ورأيته لأول مرة بعد ذلك بأشهر، فرأيت رجلا كبعض من أعرف من الناس، وكان جالسا وقتئذ في قهوة على الطريق وبين يديه صحف يقرؤها، فوقفت هنيهة أنظر إليه، لا أكاد أصدق أن هذا الشخص الماثل أمامي هو الشخص الذي أعرفه في نفسي ...
وقرأت له أول ما قرأت، نشيده المشهور «اسلمي يا مصر ...» ثم دفع إلي صديق من أصدقائي كتاب «رسائل الأحزان».
كنت يومئذ في بكرة الشباب، في تلك السن التي تدفع الفتى إلى الحياة بعينين مغمضتين وفكر حالم ورأس يزدحم بالأماني وقلب مملوء بالثقة، ثم لا يكاد يفتح عينيه على حقائق هذا الوجود حتى يعرف أن أمانيه ليست في دنيا الناس، ويجد الفرق بين عالم قلبه وعالم حسه، وتسخر منه الدنيا سخريتها الأليمة، فيلجأ إلى وحدته الصامتة مطويا على آلامه!
واستهواني عنوان الكتاب الذي دفعه إلي صاحبي، فتناولته أقلب صفحاته لا أكاد أفهم جملة إلى جملة، حتى انتهيت إلى قصيدته «حيلة مرآتها»،
1
فإذا شعر عذب يخالط النفس وينفذ في رفق إلى القلب، فأخذت أعيدها مرة ومرة، فلم أدع الكتاب حتى استظهرت القصيدة، وحبب إلي هذا الشعر الساحر أن أعود إلى الكتاب فأقرأه على مهل وروية؛ لعلني أستدرك ما فاتني من معانية وأدخر لنفسي قوة من سحر بيانه وصدق عاطفته، وعدت إليه أقرؤه قراءة الشعر: أفهمه بفكري ووجداني، وأنظر فيه بعيني وقلبي، فإذا الكتاب يكشف لي عن معناه ...
وأحببت الرافعي من يومئذ، فرحت أتتبع آثاره في الصحف وفي الكتب، لا يكاد يفوتني منها شيء، وعرفته، ولم أزل كل يوم أزداد عرفانا به، ولكني لم أعرفه العرفان الحق إلا بعد ذلك بعشر سنين ...
كان ذلك في خريف سنة 1932 وقد قصدت إليه في داره مع وفد ثلاثة نسأله الرأي والمعونة في شأن من شئون الأدب، فلقينا مرحبا مبتسما وقادنا إلى مكتبه، ثم جلس وجلسنا، وفي تلك الغرفة التي تتنزل فيها عليه الحكمة ويلقى الوحي، جلسنا إليه ساعة يجاذبنا ونجاذبه الحديث، لا نكاد نشعر أن الزمن يمر ...
كان جالسا خلف مكتب تكاد الكتب فوقه تحجبه عن عيني محدثه، وعن يمينه وشماله مناضد قد ازدحمت عليها الكتب في غير ترتيب ولا نظام، تطل من بين صفحاتها قصاصات تنبئك أن قارئها لم يفرغ منها بعد، أو أن له عند بعض موضوعاتها وقفات سيعود إليها، وعلى حيطان الغرفة أصونة الكتب المتراصة لا يبدو من خلفها لون الجدار ...
ومضى يتحدث إلينا حديث المعلم، وحديث الأب، وحديث الصديق؛ فما شئت من حكمة، وما أكبرت من عطف، وما استعذبت من فكاهة، وطال بنا المجلس حتى خشينا أن نكون قد أثقلنا عليه فهممنا بالانصراف، فإذا هو يطلب إلينا البقاء، ويرجونا ألا نغب مجلسه، وعرفت الرافعي عرفانا تاما من يومئذ فلزمته، وعرفني هو أيضا فأصفاني عطفه ومودته.
Неизвестная страница