وكان زملاء الأستاذ «أحمد وجدي » يتطوعون معه بالكتابة والترجمة من حين إلى حين، ولكنهم أضربوا جميعا - أو كادوا - بعد الخلاف الذي حدث بين فريد وجدي ومصطفى كامل ... وكان فحوى هذا الخلاف أن صاحب الدستور اعترض في مجلس إدارة الحزب على اختصاص وزارة الخارجية البريطانية بالاحتجاج على الاحتلال، وقال: إن هذا الاختصاص ربما أعطاها الصفة «الاستثنائية» التي تدعيها في مصر، ولا ضرر من تعميم الاحتجاج على صيغة من الصيغ إذا كانت الصيغة المكتوبة لا تسمح بتوجيهها إلى أكثر من دولة واحدة، فأعرض مصطفى كامل عن اقتراحه وأعرض معه أكثر الأعضاء، وكتب فريد وجدي خلاصة المناقشة في الدستور، فحسبه المؤيدون الآليون منشقا على الحزب، وقاطعوه، ومنهم بعض أولئك الطلبة «النجباء» الذين كانوا يتطوعون للكتابة في صحيفة الحزب الثانية!
إلا أننا - نحن هيئة التحرير - المؤلفة من صاحب الصحيفة ومني، كنا نعمل في التحرير والترجمة والتصحيح، وتهذيب الرسائل والأخبار ... وكان الأستاذ وجدي قليلا ما يبرح داره، فكنت أنوب عنه في أعمال الصحيفة الخارجية، ومنها الحصول على الأخبار وعلى الأحاديث، وبينها أول حديث للوزراء المصريين ...
والأخبار لم يكن خطبها في ذلك العهد بالأمر العسير ...
كان لها مكتب بديوان الداخلية ترسل إليه النشرات من جميع الدواوين، ومعظمها عن التعيينات والتنقلات، وصرف الأموال في المشروعات العامة ... ولم تكن هناك حاجة بالمخبرين إلى استطلاع النيات والتقاط الأسرار، فإن السياسة الكبرى كانت في علم المندوب البريطاني ومستشاريه ومفتشيه، وليس لأحد من الصحفيين صلة بهؤلاء غير أصحاب «المقطم»، وبعضهم وكلاء الصحف الأوروبية، وصلاتهم جميعا لا تفيدهم شيئا من أسرار السياسة العليا، ولا تطلعهم على أخبار الميزانية قبل أوانه.
فالمخبر البارع، والمخبر العاجز، في النهاية على حد سواء، إلا أن طائفة من المخبرين كانت تساوم «الإدارة» على تكاليف المهنة، وتوهم وكلاء الحسابات فيها أنها تحصل على أخبار النقل والتعيين والاعتمادات المالية من قصاصات «المسودات» في سلال المكاتب المهملة، وظلت هذه الحيلة تروج عند بعض الصحف إلى ما بعد أيام الثورة في أعقاب الحرب العالمية، ورأيت بعيني واحدا من هؤلاء المخبرين يبسط هذه القصاصات، ويجمع متفرقاتها ويلصقها ليزعم بعد ذلك أنه قد جاء بالخبر المضنون به على غير المجتهد الأريب. •••
كنت أذهب إلى مكتب الأخبار الصحفية بديوان الوزارة، فأرى هناك على التناوب عشرين أو ثلاثين صحفيا من مندوبي الصحف العربية ...
وليس من هؤلاء جميعا واحد فرد يذكر اليوم، أو يعرفه السامعون إذا ذكر، ولكن القارئ قد يعجب لاختلاف مقاييس النظر والتقدير إذا علم أنني كنت في نظرهم جميعا فضوليا متطفلا على الصناعة، وسمعت أحدهم يتكلم عن «عمر منصور» مندوب المؤيد، و«عبد المؤمن الحكيم» مندوب الأهرام، و«سامي قصير» مندوب المقطم، و«جورج طنوس» مندوب الوطن ... فإذا هو يشيعني بالإشارة الساخرة، وهو يسب الزمن؛ لأنه قضى عليه بالعمل في الصحافة مع أمثالي: «يحرق دين ها «البريس»
ما عاد غير ها الزعران يسود ورقاتها!»
الصحافة قبل خمسين سنة
بعد شهرين من العمل في داخل الصحافة المصرية، أمكنني أن ألخص حياتها عند أوائل القرن العشرين في كلمة واحدة: تلفيق!
Неизвестная страница