بسم الله الرحمن الرحيم
حمدًا لمن تفرّد بالبقاء، وتوحّد بالربوبية والكبرياء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء، وعلى آله الأصفياء وأصحابه الأتقياء.
أما بعد، فإن حوادث دمشق الشام اليومية التي صدر غالبها في أيام الوزيرين العظيمين: سليمان باشا وأسعد باشا اللذين هما من أعيان وزراء بني العظم العظام، جمعها الفاضل شهاب الدين أحمد بن بدير البديري الشهير بالحلاق، من سنة ١١٥٤ إلى سنة ١١٧٦ قد اشتملت على غرائب وعجائب وأهوال، ولبساطة مؤلفها كتبها بلسان عامي، ثم أطنب بزيادات الحوادث وأدعية مسجعة يملُّ سامعها ويسأم قارؤها، فحذفت القشر من هذه الحوادث ووضعت اللباب، وهذبتها على حسب الاستطاعة بالصواب، وإليه تعالى المرجع والمآب، آمين.
سنة ١١٥٤
قال البديري ﵀ ما معناه: وفي سنة ١١٥٤ كان واليًا بالشام الحاج علي باشا من الأتراك وذلك بعد مضي إحدى عشرة سنة من جلوس مولانا السلطان محمود خان بن السلطان مصطفى خان، أيد الله عرش هذه الدولة إلى آخر الدوران.
جرى على لسان العامة أنه سيحدث بدمشق الشام زلازل عظيمة تتهدم بسببها أماكن كثيرة، وأن الرجال ستقلب نساء، وأن أنهار الشام تجري طعاما. وتحدثوا في حوادث كثيرة من مثل هذه الخرافات، وصاروا يتداولونها فيما بينهم، ولم يحدث شيء فيما بعد من هذه السنة.
وكانت هذه السنة سنة غلاء في الأقوات وغيرها، حتى بلغت أوقية السمن بخمس مصاري ونصف ورطل الأرز بستة عشر مصرية، ومد الشعير بثمان مصاري والخبز الأبيض باثني عشر مصرية ورطل الكعك بأربعة عشر مصرية والخبز الأسمر رطله بخمسة مصاري.
وكان في العام الذي قبله الحاكم بدمشق الشام عثمان باشا المحصل، أخرج الأورطة التي للقبيقول من قلعة الشام. فمنهم من نفاه، ومنهم من قتله، والذي بقي كرّ له كور عمامته بعد شهادة جماعة من الناس بأنه غير زَرْبَه، ولا وقع منه فساد، وشتت شملهم في جميع البلاد، وكان ذلك إصلاحا. وقد قتل الشر من دمشق الشام واصطلحت أحوال الناس.
وكان مجيء الجوخدار من الحج مبشرًا في اليوم السابع والعشرين من شهر المحرم. ودخل الكَتّاب تلك السنة ليلة الأربعاء ثالث ليلة من شهر صفر. وكان الكَتّاب باكر بشة الحمامي ومعه جماعة. ودخول الحج إلى الشام كان نهار السبت ثاني يوم بعد مجيء الكَتّاب، ولم يزل ينجرّ وينسحب خمسة أيام حتى دخل المحمل. وذكر الحجاج أنهم داروا في هذه السنة دورتين بين الحرمين، وصار عليهم غلاء وبرد كثير، وقتل ابن مضيان شيخ العرب بين الحرمين بعد قتال وقع بينهم وبين والي الشام أمير الحج. ثم أقام مدة بعد مجيئه من الحج، والناس في أمن وأمان ثم عزل. ووجهت الدولة العلية على الشام سليمان باشا بن العظم، فأرسل سليمان باشا قبل دخوله للشام سلحداره زوج بنت الوفائي متسلمًا وبقي نحو شهرين لم يدخل الشام، ثم أتى ونزل على البقاع، وأراد محاصرة جبل الدروز، فصالحوه بمال عظيم حتى أرضوه. ودخل الشام نهار الخميس ثاني عشر جمادى الثانية في هذه السنة المذكورة وهي سنة ١١٥٤. وبعد ثلاثة أيام من دخوله صلب ثلاثة أشقياء من العرب، وبعد ذلك أبقى كل شيء على حاله ولم يحرك ساكنًا.
وكانت السنة التي دخل فيها بمظهر اسمين من أسمائه تعالى: وهما قيوم حفيظ لسنة ١١٥٤، نظمها الشيخ عبد الرحمن البهلول أحد أدباء الشام ببيت، فقال:
بهذا العام فيهم قد تجلى ... مع التاريخ قيوم حفيظ
وفي هذه السنة كان صوم رمضان الجمعة، ثم ثبت في آخره أن الشهر كان أوله الخميس، وخرج المحمل الشريف مع الباشا في منتصف شوال نهار السبت، وثاني يوم جاء الحج الحلبي، ومعهم من العجم نحو الثلاث مئة. وبعد أربعة أيام خرج الحج، وبقيت شرذمة من الحاج لأجل دفتر دار السلطان محمود خان، فخرج ثاني يوم الخميس، وخروج الحاج كان في كانون الأول والبرد في غاية الشدة، وبقي الصقيع والجليد في الأرض نحوًا من خمسة وعشرين يومًا، والشمس طالعة والجليد لا يذوب، حتى قيل إنه ما رؤي مثلها، فقد يبست الأشجار، وعدمت الثمار على الخصوص الليمون والكباد والنارنج، حتى بيع رطل الفحم بالشام بثلاثة مصاري. وأخبرت المزيرباتية بعد رجوعهم أنه بيع رطل الفحم كل ثلاثة أرطال بقرش.
1 / 1
وفي هذه السنة خرجت الجردة نهار السبت السابع والعشرين من ذي القعدة، وصار عليها سردار يعقوب باشا المتولي على مدينة حلب، وقد ذكر له سيرة مرضية وعدل بالرعية.
قال الشيخ أحمد البديري: وقد قلت في هذا العام، وهو عام ١١٥٤ هذا المواليا في حق من أظهر الكذب والأراجيف التي قدمنا ذكرها، حيث قلت:
من كثر كذب الروافض دبّ فينا الشيب ... ما يعلموا الكذب أنه من شروط العيب
من جهة الزلزلة قالوا كلام الريب ... هم الملاعين صاروا يعلموا بالغيب
غيره:
في ليلة السبت خامس عشر في محرم ... مالو لقول الروافض زور ومحرّم
من جهة الزلزلة النوم تحرم ... من نام تحت السقوفة يا أخي بالليل
شم الهوى بين أطرافه بيتحرم
غيره
يا ناس كذب الروافض شاع في الأقطار ... وصيّرونا نسا نقعد بوسط الدار
ينزل عليهم غضب واحد أحد قهار ... روّعوا الخلق في هل زلزلة يا ناس
همو حمير اليهود جوا سقر في النار
غيره
بثبوت إن الرافض يوم الحشر يا أخيار ... حمير للركب للخاخان والجوقار
راموا دسيسة بجلّق عمت الأقطار ... في ليلة السبت قالوا الزلزلة بتصير
هل يعلم الغيب إلا الواحد القهار
غيره
في ليلة السبت قالوا الزلزلة بتصير ... والطفل من عجبها بين الورى بتحير
أسألك يا رب بمن جا للأنام بشير ... تمسح روافض أهل الشام يا معبود
واحرق آباهم وغوّر كورهم والبير
قد قالت الناس كذبة ما سمعناها ... أنهار الشام يا أخي ينقع ماءها
تجري طعام بدال الماء مجراها ... فاختية ورز أصفر ولحم سمين
قوموا انظروا للكبب والسمن غطّاها
غيره
سمعت واحد يقول يا أخي قساطلكم ... هي عاطلة تاقوم معكم أعاونكم
لأن أدهان ها الألوان تساعدكم ... وتخبوها لأيام الغلا والقحط
لا يحبسوها الكبب في دربها عنكم
غيره
في سنة أربع مع الخمسين يا سادات ... سمعت أخبار ما سمعت بها عادات
زادوا بإسرافهم ما سمعوا الكلمات ... الكل لله والأعمال بالنيات
غيره
استغفر الله ربي باعث الأرزاق ... واحد مهيمن تجد كلها إطلاق
وامدح المصطفى هو صفوة الخلاق ... يغفر لكم ومعكم أحمد الحلاق
سنة ١١٥٥
ثم دخلت سنة ١١٥٥ وأولها يوم الخميس وهو أول المحرم. وبعد خمسة أيام كان أول آذار. وفي تلك الأيام ظهر كوكب وصار يطلع كل ليلة من جهة الشرق من نصف الليل إلى طلوع الفجر، وله ذنب طويل، ومكث أيامًا ثم غاب. وقد عمل بعضهم تاريخًا يتضمن تاريخًا لدخول هذه السنة وهي:
نحمد الله الذي أوهبنا ... حسن عام وحبانا بالكرم
هلّ هذا العام يا قوم انظروا ... لفظة التاريخ فألاّ يغتنم
فاضرعوا لله في إتمامه ... بنجاح إنكم خير أمم
وابشروا يا أمة الهادي الذي ... خصه الله بفضل وحكم
فضل ربي عمّنا تكرمة ... ليس يحصى شكر هاتيك النعم
وكذا كل الورى قد عمهم ... لطفه سبحانه باري النسم
وخصوصا عصبة الشام التي ... هي للأبدال مأوى ملتزم
كيف والسادات قد حلّوا بها ... سرّهم عمّ لسهل وأكم
فاشكروا الله على عام أتى ... أظهر التاريخ حفظًا ونعم
وكان دخول جوقدار سليمان باشا الوزير ابن العظم سنة ١١٥٥ في يوم السبت الواقع في رابع وعشرين من شهر محرم من السنة المذكورة. وفي يوم الثلاثاء السابع والعشرين من المحرم أقبل كتّاب الحج الشريف. وثارت في اليوم المذكور ريح شديد يومين وليلتين قلعت أشجارًا كثيرة وهدمت أماكن لا تحصى، ووقع فرع عظيم من شجرة الخرنوبة التي في الحضرة على رأس غلام مراهق فمات لوقته ورجلين آخرين فهشّمهم، وسكن الريح بوقته.
1 / 2
وفي يوم الاثنين ثالث صفر من السنة المذكورة دخل الحاج الشامي إلى دمشق، ودخل سليمان باشا العظم ثاني يوم. وكان صحبته يعقوب باشا سردار الجردة المنفصل عن حلب. وكان الحج في تلك السنة بأمن وأمان ورخاء ورخص، غير أن الباشا ذهب بين الحرمين من قبا وخرج من جبل عرفات من عند قبة النور، وآب راجعًا من الطريق الذي جاء منه علي باشا.
قال البديري: وفي ذلك العام تأخر مجيء الفرمان المقرر على سليمان باشا عظم زاده فلغطت الأراذل والأسافل بالقول والفعل وأظهروا بدعًا كثيرة من محض الحرام، ولا زالوا على تلك الأحوال حتى جاء الفرمان، وكان دخوله صبيحة رابع جمادى الثانية من السنة المذكورة، وكان القاضي بالشام عبد الوهاب أفندي الملقب أبا زاده. وفي ذلك العام أمر فتحي أفندي ابن القلانسي الدفتري في تعمير طريق الصالحية، فقلب بلاطه وعمر صفته وأصلح حاله مع الناس.
وفي غرة رجب المبارك من السنة وهي سنة ١١٥٥ جاءتنا جارية مباركة، وكنا قد اشترينا لنا منزلًا جديدًا في محلة التعديل، وكنا في ضيق فقلنا: لعل بقدومها يحصل لنا الفتح والفاتحة، فسميناها صالحة، جعلها الله تعالى فالحة.
وفي ٢٢ من جمادى الثانية عمل حضرة سليمان باشا العظم ديوانا، وجمع فيه الأفندية والأغاوات، وأخرج خطًا شريفًا بالعدل والتفتيش على المفسدين في دمشق من الإنكشارية، وطلب رؤساء الميدان وهم الأغاوات للحضور، فأبوا وأرسلوا له يسألونه ما يريد، فأرسل يطلب منهم سنة عشر رجلًا من الأشقياء الذين يسمونهم باصطلاحهم زرباوات، فأرسلوا له يقولون له: نحن لا نقدر على إلقاء القبض عليهم فدونك وإياهم. فبالحال أزال عنهم كدكاتهم، ووجّهها على غيرهم وأعطى أسماءهم للدلاّل، وأمره أن ينادي في شوارع الشام أن هؤلاء الستة عشر دمهم مهدور ولا جناح على من قتلهم وغيرهم في أمن وأمان من سليمان باشا. ففرحت الناس أجمعين، لأنهم كانوا من أعظم المفسدين. وثاني يوم قتلت الدالاتية رجلًا إنكشاريًا، فهربت الناس وسكّرت دمشق الشام. فسأل الباشا عن ذلك، فقيل له إن بعض الموصلية والبغّادة الذين كانوا قبقول وطردوا في زمن عثمان باشا المحصل حين قتلوا بعض الإنكشارية مرادهم الآن يعملوا فتن. فأمر مناديًا ينادي أن لا يبقى بعد ثلاثة أيام أحد من الموصلية والبغادة والقبقول، وكل من بقي منهم يصلب وماله ينهب.
