3
وما كان هذا من اعتداده بنفسه، ولكنه كان مذهبه وإليه غايته، وكأن القدرة التي هيأته وأنشأته بأسبابها لهذا الزمان، وقد فرضت عليه وحده سداد هذا الثغر، وكان إلى ذلك لا ينفك باحثا مدققا في بطون الكتب حينا وفي أعماق نفسه المؤمنة حينا آخر؛ ليستجلي غامضة من غوامض هذا الدين، أو يكشف عن سر من أسراره فينشر منه على الناس، وأحسبه بذلك قد أجد على الإسلام معاني لم تكن تخطر على قلب واحد من علماء السلف، وأراه بذلك كان يمثل «تطور الفكرة الإسلامية» في هذا العصر. فإذا كانت الأمة العربية المسلمة قد فقدت الرافعي، فما فقدت فيه الكاتب، ولا الشاعر، ولا الأديب، ولكنها فقدت الرجل الذي كان ولن يكون لها مثله في الدفاع عن دينها ولغتها، وفي النظر إلى أعماق هذا الدين، يزاوج بينه وبين حقائق العلم وحقائق النفس المستجدة في هذا العصر، ولقد يكون في العربية اليوم كتاب وشعراء وأدباء لهم الصيت النابه، والذكر الذائع، والصوت المسموع، ولكن أين منهم الرجل الذي يقوم لما كان يقوم له الرافعي، لا يترخص في دينه، ولا يتهاون في لغته، ولا يتسامح لقائل أن يقول في هذا الدين أو في هذه اللغة حتى يرده من هدف إلى هدف، أو يفرض عليه الصمت ...
لقد حاول كثير من مؤرخي الأدب أن يتحدثوا عن الرافعي في حياته، فقالوا: شاعر، وقالوا: كاتب، وقالوا: أديب، وقالوا: عالم، وقالوا: مؤرخ، ولكنهم لم يقولوا الكلمة التي كان ينبغي أن تقال، لقد كان شاعرا، وكاتبا، وأديبا، وعالما، ومؤرخا، ولكنه بكل أولئك، وبغير أولئك، كان شيئا غير الشاعر والكاتب والأديب، وغير العالم والمؤرخ، كان هبة الله إلى الأمة العربية المسلمة في هذا الزمان؛ لينبهها إلى حقائق وجودها، وليردها إلى مقوماتها، وليشخص لها شخصيتها التي تعيش باسمها ولا تعيش فيها، والتي تعتز بها ولا تعمل لها.
يرحمه الله! لقد عاش في خدمة العربية سبعا وثلاثين سنة من عمره القصير، وصل بها حاضرها الماثل بماضيها البعيد، فهي على حساب الزمن سبع وثلاثون، ولكنها على الحقيقة عصر بتمامه من عصور الأدب، وفصل بعنوانه في مجد الإسلام!
لقد عاش غريبا ومات غريبا، فكأنما كان رجلا من التاريخ بعث في غير زمانه؛ ليكون تاريخا حيا ينطق بالعبرة ويجمع تجاريب الأجيال، يذكر الأمة العربية الإسلامية بماضيها المجيد، ثم عاد إلى التاريخ بعد ما بلغ رسالته.
لقد خفت الصوت، ولكنه خلف صداه في أذن كل عربي وفي قلب كل مسلم، يدعوه إلى الجهاد؛ لمجد العرب ولعز الإسلام! •••
وبعد؛ فماذا يعرف الناس عن الرافعي وماذا أعرف؟ هل يعرف الناس إلا ديوان الرافعي، وكتب الرافعي، ومقالات الرافعي؟ ولكن الرافعي الذي يجب أن يعرفه أدباء العربية ليس هناك، فماذا يكتب عنه الكاتبون غدا إن أرادوا أن يكتبوا هذا الفصل الذي تم تأليفه في تاريخ العربية؟
لقد عشت مع الرافعي عمرا من عمري في كتبه ومقالاته فما عرفته العرفان الحق، وعشت معه بعد ذلك في مجلسه وفي خاصته، وخلطته بنفسي وخلطني بنفسه؛ فما أبعد الفرق بين الصورتين اللتين كانتا له في نفسي من قبل ومن بعد، أفتراني بهذا أستطيع أن أقول عن الرافعي شيئا أؤدي به بعض ما علي من الدين للعربية وللفقيد العزيز؟
إنني لأحس عبئا ثقيلا على عاتقي لا طاقة لي بأن أحمله، وليس على أحد غيري أن يقوم به، ولقد كتبت منذ عامين - قبل منعاه - شيئا عن الرافعي يعرفه إلى قراء مجلة «الرسالة»، فما أحسبني لقيت في ذلك من الجهد إلا بمقدار ما استحضرت الفكر وتناولت القلم، على أن الرافعي كان يومئذ حيا، وكنت أحذر أن يغضب أو ينالني منه عتب، فكيف بي اليوم والرافعي بعيد في العالم الثاني، والكلمة للتاريخ، ووسائل العلم مني قريبة، ورسائل الأدباء تترى تستنجزني الوعد وتقتضيني الحق الذي علي للأدب والعربية، وصوت الفقيد العزيز يهتف بي حيثما توجهت: «إن لي عليك حقا، وإن للأدب عليك ...!»
ولكني ما أكاد أمسك القلم حتى يكتنفني الشعور بالعجز، فأكاد أوقن أنه لا أحد يستطيع أن يكتب عن الرافعي إلا الرافعي نفسه، ولكن الرافعي قد مات.
Неизвестная страница