وصلت بالكاد في الوقت المناسب؛ فقد توقف الجرس عن الدق وبدأت ترنيمة على الأرجن، ودخل القس من الباب الجانبي - الذي لا بد وأنه يقود إلى غرفة ملابس الكهنة - على رأس الجوقة التي كانت تتكون من ثلاث سيدات ورجلين. كان القس شابا مستدير الرأس باسم الثغر لم أره من قبل، كنت أعلم أن الكنيسة الأنجليكانية لا يمكنها تحمل تكلفة القس وحدها وأنها تشارك قسا مع بورترفيلد وبلو ريفر، فلا بد أنه يعيش في إحدى هاتين المدينتين. وكان يرتدي حذاء مخصصا للجليد تحت ثيابه.
تحدث باللكنة البريطانية قائلا: «أيها الإخوة الأحباء، إن الكتاب المقدس يحثنا في مواضع مختلفة على الإقرار والاعتراف بآثامنا وشرورنا المختلفة ...»
كان ثمة لوح أمام كل مقعد ينحنون عليه للقراءة منه، تقدم الجميع للأمام وهم يقلبون أوراق كتب الصلوات، وعندما انتهى القس من دوره بدأ الجميع يرددون شيئا. نظرت في كتاب الصلوات الذي وجدته أمامي على الرف ولكنني لم أعثر على الموضع الذي كانوا يقرءون منه، فاستسلمت وظللت أستمع لما يقولون. وفي الناحية الأخرى من الممر وعلى المقعد الخشبي الذي يسبق مقعدنا، كانت امرأة عجوز طويلة نحيفة ترتدي غطاء رأس يشبه العمامة (تربان) مخمليا أسود. لم تفتح تلك المرأة كتاب الصلوات، فلم تكن بحاجة إليه، بل انحنت مستقيمة ورفعت وجهها الشاحب القاسي باتجاه السماء - فذكرتني بصورة أحد فرسان الحملات الصلييبة في الموسوعة التي أملكها في المنزل - قادت تلك المرأة كل الأصوات الأخرى في الاجتماع، بل إنها سيطرت عليها بالفعل، حتى إنها لم تكن سوى مجرد صدى ضبابي لصوتها، الذي كان مرتفعا حزينا غنائيا جذلا لا يخلو من الشجن: ... لم نفعل ما علينا فعله، وفعلنا ما لا يجب علينا فعله، ولا صحة فينا، لكن ارحمنا يا الله نحن المذنبين الأشقياء. ارحم يا رب أولئك الذين يعترفون بخطاياهم. ورد التائبين كما وعدتنا في المسيح يسوع مخلصنا ...
واستمر الحال على هذا قليلا، ثم بدأ القس بصوته الإنجليزي الجميل الإيقاعي رغم أنه كان أكثر تحفظا؛ واستمر هذا الحوار بإيقاع ثابت يعلو ويهبط بثقة دائمة، والعواطف المفعمة بالحياة يعبر عنها أرقى قنوات التواصل اللغوي وتجتمع في نهاية الأمر في عذوبة ووفاق تام.
يا رب ارحمنا.
يا يسوع ارحمنا.
يا رب ارحمنا.
وهكذا، كان هنا ما لم أعرفه من قبل، ولكنني شككت دائما بوجوده، وهو ما قضى عليه كل الميثوديين والأبرشانيين والمشيخيين بخوف، إنه ذلك الجانب المسرحي في الدين. منذ أول لحظة شعرت بالسعادة الغامرة، فالعديد من الأمور قد جلبت لي السرور؛ مثل الانحناء على اللوح الخشبي والوقوف والانحناء مرة أخرى وتحويل الرأس إلى المذبح عند ذكر اسم يسوع، وقراءة قانون الإيمان المسيحي الذي أحبه بفضل الابتهال بأشياء غريبة رائعة نؤمن بها. وكنت أحب أيضا إطلاق اسم يسوع على المسيح أحيانا، فهذا الاسم يجعله يبدو أكثر ملكية وسحرا كما لو كان ساحرا أو إلها هنديا، وأحببت أيضا النقش باسم يسوع على تصميم شعار المنبر الثري العتيق البالي. كما أسعدني كذلك الفقر الذي تبدو عليه الكنيسة وصغر حجمها وحالتها الرثة، ورائحة العفن أو الفئران وغناء الجوقة الهزيل وانعزال المصلين، وشعرت بأنه إذا كان هؤلاء هنا، فكل شيء حقيقي على الأرجح. والشعائر التي في ظروف أخرى كانت لتبدو مصطنعة خالية من الحياة، كانت هنا تبدو وكأنها محاولة أخيرة للحفاظ على الكبرياء. إنه ثراء الكلمات في مقابل فقر المكان. فإذا لم أتمكن من استشعار أثر الرب فعلى الأقل يمكنني استشعار أثر عصره القديم من القوة، القوة الحقيقية لا تلك التي يتمتع بها اليوم في الكنيسة المتحدة، استطعت أن أتذكر الترتيب الهرمي الشهير والتقويم الرائع العتيق البالي للأعياد والقديسين. كانوا موجودين في كتاب الصلوات، فقد فتحته على تلك الصفحة مصادفة: أعياد القديسين. هل يتذكرها أحد ويحتفي بها؟ جعلتني أعياد القديسين أفكر في شيء مختلف تماما عن جوبيلي: مخازن التبن المفتوحة، وبيوت المزارع نصف الخشبية، وصلاة التبشير، والشموع، وموكب من الراهبات يسرن في الثلوج في نزهة الدير يخيم عليهن الهدوء؛ عالم من الثراء والمعتقدات الراسخة والأمان. فإذا أمكننا اكتشاف الرب أو تذكره فسوف يصبح كل شيء آمنا، وسوف ترى عندئذ الأشياء التي رأيتها - حبيبات الخشب الباهتة في ألواح الأرض الخشبية، والنوافذ الزجاجية غير المزخرفة ومن ورائها الأغصان الرقيقة والسماء التي تنهمر منها الثلوج - ويختفي الألم الغريب القلق الذي يتسبب فيه مجرد رؤية الأشياء. بدا لي واضحا أن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن تحمل العالم بها - نعم «الطريقة الوحيدة التي يمكن تحمل العالم بها» - إذا كانت كل تلك الذرات - تلك المجرات من الذرات - آمنة طوال الوقت تدور في عقل الرب، فكيف يمكن للناس أن تطمئن؟ بل كيف يمكن لهم أن يستمروا في التنفس والوجود حتى يتأكدوا من ذلك؟ إنهم مستمرون بالفعل، وهكذا فلا بد أنهم متأكدون.
وماذا عن أمي؟ نظرا لأنها أمي، فإنها لا تدخل في الاعتبار، ولكن حتى هي عندما تحاصر فإنها تقول بالطبع لا بد وأن هناك شيئا ما أو نوعا من «التخطيط»، ولكنها تحذر من عدم جدوى إضاعة الوقت في التفكير فيه لأننا لن نفهمه على أية حال، وثمة الكثير مما يجب علينا التفكير فيه إذا أردنا محاولة تحسين حياتنا هنا والآن من قبيل التغيير، وبعد الموت سوف نكتشف أمر ما تبقى، إذا كان ثمة بقية.
لم تكن أمي على استعداد حتى لأن تقول «لا شيء» على كل هذا، وأن ترى نفسها وكل عصا وحجر وريشة في هذا العالم تطفو بحرية في ذلك الظلام المخيف الميئوس منه. كلا.
Неизвестная страница