وفي ٢٤ من جمادى من هذه السنة دخل القاضي محمد أفندي الملقب بفندق زاده، ونزل في الصالحية، وكان الباقي من مدة القاضي القديم أربعة. وبعد إتمامهم باشر القاضي الجديد وظيفته في المحكمة.
وفي عشية ليلة الثلاثاء ثالث رجب من هذه السنة ارتحل سليمان باشا طالبًا قتال الظاهر عمر حاكم قلعة طبرية ومعه عسكر عظيم أكثره دالاتية، وأخذ معه القنابر واللغمجية والطوبجية الذين جاءوا من اصطنبول بطلب منه، ثم وصل إليها وحاصرها حصارًا شديدًا، وأرسل حضرة سليمان باشا يطلب من أهل الشام سلالم. فأرسلوا له ما طلب، وبعد مدة أرسل يطلب فعّالة وبساتنية ويكون معهم مرور ومساحي ومجلاف، فأرسل جميع ما طلب إليه. ولم يزل محاصرًا القلعة، وهو يضرب عليها بالمدافع والقنابر، ولم يؤثر فيها، وقد ساعدته الدروز وأهل نابلس ونائب القدس خليل آغا ابن أبو شنب وعرب بني صخر وعرب السقر مع قعدان بن ظاهر السلامة. وقد ضيقوا على أهل القلعة الحصار. لكن أخبر بعض أهل طبرية بأن المحصورين بالقلعة ما حصل لهم ضيق لأن مؤنهم كثيرة، وقيل إن باب القلعة يفتح في وقت مخصوص، وبعض الناس تغدو إليهم وتروح بما يطلبون. وقد قبض على ذخيرة مرسلة لهم، وذلك بأن أهل دير حنا وفيها أخو الظاهر عمر أرسل لأخيه كتابًا مع شخص، وأرسل ذخيرة بارود وخلافها مع أشخاص، فألقى رجل من عسكر سليمان باشا القبض على الشخص الذي معه المكتوب، وذلك بعد تفتيشه وجد الكتاب موضوعًا في نعله؛ فأخذ حضرة الباشا الكتاب وقرأه وقرّره فأقر بالنجدة والذخيرة المرسلة لأخي الظاهر عمر، فحالًا أمر سليمان باشا بقتله، وأرسل جماعة للقوم الذين معهم الذخيرة فأخذت منهم، وقتلوا غالبهم، وقطعت رؤوسهم، وأرسلها سليمان باشا إلى إسلامبول، وشدّد الحصار، وأرسل سليمان باشا لأخي الظاهر عمر الذي في دير حنا يقول له: إذا فرغنا من أخيك جئنا إن شاء الله إليك. وستأتي تتمة فتحها إن شاء الله تعالى.
1 / 3
وكان هلال رمضان في هذه السنة نهار الاثنين وأثبت بعد العشاء، وأشعلت القناديل في سائر مآذن الشام، وضربت مدافع الإثبات في منتصف الليل، وحصل للناس زحمة في حركة السحور، حتى فتحت دكاكين الطعام ليلًا كالخبازين والسمّانين.
وفي تاسع رمضان المذكور هطلت أمطار غزيرة على عامة البلاد ولله الحمد. وغرق مركب بساحل صيدا بتلك المدة، وكان قادمًا من مصر وفيه أرزاق كثيرة، عوّض الله أصحابها خيرًا، قيل إنه غرق في نوء قاسم كوى. وجاءت الصرة من إسلامبول يوم الجمعة، وجاءت الخزنة السلطانية من مصر يوم السبت ثالث عشر من رمضان، وقد تأخرت عن وقتها، وكان صنجقها عمر بك.
وجاءت البلطجية من إسلامبول نهار الاثنين في الشهر المذكور ومع ذلك حضرة سليمان باشا العظم في حصار طبرية، وقد شدّد على أهلها كما يأتي.
وفي يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من هذا الشهر شهر رمضان توفي الرجل الصالح الحاج أحمد الحلاق بن حشيش، كان رجلًا صالحًا رأى العجائب لأنه كثير السايحة، وكان حسن المعاشرة والوداد، وكان حلاقًا لفرد زمانه وقطب أوانه الشيخ عبد الغني النابلسي قدّس سره، وكان يحلق أيضًا للشيخ مراد أفندي النقشبندي الكسيح، ولعمدة مذهب السادة الشافعية شيخنا محمد العجلوني ولأمثالهم، وكان يحلق مجانًا للفقراء من طلبة العلم وغيرهم. ومن صلاحه وتقواه أنه ما وضع يده على مريض إذا رمد وقرأ ما تيسر إلا شفاه الله وعافاه. قال مؤرخها الحلاق الشيخ أحمد البديري: وكان صاحب الترجمة أستاذي ومعلمي في صنعة الحلاقة، ومنه حصل لي الفتوح والبركة، رحمه الله تعالى.
وثاني يوم الأربعاء توفي الشيخ مصطفى المغربل، وكان رجلًا دينًا أخذ الطريق من الأستاذ الشيخ يوسف الطباخ.
وفي تلك الأوقات اشتد الغلاء في سائر الأشياء سيما المأكولات، مع وجود الأغلال وغيرها، فمن عدم تفتيش الحكام صار البياعون يبيعون بما أرادوا غير أن الغنم كان قليلًا جدًا فصار الجزارون يذبحون الجاموس والجمل والمعز، فصار يباع رطل اللحم الشامي بثلاثين مصرية، ورطل إلية الغنم بقرش وربع، والبيض كل ثنتين بمصرية، والسمن رطل وأوقتين بقرش، والثوم رطله بثلاثين مصرية، ورطل الخبز بأربع مصاري وبخمسة مصاري وبأكثر. وقد كان بثلاث مصاري ونصف. فبقدوم شهر رمضان المبارك غلت الأسعار حتى الخضر، فقد كان قبل رمضان الكوسا كل مائة بمصرية، فلما هلّ رمضان صار خمسة وأربعة بمصرية، والباذنجان كل رطلين بمصرية، فصار كل رطل بمصريتين، واللحم عدم، وكل ذلك من عدم تفتيش الحكام.
وكان نهار عيد الفطر يوم الأربعاء، وقد صمناه ثلاثين يومًا بإكمال العدة، فدخل العيد، ولم يأت حضرة والي الشام سليمان باشا من الدورة، بل هو للآن مقيم على حصار قلعة طبرية.
وفي يوم السبت رابع شوال جاء تبشير رسمي من حضرة سليمان باشا بفتوح قلعة طبرية، فضربت المدافع وعملوا الزينة ودقت الطبول والزمور.
وثاني يوم الأحد دخل حضرة سليمان باشا العظم إلى دمشق، فسبق كخيته والعسكر، وترك على قلعة طبرية على أغابن الترجمان، وعنده بعض العسكر والفعالة، وأمره أن لا يقدم دمشق حتى يخرّبها بعد إخراج أهلها منها.
1 / 4
قال المؤرخ: وبلغني أن سبب فتحها أنه لما اشتد الحصار على أهلها، وقد قلّ الزاد من عندهم ولم يتمكنوا من جلب قوت مما قد أحاط بهم من العساكر والعربان وأنه بعد ضرب المدافع والقنابر أمر حضرة سليمان باشا بحفر خنادق ولغم طوله مئتان وثمانون ذراعا، ولما بلغهم ذلك ضاقت عليهم الدنيا وازداد فزعهم، أرسل الظاهر عمر المحصور شيخ طبرية إلى عمر بك صنجق الخزنة المصرية التي تأتي للدولة العلية بهيئة وافرة ليتوسط بالصلح بينه وبين حضرة سليمان باشا، وكان ذلك قبل وصوله ووصول الخزنة لدمشق. فلما وصلت سار عمر بك، ودخل على حضرة سليمان باشا حاكمًا بمصر. وكان عمر بك رجلًا وقورًا كبير السن، وقال له: يا حضرة الوزير، أنا رجل كبير السن بمنزلة والدك، وإن كنت من جملة خدمك، وداخل على جاهك في الصلح بينك وبين عبد نعمتك ودولتك الظاهر عمر شيخ طبرية والصفح من شيم الكرام، وأنتم الكرام لا سواكم. فأجابه حضرة الباشا بأنه يصير خير إن شاء الله تعالى. ولما كان ثاني أيام العيد، عيد الفطر اشتد على أهل طبرية الأمر، وزاد عليهم الحصر، خرجوا إلى أعلى الأسوار رافعين أصواتهم ينادون حضرة علي آغا الترجمان، ولما قرب منهم قالوا له: لك الأمان ادخل الباب فأخذ الإذن من الباشا ودخل الباب. وكان حضرة سليمان باشا قد أدركه السفر إلى الحاج، فدخل علي آغا إلى قلعة طبرية فتلقّوه كذا المشايخ ومعهم الظاهر عمر، فوقعوا على قدميه وصاروا يبكون حواليه، وعملوا له عشرة أكياس، ليدخل بينهم وبين حضرة سليمان باشا بالصلح، ثم خرجت النساء والأطفال والشيوخ يبكون وينتحبون فرقّ لهم، وسار طالبًا حضرة الباشا، فلما وصل إليه وقع على قدميه، ووعظه بالحلم والإشفاق، وذكر له فضائل محاسن الأخلاق، فرقّ قلبه وأجاب سؤاله فلما علم المحصورون وتحققوا أن حضرة الباشا عفاعنهم وصفح خرجت النساء والرجال والأطفال، وفي رقابهم المحارم وعليهم الذل رافعين أكفّ الضراعة بالمسكنة، وضاجّين بالأدعية له وللسلطان الأعظم، ودفعوا لحضرته مئتا كذا كيس من المال بعدما أخذ ابن الظاهر عمر رهينة وأتى إليه إلى الشام، وأرسل جماعة لهدم القلعة وإبادتها.
قال المؤرخ: هكذا حدّث بذلك علي آغا شاطر باشي، وقد نقلت لنا على غير هذا الوجه. والله أعلم بحقيقة الحال.
وفي يوم الجمعة عاشر شوال من هذه السنة توفي الحسيب النسيب السيد عبد الله بن عجلان نقيب السادة الأشراف بالشام، ودفن بمدفنهم في سوق الغنم لضيق جامع المرادية، وكان يومئذ معزولًا عن النقابة وهي على ابن أخيه السيد علي أفندي. وفي ذلك اليوم عزل السيد علي أفندي عن النقابة، ووجهت على السيد محمد أفندي بن الشيخ عبد القادر الكيلاني، وفي ذلك اليوم أيضًا عزل حامد أفندي ابن العمادي عن وظيفة الإفتاء ووجهت إلى ابن عمه محمد أفندي ابن العمادي.
قال المؤرخ ﵀: وفي ليلة السبت حادي عشر شوّال توفيت والدتي في الثلث الأول من الليل، رحمها الله وعفا عنها وبرّد مضجعها، وقد فارقت الدنيا وأنا بين رجليها نائم، وكانت من القانتات العابدات تصلّي نوافل الليل، ولها أوراد، إلى آخر ما قال.
وفي ذلك الشهر من هذه السنة بعد صلاة الجمعة خرج المحمل الشريف مع الوزير الخطير سليمان باشا بن العظم. وثاني يوم السبت جاء الحج الحلبي ومعه ألف وسبع مئة عجمي. وفي عشرين شوال خرج الحج، من البلد شيئًا فشيئًا. وقبل سفر الوزير سليمان باشا عمل ديوانًا وأحضر الأعيان، وأظهر الفرمان الذي فيه قتل الزرباوات أي المفسدين من الإنكشارية، وقال لمن حضر: هذا الفرمان الذي أمره مفوض لنا قد ألغيناه وعفونا عنهم، وعُدّ ذلك من حسناته.
وكان أول يوم فصل الشتاء في هذه السنة من يوم الأربعاء تاسع وعشرين شوال وهو يوم دخول المزيرباتية، وأقام الباشا في المزيريب أربعة أيام ورحل في اليوم الخامس، وشال الحج عرب بني صخر وقد كان كل شيء رخيص من جميع البضائع ماعدا المعموك، والشعير المدّ بنصف وقرش، وقد رجع من الغلمان خلق كثير، وأمطرت السماء مطرًا غزيرًا يوم مجيء المزيرباتية بعد أن قنطوا، فاستبشرت عموم الخلق وحمدوا الباري على لطفه.
