Жизнь мысли в новом мире
حياة الفكر في العالم الجديد
Жанры
15 - الذي سنحدثك عنه في هذا القسم لنتخذ منه مثلا لهؤلاء الداعين إلى الأخذ بالتقاليد الفلسفية القديمة المجيدة - يقول: «إنه منذ أفلاطون حتى هيجل، كان طابع الفلسفة التي ما انفكت قائمة على مر السنين، هو فكرة معقولية العالم، وهي معقولية ترتد إلى ما وراء عالم الحس والظاهر.»
16
أحس «إيربن» بأن العالم ذو معنى ومغزى، وأنه له هدفا معقولا مقصودا، لكنه تلفت حوله فرأى ضروبا من العلم، وألوانا من الدراسات كلها يدور حول محور واحد، وهو أن العالم مجموعة من الظواهر تأتلف أو تختلف، دون أن يكون وراءها معنى أو أمامها هدف، حتى الذات الإنسانية قد تفككت - على يدي علم النفس الحديث - حالات يعقب بعضها بعضا، وإذا كان هذا هو الشأن في الطبيعة وفي الإنسان، فأين تكون «القيمة» في هذا الوجود؟ إن كان كل ما هنالك ظواهر تحس بالبصر أو بالسمع أو بغيرهما من الحواس، إذن فلا وجود «للقيم»؛ لأن «القيم» - قيم الأخلاق والجمال - ليست من نوع الظواهر التي تحس، وبغير «القيمة» لا يكون لأي شيء معنى مفهوم، يقول «إيربن»: «إن عالم الواقع كما نحياه وكما نعرفه، لا يصبح عالمنا إلا إذا صيغت خبراتنا عنه في مقولات القيمة، إننا نوجه أنفسنا في العالم على هدى من علاقة «فوق» و«تحت»، و«يمين» و«شمال»، و«أكثر» و«أقل»، لكننا كذلك نوجه أنفسنا - إلى جانب تلك العلاقات - بعلاقات ليست دونها خطرا، وهي علاقات «أعلى» و«أدنى» و«أفضل» و«أسوأ».»
17
لقد كان «كانت» قد فرق بين العقل والأخلاق من حيث أصل الإدراك وطبيعته؛ إذ قال إننا إذ ندرك ظواهر الطبيعة إدراكا معقولا مفهوما، فإنما نصوغ مدركاتنا الحسية في قوالب - أو مقولات - فطرية في عقولنا، وبهذا وحده تكتسب معناها، فلولا هذه المقولات التي هي جزء من طبائعنا، لجاءتنا الإحساسات من العالم الخارجي أشتاتا مهوشة، لكننا بتلك المقولات نصوغ الأشتات في تماسك ووحدة، ونخلق من الهائش اتساقا ومعنى، لكنه لم يمد هذا الأساس ليشمل عالم القيم أيضا، فليس لدينا - بناء على وجهة نظره - مقولات فطرية ندرك بها ما في الأشياء من قيم، بعبارة أخرى ليس «العقل الخالص» أو العقل النظري هو المنوط بإدراك القيم، إنما نضطر إلى هذا الإدراك اضطرارا بحكم أوضاع الحياة العملية، أي إنه إذا كان إدراك الطبيعة من شأن «العقل النظري»، فإدراك القيم من شأن «العقل العملي»، ويحلل «إيربن» وجهة النظر الكانتية هذه، لينتهي إلى إزالة التفرقة التي أقامها «كانت» بين العالمين؛ عالم الطبيعة وعالم القيم، ويجعلهما معا معتمدين في إدراكهما على مقولات فطرية في طبيعة الإنسان؛ إذ يجعلهما معا داخلين في نطاق العقل النظري، أو العقل الخالص؛ فهو الذي يدرك «الشيء» كما يدرك «القيمة» على حد سواء، هو الذي يدرك الزهرة ويدرك جمالها في آن معا، وهو الذي يدرك الإحسان ويدرك ما فيه من فضيلة في وقت واحد، فالشيء وما له من قيمة جانبان متصلان لا ينفصلان في عملية الإدراك، والأداة التي بها ندرك أحد الجانبين، هي نفسها الأداة التي ندرك بها الجانب الآخر.
و«القيمة» التي يدافع عن وجودها «إيربن» قيمة مطلقة، أعني أن وجودها لا يتوقف على صالح الإنسان، إنها ليست هناك بالنسبة إلى الإنسان وحده، أو بالنسبة لفريق من الناس هنا أو هناك، في هذا العصر أو ذاك، بل قيمة العالم موجودة فيه، لذلك لم يوافق، بل لم يفهم دعوى البراجماتيين والتطوريين حين زعموا أن قيم الأشياء إنما تكون بالنسبة لنفع تلك الأشياء وأهميتها في حياة الإنسان، وعلى هذه الدعوة يرد «إيربن» ردا مفحما إذ يقول: إن في هذا الكلام مغالطة الدور؛ لأنه كلام يجعل النتيجة سببا، ثم يجعل السبب نتيجة، إذ لماذا يكون لما ينفع الحياة قيمة؟ هكذا نسأل البراجماتيين وأنصار التطور البيولوجي، ولا أحسبهم إلا مجيبين الجواب الأوحد الذي لا جواب سواه؛ وهو لأن للحياة قيمة، إذن فقد افترضنا منذ البداية وجود «القيمة» أي إنها كانت هي «المبدأ» الذي على أساسه يحكم بعد ذلك على مختلف الأشياء بالصواب أو بالخطأ، فما يخدم تلك «القيمة» الأولية - قيمة الحياة لذاتها - هو الصواب، وما لا يخدمها هو الباطل، وهكذا إذ يجعل البراجماتيون وأصحاب التطور القيمة نسبية، يكونون في الوقت نفسه قد افترضوا افتراضا سابقا بوجودها وجودا مطلقا.
