واحتاج هذا التطور إلى ألسنة تنطق وتعبر في بلاغة الأديب وقوة المنطق ونظريات الفكر، فظهرت قصة «مدام بوفاري» للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، كما ظهر كتاب ستوارت ميل «إخضاع المرأة». ومدام بوفاري قصة امرأة تزوجت أحد الأطباء في الريف، ثم وجدت الحياة دون نشاطها وآمالها فحطمت ما تعلمته من أخلاق واندفعت في تيار من الشهوات، قضى عليها في النهاية فانتحرت، وكأن المؤلف يقول لنا إن حال المرأة الأوروبية سيئ، وإننا لا نفتح لها أبواب الرقي، ولذلك تنزل إلى مهاوي الشهوة الجنسية كي تخفف من سأم العيش المبتذل بين جدران المنزل، وكأنه يقول أيضا افتحوا أبواب العمل والنشاط الاجتماعيين للمرأة. أما كتاب «ستوارت ميل» فهو تاريخ لاستبداد الرجل بالمرأة، وأن هذا الاستبداد لا يضر المرأة وحدها ويعطل كفايتها ويحول دون رقيها باعتبارها إنسانا، وإنما هو يعطل المجتمع كله نساء ورجالا.
وجاء إبسن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فتبلورت فيه هذه الآراء وأخرجها درامة موجعة سامية اهتزت منها المجتمعات الأوروبية، وأصبحت «نورا» بطلة هذه الدرامة قدوة المرأة الناهضة ومشعلا تهتدي بنوره. وقد عاش إبسن فيما بين عامي 1828 و1906. وقد غير أوروبا الأدبية وأحالها إلى الآراء العصرية؛ إذ غرس فيها بذرة «البشرية الدينية» كما أبدل أخلاقها من تراث التقاليد إلى القيم البشرية التي توزن بميزان العقل، ودعا إلى الاستقلال النفسي، وإلى ضرورة الجد في الحياة، بحيث نربي أنفسنا ونكون شخصياتنا أحرارا مفكرين مكافحين مستقلين.
وإبسن نروجي نشأ في بيت ريفي، ولكنه قضى صباه خادما أو مساعدا في صيدلية، ولم يكن شيء يفتح العين وينبه العقل إلى الأكاذيب الاجتماعية مثل الخدمة في صيدلية وتركيب العقاقير فيما بين عامي 1800 و1850؛ لأن الصيدليات في تلك السنين كانت تعيش بما يقارب النصب؛ إذ لم تكن عقاقيرها سوى مواد غريبة الأسماء معدومة النفع، ولم يكن المريض ينتفع منها بأكثر من الوهم، ولا بد أن إبسن قد تعلم تحطيم الأصنام من هذه المرانة الأولى في الصيدليات. ثم احترف الصحافة في «كرستيانيا» والتحق بالمسرح في «بيرجن» وبقي متصلا بالمسرح للإدارة وللإخراج والتأليف مدة طويلة في كلتا هاتين المدينتين: بيرجن وكرستيانيا التي كانت وقتئذ عاصمة نروج.
وهذا الاتصال بالمسرح أكسبه بصيرة في الفن كما أكسبه رؤيا في التأليف، فإن دراماته غاية في الدقة الفنية، وكثير منها يجري على الأسس الإغريقية للفن المسرحي، وهي أن الدرامة لا تزيد على أن تكون جلسة في مكان وزمان معينين لا يتغيران من الفصل الأول إلى الفصل الأخير.
وقد نقل الدرامة الرومانتية إلى الواقعية، وجعلها اجتماعية تعالج المشكلات التي يعانيها المجتمع، ففي إحدى الدرامات يعالج مرض السفلس وعواقبه الوخيمة، وفي أخرى يعالج المسيحية والوثنية، وفي أخرى يعالج استقلال الشخصية ... إلخ. ولكنه كان في كل ذلك شاعرا، يرى الرؤيا فتمتد نظرته إلى الآفاق البعيدة. وفيما بين عامي 1870 و1890 كان يعيش في ألمانيا مستوحدا لا يكاد يعرف الأصدقاء، وكان يخرج دراسة واحدة كل سنتين تقريبا، وقد أوجد مسرحا جديدا في أوروبا. وعندما نقرأ «برنارد شو» نجد أن إبسن مضمر فيه، فقد ألف «شو» كتيبا في الدفاع عن إبسن وأسلوبه الواقعي. وكما أن إبسن كان يرى رؤيا الشاعر، فإنه أيضا كان يلتزم الحقائق، وهذا هو شأن برنارد شو.