1 / 5
وفي عاشر ذي القعدة دخل مصطفى باشا متولي طرابلس الشام نهار الاثنين إلى دمشق، عينته الدولة العلية سردارًا على الجردة. والمذكور كان سفاكًا للدماء ظلومًا غشومًا أهرق دماء كثيرة حينما كان في طرابلس، وكان غالب قتله بالكلاب والشنكل، يترك الرجل حتى يموت جوعًا وعطشًا، فهربت غالب أهالي طرابلس من ظلمه وتفرقوا في البلاد، وأرسل أعوانه في طلب الهاربين، فالذي قبضوا عليه كان من الهالكين. وبعد مجيئه لدمشق وقعت فتنة بين الدالاتية التي للمتسلم وبين لاوند الأكراد، وقتل من الفريقين جماعة، وكانت تلك الفتنة في يوم الجمعة، حتى بطلت صلاة الجمعة في كثير من الجوامع.
وفي غرة ذي الحجة ختام السنة المذكورة توفي الشيخ محمد الكيال وكان من رؤساء المؤذنين في جامع الأموي، وكان رجلًا صالحًا، وكان ينسخ كتبًا وغيرها بخط مقبول، وكان ينام والقلم بيده ويفيق ويكتب من غير نظر للكتابة، وقد عُدّت له كرامة.
وفي ذلك اليوم جاء خبر قتل متسلم دمشق، قتله عرب الزبيد وقتلوا من جنده جماعة كثيرة، وذلك لما كانت هذه العرب عاصية على الدولة خرج المتسلم المذكور ومعه جماعة من العسكر، فساروا حتى وصلوا للعرب المذكورة، ففاجأهم المتسلم وجنوده على حين غفلة بالقتل وغيره، وأرادوا أخذ أموالهم ومواشيهم، فردوا عليهم رد غيور صبور فقتلوا المتسلم المذكور وجماعة من عسكره، فحين بلغ هذا الأمر أكابر دمشق عملوا ديوانًا ثم أمروا مناديًا ينادي: من أراد طاعة الله والسلطان ممن له قدرة وقوة على الركوب فلا يتخلف، فالغارة الغارة على عرب الزبيد الذين قتلوا المتسلم وعسكره، فخرجت الإنكشارية والسباهية والزعماء، عينوا نائبًا بدمشق حسين آغا بن القطيفاني، المتولي على وقف المرحوم سنان باشا، ثم ساروا للعرب، ورجعوا ومعهم جسد المتسلم المقتول، وهو في حالة عبرة لمن اعتبر، ثم غسلوه في سراية الحكم ودفنوه في باب الصغير. وكان اسمه إبراهيم، وهو مملوك سليمان باشا بن العظم حاكم الشام، وكان مع عدل مولاه، له ظلم وعدوان وجرأة على الخاص والعام، وكان يأمر بالقبض على كل من رآه بعد العشاء، ويأمر بتقييده في الحال بالحديد، إلى أن يأخذ منه مال كثير، وإذا أذنب أحد ذنبًا، ولم يقدر على قبضه يقبض من يقدر عليه من أهله وقرابته، ويلزمه بمال عظيم، وإذا نهاه أحد عن تلك الأحوال يحرد، ويطلب الارتحال، ولا زال بظلمه وعتوه، إلى أن أخذه الله. وقيل سبب تدميره أنه جاءه شيخ الجبلة، الفحيلي، وقال له سرًا: قم حتى أكسبك كثيرًا من الغنائم، ولم يعلم أحد من كبراء الشام، سوى قومه الطغاة، فذهب هو وقومه حتى وصل إلى اللجاة، فلما وصل إلى تلك القبيلة ساق أموالهم والحريم، فارتدت عليه العرب، وأخذ عليه واحد منهم نيشانًا فضربه ولم يخطئه، وتركه ملقى قتيلًا وقتلوا جماعة من قومه، ذلك بما قدمت يداه.
وفي نهار السبت منتصف ذي الحجة، توفي أبونا ووالدنا وأستاذنا ومربينا سليمان بن الحشيش الحكواتي رحمه لله. كان فريد عصره ووحيدًا في أوانه. وكان يحكي سيرة الظاهر وعنترة وسيف، ونوادر غريبة في التركي والعربي، ومع ذلك فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وكان أشقر أبرص، شديد البياض إلاّ أنه بحر خضم لا يخاض ﵀.
وفي يوم السبت خامس عشر ذي الحجة توفي المرحوم عبد العزيز أفندي السفرجلاني، وكان فقيهًا محبًا للعلماء، مقبولًا عند الحكام مهابًا وقورًا، وأعطي جاهًا لن ينله أحد من بني السفرجلاني، محبًا لفعل الخير، ولهذا حصل له القبول عند الخاص والعام.
وفي أوائل الشتاء من آخر هذه السنة قلت الأمطار، ويئست الخلق ونهض الغلاء على قدم وساق، فأغاث الله عباده بالأمطار كالبحار، وذلك في ابتداء كانون الثاني، واستمر ليلًا مع نهار لا يفتر، وأثلجت الدنيا سبع مرات، واستمر ذلك خمسة وأربعين يومًا، وتهدمت أماكن كثيرة بحيث ما بقي محل ولا جهة في الشام إلا ووقع الهدم فيها، ثم بعد ذلك طلعت الشمس، وأحيا الله الأرض بعد موتها.
سنة ١١٥٦
ثم دخلت سنة ١١٥٦، ألف ومئة وستة وخمسين نهار الاثنين غرة محرم، جعلها الله سنة خير ورحمة وبركة. وكان واليًا بدمشق الشام سليمان باشا العظم، وهو في ركب الحج الشريف.
1 / 6
وقد هلَّ هذا العام الجديد، ورطل الخبز الشامي بأربع مصاري وبخمسة، ورطل الأرز بثمانية مصاري، ورطل الدبس بثمانية مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري ولا توجد، مع أنه كان من نحو شهر كل رطل وثمانية أواق بقرش، ولكن الخزان ما أبقى للفقراء قمصان، وأوقية العسل بخمسة مصاري، ورطل اللحم الضأن بثلاثين مصرية ورطل الثوم باثني عشر مصرية، ورطل لحم الجاموس ولحم البقر بعشرين مصرية، وأوقية الزيت بمصريتين وقطعة، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبدًا وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال.
قال المؤرخ: وفي أوائل هذه السنة الجديدة توفي الحسيب والنسيب السيد أحمد البابا، رئيس حرفة الدباغين، كان ﵀ بهي المنظر ذا هيبة حسنة، ولنا معه صحبة.
وفي رابع وعشرين محرم، كان دخول الجوخدار من الحاج الشريف، يبشر بالسلامة وحسن السيرة، ثم جاء الكتّاب ومعه المكاتيب، ثامن وعشرين محرم نهار الأحد من هذه السنة المذكورة. وفي سلخ محرم صار في دمشق سيل عرمرم، ما رؤي قط مثله من قديم الزمان، وعقبه نزل برد كبير استقام نزوله مقدار ساعتين، حتى علا على وجه الأرض مقدار ذراع ونصف.
وفي أوائل شهر صفر الخير، جاء خبر عن الحج الشريف بأنه غرق في الحسا قريبًا ممن القطرانة، وذهب على ما قيل مقدار نصف الحاج، من خيل وجمال وبغال، ونساء ورجال وأموال وأحمال وقد غرق لأحد التجار سبعة عشر حمل، كل حمل لا يقام بثمن، فاستغاثوا بحضرة سليمان باشا العظم والي الشام، وأمير الحاج، وقالوا: نحن نهب لك مالنا وخذه أنت ولا تتركه للعرب. فحالًا نهض وأخذ معه جماعة، وذهب نحو مرحلة، وقد خاطر هو وجماعته، ثم غاب يومًا وليلة بعدما جدّوا في طلبه، وإذا هو قادم ومعه الأحمال، لم تنقص ولا ذرة. ثم ناداهم وسلمهم إلى أصحابهم، ولم يدنس حجه بشيء. وقد عدوا هذه المنقبة لمثله، من الهمم العالية والمروءة السامية، وبوصولهم أيضًا للبلقة جاء أيضًا سيل عظيم، أخذ مقدارًا عظيمًا من الحج، وأراد أن يتمم على بقية الحج، لولا أن تداركه الله بلطفه. ولما حصل هذا الأمر، كتب حضرة أمير الحاج سليمان باشا توقيعًا، وأرسله إلى الشام وإلى من حواليه، بأن يأتوه بعلف وذخيرة، فنادى المنادي في شوارع دمشق: يا أمة محمد، من كان يحب الله ورسوله، وتمكن من الخروج فليخرج، ومعه ما يقدر عليه من مأكل ومشرب وملبس، فليخرج ليلاقي الحجاج فخرجت الخلق مثل الجراد.
وفي يوم الأحد رابع صفر الخير دخل الحاج، وثاني يوم دخل المحمل الشريف مع حضرة سليمان باشا، وكانت سنة هائلة أخبر الحجاج أن مدّ العليق صار بقرشين، وفي بعض الأماكن بأربع قروش، وكل ثلاث تمرات بمصرية، وهذا شيء ما سمع من قديم الزمان، وبيع كعب البقسماط بثلث قرش. وكانت دمشق أشد غلاءً من غيرها، حتى مدّ الملح وصل ثمنه إلى ثلاثين مصرية، والدبس الأوقية بمصرية، واللبن في آذار رطله بسبعة مصاري، والخبز لا يوجد، والحكام يخزنون، وأهل البلد يفعلون كفعلهم، وإلى الله المصير.
وفي يوم الاثنين ثالث عشر صفر الخير من هذا العام، توفي العالم العامل، الشيخ أمين أفندي ابن الخراط ﵀.
وفي غرة ربيع الأول من هذه السنة شرع حضرة والي دمشق الشام، سليمان باشا ابن العظم في فرح، لأجل ختان ولده العزيز أحمد بك، وكان في الجنينة التي في محلة العمارة، وجمع فيه سائر الملاعب وأرباب الغناء واليهود والنصارى، واجتمع فيه الأعيان والأكابر من الأفندية والأغوات ما لا يحصى، وأطلق الحرية لأجل الملاعب يلعبون بما شاؤوا. من رقص وخلاعة وغير ذلك، ولا زالوا على هذا الحال سبعة أيام بلياليها. وبعد ذلك أمر بالزينة، فتزينت أسواق الشام كلها سبعة أيام، بإيقاد الشموع والقناديل، زينة ما سمع بمثلها، وعمل موكب ركب فيه الأغوات والشربجية، والأكابر والإنكشارية، وفيه الملاعب الغريبة من تمثيل شجعان العرب وغير ذلك. وثاني يوم طهّر ولده أحمد بك، وأمر من صدقاته أن يطهّر من أولاد الفقراء وغيرهم ممن أراد، فصارت تقبل الناس بأولادهم، وكلما طهّروا ولدًا يعطوه بدلة وذهبين، وأنعم على الخاص والعام، والفقراء والمساكين بأطعمة وأكسية وغير ذلك، مما لم يفعل أحد بعض ما فعل، ولم نسمع أيضًا بمثل هذا الإكرام والإنعام، على الخاص والعام، فرحمه الله وجازاه أحسن الجزاء، آمين.
1 / 7
وبعد هذا الفرح العظيم عمل فتحي أفندي الدفتري فرحًا عظيمًا بهذا الشهر، أعني به ربيع الأول، زوج ابنته لأخيه، وكان فرحًا عظيمًا ما عمل بدمشق نظيره، ولا بلغ أحد أنه عمل مثله، وكان سبعة أيام كل يوم خصّه بجماعة: فاليوم الأول خصّه بحضرة والي الشام سليمان باشا بن العظم، واليوم الثاني إلى الموالي والأمراء، واليوم الثالث إلى المشايخ والعلماء، واليوم الرابع التجار والمتسببين، واليوم الخامس إلى النصارى واليهود، واليوم السادس إلى الفلاحين، واليوم السابع إلى المغاني والمومسات، وهم بنات الخطا والهوى، وقد تكرم عليهم كرمًا زائدًا، ويعطيهم الذهب والفضة بلا حساب. وكان قبل الفرح عمل تهليلة، جمع بها جميع مشايخ الطرق.
وفي السادس والعشرين من ربيع الأول بهذا العام توفي نقيب النقباء في دمشق، على الحرف والصنايع والطرق، الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ محمد الحلاق القادري، صاحب الحلقة في الجامع الأموي.
وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من ربيع الثاني في هذه السنة المذكورة، توفي الشاب السعيد سلالة الطاهرين، وفخر الصديقين، أحمد أفندي البكري الصديقي، وكان من النجابة على جانب ودفن بتربة الشيخ رسلان ﵀.
وفي يوم الأحد غرة جمادى الأولى من هذه السنة، شرع حضرة سليمان باشا ابن العظم، في تعمير وترميم نهر القنوات، وجعل جميع المصارف من ماله جزاه الله خيرًا، واشتغل بها من الفعلة مائتا فاعل، فأمر بقطع بعض الصخر من طريقها، وبتشييد أركانها وإصلاح ما فسد منها، ورفع جدرانها، وبضبطها ضبطًا جيدًا وبإصلاح فروض مستحقيها على الوجه الحق، وأن يأخذ كل ذي حق حقه. فكانت هذه العمارة والضبط ما سبقه إليه أحد من عهد إصلاحها من أيام التيمور لما أصلحت بعده، وقد تمت عمارته في برهة خمسة عشر يومًا في أول مربعانية الصيف. ولما تم أمر بإطلاق النهر، فكان إطلاقه على أهل دمشق فرجة من أبهج الفرج، ويوم مثل يوم الزحام. وقد أرّخ هذه العمارة شيخ الأدب في الشام الشيخ عبد الرحمن البهلول، مادحًا حضرة الوزير سليمان باشا ومشيرًا لتاريخ تتميم البناء، فقال:
جزى المولى أمير الشام خيرا ... سليمان الزمان ودام دهرا
بما قد جدد القنوات صدقا ... بإخلاص زكا سرا وجهرا
فيا طوبى له إذ نال أجرا ... على مرّ الليالي مستمرا
له في كل مكرمة أياد ... بإحسان علت وهلم جرا
فكم صنعت يداه وجوه بر ... بها أرخ سبيل الخير أجرا
وفي نهار الثلاثاء سادس عشر جمادى الأولى توفي الشيخ الفقيه العالم الشيخ علي، مدرس جامع عز الدين في باب السريجة، وقد ناهز الثمانين، رحمه الله تعالى.
وفي يوم السبت الثامن والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة، قامت العامة وهجمت على المحكمة، وطردوا القاضي ونهبوا الأفران. وسبب ذلك كثرة الغلاء والازدحام على الأفران، وقلة التفتيش على صاحب القمح والطحان والخزان، فتلافى حضرة الوالي سليمان باشا هذا الأمر، وأرسل يشدد على الطحانة والخبازة، ويهددهم ويخوفهم فحالًا وجد الخبز، وتحسن وكسد، بعدما كانت غالب الناس تبات بلا خبز، فابتهلت الناس بالدعاء لحضرته.
وفي سادس جمادى الثانية من هذه السنة، توفي الشيخ مصطفى ابن شيخنا وأستاذنا شافعيّ زمانه، وفاضل أوانه الشيخ محمد العجلوني، من افتخرت به محلة القنوات، ﵀. وبالأمر المقدور، توفيت زوجته أول يوم، ولحقها ثاني يوم، رحمهما الله تعالى.
1 / 8
وفي سابع جمادى الثانية من هذه السنة، خرج سليمان باشا قاصدًا قتال الظاهر عمر، حاكم قلعة طبرية، واستصحب معه من العسكر نحو خمس مئة رجل، ألبسهم قلابق. وكانوا يشبهون الأرنؤوط وسماهم الأرانطة. وجاءه فرمان من الباب العالي بأن يخرج معه والي صيدا ووالي طرابلس والقدس وغزة والرملة وإربد، وقيل ركب معه من جبل الدروز عشرون ألفًا ويوم العاشر أرسل إلى أغاوات الإنكشارية، وأن يرسلوا له ثلاث مئة إنكشاري، وما بقي من العساكر يرسلونهم لمحافظة قرى حوران. وأرسل أيضًا إلى عامة قرى الشام بأن يخرجوا من كل قرية عشرة أنفار، ليحافظوا مع الإنكشارية أيضًا. ثم سار بتلك الجموع، وحطّ على مرج القَدَس بفتح القاف والدال في بلاد المتاولة، وأرسل طلب الأمير ملحم، فجاءه ومعه مئتا خيال. وبعد مدة جاء خبر لدمشق، بأنه وقع قتال بين الدروز والمتاولة، فقتل من المتاولة أكثر من ألف وحرقت الدروز بلادهم ونهبت أموالهم. ثم صالت المتاولة على الدروز فقتلت من الدروز نحو خمس مئة رجل، وكان معهم الأمير حيدر صاحب قلعة دير القمر، فنهاهم الباشا، فاعتذروا له فتركهم وشأنهم. ثم رحل حضرة سليمان باشا، طالبًا قلعة دير حنا وأخذ معه شيخ المتاولة نصار ومعه نحو من أربع مئة إنسان، ورجع الدروز، ولم يرض معاونتهم، وكان في قلعة دير حنا أبو سعد أخو الظاهر عمر.
قال البديري: وفي تلك الأيام جاء الخبر إلى دمشق، بأن القافلة التي سارت إلى بغداد أخذتها العرب، وكان بها من الأموال ما لا يحصى بقلم، ومن جملتها هدية وافية من حضرة سليمان باشا والي الشام، إلى أحمد باشا بن حسن باشا والي بغداد. وقد نقلت الرواة بأن العرب الذين أخذوا القافلة من أعوان الخارجي، الذي خرج من بلاد العراق، ويسمى طهماسب الذي تغلب على ملك العجم وأخذ بلاده، وعلى ملك الهند وأخذ بلاده، وقصد مدينة بغداد وحاصرها أشد الحصار.
وفي سابع يوم من رجب، جاء خبر لدمشق بأن سليمان باشا ابن العظم قد مات، ودخل في خبر كان، فحالًا قام فتحي أفندي بن الفلاقنسيّ، دفتردار الشام، وختم على دوره وخزائنه وأملاكه. وأقام على ذلك حرسًا بالليل والنهار، وقرر علي آغا المتسلم على حاله، وكتب بذلك عرضًا، وأرسله للدولة العلية.
وفي ليلة الخميس ثامن رجب من هذه السنة، في وقت الفجر أدخلوا سليمان باشا في تخت، وأدخلوه لسراية الحكم، وغسّلوه بها ودفنوه ضحوة النهار في مدفنهم في باب الصغير، بجوار سيدنا بلال الحبشي، في القبر الذي فيه ولده إبراهيم بيك، بوصية منه رحمه الله تعالى رحمة واسعة. فقد كان وزيرًا عادلًا، حليمًا صاحب خيرات ومبرات، محبًا للعلماء وأهل الصلاح. وقد أبطل مظالم كثيرة كانت على أهل الشام، مثل الشاشية والمشيخة والعرض، وهي أموال تفرض على الحرف والصنائع والحارات في الشام مرة أو مرتين في السنة.
1 / 9
قال المؤرخ البديري: وقد أخبرني بعض من أثق به عن سبب موته، وهو أنه دخل إلى حمام عكة، وخرج منه محمومًا، وأن الظاهر عمر حاكم طبرية أرسل له كتابًا، يطلب منه الصلح فأبى، وقال لا يمكن إلا برأسك. فأرسل الظاهر عمر يستغيث به، ويقول خذ من الأموال ما تشاء، ودع سفك الدماء والقتال، وارحم النساء والأطفال، فلم يقبل سليمان باشا إلى أن دخل الحمام وخرج محمومًا، وعلم أنه ميت لا محالة، ثم إنه أوصى أن يرحل به إلى الشام ويدفن عند ولده، ثم قضى نحبه رحمه الله تعالى. فكتم الأمراء موته، ورحل ألاى بيك وأكابر الدولة كخية سليمان باشا من عكة، ومعهم العساكر والمدافع، وقربوا من طبرية، ثم ضربت المدافع، ونزلوا على طبرية، بعدما وضعوا الباشا في التخت وحوله الجوخدارية، والغلمان تروّح له بالمراوح يمينًا وشمالًا، وأمروا الخدام أن تنادي بالعسكر وهم مارين: الله ينصرك يابو خرما يا سليمان باشا. ثم أمر أن تفرد البيارق وتصطف العساكر وتسير، ومرّوا على طبرية، ولم يدر أحد ما جرى. ولما وصلوا إلى جسر بنات يعقوب بلغهم أن خمسة آلاف من المتاولة كامنين لهم، فرحلوا أول الليل وجدّوا في السير، فلطف اللطيف، ووصلوا للشام طلوع الفجر. ويوم دخولهم قامت الإنكشارية وقتلوا جماعة من الدالاتية تعديًا بلا سبب. وأما فتحي جلبي الدفتردار فإنه أمر بسجن السلحدار والخزندار والسيد محمد بيك، ابن عم سليمان باشا ومحمد آغا الديري، وكيل الخرج والمتصرف بدمشق الشام. وكان سجنهم في باب الآغا، ورسم على من معهم من الجماعة، وأقام ينتظر الجواب.
وفي نهار الأربعاء، رابع عشر شهر شعبان من هذه السنة، ورد خبر بأن أسعد باشا بن العظم، الحاكم في حماه، قد تقررت عليه ولاية دمشق الشام مع إمارة الحاج. فأبقوا متسلمها علي آغا المتقدم ذكره إلى حين حضور الباشا المذكور.
وفي ذلك النهار جاء ثلاثة نجابة من المدينة المنورة الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام، وأخبروا بأن المدينة محاصرة وأنها ثلاثة أحلاف: حلف مع غزة القلعة، وحلف مع الطواشي، وحلف مع أهل المدينة، وأنهم في قال عظيم، وأن شريف مكة أرسل إلى الطواشي خمسة عشر بيرقًا تساعده على ذلك، وأن النجابين المذكورين، قاصدين اصطنبول، ليخبروا حضرة السلطان بذلك الحال.
وفي يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان المبارك الواقع في سنة ١١٥٦، كان دخول أسعد باشا ابن العظم لدمشق الشام واليًا. وكان دخوله من مسجد الأقصاب، وهي المحلة المشتهرة عند أهل الشام بمز القصب. ودخل بموكب عظيم من الإنكشارية وأكابر دمشق وأمرائها وأعيانها.
وفي ليلة السبت، حكم قاضي دمشق بإثبات هلال رمضان، وضربت المدافع قبيل العشاء، وصليت التراويح في جامع الأموي وفي سائر الجوامع.
وفي ليلة الخميس خامس رمضان المذكور، سافر أسعد باشا بعسكره على الدورة، وترك على البلد المتسلم علي آغا المتقدم ذكره. وكان خروجه بزمن معتدل، والبلد بأمن وخير كثير، فرطل الخبز بخمسة مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري، ورطل الأرز بتسعة مصاري، ورطل اللحم بثمانية عشر مصرية، وغرارة القمح بخمسة وعشرين قرشًا. والغلاء بهذه الدرجة، ولم يكن محل ولا جراد، ولا قلة مطر، ولكن من قلة التفتيش، والالتفات. وقد سافر حضرة أسعد باشا، وأبقى المتسلم المذكور آنفًا، وقد ترك كل شيء على حاله.
وقد توسط فتحي أفندي الدفتري في الصلح بين الظاهر عمر حاكم طبرية، وبين حضرة أسعد باشا. فأرسل له الظاهر عمر أربعين حملًا محملة أرزًا وسكرًا وجوخًا، وهذا ما عدا لفتحي الدفتري مما اختص به، فإنه كان هو السلطان في الشام، وصاحب نفوذ الكلام، وكلامه يقتضي الأشغال، والأمر المفوض لذي الجلال.
وفي تلك الأيام وصلت الأخبار بأن الخارجي المسمى بطهماسب، وصل إلى أرض العراق، وأخذ مدينة كركوت، ومحاصر الموصل وبغداد، وقد باع الحريم والأولاد، نسأله الله تعالى اللطف بالعباد.
1 / 10
وفي تلك الأيام، رجعت الإفتاء إلى حامد أفندي ابن العمادي. وفي ليلة السبت خسف القمر، بعد نصف الليل خسوفًا فاحشًا، وبقي إلى أن طلع النهار. وفي رابع عشر شهر رمضان من هذا العام، ألقى رجل نفسه من أعلى منارة جامع الدقاق إلى الأرض؛ فهلك سريعًا، بعد أن تكسر جسمه؛ واسمه الشيخ حسن بن الشيخ يوسف الرفاعي. فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا إن أخا زوجته أتى بامرأة إلى بيته، وكانت من الخطيئات، فنهاه عن ذلك، فنهره وضربه، فذهب فأخبر أكابر الحارة، فلم يلتفتوا إليه لأنهم فوق ذلك بالانغماس، فذهب إلى جامع الدقاق، وصلى الصبح مع الإمام، وصلى على نفسه صلاة الموت، وصعد المنارة ونادى: يا أمة الإسلام، الموت أهون، ولا التعريص مع دولة هذه الأيام، ثم ألقى نفسه إلى الأرض، عفا الله عنه.
