لم يكن عمه أبو طالب قد دخل في دين الله ، لكنه ظل حاميا لابن أخيه قائما دونه، معلنا استعداده للدفاع عنه . لذلك مشى رجال من أشراف قريش على أبي طالب، وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب، فقالوا: «يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فسنكفيكه.» فردهم أبو طالب ردا جميلا. ومضى محمد يشتد في الدعوة إلى رسالته، ويزداد لدعوته أعوانا. وائتمرت قريش بمحمد ومشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وكان أنهد فتى في قريش وأجمله، وطلبوا إليه أن يتخذه ولدا ويسلمهم محمدا، فأبى.
ومضى محمد في دعوته ومضت قريش في ائتمارها. ثم ذهبوا إلى أبي طالب مرة ثالثة وقالوا له: «يا أبا طالب، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.» وعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسا بإسلام ابن أخيه ولا خذلانه. ماذا تراه يصنع؟ بعث إلى محمد فقص عليه رسالة قريش، ثم قال له: «فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.»
وأطرق محمد إطراقة وقف إزاءها تاريخ الوجود كله برهة مبهوتا لا يدري بعدها ما اتجاهه. وفي الكلمة التي تفتر عنها شفتا هذا الرجل حكم على العالم: أهو يظل في الضلال يمد له فيه، فتطغى المجوسية على النصرانية المتخاذلة المضطربة وترفع الوثنية بباطلها رأسها الخرف الأفن، أم هو يضيء أمامه نور الحق، تعلن فيه كلمة التوحيد، وتحرر فيه العقول من رق العبودية والقلوب من أسر الأوهام، وترفع فيه النفس الإنسانية لتتصل بالملأ الأعلى؟ وهذا عمه كأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فهو خاذله ومسلمه. وهؤلاء المسلمون ما يزالون ضعافا لا يقوون على حرب ولا يستطيعون مقاومة قريش ذات السلطان والمال والعدة والعدد. إذن لم يبق له دون الحق الذي ينادي الناس باسمه نصير، ولم يبق له سوى إيمانه بالحق عدة. ليكن! إن الآخرة خير له من الأولى. فليؤد رسالته وليدع إلى ما أمره ربه. ولخير له أن يموت مؤمنا بالحق الذي أوحي إليه من أن يخذله أو يتردد فيه. لذلك التفت إلى عمه ممتلئ النفس بقوة إرادته وقال له: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»
يا لعظمة الحق وجلال الإيمان به! اهتز الشيخ لما سمع من جواب محمد، ووقف كذلك مبهوتا أمام هذه القوة القدسية والإرادة السامية فوق الحياة وما في الحياة. وقام محمد وقد خنقته العبرة مما فاجأه به عمه وإن لم تدر بنفسه خلجة ريب في السبيل الذي يسلك. ولم تك لحظة اهتز فيها وجود أبي طالب متحيرا بين غضبة قومه وموقف ابن أخيه حتى نادى محمدا أن أقبل، فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدا! وأفضى أبو طالب إلى بني هاشم وبني المطلب بقول ابن أخيه وبموقفه، وحديثه عنه يتدفق بروعة ما شهد وجلال ما شعر به، وطلب إليهم أن يمنعوا محمدا من قريش؛ فاستجابوا له جميعا إلا أبا لهب؛ فإنه صارحهم بالعداوة وانضم إلى خصومهم عليهم. وهم لا ريب قد منعوه متأثرين بالعصبية القومية وبالخصومة القديمة بين بني هاشم وبني أمية.
لكن العصبية لم تكن وحدها التي حفزتهم إلى الوقوف هذا الموقف من قريش كلها في أمر له من جلال الخطر ما للدعوة إلى نبذ دينهم والخروج على عقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم؛ بل كان موقف محمد منهم وشدة إيمانه بينهم ودعوته الناس بالحسنى إلى عبادة الواحد الأحد، وما كان شائعا يومئذ بين قبائل العرب جميعا من أن لله دينا غير دينهم الذي هم عليه؛ مما جعلهم يرون حقا لابن أخيهم محمد أن يعالن الناس برأيه كما كان يفعل أمية بن أبي الصلت وورقة بن نوفل وغيرهما. فإن يكن محمد على الحق - وذلك ما لا ثقة لهم به - فسيظهر الحق من بعد وسيكون لهم من مجده نصيب، وإلا يكن على الحق فسينصرف الناس عنه كما انصرفوا من قبل عن غيره، ثم لن يكون لدعوته من الأثر أن يخرجوا على تقاليدهم وأن يسلموه لخصومه كي يقتلوه.
