ومهمته هنا أن ينير ويرفع مستوى البحث من ظلام الجهل والعمية إلى نور المعرفة والثقافة، وأيضا من العاطفة إلى التعقل. ويجب أن تكون له أهداف فلسفية يتجه بها ويوجه قراءه إليها. والفلسفة ألزم للصحفي مما هي لأي أديب آخر لقوة التوجيه التي يملكها أكثر مما يملكها أي أديب آخر.
وقد يضحك قارئ الصحيفة الأسبوعية المبهرجة من كلماتي هذه، ولكني أذكره بأن أعظم من مارسوا الصحافة في مصر هو لطفي السيد، وهو فيلسوف يهتم بأرسطوطاليس كما يهتم بترقية الزراعة أو الصناعة. وكذلك الشأن على مدى أوسع في صحف أوروبا وأمريكا، وصحافة بلا فلسفة هي صحافة العوام يكتبون للعوام.
لقد عرفت أديبين صحفيين من أعظم أدباء العصر هما برنارد شو وه. ج . ويلز. كان كلاهما يكتب في الصحف، ويؤلف الكتب، ولكن مؤلفاتهما هي أدب صحفي ممتاز؛ ولأنه ممتاز قد جمع وحفظ في صيغة الكتاب. وما من كتاب ألفه هذا الاثنان إلا وهو يعالج مشكلة بشرية أو اجتماعية أو اقتصادية يجب أن تعالجها الصحيفة اليومية أو الأسبوعية. ومؤلفاتهما قد لا تقل عن مائة مجلد، وقد كان من حظي أن أرافقهما وأتعلم منهما نحو نصف قرن، فقد كتب برنارد شو عن فضائح الإنجليز في دنشواي، وعن الأثمان والأسهم في البورصة، وعن المجلس البلدي في لندن، وعن الحب والزواج، وعن الإلحاد والإيمان، وعن التأميم، وعن الحرب والسلم، وعن اللغة والهجاء، وكل هذه الموضوعات صحفية. وكذلك الشأن في ه. ج. ويلز، فقد كان آخر ما كتبه قبيل وفاته بأيام مقالا عن أخطار القنبلة الذرية، وقد دعا إلى الإيمان بالأديان بقوة وتكرار وإلحاح، ثم رأى أن يدعو دعوة أخرى مضادة استغرقت سائر حياته. ولكنه كان مخلصا حتى عندما نعده ضالا منحرفا، وكان مخلصا في الدعوتين؛ لأنه كان متطورا.
وحياة ويلز الأدبية منذ شرع يكتب حوالي عام 1895 إلى وفاته في عام 1945 هي تاريخ نصف قرن من التطور الذهني لكاتب عظيم إزاء التطورات والانقلابات العلمية والاقتصادية والسياسية، ومؤلفاته الأولى كلها تفاؤل واستبشار بالمستقبل؛ العلوم تسود المعارف وتغربلها، تزويد سلطة الإنسان على الأرض والماء والسماء، الأمراض تهزم وتنمحي، المحصولات الزراعية تزيد وتلغي الجوع، الروح التنظيمي يعم العالم بالاشتراكية والتعليم يزداد. أجل وسوف تؤلف لجنة عالمية تتصل بعصبة الأمم أو بالأمم المتحدة تؤلف موسوعة من نحو ثلاثين أو أربعين مجلدا، ثم تترجم إلى جميع لغات العالم، وعندئذ تتداول جميع الشعوب هذه المعارف المثقفة بأرخص الأثمان، ويدخل ويلز في التفاصيل فيقول: يجب أن نؤلف هذه الموسوعة على مبدأ الورق السائب بحيث يستطيع المقتنون للموسوعة أن يستبدلوا بالأوراق التي قدمت وعقمت معارفها أوراقا جديدة تحوي المعارف الجديدة، وتبقى الموسوعة بهذه الطريقة يطرد تجددها على مدى السنين.
وهذا الاستبشار بالمستقبل يملؤه طربا، فهو داعية حب وخير وإيمان، حتى ليكتب عن الكوارث التي وقعت بأيوب ، وهو أيوب عصري، وليس نورانيا، بحيث يذهب المال والولد والنسل والضرع، يذهب كل شيء، ولكن يبقى الإيمان، الإيمان بالله ملك الملوك.
