وعندما نقرأ درامته الكبرى «الإنسان والسوبرمان» نحس أن هذا الكتاب هو الامتداد لكتاب أصل الأنواع، كما هو إيمان ديني جديد يدعو إليه برنارد شو خلاصته أن ارتقاء الحضارة في المسكن والملبس والتنقل ليس ارتقاء للإنسان، وإنما الارتقاء الصحيح هو أن يطول عمره إلى ألف سنة، ويزيد مخه إلى كيلو جرامين، وأن يكون حصينا من الأمراض منذ ولادته إلى يوم وفاته، وهذا هو السوبرمان الذي يجب أن يستولد من الإنسان بالانتخاب الحكومي، بحيث يكون منا كما نحن من القردة، أعلى في سلم التطور، وأذكى ذهنا وأسلم غرائز.
وقد اصطدم برنارد شو مع الداروينيين من حيث إيمانه بأن الصفات المكتسبة تورث، وأن الوراثة ليست جامدة كما اعتقد فيسمان. وفي السنة الماضية عندما احتدم النقاش بشأن هذا الموضوع بين ليسنكو الذي دافع عن وراثة الصفات المكتسبة، وبين القائلين بأنها لا تورث، وأن الوسط لا يؤثر في تغيير العناصر الوراثية، وقف برنارد شو إلى صف ليسنكو، أو قل إلى صف لا مارك قبيل مائتي سنة.
وديانة شو كما نفهمها من مؤلفاته ومن حياته أيضا هي الديانة البشرية التي تنأى عن الغيبيات، فإن درامته عن المسيحية «أندروكليس والأسد» تحملنا على الاعتقاد بأنه لا يختلف عن رينان في بشرية المسيح، وأن الله كائن في الإنسان، ولكن إله برنارد شو هو قوة الحياة التي تقف خلف التطور، وتعمل للارتقاء وتسير مكافحة نحو النور والحب. وإلى هنا تقف «غيبياته»، غيبيات لا ترضي المؤمن، ولا تقنع الملحد، وهي أقرب الأشياء إلى برجسون، وعندي أنها بعض رواسب القرن التاسع عشر التي علقت به هو وبرجسون، كما تعلق أساليب الطفولة بالرجل الناضج، وهو يقول: «إنسان بلا دين هو إنسان بلا شرف.» وهذه عبارة سلبية قد استنتجها من حياته؛ إذ هو لم يؤلف قط كتابا أو رسالة إلا بروح الدين، أي بروح المسئولية أمام المجتمع، بل ماذا أقول؟ أمام البشر والأحياء والتطور! ومن هذه العبارة أيضا نفهم أن نظرته للدين اجتماعية أخلاقية.
ومهمة الفلسفة هي في النهاية إيجاد النظريات، والجاهل يحتقر النظريات، ويزعم أنه عملي، ولكن ليس هناك من الأشياء العملية ما هو أفضل من النظرية الحسنة؛ لأننا نقتصد بها، ونستغني بها عن كثير من المجهود العابث. وكلاهما برنارد شو وبول سارتر يقول بحرية الفرد من حيث حقه في أن يعمل كما يشاء، ولكن الهدف يختلف بينهما، فإن برنارد شو يبغي من هذه الحرية خير المجتمع، من حيث إن حرية الإنسان تسير به نحو الخير إذا أدى الخير، ونحو الهلاك إذا قدم الشر، فالمجتمع كاسب من هذه الحرية، دعوا السكير والنهم والمستهتر والمجرم يمارس كل منهم حريته؛ لأنها في النهاية ستقضي عليه بالهلاك فينتفع المجتمع. ولكن بول سارتر يقول في خسة فلسفية ليس لها نظير: «أنا وحدي» وعلى المجتمع السلام. وبرنارد شو مثل ولز، ينظر النظرة البيولوجية للإنسان فيقول بضرورة التطور، أجل إن التطور هو الديانة الأصلية عند شو.
مات برنارد شو وكان أجمل الأساطير في حياتي، ولقد رافقته وتعلمت منه، وحاولت أن أقتدي به، فكنت أصل أحيانا وأقصر أحيانا، ولقد حرصنا بالقدوة والعمل على أن نمارس الأدب لخدمة الجمهور، وبعض هذه الخدمة أن نجعل ساستنا وقادتنا متمدنين مستنيرين، وهذا هو ما حاولت، ولكني للأسف لم أنجح.
ولقد أوصى بأن يحرق جثمانه في المرمدة، وقد أحرقت زوجته فيها من قبل، كما أحرق جثمانا صديقه ولز وزوجته، وهذا الاحتراق هو طهارة أخرى مارسها شو في موته كما مارس النباتية في حياته. •••
مما يستحق الملاحظة أن الأمم العربية جميعها فهمت النهضة على أنها التحرر من الأجنبي المستعمر، ومن الوطني المستبد، فطالبت بالاستقلال والدستور، واعتقدت أن كل شيء من أمانيها قد تم. ولكن الأمم الأوروبية فهمت النهضة أو النهضات المتوالية فيها على أنها قبل كل شيء تحرير الضمير البشري، ففصلت الدين من الدولة، وكافحت التقاليد، وتمردت على سلطة البابا، وألغتها واعتنقت العلوم، ومارست الفنون التي تعمل للتنوير الذهني والسعادة البشرية، وهذا ما لم تفكر فيه الأمم العربية إلى الآن مع أنها تحمل من أعباء الظلام ما يرهق الضمائر ويسود العقول.
والناهضون في أوروبا هم علماؤها وأدباؤها وليسوا ساستها، وهم جاليليو الذي خالف الكنيسة وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس، هم لوثر الذي انفصل من البابا وترجم الكتاب المقدس، هم دافنشي الذي قال بأن الجبال كانت البحار تغمرها، هم داروين الذي أرجع الإنسان والحيوان إلى أصل واحد، هم رينان الذي قال ببشرية المسيح، هم إبسن الذي رفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية.
هؤلاء هم الناهضون الذين غيروا أوروبا، وبرنارد شو واحد منهم، فإنه بأسلوب عيشه ومؤلفاته المسرحية دعانا إلى حياة الطهر، ومكافحة النفاق الاجتماعي، وكانت مهمته تحرير الضمير البشري من الخرافات والتقاليد والجبن الفكري، وبعث الآمال في مستقبل البشر على هذه الأرض. وصحيح أنه كافح قوات الظلام التي يمثلها الاستعمار والاستبداد، ولكنه كافح أيضا، وبقوة أكبر، قوات الظلام التي تمثلها التقاليد وموروث العقائد الغيبية.
ولو فهمنا نحن المصريين دلالة النهضات الأوروبية وعملنا لتحرير ضميرنا، لكان لنا إلى جنب الحرية السياسية حرية أخرى أكفل للسعادة، وأعمل لتكوين الشخصية، ولكان لنا منها موقف آخر حيال المشكلات الاقتصادية والأخلاقية والثقافية، وفي هذه الحال ما كان لمستبد أن يحبس عقولنا بقوانين تحد من حرية الصحافة، أو يسلط علينا بوليس الأفكار؛ كي يعين لنا ما يجوز وما لا يجوز أن نفكر فيه ونكتب عنه.
Неизвестная страница