فقالت أمي بحدة: «هل تشعرين بالغثيان؟»
كانت تخشى من أن أكون على وشك التقيؤ، فقد كنت أنا وأوين معتادين على التقيؤ في المواقف المحرجة. فهززت رأسي وانزلقت من على المقعد وخرجت واختبأت في السيارة وأنا أمسك معدتي. ولكن أمي أدركت عندما أتت خلفي أن ثمة شيئا أكبر من ذلك.
فقالت في لهجة عملية: «إنك تصابين بالخجل، لقد ظننت أنك تستمتعين بذلك.» وبدأ الوخز مرة أخرى. كانت تلك هي المشكلة بالضبط، كنت أستمتع بذلك، ولم يكن لائقا منها أن تقول ذلك. وقالت بلهجة متباهية: «الخجل والارتباك، تلك هي الرفاهيات التي لا يمكنني تحملها.» وأدارت محرك السيارة مردفة: «رغم ذلك أقول لك إن ثمة أفرادا في عائلة والدك لن يفتحوا أفواههم بكلمة أمام الناس، حتى إذا كان ذلك ليقولوا إن بيتهم يحترق.»
ومنذ ذلك الحين عندما كانت أمي تسألني برفق: «هل ترغبين في الإجابة على بعض الأسئلة اليوم؟» كنت أنزلق في المقعد وأهز رأسي نفيا وأقبض على معدتي في إشارة للاحتمال السريع لعودة الشعور بالغثيان. كان على أمي أن تستسلم، والآن عندما كنت أخرج معها في السيارة في أيام السبت أصبحت مثل أوين تماما، شحنة مجانية عديمة الجدوى، ولم أعد شريكة في مشروعاتها. وقالت هي: «تريدين إخفاء مواهبك وعقلك بدافع الحماقة، هذا ليس المستقبل الذي أتطلع إليه. افعلي ما تشائين.»
لكن كان لا يزال بداخلي آمال غامضة لخوض مغامرة، وشاركني أوين في هذه الآمال، على الأقل على المستوى الأكثر مادية. كنا نأمل في شراء حقائب من الحلوى البنية الذهبية المقطعة إلى مكعبات كالطوب الإسمنتي، والتي تذوب في الفم في الحال، وتباع في متجر واحد في القرية، مغطى بستائر تشبه لجام الفرس وتفوح منه رائحة الخيول. وكنا نأمل على الأقل في أن نقف للتزود بالبنزين في مكان يبيع المشروبات الغازية الباردة. وكنت آمل في السفر بعيدا حتى بورترفيلد أو بلو ريفر، وهي مدن تستمد سحرها من كونها أماكن لا نعرفها ولسنا معروفين فيها، من كونها ليست جوبيلي. وبينما أسير في شوارع إحدى تلك المدينتين أشعر بأنني مجهولة كحلية أو كذيل طاووس، ولكن بحلول العصر، تكون تلك الآمال إما انحسرت أو تحقق بعضها، وهو ما يخلف فراغا دائما. وأمي أيضا كانت تمر ببعض لحظات التدهور من تلك القوى الوحشية التي دفعتها إلى الخارج هنا في المقام الأول. ومع اقتراب حلول الظلام، والهواء البارد يتسلل من فتحة في أرض السيارة، وصوت المحرك المتعب، ولا مبالاة الريف؛ كنا نشعر بالتقارب بيننا ونشتاق إلى منزلنا. كنا نقود عبر قرية لا نعرف أننا نحبها، لا متعرجة ولا مسطحة بل متهدمة بلا إيقاع معروف، وهي ذات تلال منخفضة ووديان تمتلئ بالآجام، ومستنقع وشجيرات وحقول، وأشجار الدردار شاهقة الارتفاع - التي تقف كل منها منفصلة واضحة الشكل - تبدو مقدرا لها الهلاك، ولكننا لم نعرف ذلك أيضا. كانت تبدو مثل مراوح مفتوحة قليلا، وأحيانا على شكل القيثارة.
