشل. (لم يخطر ببالي قط أنني أفعل ما قال المقال إن المرأة تفعله عند تعاملها مع عمل فني.) استسلام شهواني، ليس استسلاما لرجل وإنما استسلام للقدر، استسلام للظلام، استسلام للموت. ولكن كان أكثر ما أحبه هو أوبرا كارمن في نهايتها، وأخذت أدندن موسيقى «ودعني أذهب.» كنت أرتجف وأنا أتخيل الاستسلام الآخر، إنه أكثر إغراء وأكثر جمالا من الاستسلام للجنس؛ إنه استسلام البطل، استسلام الوطني، استسلام كارمن للأهمية النهائية للإشارة، وللصورة، وللنفس التي خلقتها النفس.
كانت الأوبرا تشعرني بالجوع، وعندما انتهت ذهبت إلى المطبخ وأعددت لنفسي شطائر من البيض المقلي مع قطع البسكويت الملتصقة معا بالعسل وزبدة الفول السوداني، ومعها مزيج سري كريه من الكاكاو وشراب الذرة والسكر البني وجوز الهند مع الجوز المقشر، والذي يجب أن يؤكل بالملعقة. كان الأكل بنهم في البداية يرضيني ثم يصيبني بعد ذلك بالاكتئاب كما تفعل ممارسة العادة السرية (العادة السرية؛ قرأت أنا وناعومي في كتب أمها كيف أن الفلاحات في شرق أوروبا يمارسنها باستخدام الجزر وتمارسها السيدات في اليابان باستخدام كرات ذات ثقل، ويمكن التعرف على من اعتادت ممارستها من النظرة الفاترة في عينيها وملمس بشرتها التي تشبه بشرة مرضى الكبد، وكنا نطوف جوبيلي باحثات عن هذه الأعراض ونحن نفكر أن هذا الأمر بأكمله غريب وطريف ومثير للغثيان، بل إن كل ما كنا نكتشفه عن الجنس كنا نحوله إلى مهرجان إما للضحك أو للشعور بالغثيان، أو كما كنا نقول «نضحك حتى يصيبنا الغثيان.» أما الآن فلم نعد نتحدث عن هذا الأمر أبدا.) أحيانا بعد أن أسرف في تناول الطعام، كنت أصوم عن الطعام ليوم أو اثنين، وأشرب جرعة كبيرة من الملح الإنجليزي المذاب في ماء دافئ وأنا أفكر أن السعرات الحرارية لن تبقى في جسدي إذا استطعت أن أطرد كل ما بجسدي بسرعة. لم أصبح بدينة حقا، وإنما كان جسمي ممتلئا ومشدودا بما فيه الكفاية، حتى إني كنت أحب أن أقرأ الروايات التي توصف فيها المناطق الممتلئة في جسد البطلة بشكل ناعم ومثير جنسيا، وفي الوقت نفسه كنت أقلق من الروايات التي تكون فيها النساء المثيرات كلهن نحيفات، ولكي أطمئن نفسي كنت أردد لنفسي بيت الشعر القائل: «العشيقات ذوات السيقان الممتلئة الناعمة المرمرية.» كنت أحب هذا ، وأحب كلمة «عشيقة»، وهي كلمة أتخيل صاحبتها ترتدي تنورة ضيقة عند الخصر ومنفوشة عند السيقان؛ العشيقة لا يجب أن تكون شديدة النحافة. كنت أحب أن أطالع نسخة لوحة «المستحمون» لسيزان في الملحق الفني للموسوعة ثم أنظر لنفسي عارية في المرآة، لكن كان الجانبان الداخليان لفخذي يرتعشان كقالب من الجبن القريش في كيس شفاف.
في ذلك الوقت، كانت ناعومي تبحث حولها لترى الاحتمالات المتاحة.
كان ثمة رجل يدعى بيرت ماثيوز - أعزب في الثامنة والعشرين أو التاسعة والعشرين من عمره، وله وجه مرح مضطرب وشعر يبدو كقبعة من الفراء مدفوعة إلى الخلف على فروة رأسه المغضنة - يتردد بانتظام على مكتب محل الألبان، وكان يعمل مفتش دواجن. قصت لي ناعومي باشمئزاز ما كان يقول لمولي وكارلا؛ فكان دائما ما يسأل مولي إذا ما كانت حاملا، وكان يتسلل حولها محاولا أن يلحظ بطنها من الجانب، وكان يعطي كارلا نصائح عن شهر العسل المقبل. وكان يطلق على ناعومي «كعكة الزبدة»، وعندما يراها في الطريق كان يبطئ سيارته ويطلق نفيرها نحوها فتستدير هي مبتعدة قائلة: «يا ربي، أنقذني من هذا الأحمق!» وتعبس في انعكاس صورتها في زجاج المتجر.
