وإني لأكتنز كنوزا نفيسة في حياتي لا أرضى بها بدلا، هي أني عشت وعاصرت تولستوي وبرنارد شو وشفيتزر وغاندي، وكلهم قديس، وليست قداستهم من ذلك النوع القديم حين كان ينزوي الراهب في صومعته بعيدا عن المجتمع كي ينشد خلاص نفسه بالصلاة؛ لأن هذا الراهب هو في صميمه أناني يطلب الخلاص لنفسه فقط، ولكن هؤلاء القديسين العصريين كانوا يتألمون ويصومون ويكافحون من أجل خلاص البشر، وقد استطاعوا أن يغيروا الأوزان والقيم البشرية، وأن يغرسوا في قلوبنا حبا جديدا وأن يعلمونا أسلوبا فلسفيا للعيش.
مات غاندي في سنة 1947 وهو أعظم رجل في العالم، ومع ذلك كان كل ما يملك عنزة تدر له اللبن، وشملة تكسو جسمه لا يزيد ثمنها على ثلاثة أو أربعة قروش. وكان يغزل بيده ويكتب ويشتري القليل من الفواكه أو الجبن بما يكسب؛ وبذلك نصب غاندي أمام العالم كله مثالا يحتج به على أساليب عيشتنا الاقتنائية، ويوضح لنا أن السعادة والشرف والمكانة أيسر من أن نتكلف من أجلها جميعا هذا الجهد، بل هذا العذاب في اقتناء المال والهرولة التعسة التي نعيش بها من أجل التكاثر بهذا المال.
والفهم العام للنسك هو أنه عادة أو رهبنة دينية قد نشأت في الأمم الشرقية، وهو كذلك إذا فهمناه على أنه انزواء في صومعة. ولكن الحرمان الذي فرضه على نفسه كل من برنارد شو وتولستوي وغاندي وشفيتزر هو نسك آخر، نسك غربي ينهل على أسس من الثقافة الغربية غايته خدمة المجتمع، وإنهاض البشرية وتجديد القيم الاجتماعية، بل إنه ليس نسكا؛ لأن المعنى الأصيل للنسك أنه الحرمان من بعض الملذات في الطعام أو الشراب أو اللباس أو السكنى أو إشباع الشهوات، ولكن هؤلاء الأربعة الناسكين لم يحسوا، وهم يحرمون أنفسهم ما نحسب أنه متاع، أنهم قد فقدوا شيئا لأنهم قد أخذوا بقيم جديدة تجعل ما نعتز أو نلتذ أو نفخر به من ثراء أو اقتناء تافها لا يحرص عليه الرجل العظيم بل لا يباليه.
حادثة واحدة في حياة غاندي تدلنا على أن استغناءه لم يحمل معنى القهر، وهو انقطاعه عن الاتصال الجنسي منذ بلغ الرابعة والثلاثين، فهو لم يكن يقصر نفسه على هذا الحرمان، ولم يكن يحس أنه حرمان؛ ذلك لأن الآمال والآفاق التي كان يترامى إليها تفكيره كانت تغمر نفسه، وتشغل كل وقته وتهيب به، بما تحمل من عظمة ومجد، أن ينسى ما دونها من ملذات أخرى. فهو لم يكن يشتهي طعام اللحم، أو الاتصال بالمرأة، أو اقتناء الثراء؛ لأن نفسه كانت مغمورة بما هو أسمى. فالانكفاف هنا ليس قهريا أمريا، وإنما هو سيكلوجي؛ أي إن غاندي قد سد القنوات في شهواته؛ لأنه جمعها كلها نهرا واحدا نحو غاية موحدة هي الإنسانية.