كانت جوبيلي مرئية من فوق مرتفع على بعد حوالي ثلاثة أميال على الطريق السريع رقم 4، وبيننا وبينها مسطحات النهر الذي يفيض ماؤه في فصل الربيع من كل عام، والمنحنى الخفي لنهر واواناش، والجسر الذي يعبر فوقه مطليا باللون الفضي والذي يبدو في ضوء الغسق كما لو كان قفصا معلقا. كان الطريق السريع رقم 4 هو نفسه الشارع الرئيسي في جوبيلي، وكان بوسعنا أن نرى برجي مكتب البريد ومبنى البلدية يواجهان بعضهما البعض؛ مبنى البلدية بقبته المذهلة التي تخفي الجرس الأسطوري (الذي يدق مع بداية الحروب ونهايتها، ومستعد للدق في حالة حدوث الزلازل أو الفيضانات)، ومكتب البريد ببرج الساعة المربع المفيد العملي. كانت المدينة تمتد على جانبي الشارع الرئيسي بمسافة متساوية تقريبا، وكان شكلها - الذي يكون لدى عودتنا يمكن تمييزه بالأضواء - يبدو كخفاش جناحه مرفوع قليلا ويحمل البرج المائي غير المضاء وغير المميزة قمته.
لم تكن أمي تدع هذا المشهد يمر دون أن تبدي تعليقا ما، مثل «ها هي جوبيلي» ببساطة أو «حسنا، ها هي العاصمة»، أو قد تستشهد - بصورة تفتقر إلى الدقة والوضوح - بقصيدة عن الدخول من نفس الباب الذي خرجت منه. وبتلك الكلمات - سواء أكانت منهكة أم ساخرة أم ممتنة حقا - تستمد جوبيلي - بالنسبة لي - وجودها، كما لو أنه بدون تشجيعها وقبولها لن تكون تلك الأضواء في الشارع والأرصفة والحصن في البرية وذلك النمط المفتوح والسري للمدينة - الذي يمثل مأوى ولغزا في الوقت نفسه - موجودا.
خلال كل رحلاتنا وعودتنا للمنزل وفي عالمنا بأسره بوجه عام، كانت أمي تمارس سلطة غامضة مروعة، ولم يكن بوسعي القيام بأي شيء، ليس بعد.
استأجرت أمي منزلا في المدينة، وكنا نقيم هناك من سبتمبر حتى يونيو، ولا نذهب إلى المنزل في طريق فلاتس إلا في الصيف. وكان أبي يحضر لتناول العشاء ويبيت معنا، وذلك حتى يسقط الثلج، فيأتي إذا أمكنه ذلك ليقضي معنا ليلة السبت وجزءا من يوم الأحد.
كان المنزل الذي استأجرناه في نهاية شارع ريفر على مسافة قريبة من محطة السكك الحديدية الكندية، وهو ذلك النوع من المنازل الذي يبدو أكبر من حجمه، فسقفه مرتفع لكن منحدر - والطابق الأول مصنوع من الخشب والثاني من القرميد - به واجهة بارزة في غرفة الطعام وشرفات أمامية وخلفية، وكانت الشرفة الأمامية بها نافذة أخرى صغيرة عديمة الفائدة يتعذر الوصول إليها ملتصقة في سقفها. كانت كل الأجزاء الخشبية من المنزل مطلية باللون الرمادي؛ ربما لأن اللون الرمادي لا يحتاج لإعادة الطلاء كثيرا كاللون الأبيض. وفي الطقس الدافئ كانت نوافذ الطابق السفلي بها سقيفة متقشرة وباهتة، وكان المنزل بطلائه الرمادي الباهت والشرفات المنحدرة يذكرني بالشاطئ بشمسه والمرعى العاصف القاسي.
Неизвестная страница