يا ساريا بين الأسنة والقنا
إني أشم عليك رائحة الدم!
فيقذف بها غاضبا، وينهض من سريره كأنه يريد أن يفر مما حوله من نذر الشر والدمار، ولا يمضي قليل حتى تعود الجارية فتقول: إن أعوان ابن جهور حضروا الساعة يطلبون من سيدي أن يذهب على الفور معهم لمقابلة عميد الجماعة.
كاد ابن زيدون يسقط على الأرض حينما فجأته الجارية بهذا الخبر، وحاول أن يشد من ساقيه فلم يستطع، فألقى نفسه على كرسي كان بجانبه وقال وهو يلهث: أعوان ابن جهور؟ - نعم يا سيدي. - ما عددهم؟ - أربعة يا سيدي. - هل يبدو على وجوههم العبوس؟ - هم دائما عابسون يا سيدي! - حينما تحدثوا إليك هل كان في كلامهم غلظة وخشونة؟ - كانوا أشد غلظة من زبانية الجحيم.
فأطرق ابن زيدون طويلا، وأخذ يحدث نفسه قائلا: أربعة من أعوان ابن جهور، يرسلون إلي في الصباح! لن يكون هذا لخير، ولن يكون إلا لشر ماحق، وبلاء محيق. لقد أسرعت عائشة بالهجوم، كنت أظن أنها ستقضي بعض الزمن في استرضائي أو تهديدي، ولكنها رأت أن تفجأ عدوها بالوثوب قبل أن تسنح له فرصة الفرار أو يتفتق له الرأي عن حيلة، إنها محارب مدرب، يرى أن الضربة الأولى نصف الانتصار. ومما لا يحوم حوله شك أنها ذهبت بالرسائل أمس إلى ابن جهور، وكل سطر بها فيه الموت القزام،
3
والكوارث الجسام. إن ابن جهور رجل عنيف جبار، لا يغضى عن شبهة، ولا يتجاوز عن اللمم. لعن الله الحب، ولعن الله الأدب! ولعن الله التظرف الذي يجر إلى التفكه بأعراض الناس لا لشيء إلا أن يقولوا: إن فلانا أديب بارع لاذع النكتة صادق الرماية! لقد جر إلي حبي الجنوني، وأدبي المعربد، وطبعي المرح الضحوك أعظم الويلات وأوخم العواقب. الآن أدخل على ابن جهور فأرى ذلك الوجه العبوس الجهم،
4
وأسمع ذلك الصوت الجهوري الحانق، وأشهد من بوادر غضبه ما يهون أمامه كل خطب جلل.
يقوم ابن زيدون فيرتدي ثيابه، ويأمر خادمه أن يعد له بغلته، ثم يخرج وهو يتكلف الابتسام، فيرى أعوان ابن جهور فيحييهم بإيماءة العظيم المحس بجلال منصبه، ولكنه يلمح من طرف خفي أنهم لم يطأطئوا له رءوسهم، ولم يظهروا الخضوع الذي يصطنعونه لكبار الساسة فيغوص قلبه بين جنبيه، ويؤكد له الخوف أنهم لو جاءوا لخير أو لغير شر لتكلفوا الأدب والملق.
Неизвестная страница