وهبط علي نيتشه كما لو كان وحيا أو كشفا، نثر ساحر كأنه أبيات من الشعر، وخيال يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تجمد ذهن الناشئ رهبة وجزعا، أو تنفضه حماسة وطربا. ثم إلى ذلك فلسفة تعلو على برود المنطق، وتأخذ بحماسة الإيمان وغلواء التفاؤل، وفي كل ذلك ارتباط بالتطور، «إني أعلمكم علم السبرمان، أو الإنسان الأعلى، ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، وكذلك يجب أن يكون الإنسان إزاء السبرمان، أضحوكة أو خزي! إنما الإنسان معبر أو جسر يصل بين القرد والسبرمان، سوف يكون السبرمان ازدهارا وخيرا وتعبيرا نهائيا للأرض، أستحلفكم أن تكونوا أمناء للأرض، وأن تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاما ومكافآت، إن عليكم أن تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أن تنجب يوما ما السبرمان ... الإنسان شيء يعلى عليه، فماذا فعلتم كي تعلوا عليه؟»
كلمات رائعة كان وقعها في نفسي، وأنا حوالي العشرين، وحيا أو كشفا، فتعلقت به، وكتبت عنه مقالا في مجلة المقتطف في عام 1909 بعنوان: «نيتشه وابن الإنسان».
وقد كانت نظرية التطور جديدة في أوروبا، وكانت تكشف عن صورة وحشية للتطور، وقد استلهم منها أعداء المسيحية برهانا جديدا يقيمونه لنقضها، وكانوا قبل ذلك يقنعون بالمقارنات التاريخية بين الأناجيل، يوضحون زيف الأساطير في الدين، ولم يكن يجرؤ أحدهم على القول بأن الأخلاق المسيحية ليست هي الأخلاق المثلى، أو أنها تؤخر البشرية أو أن هناك ما هو أرقى منها. ولكن نيتشه لم يبال الأساطير أو المعجزات؛ إذ عمد إلى دعوة المسيحية التي امتازت بها وهي الرحمة وحب المعجزات وحب المساكين والضعفاء، فحمل عليها ووجد فيها ميدانا لبحث القيم والأوزان التي يعيش بها الأوروبيون المسيحيون، فقال إن هذه الأخلاق تعارض بقاء الأقوياء «الصقور» وتصدهم عن حقهم الذي تنطق به الطبيعة، وهو أن الصقر يجب أن يأكل العصفور، فإن بين البشر عصافير ضعفاء يستحقون الفناء، كما أن بينهم صقورا قوية تستحق البقاء، وهو في هذا المنطق لا يذكر داروين، مع أن القارئ لمؤلفاته لا يتمالك أن يذكر نظرية التطور.
ونيتشه أديب من الطراز الأول، وهو أيضا لغوي وفيلسوف، ومن هنا سحره الذي لا يقاوم، فإنه يفكر تفكير الفيلسوف ويكتب بلغة الأديب، وهو يرجع بحثه إلى التاريخ.
فإن الرومانيين القدماء كانوا قبل أن يعتنقوا المسيحية يتخذون السيف شعارا والقوة مذهبا، وكانت أخلاقهم تنزع إلى البطولة كما يتضح من كلمة
Virtue
ومعناها الفضيلة، فإنها مشتقة من كلمة
Vir
ومعناها الرجولة، فالفضيلة كانت عند الرومانيين صفة الرجولة أو أهم خصائصها. ولكن المسيحية جاءت في زعم نيتشه فاستبدلت بالرجولة والبطولة ضعفا زريا نرى نتائجه في شعوب أوروبا الحاضرة حيث تتفشى الأمراض وتكاد تكون خالدة؛ لأننا نحمي كل مريض ونعنى بعلاجه.
ولد نيتشه في عام 1844 ومات في عام 1900 وكان أبوه قسيسا، كما كانت أمه امرأة متدينة، وقد هيئ لأن يدرس في كلية دينية كي يكون قسيسا، ولكنه التفت إلى اللغات فبرع فيها، ومن تحليل الكلمات القديمة استطاع أن يحلل التطور الأخلاقي في أوروبا، ونستطيع أن نلخص فلسفته بأنها ترمي إلى أن تجعل غاية الحياة خدمة الأقلية من الشخصيات السامية، وليس خدمة الأكثرية أو سواد الأمة، وهو هنا بالطبع غير ديمقراطي، بل عدو الديموقراطية، وهو بكلمة أخرى يطلب أخلاق السادة بدلا من أخلاق «القطيع» كما يصف سواد الشعب. ومما ينبهنا هنا أن هتلر كان كبير الإعجاب به، وقد أهدى مجموعة فاخرة من مؤلفاته إلى موسوليني، وكلاهما - أي هتلر وموسوليني - كان عدوا للديمقراطية، ولكننا لا نعني من هذا القول أن نيتشه يحمل قارئه على الاعتقاد بأن الفاشية نظام حسن، فإن فيه أحيانا من سمو الفكرة ونضج الحكمة ما يجعلنا نشمئز من المقارنة بينه وبين هذين الطاغيتين.
Неизвестная страница