كانت الشمس على وشك الغروب، وكانت المدينة تتطلع لاستقبال الليل وما يحمله إليها من لهو ومرح وبهجة، حينما كان فتى يجلس في إحدى حجرات داره، وفي يده قلم يخط به كلمات يثبتها حينا، ويشطب فوقها حينا، ثم يقف مفكرا حينا، وعيناه ذاهلتان في السقف وفي أرجاء الحجرة، كأنه يتلقف الخيال الطائر، أو يستهوي الوحي الحائر، أو يخشى أن ينزلق قلمه بكلمة تأباها الحيطة، ولا يرضاها الحذر. ذلك الفتى هو أحمد أبو الوليد بن زيدون أديب الأندلس وشاعرها، وهو شاب مؤتلق الشباب، ناضر العود، معتدل القامة، وسيم الوجه، عربي الملامح والشمائل. حاجبان إذا اقتربا عرفت فيهما التصميم والعناد وقوة الشكيمة، وعينان فيهما ذهول الشاعرية وبعد مدى الخيال، وأنف أشم يدل على الكبرياء والثقة بالنفس، وفم مفوه خلق ليكون خطيبا!
وابن زيدون من بيت علم وأدب وثراء ونعمة، كان أبوه من كبار قضاة قرطبة ، رفيع المنزلة عزيز الجانب، فنشأ الفتى كما ينشأ أبناء المترفين ناعم العيش مدللا، يتقلب في جنبات النعيم، ولكن ميوله الفطرية، ومواهبه الموروثة، كانت تختطف من فراغه ساعات لدراسة الأدب وفنون اللغة، فاطلع على مكنونها، وظفر بذخائرها، وخرج منها وافر النصيب ضليعا متمكنا. والعبقرية تكفيها النظرة، وتجزئها الإلمامة لتحصل في قليل على ما تنفق فيه الأعمار، وتشيب دون نيله النواصي.
كان ابن زيدون ينظم أبياتا يجيب بها عائشة بنت غالب التي دعته إلى ندوتها مع ثلة من الشعراء والأدباء، وكان كثير التحزر، يثبت ويمحو، ويختار كل لفظ قبل أن يجري به قلمه، فكتب بعد تردد:
أجل عينيك في أسطار كتبي
تجد دمعي مزاجا للمداد
وبينما كان يهم بكتابة البيت الثاني، إذ دخل خادمه علي الباجي يؤذنه بقدوم أبي مروان بن حيان مع شاب في زي المشارقة. وكان ابن حيان مؤرخ الأندلس شيخا باقعة
1
عنيف النقد سليط اللسان، لا يكاد يترك أديما صحيحا، فلم يسلم أحد ترجم له في تاريخه من غمزة تقضي على محاسنه، وتذهب بمآثره، لا يستثني من ذلك ملكا جبارا، ولا ثريا عريض الجاه، ولا عالما بعيد الشهرة، فهابه العظماء، وخافه الأمراء، وتقرب إليه بالود الشعراء والأدباء. وكان يحمل في كمه كراسة لا تفارقه في ليله ونهاره، وكلما شاهد حادثة، أو نما إليه خبر، أو وقعت واقعة أسرع فدون فيها ما رأى أو سمع مصحوبا برأيه وما توحي به إليه نفسه.
كان صديقا لابن زيدون حميما، ولكنه كان شديد النقد له، قاسيا في نصحه، حريصا على أن يجنبه مزالق الشباب.
دخل ابن حيان على ابن زيدون فلما رأى حوله الأوراق والدواة صاح في دعابة قاسية: وهكذا يا أبا الوليد لا تفتأ بين أوراق وأقلام! وأشهد أنك لا تخط فيها إلا ما يمليه الفراغ والشباب. ويلي من أدباء قرطبة ويلي! كأن الشيطان اشترى أقلامهم فما تكتب إلا عبثا ومجونا! فاتجه ابن زيدون إلى الشاب المشرقي وقال في مزح يشبه الجد: ألا تعجب لهذا الشيخ الذي يقتحم داري، ويتجافى عن تحيتي ، ثم يبدأني بالسخرية والتقريع؟
Неизвестная страница