والحجة على ذلك ما نزل من الآيات في سرية عبد الله بن جحش الأسدي؛ فقد بعثه رسول الله في رجب من تلك السنة الثانية للهجرة ومعه جماعة من المهاجرين، ودفع إليه كتابا، وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا. وفتح عبد الله الكتاب بعد يومين، فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة (بين مكة والطائف) فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم.» وعلم أصحابه بالأمر وبأنه لا يستكره أحدا منهم، فمضوا معه جميعا خلا سعد بن أبي وقاص الزهري وعتبة بن غزوان اللذين ذهبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش. وسار عبد الله ومن معه حتى نزلوا نخلة. هناك مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي؛ وكان يومئذ آخر شهر رجب. وذكر عبد الله بن جحش ومن معه من المهاجرين ما صنعت قريش بهم وما حجزت من أموالهم، وتشاوروا وقال بعضهم لبعض: «والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم به. ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.» وترددوا وهابوا الإقدام، ثم شجعوا أنفسهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم. ورمى أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله وأسر المسلمون رجلين من قريش.
وأقبل عبد الله بن جحش بالعير والأسيرين حتى قدموا المدينة على الرسول وحجز القوم لمحمد من مغنمهم الخمس. فلما رآهم قال لهم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام؛ ووقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. وأسقط في يد عبد الله بن جحش وأصحابه، وعنفهم إخوانهم من المسلمين بما صنعوا. وانتهزت قريش الفرصة فأثارت ثائرة الدعاية ونادت في كل مكان: إن محمدا وأصحابه استحلوا الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا الرجال. وأجاب المسلمون الذين كانوا بمكة أن إخوانهم في الدين من المهاجرين إلى المدينة إنما أصابوا في شعبان. ودخلت يهود تريد إشعال نار الفتنة، إذ ذاك نزل قوله تعالى:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .
3
وسري عن المسلمين بنزول القرآن بهذا الأمر، وقبض النبي العير والأسيرين فافتدتهما منه قريش؛ فقال: لا نفديكموهما
4
حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم. وقدم سعد وعتبة وأفداهما النبي من الأسيرين. فأما أحدهما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام بالمدينة. وأما الآخر فرجع إلى مكة وظل بها حتى مات على دينه ودين آبائه.
جدير بنا أن نقف عند سرية عبد الله بن جحش هذه والآية الكريمة التي نزلت فيها؛ فهي في رأينا مفترق طرق في سياسة الإسلام. هي حادث جديد في نوعه يدل على روح قوي في سموه، إنساني في قوته، ينتظم نواحي الحياة المادية والمعنوية والروحية كأشد ما يكون النظام قوة ورفعة وتوجها إلى الكمال. فالقرآن يجيب المشركين عن سؤالهم عن القتال في الشهر الحرام أهو من الكبائر، ويقرهم على أنه كذلك أمر كبير. لكن هناك ما هو أكبر من هذا الأمر. فالصد عن سبيل الله والكفر به أكبر من القتال في الشهر الحرام، والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر من القتال في الشهر الحرام والقتل فيه. وفتنة الرجل عن دينه بالوعد والوعيد والإغراء والتعذيب أكبر من القتل في الشهر الحرام وفي غير الشهر الحرام. وقريش والمشركون الذين ينعون على المسلمين ما قتلوا في الشهر الحرام لن يزالوا يقاتلون المسلمين حتى يردوهم عن دينهم إن استطاعوا. فإذا كانت قريش وكان المشركون يرتكبون هذه الكبائر جميعا، فيصدون عن سبيل الله ويكفرون به ويخرجون أهل المسجد الحرام منه ويفتنونهم عن دينهم، فلا جناح على من تقع عليه أوزارهم وكبائرهم هذه إن هو قاتلهم في الشهر الحرام، وإنما الكبيرة أن يقاتل في الشهر الحرام من لا يجترح من هذه الأوزار وزرا.
الفتنة أكبر من القتل. وحق - بل واجب - على من يرى غيره يحاول فتنته عن دينه أو يصد عن سبيل الله أن يقاتل في سبيل الله حتى لا يفتن وحتى ينصر دين الله. هنا يرفع المستشرقون والمبشرون عقائرهم صائحين: أرأيتم! هذا محمد يدعو دينه إلى الحرب وإلى الجهاد في سبيل الله؛ أي إكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام. أليس هذا هو التعصب بعينه؟! وهذا في حين تنكر المسيحية القتال وتمقت الحرب وتدعو إلى السلام، وتنادي بالتسامح وتربط بين الناس برابطة الإخاء في الله وفي السيد المسيح. ولست أؤيد لكي أناقش هؤلاء، أن أذكر كلمة الإنجيل: «ما جئت لألقي على الأرض سلاما بل سيفا ... إلخ.» وما تنطوي عليه هذه الكلمة من المعاني؛ فالمسلمون يقرون دين عيسى كما نزل به القرآن، وإنما أريد بادئ الرأي أن أرد قولهم: إن محمدا دعا دينه إلى القتال لإكراه الناس بالسيف على الدخول في الإسلام. فهذه فرية ينكرها القرآن في قوله تعالى:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ،
Неизвестная страница