لم يكن استرجاع الفرنسويين مدينة طولون كافيا لتلفت الأنظار إلى نابوليون، نعم، إن هذا الحادث الخطير كان أول انتصاراته ومطلع مجده، إلا أنه لم يوطئ له مهاد الشهرة فبقي كما كان مجهولا، حتى إنه لم يرد لاسمه ذكر في التقرير الذي رفعه القائد ديجوميد إلى «ألكونفانسيون» ولا في المراسلات التي كانت على اتصال بين الضابط مارمون وأسرته على وجود مارمون معه في المدفعية ومرافقته له كل حين، وكل ما ورد بشأنه هو هذه الجملة في إحدى رسائل مارمون الأب: «من هو هذا الجنرال بونابرت؟ ومن أين أتى؟ لا علم لأحد به!» ذلك لأنه لم يكن معروفا حتى تلك الساعة، ثم أخذت الأقدار تساعده وتشق أمامه سبل الشهرة والمجد.
والحق أولى أن يقال، ليس في الناس من ساعد حظه على الظهور وخدم شهرته كنابوليون، فقد كان في طولون يقدم على الموت غير هياب ولا وجل، ويهجم في طليعة فرقته تحت رصاص العدو المنهمر كالسيل مدفوعا بحماسة الشباب وحدة المزاج، متنقلا من جهة إلى جهة، كأنه يحاول أن يكون في كل مكان، وكان من جراء هذه المجازفة بحياته أن قتل تحته جواد وأصابته طعنة حربة في فخذه سببت له جرحا بالغا كاد يقضي بقطع ساقه، ذلك ما جعله يقول وهو في السفينة التي كانت تقله إلى جزيرة القديسة هيلانة: إن أول من جرحه كان إنكليزيا.
نابوليون يتفقد المصابين بالحرب في يافا (نقلا عن صورة للمصور جرو).
وقد أصابه في الجيش داء الجرب المنتشر يومئذ انتشارا هائلا، فكانت النتيجة أن ظهر فيه مرض جلدي نسميه - نحن الأطباء - إكزيما، واستعصى عليه شفاؤه، وكان سبب الجرب لذلك العهد مجهولا، فلم يكن أحد يجسر على معالجة الطفح الناتج عنه خوفا من أن يغور في الجسم ويسبب علة أخرى أشد وطأة وأصعب علاجا، وهذا ما يفسر لك كيف أنه عندما جاء مصر وظهرت فيه لأول مرة أعراض الداء في معدته لم يجد الأطباء خيرا من أن يلفوه بثوب مريض بالجرب ظنا منهم بل اعتقادا أن إرجاع البثور إلى جلده هو أفضل واسطة لتحويل الألم عن معدته.
وكان الأطباء يعتقدون فائدة التطعيم بالجرب حتى إن أحد النورمانديين المشهورين ادعى شفاء السل به، وغيره شفاء الصرع، وبقيت هذه الطريقة الوحشية يتخذها الطب سلاحا إلى أن عرف أصل الجرب وماهيته.
ولبث نابوليون زمنا طويلا متأثرا بذلك الداء، حكى الدكتور أنتومارشي طبيبه في منفاه أنه رآه مرة هائجا مضطربا فأشار عليه ببعض المسكنات فأجابه الإمبراطور: «أشكرك، ولكن عندي ما هو أفضل من عقاقيرك، وأرى الساعة قد دنت، والطبيعة تمد يدها لمساعدتي»، قال هذا وانطرح على المقعد، وقبض على فخذه الأيسر وأعمل يده في الجرح فانفتح وسال الدم ثم قال: «ها أنا ذا قد استرحت، ألم أقل لك: إن لي نوبات كلما آن أوانها جلبت الراحة لجسمي»، وكان بعد أن يسيل الدم ويجف الجرح ويندمل يقول للطبيب: «أرأيت كيف أن الطبيعة تتكفل بكل ما يلزم فترجع التوازن إلى الجسم كلما أفلت منه؟!»
الدكتور دجنت (نقلا عن رسم لدوترتر).
قال أنتومارشي: فحيرني هذا الحادث ودفعني الفضول إلى درسه، فتبين لي بعد البحث أنه قديم يتكرر آونة بعد أخرى، ويرجع تاريخه إلى حصار طولون.
ولما هوى روبسبير كان نابوليون في حالة شديدة من التعب والضعف، فذهب إلى ذويه على مقربة من أنتيب طلبا للراحة، وهنالك لم ير بدا من دعوة طبيب لمعالجته، فجاءه الدكتور دجنت وكان موضع ثقته واحترامه، إلا أنه تمادى معه في الجدل فغير رأيه فيه ولم يرد أن يستعمل الدواء الذي أشار عليه به، وربما كان هذا الإهمال سبب التمادي في ضرره.
أما معرفته بالدكتور دجنت فيرجع عهدها إلى نيس عندما كان الضباط يجتمعون في مخازن الأزياء حول بعض البائعات الجميلات، وكان بونابرت في عدادهم على أنه لم يكن يريد إلا المحادثة فقط، ولا يخرج دون أن يشتري شيئا ولو زهيدا، وكان معروفا منذ ذلك الحين ببروده، ولكن الأيام والضعف قد أضافا إلى ذلك معايب أخرى، فكان في الزمن الأخير أيام اجتماعه بالطبيب لمعالجته قبيح المنظر، قليل العناية بذاته، هزيلا، أصفر اللون، محدودب الظهر، كما روت الدوقة دبرانتس.
Неизвестная страница