نشأ الدين البدائي في مصر، وكانت غايته استبقاء الحياة بعد الموت بتحنيط الجثة، فإذا كان الميت عظيما صار إلها بعد موته. فلما عرفت الزراعة أصبح للدين مهمة أخرى هي إخصاب الأرض وإنتاج المحاصيل. وإلى عصر الإسكندر بقي هذا التفكير البدائي حتى إن كهنة مصر قد حالوا الإسكندر إلى إله، وقرن آمون لا يزال منقوشا على النقد الإغريقي الباقي من أيامه، ولا يزال الكهنة يباركون على الزراعة في أوروبا إلى الآن. ومن الممارسات الدينية الباقية نعرف الكثير من نشأة الدين المصري القديم، فإن البخور كان يطلق على تمثال الميت كي يكسبه رطوبة وعرقا كأن الحياة قد عادت إليه، وقد نشأت الفنون من هذه الثقافة الدينية القديمة، فإن التمثال صنع أولا كي تلجأ إليه الروح إذا كان الجسم قد فسد، والرسوم التي تروي لنا حياة الميت قد احتاجت إلى الرسامين والمعبد، وهو في الأصل الضريح الذي احتاج أيضا إلى البنائين والنحاتين.
وجميع الفنون الحديثة ترجع إلى بؤرة مفردة هي الضريح المصري ومركباته السيكلوجية، ورسم الميزان للعالم الآخر مألوف لا يخلو منه معبد، وهو يعين الجنة التي تحوي الشجر والثمر للبررة، كما يعين جهنم التي تحتوي النار للفجرة، ومن هنا ظهر معنى العدل. بل إن تحنيط الميت هو الأصل في توبلة الطعام؛ لأن الملح والطيب والأفاوية التي كان يحتاج إليها الميت صارت تستعمل في الطبخ كي يطيب الطعام، ومن هنا كان القول العامي المألوف في أيامنا أن الطعام «محنط»؛ أي متوبل.
ودراسة التاريخ المصري القديم هي دراسة البدايات: بداية الزراعة، وبداية الصناعة، وبداية الحضارة والثقافة. وإن الغيبيات التي سادت الأذهان البشرية نحو ستة آلاف سنة لتتكشف واضحة الأسس مفهومة البناء عندما ندرس الضريح المصري. •••
لم أكن أنبعث في دراساتي للفراعنة بباعث وطني، ولم يكن لفتوحات تحتمس ورمسيس وأمثالهما ذلك الوقع الذي يحسه أولئك الذين يستخدمون التاريخ لإشعال الوطنية، بل كذلك لم تكن دراسة التاريخ عندي محض السرد القصصي والتراجم والحروب، وظني أنه لو لم يكن وراء دراسة الفراعنة هذه النظرية القائلة بانتشار الثقافة من بؤرة الضريح المصري لما كان التفاني يزيد على المطالعة العابرة. ولكن هذه النظرية كانت تحوي العديد من المركبات الثقافية التي جذبتني وحملتني على التفطن لأصول الحضارة، ومن هنا إغراؤها القوي لاستمرار الدراسة، وإحساسي نحو الفراعنة هو لذلك بشري وليس وطنيا.
ولقد قرأت «فجر الضمير» للمؤرخ الأمريكي «بريستد» وهو يشيد بالأخلاق العالية للمصريين قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة، بل إنه يقارن بين الأخلاق التي دعا إليها موسى في الوصايا العشر، وبين الأخلاق المصرية فيقول بأفضلية هذه على تلك، ويضرب المثل بأن موسى قد حرم الشهادة بالزور فقط، ولكن المصريين قد حرموا الكذب إطلاقا، والكذب بالطبع يشمل شهادة الزور، ولكن ليس العكس كذلك.
ولكني، أنا المصري، أحس أني أبعد ما أكون عن هذا الإحساس، يجب أن ندرس التاريخ بالروح البشري، وأن نذكر أنه إذا كانت مصر قد أنشأت الحضارة الأولى فإن الفضل في ذلك يعود إلى النيل الذي قهر المصري على أن يتعلم الزراعة لمواظبة فيضانه ولانبساط الوادي، وليس لذكاء فذ في أسلافنا. •••
والحضارة عالمية قد أسهم كل شعب بنصيب فيها، وإذا كان للمصريين فضل الاختراع للكتابة، فإن للهنود فضل الاختراع للأرقام، وما كان يمكن أن تكون هناك نهضة علمية لولا هذه الأرقام الهندية. ولولا الإغريق لما انفصلت الحقائق الفنية والعلمية عن «المعارف» الدينية؛ أي ما كان يمكن للمنطق أن يتغلب على العقيدة. ولولا الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية العربية، لما تعارفت الشعوب هذا التعارف الذي انتهى بوجداننا البشري الحاضر.
ومع أني قد قرأت في هذه النظرية وارتباطها نحو خمسين أو ستين كتابا فإني ما زلت في اشتباكاتها أترصد مكتشفاتها الجديدة في جميع أنحاء العالم، وأحس بأواصر الأجيال الماضية التي تربطنا نحن المصريين بكافة البشرية.
هافلوك إليس والزواج الانفصالي
مات «هافلوك إليس» قبل الحرب الكبرى الثانية، ووصفته إحدى المجلات الأوروبية الكبرى حينئذ بأنه كان أعظم رجل متمدن في أوروبا.
Неизвестная страница