قال عليه السلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.» ونظر رسول الله في وجه أبي حذيفة بن عتبة فألفاه كئيبا قد تغير لونه. فقال: «لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ قال أبو حذيفة: لا والله يا رسول الله! ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكن كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام. فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما كان عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني أمره.» فقال له رسول الله خيرا ودعا له بخير.
ولما أصبح الصبح وآن للمسلمين أن يرتحلوا قافلين إلى المدينة، بدءوا يتساءلون في الغنيمة لمن تكون، قال الذين جمعوها: نحن جمعناها فهي لنا. وقال الذين كانوا يطاردون العدو حتى ساعة هزيمته: نحن والله أحق بها، فلولانا لما أصبتموها. وقال الذين يحرسون محمدا مخافة أن يرتد إليه العدو: ما أنتم ولا هم أحق بها منا، وكان لنا أن نقتل العدو ونأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه، ولكنا خفنا على رسول الله كرة العدو فقمنا دونه. فأمر محمد الناس أن يردوا كل ما في أيديهم من الغنائم، وأمر بها أن تحمل حتى يرى فيها رأيه أو يقضي الله فيها بقضائه.
وبعث محمد إلى المدينة عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة بشيرين يلقيان إلى أهلها بما فتح الله على المسلمين من النصر. وقام هو وأصحابه قافلين إلى المدينة ومعه الأسرى وما أصاب من المشركين من غنيمة جعل عليها عبد الله بن كعب. وسار القوم، حتى إذا تخطوا مضيق الصفراء نزل محمد على كثيب فقسم هناك النفل الذي أفاء الله على المسلمين، بين المسلمين على سواء. ويقول بعض المؤرخين إنه قسمه بينهم بعد أن أخذ منه الخمس، لقوله تعالى:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .
10
ويذهب الأكثرون من كتاب السيرة، والمتقدمون منهم خاصة ، أن هذه الآية نزلت بعد بدر وبعد قسم فيئها، وأن محمدا جعل القسمة بين المسلمين على سواء، وأنه جعل للفرس مثل ما للفارس، وجعل للورثة حصة من استشهد ببدر، وجعل حصة لمن تخلف بالمدينة فلم يشهد بدرا ما كان قائما فيها بعمل المسلمين، ومن حرضه حين الخروج إلى بدر وتخلف لعذر قبله الرسول. وكذلك قسم الفيء بالقسط. فلم يشترك المقاتل وحده في الحرب والنصر، بل اشترك في الحرب والنصر كل من كان لعمله في الفوز حظ أيا كان هذا العمل، وفي ميدان القتال كان أو بعيدا عنه.
وبينما المسلمون في طريقهم إلى مكة قتل من الأسرى رجلان: أحدهما النضر بن الحارث، والآخر عقبة بن أبي معيط. ولم يكن محمد ولا كان أصحابه إلى هاته اللحظة قد وضعوا للأسرى نظاما يكون على مقتضاه قتلهم أو فداؤهم أو استرقاقهم. لكن النضر وعتبة كانا من المسلمين أيام مقامهم بمكة شرا مستطيرا، وكانا لا ينفكان يوصلان لهم من الأذى كل ما يستطيعان. قتل النضر حين عرض الأسرى على النبي - عليه السلام - عند بلوغهم الأثيل، فقد نظر إلى النضر نظرة ارتعد لها الأسير وقال لرجل إلى جنبه: محمد والله قاتلي! فقد نظر إلي بعينين فيهما الموت. قال الذي إلى جنبه: ما هذا والله منك إلا رعب. وقال النضر لمصعب بن عمير، وكان أقرب من هناك به رحما: كلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابه، فهو والله قاتلي إن لم تفعل. فكان جواب مصعب: إنك كنت تقول في كتاب الله وفي نبيه كذا وكذا، وكنت تعذب أصحابه. قال النضر: لو أسرتك قريش ما قتلتك أبدا وأنا حي. قال مصعب: والله إني لا أراك صادقا، ثم إني لست مثلك، فقد قطع الإسلام العهود، وكان النضر أسير المقداد، وكان يطمح أن ينال افتداء أهله إياه مالا كثيرا. فلما رأى الحديث حول قتله صاح: النضر أسيري. قال النبي عليه السلام: اضرب عنقه، واللهم أغن المقداد من فضلك. فقتله علي بن أبي طالب ضربا بالسيف.
ولما كانوا في طريقهم بعرق الظبية أمر النبي بقتل عقبة بن أبي معيط فصاح عقبة: فمن للصبية يا محمد؟! قال: النار. وقتله علي بن أبي طالب أو قتله عاصم بن ثابت، على اختلاف في الرواية.
وقبل أن يصل النبي والمسلمون بيوم وصلها رسولاه زيد بن حارث وعبد الله بن رواحة، ودخل كل واحد من ناحية منها؛ فجعل عبد الله ينادي على راحلته يبشر الأنصار بنصر رسول الله وأصحابه، ويذكر لهم من قتل من المشركين. وجعل زيد بن حارثة يصنع صنيعه وهو ممتط القصواء ناقة النبي. وسر المسلمون واجتمعوا وخرج من كان منهم في داره وانطلقوا يهللون لهذا النصر العظيم.
أما الذين بقوا على الشرك، وأما اليهود، فقد كبتوا لهذا النبأ، وحاولوا أن يقنعوا أنفسهم وأن يقنعوا الذين أقاموا في المدينة من المسلمين بعدم صحته، فصاحوا؛ إن محمدا قتل وأصحابه هزموا، وهذه ناقته نعرفها جميعا لو أنه انتصر لبقيت عنده، وإنما يقول زيد ما يقول هذيانا من الفزع والرعب. لكن المسلمين ما لبثوا حيث تثبتوا من الرسولين واطمأنوا إلى صحة الخبر أن زاد بهم السرور لولا حادث طرأ خفف من سرورهم؛ ذلك الحادث هو موت رقية بن النبي، وكان تركها عند ذهابه إلى بدر مريضة، وترك معها زوجها عثمان بن عفان يمرضها. ولما أيقن المشركون والمنافقون بنصر محمد أسقط في أيديهم، ورأوا موقفهم من المسلمين قد أصبح موقف هوان ومذلة، حتى قال أحد زعماء اليهود: بطن الأرض اليوم خير من ظهرها بعد أن أصيب أشراف الناس وسادتهم وملوك العرب وأهل الحرم والأمن.
Неизвестная страница