راهنها بيرت ماثيوز بعشرة دولارات أنها لن يسمح لها بمقابلته في قاعة رقص «جاي لا». وأرادت ناعومي أن تذهب وقالت إن هذا من أجل الدولارات العشرة ولكي تثبت له أنها تستطيع أن تذهب إلى هناك. صحيح أن والدتها لم تكن لتسمح لها بأن تذهب إلى تلك القاعة، لكن والدتها كانت خارج المدينة في مهمة تمريض، ولم يكن أمر والدها يقلقها إطلاقا، فكانت تقول عنه دوما: «إنه يخرف»، كما لو أنها تستمتع بالرنين الطبي للكلمة. كان يقضي وقته في غرفته مع الإنجيل والكتب الدينية خاصته يصنف النبوءات.
أرادت ناعومي أن أذهب معها وأبيت الليل عندها في بيتها وأقول لأمي إننا سنذهب إلى مسرح الليسيوم. شعرت أنه لا يوجد أمامي خيار سوى أن أفعل هذا؛ ليس لأن ناعومي تريدني أن أفعل هذا، وإنما لأنني كنت أكره قاعة «جاي لا » وأخشاها بحق.
كانت قاعة «جاي لا» تقع على بعد نصف ميل شمال المدينة على الطريق السريع، وكانت مغطاة بجذوع شجر صناعية لونها بلون الشوكولاتة، ونوافذها لم يكن بها زجاج، وإنما لها مصاريع لوحية تغلق بإحكام خلال النهار وتفتح حين يحين وقت الرقص. عندما كنت أمر بالسيارة مع أمي من هذا المكان كانت تقول: «انظري إلى سدوم وعمورة.» كانت تشير إلى عظة ألقيت في الكنيسة المشيخية تشبه قاعة رقص «جاي لا» بهاتين القريتين وتتوقع لها مصيرا مشابها (يقال إنها القرى التي كان نبي الله لوط يعيش فيها). حينها قالت أمي إن هذا التشبيه غير صحيح؛ لأن سدوم وعمورة لقيتا هذا المصير بسبب ممارسات غير طبيعية. (فقالت فيرن دوجرتي بغموض وثقة عندما شرحت لها أمي ذلك: «طبيعية أو غير طبيعية، على حسب، أليس كذلك؟») كانت أمي في موقف مرتبك؛ فمن حيث المبدأ عليها أن تسخر من موقف الكنيسة المشيخية، لكن على الجانب الآخر كان مجرد مرأى قاعة «جاي لا» - على ما أعتقد - يشعرها بإحساس الفساد العظيم نفسه الذي يشعر به المشيخيون. وكنت أنا أراها من وجهة النظر نفسها، تلك القاعة بنوافذها المعتمة في ذلك الحقل الخرب القذر، فكنت أراه برمته مكانا أسود سيء السمعة.
وفي غابة الصنوبر خلف القاعة، كانت الواقيات الذكرية تتناثر، يبدو شكلها كجلود ثعابين قديمة، هذا ما كان الجميع يقولونه.
انحرفنا عن الطريق السريع في ليلة جمعة وكل منا ترتدي فستانا مزينا بالزهور، تنورته طويلة وذات طيات متعددة محكمة عند الوسط. كنت قد بذلت قصارى جهدي كي أتزين؛ فاغتسلت وأزلت شعري الزائد واستخدمت مزيلا لرائحة العرق وصففت شعري لأعلى، وارتديت تنورة تحتية من قماش القرينول خشنة ومثيرة للحكة عند الفخذين، وصدرية كان من المفترض أن تضغط خاصرتي، لكنها قرصت على حجابي الحاجز وتركت انتفاخا صغيرا تحته، لدرجة اضطرتني أن أضيق حزامي البلاستيكي فوقها. ضيقت الحزام لخمس وعشرين بوصة وكنت أتعرق تحته. وضعت على وجهي وعنقي مسحوق تجميل لونه بيج يشبه الطلاء، وطليت شفتي باللون الأحمر بشكل سميك حتى بدت كالوردة الحمراء المصنوعة من الحلوى التي يزين بها الكعك. وانتعلت صندلا تعلق به حصى الطريق. أما ناعومي فقد انتعلت حذاء ذا كعب عال. كنا في شهر يونيو وكان الجو دافئا ناعما يعج بالحشرات، والسماء تبدو خلف أشجار الصنوبر السوداء كقشرة نبات الدراق، والكون يبدو جميلا، فقط لو لم أكن مضطرة للذهاب لقاعة الرقص.
Неизвестная страница