ويسوقه هذا إلى البحث في نظرية المعرفة من أساسها؛ ليرى هل يمكن أن ينفصل الحق والباطل في معارفنا عن معيار قيمي، وما هو إلا أن ينتهي إلى نظرية ميتافيزيقية عرف بها بين الفلاسفة المعاصرين، ومؤداها أن تحليل المعرفة مؤد حتما إلى التوفيق بين المثالية والواقعية؛ لأن أصولها تمتد إلى ما وراء نقطة الاختلاف بين هذين المذهبين؛ ذلك أن تحليل المعرفة لا بد أن يؤدي في النهاية إلى أن ثمة ذواتا شاعرة على صلة بعضها ببعض لتنقل الذات الواحدة إلى الذات الأخرى ما تعرفه، لكن هذا التبادل في المعرفة هو في ذاته تبادل في القيم أيضا؛ لأن المعرفة لا تكون صوابا إلا إذا كان في صوابها قيمة، ولكي يتفق اثنان يتبادلان المعرفة على صواب ما، فلا بد بالتالي أن يكونا متفقين على القيمة التي هي أساس ذلك الصواب، هذا الأساس لتبادل المعرفة بين الناس قائم سواء كان المتبادلان للمعرفة من أنصار الواقعية، أو أنصار المثالية، أو خليطا من هؤلاء وأولئك، وإذن فالبحث في نظرية المعرفة وردها إلى أصولها الأولى، سرعان ما يجاوز بنا حدود الاختلاف الناشب بين المثاليين والواقعيين؛ ومن ثم إطلاقه على فلسفته اسم «ما وراء المثالية والواقعية».
ورأيه في المعرفة يتلخص في هذه المبادئ الثلاثة الآتية: أولا: لا يمكن دراسة الفاعلية التي تحدث أثناء عملية المعرفة دراسة علمية؛ لأن العلم ذاته إن هو إلا ضرب من المعرفة التي تقتضي تلك الفاعلية، فإن كانت الفاعلية العقلية مفروضة كأساس أولي للمعرفة العلمية، فكيف يمكن أن نخضع تلك الفاعلية نفسها للمعرفة العلمية؟ ثانيا: لا بد أن يكون موضوع المعرفة شيئا آخر غير التفكير نفسه، أعني أن التفكير نفسه يستحيل أن يكون موضوعا لمعرفة حقيقية، لكننا إذا ما عرفنا شيئا وجب أن يكون هنالك سبيل لانتقال تلك المعرفة من عقل إلى عقل، وهذا الانتقال محال بغير افتراض سابق، وهو أن من يتبادلون المعرفة قد تم اتفاقهم على قيم معينة. وثالثا: إن نظرية المعرفة تضرب بجذورها الأولى إلى ما وراء نقط الاختلاف بين الواقعية والمثالية؛ لأن كلا المذهبين قائم على أساس التبادل والتفاهم والاتفاق على القيم التي بغيرها لا يكون تفاهم ولا تبادل لفكر.
18
على أن هذه النقطة الأخيرة بحاجة إلى تفصيل؛ لأنها - كما قلنا - قد أصبحت صفة مميزة ل «إيربن» بين الفلاسفة المعاصرين، وبخاصة بعد أن أخرج سنة 1949م كتابه الذي جعل عنوانه «ما وراء الواقعية والمثالية» فماذا يعني على وجه الدقة؟ يريد أن يقول: إن الصراع بين الواقعية والمثالية هو صراع بغير موجب، وأن الفلسفة التقليدية الخالدة قد استطاعت أن تعلو على وجهتي النظر هاتين بنظرة تشملهما معا، فليست الواقعية في ذاتها أو المثالية في ذاتها «معرفة» حتى يجوز أن يصطرع أنصار هذه مع أنصار تلك، أعني أنهما لا يختلفان على حقيقة بعينها أو واقعة بذاتها حتى يمكن فض ما بينهما من خلاف بأي من مناهج البحث، فلا المنهج التجريبي ولا المنهج العقلي بقادر على أن يحسم موضع النزاع؛ لأن موضع النزاع ليس هو مما يقع في مجال الخبرة حتى ينحسم بالمنهج التجريبي، ولا هو مما يقع في مجال التفكير العقلي - كالرياضة مثلا - حتى ينحسم بمنهج ذلك التفكير.
Неизвестная страница