ذلك أننا في هذه الهجمة زدناها حبتين، ولعلها زادت في الحقيقة أكثر من حبتين!
قررنا - نحن قادة الجيوش المصرية - والسودانية أن نهجم حقا على القومندان الإنجليزي في معقله بجانب المدرسة، وكان هذا القومندان رجلا صارما يخافه الإنجليز من مرءوسيه، ويستعيذ من شره أهل المدينة الخاضعون لأحكامه العرفية، فما هو إلا أن سمع دبة عبد المعطي تحت السور حتى وثب إلى الباب مستغربا أن يجترئ أحد على اقتحام مكتبه هذا الاقتحام في وضح النهار، وفتح الله على قائدنا المغوار - عبد المعطي - بالعذر الوحيد الذي لا يقبل التصديق في هذا الحرج الشديد: أذنه بين أصبعي الرجل، ولسانه يصيح: إنه ليس هو المقبوض عليه.
على الربابة!
هذه اللعبة - لعبة الجيوش - كانت شغلنا الشاغل في المدينة التي لا لعب ولا لهو فيها، وكانت من جانبي أنا على الأقل لعبة عسكرية أدبية في وقت واحد ... لأنني كنت قائد الجيش المصري الذي يطلب المبارزة من الأعداء، ويطلبها على الطريقة العنترية الهلالية اليزنية المشهورة في ملاحم شعراء الربابة، فلا يبدأ الصدام قبل تبادل الشعر الحماسي على حسب المقام ...
وكان زملاؤنا - أو أعداؤنا - يستعينون في تحضير هذه الحماسيات بشعراء الربابة، الذين امتلأت بهم قهوات البلدة في أيام الحملة السودانية، وأغنوها عن المسارح، وملاعب البهلوانات والقرقوزات؛ لازدحام المدينة بالجنود والباعة من أبناء الصعيد - طلاب هذا الضرب من القصص والأناشيد - ومن لم يجد من الطلاب بغيته عند شاعر الربابة طلبها في بيت هنا أو قطعة هناك من كتب المحفوظات أو روايات التمثيل، وفيها الكثير من مواقف الفخر والحماسة، أو مواقف التخويف والتهويل.
وكنت أنا قد جربت نظم الشعر في بعض المقاصد المدرسية، فشجعتني التجربة على نظم الأناشيد الحماسية لميدان المبارزة، وأردت أن أثبت للسامعين أنني صاحب تلك الأناشيد، فالتزمت في نظمها أن أذكر اسمي كاملا في كل قطعة منها، وانتصرت بها انتصارا أعظم من انتصار القتال؛ إذ أوشكت المناوشة كلها أن تنحصر في الاستماع إلى قصائد الفخر والحماسة بغير قتال ...
وانتهت مدتي في الجندية بنهاية هذه الجندية المتطوعة! ... فلم يعسر علي أن أفهم أن حماسة النشيد هي بيت القصيد عندي من الجندية والتجنيد، وأنها كانت منفسا للملكة الناشئة التي لم تستقر بعد على قرار ...
سر الولع بالزراعة
أما الولع بالعلوم الزراعية، فلم ألبث أن علمت أنه في دخيلته ولع بتطبيق الأشعار التي كنت أقرؤها عن الأزهار والعصافير، والحدائق وجداول الماء والأنهار ... وربما كان مدخلها إلى نفسي أعمق من ذلك، وأخفى مكانا على النظرة الأولى التي نظرتها بها يوم ذاك، فإن علوم الزراعة تعين على مراقبة أطوار الحياة، وغرائب الحيوان والنبات، وليس أوثق من العلاقة بين الدراسات النفسية، وبين تلك الغرائب والأطوار، ولا أراني حتى الساعة أوثر كتابا في سيرة علم من أعلام التاريخ على كتاب في طبائع الأحياء والحشرات، أو آثارها القديمة في بقايا الحفريات ...
كانت أمنية الجندية وعلوم الزراعة إذن ترجمة لأمنية الكتابة مستعارة في صورة من صور الصناعات الأخرى، وبخاصة حين نذكر أنها كتابة لا تخلو من نضال، ولا تخلو كذلك من زراعة ولا من عناية بالحياة والأحياء.
Неизвестная страница