ثم تأتي الحرب الكبرى الأولى فيخمد شيء من هذا اللهب، ولكن يبقى منه شيء كبير. إذا هو يؤلف لنا في عام 1919 تاريخا للعالم كله يقول فيه إننا أمة واحدة، وإن هذه الدنيا قريتنا الكبرى التي يجب أن ننظمها ونخطط حركة المرور فيها، وإننا يجب أن نتهيأ لإيجاد حكومة واحدة مع إدارة عامة موحدة للتعليم في دول الدنيا. ولكن بعد عشر سنوات نرى هذا الاستبشار بالمستقبل يتقهقر، فهو غاضب حانق يائس، وهو يدعونا إلى مادية صرفة، مادية منظمة يتوافر فيها الطعام والمسكن والمعرفة، ويقول إن هذا هو الدين. وبعد أن كان يستخرج من التوراة شخصية معذبة ينقلها إلى عصرنا ويثقلها الهموم والمتاعب، وينتهي بها بعد كل ذلك إلى الإيمان والرضا والفرح، يعود بعد عام 1930 فيجمع أشياء أخرى من التوراة يهاتر بها ويسب ويقدح. حتى إذا بلغ عام 1945 يعمه اليأس العلمي الذي كان أساس الأمل من قبل، فيتحدث عن انقراض البشر بالقنبلة الذرية. •••
لقد عشت مع هذا الإنسان وأحببته، وإليه أعزو روح الجد في برنامجي الثقافي والآفاق الموسوعية في معارفي، والاتجاه الديني الذي أتجهه في الصحافة فضلا عن التأليف، فإني أدرس جغرافية هذا العالم وتاريخه بالروح الديني، واهتمامي بما يجري في إسبانيا على أيدي الفاشيين، أو في الصين على أيدي الشيوعيين، يفوق اهتمامي بشئوني الشخصية، وأحداث العالم الكبرى يزيد وقعها في نفسي على الكوارث التي تقع بشخصي ومشكلة القنبلة الذرية هي أكبر من أن أقول إنها مشكلة لي. ولم أكره ولز إلا في يوم واحد، وذكري لهذه الكراهة يدل على أنها حزت في نفسي حزا لم يبرأ إلى الآن؛ ذلك أنه قال في مقال صحفي إنه لو كان على سفينة ومعه برنارد شو وبافلوف العالم الروسي، ثم تعرضت السفينة للغرق واضطر إلى الاختيار بين إنقاذ شو أو إنقاذ بافلوف لأنقذ بافلوف دون شو.
وآلمتني هذه الكلمة كما آلمت برنارد شو كثيرا حتى إنه كررها في مضض. وعندي أنه لو كانت نفس برنارد شو من ذهب، فإن نفس ويلز من طين، حتى لو قيل لي إن الطين أنفع من الذهب. وأستطيع أن أقول لروح ويلز: أنت روح من طين؛ لأن ويلز لم يجن هذا الجنون المقدس الذي رأيناه من شو في حادث دنشواي، أين كانت بشريتك التي تزعم أنها ديانتك السيامية حين شنق أبناؤنا وجلدوا أمام أمهاتهم وأبنائهم وزوجاتهم وآبائهم؟ لقد كنت أنخرس حين نطق، بل حين صرخ برنارد شو.
وبافلوف عالم سيكولوجي، وشو أديب ولكنه في أدبه يعلو على العلم، ونزعة ويلز العلمية هي التي أسقطته هذه السقطة.
نشأ ويلز في بدرون الحياة الاجتماعية؛ إذ كانت أمه خادمة في منزل لأحد الأثرياء، وأول ما يذكره من ذكريات الطفولة هو رؤية لأحذية الناس وهم يسيرون على طوار الشارع، وهو قاعد في أسفل الطبقة البدرونية يتطلع من النافذة إليهم فيرى أحذيتهم دون وجوههم، وله كتاب أو رسالة تدعى «تعس الأحذية».
Неизвестная страница