وفي ثامن عشر من هذا الشهر رمضان، وضع رجل يقال له المجرى، طبنجة في بطنه وقتل نفسه، فسألنا عن سبب ذلك، فقيل لنا هذا رجل عليه دين، فقتل نفسه من شدة كربه وقهره، مع أنهم أخبرونا أنهم وجدوا عنده نحوًا من خمسة أكياس قمح مخزونة، فما سمحت نفسه أن يبيع شيئًا منها ويوفي دينه، فخسر دينه ودنياه.
وفي يوم الثلاثاء في الخامس والعشرين من رمضان، في هذه السنة، أغلقت أهل الشام دكاكينها، وقامت الأشراف على بيت فتحي أفندي الدفتردار. وسبب ذلك أن تابعًا من أتباع فتحي أفندي، يقال له العفصة، شتم السيد علي أفندي النقيب، وسحب عليه السلاح، وعلى السيد علي أفندي بن الشيخ مراد الكسيح في جامع الأموي. فاجتمعت الأعيان، وعملوا ديوان كذا، وأخرجوا فتوى في قتله وإباحة دمه. فوقع التفتيش عليه، فتخبأ في بيت مصطفى آغا بن خضري الشربجي في الميدان، وكان هذا لعفصة قوّس السيد علي أفندي المرادي، وهو داخل إلى داره فلم تصبه، فانزعجت البلدة، واجتمعت الأكابر والأغاوات والقبجية والبلطجية وأمن الصرة عند القاضي في المحكمة، وعملوا عرض كذا في فتحي أفندي الدفتردار، بأنه من أعظم المفسدين هو وأتباعه، وأرادوا أن يرسلوه إلى الدولة العلية، ولكن انتظروا مجيء حضرة أسعد باشا من الدورة ليختمه، وثاني يوم بطلت همتهم، وكان كلامهم كما قيل: كلام الليل يمحوه النهار.
وفي ليلة الجمعة ثامن والعشرين من رمضان، وجد في جامع الأموي، عند باب الكلاسة، رجل شحاذ مذبوح، وعلى صدره فلوس مبدورة، وما ظهر غريمه، وقيل ظنوا أنهم ذهب، فذبحوه لذلك فلما وجدوهم فلوسًا بدورهم عليه بعد قتله.
وفي يوم الخميس رابع شوال، قدم أسعد باشا من الدورة، وفي تاسع شوال توفي علي آغا بن الترجمان، وكان رجلًا ثناؤه بين الناس جميلًا. وكان قبل يومين، عمل أسعد باشا ديوان كذا وجمع فيه الأكابر والأعيان، وسعّروا الحنطة والخبز، فجعلوا غرارة الحنطة بخمسة وعشرين غرشًا، ورطل الخبز بخمسة مصاري. وهذا أمر التسعير لا يستقيم على الخصوص في الشام.
وفي يوم الاثنين، خامس عشر شوال، رحل أسعد باشا أميرًا للحاج بالمحمل الشريف، متوجهًا إلى مكة المشرفة، ونهار السبت في عشرين شوال رحل الحاج الشريف وكان الفصل فصل الشتاء، والسماء صاحية، وكان غلاء وبعض الطاعون. وبعد سفر الباشا بقي رطل الخبز بخمسة مصاري، ولكن صارت غرارة القمح بثلاثين قرشا. ثم ضجت العامة، ورجموا القاضي، وما أفاد شيء.
قال المؤرخ البديري: وفي ذلك اليوم أفادنا أستاذنا شيخ قرّاء الشام، الشيخ إبراهيم الحافظ، ومن قال في حقه أستاذ الشام الشيخ عبد الغني النابلسي: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل، فليسمعه من فم الشيخ إبراهيم النابلسي، أفادنا بقراءة هذا الدعاء المبارك، وخاصيته لهجوم المخاوف في السفر والحضر، وهو هذا الدعاء: بسم الله الرحمن الرحيم. لقد جاءكم رسول من أنفسكم.
عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.
بسم الله الخالق، الطائل الأكبر، حرز لكل خائف، لا طاقة لمخلوق، مع الله ﷿، اللهم إني في حماك وتحت لوائك، فارحم حماك وانشر علينا لواءك واكشف عنا بلاءك الخارج من أرضك، والنازل من سمائك مطشين، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
1 / 11
وفي نهار الثلاثاء، الثالث والعشرين من شوال توفي الشيخ العالم الفقيه الواعظ الشيخ أحمد الخطيب. الواعظ والإمام في جامع الدقاق في محلة القبيبات قبلي دمشق الشام، وهي الميدان التحتاني عند باب الله. قال المؤرخ: وتلك المحلة بها مولدي، ومسقط رأسي وبها منزلنا، وبعد وفاة والدنا انتقلنا منها إلى محلة التعديل. وكان الشيخ أحمد المذكور رجلًا فاضلًا، فقد أحيا تلك المحلة بالعلوم والدين، وانتفع به كثير من المسلمين.
وفي اليوم الثالث والعشرين من شوال من هذه السنة، قدم سلخور من جهة السلطان، بتحصيل مال سليمان باشا، وقدره اثنا عشر ألف كيس، ودخل الشام مثل شعلة النيران، وأخرج حرم سليمان باشا من ديارهم إخراجًا شنيعًا، وصاروا يفتشونهم كذا، واحدة واحدة، مع التفتيش في جيابهم وأعبابهم، وختم على جميع مخادع الدار، وأمر بالقبض على ابن عم المرحوم سليمان باشا، وهو السيد محمد، وعلى جماعة أخرى معه، وأمر بالترسيم الشديد عليهم، وسأل عن محمد آغا الديري، وكيل خرج سليمان باشا، فأخبروه أنه ذهب مع أسعد باشا إلى الحج، فأمر بجلبه، فجاؤوا به، وأمر بالترسيم عليه.
قال المؤرخ البديري: ثم أحضر السلخور القاضي والأعيان، واستجلب حرم سليمان الباشا، وأحضر الجلاد وآلة العذاب، وشدّد على الحريم بالطلب، وأن يعلموه عن المال أين مخبأ، فلما رأوا التشديد خافوا من العذاب وأقروا له عن بعض مخابئ تحت الأرض، فأرسل خلف المعمارية الذين عمروا السرايا، وكانوا نصارى، وكان المعلم نصرانيًا يقال له ابن سياج، فأمر القبجي بتعذيبهم، وقطع رؤوسهم وأيديهم، فلما تحققوا عذابهم قالوا: نحن ندلك على كل ما عمل ثم أنهم حفروا له تحت الدرج، فبان عن سرداب، فرفعوا عنه التراب، ونزلوا في درج، فظهر مكان واسع وفيه صندوق مقفول وعليه غالات وقفول، فأخرجوه وفتحوه، فرأوه ملآن من الدراهم والريالات. ثم أخرجهم النصراني إلى مخدع، فحفر في دوائره، فإذا فيه سبع براني مملوءة من الذهب المحبوب السلطاني، فلما رأى الحاضرون ذلك الحال زاغت منهم الأبصار، ثم عدوه وضبطوه، فوجدوه ثمان مئة كيس وخمسين كيسًا. فلما بلغ الناس ما خرج عنده من هذا المال، وكان في أيام شدة الغلاء، مع سوء الحال، لهجوا بالذم والنكال، وقالوا قد جوّع النساء والرجال والبهائم والأطفال حتى جمع هذا المال من أصحاب العيال، ولم يراقب الله ذا الجلال.
وقبلا جاء قبجي لضبط مال سليمان باشا، فضبط ألفين وخمسين كيسًا، فلم يره بشيء كذا. وقد كان فتحي أفندي الدفتردار اشترى غالب متاعه والأغلال، فكان عنده من القمح ما بلغ ثمنه خمسة وعشرين كيسًا، وبلغ الغرارة بخمسة وعشرين غرشا، والكيس بخمس مئة غرش، فانظر كم غرارة بخمسة وعشرين كيسا، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسيأتي الكلام على بطش الله، وغضبه بالدفتري المذكور، لأن الله تعالى يمهل ولا يهمل. ولا تحسبنّ الله غافلًا عما يعمل الظالمون.
وفي اليوم الرابع والعشرين، وهو يوم السبت من شهر ذي القعدة، توفي الشيخ محمد المكتبي، هو وابنه، في الطاعون المشتد في هذه الأوقات. وكان إمامًا في الجامع القلعي، وشيخ كتاب في محلة الخراطين، فتوفي هو في أول النهار، وابنه في آخره. وكان مبدأ هذا الطاعون أول الخريف، في أواخر الصيف، واستمر حتى دخل الشتاء وزاد كثيرًا، وقد قيل بدخول السنة الجديدة يذهب.
وفي أوائل ذي الحجة، طلع نجم له ذنب، من جهة الغرب، ويستمر إلى ما بعد الشتاء بقليل واستقام إلى أن دخلت السنة الجديدة.
سنة ١١٥٧
وكان دخولها غرة محرم الحرام يوم السبت سنة سبع وخمسين ومئة وألف، ١١٥٧ فبقي النجم الذي له ذنب يطلع من جهة الغرب، ثم صار يطلع من جهة الشرق، وذنبه إلى الغرب.
1 / 12
وفي تلك الأيام قتل نفسه شيخ التكية. وفي تلك السنة كثرت بنات الخطا، ويتبهرجن بالليل والنهار، فخرج ليلة قاضي الشام بعد العصر إلى الصالحية، فصادف امرأة من بنات الخطا، تسمى سلمون، وهي تعربد في الطريق، وهي سكرى ومكشوفة الوجه، وبيدها سكين. فصاح جماعة القاضي عليها، أن ميلي عن الطريق، هذا القاضي مقبل، فضحكت وصاحت وهجمت على القاضي بالسكين، فأبعدوها كذا عنه أعوانه. ثم جمع القاضي الوالي والمتسلم، وذكر له ما وقع له مع هذه العاهرة، فقالوا له هذه من بنات الخطا واسمها سلمون، وافتتن بها غالب الناس، حتى صار ينسب إليها كل حاجة أو متاع، فيقولون هذا متاع سلموني، وهذا الثوب سلموني. فأخرج المفتي فتوى بقتلها، وإهدار دمها تسكينًا للفتنة، ففتشوا عليها وقتلوها. وأرسلوا مناديًا ينادي في البلد، أن كل من رأى بنتًا من بنات الخطا والهوى، فليقتلها ودمها مهدور، فسافر عدد منهن وانزوى البقية. ومع ذلك فالطاعون مخيم في الشام وضواحيها، مع الغلاء ووقوف الأسعار.
وفي نهار الأربعاء تاسع عشر محرم من هذه السنة، ورد من الدولة العلية خط شريف إلى القبجي، الذي جاء لضبط مال سليمان باشا، بأن يجمع أعيان البلد ويقرأ عليهم الفرمان، ومضمونه بأن يفتش ويفحص على خلفات الباشا المذكور، وأن يعذب الرجال والنساء بلا معارض حتى يقروا بالمال. فأجابوا بالسمع والطاعة، فأول من أتى به، ابن عم الباشا السيد محمد وهدده، فحلف بالطلاق، بأن ما عنده علم وقيل ضربه، فأقرّ على مكان، وقال احفروا هنا، فحفروا في دار الباشا حول الوجاق. فبان عن أربع زلع ذهب، فيهم ستة عشر ألف ذهب. ثم ضربوا الطواشي، فأقرّ بأنه مودع عند رجل يقال له حسن الطرابلسي، مخلاة ملآنة ريالات. فسارت إليه الأعيان، وأتوا به وبالمال، فأخرجوه فوجدوا داخل المخلاة بين المال جوهرة ليس لها قيمة، ورأوا المال ناقصًا عن ما قال الطواشي، فأمر القبجي بحبس الذي خرج من عنده المال، وحبس أولاده ومن يلوذ به. وأمر بحضور نساء الباشا وحريمه، وقد ذكرنا أولًا أنه أخرجهم كذا من الدار عنفًا وتركهم تحت الترسيم، والآن أمر بإحضارهم فأحضروهم وصار يقررهم فأنكروا وجحدوا، فأمر بحبسهم، فحبسوا في باب البريد وشدد عليهم. وكان لسليمان باشا سرية مقدمة على جميع محاظيه تسمى زهرا، كأنها البدر في أفق السماء، وكان قد تركها القبجي عند سليمان بيك وكيل سليمان باشا على أملاكه تحت الترسيم. فلما جاءه الفرمان بعقوبة الرجال والنساء أمر بإحضارها، وسألها عن المال، فأنكرت وادعت أنها ما رأت شيئًا ولم تعرف شيئًا، فأمر بضربها، فضربت على وجهها ويديها وأجنابها، حتى عدمت صوابها فلم تقرّ بشيء، وهي تحلف أن ليس لها علم ولا خير ولا أطلعها سيدها سليمان باشا على أمر، فتركها تحت الترسيم، لأنه جبار لئيم وشيطان رجيم ليس له شفقة على الحريم، عذّبه الله بنار الجحيم، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ثم بعد ذلك جمع القبجي جميع حريم الباشا الجوار والأحرار جملة واحدة، وأخذ جميع ما معهم كذا وما عندهم من ذهب وفضة ومتاع وحلي وألبسة وجميع ما تقتنيه النساء، وذلك بعد العذاب والإهانة والضرب الشديد. قاتله الله بجلود لا دباغ لها وعذبه بنار الخلود.
