ظل الرافعي في وظيفته تلك، موزع الجهد بين أعماله الرسمية وأعماله الأدبية، وما تقتضيه شئون الأدب وشئون رب الدار، على المورد المحدود والبساط الممدود ... وما زاد مرتب الرافعي الشاعر الكاتب الأديب الذائع الصيت في الشرق والغرب، الموظف الصغير في محكمة طنطا الكلية الأهلية، على بضعة وعشرين جنيها في الدرجة السادسة، بعد خدمة ثمان وثلاثين سنة في وظائف الحكومة ...
على أن الرافعي كان له مرتب آخر من عمله في المحكمة، هو ثمن ما كان يبيع من كتبه للموظفين والمحامين وأصحاب القضايا الذين يقصدون إليه في مكتبه لعمل رسمي، وكانت ضريبة فرضها الرافعي من طريق الحق الذي يدعيه كل شاعر على الناس، أو فرضها أصحاب الحاجات على أنفسهم التماسا لرضاه!
ليت شعري! أكان على الرافعي ملام أو معتبة أن يفعل ذلك ...؟
شاعر الحسن
كلف الرافعي بالشعر من أول نشأته، فما كان له هوى إلا أن يكون شاعرا كبعض من يعرف من شعراء العربية، أو خيرا ممن يعرف من شعراء العربية ... وكان واسع الأمل، كبير الثقة، عظيم الطموح، كثير الاعتداد بالنفس، فمن ثم نشأ حبارا عريض الدعوى طويل اللسان من أول يوم ... وبهذه الكبرياء الأدبية الطاغية، وبما فيه من الاستعداد الأدبي الكبير، وبما في أعصابه من دقة الحس وسرعة الاستجابة لما تنفعل به؛ بكل أولئك تهيأ لأن يكون كما أراد، وأن يبلغ بنفسه هذا المكان بين أدباء العربية.
وإذا كان الرافعي قد بدأ شاعرا كما أراد، فما كانت له خيرة في المذهب الذي آل إليه من بعد، ولكنها نوازع الوراثة، وعوامل البيئة، ودوافع الحياة التي كانت تضطرب به وتذهب به مذاهبها.
لم يكن الرافعي يقدر في أيام نشأته الأولى أنه سينتهي من الأدب إلى هذه الغاية، وأن الحياة سترده من الهدف الذي يسعى إليه في إمارة الشعر إلى هذا الهدف الذي انتهى إليه في ديوان الأدب والإنشاء، وما كان أحد من خاصته وأصدقائه ليعرف أن الرافعي الشاعر الشاب الذي توزعته الصبابة، وفتنته الحياة، وتقاسمته لذات الصبا، وتعناه الهوى، وتصباه الحب والشعر والشباب، سيكون مكانه في غده هذا المكان في الدفاع عن الدين والذود عن العربية والصيال في سبيل الله، وما كان هو يأمل في مستقبله إلا أن يكون شاعرا تصير إليه في إمارة الشعر منزلة تخمل ذكر فلان وفلان من شعراء عصره.
ومضى الرافعي يسعى إلى غايته في الشعر وقد تزود زاده من الأدب القديم، ووعى ما وعى من تراث شعراء العربية، وكان أمامه مثلان من شعراء عصره يمتد إليهما طرفه ويتعلق بهما أمله، هما: البارودي، وحافظ. أما أولهما فكانت له زعامة الشعر، على مفرقة تاجه وفي يده صولجانه، قد قوي واستحصد واستوى على عرشه بعد جهاد السنين ومكابدة الأيام، وأما الثاني فكان في الشباب والحداثة، وكان جديدا في السوق، قد فتنته الشهرة وفتنت به من حوله، فأخذ الرافعي ينظر إليه وإلى نفسه، ويوازن بين حال وحال، ويقايس بين شعر وشعر، فقر في نفسه أنه هو وهو ... وأنهما في منزلة سواء، وأنه مستطيع أن يبلغ مبلغه ويصير إلى مكانه إذا أراد، فسار على سنته وجرى في ميدانه، لا يكاد حافظ يقول: أنا ... حتى يقول الرافعي: أنا وأنت ... وما فاته أن حافظا يغالبه بالشهرة السابقة، ويطاوله بالجاه والأنصار، ويفاخره بمكانته من الأستاذ الإمام، وبمنزلته عند البارودي زعيم الشعراء، وبحظوته عند الشعب، فراح الرافعي يستكمل أسباب الكفاح ويستتم النقص، فأكد صلته بالبارودي، وعقد آصرة بينه وبين الأستاذ الإمام، ومضى يتحدث في المجالس وينشر في الصحف، ويذيع اسمه بين الناس، وانتهز نهزة فذهب يستطيل بأنه «شاعر الحسن» وبأن حافظا لا يقول في الغزل والنسيب ...!
كانت المنافسة بينه وبين حافظ منافسة مؤدبة كريمة، لم تعكر ما بينهما من صفو المودات، ولم تجن على صداقتهما القوية، فظل الرافعي وحافظ صديقين حميمين، منذ تعارفا في سنة 1900 إلى أن قضى حافظ - رحمه الله - في سنة 1932.
ليس من همي أن أتحدث عن شعر الشاعرين، أو أقايس بين فن وفن، وشاعرية وشاعرية، فقد يبدو لي هنا بعد ما بين المنزلتين في الموازنة بين الرافعي وحافظ في الشعر، وما يهمني في هذا الحديث إلا إثبات الصلة بين الرجلين، فمن أراد شيئا وراء هذا فسيجد فيما أثبته هنا مقدمات البحث وهيكل البناء. •••
Неизвестная страница