أما أفكاره وفلسفته فتتلخص في قيمة الشخصية البشرية وضرورة استقلالها وتربيتها، وأن هذا هو الواجب الأول على الرجل والمرأة. ومن هذه البؤرة تتسع واجبات أخرى، هي أن نأخذ أنفسنا بالجد وأن نعتمد على العقل ونحيا الحياة الشريفة الفنية الراقية، وألا نخضع لأطياف الماضي وأشباحه. وقد كتب إلى أخته خطابا قال فيه: «أحب أن أرى كل شيء في وضوح وصفاء، ثم أحب بعد ذلك أن أموت.»
وهو يعني بهذه الكلمة الإيمائية أنه يجب أن يرى المشكلات الاجتماعية مكشوفة، واضحة خالية من المركبات التاريخية والتقليدية التي تحول دون رؤيتها على حقيقتها؛ أي يجب على الأديب أن يكون واقعيا يرى الواقع الملموس ثم يبني خياله على أساسه، ويرى رؤياه من خلال عدسته. وأبعد ما كان يبتعد عنه إبسن هو البرج العاجي الذي يعيش فيه الأديب السخيف، يحلم ويتخيل في عزلة عن المجتمع ومشكلاته، كأن الأدب لذة موسيقية فقط، وكأنه يجب أن يترفع عن معالجة الجوع والبغاء والمرض والظلم والاستبداد. «الشخصية البشرية» هي إنجيل إبسن.
وإذن لم يكن مفر من أن يسأل عن شخصية المرأة، وهل الحضارة في عصره كانت تهيئ لها أن تكون إنسانا راقيا مجدا، لها أهداف شريفة تعيش من أجلها وتحس أنها تؤدي رسالتها في الحياة، كما أن لها أسلوبا فلسفيا تتخذه في عيشها، أم لا؟ هذه هي المشكلة التي عالجها إبسن في درامة «بيت الدمية» أو «لعبة البيت» واللعبة هنا هي الدمية التي تلعب بها الطفلة، وهو يرمي من هذه التسمية إلى أن المرأة الأوروبية (حوالي عام 1870) هي لعبة الرجل عامة يقومها ويقدرها بما تتسم به من سذاجة وجهل، وهي تولد في بيت أبويها فتعامل منهما كما لو كانت لعبة تزخرف بالملابس الزاهية، وتدرب على إنكار نفسها، فلا تتحدث عما يتحدث عنه الرجال، فضلا عن أن تمارس أعمالهم، فتنشأ محدودة الفهم قليلة المعارف قد سدت في وجهها أبواب العمل الكاسب الذي يعمله الرجال ويكسبون منه أرزاقهم كما يكونون به شخصياتهم.
و«نورا» هي هذه الفتاة، تترك بيت أبويها إلى بيت زوجها في جمال وبراءة وطهارة وسذاجة، لها وجه كأنه قد صنع من وريقات الورد، وكأنه قد خلق للقبلات فقط، وجسم قد شيدته الطبيعة كأنه يمثل النبل والروعة. وهي تتحدث بلغة قد هذبت كلماتها، فلا تنطق بما ينطق به الرجال. أما العقل فهو العقل الساذج الذي لم يختبر الدنيا ولم تمر به الأخطاء والأخطار فيتعلم ويتدرب. ويتلقاها زوجها فيعاملها كما كان يعاملها أبواها، فهي حتى عندما تبلغ الأربعين أو الخمسين ستبقى طفلة.
وإبسن يثور على هذا الوضع ويتساءل: لماذا تبقين طفلة؟ أين شخصيتك وذكاؤك؟ ولماذا تحرمين اختبارات هذه الدنيا؟ وتجري الدرامة في سياق التمثيل الذي يوضح لنا أن المرأة لن تكون نحو ما تحب أن تكون المرأة عليه؛ لأن كل هذه الصفات لا تعني في النهاية إنسانا إلا عندما ترفع نفسها من الأنثوية، وأن هذا لن يكون إلا عندما تأخذ نفسها مأخذ الجد، فتستقل بشخصيتها وتتعلم وتختبر، ونحن الرجال لا نتعلم ونرتفع إلى المقام الاجتماعي أو المكانة الذهنية أو الفهم المحيط، كما لا تتكون لنا شخصية؛ إلا لأننا نختلط بالمجتمع ونعالج الخطأ ونقع حتى في الخطر، وليس هناك رجل يفخر بأنه ساذج أو طاهر أو بريء على نحو ما تحب أن تكون المرأة عليه؛ لأن كل هذه الصفات تعني في النهاية أننا نحب جهل المرأة وإبقاءها طفلة أو «لعبة» كما يقول إبسن.
Неизвестная страница