وساء رأي الرافعي في المجمع اللغوي من يوم إنشائه، ولم يمنعه من الحملة عليه أنه كان موعودا بأن يختار فيه عضوا مراسلا كما أنبأه صديقه فارس نمر باشا عضو المجمع.
وافتتح المجمع، وكان أول محرراته الأدبية برقية بالشكر إلى المرحوم الملك فؤاد، ولقيت الرافعي ذات مساء، فإذا هو يرفع إلي جريدة البلاغ قائلا: «اقرأ، هذا أديب صغير يهاجم المجمع اللغوي في يوم إنشائه، ويزعم أنه لم يستطع أن يكتب برقية بريئة من الخطأ ليشكر بها منشئه ...!»
وقرأت، فإذا نقد عنيف، وتهكم مر، وسخرية لاذعة ... كانت كلمة صغيرة، ولكنها ذات شأن، وقد اختار كاتبها أن يكون توقيعه «أديب صغير» مبالغة في السخرية والتهكم، وأخذ الكاتب على المجمع بضع غلطات لا يتنبه لمثلها إلا أديب دارس له في العربية مكان.
وقال الرافعي: «ماذا رأيت؟» قلت: «نقد مر لا يبلغ به هذا المبلغ على إيجازه إلا أديب كبير!» قال: «فمن تظنه؟» وكان سؤاله مشعرا بجوابه، ولكنني كذبت نفسي ... أيكون هو؟ وما يحمله على أن يخفي عني؟ لقد كان معي أمس، وأمس الأول، فلم يحدثني بشيء في ذلك؟
وقلت للرافعي: «أوتعرف كاتبه؟» قال: «حاول أن تفكر، لقد حاولت فلم أوفق.» وكان حسبي هذه الكلمة ليزول كل شك في نفسي، فما كذب علي الرافعي قبلها قط ...! ولم أعرف إلا بعد أيام أنه هو ...
ورد المرحوم الشيخ حسين والي عضو المجمع، وعاد الرافعي يرد ويتهكم ويسخر، ويتحدى المجمع اللغوي كله أن يرشده إلى الأطوار الاجتماعية التي مرت بها كلمة «حظي» حتى ساغ للمجمع من بعد أن يستعملها بمعنى «ظفر» في برقية الشكر إلى جلالة الملك ... وسكت المجمع، وسكت الشيخ حسين والي، وظل الرافعي «الأديب الصغير» يكتب حتى جاءه الرجاء أن يسكت فسكت!
مقالات «الأديب الصغير» في نقد المجمع اللغوي، هي آخر ما كتب الرافعي في النقد على أسلوبه وطريقته.
18 (3)
ومما كتبه الرافعي في تلك الفترة بحث طويل في البلاغة النبوية أنشأه إجابة لدعوة جمعية الهدايا الإسلامية بالعراق، لتنشره في ذكرى المولد النبوي، وقد لقي من العناء في إنشاء هذا الفصل ما لا أحسب غيره يقوى عليه، وحسبك أن تعلم أن الرافعي لم يتهيأ لكتابة هذا الفصل حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، وأنفق في ذلك بضعة عشر يوما، وهو وقت قليل لا يتسع للقارئ العجل أن يقرأ فيه صحيح البخاري قراءة تلاوة، فكيف به دارسا متمهلا يقرأ ليتذوق بلاغة الأسلوب ودقة المعنى؟ ولكن ذلك ليس عجيبا من الرافعي الذي كان يقرأ كل يوم ثماني ساعات متوالية لا يمل، فلا ينهض عن كرسيه حتى يوجعه قلبه! وكتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام، ثم دفعه إلي لأكتبه بخطي ولم يمله علي، فأنفقت في كتابته ثلاثة أيام أخرى.
هذا الفصل يملأ نحو أربعين صفحة من مثل هذا الكتاب، ويصلح أن يكون خاتمة لكتاب إعجاز القرآن - لو قدر لإعجاز القرآن أن يطبع طبعة جديدة - فإنه أشبه بموضوعه وفيه تمامه.
Неизвестная страница