اعتصم محمد بقومه من أذى قريش، كما اعتصم بخديجة في داره من هم نفسه. فقد كانت له بصدق إيمانها وعظيم حبها، وزير صدق تسري عنه كل همه، وتقوي فيه كل عارض ضعف من أثر أذى خصومه وإمعانهم في مناوأته وإيصال الأذى لأتباعه. وفي الحق أن قريشا لم تنم ولم تعد لما عرفت من قبل من دعة النعيم؛ بل وثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، حتى ألقى أحدهم عبده الحبشي بلالا على الرمل تحت الشمس المحرقة ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت، لا لشيء إلا أنه أصر على الإسلام! ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر كلمة: «أحد أحد.» محتملا هذا العذاب في سبيل دينه. وقد رآه أبو بكر يوما يعاني هذا العذاب فاشتراه وأعتقه. واشترى أبو بكر كثيرا من الموالي الذين كانوا يعذبون، ومن بينهم جارية لعمر بن الخطاب اشتراها منه قبل إسلامه.
وعذبت امرأة حتى ماتت لأنها لم ترض أن ترجع عن الإسلام إلى دين آبائها. وكان المسلمون من غير الموالي يضربون وتوجه إليهم أشد صور المهانة. ولم يسلم محمد - مع منع بني هاشم وبني المطلب له - من هذه الإساءات. كانت أم جميل زوج أبي لهب تلقي النجس أمام بيته فيكتفي محمد بأن يزيله. وكان أبو جهل يلقي عليه أثناء صلواته رحم شاة مذبوحة ضحية للأصنام فيحتمل الأذى ويذهب إلى ابنته فاطمة لتعيد إليه نظافته وطهارته. هذا إلى جانب ما كان المسلمون يسمعون من لغو القول وهجر الكلام حيثما ذهبوا. واستمر الأمر على ذلك طويلا، فلم يزدادوا إلا حرصا على دينهم وابتهاجا بالأذى والتضحية في سبيل عقيدتهم وإيمانهم.
هذه الفترة من فترات حياة محمد عليه السلام هي من أشد ما عرف التاريخ الإنساني روعة في العصور جميعا. فما كان محمد والذين اتبعوه طلاب مال ولا جاه ولا حكم أو سلطان؛ إنما كانوا طلاب حق وإيمان به. وكان محمد طالب هدى للذين يصيبونه بالأذى وتحرير لهم من ربقة الوثنية الوضيعة التي تنحدر بالنفس الإنسانية إلى خزي المذلة والهوان. في سبيل هذه الغاية الروحية السامية، لا في سبيل شيء آخر، كان الأذى يصله، وكان الشعراء يسبونه، وكانت قريش تأتمر به حتى حاول رجل قتله عند الكعبة. وكان منزله يرجم، وكان أهله وأتباعه يهددون، فلا يزيده ذلك إلا صبرا وإمعانا في الدعوة.
وامتلأت نفوس المؤمنين الذين اتبعوه بقوله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» وهانت عليهم جميعا التضحيات الجسام، وهان عليهم الموت في سبيل الحق وهداية قريش له. وقد تعجب لهذا الإيمان الآخذ بنفوس أولئك المكيين ولما يكن الدين قد كمل، ولما يكن قد نزل من القرآن إلا القليل. وقد تحسب أن شخصية محمد ودماثة طبعه وجميل خلقه وما عرف من صدقه وما بدا من صلابة عوده وقوة عزمه وثبات إرادته، كان السبب في كل هذا، ولا ريب قد كان لهذا كله حظه ونصيبه، لكن عوامل أخرى جديرة بالتقدير والاعتبار كان لها هي أيضا نصيب في ذلك غير قليل.
فقد كان محمد في بلاد حرة هي أشبه ما تكون بالجمهورية. وكان في الذروة والسنام منها حسبا ونسبا. وكان قد وصل من المال إلى ما يشاء. وكان إلى ذلك من بني هاشم. اجتمعت لهم سدانة الكعبة وسقاية الحاج وما شاءوا من مجد الألقاب الدينية. فلم يكن لذلك في حاجة إلى المال أو الجاه أو المكانة السياسية أو الدينية. وكان في ذلك على خلاف من سبقه من الرسل والأنبياء. فقد ولد موسى في مصر وفيها فرعون يدين له أهلها بالألوهية وينادي هو فيهم : «أنا ربكم الأعلى.» وتعاونه طائفة رجال الدين على سوم الناس ألوان الظلم والاستغلال والعسف، فكانت الثورة التي قام بها موسى بأمر ربه ثورة نظام سياسي وديني معا. أليس يريد أن يكون فرعون والرجل الذي يرفع الماء بالشادوف من النيل أمام الله سيين؟ إذن فما هي ألوهية فرعون وما هذا النظام القائم؟! يجب أن يحطم ذلك كله، ويجب أن تكون الثورة سياسية أولا.
Неизвестная страница