وكي يفهم القارئ هذه الحال عليه أن يذكر مثلا ذلك الأب الذي يفقد ابنه الحبيب، فإن كثيرا من الآباء في هذه الحال يحسون صدودا عن المرأة كأن الشهوة الجنسية قد أصبحت حراما لا يجوز لهم الاستمتاع بها بعد أن ثكلوا الابن الذي أحبوا. وهذا الصدود هو في منطق النفس نذر لشيء آخر، وكان نذر غاندي الذي سد قنوات شهواته جميعها تقريبا هو حب البشر، واستقلال الهند، ومحو النجاسة، وطرد الإنجليز. •••
ومما ينبهنا في حياة غاندي أنه على الرغم من المسحة البدائية الساذجة التي تبدو بها صورته لنا، إنما كان غريبا في ذهنه عصريا في فكره، بل أكاد أقول إنه كان ماركسيا في أسلوب كفاحه للإنجليز، من حيث إنه فهم الاستعمار على أنه استغلال للأرض والبشر في الهند لمصلحة الإنجليز فجعل مكافحته قائمة على الاستكفاء الاقتصادي بتعميم المغزل والمنسج ومقاطعة المصنوعات الإنجليزية.
ولم تكن دعوته للمغزل إطارا لهذه الآلة اليدوية الصغيرة على مصانع الغزل والنسيج التي يعمل فيها على الحديد والنار، وإنما هو وجد أن ظروف الهند، وهي ظروف الحرمان والفاقة والفراغ، مع الجوع في الريف وترصد الإنجليز لأية نهضة اقتصادية وتصديهم لقتلها في المهد، كل هذا جعله يفكر في الوسيلة التي تعم البيوت الهندية حيث يعمل الأب والأم والأبناء في العمل دون أن يستطيع الإنجليز أن يتدخلوا ويمنعوها.
والمتأمل للحركات الوطنية في مصر والهند وتركيا يجد ظاهرة تستحق الالتفات، هي أن جميع الوطنيين في هذه الأقطار الذين قادوا هذه الحركات قد امتازوا بثقافة أوروبية وأخذوا بالقيم والأوزان الأوروبية. أما الشرقيون الذين نشئوا في حضن الثقافات التقليدية الدينية أو الاجتماعية فلم يدركوا هذه الحركات، ولم يستطيعوا أن يعدوها بتفكيرهم؛ فإن دعاة الوطنية الهندية طلاك وغاندي ونهرو قد تعلموا جميعهم في أمر واحد هو أن أتاتورك مقاطعا مجاهدا في مقاطعته للأخلاق الشرقية.
وهذا هو الشأن أيضا في مصر حيث نجد أن الزعامة الوطنية والانتهاض القومي العام والدعوة للاستقلال يحمل علمها ولا يزال يحمله أولئك المصريون الذين تعلموا في أوروبا أو أخذوا بالثقافة الأوروبية، وما تحمل من أوزان ونظم جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع.
وقد كان الاستعمار البريطاني في الهند يؤيد تقديس البقرة، ويؤيد نظام المنبوذين ويؤيد حجاب المرأة؛ لأن أعظم ما يؤخر هذه الأمم الشرقية هو هذه التقاليد المحجرة، بل لولا هذه التقاليد لما استطاع الاستعمار أن يطأ بقدميه أرض الهند أو مصر. ولعلنا لا ننسى هنا أن الإنجليز كانوا يعارضون حركة قاسم أمين بشأن تحرير المرأة، وكانت ناظرة المدرسة السنية الابتدائية للبنات تصر على اتخاذهن للبرقع، ولكن الاستعمار مذهب غربي وهو مع أنه يدوس الأمم الشرقية، لا يزال يحمل في طياته السم الذي يقتله في النهاية؛ لأنه ينقل معه الثقافة الأوروبية التي تحيل بعض الشرقيين إلى أوربيين في الذهن والعاطفة والنظرة، وهؤلاء يفكرون وينتهون إلى دعوة الاستقلال والتحرير من شيئين معا؛ وهما الاحتلال الأجنبي وأيضا التقاليد المحتجرة. ولذلك ما كاد الهنود يجلون الإنجليز حتى عمدوا أول ما عمدوا إلى إلغاء نظام الطبقات الذي كان يؤيد بقاء المنبوذين، وولوا منبوذا وزارة المعارف، كما منحوا المرأة حق المساواة بالرجل في الميدان الاجتماعي، وأيضا حق الانتخاب للبرلمان وللوزارة، وهم في ذلك يشبهون مصر.
Неизвестная страница