ثم إن سليمان باشا كانت له زوجة هي بنت الشيخ ياسين القادري، لما رأت ما حلّ بصحيباتها من الإهانة سألها القبجي عن مال زوجها الباشا، وهددها بالعذاب، فخافت وأعطت له شكلًا من الذهب يساوي عشرة أكياس، وأعطته تمسكات، وهي سندات كانت على بعض التجار بنحو مئة وخمسين كيسًا. وكان جميع ذلك المال إرثًا عن أبيها الشيخ ياسين القادري، ﵀ وقدّس سرّه.
وكل هذا الحال وأسعد باشا العظم في الحج. ولما جاء أسعد باشا من الحج عمل ديوانا، وحضر القبجي وأخرج خطًا شريفًا بأن أمره مفوض يفعل ما يشاء من تعذيب وقتل وحبس، ولا أحد يعترضه. وقد ظن الناس أن أسعد باشا يقوم ويقعد لذلك، فخرج الأمر بخلاف ذلك، وقام ولم يحرك ساكنًا. وسيأتي قريبًا أخذ ثأر سليمان من فتحي أفندي الدفتردار.
ثم بعد مدة جاء فرمان بالعفو نامه، وجمعوا محمد آغا بن الديري والسيد محمد بن عم سليمان باشا والسيد سليمان، فباعوا القمح والأملاك وما بقي من الأمتعة والزردخانة إلى أسعد باشا بأربع مئة كيس.
1 / 13
وفي نهار الخميس خامس جمادى الأولى، سافر إلى اصطنبول القبجي المذكور. وقد ظنت الناس أن أسعد باشا ابن أخي سليمان باشا يفعل أمرًا في القبجي وفي فتحي الدفتردار فلم يقع منه شيء وسيأتي تدبيره في تدمير الدفتردار قريبًا.
وفي آخر جمادى الثانية جاء خبر من الدولة العلية في طلب فتحي أفندي الدفتردار، فسار صحبة القبجي الذي جاء في طلبه.
وفي خامس يوم رجب تعصبت أعيان الشام، وعملوا عرضًا في فتحي أفندي بأنه من المفسدين، وما تم الأمر معهم لاختلاف كلمتهم.
وفي ليلة الثالثة والعشرين من رجب بعد العشاء انشقت السماء ونزل منه آفة عظيمة، واشتهر ذلك بين الناس. قال المؤرخ: ولم أرها بعيني.
وفي ثامن يوم من شعبان دخل قاضي الشام محمد أفندي زاده، وكان رجلًا عاقلًا، إلا أنه ما عنده سياسة ولا تدبير.
وفي اليوم الرابع عشر من شهر رمضان بهذه السنة جاء فتحي أفندي الدفتردار من اصطنبول ودخل الشام بفرح وسرور، ولم ينله أدنى ضيم، وسبب ذلك ما بذل في الاصطنبول من المال الذي تميل به قلوب الرجال. وكان محسوبًا على القظلار وجماعة من رؤساء الدولة كبار. وقيل إنه دخل اصطنبول سرًا وفرق المال سرًا وجهرًا، وكان قد طلبه السلطان فزيّوا رجلًا بزيه، وأدخلوه على الملك، فقرعه بالكلام وبما وقع منه، وما أرسلت أهل الشام من الشكايات عليه، فكان كلما قال له حضرة الملك محمود خان كلامًا يشير له برأسه أن نعم، وكان قد أمره بذلك من أدخله، فحالًا أمر بقتله فقتل، وهو يظن أنه فتحي أفندي الدفتردار، ثم أمروا فتحي أن يلحق بالشام ليلًا. وفي آخر ذي الحجة بطلت الفلوس الذي كذا كانت ضرب الشام.
سنة ١١٥٨
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومئة وألف نهار الثلاثاء. تفاقم الأمر من تعدي الزرباوات وهم الأشقياء، فاستطالوا في سب الدين وظلم الناس وغير ذلك. وحاكم الشام حضرة أسعد باشا لا يحرك ساكنًا، ولم يفعل شيئًا، حتى صاروا يسمونه سعدية قاضين، نائمة مع النائمين، ونرى الأشقياء للعرض والمال مستحلين. لكن البلد من الحركات ساكنة ومن ظلم الحكام آمنة. وفي خمسة عشر من جمادى الثانية توفي الشيخ الفاضل معتقد أهل الشام على الإطلاق الشيخ يوسف الطباخ الخلوتي. قال المؤرخ: ومما منَّ الله عليّ أن حلقت رأسه واغتنمت دعاءه، ﵀ ورضي عنه.
وفي نهار الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الثانية من هذه السنة قامت العامة من قلة الخبز وغلو الأسعار وهجموا على السرايا، رافعين أعلى أصواتهم بالبكاء والتضرع، قائلين ما يحل من الله قلة الشفقة على العباد الذين تضرروا بالغلاء، وأنت حاكم الشام ومسؤول عند الله عنا وعن هذه الأحوال. فقال لهم أسعد باشا: اذهبوا إلى المحكمة، واشكو حالكم إلى القاضي. فأقبلوا نحو المحكمة، واصطرخوا فيها يشكون حالهم وما أصابهم وما هو واقع بهم. فخرجت جماعة القاضي بالعصي وطردوهم، وكان ذلك بأمر نائبه، فهجمت العامة ورجموهم بالحجارة، فأمر القاضي أعوانه أن يضربوا بالبارود فضربوهم، فقتلوا منهم رجلًا شريفًا وجرحوا منهم جماعة، فغارت العامة عليهم، وساعدهم بعض الإنكشارية، فهزموا القاضي وقتلوا باش جوقدار وبعض أعوانه، ونهبوا المحكمة وحرقوا بابها، وسكّرت الناس البلد، فركب بعض الأغاوات وردّ الناس. وأما القاضي فقد هرب من فوق الأسطحة هو ونائبه وجماعته، فأخذه بعض الأكابر وصار يأخذ بخاطره، فحلف القاضي لا يسكن هذا الشهر إلاّ بالقلعة. ثم جمعوا مال القاضي ومتاعه والذي نقص منه فرضوه على خزينة الوجاق وعلى بعض الأكابر والأعيان، وأرضوا القاضي وصالحوه وإلى المحكمة ردّوه.
وفي نهار الثامن والعشرين من جمادى الثانية توفي الشيخ الزاهد صاحب الأحوال والكرامات الشيخ أحمد النحلاوي الأحمدي، ودفن بزاويته القاطن بها جوار ستي خاتون شاه أخت الملك العادل السلطان نور الدين الشهير بزقاق المحكمة.
1 / 14
ثم في هذه الأوقات زاد غلو الأسعار وقلت الأمطار وعظمت أمور السفهة والأشرار، حتى صار رطل الجبن بنصف قرش والبيضة بمصرية وأوقية السيرج بنصف الثلث، ومد الشعير بنصف قرش، ومد الحمّص بنصف قرش، ومد العدس بنصف قرش، وغرارة القمح بخمسة وأربعين قرشا، بعدما كانت بخمسة وعشرين غرشا، وأوقية الطحينة بأربعة مصاري، والدبس كل ثلاثة أرطال بقرش، ورطل العسل بقرش وربع، وكل شيء نهض ثمنه فوق العادة، حتى صار مدّ الملح بنصف قرش.
وفي تلك الأيام هلك مصطفى آغا ابن القباني كيخية الإنكشارية بمرض أعيا الأطباء برؤه، وكان من الذين يدخرون القوت ويتمنون الغلاء لخلق الله، فجعل الله العذاب والعقاب، لقد بلغني عنه أنه لما أرادوا دفنه حفروا له قبرًا فوجدوا فيه ثعبانًا عظيمًا، فحفروا غيره فوجدوا كذلك، حتى حفروا عدّة قبور وهم يجدون الثعبان، قلت: وقد سبق ذلك فيما سلف لبعض الظلمة. وقد وجدوا في تركته من السمسم مئة غرارة، على أن في البلد كلها لم يوجد مدّ سمسم، ووجدوا من القمح شيئًا كثيرا، وقد طلب منه أن يبيع غرارة القمح بخمسة وأربعين قرشًا فلم يقل، وحلف لا يبيعها إلاّ بخمسين، فهلك ولم يبع شيئًا، فبيعت في تركته، ورحم الله عباده بموته لأنه أرحم الراحمين.
سنة ١١٥٩
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومئة ألف، وكان أولها يوم الأحد. وقد دخل قاضيها مصطفى أفندي وقدامه أعوانه حاملين البندق والسلاح، حتى وصل إلى المحكمة، وهذا لم يقع لغيره، ثم جلس في المحكمة لا يحرك ساكنًا، وفقه الله.
وكان الحاكم في الشام والوالي بها حضرة الوزير الخطير أسعد باشا ابن العظم أيّده الله وأعزّ كلمته. وكان غائبًا في الحاج، والمتسلم والكيخية موسى. ولكن الغلاء قائم على قدم وساق مع الكرب والخوف والشقاق.
وفي ثالث صفر دخل الحاج دمشق نهار الخميس صحبه أميره المعظم والوزير المفخم حضرة الحاج أسعد باشا العظم، فهو والحجاج على غاية من الصحة والسلامة. ثم بعد ذلك أرسل يطلب الدالاتية طلبًا حثيثًا، فلما رأت الإنكشارية ذلك ضاقت عليهم الأرض، وقالوا كأقوالهم السابقة في قلة أدبهم: الست سعدية تريد أن تغدر بنا، وهذا الأمر لا يخوفنا. ثم زادوا بحمل السلاح ونهب المال وسبي العرض وسب الدين، وغير ذلك من الفظائع. ولما زادوا عتوًّا وفتكًا، ولم يراقبوا حضرة الحق ﷻ، أرسا الله تعالى من غضبه ريحًا شديدة على الشام ما رؤي مثلها في سالف الأيام، فقلعت الأشجار من أصولها وأرمت غالب الجدران، حتى ظنت الناس أن القيامة قد قامت.
1 / 15
وفي يوم الاثنين ثاني عشرين صفر من هذه السنة المذكورة بينما الناس قبل الظهر في أشغالهم، وإذا بضجة عظيمة وضرب بارود، فقيل ما الخبر، قيل ملكت الدالاتية القلعة، فسكّرت البلد وزاد الفزع في كل أحد، ولما بلغ الخبر للإنكشارية قاموا على قدم وساق. وقالوا أخذت منا القلعة يا شباب، واجتمعوا في باب الجابية بالسلاح الكامل ينتظرون القتال. ولما وصل الخبر لحضرة أسعد باشا فرح واستبشر ونادى: اطلبوا سوق ساروجا وجدّوا في الطلب. وأمرهم أن يتركوا جهة القبلة، وكان ذلك منه حيلة وخدعة. ثم نادى في عسكره نداء شاع في البلد بأن مراد أحمد بن القلطقجي وعبد الله بن حمزة ومن لهم من الأتباع، وكانا من رؤساء وأمراء سوق ساروجة. هذا والجنك يلعب بسوق ساروجة، وكأنه لم يكن حاكم بالشام إلا هم، فأراد الله تدميرهم. ثم أمر حضرة الباشا أن يوجهوا المدافع على سوق ساروجا، فوجهوا ما عليهم وأمر بضربها بالكلل فضربت، فما كان بأقل من حصة يسيرة حتى احترقت الدور وتهدمت البيوت، واحترق بيت القلطقجي وعدم عن آخره، ونهبت العساكر كل ما فيه، ثم سرى النهب في بقية الدور، فنهبوا وقتلوا ومثلوا وبدعوا وذهب الصالح والطالح، حتى صارت محلة سوق ساروجا قاعًا صفصفًا. وأما ابن القلطقجي فإنه فرّ هاربًا بعد ما بذل من الشجاعة هو وجماعته الغاية القصوى. ثم أمر حضرة الباشا أن تدار المدافع على جهة الميدان فوجهوها، وكان رأس المفسدين بها مصطفى آغا بن خضري جربجي، حتى سمى نفسه سلطان الشام، وعنده زمرة من الأشقياء يتقوّى بهم، وبها أيضًا أولاد الدرزي أحمد آغا وخليل آغا ولهم بها دولة وصولة فحين بلغ هؤلاء المفسدين بأن حضرة أسعد باشا وجّه عليهم المدافع بالعساكر أوقع الله الرعب في قلوبهم، وركنوا للهرب والفرار، وطلبوا البراري والقفار. وبانهزامهم وهربهم تقطعت قلوب بقية من كان من الشجعان من أهل الميدان، فمنهم من هرب ولحق بساداتهم، ومنهم من قبر في المغاير والقبور، ومنهم من غطس في النهور. ولما وصلت للميدان المدافع لم يجدوا فيها من يدافع فأول ما اشتغلت العساكر بهدم دار ابن خضري، بعد ما نهبوا جميع ما فيها من المتاع وغيره، وكذلك فعلوا بدار ابن حمزة وبغيرها من الدور، حتى نهبوا نحوًا من خمس مئة دار، وبعد ذلك اشتغلوا بهدم الدور التي نهبوها.
