وتتوالى رسائلها إلى الرافعي تصف له ما تلاقي من الوجد بحبيبها الذي تكبره بسنوات، ويقرأ الرافعي رسائلها فيبتسم، ويتناول قلمه الأزرق فيثور فيها علامات يشير بها إلى مواضع وفقر تلهمه معاني جديد وفكرا جديدا، ويشتط الحب بالمعلمة العاشقة حتى تنظم الشعر، فتبعث إلى الرافعي بقصائدها ليرى رأيه فيها ...
بين يدي الساعة آخر رسالة من رسائلها إلى الرافعي. بعثت بها إليه قبل منعاه بقليل، ليت شعري! كيف انتهت قصة هذا الحب؟ (3)
وهذه رسالة من «حلب» يدهش كاتبها أن يرى صورة «الشيخ» مصطفى صادق الرافعي مطربشا حليق اللحية أنيق الثياب، فيكتب إليه: ... لقد رأيت رسمك يا مولاي فتأملته ... فوجدته من أناقة الجلباب ومظهر الشباب على حظ، فهل لك يا مولاي في مجاراة المدنية ومماشاة الحضارة رأي دعاك إلى هذا المظهر الأنيق ...؟ (4)
وتلك رسالة من «دمشق» وقع كاتبها في هوى مغنية مشهورة، يحسن بها الظن إحسانا يمثلها لعينيه ملكا أنثى! لا يترك مجلسا من مجالس غنائها، ولا يفكر في خلوته إلا فيها ... ثم يأتيه النبأ أنها قد سميت على رجل من ذوي اليسار والنعمة، وأنها موشكة أن تصير له زوجة، فيطير به هذا النبأ ويؤلمه أيما إيلام، فيكتب إلى الرافعي يقول: ... إن خطيبها على غناه رجل فاسد الخلق، متقلب القلب، دنس الذيل، وأنا على يقين أنها ستشقى به وقد خفيت عنها حقيقته، وأنا أحبها وأشفق عليها وأتمنى لها السعادة ...
هل يجب علي أن أقف وقفة المحذر بإقناعها بالعدول عن هذا الزواج الذي لا أتوقع له إلا نهاية واحدة قريبة، أو ألزم الصمت وأدع الأمور تجري في مجاريها وأقطع علائقي معها فأرد لها صورها ورسائلها احتراما لهذا الزواح من الناحية الشرعية وأدفن ذلك الحب لها في ركن من أركان قلبي؟ (5)
وذلك طالب في الجامعة، له دين وخلق ومروءة، بلغ مبلغ الرجال، وفار دم الشباب في عروقه، فتسلطت عليه غرائزه، تغالبه شهواته فلا يكاد يغلبها، ولا يجد له سلطانا على نفسه أو وسيلة لقمع شهواته إلا أن يحبس نفسه أياما في غرفته الموحشة، ومع ذلك لا تزال «المرأة» تتخايل له بزينتها في خلوته وفي جماعته، فليس له فكر إلا في المرأة، وإنه ليخشى الله، وما به قدرة على الزواج، ولقد جرب الصوم فما أجدى عليه، وقد أوشك أن يفقد نفسه بين شهوات تتجاذبه ودين يأبى عليه ... فماذا يفعل؟ (6)
وهذه فتاة متعلمة، تعيش بين أبيها وزوج أبيها في هم لا يطاق، كل سلوتها في حياتها أن تقرأ، وهي لا تحسن عملا ولا تجد لذة في عمل غير القراءة، ولكنها تنكر موضعها بين أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينتها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعاتها عبث ولهو وسوء خلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة! وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة، ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعد، ولو أنه طرق بابها لأشاحت عنه معرضة في وجل؛ لأنها تسيء الظن بكل الرجال، فماذا تفعل؟ (7)
وهذا فتى مثالي يحسن الظن بالأيام، ولكن الأيام تخلفه موعده، أحب فتاة من أهله وأحبته وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوجوها من غيره، والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكنه وجدها غلا في عنقه وكمامة على فمه، وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدرا بوفاء، وكلما غرس زهرة هبت عليها أعاصير الحياة فاقتلعتها وألقتها في مواطئ النعال وبرم بالحياة وضاقت به الدنيا وما يزال في باكر الشباب ... فماذا يصنع؟ (8)
وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين، يخاف الله ويخشى عذابه، أحب فتاة من جيرته حبا «عذريا» وأحبته، وبرح بهما الحب حتى ما يطيقان أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيته ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة! ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما ... ووقعت الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له ... ... ولما فاءت إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي! وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقا في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تطق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث، ولم تطق أن تراه بعد، وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتت محترقة ...
وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعا سبب موتها ... ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته، ومضت سنتان منذ وقعت الفاجعة، ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته: ... إنني أنا الذي قتلتها، إن دمها على رأسي، لقد ماتت ولم يعلم بسرها أحد غيري وهذا أشد ما يؤلمني، ولقد احتملت بصبر وثبات كل ما نالني في هاتين السنتين من تأنيب الضمير وعذاب القلب، ولكني اليوم أحس بأن صبري قد انتهى ولم يبق لي قوة على الاحتمال أكثر مما احتملت ... فماذا أفعل ...؟
Неизвестная страница