وأرسل حضرة أسعد باشا، أسعده الله وقوّاه، خبرًا إلى مشايخ الحارات بها وأئمتهم بأن يقبضوا على بقية الأشقياء الموجودين، وإن لم يفعلوا يلزمهم بغرامة أموال عظيمة. فصاروا يتتبعون الأشقياء واحدًا بعد واحد، ويقولون لحضرة الباشا: هذا الشقي فلان الفلاني، وهذا الآغا الفلاني، وهذا الشربجي الفلاني. وحضرة الباشا يأمر بضرب أعناقهم أمام باب السرايا وترك جسومهم تأكل منها الكلاب مدة طويلة، حتى صاروا عبرة لمن اعتبر. فسكنت بعد ذلك الشام، وصارت كقدح لبن، وصارت الناس في أمن وأمان، وسترت الأعراض. فملك الباشا البلد بنحو أرع مئة من العسكر الدالاتية. وقد أمنت البرية، فكان ذلك بهمته القوية بعد ما كانت تقول كبراء الميدان وأعوانهم: لو جاءنا عشر باشاوات ومنهم السلطان ما حسبنا لهم حساب، ولشرطنا ذنبهم بالطبنجيات. فانظر الآن، فقد صاروا أذل من الذباب وطعمًا لأخس الكلاب. وأما أولاد ابن الدرزي فإنهم هربوا والتجأوا إلى عرب ابن كليب هم وأتباعهم، وأما ابن حمزة وأتباعه فإنهم فروا نحو طبريا والتجأوا بالظاهر عمر، وأولاد القلطقجي وأتباعهم فهربوا إلى جبل الدروز، والذي منهم وقع جعلوا جلده رقع، وكان أعظم مصيبة وخذلان لبيت حسن تركمان، قتل منهم خمسة رجال: حمزة بيك ومحمد آغا وحسن آغا وخليل آغا وسايسهم. وكانوا من المفسدين الظالمين المؤذين، مهتكين للحريم، سبابين للدين، عدا حمزة بيك فإنه كان بخلاف ذلك، فقد ذهب غلطًا وهدرًا.
وقد زينت البلد، والمدافع تضرب صباحًا ومساءً مدة شهرين، والنوبة مع الألعاب النارية. وكفى الله المؤمنين القتال، وقطع دابر القوم الذين ظلموا. والحمد لله رب العالمين.
قال المؤرخ البديري: وقلت في وصفهم من المواليا:
أين الزلاقة التي كانت شبيه السيف ... جزمات لا يشلحوها بالشتا والصيف
إن شاف واحد صديقه لا يقله كيف ... ديك الزلاقة مضت يا حيفها يا حيف
1 / 16
وفي آخر ربيع الثاني أرسل حضرة أسعد باشا العظم عسكرًا عظيمًا إلى مدينة بعلبك، لقتل واليها الأمير حسين، فلم يجدوا له أثرًا، فدخلت الأعوان ونهبوا وسلبوا وفعلوا ما فعلوا، ثم أتوا بثمانية رجال من أعيان بعلبك، ومن جملتهم مفتيها لدمشق الشام، فشنق مفتيها المذكور وضربت أعناق الباقين.
وفي تلك الأيام أرسل حضرة أسعد باشا جملة من العساكر إلى العرب، فجاؤوا برؤوس من العرب وجمال وأغنام وسلب وغير ذلك. وقد أرهب حضرة أسعد باشا المذكور الكبار والصغار، وعظم صيته حتى في البراري والقفار، وصاروا يضيفون لاسمه الحاج، ويقولون: الحاج أسعد باشا.
وفي هذه الأيام جاء من الدولة العلية قبجي ومعه من حضرة السلطان هدية ملوكية لحضرة الحاج أسعد باشا وهي كرك عظيم مفتخر وسيف ملوكي وخلع وتشاريف. وذلك لم يسبق لغيره من الوزراء والحكام، إلا إلى الوزير الأعظم صاحب الختم، إذا كان في سفر حرب وصار على يده فتوح بلدان، فسبحان المعطي المانح.
وكانت الدولة منذ أمد غير بعيد قد رفعت أرط القبوقول من الشام، ولم تر لفّات برمة. فأرسل حضرة أسعد باشا حفظه الله يطلب من الدولة أرطًا، فأرسلوا له أرطة أون طقوز، ودخلت بموكب عظيم، سرت أناسًا وأكمدت أناسا.
وأرادت بعض الأشقياء أن تقيم رؤسها، فأخبروا حضرة الباشا بذلك، فأرسل يقول للآغا: كل من أدخله من أولاد الشام من غير جنسك لا يرجع اللوم إلا على نفسك. فانتظم الحال، وقويت دولة القبو قول في دمشق الشام، وبرموا اللفّات، ورجعت دولتهم أحسن مما كانت.
وفي جمادى الأولى من هذه السنة وصل الجراد للشام، وكان حولها سنين مخيم، فنزل على بساتينها، فأكل حتى لم يبق ولم يذر، فأرسل حضرة الباشا رجلين من أهل الخبرة يأتونه بماء السمرمر. ثم إن هذه السنة كانت كثيرة الأمطار والخيرات والفواكه والنبات. ومع ذلك فأهل الشام في شدة عظيمة من الغلاء، ونهض الأسعار في جميع البضائع. وكان حضرة أسعد باشا حفظه الله عمل ديوانًا، وأرسل خلف بائعي القمح، وطلب منهم إحضار القمح وهددهم، فحلفوا له بأن ما عندهم شيء ولا يوجد. فقال لهم أنا عندي قمح كثير في حماة، فاطلبوه فأرسلوا يطلبون جميع ما يوجد من القمح خاصة حضرة الباشا وغيره، فجاءهم من حماه أحمال قمح بغير حساب، وباعوه في الشام على السعر الواقع. ومع ذلك فرطل الخبز بخمسة مصاري، وقد طالت هذه الشدّة.
وفي نهار الأحد بعد العصر خامس عشر جمادى الثانية من هذه السنة ضربت مدافع، فسألت الناس عن الخبر، فقيل: إن سعد الدين باشا أخا أسعد باشا جاءته رتبة وزارة، وجاءه طوخ. فهرعت أكابر الشام لأجل تهنئة أخيه أسعد باشا. وكان أسبقهم لتهنئة الباشا فتحي أفندي دفتر دار الشام، فلما رآه الباشا قام ودخل لدهليز الخزنة، فتبعه وجلس عنده، فأخرج أسعد باشا صورة عرض وأراه إياه، فأخذه فتحي أفندي وقرأه، وإذا فيه الأمر بقتله. وقال له حضرة الباشا ما تقول في هذا. فقال سمعًا وطاعة. لكن أنا في جيرتك فخذ من المال ما أردت وأطلقني، فقال له الباشا: ويلك يا خائن، أنا لم أنس ما فعلت في نساء عمي. ثم أمر برفع شاشه وقطع رأسه، فوضع في رقبته حبل، وسحب إلى خارج السرايا وقطع رأسه، وأرسل للدولة. ثم أمر الباشا أن تطاف بجثته في سائر شوارع الشام وطرقها وأزقتها ثلاثة أيام، ففعل به ذلك، وطيف به عريانًا مكشوف البدن وتركوه للكلاب، ثم دفنت جثته في تربة الشيخ رسلان، وأمر الباشا بالإحاطة على داره وعلى ماله والقبض على أعوانه، فألقوا القبض على خزنداره عثمان وعلى ولده فأمر بحبسهما، ثم أتوا بأكبر أعوانه وكان يلقب بالعفصا فقطع رأسه حالًا. وزادوا على أعوانه بالتفتيش، فقتل بعض أعوانه وخدامه، ثم ضبط الوزير تركته وأموال أتباعه جميعًا للدولة العلية، فبلغت شيئًا كثيرًا، وتفرق الباقون أيدي سبا، كأن لم يكونوا وانقضت دولة كأنها طيف خيال.
1 / 17
قال المؤرخ البديري: ذلك بما كسبت يداه، فقد كان ظلومًا غشومًا بغيضًا لأهل الشام، يريد لهم الجور والظلم، لا يراعي الكبار ولا الصغار، إلا ناس من الأشرار، وهم من حزب الشيطان، قد اتخذهم عدّة لكل عدوان. وتحقيق أمره وخبر قصة البطش به ألخصها، وأنا الفقير مهذب التاريخ ومحرر هذه الورقات، فأقول: ذكر المرادي في آخر ترجمة فتحي الدفتري المذكور ما ملخصه: كان المترجم يراجع في الأمور حتى من الوزراء والصدور، طالت دولته وعظمت عليه من الله نعمته، واشتهر صيته وعلا قدره ونشر ذكره، لكنه كان يتصدى للاستطالة في أقواله وأفعاله، وأتباعه متشاهرون بالفساد والفسوق وشرب الخمور وهتك الحرمات، وهو أيضًا متجاهر بالمظالم، لا يبالي من دعوة مظلوم، ولا يتجنب الأذى والتعدّي، ونسب إلى شرب الخمر أيضًا وغير ذلك. فلذلك كانت أقرانه وغيرهم يريدون وقوعه في المهالك، ولما توفي الوزير سليمان باشا العظم والي دمشق الشام وأمير الحاج، وجاء من قبل الدولة الأمر بضبط أمواله ومتروكاته، نسب المترجم إلى أمور. وفي خلال ذلك تولى دمشق حاكمًا وأميرًا للحاج ابن أخيه الوزير أسعد باشا العظم الذي كان حاكمًا في حماة، فأكمد للمترجم فعله المنسوب إليه حين وفاة عمه، ولم يره إلاّ ما يسرّه. وكان المترجم منتميًا إلى أوجاق اليرلية. وكان الأوجاق في ذلك الحين قواه قائمة وجيوشه بالفساد متلاطمة، وهم عصبة وجموع يذل لهم أكبر قرم بالمذلة والخضوع، قد أبادوا أهل العرض وانتهكوا الحرمات وأباحوا المحرمات، ولم يزالوا في ازدياد حتى عمَّ فسادهم البلاد والعباد. وكانت رؤساؤهم زمرة ضالّة وفئة متمردة وصاحب الترجمة فتحي أفندي يوليهم مكرماته ويمنحهم إحسانه وإنعاماته، وهم لبابه وفود، قد اتخذوه ركنًا وسندًا، وأرباب العقول في دمشق في همّ وكدر وخوف وحذر، كل منهم متحيّر في أمره ومتخوف من هذا الحال وعوقب شرّه. وأمير الحاج وقتئذ والي دمشق أسعد باشا المذكور ناظر لهذه الحال. متحيّر من تلك الأحوال؛ لأن الشقي منهم كان يجيء إلى حبس السرايا ويخرج من أراد من المحبوسين من غير إذن أحد علنًا وقهرًا. وإذا مرّ الوزير المذكور بهم وهم جالسون لا يلتفتون إليه ولا يقومون له من مجالسهم عند مروره بهم، بل يتكلمون في حقه بما لا يليق بمسمع منه، فيتحمل مكارههم ولا يسعه إلا السكوت. واستمرّ أمرهم على ذلك، إلى أن كتب في حقهم للدولة العلية، فورد الأمر بقتلهم وإبادتهم، فأخفاه الوزير مدّة، ثم بعد ذلك أظهره، وشرع في قتلهم وإبادتهم، وأعطاه الله تعالى النصر، وفرجت عن دمشق الشدائد. ثم بعد أشهر قليلة كتب الوزير المذكور إلى الدولة العلية بخصوص صاحب الترجمة وما هو عليه، وأرسل الأوراق التي في حقه مع علي بيك كول أحمد باشا، وكان ذلك بتدبير خليل أفندي الصديقي وأعيان دمشق. ثم صادف أن صاحب الدولة كان حسن باشا، وكان يبغض المترجم فتحي لكونه لما جاء قريب حسن باشا المذكور وهو أحمد آغا آغات أوجاق الينكجرية طرده، وصار أخيرًا وزيرًا، فأدخل للسلطان أحواله، وعرفه طبق مكاتبة أسعد باشا. وكان أسعد باشا ضمن للدولة تركته بألف كيس، فجاء الخبر بقتله.
وكان قبل ذلك صار من أهل دمشق عرَض في خصوصه، فلم يفد وكان هو بإسلامبول، فأعطى العرض له، ولما جاء لدمشق صار يخرجه، وينتقم ممن اسمه مكتوب فيه. وكان السبب في ذلك وجود آغت دار السعادة بشير آغا، وكان المترجم منتميًا إليه، وكان للآغا المذكور نظر على المترجم وحماية، فصادف الأمر بالمقدور أن بشير آغا توفي وحان القضاء وآن وقته، فجاء الأمر بقتله، فقتل شر قتلة على الوجه الذي قدمناه، وبالتاريخ الذي ذكرناه.
وقد عمل البديري صاحب الأصل في واقعة فتحي الدفتري المذكور هذه المواليا، فقال:
يا ما فعل فتحي لما صار دفتردار ... غرّه زمانه وسعده حول داره دار
دولاب عزه رقص يا ناس لما دار ... لم يعتبر أن هذا الدهر بو غدار
1 / 18
ومع ماله من سيئات كان له حسنات ونفع في بعض الأوقات للأنام. فمن آثاره المدرسة التي في القيمرية، وأوقف جرايات وشوربة لطلبة العلم، وعمّر رصيف درب الصالحية، وعمّر الحمام في ميدان الحصا المسمى باسمه، والقهوة أيضًا. ومن أعظم آثاره تجديده لمنارتي تكية السليمانية التي في المرجة، وذلك بعد سقوطهما أيام الزلزلة، فأعيدتا أحسن مما كانتا، وله غير ذلك. غير أن سيئاته أكثر من حسناته. نسأله تعالى أن يتغمدنا بلطفه وعفوه، ويجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فإنه قريب مجيب آمين.
وفي تلك الأيام جاؤوا بشيخ جيرود، وأخبر أسعد باشا بأنه قتل شخصًا، فسأله الباشا فأجابه، وقال إنه قد قتل أبي فقتلته، فأمر بقتله، فقتل حالًا. وفي يوم الأحد ثالث عشر رجب من السنة المذكورة توفي محمد آغا ابن الديري في داء الدوسنطارية، وقد كان مدركًا لأعمال أسعد باشا وأعمال أبيه إسماعيل باشا وعمه سليمان باشا، وكان وكيلًا للخرج، لكن عليه مدار كل الأعمال، وصاحب الكلمة النافذة عندهم، حتى قيل إنه صاحب كل حركة وقعت بالشام، وإنه مرتكب للفواحش من شرب خمر وغيره مع إيذائه للرعايا. وكان أيام الفتن يمشي قدام الدالاتية يسلب وينهب ويخرب بيوت الإنكشارية، وقد أتى بأحجار بيوتهم وأخشابهم وعمّر بها دارا، فما تمت العمارة حتى هلك مع الهالكين وضبط الباشا ماله ونواله، وذهب مع الذاهبين.
وثاني يوم موته قتل الباشا عثمان آغا خزندار فتحي أفندي الدفتردار كما قدّمنا، وقتل معه أحمد آغا الشربجي خزندار فتحي الثاني، وضبط مالهما.
وبهذا اليوم، وهو يوم الاثنين رابع عشر رجب، جاؤوا بماء السمرمر، وطلعت لملاقاته المشايخ وأهل الطرق بالأعلام والمزاهر وطبول الباز، ودخلوا بموكب عظيم بكت فيه خلق كثير، وعلقوه بمنارة الشيخ الأكبر في الصالحية، وفي منارة تكية المرجة، وفي منارات الجامع الأموي، وأبقوا في السرايا قِرَب من ماء السمرمر، وذكروا أن مرادهم أن يعلِّقوهم في أراضي حوران.
هذا والغلاء قائم على قدم وساق، لم يقع مثله في قديم الزمان، فرطل الخبز وصل إلى سبع مصاري، والوسط بستة، والرديء الدون بخمسة مصاري، ورطل الكعك بخمسة عشر مصرية، ورطل الرز بعشرة مصاري، وأوقية السمن بخمسة مصاري في وقت جلبه وأوقية الطحينة بخمسة مصاري، وأوقية السيرج بخمسة مصاري، وأوقية القريشة بثلاث مصاري، وكذلك الجبن والدبس الرطل بثمانية عشر مصرية، ورطل العسل بقرش ونصف، ومدّ الملح وصل ثمنه للعشرين مصرية، ومد الحمص بثلاث أرباع المصرية، وكذلك العدس. وأغرب من ذلك مع كثرة الفاكهة رطل التين الطري بأربعة مصاري، والكوسا كل ثلاثة بمصرية، والباذنجان الرطل بثمانية مصاري، وكل يقطينة بأربعة مصاري، ورطل اللحم بنصف قرش والبطيخة بنصف ربع ريال، إن كانت صفراء أو خضراء، والخيار الرطل بمصريتين. وقد دام هذا الأمر سبع أو ثمان سنين، لكن في هذا العام قد زاد الحد، والحكام لم يفتشوا على الرعية، وهذا مع قلة البيع والشراء والكساد وكثرة الديون على العباد، وظلم بعضهم البعض، وقد ضاقت على العباد فسيح الأرض والحكم لله.
وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رجب في هذه السنة تسع وخمسين ومئة وألف جمع حضرة أسعد باشا العظم أكابر الشام وأعيانها في المحكمة، ووقف جميع أملاكه على أولاده، ثم على أولاد أولاده على حسب ما اشترط في الوقفية، وفرّق على أولاد عمه ما كان لهم، وقد كان ضبط مال محمد آغا ابن الديري وعمل حسابه على عقله، فظهر لحضرة أسعد الباشا أنه قد تبقى له مع ابن الديري المذكور اثنا عشر كيسًا. ثم جاءت الأصناف وأخبرت حضرة الباشا بأن لهم متبقى في ذمة ابن الديري من أيام أبيك إسماعيل باشا وعمك سليمان باشا. وفي أيام دولتك اثنا عشر ألف قرش ولجوا في طلبها. فقال: الحقوه وخذوهم منه، فأنا باقي لي معه اثنا عشر كيس ذهب، فليس لكم فائدة في هذا الطلب، فكل منهم ترك ماله عند الله وذهب.
وفي ليلة الجمعة لخمسة وعشرين من شهر رجب خرج أسعد باشا إلى الدورة من هذه السنة. وفي ليلة الثلاثاء التاسعة والعشرين من شهر رجب من هذه السنة توفي مصطفى أفندي زاده قاضي الشام، وصار ولده نائبًا عنه بمكانه.
1 / 19
وفي نهار الجمعة في الثاني والعشرين من شهر شعبان من هذه السنة قدم محمد آغا بن فروخ بمنصب دفترية الشام، مكان فتحي أفندي الفلاقنسي، وأقام في داره المشهورة بهم.
وفي خلال هذه الأيام زاد الهم على الناس واشتد بهم وقوف الحال مع شدة الغلاء، والخبز بستة مصاري كما قدّمنا، حتى صار رأس الكرنب الذي قدر النارنجة بمصريتين، والباقي على هذا المنوال فالأمر لله الملك المتعال.
وفي خلال هذه الأيام من هذه السنة جاء مقرر طرابلس الشام إلى حضرة سعد الدين باشا، وكان مع أخيه في الدورة، فرجع مع أخيه إلى دمشق، وأقام قليلًا، وسار طالبًا منصبه، وفقه الله.
وفي هذه السنة كان ثبوت رمضان ليلة الاثنين، والعيد الأربعاء والصوم تمام.
وفي نهار الجمعة بعد الصلاة في سبعة شوال من هذه السنة خرج حضرة والي الشام وأمير الحاج أسعد باشا العظم قاصدًا الحج الشريف، والحاج خرج يوم عشرين. ولما سافر حضرة الباشا ترك المتسلم بها وهو موسى كخية مكانه في الشام. فجاءه الخبر بأن الزرباوات وهم الأشقياء المطرودون مرادهم بأن يأتوا إلى الشام على حين غفلة من أهله، ويقتلوا جماعة من الذين تسببوا في طردهم، فاضطرب المتسلّم المذكور، وأرسل استجلب عبد الله الترك آغة الدالاتية المطرود وقوى شوكته وكثر جماعته. وصار محمود آغا آغة الدالاتية التفكجية يدور ويطوف ليلًا خارج دمشق، والدالاتية تحوم حول البلد، وقد أقلقوا الخلق وزاد النكد، ولا زال هذا الحال مدة غيبة الباشا والحاج.
سنة ١١٦٠
ثم دخلت سنة ستين ومئة وألف، وكان غرة محرمها نهار الخميس، وفي نهار الاثنين خامس محرم الحرام من هذه السنة الموافق لأول كانون الثاني زادت المياه بسبب سيل عظيم، ودخوله للشام كان نصف الليل، فحصل طوفان لم يسمع له نظير من قديم الزمان، هجم الماء من نصف الليل إلى الشام، وأغرق جميع ما كان في طريقه من الدكاكين، وأتلف أموالًا كثيرة لا تعد ولا تحصى، حتى صار المرجة كالبحر، ومع ذلك الماء يخطف الطير، وله خرير ودويّ وهدير. وقد غطت هذه الزيادة حجر تاريخ القلعة، ومرت في الأسواق والدور وأخرجت شيئًا غير محصور، وقد صارت تحت القلعة وفي المناخ بالارتفاع طول قامة الإنسان.
قال المؤرخ البديري: وقد دخلت إلى قهوة المناخلية بعد انصراف الماء فوجدت الماء في أعلى مساطبها أعلى من ذراع، وقد شاب من هولها الكبير والصغير. وقد غرق بها أناس غير محصورين، مع ما أتلف من البهائم والأموال وقد أضرت بجميع ما مرت عليه وانهدمت أماكن كثيرة لا تحصى وتركتها بلاقع. نسأله تعالى اللطف في المقدور آمين.
وفي خامس صفر كان قدوم الحاج الشريف، وقد أخبرت الحجاج بأن هذه السنة من أجمل السنين وأحسنها، وجميعهم شاكرون وداعون لحضرة أسعد باشا بالدوام، من كثرة ما حصل لهم في الطريق من الراحة والخير والإنعام من حضرة الباشا لعموم الحجاج، فجزاه الله أحسن الجزاء آمين.
وقدم مع أسعد باشا من الحجاز في هذه السنة باكير شاه والي جدة، وأقام في دار فتحي أفندي المتقدم نحو شهرين في الشام، ثم سار قاصدًا حماه، ولم يعلم ما سبب مجيئه. وعاد أيضًا مع الركب الشامي شيخ الإسلام وأقام مدة في الشام، وسار طالبًا إسلامبول. وكان رجلًا كبير السن وقورًا، ما حرّك ساكنًا في الشام مدة إقامته.
وبعد قدوم الحج خزنة مصر إلى الشام، وقد تأخرت عن ميعادها. وقد شدد الطلب حضرة أسعد باشا بعد مجيئه من الحج على الزرب الأشقياء، فقبضوا على أمين ابن الحديد وعلى عبده بن حمزة عنبر، فأمر بقتلهما فقتلا شر قتلة. وقد زادت الدالاتية الاعتداء والجور، وخربوا البلاد والقرى، فكثرت الشكاية منهم إلى والي الشام أسعد باشا، فكتب للدولة عليهم في شأنهم، فجاءه مرسوم بإبادتهم، فأمر مناديًا أن ينادي كل من أقام من الدالاتية في الشام أكثر من ثلاثة أيام من أهل الفساد والعناد فدمه مهدور، ثم بعد أيام ظهرت الدالاتية ولم تتم القضية والحكم لله عالم الخفيّة.
1 / 20